هل الحقيقة…… حقيقية؟
كيف نعرف أن الواقع الذي نحياه والأشخاص الذين نلقاهم حقيقيون وليسوا من صنع خيال صدقناه؟ يطراً هذا السؤال على ذهني كلما صادفت على الطريق رجلا أو امرأة“من إياهم“، من أولئك الذين يتحدثون إلى الهواء. بمنتهى الجدية، والذين نسميهم“مخبولين” ويصفهم العلم. بمرضي الفصام. أتذكر أنه عندما بدأ استخدام سماعات الهواتف المحمولة أننا كنا نظن مستخدمها واحدا منهم إلى أن انتشر الخبر وأصبحت عينانا متى رأينا شخصا يتحدث إلى نفسه تبحثان تلقائيا عن سماعة الهاتف المحمول. ووقتها أدركت أن حكمي على هذا الشخص بأنه مجنون في ما سبق لم يكن سوى جهل مني بالتكنولوجيا الحديثة. فهل يمكن أن يكون حكمي على“المتحدثين إلى الهواء” بأنهم مخبولون جهلا مني بمستوى معين وصلوا إليه من الوعي والإدراك بكيانات أو عوالم لم أعجز أنا بفكري المحدود عن استيعابها؟
“عقل جميل” أو Beautiful Mind هو فيلم حائز على العديد من الجوائز يحكي قصة حياة عالم الرياضيات جون ناش الحاصل على جائزة نوبل في الاقتصاد. يبدأ الفيلم بدخول ناش الجامعة وتعرفه على زميله في السكن تشارلز. تدور الأحداث التي توضح عبقرية ناش إلى أن يتخرج ويتزوج. وبعد خمس سنوات يلتقي ناش صدفة بزميله القديم ومعه هذا المرة ابنة أخيه“مارسيه“. كذلك يلتقي ببارشر وليليمز عميل وزارة الدفاع الذي يستعين بناش في حل رموز شفرة شديدة التعقيد. فتبدأ مرحلة تعاون مع وزارة الدفاع يكون على ناش فيها أن ينظر في الجرائد والمجلات بحثا عن أنماط يمكن أن تكون شفرات لإحباط مخطط سوفيتي، على أن يكتب تقارير بما توصل إليه ويودعها في صندوق بريد محدد بالقرب من منزله. يتعرض ناش لمطاردات وإطلاق النار فيصاب بالهوس والبارانويا ويبدأ في الشك في كل شيء وتخوين كل من حوله، فتضطر زوجته إلى الاتصال بمستشفى نفسي.
وفجاءة نكتشف الحقيقة. تأتي له زوجته بالتقارير التي وضعها في صندوق البريد والتي لم تفتح أبدا، وندرك أخيرا أن عميل وزارة الدفاع لم يكن سوى وهم في خياله، كما نكتشف أيضا أنه لا وجود لتشارلز زميل الدراسة ولا لابنة أخيه الصغيرة، وأن كل ما شاهدناه وعايشناه على مدار الفيلم كان نتاج خيال ناش. يعالج ناش بعقاقير تؤثر على علاقته بزوجته وعلى قدراته العقلية فيتوقف عن تناولها، مما يتسبب في نكسته، ولكنه مع ذلك يكتشف الحقيقة. وكيف ذلك؟ لقد أدرك فجأة أن الطفلة الصغيرة، ابنة شقيق تشارلز، لا تكبر أبدا، فيقر بأن ما يراه هو مجرد هلوسة عقلية.
يتقبل ناش واقعه ويودع أصدقاءه الذين صنعهم عقله ويخبرهم بأنه لن يتحدث إليهم بعد ذلك أبدا، يسخر تشالز منه لقطع أوتار صداقتهما ولكن ناش يشكره مع ذلك على كونه أفضل صديق له على مر السنين. يواصل ناش حياته وعمله ونجده يتحقق بخفة دم من من آية معارف جدد بسؤال من حوله عما إذا كانوا يرونهم بالفعل. يكرم ناش ويحصل على جائزة نوبل في الاقتصاد على مشهد من وجوه تشارلز وبارشر والطفلة الخالية من التعبير. تسأله زوجته:”ما الخطب؟” فيجيب:”لا شي” وينتهي الفيلم الذي أثر في كثيرا وأثار في ذهني السؤال الذي لا ينفك يحيرني: كيف نعرف أن من نراهم و نتعامل معهم حقيقة لا خيال؟ كيف نعرف أن واقعنا حقيقة لا محض هلوسة دماغية؟
إن إجابة ناشي عن هذا السؤال كانت بسؤال من حوله فكان لا يصدق إلا ما يراه غيره. ولكن كيف يصدق أن الناس الذين يسألهم ليسوا هم أيضا متخيلين؟ كما أن مجموعة من الناس قد تشعر أو تري جميعا أمرا غير حقيقي. أو ليس ذلك ما يفعله الساحر الشهير دافيد كوبر فيلد؟ أو ليس ذلك ما حدث في قصة موسى والسحرة والعصا؟ وهل بإمكاننا الاعتماد على حواسنا في معرفة الحقيقة؟ أو لا نعلم أن هناك كائنات دقيقة موجودة ولا يمكننا الإستدلال عليها بحواسنا؟ هل نرى الباكتيريا مثلا بالعين المجردة؟ قد يقول أحدهم أننا ن وجود الباكتيريا بتأثيرها، كما نعرف وجود الهواء من خلال رؤية ذرات التراب والرمال وهي تتراقص من حولنا. ولكن ألم نسمع من قبل عن تأثير البلاسيبو؟ أو لا يمكن لأقراص تخلو من أية مواد طبية أن تشفي من الأمراض بفعل الإيحاء النفسي لا غير؟ أو لا يمكن إذا أن نتخيل شيئا ما، وتصدقه إلى الحد الذي يجعل لهذا الشيء تأثيرا علينا؟ أو لا يخبرنا من حولنا أحيانا أننا كنا نضحك أو نبكي أثناء نومنا؟ أو لا نصدق تماما أن ما نختبره في أحلامنا حقيقي إلى الحد الذي قد تصرخ فيه في الحلم فزعا من أمر مخيف فنجدنا وقد استيقظنا وافزعنا من حولنا بصراخنا؟
لقد أجبرتنا نظرية النسبية لأينشتين أن نغير مفاهيمنا عن الكون وأن نتقبل أن لا يوجد زمان أو مكان مطلقان، وأن قياسات الوقت والمسافة وحتى الكتلة تختلف باختلاف المراقبين حتى إذا كانوا جميعا يشاهدون نفس الحدث. فالوقت يمر أبطاً مثلا يفعل الجاذبية إذا اقتربنا من الأرض. فإذا ضبطنا ساعتين، واحدة أعلى قمة جبل وأخرى في قاع بئر عميق سنجد أن الوقت يمر أسرع فوق الجبل. وإذا جئنا بتوأمين، وأخذنا أحدهما في رحلة طويلة في سفينة فضاء تتحرك تقريبا بسرعة الضوء وعدنا به بعد ذلك سنجده أصغر عمرا كثيرا من توأمه الذي ظل على الأرض. إن النسبية توضح لنا أن الزمان غير مطلق، وأن لكل منا مقياسه الشخصي للزمن، وأن هذا المقياس يعتمد على مكانه وحركته.
إن النظرة إلى الطبيعة على أنها أجسام صلبة ثابتة أو تتحرك في فضاء شاغر لم تعد تسري إلا على مجال حياتنا اليومية أو“منطقة الأبعاد المتوسطة” كما تسمى أحيانا، فما نحن جميعا إلا حزم من الطاقة، نفس الطاقة، ولكن تكدسها بدرجات مختلفة هو الذي يوهمنا بانفصالها عما حولها. وكل شيء في الكون من حولنا دائم الحركة، فالجسيمات التي نتكون منها أنا وأنت والطاولة تتحرك، ولكنها تتحرك بسرعة شديدة، قد تصل مثلا إلى ٦٠٠ ميل في الثانية الواحدة، تجعلنا نتخيل كما لو كانت ثابتة، تماما مثل“الاستيك الأصفر” الذي إذا استحثناه على الذبذبة بسرعة شديدة سيبدو كما لو كان دائرة ممطوطة أو مشدودة من الجانبين!
وما معنى ذلك؟ معنى ذلك أن الواقع هو أبعد ما يكون عن الدوام والثبات. فحتى أصغر الجسيمات لا يمكن الجزم بماهيتها على وجه التحديد، ولا يسع العلم سوى تقديم احتماليات، فلا هي موجات ترددية ولا هي أجسام تشغل حيزا محددا من المكان، ولكنها الاثنان في آن واحد، والمادة جميعها ذلك، بما في ذلك أنا وأنت. وكيف نراها أجساما؟ إن الأمر يعتمد على الرائي، نعم على المراقب. نحن الذين نحدد واقعنا، ولا واقع دون مراقب، ولا مراقب دون بيئة محيطة به. هذا هو ما خلصت إليه الفيزياء الكمية أو Quantum Physics التي تأخذنا إلى أعماق المادة، سواء على مستوى علوم الفضاء التي تتناول الكون اللامتناهي الكبر أو مستوى الفيزياء الذرية التي تتناول المادة اللامتناهية الصغر. فلا يوجد يقين مطلق ولا دقة مطلقة ولا حقيقة مطلقة، فما هذه المفاهيم جميعا إلا أشباح يتوجب إقصاؤها من العلوم، كما يدفع العالم الشهير ماكس بورن وغيره من العلماء.
وما جدوى هذا الاكتشاف؟ سؤال جيد! إن الشعور بعدم اليقين لشعور مزعج عن حق، وما خرجت الفلسفة والأديان إلى الوجود في رأيي إلا لتساعد الإنسان على التغلب على هذا الشعور القاتل. ولكن هل يمكن أن يكون إدراكنا لأنفسنا أو لحقيقة عالمنا، أو عدم حقيقته إذا كنا نتحرى الدقة، ولكوننا طاقة لا تنفصل عن طاقات الكون هو السبيل إلى إطلاق قدراتنا الكامنة وإمكاناتنا الحقيقية التي لم يتمكن سوى عدد قليل منا من الكشف عنها واستخدامها لتكون لنا جميعا؟ لا يسعني إزاء هذا السؤال سوى التفكير في“كيانو ريفز” بطل فيلم ماتركس أو Matrix، الفيلم الذي يقدم صورة للواقع الحالي على أنه خيال يعيشه الناس في عقولهم على أنه حقيقة بينما هم موصلون كهربائيا إلى برنامج حاسب آلي، لا يسعني سوى تذكر آخر مشاهد الفيلم، عندما رفع البطل ذراعه عاليا بعد أن اكتشف الحقيقة، ليكسر قواعد الممكن وغير الممكن ويطير مرتفعا كالصاروخ إلى السماء.
وعودة إلى سؤالنا الأول؟ هل يمكن أن يكون حكمي على“المتحدثين إلى الهواء” بأنهم مخبولون جهلا مني بمستوى معين وصلوا إليه من الوعي والإدراك بكيانات أو عوالم أعجز أنا بفكري المحدود عن استيعابها؟ لقد أدلى العلم بدلوه، وأجاب بالإيجاب. نعم كل شيء جائز، فلا توجد حقيقة مطلقة، ووجود العالم مشترط بإنطباعاتنا الحسية عنه، على الأقل حتى إشعار علمي آخر.