سجن الرمد وآفاق الهوية في شعر عائشة التيمورية

تاريخ النشر:

2004

اعداد بواسطة:

سجن الرمد وآفاق الهوية في شعر عائشة التيمورية

يعتبر شعر عائشة تيمور باللغة العربية والمنشور في ديوانها حلية الطراز مادة خصبة للبحث في مشكلات الهوية لكاتبة تعيش في نهاية القرن التاسع عشر وبالأخص أشعار الرمد وما تفتحه هذه الأشعار من آفاق للتعبير الحر عن الهوية. وقد ولدت عائشة التيمورية في طبقة أرستقراطية بكل ما يعنيه ذلك من قيود التقاليد على مثلها والحياة من وراء المشربيات والقيود الاجتماعية التي جعلت من ميلها إلى الأدب والكتابة نغمة شاذة أو انحرافًا عن الطريق المألوف على حد قول بنت الشاطئ في تقديمها للديوان. ومع ذلك فقد جاء شعر عائشة التيمورية متحررًا ومحطمًا للكثير من القيود وبالذات في التعبير عن المشاعر والذي لم يكن مألوفًا ولا مستساغًا من مثلها في ذلك العصر ولاسيما أشعار الرمد. فكأنما أعطاها الرمد رخصة للحديث عن مشاعر لم يكن متاحًا لها الخوض فيها من قبل كمشاعر الانغلاق والأسى والحزن الممتدة من الصدام بين العالم الخارجي للشعر والأدب والعالم الداخلي للمنزل. وهو الصراع الذي تبلور في فجيعة وفاة ابنتها توحيده وجاءت فرصة التعبير عنه من خلال قصائد الرمد. فهذه القصائد تعد تعبيرًا متحررًا عن المشكلات والصعوبات التي واجهتها ككاتبة موهوبة وكامرأة تلقت من العلم ما تفتح به ذهنها على وضعها ودورها في تلك الحياة. ويمتد هذا الانفتاح والتحرر في التعبير إلى مرحلة ما بعد الرمد حين شفيت الشاعرة من مرضها وأيضًا في فترات الشفاء الوجيزة التي تتخلل مرضها والتي تظهر أيضًا نفس التحرر في التعبير وإن فتحت مجالات أوسع للتعبير عن المشاعر الإيجابية ولحظات القوة والتناغم في حياتها. وبالتالي تعتبر قصائد الرمد مادة خصبة للبحث في لحظات ينكسر فيها الخطاب العام وتظهر آيات المقاومة للأنماط السائدة والأشكال الجامدة للكتابة والحياة والتي عايشتها هذه الكاتبة.

تلعب نشأة عائشة تيمور في طبقة أرستقراطية دورًا هامًا في تكوين الشاعرة بكل ما تمثله هذه الطبقة من قيود محكمة على النساء بشكل يتجاوز ما عايشته النساء في طبقات المجتمع الأدنى مكانة، وإن كانت عائشة محظوظة بانتمائها لعائلة تهوى الأدب ويجتمع في بيتها الشعراء والكتاب والأعلام. فعائشة التيمورية كما يذكر حفيدها أحمد كمال زادة في تقديمه للديوان – من أصل تتقاسمه ثلاثة عناصر: ترکی وکردی وشركسي، ووالدها هو إسماعيل تيمور باشا الذي كان يشغل منصب رئيس القلم الإفرنجي للخديوي ثم الرئيس العام للديوان الخديوى(۱) وتتحدث سهير القلماوي عن طبيعة حياة النساء في هذه الطبقة وحدودها في تقديمها فتقول:

.. فالبيت الذي يرعى التقاليد إلى النهاية، وتدور فيه الحياة على نحو معين من وراء المشربيات لا يرى أحد ما يدور في البيت لكن الذين هم فيه يرون الحياة من خلال الخشب المزخرف الجميل. وهم بهذا يمثلون روح العصر روح التطلع وحب التقدم، لكن الوقوف وقفة أخيرة مترددة قبل الإقدام(٢).

وبالطبع فإن عائشة هي ابنة لهذا العالم المغلق وإن كانت طبيعة شخصيتها وتأثرها بمتغيرات عصرها وموهبتها تعتبر عوامل تستدعي البحث في حياتها وكتاباتها عن لحظات القوة والمقاومة.

ولا يمكن اعتبار الوصف السابق لحياة النساء في الطبقة الأرستقراطية معبرًا عن حياة كل النساء المصريات في هذه الحقبة الزمنية، إذ إن هناك من الوقائع ما يشير إلى بداية مشاركة النساء الفعالة في تشكيل الواقع السياسي والثقافي والاجتماعي في منتصف ونهايات القرن التاسع عشر. ففي كتابه الجذور التاريخية لتحرير المرأة المصرية في العصر الحديث: دراسة عن مكانة المرأة في المجتمع المصري في نهاية القرن التاسع عشر برصد الكاتب محمد كمال يحيى دور النساء الإيجابي بجوار الرجل مشاركة له في الحياة:

فقد كان بين النساء المصريات في هذا الوقت المبكرِ{أواسط القرن التاسع عشر} ما يمكننا أن نسميه رأيًا عامًاعلى مقاومة ما يعتقدونه ظلمًا وإجحافًا وخروجًا على مألوف التقاليد السائدة في ذلك الوقت. بل أن المرأة المصرية عرفت في ذلك العصر التظاهر، والتجمهر والتحريض على الإضراب، بل استعمال العنف مع الرجال في سبيل الدفاع عن مصالحها. ويذكر الجبرتي (في الخامس من شهر ربيع الأول سنة ١٢٢٩) – أن جمعاً من النسوة، قدم إلى الجامع الأزهر، لهن أراض بالالتزام عند محمد على، فلما دخلن الجامع صرخن في وجوه العلماء وأبطلن دروسهم, ومزقن أوراقهم ومحافظهم وبددن كتبهم وملازمهم، فتفرق العلماء وذهبوا إلى بيوتهم / وعند ذلك انصرفت النساء، وهن يقلن: سنجيء كل يوم ونبطل الدروس ونمزق الكتب حتى ننال حقوقنا، وكان من أثر مظاهرة النساء واعتدائهن على العلماء أن طلب محمد على بعض المشايخ ليعرف منهم ماذا أغضب النسوة حتى فعلن ذلك(3).

وبالرغم من فردية مثل هذه الحوادث إلا أن لها دلالاتها عن مدى وعي المرأة ومعرفتها بالحياة العامة واتصالها بها حتى وإن بقى مكانها الطبيعي في ذلك الوقت هو المنزل. وتجدر الإشارة هنا إلى دور الخديوي إسماعيل في تشجيع تعليم الفتيات وإقامته لسلسلة من مدارس البنات (ومنها مدارس داخلية ) برعاية زوجاته وسماحه لهن بحضور حفلات تلك المدارس بل ونشر تفاصيل تلك الحفلات في جريدة الوقائع المصرية وكأنهيضرب بتلك التقاليد القديمة عرض الحائط“(4) وهناك الكثير من الأدلة على مشاركة المرأة في الحياة العامة بشرط وجود تحكم تام في مدى اختلاطها بالرجال الأجانب عنها (5) وبالتالي يمكن رصد بداية تيار جديد في حياة المرأة المصرية في ذلك الوقت، وإن بقى العالم الخارجي وما فيه من أدوار هو عالم الرجال ويقي المنزل عالم النساء. وقد كان اجتماع وتلاقي هذين العالمين أمرًا عسيرًا بيد أن النساء اللائي لعبن أدوارًا في العالم الخارجي أو عالم الرجال كالشاعرات والمدرسات وغيرهن كان يتم التشكيك في أنوثتهن(6).

ويظهر الصراع مبكرًا في حياة عائشة تيمور ما بين العالم الخارجي الذي يحتكره الرجال والذي رأته في مجالس الأدب في بيتها والعالم النسوي التقليدي وما يتطلبه من تعلم الحياكة والتطريز. وقد اجتذب عالم الأدب والفكر عائشة تيمور منذ حداثة سنها إذ سُمح لها في هذه السن بحضور هذه المجالس. وتزامن ذلك مع ابتعادها عن تعلم الفنون التقليدية للفتيات في ذلك الوقت وهو الصراع الذي تحدثت عنه في كتابهانتائج الأحوال في الأقوال والأفعال“:

فلما تهيأ العقل للترقي، وبلغ الفهم درجة التلقي، تقدمت إلى ربة الحنان والعفاف، وذخيرة المعرفة والإتحاف، والدتي تغمدها الله بالرحمة والغفران بأدوات التطريز والنسيج وصارت تجد في تعليمي، وتجتهد في تفطیني، وأنا لا أستطيع التلقي ولا أقبل في حرفة النساء التلقي، وكنت أفر منها فرار الصيد من الشباك، وأتهافت على حضور محافل الكتَّاب بدون ارتباك، فأجد صرير القلم في القرطاس أشهى نغمة، وأتحقق أن اللحاق بهذه الطائفة أوفى نعمة، وكنت ألتمس من شوقي قطع القراطيس وصغار الأقلام، وأعتكف منفردة عن الأنام وأقلد الكتَّاب في التحرير، لأبتهج بسماع هذا الصرير، فتأتي والدتي تعنفني بالتكدير والتهديد فلم أزد إلا نفورًا، وعن صنعة التطريز قصورًا، فبادر والدي تغمد الله بالغفران ثراه، وجعل غرف الفردوس مأواه، وقال لها دعى هذه الطفيلة للقرطاس والقلم، ودونك شقيقتها فأدبيها بما شئت من الحكم، ثم أخذ بيدي وخرج إلى محفل الكتاب ورتب لي أستاذين أحدهما لتعليم الفارسية، والثاني لتلقين العلوم العربية” (7).

ويبدو أن والدها كان متأثرًا في ذلك الاتجاه بمحمد على الذي عمل في حكومته واقترب منه حيث أن محمد على كان يستعين بمدرسات لتعليم زوجاته وبناته(۸) ولكن لا يمكن اعتبار هذه الواقعة دليلاً على معارضة والد عائشة للطرق التقليدية في تربية البنات بدليل تركه عفت لتعلم هذه الفنون وربما لعبت الشخصية المتمردة لعائشة دورًا في تكوين ذلك الرأي لديه ورأى فيها الأب تحقيقًا لآماله التي لم يحققها بوجود ابن(9) وتوضح هذه الواقعة ماهية الصراع بين عالم الرجال وعالم النساء واستحالة التقائهما. وهو الصراع الذي وجدت عائشة نفسها فيه في سن صغيرة ثم لازمها طيلة حياتها وكان له أكبر الأثر على كتاباتها.

وبدأت رحلة عائشة تيمور مع الشعر بتأثير دروسها وتأثرها بالقرآن الكريم حيث بدأت بنظم الشعر الفارسي قبل العربي، ويبدوا منذ الأبيات الأولى التي نظمتها إحساسها بغربتها في ذلك العالم الذي يسيطر عليه الرجال فأحست أنهالم أكن أهلاً لاقتناء تلك البضاعة. ولا كفء لجوهر هذه الصناعة(١٠). وعدم أهليتها تكمن في انتمائها إلى عالم النساء وذلك بالرغم من موهبتها، ويبدو أن عائشة أدركت منذ حداثة سنها الشخصية الشعرية التي أرادت أن تظهر بها في ذلك العالم وهي الشخصية التي عبرت عنها في أولى أبياتها باللغة العربية:

بيدِ العفافِ أصونُ عز حجابي……. وبعصمتى أسمو على أترابي

وبفكرةٍ وقِّادة وقريحة…… نقّادة قد كُمَّلت آدابي

ولقد نظمت الشعرِ شِيمةَ معشر……. قبلی ذواتِ الخدر والأحسابِ

ما قلته إلا فكاهة ناطق…… يهوَى بلاغة منطق وكتابِ(۱۱)

والمعنى الذي تعبر عنه هذه الأبيات، والتي كانت بعد طفلة عند كتابتها، أنها تتمسك بالعفة والفضيلة والأهم بأنوثتها وتحاول أن تسوق الحجج لتقوية موقفها؛ فهي ليست أول شاعرة وهناك الأخريات ممن استطعن أن يمارسن الكتابة الشعرية وهنذوات الخدر والأحسابوأنها لا تسعى إلى عالم الشعر بشكل جديّ وإنما تنظمهفكاهة ناطقيظهر في هذه الأبيات بشكل واضع خوف التأليف -Anxiety of Au thorship الذي يدفع الكاتبات اللواتي يعشن في ظروف مماثلة من احتكار الرجال

لعالم الكتابة إلى استخدام أساليب يستمددن منها القوة مثل الهروب والتورية ونسب أعمالهن إلى آخرين أو إلى المجهول، أو حتى الاعتذار عن فنهن وادعاء الضعف وعدم القدرة على الكتابة(١٢) وتستخدم عائشة مثل هذه الأساليب في شعرها بل وتعتذر في مقدمة الديوان العربي عن تقصيرها بالمقارنة بالشعراء الرجال فتقول:

…. عالمة أني مهما بلغت لم أزل قاصرة عن درجة أهل الفضل والاطلاع, وهيهات أن تقاس بأفاضل الرجال القاصرات من ذوات القناع.واثقة بإغضاء من سيقف عليه من أهل الذكاء، والعفو عما عسى أن يجدوه من تقصير أو خطاء. فالكريم من عفا وصفح, والسيد من تسامح وسمح : والعفو من ذوى الأدب مأمول، والعذر عند کرام الناس مقبول(۱۳).

بل وتتحدث عن نفسها بصيغةقالتفتقول :” وها أنا أشرع في المقصود معبرة بقالت دون قلت، تفاديًا من وصمة التبجح وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت(١٤). ولمثل هذه الأساليب القدرة على التحقيق المعادلة الصعبة من نيل رضا عالم الرجال وفي الوقت ذاته التعبير عن الموهبة. وتبدو الروح الموجودة في هذه السطور كنمط عام في الجانب الأكبر من أشعارها حيث تقرن الاعتزاز بنفسها وفنها في معظم الأحيان بتأكيدها على الالتزام بالشكل التقليدي وبالاحتجاب والعفة وبكل ما كان متوقعًا من مثلها في ذلك العصر. ولعل رغبتها في الجمع بين عالم النساء وعالم الرجال والذي عبرت عنه في رغبتها أن تجعلمن المداد خضابيمن المشاكل التي ظلت تؤرقها طوال حياتها، وإن كان هذا الصراع قد توقف إلى حين بزواجها في سن الخامسة عشرة وانتقالها إلى بيت زوجها بابتعادها عن عوالم الشعر والأدب وانخراطها في الأدوار التقليدية للمرأة في هذا العصر لسنوات طوال. ففُرق بينها وبين الشعر الذي كادت تبدأ في جني ثمراته حتى

“… عاقني عن الفوز بهذا الأمل حجاب الإزار × وحجبني فقل خدر التأنيث عن

سناء تلك الأقمار(15)

وبانتقال الشاعرة إلى بيت زوجها تبدأ مرحلة جديدة تتميز في أولها بقلة الإنتاج الفني ثم العودة التدريجية إلى عالم الأدب ودراسة العروض والكتابة الشعرية حتى كارثة وفاة ابنتها توحيده. وتبرز العلاقة القوية بين الأم وابنتها توحيده التي أنجبتها بعد الزواج بعشر سنوات حيث حطمت التقاليد التي كانت تضع الحواجز بين الأم وابنتها واقتربت منها في علاقة أشبه بعلاقة الأخوة(١٦) وقد ورثت توحيده من أمها حب الأدب والشعر وجمعت بين ذلك وبين أعمال المنزل والتطريز. وقد استطاعت عائشة بفضل تحمل ابنتها لأعباء إدارة المنزل أن ترجع إلى الدراسة فدرست العروض على يد معلمة وشاركتها ابنتها هذه الدراسة بل وتفوقت عليها فيها. وجاءت فترة توفي فيها والدها ثم زوجها وأصبحت على حد قول زينب فواز واستشهاد مي زيادةحاكمة نفسها“, فأحضرت معلمتين لتعليمها العروض والنحو وعكفت تكتب الشعر ومنها القصائد الطويلة(١٧). وفي الفترة ما بين عامی ۱۸۷۲ و ۱۹۷۸ تأثرت الشاعرة بالجو العام من التمدن والتحضر في عهد الخديوي إسماعيل وصارت مترجمة في بلاط الخديوي وبرز إلمامها باللغة الفارسية كأداة لتوطيد العلاقات مع دول الشرق الأوسط, وبالتالي فقد أخذتها هذه الأدوار الجديدة من بيتها(83 Hatem) وفي هذه الأثناء ماتت توحيده وهي في الثامنة عشرة بعد أن خفي مرضها عن والدتها بسبب إشفاق ابنتها عليها من معرفتها به وأيضًا بسبب انشغالها وهنا يصل الصراع والاصطدام بين العالم الخارجي والداخلي لدرجة جعلت عائشة تنظر إلى موت ابنتها كثمن دفعته بسبب خروجها إلى ذلك العالم، ولذا قامت بإحراق قصائدها الفارسية كتعبير عن حزنها (۱۸). ولعل أهم إنجازاتها الأدبية في هذه المرحلة هي قصيدتها في رثاء ابنتها توحيده التي بكتها سبع سنوات كاملة، وهي قصيدةبنتاه يا كبدی ولوعة مهجتيوالتي يراها البعض أعظم أعمال الشاعرة(١٩).

 

والمرحلة التالية هي مرحلة شعر الرمد وهي أكثر المراحل نضجًا وثراًء في التعبير لأسباب عدة. وقبل التطرق إلى هذه الأسباب تجدر الإشارة إلى التعريف الموجز الذي كتبته مي زيادة عن خصائص شعر عائشة التيمورية وبعدها عن التنسيق وتنظيم المادة والتي قد يراها البعض عيوبًا:

جميع هذه العيوب في ديوان التيمورية حيث لا تنظيم ولا تنسيق، حتى ولا تبويب على الأبجدية، ولا أثر للتأريخ في القصائدإلا القصائد التاريخية في السطر الأخير منها! ولئن جرت عادة العرب في العبير، أي الإفصاح عن عواطفها غالبًا باستعارات من سبقها، فالأمر الذي يسبيني في شعرها أن شخصيتها تبدو من خلال المحفوظات كما يبدو الجسد في لوحة تصويرية من خلال الأنسجة الشفافة. وقد تفلّتت من عيبالمفاخرةبذويها وأهلها. ولا هي تبدأ بالغزل لتنتهي بالإطناب وليس للأطلال والمضارب ذكر في قصائدها …” (۲۰).

ولعل أهم ما في هذا التعريف هو تشبيه شعرها بالغلالة الرقيقة التي تظهر هوية الشاعرة خلفها. ورغم أن هذا التعريف يقدم تصويرًا جوهريًا essentialist للهوية ككيان جامد قابل للاكتشاف والاختفاء حسب تحركات هذه الغلالة الرقيقة فإنه يصور بالفعل أحد خصائص شعر عائشة التيمورية ألا وهي وجود طبقات متعددة ومتفاوتة في شخصيتها الشعرية ما بين الانصياع الكامل، بل والخضوع لمتطلبات عصرها ومجتمعها، وعلى النقيض الرفض التام والتمرد ومقاومة هذه المتطلبات. فالغلالة الرقيقة هي نوع من الأقنعة تستخدمه الشاعرة لتقلل من ظهور ثورتها على المصاعب التي تواجها كامرأة وشاعرة في ذلك العصر في شخصيتها الشعرية. ولعل ذلك يتفق مع رأى جيمز سكوت James Scott الذي يتحدث عن نوعين من الخطاب للواقعين تحت ضغوط السيطرة بشتى أنواعها، خطاب عام يتفق مع متطلبات هذه السلطة وآخر خفيّ يختبئ خلف السطح وبعيدًا عن هذه السلطة. وربما ظهر على السطح في لحظات قليلة كنوع من انكسار ذلك الخطاب العام والتعبير بشكل علنيّ عن ما كان يقال من قبل بشكل موارى وخفّي(۲۱). ولعل شعر الرمد من أثرى أشعار عائشة تيمور في عناصر المقاومة وفي الخروج عن النص العام وعن الانصياع له. فقد جاء الرمد بعد سبع سنوات من البكاء المستمر ولذا كان لعائشة دور في إصابتها تلك. ومن الجدير بالذكر أن المرأة المعاقة كانت تتمتع بقدر أكبر من الحرية في ذلك العصر كما تؤكد ميرفت حاتم في مقالها عن الشاعرة حيث تقول إن كل من النساء المتقدمات في السن والمعاقات وخاصة الكفيفات كن ينظر إليهن على اعتبار أن أنوثتهن منقوصة وبالتالي كن يتمتعن بحرية أكبر في الحركة بين المنازل في وسط قيود المجتمع المغلق دون أن يتعرض لهن الرجال(٢٢). ولا يعني هذا بالطبع أن الشاعرة اختارت أن تفقد البصر ولكن يعتبر فقدان البصر حلقة في سلسة من الحوادث والتطورات التي ابتعدت بها الشاعرة عن القالب الأنثوي التقليدي في ذلك الوقت. وتكتمل هذه السلسلة بتقدمها في العمر وشيبها وهي بعد في الأربعين واستقلاليتها بعد وفاة زوجها وأبيها. ومرض عائشة التيمورية يتراوح بين فترات من فقدان البصر التام وفترات من الشفاء قبل أن يكتمل شفاؤها في النهاية. والسؤال الذي تصعب الإجابة عليه هو كيف كتبت عائشة أشعار الرمد خلال فترات فقدان البصر؟ هل استعانت بمن يكتب ما تقوله أم أنها استغلت فترات الشفاء في استدعاء ذكريات الرمد؟ ومهما كانت الإجابة تبقى أشعار الرمد أثرى أشعارها في إظهار مقاومتها للأحوال السائدة حيث تسيطر التجربة الإنسانية وتصبغ شخصيتها الشعرية بروح التحرر من القيود.

لعل أول ما يظهر من وصف الرمد هو تشبيهه بالسجن. فالبصر في ذلك الوقت هو ما يربط النساء بالعالم الخارجي، فهو يخترق المشربيات والحجب وإن بقي اتجاه الرؤية أحاديًا، فهن يرين ولا يروُن. وحين راح البصر تبدل اتجاه الرؤية هذا فصارت الشاعرة تُرى ولا ترى، وإذ تعبر أشعار الرمد عن ألم سجن الظلام فإنها تعبر أيضًا ن الفارق بين العالمين الداخلي والخارجي، عالم النساء وعالم الرجال وعن طبيعة الحياة في العالم المغلق للنساء:

فوا أسفي على إنسان عيني …غدَا في سِجن سُقم واعتقال

حُجبتُ بسجِنِه عن كل خلٍ …وصرت مخاطباً صور الخيالِ(۲۳)

وربما كان من المفيد هنا وضع هذه السطور بجانب سطور أخرى وصفت فيها عائشة مثل هذا الاحتجاب فقالت :

وما احتجاَبي عن عيبٍ أتيتُ به….. وإنما الصونُ من شأني وغاياتي(٢٤)

فهذا التقبل للاحتجاب والعزلة يمثل الاتجاه العام في غالبية شعرها ويقترن ذلك الاحتجاب عادة باعتناقها لأدوراها الأنثوية فتقول في قصيدة كتبتها في سنين الصبا:

ما ساءنی خدْرى وعَقد عصابتي …وطرازُ ثوبی واعتزازُ رحابی

ما عاقني حِجْليِ عن الْعَلْياَ ولا …سَدْلُ الخِمارِ بلمَّتى ونِقَابیِ(25)

وهذا الاتجاه العام يمثل الشكل الذي أرادت أن تظهر به في عالم الرجال أو على حد قول سكوتالخطاب العام“. أما في قصائد الرمد فيبدو أن الشاعرة قد وجدت الفرصة للحديث عن ما لم تتاح لها فرصة التعبير عنها من قبل كمشاعر الانغلاق والعزلة والتقيد. فكأنما حديثها عن سجن الرمد يفتح المجال للحديث عن السجون الأخرى في حياتها فيتجاوز بذلك التشبيه التقليدي لفقدان البصر كسجن إلى استخدام كلمةالاعتقالوتتبلور شخصية شعرية تعبر عن تلك المشاعر بشكل إيجابي

حيث تقول:

فقد أصبحتُ في حزن وأَنَّ …وقلبي بين إتعاب وأَيْن

وما أهدت صَبا الأسحار نومًا…إلى عيْنِ غدت في أسْر غَيْنِ

يُقَّلبُ في دثَارِ السُّقم جسمی…کأنی فوقَ جمر الحرَّتْينِ(٢٦)

وهذا التعبير المتحرر عن مشاعر اليأس والسخط والسقم هو تعبير فريد في أشعارها تختص به أشعار الرمد، ففي معظم أشعارها تقترن مثل هذه الأحاسيس بالتقبل التام والمثول لها، ولكن لأول مرة يظهر الرفض لمثل هذا الأسر والانغلاق بل ويشارك الدهر مأساتها بعد أن كان يصوّر في معظم أشعارها ككيانشب في معاندتی(۲۷) فتقول:

وكان الدهر ملتفتًا إلينا …وهاهو مغمض الأجفان قالی(۲۸)

فها هو العالم الخارجي ينضم إليها في أسر الظلام وإغماض الجفون الذي يتوحد في كلمات هذه الشخصية الشعرية مع إسدال الحجب وإحكام الأسر فتؤدي هذه المشاركة إلى نفي هذا الأسر وإبطاله بل وفتح آفاق جديدة من الحرية والحوار مع هذا العالم الخارجي كما سيتقدم.

ويتخذ الحوار مع العالم الخارجي وبالأخص عالم الرجال مكانًا بارزًا في أشعار الرمد فيظهر الحوار مع هؤلاءالآخرينالفاعلين في العالم الخارجي العام الذي حجبت هذه الشخصية الشعرية عنه، ويتخذ هذا الحوار أشكالاً فريدة. فلأول مرة يتم التعبير عن الصراع القديم ما بين العالم الخارجي أو العالم الذي يخص الرجال وما بين العالم الداخلي للنساء فتقول:

إذا شكَتِ الوَرَى سُقمَ الْعيُون …فإني أشتكي أَلَم الجفُون

أبيتُ كوالِهٍ أضاهُ وَجْدٌ …أنادِي مِنْ جُفوني مَنْ جَفُونی(۲۹)

وهنا تضاف إلى العلاقة الرمزية التقليدية ما بين العين والهوية علاقة جديدة ما بين الجفون والحجب التي تمنع هذه الشخصية عن ارتياد العالم الخارجي، فالفارق بينسقم العيونوألم الجفونهو نفسه الفارق بين الاستمتاع الكامل بالحياة لدرجة السقم وبين ألم الأسر والانغلاق عن هذه الحياة. وتتأكد هذه العلاقة حينما تضع الشخصية نفسها مكان العين خلف هذه الجفونأنادي من جفوني مَنْ جَفونيخالقة جناسًا يربط ما بين هذا الأسر وجفاء العالم لها. ويتجه جزء كبير من هذه الأشعار لمخاطبة الرجال عن طريق الهجوم على الأطباء الذين عجزوا عن شفائها وهو هجوم على عالم الرجال وأدوار الرجال بشكل مفتوح. والهجوم على الأطباء موجود في أشعارها الأخرى كما تقول مي زيادة. فهي تصف هذا الاتجاه بأنهنكته تكاد تكون الوحيدة في كل كتاباتهاوتقصد بذلك قلة ثقة الشاعرة بالأطباء التي تصل إلى درجة التهكم(30) كما يظهر في هذه الأبيات:

ياَ منْ أَتَى لِلجْسم يُبْرئ سُقْمهُ …وَيظنُّ جالينوسبعضَ عبيده

أفنيتَ بالطِبّ الذي تَهذِي به …أمماً، وَقَّربت الرَّدى بعيدهِ

وَزَعمتَ أنَّك أنَتَ قد جدِّدته …ولقد أَضَعْت قديمَهُ بجديدِه (۳۱)

وبالرغم من درجة التهكم العالية هنا فإن هذه الدرجة تزيد في أشعار الرمد

لتصل إلى النظر إلى الطبيب كخطر أو عدو:

وقد عِفْتُ الأُسَاَة وعدتُ أرجو …طبيبَ الكونَ ربَّ المشرِقَيْن(۳۲)

ويتكرر وصف الأطباء بالأساة وكعنصر تهديد لهذه الشخصية:

تخالفت الأساةُ طول وَعْدٍ …… يُعَللِّني ويَأُس فيه حَيْنيِ

ومن فَظِّ بهدنی جِهارًا …بِمِبضعِه المصوَّبَ في اليدين(۳۳)

وهكذا تتحول أدوات الطبيب إلى أسلحة تهدد هذه الشخصية وهو قلب لدور الطبيب ومحاولة لهدم قيمة هذا الدور كأحد الأدوار التقليدية للرجال في العالم الخارجي. ويصل هذا الهدم إلى قمته في بعض الأبيات التي تتناول مرحلة من مراحل الشفاء من الرمد والتي تتحدث عن التشخيصات غير الصحيحة للأطباء عن موتإنسان العين“:

سروری باللقا ونعيم قربي……. أعاد بعودك الميلادَ ثاني

قد أرغمتَ كلَّ طبيب سوء…أضاعَ بَهْزلِه طول الزمان

وقالوا: مات، قل مُوتوا بغيظ …فجُل القصد حَيًا قد أتاني(34)

يتفق هذا الاتجاه نحو الأطباء مع نظرتها للحساد واللائمين الذين يكثر ذكرهم في هذا المجال. وبهذا تتيح مجالات من التعبير عن الهجوم على الشاعرة من هؤلاء الذين أحسوا بالانتصار من مصابها مما يترك انطباعا بالندية هو الفريد من نوعه في هذه الأشعار:

يا ليلُ هل أمسَى ظلامْكَ سرمدًا …أم جئت والهجْران فيك مؤبَّدًا

مثل السهاد بمقلتى مخلدًا …قد طال مُكثْى في النَّوي وتجرَّدَا

وتكحلتْ بالفوز أَعْيُنُ حسَّدی(35)

ويكثر الحديث عن هؤلاء الحسَّاد في غير موضعه، فهذه الشخصية تعاني فقدان البصر وظهور الحديث عن الحاسدين هنا لا يمكن إلا النظر إليه من زاوية استغلال الفرصة للحديث عن الآخرين الذين بقى الخطاب الموجه إليهم أو عنهم في معظم الأشعار معبرًا عن الانصياع والطاعة بل واجتذاب الود. ولكن في أشعار الرمد ينكسر هذا الخطاب العام وتتخذ المقاومة الخفية شكلاً واضحًا وتكتسب صوتًا قويًا.

ويتخذ الحديث عن التأليف والكتابة والدرس وتأثير الإصابة بالرمد عليهم مكانًا بارزًا في أشعار الرمد حيث يجرى التعبير لأول مرة عن أهمية هذه النشاطات من خلال شخصية شعرية ترى الأدب والاطلاع ضرورة حياه وليس مجردفكاهة ناطقكما ورد في الأشعار الأخرى حيث كان ذكر التأليف والأدب يتم دومًا في إطار من التأكيد على اعتناق الحياة النسوية بما فيها من انغلاق. وبهذا يتم إعادة رسم وضع النساء في هذا العالم الذي يسيطر عليه الرجال فتقول:

نَعَاني أبيضُ القرطاس لما …جفاني اليومَ نورْ الأسودين

وقد جَفَّت دواتي وهي تبكي …لما قد راعها من طول أَينِي

وأقلامي كم انشقَّت، لأنَّي …حرمت مسَاسها بالإصبَعَين(36)

وهكذا يظهر فإن مكانها في عالم الكتابة هو مكان هام وحزنها للاحتجاب عن هذا العالم هو حزن متبادل بينها وبينه. وحرمانها من هذا العالم ليس وليد الرمد لكنه ممتد منذ عهد الطفولة كإحساس متأصل يتقَّد حينما يأخذها عالم النساء فتبعد عن عالم الأدب الذي تهواه. ويتم التعبير عن أهمية القراءة الكتابة وروعتها من خلال الحدث عن تأثير الرمد الذي يمنع هذه الشخصية من الاستمتاع بها بشكل يوحي

بالمساواة في هذا الحق ويبرز معاناة النساء بشكل عام في الحرمان منها فتقول:

أمسُّ الكُتبَ من شَغَفى عليها …وأَبلَى حسرةً من سُوءِ حالي

وأندُبُ مهجتيّ حيَّل لأني …حُرِمتُ بدائعَ السَحْر الحلال(۳۷)

وقد كانت عائشة دومًا من أنصار تعليم النساء فكتبت مقالاً بعنوانلا تصلح العائلات إلا بتعليم البناتعام ١٨٨٨ لتصبح صاحبة السبق في هذه الدعوة على حد قول أميرة خواسك(3٨) ويمتد التعبير المتحرر عن أهمية الكتابة والقراءة عند الشخصية الشعرية هنا إلى استخدام كلمةالأميةلوصف الحال بعد الإصابة بالرمد وهو وصف لم يكن من المعهود استخدامه مع النساء اللائي لم تكن مطالبات بأكثر من تعلم الفنون النسوية كالتطريز وخلافه فتقول:

غدوت اليَوم أميًا وعَلَّى …أقضِى من فنون الكتْبِ دَیْنیِ(39)

فيبدو وصف هذه الشخصية نفسها بالأمية تعبيرًا عن أهمية التعليم للمرأة وعن نديتها في ذلك مع الرجل، وفي الوقت نفسه يبدو كدين يتم قضاؤه عن ما فات بالانخراط في عالم الأدب. وهو تعبير بليغ عن مدى الانغلاق الذي عايشته النساء عن هذا العالم. ويرتفع الصوت الشعري محطمًا الحواجز والحجب المتعددة فيظهر في أقوى أشكاله وأكثرها تحررًا:

فِلمْ لا أنعْى بالحَسَراتِ حالي …وتعلو زفرتي للفَرْقدينِ؟

فها هو الصوت الشعري يحطم السجن بشتى صوره وأنواعه وينطلق إلى آفاق جديدة لم تتح إلا في هذا المجال. ورغم أن هذا الصوت يتخذ شكل الزفرة فهو تعبير إيجابي فيه من القوة والإرادة والتعويض عن لحظات الصمت السابق خلف تلك الجدران.

ويظهر في أشعار الرمد حوار فريد معإنسان العينالذي يتم تشخيصه وتوجيه المشاعر الدافقة نحوه، وعن ماهية إنسان العين ومغزى هذا التشخيص قد يطول الجدال، فربما كان إنسان العين مرادفًا لهذه الشخصية الشعرية نفسها، فيفتح المجال لمدح النفس ومخاطبتها، وربما كان رمزًا للحبيب الذي لم تتح فرصة التعبير عنه بشكل كامل من قبل. ومهما كان فإن هذا التشخيص لإنسان العين يفتح المجال للتعبير عن نطاق واسع من المشاعر الإنسانية. هذا وتتفق مي زيادة مع الرأي الثاني حيث تعتبر قصائد الرمد جزءًا من القصائد الغزلية بل وخير هذه القصائد وبها يتم تفادي العيوب التي ظهرت في معظم أشعار الغزل للشاعرة والتي رصدتها مي زيادة في الكلام بلهجة الرجل وتقليد أسلوبه(٤٠) وربما أيضًا تفادت هذه الأشعارلبعدها عن المعنى التقليدي للغزلالقلق من رد فعل المتلقي الذي دفعها لأن تعطى عنوانًا لبعض شعر الغزل يقولقالت متغزلة في غير إنسان، والقصد تمرين اللسان(41) وتحين الفرصة في شعر الرمد للتغزل في هذا الإنسان فتقول:

أإنسَانَ العيون فدتكَ روحي …يهون لعود نورك كلَّ غالي

أترضى البعدَ عن عَيْنّىَ أليف …أضَرّ بعزمه ضيقً المَجاَل

أذبت حَشاشتي فَزَعًا وَرَوعًا …شَغْلَت بأسوأ البلبال بالي

بمَنْ جَعل العيون أجلَّ مأوى …لحفظك أيها الباهي الجمالِ

حياتي بعد بُعْدكَ لا أراها…سوى سَكرات نَزْعاتٍ ثِقَال

وكيف أعُّد لى روحًا ترجَّي…وشمسُ الرُّوح مالت للزوال؟(٤٢)

ويمضي الصوت الشعري في تخيل بهجة اللقا:

فيا إنسانَ عين غاب عنها …وبَدلَّنی به طولَ الَملال

عسى ألقاك مبتهجًا معافى …وأصبح منشداً : أمَلي صفا لي

لتهنأ مقلتي بسنا حَبيب …بديع الحسن محمودِ الوصالِ

وأنظم أحرفي كالدر عقْدًا …به جيدْ الصحائف عادَ حالِی(٤٣)

وتزداد أهمية مثل هذه الأبيات عند الوضع في الاعتبار التحفظات الشديدة على التعبير عن المشاعر الإنسانية وخاصة إذا كانت الشاعرة امرأة فتجيء هذه الأشعار لتعبر بوضوح عن مشاعر لم يكن مباحًا للمرأة التعبير عنها، والتي تقول سهير القلماوي أنها كانتتحب وتكره من وراء ستار(45) فتأتي الفرصة في أشعار الرمد للتعبير عن هذا الخطاب الخفيّ بشكل واضح مع تجنب اللوم لأن المخاطب هنا هوإنسان العينفتضرب هذه الأبيات مثلاً في براعة البحث عن وسائل للتحرر من شتى القيود ولو مع الوجود في السجن الإضافي للرمد، بل إن هذا السجن نفسه هو الذي يفتح آفاق التعبير ويهدم الأسوار العالية للتقاليد الشعرية والإنسانية.

ويمتد هذا الانفتاح والتحرر في التعبير إلى الأشعار التي كُتبت احتفالاً بالشفاء من الرمد سواء في فترات الشفاء الوجيزة التي تخللت المرض أو بعد الشفاء التام. وتفتح هذه الأشعار مجالات جديدة للتعبير عن لحظات من التناغم والقوة في إطار الاحتفال بعودة البصر. وهنا يعلو الصوت الشعري في تعبيره المشاعر الإيجابية التي لا تخلو من تأكيد على سقوط الحواجز والأسوار وكأنها تمثل ليس فقط مرحلة التحرر من سجن الرمد لكن أيضًا التحرر من الانغلاق والأسر بمعناه الأشمل، فتقول:

أهلاً بنور عيون راقَ لي وصفا …من بعد يأْسي وطول الخوف وَالْفرق

فيا تحيات بُرء شهدها بفمي …حَلَّى مرارةَ تسهيدى من القَلقِ

بأي قول أحييه وَعزّتهُ …عَزّتْ منالاً فلم تدرك لمستبِق

لكن ضميرُ التهاني غير مستتِرٍ…وَنور أنسى بدا للنَّاس كالفَلَقِ(46)

فهذا الإظهار لفرحة الشفاء يتناقض تمامًا مع الانغلاق والاحتجاب، خاصة مع التشبيه بالفلق الذي يرمز للوجه وما في ذلك من نزعات ثورية. ويظهر في هذا المجال التعبير عن مشاعر الفردية والاستقلال بعيدًا عن التأكيد التقليدي على الامتثال لمتطلبات المجتمع، فإن الشفاء من الرمد يعتبر بلورة لتجربة الرمد واستكمالاً لمرحلة النضج الفني ولذا يكتسب الصوت الشعري ثقة في إطار من الاحتفال بالنفس. ويعود الصوت الشعري للحديث عنإنسان العينفي هذه الأشعار فتقول:

وجدَّدَ بالوصال حياةَ روحي …أعوِّزُه بآيات المثاني

فَدَعْني يا خَلِى والخلَّ نَخلوُ …وَنَكْحلُ بالثنا جَفْنَ الأماني

لمرآة الجمال ووجهِ بدرٍ …دعانییوسفالثاني دعانی

وقد أعددت ما الكف طُرَّا…لمن بقميص بُرْئىِ قد حبانی(٤٧)

فهنا يظهريوسف الثانيفي عبارة مزدوجة المعنى، فليس واضحًا هل دعاها يوسف الثاني أم أنها المدعوة يوسف الثاني. والمعنى الثاني هو الأقرب حيث يوجد تشبيه لسجن الرمد بسجن يوسف عليه السلام في إحدى قصائد الرمد حين تقول:

أرى الظلماء قد حَجَبَتْ عيَاني …وأجرتْ من دموعي كلَّ عَين

وألقتني بسجن يوسفي …وحالت بين أفراحي وبينی(٤٨)

إذن فإن الأبيات الأولى تقدم تشبيهًا جريئًا لمحنة هذه الشخصية الشعرية بمحنة يوسف عليه السلام وما تعرض له من سجن وقهر وظلم، بل ويمتد هذا التشبيه بحصول هذه الشخصية علىقميص برئيوالذي يشابه في هذه الحالة قميص براءة سيدنا يوسف. وتتوطد العلاقة بين البرء من الرمد والبراءة من الظلم والاتهامات الباطلة وبالتالي الخروج من السجن بمعناه الأشمل وتحطيم الحجب. وهذا التشبيه يحمل في طياته الإحساس بالندية للرجل وبتعظيم معاناة النساء من الانغلاق بشكل يبرز الاحتياج للحرية والتطلع لآفاق أوسع وأرحب وتكتمل هذه الأمنيات بالوصول إلى رحاب هذه الآفاق ولو كان وصولاً معنويًا يتم التعبير عنه في هذه الأشعار.

ومما سبق يتضح أن أشعار الرمد لعائشة تيمور تعتبر مجالاً خصبًا للبحث في عوامل المقاومة للأنماط السائدة والطرق الجامدة لحياة النساء في هذه الرحلة الزمنية. ففي هذه الأشعار تبتعد الشخصية الشعرية عن الخطاب العام الذي يظهر في معظم أشعار عائشة تيمور والذي تُتخذ فيه الأساليب المختلفة لنيل رضا عالم الرجال والتأكيد على الالتزام بمتطلبات الحياة النسوية التقليدية، وتظهر صورًا من الخطاب الخفي الذي تبرز فيه صور المقاومة والتعبير عن معاناة الانغلاق. وتفتح أشعار الرمد المجال أمام التعبير عن أهمية القراءة والكتابة وعالم الأدب, الذي احتكره الرجال، في حياة النساء وتصوير الظلم الذي يقع عليهن بحرمانهن من ارتياد هذا العالم. ولا تخلو أشعار الرمد من التعبير عن عناصر القوة حيث يظهر الصوت الشعري مستقلاً ومتحررًا في تعبيره عن المشاعر الإنسانية بل وفي تعبيره عن الخروج من السجن وكسر الحواجز في قصائد الشفاء من الرمد. وبالتالي فإن الشاعرة قد استخدمت الإصابة بالرمد والشفاء منه كمجال لفتح آفاق جديدة للتعبير لم يكن متاحًا لها الخوض فيها من قبل فاستطاعت أن تقدم في هذه الأشعار عناصر المقاومة التي أخفتها طويلاً في أشعارها الأخرى.

1- أحمد كمال زاده،جدتي: عرض وتحليل، حلية الطراز: ديوان عائشة التيمورية مع القصائد التي لم يسبق نشرها, عائشة تيمور، القاهرةمطبعة الكتاب العربي، ١٩٥٢، ص١٦.

۲سهير القلماوي،عائشة التيمورية، حلية الطراز: دیوان عائشة التيمورية مع القصائد التي لم يسبق نشرها، عائشة تيمور، القاهرة: مطبعة الكتاب العربي، ١٩٥٢، ص۲۱.

۳محمد كمال يحي، الجذور التاريخية لتحرير المرأة المصرية في العصر الحديث: دراسة عن مكانة المرأة في المجتمع المصري خلال القرن التاسع عشر، القاهرة الهيئة العامة للكتاب، ۱۹۸۳، ص ١٠٥، ١٠٦

٤إبراهيم عبده ودرية شفيق، تطور النهضة النسائية في مصر من عهد محمد على إلى عهد فاروق القاهرة، مكتبة الآداب بالجماميز، ١٩٤٥، ص 51

5-Judith E. Tucker. Women in Nineteenth-Century Egypt. Cairo :The American University in Cairo Press, 1986, p. 131. 6-Mervat Hatem, “A’isha Taymur’s Tears and the Critique of the -Modernist and Feminist Discourses on Nineteenth-Century Egypt”, Remaking Women: Feminism and Modernity in the Middle East, Lila Abu-Lughod Cairo: The AmeriCan University in Cairo Press, 1988, p. 83.

7-عائشة تيمور، نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال القاهرة، مطبعة محمد أفندي مصطفى,۱۹۳۲، ص۲.

8 – إبراهيم عبده ودرية شفيق, المرجع السابق، ص51.

Mervat Hatem, p. 79, 80, -9-

10 – عائشة تيمور، نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال، ص 2.

11- عائشة تيمور, حلية الطراز، ص ٢٦٥

12-Sandra M. Gilbert & Susan Gubar, The Madwoman in the Attic: The Woman Writer and the Nineteenth-Century Literary Imagination. New Haven Cann: Yale UP. 1979, p. 53 – 75

13-Laurie A. Finke, Women’s Writing in English: Medieval England London:Longman, 1999, p. 4.

١٤عائشة تيمور، حلية الطراز، ص۱5۲.

15- المرجع السابق، ص ١٥٢.

١٦عائشة تيمور، نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال، ص ۲.

۱۷مي زيادة،كاتبة تقدم شاعرة، حلية الطراز: ديوان عائشة التيمورية مع القصائد التي لم يسبق نشرها. عائشة تيمور،195۲، ص 68، 69.

۱۸المرجع السابق، ص 69.

19-Mervat Hatem, p. 84.

۲۰أميرة خواسك، رائدات الأدب النسائي في مصر، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب,۲۰۰۱، ص 15.

۲۱مي زيادة المرجع السابق، ص ۱۰۱.

22-James C Scott, Domination and the Arts of Resistance: Hidden Transcripts.London: Yale UP. P. 199.

Mervat Hatem, p. 8 –23

٢٤عائشة تيمور، حلية الطراز، ص ١٩٤.

٢٥المرجع السابق، ص 196.

٢٦المرجع السابق، ص ٢٦٥.

۲۷ – المرجع السابق، ص ۱۹۹.

۲۸ المرجع السابق، ص 196.

۲۹ – المرجع السابق، ص ١٩٤ .

30 – المرجع السابق، ص ۱۸۹.

۳۱می زيادة، المرجع السابق، ص ۳۰.

32 – عائشة تيمور، حلية الطراز، من 196 .

33- المرجع السابق، ص ۲۰۰.

34- المرجع السابق، ص ۱۹۹.

35- المرجع السابق، ص ۱۹۱.

٣٦ المرجع السابق من ٢٠٥.

37 – المرجع السابق، ص ۲۰۰.

۳۸ المرجع السابق، ١٩٤ .

٣٩ أميرة خواسك المرجع السابق، من 15.

40- عائشة تيمور، حلية الطراز. ص ۲۰۰.

41- مي زيادة, المرجع السابق، ص ۱۱۸.

٤٢ عائشة تيمور، حلية الطراز، ص ۲۳۳.

43- المرجع السابق، ص 194.

٤٤المرجع السابق، من ١٩٥.

45- سهير القلماوي، المرجع السابق، ص ۲۲ .

٤٦ عائشة تيمور، حلية الطراز، ص ۱۹۰.

47 –المرجع السابق، ص ۱۹۲.

48 – المرجع السابق، ص ۱۹۹.

الكلمات المفتاحية: المرأة المعاقة, عائشة تيمور
شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات