رقصة الكابوكى

تاريخ النشر:

2007

تأليف:

رقصة الكابوكى (*)

نسمة إدريس

رمشة عين ومضت.. جرة قلم وسكتت، نصف ابتسامة ساخرة من الأقدار ورحلت، هكذا الحياة.. في تلك الليلة التي حضرت فيها رقصة الكابوكي في دار الأوبرا المصرية، عادت متأثرة ومنبهرة، ليلتها لم تكن تعرف بالضبط ما هو الكابوكي. لم تكن تعرف ماذا تعنى تلك الكلمات “المشجونة” التي يصرخ بها الممثلون، ولكن في تلك الليلة بالذات، تبدلت حياتها، وأحست بقوة، وهي في طريقها للخارج من دار الأوبرا، أن حياتها ستكون عبارة عن رقصة كابوكي أو الموت، فقد كانت ومازالت تحب الرقص بكل أشكاله وألوانه، وتشعر وكأنه نوع من أنواع العبادة الروحانية، تتعرف من خلاله على خبايا جسدها، وتشكو لها خلاياها من غلاظة العقل، ويلفها إحساس بأنها مجرد خلية كبيرة تزدحم بأشياء غير مفهومة ولكنها محسوسة لدرجة الجنون.. فجأة صحت نادية من سبات نوم عميق على شخير مدمر يرج أنحاء المنزل، إنه زوجها عطية. نادية “ست بيت” عادية، ممتلئة بعض الشيء ودقيقة الملامح، يميزها نغزتان حين تبتسم، وهي قليلاً ما تفعل. تنتظر رمضان بفارغ الصبر لتتباهى بصواني المحمرات والمشمرات التي تتفنن في عملها طول اليوم، على الرغم من أنها تمر على المتذوقين مرور الكرام وتؤكل في دقائق معدودة، بل أحيانًا لا يلحظ أحد ما إذا كانت “صينية النهاردة بطاطس ولا بامية ولا حتى محشى”. لم يخطر في بالها أن تتساءل: لم تكلف نفسها كل هذا العناء وتطبخ أشياء لا يقدرها أحد ؟ ولكنها لا تيأس وتعود لتمضى ساعات في المطبخ، عل وعسى ! ولم يكن الطبخ أو التجويد فيه هو هوايتها الوحيدة، بل إنها كانت تستمتع استمتاعًا غير عادی بشغل الإبرة وخاصة صنع الشيلان، تستمتع بمقدرتها على خلق شيء جميل من لا شيء، ومع كل غرزة تعقدها كانت تنمو لديها صورة الحلم الخفي، أن هذا الشال الذي تصنعه الآن سوف ترتديه لمناسبة حفل غیر عادی، مثلما ارتدت سندريلا فستانها المسحور في حفلة الأمير. وفعلاً في ليلة شديدة البرودة في عز الشتاء جاءت الدعوة المنتظرة التي تمنتها في سرها ولم تجرؤ أن تبوح بها لأحد. رن جرس الباب، فوجئت بزيارة حسن أخيها، الذي كلما زارها، جاءها حاملاً التفاح والموز وضحكة جميلة لا تفارقه. كان حسن موظفًا كبيرًا في دار الأوبرا، لا تعرف ماذا يفعل بالضبط، فقد كان يتحدث عن عمله وكأنه شخص هام جدًا، المهم، ليلتها بالذات جاء ليشتكي لها رفض ميرفت أن تذهب معه إلى الأوبرا لحضور افتتاح الموسم الشتوى بحفلة فرقة الكابوكي اليابانية المدهشة، وهو يكاد يطق من الغيظ لرفضها هذا، خاصة وأن الحصول على مكان لها وسط أكابر البلد، على حد قوله، كان أمرًا في غاية الصعوبة. – ممكن أشوف الدعوة دى يا حسن، لحسن عمری ما شوفت كارت دعوة رسمية في حیاتی؟ وبمجرد أن وقع نظرها على الكلام المكتوب أعلى الدعوة، أدركت أن هذه هي حفلتها المنتظرة، مع أنها لا تعرف ما هو الكابوكي ولا من هم أكابر البلد ! تقرأ بصوت عال “رمشة عين ومضت، جرة قلم وسكتت، نصف ابتسامة ساخرة من الأقدار ورحلت، هكذا الحياة.. ” تتشرف دار الأوبرا المصرية بدعوة… ” تهمهم نادية لنفسها ببقية السطور ثم تضع فنجان القرفة الذي كانت تمسكه على الترابيزة وتنفض حجرها من قشر اللب وتهب فجأة: – عندك مانع تخدنى أنا معاك يا حسن ؟ لم ينتبه الرجلان “حسن وعطية” إلى ما كانت تقوله نادية، فقد انصرفا لمشاهدة “الماتش”، ولم تدرك نادية أنها كانت تكلم نفسها كل هذه المدة. بعد طول جدال استطاعت أن تقنع الرجلين أنها هي التي ستذهب مع أخيها إلى الكابوكي، لأنها ببساطة إذا لم ترتد شالها الذهبي الذي أمضت ستة أشهر في خياطته الآن فلن تلبسه أبدًا، وسيكون كل جهدها “راح على فشوش”.. كلما حاولت أن تناقش تجربتها “الأوبرالية، الفريدة، المذهلة، الرائعة،..” مع أفراد أسرتها سمعت: – ياه يا ماما بقه. أنت هتخوتينا بالأوبرا بتاعتك دى، هوه ماحدش راح الأوبرا غيرك ! وبمرور الأيام اكتفت بأن تعود بين الحين والآخر لصندوقها الخشبي الأرابسك القديم في المطبخ لتفتحه وتخرج منه دعوتها الساحرة لتقرأ. “رمشة عين ومضت.. جرة قلم وسكتت.. نصف ابتسامة ساخرة من الأقدار ورحلت، هكذا الحياة..”.  

(*) من مجموعة ملك ولا كتابة، دار شرقيات للنشر والمعلومات، 2003.

الكلمات المفتاحية: قصة قصيرة
شارك:

اصدارات متعلقة

وسائل التواصل الاجتماعي ترسخ العنف ضد النساء
نصائح للمصورة الصحفية بشأن الوقاية من "كوفيد" 19" أثناء التصوير الصحفي
نصائح بشأن السلامة النفسية للنساء في أوقات الأزمات
ورقة قانونية بشأن مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد
كيف تحررين محضر تحرش
عيد الأم ما بين الاحتفاء بقيمة الأمومة و ترسيخ الدور النمطي للنساء
خدمات الصحة الجنسية فيما بعد سن الإنجاب ضرورة لتمكين النساء
ختان الإناث في مصر... جريمة تعذيب ضد الإنسانية
حقوق النساء من اجل العدالة والتنمية
الإيدز خطر صامت يهدد حياة النساء في ظل جائحة كورونا