دعوة الي التواصل
يظن كثيرون ممن في سني، أو أصغر وأكبر قليلا، أنهم يعرفون كل شيء؛ فأمور الدنيا ومتطلباتها هي مسائل مفروغ منها بالنسبة إليهم؛ وهم يستندون في ذلك إلى خبرتهم الحياتية، وإلى تسلحهم بالعلم أحيانا، أو إلى تمسكهم بالموروث الثقافي أحيانا أخرى، وإلى اعتقادهم بأنهم يمتلكون الحكمة دون غيرهم. وهو ما يدفعهم إلى إطلاق الأحكام القيمية على ما يفعله من هم أصغر منهم سنا أو ينتمون إلى فئات تعتبر أدنى تقليديا؛ كما يشجعهم ذلك الظن على محاولة فرض آرائهم وتوجهاتهم الخاصة ومفاهيمهم على من حولهم فإذا ما اختلف مع وجهات النظر تلك أحد ممن ينظرون إليه باعتباره في مرتبة أدنى، سواء سنا أو تصنيفا، فإنهم إما يؤنبونه على اختياراته، أو قد يصل الأمر إلى مواقف أكثر حدة، وصولا في بعض الأحيان إلى ممارسة العنف. ويعود ذلك – من وجهة نظري المتواضعة – إلى الطابع شديد الأبوية الذي يتسم به مجتمعنا؛ وأعني هنا سلم التراتب الذي ينظم العلاقات بين البشر؛ فالتلميذ في المدرسة مطالب بطاعة معلمه طاعة عمياء، حتى إن كان هذا المعلم يقدم علما مغلوطا؛ والمعلم، بدوره، عليه الامتثال إلى أوامر رئيسه، مديرا كان أو موجها تعليميا؛ أما المدير، فهو ملزم بتوجيهات الإدارة التعليمية التي تقع بدورها تحت رئاسة الوزير، وهلم جرا. كان ذلك مجرد مثال من ضمن عشرات الأمثلة التي نحياها يوميا في حياتنا الخاصة والعامة، في المنزل، وفي المؤسسة التعليمية، وفي مكان العمل وفي الشارع. ويدعم هذه الثقافة الأبوية الثقافة ذكورية تعتبر الإناث في مرتبة أدنى من الذكور، وتكرس لهن أدوارًا مرسومة اجتماعيًا ليست من الصفات الملاصقة للإنسان عند ولادته، وإنما أدوار أريد إلصاقها بالنساء على مر العصور، وبقيت كالبديهيات في نسيج تشكيلاتنا الثقافية.
ومع ذلك، يظل مقالي معنيا في المقام الأول بالتواصل المطلوب بين الذات والآخر، وخاصة بين الأجيال المختلفة. فهل صحيح أن المتعلم يعرف أكثر من الأمي؟ وأن الكبير دائما على حق مهما ارتكب من حماقات؟ وهل يا ترى يحبذ صراع الأجيال على حساب تواصل الأجيال؟ وكيف ينبغي أن تحل الصراعات، أو لنقل الاختلافات في الرأي: أيكون ذلك بالفرض والإكراه؟ وما تصنيف ممارسة العنف: هل تشير إلى لغة القوة، أم إلى العجز عن إقناع الآخر والتفاعل معه وإعمال المنطق؟
أرى حولي شباباً كالورد، شباباً من الجنسين يسعون إلى شق الطريق إلى المستقبل، وإلى تقديم البديل الذي لم تقدر أجيالنا على تقدیمه؛ فتيان وفتيات يرفضون ما آلت إليه أوضاعنا المنكوسة، لديهم كثير من الأفكار المبتكرة، ولكن نادرا ما تتاح لهم فرصة التعبير عنها، ناهيك عن تحقيق تلك الأحلام والانطلاق بها إلى العالم الواسع. وبالتالي، تظل تلك الطموحات حبيسة داخل دوائر محدودة، بينما لا نترك – نحن“الكبار” – مجالا للتحاور حولها، وتوجيه الاهتمام اللائق بها، والمساعدة على تنفيذها إذا كانت واقعية، صحيح أن هناك بعض الخيالات الساذجة، ولكنها هي الأخرى جديرة بالالتفات إليها، لأنها تعبر عن تطلعات وآمال وآلام جيل، أو أجيال مرشحة لاستلام هذا الوطن الذي ربما تفلح في النهوض به. وبدلا من ذلك، نظل جميعا كالجزر المنعزلة، ما بين الرجال والنساء، الشيوخ والشباب المتعلمين والأميين أبناء الريف وسكان الحضر، إلى آخر قائمة التباينات المستندة إلى الجنس، أو الانتماء الاجتماعي، أو الجغرافي، أو الديني، أو الفكري، أو العرقي، أو أي تصنيفات أخرى.
والواقع أن الخاسر هو الطرفان في جميع الأحوال: الطرف الذي يعتبر نفسه الأقدر، والأعمق بصيرة، والذي يحرم نفسه بطريقة عمياء من تعلم ما هو جديد في العالم من خلال الآخر؛ وينطبق الحال أيضًا على الطرف الذي ينظر إليه المجتمع باعتباره الأضعف، والأقل خبرة، والذي لا يستطيع المشاركة بطريقة فعالة في صنع واختيار الحياة. ومن هنا، أدعونا جميعا إلى فتح قنوات التواصل، وإبداع الوسائل الجديدة للحوار فيما بيننا، وعدم الاكتفاء بقبول الأمر الواقع، بل الضغط في اتجاه التغيير.