«سجين الحكاية »

الفحولة، والشبق، والعنف

لم يشهد التاريخ اهتمامًا بالعنف ضد النساء مثلما هو حاصل الآن، فقد أصبح العنف الجنسي جريمًة تصل إلى حد الجرائم ضد الإنسانية، وأصبحت ممارسات مثل التحرش الجنسي كافية لإسقاط رموز سياسية وفنية ورياضية وثقافية، وسُنت التشريعات ووُضعت استراتيجيات لمواجهة العنف ضد النساء، وبالأمس القريب منحت جائزة نوبل للسلام لاثنين من الشخصيات الناشطة في مواجهة العنف الجنسي: (نادية مراد) العراقية الأيزيدية، التي كانت ضحية العنف الجنسي، ثم أصبحت ناشطة في مواجهة هذه الجرائم، والطبيب الكونجولي (دنيس موكويجي)، الذي كرس حياته للدفاع عن ضحايا العنف الجنسي. وبعد أن كانت الأصوات النسوية رأس الحربة في كشف ومواجهة العنف ضد النساء، اتسعت دائرة الاهتمامات لتشمل قطاعات أوسع تضم مؤسسات المجتمع المدني، والإعلام، والجهات البحثية، والأكماديمية، والحركات الاجتماعية والشبابية، وحتى الحكومات، والمؤسسات الدينية. فلا شك أن المسكوت عنه بات يتكشف وبقوة، والأغطية الشرعية التقليدية للعنف باتت تتمزق وبوتيرة سريعة. ومع ذلك فإن العنف ضد النساء لا يزال نشطًا كالوباء، فثمة أعداد هائلة من النساء لا يزلن ضحايا أشكال مُتعددة من العنف، بداية من التحرش اللفظي، وانتهاء بالاغتصاب، والقتل، على خلفية الشرف، مرورًا بالعنف الأسري، والتشويه الجسدي باسم العادات والتقاليد، والاستغلال الجنسي فيما بات يُعرف بالعبودية المعاصرة.

لا شك أن العنف ضد النساء جذوره التي تمتد بعيدًا في عمق التاريخ، فعلى مدار التاريخ، وعبر المجتمعات المختلفة – تشابه الكثير من أنماط العنف، ومع ذلك، فإن العنف يخضع للتحولات التاريخية والاجتماعية من حيث: أنماطه، ومبرراته، وطبيعة الوعى به وإدراكه. فكثير من مظاهر العنف في سياقات تاريخية واجتماعية معينة كان يُنظر إليها على أنها أمور طبيعية، وهذا لا يعنى أنها لم تكن عنفًا، ولكن يعنى أنها لم تكن مُدركة بوصفها عنفًا. فضرب الزوجات في سياقات معينة يتم قبوله بوصفه أمرًا طبيعيًا، وفي سياقات أخرى يعد عنفًا لا يمكن قبوله. وختان الإناث لم يكن يثير الشجون بوصفه عنفًا، فقد ظل لقرون طويلة (ولا يزال لحد كبير ) أمرًا طبيعيًا، ومستحسنا، وبدونه تفقد المرأة طهارتها، وهويتها كما مرأة مرغوبة ومقبولة اجتماعيًّا، أما بعد الكشف عن جوانبه المظلمة، فقد أصبح مُدركا لدى فئات يتزايد عددها، بوصفه عنفًا وغير طبيعي، وغير شرعي“. لم تتحرر الملايين من النساء من العنف، وهذا واقع، ولكن المؤكد أن العنف يفقد شرعيته، وبات مُدركًا بوصفه جريمة، ودلالة على التخلف، والرجعية، والاستغلال.

وفي هذا السياق، نحاول إثارة مسألة تحولات العنف ضد النساء من منظور التحولات التاريخية والاجتماعية والثقافية، وأثرها على أنماط العنف ومبرارته. وننطلق من فرضية أساسية، وهي أن العنف في أنماطه المعاصرة يصعب تفسيره خلال معادلة السيطرة الذكورية، مقابل الخضوع الأنثوي، كما هو شائع في الخطاب العام عن العنف ضد النساء، فهذه المعادلة التقليدية لم تعد كما كانت في السابق. فكثير من أشكال العنف يمكن تفسيرها من خلال ما شهدته هذه المعادلة من تحولات وتغيرات، فالذكورة التقليدية، وإن تحصنت بموروثات وتقاليد اجتماعية، ودينية، وسياسية، إلا أنها دخلت حيز الاغتراب بفعل التحولات التاريخية والاجتماعية، وفي اغترابها تلجأ إلى العنف. ولا يعنى هذا انتهاء السيطرة الذكورية، ولكن يعني أنها تخسر مواقع كانت حكرًا عليها، وتفقد هيبتها التي كانت تبدو في السابق، و كانها ضمن نظام الكون، وفي دوامة اغترابها، فإنها تستدعى الماضي؛ للحفاظ على شرعيتها، وتستحدث وسائل جديدة لترتدى رداء العصر.

ولذا نفترض أنه على الرغم من استمرار العنف ضد النساء، إلا أن مشهد العنف الآن ينبغي أن يٌنظر إليه نظرة تاريخية تضعه في سياقه، فقد بقي منه ما بقي، وتراجع بعضه، وتغير البعض الآخر، واستجدت أشكال لم تكن معلومة في السابق. فختان الإناث، على سبيل المثال، يتراجع، وإن كان تراجعه بوتيرة بطيئة على غير المأمول، حتى أن تبريرات وطرق الختان باتت تتخذ منحى مختلف، فالتبرير الديني يتراجع، على الأقل على مستوى الخطاب الرسمي، أما التبرير الاجتماعي، كالخوف من عدم زواج الفتاة، فيتخذ موقعًا متقدمًا، وتراجع دور الداية، والحلاق، والممرض، ليتصدر الطبيب المشهد، فيما يعرف بتطبيب الختان. و قد ينطبق الأمر كذلك على معدلات وطبيعة جرائمالشرف، فهي لم تختف، ولكنها لم تُعد عقوبة حتمية لكل فتاة تفقد عُذريتها، أو تقيم علاقة خارج إطار الزواج. وبالمقابل، فإن معدلات التحرش الجنسي قد زادت بصور مزعجة، إلى درجة أن بعض الأصوات تتباكى على الماضي الجميل، الخالي من التحرش.

 

يرتبط الحديث عن العنف ضد النساء في مجتمعاتنا بمفاهيم أساسية، وفي مقدمتها المجتمع الأبوي، السيطرة الذكورية، المجتمع الشرقي، العادات والتقاليد. ومع ذلك، فإن المجتمع الأبوي يفقد شرعيته التاريخية، والسيطرة الذكورية تتراجع معه، والكثير من أنماط العنف المعاصرة يصعب تفسيرها من خلال العادات والتقاليد، والعنف المرتكز على النوع الاجتماعي، في جانب كبير منه، ليس دليلاً على هيبة السيطرة الذكورية بقدر ما هو نتيجة التوتر، والقلق، والخوف من فقدان هذه السيطرة. وبالتالي فإن الخطاب العام والمعمم حول سيطرة الرجال وخضوع النساء، وإن كان لا يخلو من مصداقية، إلا أنه لم يُعد يعبر عن الواقع بشكلٍ دقيق. وقد تناولت هذا الموضوع في دراسة سابقة عن النظام الأبوي، وافترضت أن النظرة السائدة في الخطاب المناصر لحقوق النساء بشأن ثنائية السيطرة/ الخضوعتتجاهل حقائق تاريخية تتمثل في التحول في العلاقات بين الجنسين، بما يعنيه ذلك من تحقيق مكاسب للنساء والتي غالبًا ما تكون غير منظورة عندما ينحو الخطاب المناصر لحقوق النساء إلى التعميموعلى ما يبدو أن الذكورة كشرت عن أنيابها ليس بسبب قدرتها على فرض سطوتها الكاملة، ولكن ربما بسبب عدم قدرتها على السيطرة بسبب المكاسب التي تحققت لقطاعات من النساء في العصر الحديث. وهذه القضية بدأت تتكشف مؤخرًا من خلال بعض الدراسات التي بدأت تلفت الأنظار لأزمة الذكورة“(1).

وهكذا، فإن فرضية أن النظام الذكوري لا يزال يمتلك القدرة على أن يتجلى، ويفرض ذاته في الوعى العام، بوصفه نظامًا طبيعيًّا أصبحت موضع شك. إن شخصية (السيد أحمد عبد الجواد) في رواية نجيب محفوظ كانت نموذجًا لهيبة السيطرة الذكورية، مقابل زوجته (أمينة)، التي كانت نموذجًا للخضوع. وفي الحقيقة أن (السيد أحمد عبد الجواد) لم يضرب (أمينة) ولكن كان مسيطرًا بوصفه الرجل، وكانت خاضعة لأنها امرأة بدون حاجة إلى العنف الجسدي، فلم تكن سيطرة (السيد عبد الجواد) مهددة، ولم يكن بحاجة إلى العنف المادي. هذا النموذج يتراجع ولم يُعد قادرًا على الصمود أمام متغيرات العصر، وفي مقدمتها أن (أمينة) لم تُعد (أمينة) الخاضعة.

إن صورة الذكورة في أنماطها التقليدية تهتز، فأعداد متزايدة من الرجال يحاولون تثبيتها من خلال التذكير بأنهم ذكور أقوياء، لديهم القدرة على السيطرة والتحكم. وكما تقول الباحثة (آمال قرامي):”ويتجلى تحرك الرجال أو مقاومتهم للمد النسائي في شكل خطاب يرفض تعريض الذكورة للاهتزاز، يُدلي به من كانوا في مواطن صنع القرار، ويظهر أيضًا في رفض السلفيين المعاصرين لكافة مظاهر تغيير المؤسسات الاجتماعية سياسية والقانونية التي أدت إلى تحول في وضعية المرأة والعلاقة بين الجنسين. ولا يتوقف الأمر عند هذا الحد، إذ تبدوالمقاومة الرجاليةفي ممارسات يومية عديدة تبرز التأزم الحاصل في البنية العلائقية بين الرجال والنساء، وهو توتر يصل لحد اللجوء إلى العنف المادي، واللفظي والرمزي. فكلما شعر الرجل بأن تطور المرأة هدد مكانته في الخارج؛ إزدادت رغبته في عرض قوته داخل المنزل. فهو السيد المسموع الكلمة، ذو السلطة، التي لا تنافس، وعلى الزوجة أن تكون التابع والخاضع. وكلما نفي الرجل أزمته وأنكر مكابدته لشتى ضروب المعاناة؛ ازداد تشبثا بممارسة العنف ضد النساء، وهو إجراء يتخذ لأسباب تعويضية دفاعية“(2).

وبالتالي، إذا افترضنا أن استراتيجية السيطرة الذكورية، في جانب كبير منها على الأقل، باتت استراتيجية تعويضية، بمعنى استخدام كل الوسائل التي تعوض اهتزاز الصورة التقليدية، فلا غرابة إذن، أن يكون الكثير من أشكال العنف ضد النساء أهم وسائل هذه الاستراتيجية؛ من أجل الحفاظ على صورة باتت تفقد رونقها التقليدي، والانتقام من النساء بوصفهن المسئولات عن خفوت وربما تشوه صورة الذكورة. وفي خِضم الصراع من أجل الدفاع عن هذه الصورة، يتم استدعاء الصور النمطية عن الذكورة المتفوقة، والأنوثة الخاضعة في الموروث الثقافي والديني. وقد ينظر البعض إلى هذا الأمر بوصفه عودة إلى الماضي، ولكن في الحقيقة إنها محاولات لموضعة الماضي في الحاضر، والاستعانة به لإضفاء مشروعية على ذكورة لا تجد ما يمنحها مشروعية في الأطر المرجعية المعاصرة، والتي باتت ترتكز بصورة متزايدة على مبادئ حقوق الإنسان.

وبالطبع، فإن الاستراتيجية الذكورية التعويضية ليست شأنًا قاصرًا على أنماط الذكورة الحديثة، بل إن الكثير من أنماط الأنوثة الحديثة، هي جزء لا يتجزأ من المعادلة، فلعب دور الأنثى الناعمة لا يزال فاعلاً في بناء وتشييد صورة الذكورة الخشنة، بأدوات الحداثة والموضة. ولكن ينبغي عدم الخلط بينالنعومةوالخضوع، فكثيرا من الفتيات والنساء يتمثلن دور الأنثى الناعمة (المقابل للذكورة الخشنة)، ولكنهن لا يلعن الدور التقليدي للأنثىالخاضعة، وهذه معضلة أخرى، تواجه الذكورة المعاصرة، والتي تربط النعومة بالخضوع، كما كان الحال في الماضي. ولنكن أكثر دقة فنقول الربط بين النعومة والقابلية للخضوع، فالذكورة لا تمارس وجودها مع الخضوعالخامل، فهي تتجلى في عملياتالإخضاعوالقدرة على الترويض.

وكما هو معروف، فإن تشييد الذكورة يرتكز علىالقوامةبالمعنى السياسي والاجتماعي والفحولةبالمعنى الجنسي البيولوجي. وفي الحالتين، فإن التمييز ضد النساء يُعد شرطًا أساسيًا؛ لبناء القوامة والفحولة، وبالتالي، فإن أي محاولة لمنع التمييز ضد النساء تشكل تهديدًا لهذه الصورة، بما يُفضي إلى العنف. والتمييز في حد ذاته عنف، ومع ذلك فإن مساعي الخلاص منه لا تنهي الحرب، بل كثيرًا ما تُؤجِّجها.

وإذا كانتالقوامةتؤسسها تعاليم دينية، وأعراف اجتماعية نجد صداها في قوانين وضعية، خاصة تلك المتعلقة بالأحوال الشخصية، فإنالفحولةأو التفوق الجنسي يعزى دائمًا إلى حالة طبيعية خالصة، ويتطلب اعترافًا أنثويًا، فالفحولة لا توجد في المطلق، ولكنها توجد من خلال الاعتراف بها. وقد كان لاختزال الأنثى في الصورة الجسدية الشبقية مضاره على الرجال، فقد أريد لها أن تكون مثيرة لرغبات الفحولة، ولكنها باتت أيضًا مثيرة للخوف، ومصدر تهديد للتفوق الذكوري. وهكذا أصبح القلق الاجتماعي من فقدان السيطرة مرتبطًا بقلق وجودي، يتعلق بالصورة الذهنية عن المرأة الشبقية. وهذا البعد يفسر العديد من مظاهر العنف ضد النساء.

إن الخوف، بشكلٍ عامٍ ظاهرة طبيعة، ومرتبطة بالحياة واستمرارها، فبالخوف يمكن أن نحمی أنفسنا من مخاطر تتهددنا، كما أن الخوف مكون أصيل من مكونات العلاقات الاجتماعية، فمن المستحسن دائمًا أن نعبر عن خوفنا على شخص نحبه، وغير ذلك من المعاني. ولكن بالمقابل هناك خوف مرضي، وخاصة عندما يتحول إلى خوف جماعي مؤسس على مصالح، أو تصورات، ومعتقدات خاطئة، وصور نمطية، لأن الخوف في هذه الحالة يرتبط بكراهية مسبقة لآخر ما، وليس نتيجة أفعال ملموسة؛ إنها كراهية على الهوية. ولعل أبرز أشكال هذا الخوف هو ما يُعرف بالخوف من الآخر الأجنبي، أو المختلف دينيًّا أو عرقيًّا أو جنسيًّا. وقد أصبحت هذه الظواهر محل اهتمام متزايد باعتبارها تشكل نوعا من العنصرية ومصدرًا من مصادر العنف السياسي، والاجتماعي.

ويتصدر الخوف من الإناث هذا الحيز من الخوف المرضي؛ لأنه بداية خوف على أساس الهوية، ويرتكز على صور نمطية ومعتقدات خاطئة، ويُفضي إلى صنوف من العنف. ولا يوجد نمط آخر من الخوف كان موضوعًا لتبريرات اجتماعية، وثقافية، ودينية مثل الخوف من النساء، ولم يكن هناك ضحايا لأي نوع من الخوف مثلما كان الحال بالنسبة للخوف من النساء عبر التاريخ، وفي كل المجتمعات تقريبًا. ويطبع هذا النمط من الخوف المجتمعات، والثقافات، التي يُطلق عليهاذكورية، فالسيطرة الذكورة، حتى تبرر وجودها، قد شَيطنت أجساد النساء، وآمنت بذلك، فصار الخوف واقعًا ثقافيًّا واجتماعيًّا؛ فلا أحد يفتعل، لأنهم يخافون بألفعل. إنها متلازمة الذكورية، والقلق، والخوف، وكلما كان هناك إفراط في التصورات النمطية عن الذكورة المتفوقة، كلما كان هناك إفراط في الخوف من الأنوثة، بجعلها أنوثة مفرطة.

يتمحور هذا النمط من الخوف حول الصور الذهنية عن طباع النساء، وقدراتهن الجنسية. فللنساء طباعهن المتساوقة مع طبيعتهن، فَهُنَّ يتقنَّ الكيد، والغواية، من حيث طباعهن، وهن شبقيات بحكم طبيعتهن، فالتصورات، التي استضعفت المرأة، والتي تنظر إلى الأنوثة على أنهاعجز دائم، وهي المقولة التي يجرى تداولها في الخطاب الفقهي الإسلامي، هذه التصورات ذاتها هي التي منحت الأنثى قدرات جنسية فائقة، بعد أن اختزلتها في جسدها، وكثفت هذا الاختزال بهدف الإقصاء، والاشتهاء. وهكذا أصبحت الذكورة في مواجهة دائمة. مع شيطان الأنوثة الشبقي، الذي أنتجته الثقافة الذكورية ذاتها. وعليه، فقد تشكلت الصورة الذهنية عن النساء بطريقة مزدوجة، فيها الخوف الذي يتطلب الحرص والكراهية، والافتنان الذي يتطلب التودد والامتلاك. وفي الحقيقة أن الافتنان لا يحد من الخوف بل يفاقمه. فالافتنان من الفتنة، ومن معاني (الفتان) في اللغة العربية؛ الشيطان.

ويُعد تضخيم قدرات النساء الشبقية، والخوف منها،ظاهرة عابرة للثقافات، وفي كل الأحول يستحضر التفوق الشبقي الشيطان ليقترن بالأنثى، ومثل هذه الروايات نجدها في الثقافة الشرقية، والغربية. فالخطيئة الأولى لحواء طبعت التصورات عن المرأة في مختلف الثقافات“.. وبالتالي ظل تاريخها يحمل هذه العلامة، ولهذا اعتبرها البعض قرينة الشيطان، ورماها الآخر في خانة الشرور. ولا يتعلق الأمر هنا بالثقافة العربية الإسلامية بل بالثقافات الإنسانية. من هذا الترسيم تشكل المرأة هامشًا، والرجل مركزًا. بين الهامش والمركز خيوط من المد والجذر، من الغواية والشهوة..” (3). وفي هذا الصدد تقول (صوفية السحيري):”ومن الروايات التي تلح على تجسد الشيطان في صورة المرأة، الرواية التي ذكرها الطبري ورفعها إلى مجاهد:”إذا أقبلت المرأة جلس الشيطان على رأسها فزينها لمن ينظر، فإذا أدبرت جلس على عجزها فزينها لمن ينظر“. وفي ذلك تقول:”ولاشك أن الربط بين المرأة والشيطان لا يقصد به كونها شيطانًا حقيقيًا (لأنه من الجن) ولكن المقصود بهذه الفكرة أنها أداة ممتازة من أدوات الإغراء وأن الشيطان يزين من خلالها كرمز للجنس مرغوب ومطلوب لدى الرجال فيوحى له بالمحرم الجنسي، أي الزنا، وهو جريمة ضد التعاليم الدينية والوضع القائم“(4).

ومن ناحية أخرى، فإن تاريخ الجنسانية الغربية يحمل إلينا دلائل تعكس هذه التصورات. فكما جاء في كتاب جاك أندرييهالنزوع الجنسي الأنثويتحت عنوانبوابة إبليس، بأن هذه التصورات نجدها في أساطير آلهة الإغريق، فيقول:” في السجال حول موضوع تقاسم لذة الحب سواء للمرأة أو للرجل، سلمزيوس وهيرا” [من آلهة الإغريق] زمام أمرهما إلىتيريزياس” [الكائن الأسطوري الذي تحول من رجل إلى امرأة]، وهو الذي ساقته المغامرات الأسطورية ليكون من كلا الجنسين بالتتابع. وقد أجاب: إن قُسمت المتعة إلى عشرة أقسام، فسينوب المرأة تسعة، فيما ينوب الرجل قسمًا واحدًا“. ويضيف أن هذا الأمر يتجاوز العصور والثقافات، ففي القرن التاسع عشر في قاموس للعلوم الطبية، تشير مادة الشبق في بابالمرأةإلىأن المرأة تساوى وسطيًا رجلين ونصف !”. وعدم التساوي هذا بالاستمتاعهو طريقة للقول:”المرأة خطرةعلى الرجل وعلى نفسها، ولعل لعنة سفر الجامعة [أحد أسفار الكتاب المقدس/ العهد القديم ] تنبثق منذ الأزمان الغابرة:”وجدت أمرَّ من الموت، المرأة التي هي شِباكٌ. وقلبها إشراك ويداها قيود. الصالح قدام الله ينجو منها، أما الخاطئ فيُؤخذ بها” (سفر الجامعة، الإصحاح السابع 26)(5).

وثمة تفسيرات، من المنظور النفسي، والاجتماعي، للعنف المؤسس على الخوف من النساء، فوفق معجم الجسد، يتم تناول الظاهرة من منظور نفسي بيولوجي:”بشكل عام، الرجل يخترق، والمرأة تُخترق. وهذا وذاك يشتركان بأعمق ما فيهما. وحتى لو تميزت الذكورة بشهوة الوصول لجسد المرأة. ويمكنها فرض استيهامات القوة، فإنها لا تنطوي، رغم ذلك، على وضع بين قوسين المخاوف والقلق، التي تتفجر عندما يكون المرء أمام حميمته، وعندما يتعرى أحدهما أمام الآخر. .. حتى إن اللجوء للفظاظة والعنف، ليس أحيانًا سوى طريقة ليطمئن نفسه على رجولته الخاصة، وليتوهم أن الرجل، بصفته ذكرًا، أنه ليس أبدًا رهن النساء. ومن هنا، إن لم تكن استيهامات الاغتصاب، فعلى الأقل استيهامات القوة القادرة على تقويم الجنس المُذكَّر، وعلى دعم قدرة الرجل على الفوز بجسد المرأة“(6).

وبالمعنى الثقافي، والاجتماعي، فإن الرغبة الأنثويةالمخيفة“. هی – بلا شك جزء من البناء الثقافي المرتبط بالعلاقة بين الجنسين. تقول الباحثة (خلود السباعي):”إن الرغبة الأنثوية ليست نتاج حتميات طبيعية، بقدر ما هي تمثلات اجتماعية خاضعة لنظام رمزي تمنحه الثقافة دلالات تتجاوز مستواها الفيسيولوجي البسيط، الشئ الذي أصبحت معه الذكورة، والأنوثة، عبارة عن طقوس واستيهامات، تمت بلورتها بأشكالٍ مختلفة باختلاف الثقافات، التي حددت لكل من الرجل والمرأة دوره ووضعه، ومنحته طرقًا معينة في إبراز شبقية التعبير عن لذته. ولقد أدىغموضالجسد الأنثوي في ظل المجتمعات الذكورية دورًا أساسيًا في إحساس الرجل بالخوف والقلق من الرغبة الأنثوية، يمكن إجمالها فيما يلي:

يخاف الرجل من تعبير المرأة عن رغبتها الجنسية؛ لما في ذلك منتكسيرللصورة المثالية للأم، ولما يسببه ذلك من آلام لا شعورية.

يخاف الرجل من عدم امتلاكه الكفاءة اللازمة لإرواء هذه الرغبة الجنسية، الشئ الذي يجعل ذكورته موضع تساؤل وشك” (7).

وبما أن السيطرة الذكورية هي نظام اجتماعي، وليست طبيعة بشرية، فإن بناء هذا النظام والاطمئنان على الذكورة وتأمينهاظل همَّا جماعيًا في المجتمعات الذكورية، والخوف من انهياره أيضًا خوف جماعي. وفي الحالتين، فإن الأمر يتطلب تدابير وقائية، وأخرى عقابية. ومن أهم هذه التدابير، تلك المتعلقة بإبطال مفعول الأنوثة الشرير من خلال ممارسات نجدها في العديد من الثقافات مثل: الختان، والتصفيح، وكي الثدي كما كان الحال في بعض المجتمعات الأفريقية. وكل هذه الممارسات تتم تحت غطاء العفة والطهارة. وإلى جانب التدابير الوقائية، هناك تدابير عقابية لمن تخل بالقواعد الاجتماعية والأخلاقية المنظمة للعلاقة بين الجنسين، ونظام الجنسانية في المجتمع، وهي عقوبات تشمل الإقصاء والتشهير، وحتى القتل. تقول (صوفية السحيري):”إن التحذير والخوف من المرأة مرتبطان ارتباطًا عضويًا بحياتها الجنسية، والتأكيد على عفة الزوجة، والذي عبر عنه الإمام الغزالي بقوله:”ينبغي أن يزيد، أو ينقص [أي الحذر من المرأة] بحسب حاجتها في التحصين، فإن تحصينها واجب عليه“. ويعتقد أن طاقة الجنس عند المرأة أكثر طبيعية وقوة من الرجل، وإذا لم يسيطر على هذه الطاقة الجنسية عند المرأة؛ فإنها تسبب فتنة تهدد النظام الاجتماعي. وتكون هذه السيطرة بالإشباع الجنسي، وبسيطرة الرجل. ويقترح (الغزالي) أن يتصل الرجل بزوجته كلما أمكنه ذلك، أو مرة كل أربع ليالٍ إذا كان متزوجًا من أربع نساء. ويُشكل هذا الرقم حدًا أدنى حسب رأيه، وإلا ما تمكن الرجل من إشباع حاجات المرأة الجنسية“(8).

ويطال العقاب جنس الرجال أنفسهم في حالة العجز، أو الشذوذ، فالرجل الذي يخون ذكورته يتعرض للإقصاء والتهميش. إن الخوف من النساء يتصل بالخوف من العُنَّة، والمثلية الجنسية، من خيانة أسطورة التفوق الذكوري في حالة العجز، ومن أن يتحول الرجل إلى امرأة مخترقة في حالة المثلية. وهنا يكون العنف أشد وأقصى. وبدرجة أقل من المثلية، تعتبرالعُنَّةعارًا ينبغي التعتيم عليه، وقد لا يجد على الرجل أمامه سوى الخروج السري من عالم الرجال والنساء، أو ممارسة أقسى درجات العنف على شريكته الأنثى؛ لتعويض ذكورته العنينة، وعقابها على عاره الشخصي.

يعد ختان الإناث النموذج الأكثر دلالة على تدابير المجتمع الذكوري؛ من أجل السيطرة على جسد المرأة الشبقي، والحد من خطورته. ومن أجل إخفاء هذا السبب الرئيس يتم اللجوء إلى سرديات تتعلق بالطهارة والنظافة، والعفة، كمفاهيم أخلاقية تتعلق بتهذيب جسد المرأة، ومن ثم أخلاقها، وهو ما يؤدي بدوره إلى وأد الفتنة، وحماية النظام الاجتماعي. ووفق كلام خلود السباعي:” كانت لهذه الاعتقادات السائدة عن الجنسية الأنثوية كمثار للبلبلة، والاضطراب، والإخلال بالنظام، انعكاسات ساهمت فيقضمهذا الجسد الأنثوي بما فرضت عليه من التزامات وإكراهات. فلقد اعُتبرت المرأة مثار فتنة – أرادت ذلك أم لم تردفيكفي وجودهاكامرأةلكي تشكل خطرًا يهدد الرجل، كما يهدد نظام الجماعة بأسرها، ما تقرر معه أن تكون هيطاهرةلكي تحفظ طهارة الرجل” (9)

الختان يعنى الطهارة، والجسد المرغوب/ المأمون وفق التعاليم الدينية، والاجتماعية يجب أن يكون طاهرًا وعفيفًا، والطهارة والعفة لها معايير ينبغي الالتزام بها. وتعنى الطهارة:”النقاء من النجاسة والدنس والبراءة من كل ما يشين. وطهارة الحائض أو النُفَساء: انقطاع الدم. أو الغُسل بعد انقطاع الدم وطهر الشئ بالماء وغيره؛ جعله طاهرًا. وطهر الولد: ختنه. وطهَر القناة أو الترعة: أخرج ما رسب فيها من غرين..”(10). وتمتد الطهارة لتشمل كل فعل يزيل النجاسة، والوسخ، وما هو ضار مثل: تطهير الجروح، وتطهير الفم. وهذا ما يخص الجسد المادي، ولكن طهارة الجسد هي شرط لطهارة الروح. أما العفة والعفاف فتعني:”الكف عما لا يحل ولا يجمُل من قول أو فعل، وهو عفيف، وهي عفيف، إذا افتقر لا يسأل الناس، ويتعفف عما في أيدي الناس. والعفة: ترك الشهوات، وغلبت في حفظ الفروج” (11) وكما هو معروف أن علاقة المرأة بالطهارة تصل في سياقات ثقافية معينة إلى حد الهوس، فهى دائمًا متهمة بالنجاسة، وتتصل الطهارة بالنظافة، فالجسد النجس هو جسد غير نظيف، ويُعتقد كما سنرى لاحقًا، أن الفتاة غير المختنة هي فتاة غير نظيفة.

ويسمى الختان كذلك، الخفاض، وتعنى كلمة الخفض:”المطمئن من الأرض، فيبدو الترابط واضحًا بين الخفض (الختان) الذي يُخَفِض ويُقلَل من غلمة المرأة – إن لم يقض عليها تماما، وبين الخفض (الأرض المطمئنة)، فكان الخفض (الختان) يجعل الأرض (المجتمع) التي تعيش عليها المرأة أرضًا مطمئنة لا تخشى من المرأة، التي فقد جسدها معنى الرغبة والشوق إلى المتعة المؤدية إلى الفتنة“(12).

وبهذا تكون الفتنة هي الداء، والطهارة هي الدواء، والتطهر لا يعني التخلص من الدرن والنجس، والوسخ بطقوس الاغتسال، ولكن في حالة المرأة يصل إلى حد بتر وتشويه الأعضاء التناسلية؛ لتطهير جسدها وروحها ومجتمعها. فالختانأو الطهارةهو العنف المقدس اللازم من أجل إنقاذ المجتمع، وصيانة تفوق الذكر، بل وحماية الأنثى من طبيعتها الشريرة، أو على الأقل المثيرة للقلق. وقد خلصت دراسة أجريت بناء على توصية من قوة العمل المناهضة لختان الإناث في التسعينيات، عقب المؤتمر العالمي للسكان والتنمية إلى:”إن شعور الرجال بالقلق ينبع من نظرة مبالغ فيها للقدرة الجنسية للنساء، كما أن احتمال العجز الجنسي قد مثل عنصرًا مقلقًا للغاية بالنسبة للرجال. فقد شعروا بالخوف من عدم قدرتهم على تلبية الاحتياجات الجنسية للنساء؛ بسبب ضعفهم الجنسي. ويمكن النظر إلى ختان الإناث من المنظور المعاكس، أي أن ختان الإناث يضعف من قدرة وسلطة المرأة الجنسية، بحيث يستطيع الرجل تلبية احتياجاتها. وقد كانت كافة أقوال الرجال حول ذكورتهم وهويتهم وإدراكهم للنساء، موجهة نحو تبرير موقفهم من ختان الإناث (13).

إن خوف، أو بالأحرى قلق، الرجال يحمل الجانب الذاتي، أي خوفه على صورته كمتفوق اجتماعيًا وجنسيًا، أو كما تشير الدراسة بحق، خوفه من عدم الاعتراف بفحولته، وهو الاعتراف الذي ينبغي أن يأتي من الشريك الأنثوي. ومسألة الاعتراف في غاية الأهمية؛ فالذكورة، كما الأنوثة، لا توجد بذاتها، ولكنها تحتاج إلى أن يُعترف بها، وفي الحقيقة أن الاعتراف يخضع للمعايير والتصورات الاجتماعية، لما تعنيه الذكورة، والأنوثة، وهذا الشرط القاهر، هو ما يجعل الذكر يلعب دور الذكر المرغوب اجتماعيَّا، والأنثى تلعب الدور الذي يجلها مرغوبة ومأمونة اجتماعيَّا.

وإذا كان قلق الرجال ذاتي خشية عدم الاعتراف بفحولتهم، فإن خوف النساء مختلف, فهو خوف مركب يتضمن الخوف من الإقصاء (عدم الزواج)،والانحراف عن السلوك الجنسي السوي، فضلاً عن دورهن في الحفاظ على النظام الاجتماعي. وثمة ما يؤكد أن النساء طرف فاعل ونشط في تشييد السلطة الذكورية ورعايتها والحفاظ عليها. ومهمة تأهيل الجسد الأنثوي للتوافق مع قواعد الحشمة، والطهارة، والشرف توكل للنساء أنفسهن. تقول الباحثة (مها محمد حسين)، انطلاقًا من آراء عينة من النساء، أن الفتاة المختنة في التصورات الشعبية تعتبر:”فتاة ذات قدر من الطهر، والتطهر والنظافة، كما أنها فتاة تتمتع بقدر مرتفع من الأخلاق الحميدة، ولا تأتي بأي فعل [ لا] يرضى عنه المجتمع، فهي قادرة على المحافظة على نفسها وعلى القواعد المجتمعية في ذات الوقت، فلا تأتي بما يخرجها عن هذا النطاق، وأنها الفتاة المهذبة المثالية في سلوكها، فهي بنت عفيفة الخلق والسلوك، وهادئة الطباع“. وتقدم نماذج من عينة الدراسة تعكس المواقف بشأن الفتاة غير المختنة، فتذكر المقولات التالية:”دايما الناس يقولو إنها بنت محترمة، وطاهرة، ونضيفة وجسمها طاهر، وقادرة تحافظ على نفسها،دى تبقى بنت محترمة ما تعملش حاجة غلط، لو شوفتيها فيلم جنسي حتى ولا تهيج ولا حاجة، لو قعديتها في وسط الرجال لا يجرى لها حاجة” (14). وبالمقابل تستعرض الباحثة تصورات العينة عن الفتاةغير المختنة، فتقول:”تأتي التصورات الشعبية والمثارة حول الفتيات غير المختنات، فهي فتاة غير محترمة، بها وصمة عار مجتمعية خفيةزى القنبلة الموقوتة. . تنفجر في أي وقت، تنتظر أي فرصة للظهور. غير طاهرة ومنحرفة، ولها علاقات محرمة في العلن والخفاء، ومتشبهة بالرجال، وغير نظيفة، فهي قابلة من خلال التصورات فقط لأن تكون غير شريفة، ولا يستطيع من وجهة نظر المجتمع المحافظة على شرفها وشرف أسرتها“. وفي هذا السياق، تستعرض بعض مقولات العينة:”غير المطاهرة بتكون هايجة وسايبة، ما لهاش رابط، أي حاجة ممكن تثيرها، وهي ياعيني ما تقدرش تقاوم أي إثارة أو قلة أدب أي شاب معاها،اللى مش مطاهرة بتعمل حاجات مش كويسة مع الرجالة، بتعمل في نفسها حاجات زى العادة السرية، عشنها. …”،اللي مش مطاهرة بتعمل حاجات كتير حرام، بتعمل شذوذ جنسي مع بنت زيها، متزفتة برضه، ومش مطاهرة، وبتتعرف من بين البنات (15) إن التصورات الشعبية لا تنظر مطلقًا إلى أن الختان جريمة بحق الفتاة، بل على العكس، فإن بقاءها على طبيعتها هو ما يُشكل جريمة بحق المجتمع، والفتاة. قد لا نملك مثل هذه الآراء لعينة من النساء في المجتمعات التقليدية القديمة، ولكن الملاحظ أن مقولات النساء تتضمن لغة معاصرة مثل: الأفلام الإباحية، والوجود وسط الرجال، والشذوذ، هذه المفردات لم تكن معلومة في السابق. وربما نذهب إلى القول بأن الختان في الماضي كان أمرًا طبيعيًّا، لا يخضع للنقاش، أو التبرير، أما الآن، فهو يحتاج إلى هذه الترسانة من التبريرات، والتي لا تحيل كثيرًا إلى مرجعيات دينية، وهذا ما نذهب إليه، من أن العنف ومبرراته يعكس واقعه التاريخي، والاجتماعي. وعلى أي حال فإن الختان بات يخسر الكثير من مناصريه. ومع ذلك، فليس معلومًا إلى أي مدى يرتبط تراجع الختان بتراجع الخوف من جنسانية المرأة.

لا شك أن ثمة تغيرات، فرَجُل اليوم ليس كرجل الماضي، صحيح أنه لا يزال يدافع عن التفوق الذكوري، ولكن في سياق مختلف، ولأسباب مختلفة، وبأدوات مختلفة. ومن الرجال من تغير، ومن يتغير، ومنهم من هو أكثر وعيًا بحقوق النساء، من نساء مازلن أسرى الأفكار المحافظة. تقول (آمال قرامي):”لئن نما شعور الثقة بالذات لدى فئة من النساء، فإن مشاعر الاعتداد بالذات، والتفاخر بالقوة، حققت تراجعًا نسبيًا لدى فئات من الرجال حملوا تصورًا مخالفًا لمفهوم الرجولة. فابتُعدوا عن العدوانية، ونزعوا نحو المسالمة وبناء علاقات تبادلية، تقوم على المشاركة“. وتضيف:”وبالإضافة إلى ذلك، نعاين اليوم حالات تراجع فيها الخضوع الصارم للمنمطات الجندرية، الُمسوغة للتمييز بين الجنسين. وهناك حالات تلمس فيها تخليًا عن القيم الذكورية، وميلاً إلى الأنثوية كالعناية بجمال البدن، واستعمال مستحضرات التجميل، واتخاذ ملابس تنم عن ميل أنثوي، أو التشبه بالنساء على مستوى: اللغة، وطريقة الكلام والتعبير، والمشية، والاشتغال بالعطور وغيرها من العلامات السيميائية، التي تنسبها الثقافة التقليدية للنساء” (16).

في الحقيقة أن هذه التحولات لا تخضع لأي نوع من التعميم، فالسياق العام يتضمن كل شيء تقريبًا بداية من التصورات المحافظة بشكل مفرط، إلى التصورات المنفتحة، وبين هذا وذاك، نجد التداخل والارتباك. ولعل النقطة الحرجة التي تعطي للعنف الحاضر خصوصيته، هي الفجوة بين التصورات، والواقع؛ ففي المجتمعات التقليدية كانت التصورات تواكب واقعها إلى حدٍ كبير، أما في مجتمعاتنا المعاصرة، فثمة فجوة وتشوش بين الصورة الذهنية (التقليدية في جزء كبير منها)، وواقع المرأة المتغير من حيث كونها خرجت إلى المجال العام وتنافس الرجال في مجالات كانت حكرًا عليهم دون النساء. ويمكن القول، إن جانبًا كبيرًا من العنف المعاصر راجع إلى هذه الفجوة بين ما يتصوره الرجل (وأيضًا المجتمع) وبين ما تفرضه شروط الواقع الجديد. فالخوف لم يَعد مجرد القلق من التفوق الجنسي، بل الخوف من فقدان السيطرة، والتفوق الاجتماعي. وكما يقول (عزيز العظمة):”.. أن الخطاب الأدبي، والفقهي، واليومي، نزع عن المرأة إنسانيتها، أي فاعليتها، وشخصيتها وكيانها الوضعي. واختصرها في أنوثتها المفهومة على أنها انفعال، ورمى بواقعها إلى حيز ما هو غير طبيعي. ولذا أصبح من الصعب الكلام عن المرأة في واقعها، أو التعامل معها على أساس من هذا الواقع، إلا أن وصم هذا الموقع بالخروج على الأنوثة، أي بما يخيف الرجل الناقص من خشية عدم دوام السيطرة، تصبح المرأة الحقيقية لعنة، أو فتنة أو شيطانة، وكل هذا مواضع للوجل والكراهية” (17).

هنا تبدو أهمية استكشاف العلاقة الجدلية بين المتصور والواقعي، فهي علاقة فائقة التعقيد، ومتُعددة الأبعاد. فالمتصور يحمل الكثير مما هو تقليدي ومَاضَوِيّ، أما الواقع، فهو ليس إلا الواقع المعاصر. فنذهب إلى ما ذهبت إليه (آمال قرامي) بأن ثمة تحولات في موقف الرجال من المرأة، وهذا الموقف مرتبط بموقف هؤلاء الرجال من الحقوق، والحريات بشكلٍ عام، ولكن بالمقابل، فإن هذه الموقف المنفتح والمتفتح، لا يمكن تعميمه، بل قد يعتبره البعض استثناًء، لأن القطاعات الأوسع من الرجال ( ومن النساء أنفسهن) لا يزالون في منطقة متصدعة بين المُتصور، والواقعي، فرفض وجود النساء في الحيز العام مازال سمة إن لم تكن واقعية، فهي ذهنية، بل إن هذا الرفض قد يأخذ أبعادًا مؤسسية، كرفض القضاة الرجال تولي النساء منصب القضاء. أما على المستوى الشعبي، فقد يستفيد الرجل من خروج شريكته للعمل، وقد يكون عالة عليها، ومع ذلك يظل يستبطن موقفًا ذهنيًا يرى أن المرأة مكانها المنزل، وقد يصل الأمر إلى حد تعنفيها إذا ما رفضت الإنفاق عليه، وتعنيفها لأنها لا تقوم بواجباتها المنزلية. وفي حين يتراجع العنف التقليدي ممثلاً في ختان الإناث عند قطاعات تتزايد أعدادها بفضل الوعي المتزايد، فإن تعبيرات الذكورة باتت عنيفة، خاصة في المجال العام. وربما يفسر هذا لماذا يتراجع الختان، ويتفاقم التحرش الجنسي، صحيح أن كلاهما يرتبط بإثبات التفوق الذكوري، والانتصار على الجسد الأنثوي، إلا أن التحرش يظل فعل فردي؛ بهدف التودد وفرض الذات، أو الإيذاء العمدي للنساء، أو توهم القدرة على السيطرة والامتلاك. وبالتالي، فإذا كان الختان استراتيجية جماعية قديمة تديرها النساء بالأساس؛ من أجل إعادة تشكيل الجسد الأنثوي، ونزع فتيل خطورته الحتمية على الرجل، والأسرة، والنظام، الاجتماعي، فإن التحرش فعل ذكوري خالص، لا ترضى عنه النساء، ولا يشاركن فيه، إلا ربما من خلال الانصياع النسبي للفكرة العامة التي تلوم النساء، وتحملهن المسئولية عن أفعال التحرش. وتقليديًا يُعد التحرش إخلالاً بالنظام؛ لأنه اعتداء على شرف الجماعة، الذي تحمله الأنثى المُتحرش بها، وبالتالي، يصعب أن نعتبره موروثًا من الثقافات التقليدية. فعلى ما يبدو، الانتقال المشوه من الروابط التقليدية، إلى الحالة الحضرية، قد أفضى إلى انفلات الذكورة من بعض القيود التي كانت تفرضها العلاقات التقليدية، والتي كانت تعتبر الاعتداء على النساء بمثابة الاعتداء على حرم وأملاك رجال، أو جماعة أخرى، ولكن في المجتمعات الحضرية وتفكك العلاقات التقليدية، أصبحت النساء في بيئات مجردة من شروط المجتمعات التقليدية، دون الحصول على الحماية الحديثة، التي تفرضها قوانين وشروط المجتمع المتحضر. وفي هذا الفراغ، أصبح التحرش ظاهرة؛ لإثبات ذكوريات هائمة وتائهة، تسعى لإثبات ذاتها من خلال توهم القدرة على الامتلاك، والرغبة في التعبير عن التفوق من خلال الإيذاء.

ومن المفارقات بالطبع أن زيادة معدلات التحرش، تأتي في المجتمعات التي تبالغ في الأخلاق والعفة، والاحتشام. ومن الواضح أن هذه المبالغة اللغوية تعني ضمنياً تحميل النساء المسئولية، حيث يتم النظر إلى التحرش بوصفه نتيجة لخرق قواعد العفة، والاحتشام، وهي أمور تخص النساء بالأساس، وليس خرقًا للحقوق، والحريات، وهي أمور تخص الجميع دون تمييز. وعلى الرغم من أن الرد على ذلك بأن المتحرش لا يفرق بين السافرة، والمحجبة، وحتى المنتقبة، إلا أن الفكرة مازالت راسخة في الأذهان، وهو ما يدفع غالبية النساء إلى القبول بشروط معينة في الأزياء، والحركة، والحديث. وتستجيب النساء لإكراهات ومناورات الاحتشام، والعفة، فنجد أن الحجاب يسيطر على المشهد؛ استجابة لمتطلبات الحديث عن المجتمع الذكوري. ومع ذلك تظل الأزياء الحديثة محل مناورات أنثوية، حيث يتواكب الحجاب ( كرمز للاحتشام والتَّدين) مع ملابس تستجيب لمقتضيات الموضة، وإبراز الأنوثة. وهذا المركب لا يعنى تركيبة من التقليدي والحديث، بقدر ما يعكس استجابة لوضع ثقافي راهن. وحتى في ال أشكال المتطرفة للملبس كالنقاب، واللباس العاري، فكلاهما كما يری الكثير، اختزال للمرأة في جسدها.

وباختصار يمكن القول أن الثقافة الذكورية لاتزال تستعيد الحكاية، حكاية الذكر المتفوق والأنثى الخاضعة، أسطورة العفة والطهارة والشرف، وأوهام الأنثى الماكرة الشبقية. صحيح أن ثمة قطاعات من الرجال والنساء تخلصوا من أسر الحكاية، ولكن الثقافة العامة وأساليب التنشئة، والتعاليم الدينية والأخلاقية، مازالت تُعيد إنتاج الحكاية بسيناريوهات جديدة. وعلى ما يبدو أن المجتمعات المعاصرة لم تحل معضلة القلق، والخوف، بل ربما زادت من حدتها، فالصورة الذهنية حولالفحولةالذكورية، والشبقيةالأنثويةدخلت مُنعطفا جديدًا، بعد أن أصبحت مجالاً خصبًا لثقافة الاستهلاك، فصناعة الجمال، التي توظف الصور النمطية للذكورة والأنوثة، هي امتياز لصناعة هائلة تضم شركات مستحضرات التجميل، وتخصصات طبية، ومؤسسات إعلامية.

تبدأ حكايات ألف ليلة وليلة بحكاية (شهريار) وأخيه (شاه زمان)،التي تسرد مأساتهما حكاياتألف ليلة وليلة، بعد اكتشاف خيانة زوجتيهما؛ فقررا الرحيل:”قم بنا نسافر إلى حال سبيلنا، وليس لنا حاجة بالملك حتى نرى لأحد مثلنا أو لا، فيكون موتنا خير من حياتنا“. وتبدأ رحلتها بحكايةالمارد والصبيةعندما هاج البحر، وصعد منه عمود أسود للسماء، فخافا وطلعا إلى أعلى شجرة ينظران ماذا يكون الخبر. وإذابجني طويل القامة، عريض الهامة، واسع الصدر، وعلى رأسه صندوق، فطلع إلى البر، وأتى إلى الشجرة، التي هما فوقها، وجلس تحتها، وفتح الصندوق، وأخرج منه علبة، فخرجت منه صبية غراء بهية كأنها الشمس المضيئة“. تلك الصبية، التي اختطفها الجني ليلة عرسها وحبسها في علبة داخل صندوق. وبعد أن أخرجها طلب منها أن ينام على ركبتها، فنظرت لأعلى فرأت شهريار وأخاه، فطلبت منهما النزول، وإلا أيقظت الجني،فخافا ونزلا إليها، فقامت لهما، وراودتهما عن نفسها، وهددتهما بأن تنبه العفريت وتحرضه عليهما إن لم يطيعاها، ف كان لها ما أرادت. ثم أخرجت لهما من جيبها كيسًا به عُقد، فيه خمسمائة وسبعون خاتمًا، وأبلغتهما:”إن أصحاب هذه الخواتم كلها كانوا يفعلون ما آمرهم به، في غفلة من هذا العفريت، وطلبت منهما أن يعطياها خاتميهما، فأعطياها، فقالت لهما:”إن هذا العفريت قد اخطتفني ليلة عرسي، ثم أنه وضعني في علبة، وجعل العلبة داخل الصندوق، ورمى على الصندوق سبعة أقفال، وجعلني في قاع البحر العجاج المتلاطم بالأمواج، ولم يعلم أن المرأة منا إذا أرادت أمرًا لم يغلبها شيء“. فلما سمعا منها هذا الكلام، تعجبا غاية العجب، وقالا لبعضهما:”إذا كان هذا عفريتًا وجرى له أعظم مما جرى لنا، فهذا شئ يسلينا“. عاد (شهريار)، وأخوه، إلى دياره وبدأ مسيرة العنف والانتقام، فبعد أن قتل زوجته والجواري، والعبيد، راح يتزوج كل ليلة زوجة بكرًا ويقتلها، إلى أن جاءت (شهرزاد) لتبدأ حكايات ألف ليلة وليلة. وأصبح (شهریار) سجين الحكاية حسب أغنية فيروز.

ولكن في الحقيقة أنرجلالثقافة الذكورية المعاصر لا يزال سجين حكايةالمارد والصبية، والتي تلخص الكثير من أسباب العنف ضد النساء: الفتنة، والكيد، والشيطنة. ولكن الحكاية تغيرت، والمارد الأسطوري أصبح ماردًا واقعيًا، مارد التحولات التاريخية الذي لا يعبأ بالقيم التقليدية، مارد التحول في العلاقة بالجسد، الجسد الذي بات بفعل التقدم الطبي قادرًا على إعادة تشكيل ذاته، وتجديد عذريته، كما أن الصبية لم تُعد صبية الماضي؛ التي لا تملك سوى كيدها، إنها الصبية التي باتت تملك فرصًا أكبر للاستقلال، والرفض والقبول، الصبية المستعصية على الامتلاك. لقد دخلنا عصرًا يسعى بكل الطرق إلى إعادة تأويل وتطويع ما هو تقليدي؛ حتى يستطيع البقاء بدون أن يفقد شرعيته، فما كان مستقرًا بات عرضة للهدم، والتشكك، والسؤال، فلم يعد غريبًا أن تتوالى التساؤلات حول معنىالقوامة؟ ومشروعية ضرب وتأديب الزوجات؟ وهل الختان حلال أم حرام؟

إن النظام الذكوري يحاول أن يحافظ على شرعية السيطرة من خلال العنف بلا شك، ولكن أيضًا من خلال التكيف؛ لتبرير وجوده والتبرؤ من بعض أشكال العنف، التي كانت تعد أمورًا طبيعية ومقبولة في السابق. إن شهريار المعاصر سجين حكاية جديدة، كيف يحافظ على سيطرته التقليدية ويكون معاصرًا ومتحضرًا؟ إنها أزمة فعلية.

يسرى مصطفى: مدير برنامج دعم حقوق المرأة بوكالة التعاون الفني الألمانية، وباحث في مجال حقوق الإنسان.

(1) يسرى مصطفى:”الأبوية في الخطاب الفكرى المعاصر: حول نقد هشام شرابي للنظام الأبوي المستحدث” [ في يسري مصطفى (محور ): خطاب النوع الاجتماعي، شبكة الجمعيات العاملة في مجال حقوق المرأة، التعاون الإنمائي الألماني، الطبعة الأولى، مارس 2014.

(2) آمال قرامي: تصدع بنيةالذكورة المهيمنةومحاولات إنقاذها، باحثات، الكتاب الثاني عشر 2006/2007، المركز الثقافي العربي، بيروت ص 100-125.

(3) حسن إغلان: الجنس والسياسة: التدبير السياسي للجسد في الإسلام، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء/ بيروت، الطبعة الأولى 2018، ص 104.

(4) صوفية السحيري بن حتيرة: الجسد والمجتمع: دراسة أنثربولوجية لبعض الاعتقادات والتصورات حول الجسد، الانتشار العربي، بيروت، الطبعة الأولى 2008، ص 46 –

( 5 ) جاك أندرييه: النزوع الجنسي الأنثوي، ترجمة اسكندر مصعب، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت، الطبعة الأولى 2009، ص 28

(6) ميشلا مارزانو: معجم الجسد، الجزء الأول، ترجمة حبيب نصر الله نصر الله، المؤسسة الجامعية للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت 2012، ص 663

(7) خلود السباعي: الجسد الأنثوي وهوية الجندر، الجداول، بيروت الطبعة الأولى، أيار/ مايو 2011، ص 166

(8) صوفية السحيري بن حتيرة: مصدر سابق، ص 65

(9) خلود السباعي: مصدر سابق، ص 258

(10) أمين على السيد: العامي الفصيح في المعجم الوسيط، مجمع اللغة العربية، جمهورية مصر العربية، الطبعة الأولى 2005-2006، ص 108.

(11) المصدر السابق ص 127.

(12) صوفية السحيري: مصدر سابق، ص 62.

(13) نادية واصف، وعبد الله منصور: البحث في أنماط الذكورة وختان الإناث في مصر، ترجمة نولة درويش، المركز الوطني لمساندة المنظمات الأهلية للسكان والتنمية، يونيو 1999، ص 222.

(14) مها محمد حسين: العذرية والثقافة: دراسة في أنثربولوجيا الجسد، دال للنشر والتوزيع، سورية، الطبعة الأولى 2010،ص 200.

(15) مها محمد حسين: المصدر السابق ص 201.

(16) آمال قرامي: مصدر سابق.

(17) عزيز العظمة: العنف للرجل والشبق للمرأة، مجلة الجديد، العدد 32،سبتمبر 2017، ص 42-25.

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات