عالم الملايو من القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين
ترجمة:
بقلم:
المنهجيات والمنظومات والمصادر
لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع
عالم الملايو
من القرن الثامن عشر إلى أوائل القرن العشرين
تعريف “عالم الملايو” وشعب الملايو
يشير مصطلح عالم الملايو، غير الدقيق وإن كان مناسبًا، إلى منطقة واسعة تمتد من الساحل الشرقي لسومطرة عبر شبه جزيرة الملايو (بما فيها الأقاليم الجنوبية من تايلاند) إلى الغرب والسواحل الشمالية الغربية لبورينو. ومنذ بداية القرن الخامس عشر زادت أوجه الشبه الثقافية واللغوية التي ربطت ما بين تلك الأقاليم من خلال صعود ميناء ملقا على الساحل الغربي لشبه الجزيرة. وإذ تأسست ملقا بواسطة أمير لاجئ من باليمبانغ (شرق سومطره) فإنها سريعًا ما أصبحت أكثر موانئ المنطقة ثراء وذلك نتيجة لموقعها الاستراتيجي والبيئة التجارية الجذابة المدعومة من حكامها. لقد اعترفت الممالك على جانبي حدود ملقا بتفوقها، ومن ثم تم تقليد ثقافة الملايو في كثير من أرجاء مجموعة جزر الأرخبيل. وحين اعتنق حاكمها الإسلام حوالي عام ١٤٣٠م، أصبحت ملقا نصيرًا ذا شأن للعقيدة الإسلامية مع الحفاظ على الكثير من التقاليد السابقة على الإسلام التي أصبحت تدرج تحت اسم المصطلح العربي “عادات“.
حين قام البرتغاليون بالاستيلاء على ملقا في عام ١٥١١م بدا الأمر وكان إقليم آتشيه سوف يرث عباءتها، وهو مركز إسلامي في معظمه يقع في شمال سومطره، ولكن بحلول القرن الثامن عشر بلورت آتشيه هويتها الخاصة. وتولت مملكة جوهور الزعامة في عالم الملايو بعد ذلك، وهي مملكة كانت تحت حكم سلالة أسرة ملقا الحاكمة والذين أسسوا عاصمتهم في جزيرة رياو. وكان الهولنديون قد احتلوها في عام ١٦٤١م ثم انتقل حكمها إلى الإنجليز في عام ١٨٤٤م وبقيت ملقا تحت الاحتلال الأجنبي حتى عام ١٩٥٧م. ومع ذلك فإن تراثها يلقي ظلالاً ممتدة، تضم كما من التقاليد والقيم التي، رغم تبايناتها المحلية فيما بينها، كانت تعتبر بمثابة سمات خاصة تميز عالم الملايو ويشترك فيها كل شعب الملايو.
تمثلت نقطة القوة الهامة في ثقافة الملايو في حدودها غير المحكمة. فبالنسبة للمجموعات المحلية مثل الـ “أورانغ أسلي” أو السكان الأصليين (الأبوريجينال) في شبه جزيرة الملايو أو المجموعات القبلية في بورنيو، كان التحول والانتماء إلى الملايو كثيرًا ما يعني ببساطة اعتناق الإسلام وكذلك تبني نمط الملبس والسلوك ومظهر الشعر الخاص بشعب الملايو. لكن، وكما كان الحال في مناطق أخرى، فإن فرض الحكم الاستعماري في القرن التاسع عشر تضمن جهودًا من أجل التصنيف الدقيق للمجموعات العرقية والثقافية. ولم يكن ذلك بالأمر السهل في حالة الملايو. في عام ۱۹۱۳م قامت إدارة الملايو البريطانية أخيرًا بتعريف فرد الملايو بأنه “كل شخص ينتمي إلى جنس الملايو” ويتحدث بلغة الملايو أو “أية لهجة أخرى من لهجات الملايو” ويعتنق الإسلام. أما في جزر الهند الشرقية تحت السيطرة الهولندية فقد كان مصطلح “الملايو” يستخدم بشكل أقل تدقيقًا من ذلك. وقد سمح غياب الوضوح في تلك التعريفات الاستعمارية بضم أعداد كبيرة من الإندونيسيين المسلمين تحت عنوان “الملايو“. وقد كان ذلك واضحًا بشكل خاص في الملايو البريطانية، حيث كان يمكن لفئة نساء الملايو أن تضم كل من هاجر آباؤهم من جاوه أو وسط سومطره أو سولاويسي أو أماكن أخرى من إندونيسيا الحالية.
رغم كثرة الإشارة إلى الوضع المتقدم نسبيًا والاستقلال الاقتصادي للنساء على اعتبار أنه صفة إقليمية، إلا أن الدراسة التاريخية للجندر في جنوب شرق آسيا ما زالت في مراحلها الأولى. هناك عاملان في عالم الملايو قد يساعدان على فهم ما يبدو وكأنه لامبالاة بحثية. أولاً، حتى وقت قريب لم تترك المصالح التاريخية والجغرافية المهيمنة في إندونيسيا وماليزيا سوى مساحة قليلة للتفكير في قضايا الجندر. وبعد الاستقلال (١٩٤٥م في إندونيسيا و ١٩٥٧م في ماليزيا) كان الاهتمام الأكبر موجها نحو تأسيس إطار تاريخي تجد فيه الدولة القومية الحديثة موقعًا لها، وكذلك تحرير البحث من قيود المقاربات الاستعمارية. لذلك فقد بدأ المؤرخون والمؤرخات منذ أواخر الثمانينات فقط في التفكير بجدية في كيفية تأثير التغيرات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية لتلك الفترة على العلاقات بين الذكور والإناث. ومع ذلك، ولأن الاهتمام بوضع النساء نبع من وسط اهتمامات معاصرة، خاصة تأثير التنمية والحداثة، فإن ذلك البحث ركز بشكل شبه كامل على أواخر القرن التاسع عشر والقرن العشرين.
السبب الثاني وراء ندرة الدراسات التي تناولت نساء الملايو قبل القرن العشرين يرتبط بمحدودية المصادر التاريخية. حيث نجد أهم توثيق أوروبي للقرن الثامن عشر في روايات الرحالة وفي تقارير شركات جزر الهند الشرقية المتنوعة، خاصة تلك التابعة للهولنديين. لكن، ولأن تلك التقارير كانت تستهدف توجيه صياغة السياسات التجارية، فقد كانت غير مهتمة بوضع النساء في حد ذاته. لذلك تبدو المواد الموثقة بلغة الملايو وكأنها أكثر فائدة. لكن ورغم أن شيا بون كينغ (Cheah Boon Kheng) قد تعرف على عدد من النساء ذوات النفوذ والمرتبة الاجتماعية العليا في سجلات البلاط، إلا أنه لا توجد دراسة متكاملة قامت بتحليل علاقات الجندر من منظور تاريخي أو دراستها في سياقها. كذلك فإن أدب الملايو يحمل إشكاليات رغم أن موضوع الحب الرومانسي يغلب عليه. وحيث أن تلك الحكايات كثيرًا ما تكون عبارة عن ترجمات أو صياغات لحكايات شعبية وصلت إلى المنطقة من الهند أو الأراضي الداخلية الإسلامية فإنه يصبح من الصعب تحديد مدى كونها تعكس الخبرات المعاشة للرجال والنساء. إنه لأمر مفهوم أن يشعر المؤرخون عمومًا بقلق من الاعتماد على الحكايات في إعادة تكوين صورة عن خصوصيات التفاعل الذكوري الأنثوي.
كذلك كان هناك قدر قليل من البحث الذي تناول نساء الملايو في القرن التاسع عشر، وذلك على العكس من الكم المتزايد من الأدبيات التي تناولت النساء الأوروبيات اللاتي جئن إلى المنطقة كرحالة أو مبشرات أو زوجات. ورغم كثافة الأدبيات المتوفرة باللغات الأوروبية ولغة الملايو عن أي وقت مضى، إلا أنها لم تكن بمثابة كنز معرفي للباحثين والباحثات عن البنى المحلية للجندر. وقد تتراوح المصادر الأوروبية ما بين كتب الرحالة أو مذكرات إلى جرائد وسجلات استعمارية، لكن المعلومات التي قد تساعد على تفسير تاريخ النساء لا تظهر سوى بشكل عشوائي وغالبًا ما تظهر أثناء سعي الباحث والباحثة إلى استكشاف قضايا أخرى. وحتى بعد عام ۱۸۸۰م، وهي الفترة التي كثيرًا ما توصف بأنها “قمة الاستعمار“، لم يتناول المديرون الهولنديون والإنجليز نساء الملايو إلا في سياقات محددة، مثل التعليم أو الصحة العامة. كذلك فإن البحث في كتابات الملايو في القرن التاسع عشر قليل هو الآخر. ومن هنا فإن الباحثات والباحثين المهتمين بدراسة النساء من وجهة نظر الملايو يضطرون إلى تناول بدايات القرن العشرين حين سمح انتشار التعليم، وتبلور وظيفة التعليم المدرسي كمستقبل مقبول للنساء، وظهور الصحافة النسائية، بالاستماع إلى صوت السكان الأصليين أكثر من ذي قبل.
دراسة الإسلام في عالم الملايو ۱۷۰۰ – ۱۹۰۰م
على العكس مما سبق فإن دراسة إسلام ما قبل القرن العشرين في الملايو جذبت اهتمامًا أكبر بكثير من قبل المؤرخين الأوروبيين، وإن كانت عملية البحث ذاتها تركزت في هولندا وبريطانيا. هذا ويمكن اقتفاء أثر دور هذين البلدين في الاتفاقية الإنجليزية الهولندية التي أبرمت عام ۱۸۲٤م والتي قسمت عالم الملايو بطول مضايق ملقا إلى منطقة تحت السيطرة “الهولندية” وأخرى تحت السيطرة “البريطانية“. ونتيجة لتلك الاتفاقية تم ضم الساحل الشرقي لسومطره إلى جزر الهند الشرقية التابعة لهولندا على حين أطلق على شبه جزيرة الملايو اسم “الملايو البريطانية“. كذلك ألحق ما يعرف الآن باسم ساراواك وساباه وبروناي بالمظلة البريطانية، على حين وقعت بورنيو في النهاية تحت السيطرة الهولندية.
لقد كان لهذا التقسيم تبعات أكاديمية بعيدة المدى. فنظرًا لحصولهم على تدريب مكثف في “العلوم الهندية“، أنتج الموظفون الاستعماريون الهولنديون قدرًا هامًا من الأعمال واسعة المعرفة عن الإسلام. ونجد أن جامعة لايدن، بتركيزها على إندونيسيا واهتمامها طويل المدى بالشرق الأوسط والهند ومجموعاتها الوثائقية الضخمة، قد وفرت بيئة خصبة للتحليل الأدبي واللغوي المقارن لنصوص الملايو بما في ذلك تلك التي تناولت موضوعات إسلامية. ومع ذلك فإن البيئة التي أخرجت باحثين مثل الباحث درویس (G. W. J. Drewes) ظلت بالأساس استشراقية في نظرتها، بمعنى أن الممارسة الفعلية للإسلام في مناطق الملايو من سومطره وبورننو لم تلق سوى اهتمامًا قليلاً نسبيًا. وهناك على سبيل المثال جوهور – رياو الذي اعتبر مركزًا أساسيًا للدراسات الإسلامية في القرن التاسع عشر وما زال يعتبر الوسيط لثقافة الملايو بسبب ارتباطه القديم بملقا. أما الهولنديون فقد كانوا أكثر اهتمامًا بأنشطة المسلمين في آتشيه وجاوه، حيث مثلت هاتان المنطقتان تحديًا أكبر بالنسبة للنظام الاستعماري. وكانت مقاومة النظام الاستعماري تحت القيادة الإسلامية في الملايو البريطانية أقل وضوحًا منها في جزر الهند الشرقية التابعة لهولندا، ولم ينظر إلى الإسلام أبدًا على أنه يجسد نفس الدرجة من التهديد، وبالتالي فإن دراسته لم تكن ذات أولوية، ورغم أن عددًا من المسؤولين الباحثين البريطانيين، وخاصة ويلكينسون (R. J. Wilkinson) ووينستيد (R. O. W. Winstedt)، اعتبرا من المراجع ذات الشأن في ثقافة الملايو، إلا أنهما لم يظهرا سوى اهتمامًا بسيطًا بالهموم الإسلامية المعاصرة. ورغم الفهم الاستعماري لأن كون الإنسان من الملايو يعني أنه مسلم، إلا أن البريطانيين زرعوا إلى التقليل من عمق التأثير الإسلامي في حياة الملايو وإلى تفسير مظاهر الالتزام الإسلامي غير المعتاد بأنه نتيجة للتأثيرات العربية أو الهندية.
وفي الفترة محل الدراسة لم تكن هناك مساحة في الخطاب الاستعماري حول الإسلام في الملايو سوى لذكر عابر لوضع النساء. كما لم يتغير الحال بأية درجة ذات دلالة في ماليزيا وإندونيسيا بعد الاستقلال. لا شك أن وجود باحثين محليين قد ولد اهتمامًا جديدًا بالتاريخ الإسلامي، لكن الدراسات المعاصرة كلها كانت تتناول أمورًا مثل تاريخ دخول الإسلام أو الأساليب التي تفاعل بها الباحثون المسلمون مع تقدم الغرب المسيحي. حتى تلك اللحظة لم يهتم المؤرخون بتناول الأشكال المختلفة التي تعاملت بها النساء عبر عالم الملايو مع التوقعات أو المطالب التي جاء بها الإسلام، سواء من حيث قبولها أو التفاوض معها أو معارضتها.
ومع ذلك فإن المتخصصين في أفرع معرفية أخرى كانوا أكثر استعداد لاستخدام مقاربة تاريخية. على سبيل المثال بحثت عالمة الأنثروبولوجيا وزير جاهان کریم (Wazir Jahan Karim) في زمن ما قبل الحداثة لتقول بأنه رغم معادلة التعاليم الإسلامية بالمنظومات القيمية الأصلية إلا أنه كان هناك دائمًا قدر من التوتر بين الأفكار المستوردة الخاصة بالجندر وبين ما تعتبره هي توازنا جنسيًا في مجتمع الملايو التقليدي. وعلى العكس من ذلك تؤكد روزي هاشم (Ruzi Hashim) في تحليلها الأدبي لنص من ملقا عن تاريخ شعب الملايو (Sejarah Melayu) بأن الإسلام لم يكن هو ما دعم دونية النساء وإنما آليات في موازين القوى تخدم الحفاظ على مصالح ومزايا الملوك وعملائهم من الذكور. كما تعتقد أنه إذا نظرنا إلى كتاب تاريخ الملايو في سياق من التناص يتضمن قانون الدين الإسلامي فيما يخص الزواج والطلاق، فإن عادات ملايو ملقا كانت أضعف منه فيما يخص الأمور الحرجة.
النساء والصوفية
على ضوء تلك الخلفية يصبح من الضروري تناول الأسئلة التي قد يطرحها المؤرخون والمؤرخات المهتمون بتطور أحوال نساء الملايو المسلمات والمصادر والمناهج التي يمكن استخدامها. إن الاستراتيجية المنطقية هي العودة إلى الموضوعات التي هيمنت على دراسات الإسلام في الملايو وإعادة قراءتها من منظور أنثوي واع بذاته. ومن المناقشات الدائرة في دراسات جنوب شرق آسيا تلك التي تتناول المزاج العقائدي الذي ساد حين بدأت الأفكار المسلمة في الانتشار عبر المنطقة بداية من القرن الثالث عشر. وفي عام ١٩٥٧م نشر جونز (A. H. Johns) مقالا ناقش فيه أن الإسلام الغيبي أو الصوفية كانت بمثابة السبيل الأساسي الذي وصلت به التعاليم الإسلامية إلى جنوب شرق آسيا. ومنذ ذلك الحين قام عدد من الباحثين بتطوير تلك الأفكار مشيرين إلى انتشار الرموز الصوفية في بعض نصوص الملايو كتلك الصادرة عن إقليم آتشيه في القرن السابع عشر، كما أشاروا إلى تأثير مفاهيم مثل الرجل المثالي على الصياغات الأولية لنظام ملايو الملكي.
ومع أنه لم يتم تناول انجذاب النساء للصوفية في تلك المناقشات، إلا أن البيئة الروحية كانت شديدة التعاطف مع الورع الأنثوي، رغم بعض التصريحات المعادية للنساء من قبل بعض كبار الصوفيين. فعلى سبيل المثال، بحلول القرن الثالث عشر، حيث بدأ الإسلام في اكتساب القوة في إندونيسيا، كان يتم بناء أديرة خاصة بالنساء في كل من القاهرة وحلب وبغداد. وقد جذب التيار الروحي للإسلام عددًا كبيرًا من الأتباع في الهند في حقبة المغول، كما أن فاطمة ابنة شاه جاهان، أحد أباطرة القرن السابع عشر، كانت عضوة في إحدى الطرق الصوفية. إذا أخذنا في الاعتبار تأثير الإسلام الهندي في خلال تلك الفترة، فإنه من المحتمل جدًا أن تكون الصوفية قد جاءت بمواقف مشابهة إلى جنوب شرق آسيا. وتوضح لنا ميرل ريكايفس (Merle Ricklefs) مثلاً أن عددًا من الشخصيات البارزة في بلاط سومطره، بما في ذلك الملكة الأم، كانوا من الصوفية الملتزمين. كما نجد دلالة في أن وجود النساء عند مقابر الأولياء كان يعتبر أمرًا مفروغًا منه في الدوائر الصوفية، الأمر الذي ينسجم بسهولة مع عادات الملايو القديمة حيث كانت تبرز النساء دائمًا في الطقوس ذات الصلة بالموت. وجدير بالذكر أن الشعر الصوفي في الملايو والذي أنتج في آتشيه القرن السابع عشر، كثيرًا ما تضمن صورًا تخاطب الخبرات النسائية بشكل مباشر، وأن نصوص الملايو كثيرًا ما استخدمت الصورة المجازية للزواج المبني على الحب لتصور العلاقة بين الله وأتباعه الصوفيين. كذلك أحيانًا ما تبرز حكايات محلية عن “الجدة روبيه” في الأساطير المتداولة بين المجتمعات المحلية، وهي صوفية من القرن الثامن ولدت في الجزيرة العربية. وفي جامبي على الساحل الشرقي لسومطره ما زالت التقاليد الشعبية تصورها على أنها مثال المعلمة في الفنون النسائية مثل النسيج.
إعادة تقييم النصوص
إن المزيد من البحث في هذا الموضوع يحتاج بطبيعة الحال إلى استمرار التعرف على النصوص الإسلامية التي وصلت إلى جنوب شرق آسيا، مع تقييم التعاليم المؤسسة دينيًا بشأن العلاقات بين الرجال والنساء والحياة الجنسية ووضع النساء من حيث مدى انتقالها إلى شعب الملايو. ومن الصعوبات الأساسية في هذا الشأن هي أننا لا نملك في الواقع سبيلا للتأكد من ماهية الرسائل والشروح التي توفرت للمسلمين الملايو، حيث أن ما وصلنا منها في العصر الحديث (وغالبًا عن طريق الصدفة) لابد وأنه لا يمثل سوى جزء مما كان موجودًا في وقت ما. ورغم عدم معرفتنا بحجم تداول أعمال الغزالي (المتوفى عام ١١١١م)، إلا أن اسمه دائمًا ما يذكر محاطًا بكثير من التبجيل كما أن سمعته كمفكر صوفي لا نظير لها.
اكتسبت كتابات الغزالي رواجًا جديدًا في القرن الثامن عشر حين تم استعادة الاهتمام بأعماله في الهند والمناطق الإسلامية الداخلية. وفي ذلك الوقت قام على سبيل المثال عالم الملايو عبد الصمد الباليمباني، الموجود في مكة، بترجمة أهم أعمال الغزالي وهو كتاب إحياء علوم الدين. إن دراسة شاملة لتأثير الغزالي في الملايو سوف تكون ذات أهمية مباشرة في فهم هيكل العلاقات بين الجنسين بين المسلمين الملايو، وذلك لأنه كتب بغزارة عن التشريع الديني في علاقته بالحياة الجنسية والعلاقات بين الذكور والإناث. ومن وجهة نظر الغزالي وآخرين كانت هناك توقعات واضحة من المرأة المسلمة المنتمية إلى صفوة المجتمع، وذلك لأن المرتبة الاجتماعية للرجل وعائلته كان يمكن أن تقاس، على الأقل جزئيًا، بسلوك نسائها. ويرى الغزالي أنه يجب على المرأة الفاضلة أن تقضي وقتها في الغزل والقيام بالأمور المنزلية والتزاماتها الأخرى. وإذا كان من الضروري أن تجازف بالخروج، فيجب عليها أن تطلب إذن زوجها وأن تتجنب الشوارع المزدحمة والأسواق والمقابلات غير الملائمة مع الرجال. وحسبما جاء في كتاب إحياء أمور الدين فإن الرسول (ص) قال لابنته فاطمة ذات مرة: “ما هو الأفضل بالنسبة للمرأة؟” فأجابته: “ألا ترى رجلاً وألا يراها رجل“.
يمكن للمناقشة النصية لمجتمع الملايو مع ذلك أن تتخذ اتجاها آخر. فقد اكتشف المؤرخون منذ وقت طويل أن معرفة القراءة والكتابة كانت محدودة للغاية بين أهل الملايو العاديين، وخاصة منهم النساء. ومن ثم فإن التعامل المباشر مع الكتابات والنصوص الإسلامية كان في الأغلب غير شائع، حتى في تلك الحالات التي توفرت فيها الترجمات إلى لغة الملايو. وقد كان الفهم الشعبي للقيم والتعاليم الإسلامية يتم من خلال الاستماع إلى حكايات عن الرسول (ص) وأقاربه والمعلمين المسلمين الموقرين، بعد تطويعها محليًا، أكثر منه من خلال قراءة النصوص الدينية. لقد لعبت تلك الحكايات دورًا هامًا في تفسير القرآن وظلت وسيلة هامة لتصوير السلوك الصحيح فيما أطلق عليه جونز (A. H. Johns) نشر التعاليم الإسلامية “بين العامة“. لذلك فإنه من المفيد أن يتم البحث في صيغ ونسخ الملايو للأساطير الإسلامية المعروفة جيدًا وأن نتتبع نوع الرسائل التي قد تكون وجهتها للنساء. وسوف يكون هذا النوع من المبادرة أكثر سهولة كلما زاد توفر نصوص الملايو عبر مصادر الإنترنت كتلك التابعة لمشروع أرشيف الملايو في الجامعة الوطنية بأستراليا.
وعلى سبيل المثال يمكننا أن نشير إلى مجموعة الحكايات التي تدور حول فاطمة، أكثر بنات الرسول (ص) الثلاثة تبجيلا. لنصوص الملايو مثل حكايات السيدة فاطمة أو حكايات النبي لابنته فاطمة تصور فاطمة على أنها المرأة النموذجية والزوجة المخلصة ذات التقوى والسلوك المتواضع الكفيلين بأن يجعلا من يتبع أسلوبها أكثر جاذبية من الناحية الجسدية. فهي نادرًا ما تترك المنزل، وفي إحدى المرات ترددت حتى في فتح بابها لجارية حيث أن زوجها هو الوحيد في العادة الذي يسمح له بالدخول إلى حجرتها. وهناك أيضًا رسائل أخرى مدعومة دينيًا موجهة لنساء الملايو وردت في كتاب حكايات بيان بودیمان (ويرجع تاريخ أقدم جزء فيه إلى عام ١٦٠٠م، وإن كان ورد ذكره أيضًا من قبل علماء في القرن الثامن عشر). ويصف موقف من المواقف كيف أن أميرا حاول أن يغوي امرأة سافر زوجها في رحلة تجارة. ورغم شعورها بالإغواء إلا أن طائر المينة (رمز الحكمة) ينصحها بعدم الاستسلام لأن القرآن والحديث نصًا على أن المرأة المتزوجة التي تمارس الزنا سوف تعذبها الملائكة في جهنم لمدة ألف عام. إن عدم الإخلاص للزوج هو بمثابة خيانة، أي أنه مثل خيانة الملك. وهناك نص آخر من الملايو يعود إلى القرن السابع عشر بعنوان حكايات السلطان إبراهيم بن أدهم وهو نص تعليمي بشكل واضح. وفي أحد أجزائه ينصح الكاتب (ويحتمل أن يكون امرأة) الإناث بأن يتمثلن الزوجة المخلصة تمامًا: “هكذا تتصرف النساء المحبات لأزواجهن. نحن النساء المؤمنات يجب أن نكرس أنفسنا لأزواجنا على أمل أن نحظى برحمة الله تعالى في الآخرة. يا أخواتي! تمثلن ما هو موصوف في هذه الحكاية“.
إن احتمال أن تكون نساء الملايو من أنفسهن من يدعمن أو حتى يكتبن نصوص الملايو يفتح مجالاً آخر أكثر إثارة في البحث. على حين يجب أن نكون على حذر من أن نتصور أن تلك النصوص سوف تكشف بالضرورة انشغالاً بقضايا الجندر، إلا أن ذلك سوف يكون تمرينا ذهنيًا مثيرًا أن نعيد بناء سياقات تاريخية بعينها وأن نحاول الإشارة إلى الأسباب التي فضلت اختيار نص بعينه على نص آخر. فعلى سبيل المثال نحن نعلم أن إقليم آتشيه شهد في القرن السابع عشر صراعًا داميًا حين كان المصلحون الإسلاميون يمارسون نقدًا شديدًا للتطويع المحلي للتعاليم الإسلامية. لذلك فتجدر الإشارة، كما أوضح بيتر ريدل (Peter Riddell) إلى أن واحدة من الأربع نساء اللآتي حكمن أتشيه في القرن السابع عشر، وهي السلطانة صفياتر الدين شاه (١٦٤١ – ١٦٧٥م) قد كلفت العالم عبد الرءوف (المتوفى عام ١٦٩٠م) بكتابة مرآة الطلاب وهو عمل يتناول التشريع. وبحلول نهايات القرن السابع عشر أدى وجود أربع فترات حكم نسائية متتالية إلى توفير قدر من التركيز لدى بعض المجموعات في آتشيه للتعبير عن الاعتراض، وارتفع صوت المطالبة بالعودة إلى الحكم الذكوري. وقد يكون أمرًا ذا دلالة أن تكلف السلطانة عنايات شاه (١٦٧٨– ١٦٨٨م) عبد الرءوف بكتابة عملين آخرين على الأقل، أحدهما يتناول واجبات المدرس والتلميذ والآخر يقدم تعليقًا على مجموعة من الأحاديث. وفي القرن الثامن عشر وبدايات القرن التاسع عشر كانت النساء في بلاط الملايو في رياو وفي أماكن أخرى ينتجن أو يدعمن كتابة نصوص دنيوية بغرض الترفيه أو كتعقيب على شؤون البلاط. مع ذلك فهناك قليل من الأدلة التي تشير إلى أن نساء الملايو من الطبقات العليا كن مسؤولات عن إنتاج النصوص بنفس قدر نظيراتهن في جاوه. ومن المحتمل أن النساء الميسرات كن أكثر نشاطًا في التبرع لبيوت الراحة أو دعم المدرسين أو الأوقاف، مثلما حدث في ميناء رياو. وفي الحقيقة يبدو أن جمهور النصوص الدينية من النساء كان يتسع، وجدير بالذكر على سبيل المثال أن جدة منشي عبد الله، الناسخ الشهير لأوراق ستامفورد، كانت تدير مدرسة قرآنية.
في بعض المناقشات النسوية نجد ميلاً إلى اعتبار وصول الأديان العالمية إلى جنوب شرق آسيا علامة على نهاية نوع من العصر الذهبي للنساء. ورغم المبالغة الأكيدة في ذلك التصوير إلا أننا نعلم أن تبني الإسلام في أغلب المناطق كان يعني استبعاد النساء من الممارسة العلانية للعبادة وأن العلماء المسلمين أدانوا عملية التقرب إلى الأرواح والتي كانت الإناث جزءًا رئيسيًا منها. لذلك فعلى المؤرخين والمؤرخات تفسير توجه الإسلام الدائم إلى النساء، خاصة حين تمتد عملية “الأسلمة” عبر عدد من القرون. وفي هذا الصدد قد يكون من المفيد أن ننظر إلى مجتمعات إسلامية أخرى مثل مجتمعات غرب إفريقيا حيث تمتعت النساء باستقلال اقتصادي نسبي. كذلك فإن جاذبية المسيحية في الفلبين وبدرجة أقل في فيتنام قد تمدنا بمواقف موازية مفيدة. إن المقارنة العامة المتعجلة تشير إلى أن النساء في حضارات ما قبل الحداثة انجذبن إلى الديانات العالمية من خلال وعد الأخيرة بالحماية الإلهية، والتي كانت أعلى من تلك المتوفرة بواسطة الأرواح المحلية. وفي المجتمعات حيث تعلو نسب وفيات الأطفال وحيث كانت عملية الحمل تتضمن احتمالاً بالموت، كانت مفردات وصور الإسلام عناصر جاذبة وقوية. كذلك كان لتلك التوقعات فعاليتها في جوانب أخرى من جوانب الحياة، فعلى سبيل المثال نجد أن نساء الملايو اللآتي يرددن تعاويذ الحب التي جمعها الإثنوغرافيون الأوائل مثل سكيت (W. W. Skeat) كن يعتقدن بأن جمالهن سوف يزيد وأن أحباءهن سوف يصبحون أكثر إخلاصًا من خلال التضرع إلى الله ورسله. وعلى مستوى آخر، ورغم الهيمنة الذكورية في العبادات الإسلامية، إلا أن النساء استمرون في لعب أدوار هامة في احتفالات الانتقال من مرحلة عمرية إلى أخرى، خاصة مناسبات الميلاد والزواج والموت. وعلى الرغم من أن إحدى الوثائق الصادرة عن ملقا باسم عادات ملوك الملايو تركز بوضوح على المكانة المبجلة للقاضي والإمام، إلا أن نساء البلاط الأكبر سنًا، وخاصة القابلات، احتفظن بدور بارز في طقوس مواليد العائلة المالكة. كذلك، وعلى حين ترفض التعاليم الإسلامية بوضوح تعدد الآلهة، إلا أن الأرواح السابقة على الإسلام والتي كانت النساء تبجلنها أمكن “تحويلها” إلى الإسلام هي الأخرى ومن ثم أصبحت من “الجنّ“، وكثيرًا ما تملك القدرة على شفاء المرض.
كذلك يمكن أن نعزي جاذبية الإسلام المستمرة إلى حقيقة انشغالاته الاجتماعية والتعليمية التي لعبت على أوتار حميمة في ثقافة الملايو. وفي هذا الشأن يرى مقال كتبته باربرا واتسون آندایا (Barbara Watson Andaya) أن مفهوم احتجاب الإناث كان موجودًا بعمق في ثقافات ما قبل الإسلام وكان مؤشرًا على المستوى الاجتماعي. إن اهتمام الإسلام بتنظيم التعامل ما بين الرجال والنساء في داخل الأسرة وبين الأقارب وغير الأقارب كان أمرًا مألوفًا في مجتمعات كانت تخشى بشدة من العلاقات الجنسية غير اللائقة. وواقع الأمر، كما يقول ديفيد بانكس (David Banks)، هو إننا في الأغلب قللنا من شأن تأثير الإسلام على الحياة الأسرية لفلاحي الملايو. وعلى وجه الخصوص فإن التقاليد التشريعية الإسلامية الخاصة بالزواج والإرث وجوانب أخرى من التفاعلات الاجتماعية قدمت دليلاً مرشدًا واضحًا للمواقف اليومية ذات الحساسية الشديدة فيما يتعلق بالسلوك غير اللائق بين الرجال والنساء. إن بعضا من تلك الإرشادات العملية التي قدمها علماء الدين في أوقات سابقة تتضح في رسائل الشخصية الشهيرة، راجا علي حاج من رياو (۱۸۰۹ – ۱۸۷۰م)، حيث طلبت منه إحدى المطلقات نصيحة بشأن الفترة التي يجب أن تنتظرها قبل الزواج مرة أخرى. كما لم يكن هؤلاء العلماء كارهين لتناول الأمور الجنسية، فالترجمات الملايو للكتب الإسلامية تقدم إرشادات تفصيلية بشأن الطهارة والنظافة بعد الحيض، وفي قاموسه الخاص يشرح راجا علي حاج كيف يمكن أن تكون المعاشرة الجنسية أكثر متعة لكل من الرجل والمرأة كما ينصح قراءه بالعودة إلى مراجع في ممارسة الحب باللغتين العربية والملايو.
هناك إذا مساحة كبيرة للبحث في الأساليب التي تم بها تبني المعتقدات والممارسات الإسلامية من قبل المجتمعات المحلية وكيفية تكييفها مع العادات المحلية. ورغم الموجات الإصلاحية الدورية التي مرت بجزر الملايو وإندونيسيا، إلا أن قدرة الإسلام على الانصهار مع العادات القائمة يبقى في كثير من الأحيان أمرًا لافتًا للنظر. وفي بعض الأوقات كانت التعاليم الإسلامية على وفاق مع الممارسات المحلية مثلما هو الحال في رفض كليهما للزنا، لكن في أمور أخرى، مثل ممارسة الجنس قبل الزواج، كانت هناك مساحة للمساومة. ويرد في نص من نصوص الملايو ما يلي: “إنها لإهانة بالغة للفتاة أن تحمل من أب مجهول. حسب الشرع الديني فإنها تؤخذ إلى المسجد يوم جمعة حيث يقوم أربعون شخصًا بالبصق عليها. لكنها تبعًا للعادات تصبح خالية من العار حين يولد الطفل“. لقد كان هذا النوع من التكييف واضحًا بشكل خاص في شبه جزيرة الملايو في نيغيري سيمبيلان الحديثة، والتي تأسست بواسطة مهاجرين من مينانغكاباو حيث كان خط النسب أموميا رغم احتفاظ أهلها بسمعتهم كمسلمين ملتزمين. وعلى الرغم من بعض التغيرات التي طرأت على عادات مينانغكاباو في المهجر، إلا أن المنازل والأرض كانت تورث للنساء وكان الأزواج يعتبرون ضيوفًا على منازل زوجاتهم. وسوف يساعد البحث التاريخي المستمر أيضًا على تحديد أشكال التكيف المحلية التي سمحت لنساء الملايو بالاحتفاظ بدورهن في ممارسة الأعمال والتسويق رغم القيود التي فرضها الإسلام. وقد يجد المؤرخون أنه من المفيد استخدام الأعمال الأنثروبولوجية الحديثة التي تناولت القرى والممارسات المنزلية كنقطة انطلاق لإعادة قراءة المادة الاستعمارية. كما أن تفسير ظهور نساء ملايو من الطبقة الوسطى كمستثمرات في إندونيسيا المعاصرة يستلزم البحث في المساحة التي نفترض أنها كانت متاحة لهن في المجتمعات الإسلامية القديمة.
لا يجوز لنا، بطبيعة الحال، أن نبالغ في التأكيد على عنصر الاستمرارية في حياة المسلمين في تلك الفترة. فرغم أن الالتزام بتعاليم الإسلام فيما يتعلق بالمظهر والسلوك كان بارزًا بين أفراد الطبقات العليا، إلا أن تكييف الإسلام بطول جزر الأرخبيل جاء بتغيير فعلي. فالنساء المحليات اللآتي انجذبن إلى مجال الإسلام، على سبيل المثال، كان المتوقع منهن أن يدللن على وضعهن الجديد بتبديل مظهر شعرهن وملابسهن لتتفق مع “نمط الملايو“. كذلك فإن انتشار الإسلام بطول السواحل الشمالية الغربية لبورنيو استدعى تكيفًا كبيرًا في الاقتصاد المنزلي للجماعات التي دخلت الإسلام، ذلك لأن لحم الخنزير كان غذاء معتادًا وأساسيًا، كما كانت تربية الخنازير مهنة نسائية. أيضًا كانت مطالبة النساء بتغطية صدورهن عبئًا إضافيًا في المجتمعات حيث كان إنتاج النسيج عملية تحتاج إلى وقت طويل. وقد كان للميل المتزايد نحو تعدد الزوجات أثره على حياة النساء حيث كان الرجال الميسورون كثيرا ما يتخذون زوجة ثانية، خاصة حين تتقدم الزوجة الأولى في العمر.
لقد كانت تلك التغيرات مجرد عناصر في تنظيم العلاقات بين النساء والرجال في عالم الملايو تنتشر بدعم ومناصرة حكام الملايو، كما كان يتم تبريرها وتشريعها بالرجوع إلى التعاليم الإسلامية. ومن الأمثلة الواضحة في هذا الشأن ما يتعلق بتراجع النساء من الحيز العام. وعلى حين كان من المعتاد بدون شك أن يمارس الملوك الحكم، إلا أن القرن السابع عشر شهد حكم أربع ملكات في دولة آتشيه شديدة التمسك بالإسلام. وفي نفس الفترة ورثت ابنة الحكم عن والدتها في دولة شبه جزيرة باتاني. ومع ذلك فلم يكن الإسلام متعاطفًا مع حكم الإناث، حيث يقول أحد أهم مفكري إسلام القرون الوسطى، نظام الملك: “لا يجوز أن يسمح للنساء بالوصول إلى السلطة، ذلك أنهن يرتدين الحجاب ولا يمتلكن ذكاء كاملاً“. وفي عام ١٦٩٩م، حسبما ورد في أرشيف آتشيه، وصلت فتوى من مكة حرمت حكم النساء، ومنذ ذلك الوقت لم تحكم امرأة وحدها رغم أن الملاحظين لما يدور في عالم الملايو كثيرًا ما علقوا على الوضع المتميز للنساء المسنات.
إن التشريعات المختلفة التي وضعت في القرنين السابع عشر والثامن عشر تتيح إمكانية لاستكشاف أولويات دول الملايو. على حين يجب أن نتذكر دائمًا أن تلك لا تمثل بالضرورة واقع حياة النساء، إلا أنها تعكس كيفية تصوير نموذج المجتمع المثالي. وكما هو متوقع، فإن القوانين التي صيغت في الإطار الإسلامي ركزت على أهمية الحفاظ على العذرية قبل الزواج، كما كانت شديدة العداء للعلاقات الجنسية خارج الزواج (الزنا) بالنسبة لطرفي العلاقة على السواء واعتبرتها عصيانًا شديدًا وفرضت عليها عقوبات نظرية مثل الجلد والرجم. وذلك في حين كان الطلاق ممكنًا إذا تمكنت المرأة من إثبات خطأ زوجها، إلا أن ذلك لم يعن بالضرورة المساواة القانونية. فعلى سبيل المثال، في أحد قوانين منطقة بيراك، كان على المرأة المذنبة أن تتخلى عن حقوقها في الملكية، أما إذا كان الخطأ من جانب زوجها كان يمكن لها أن تطلب الطلاق دون أن يصيبه هو “أي ضرر“. وفي تشريعات بعض قوانين الملايو كان يمكن إجبار الزوجة التي تشعر بالاغتراب في زواجها على العودة إلى زوجها حتى لو لم تكن راغبة في ذلك. ومع ذلك، يمكننا دائمًا أن نجد استثناءات دالة في التهرب من سلطة النص، فحسب ما ورد في قوانين ملقا، التي تم اعتمادها بدون أي تغيير تقريبًا من عدد من دول شبه الجزيرة، كان يجب على المغتصب أن يدفع غرامة، لكن جريمته كانت تعتبر لاغية إذا تزوج الفتاة، وهو إجراء غير منصوص عليه في القانون الإسلامي. وعلى نفس المنوال ينص قانون بيراك على أنه يجب تقييد المرأة الزانية إلى جذع شجرة أمام مدخل المسجد وأن يحلق شعر رأسها، لكنه كان يتضمن أيضًا إضافة محلية تسمح لها بأن تدفع غرامة ويطلق سراحها.
ودون التقليل من شأن تلك التطويرات المحلية، إلا أنه من المنطقي القول بأنه منذ أواخر القرن الثامن عشر كان هناك ميل إلى التفسير الأكثر تشددًا للسلوك بين الرجال والنساء في مجتمع الملايو، لكن كما هي العادة، فإن أي بحث بشأن قضايا الجندر يجب أن يوضع في سياقه من حيث تغير المزاج في الإسلام ذاته. فعلى سبيل المثال، على حين أن القانون الإسلامي لم يحدد موقفًا من الأشخاص ذوى التوجه الجنسي غير المحدد، إلا أن القرآن يمنع يشكل واضح التشبه بالجنس الآخر في الملبس. وقد أدى الاتصال المتزايد بين عالم الملايو والمناطق الإسلامية الداخلية إلى زيادة معدل الضيق بكثير من الممارسات السابقة على الإسلام التي تسامحت مع من يرتدون ملابس الجنس الآخر من العاملين في مجال الترفيه، ومع التواصل مع الأرواح والقائمين على الطقوس المختلفة. وقد تناولت كتابات عالم الملايو المقيم بمكة عبد الصمد الباليمباني ذلك الموضوع بشكل واضح، فهو يقوم في نفس الوقت بإدانة التواصل مع الأرواح والرجال الذين يرتدون ملابس النساء، في إشارة واضحة إلى جماعات تبديل الملبس.
إن الاهتمام المتزايد بتطبيق القانون الإسلامي والتعرض المتنامي للكتابات الإسلامية اكتسب دفعة إضافية نتيجة للارتفاع الكبير في أعداد العرب في جنوب شرق آسيا، خاصة من أشراف حضرموت. فحين تزوج هؤلاء القادمون الجدد من أسر النخبة المحلية، وتقلدوا في بعض الأحيان حتى مواقع القيادة، جاءوا معهم بمواقف متشددة بخصوص التعامل اللائق بين الرجال والنساء. وربما يكون البرنامج الإسلامي في القرن الثامن عشر قد قدم نفسه محطات ذات دلالة للحسن الإصلاحي، فعلى سبيل المثال، شهدت بداية قرن إسلامي جديد في عام ١٧٨٥م عدة مناسبات نادى فيها أهل الملايو بالحرب المقدسة وقاموا بمهاجمة غير المسلمين من الأوروبيين والسياسيين. ونجد أن المواقف المتشددة للوهابيين، التي سيطرت على مكة في عام ۱۸۰۳م، تمركزت في البداية في مينانغكاباو لكنها سريعًا ما انتشرت إلى شبه جزيرة الملايو وإن كان مع قليل من التغيير.
في النصف الأول من القرن التاسع عشر كان التأريخ لعالم الملايو يركز على نقاش التطورات السياسية والاقتصادية، لذلك فقد حدث تجاهل كامل تقريبًا لتناول تأثير المزاج الإسلامي الجديد على العلاقات الاجتماعية بين الرجال والنساء. وقد كان راجا علي حاج من أعمق الموثقين المعاصرين، والذي توضح كتاباته معالم البيئة المتغيرة في رياو. ففي كتابه تحفة النفيس أصبحت النساء مطالبات بارتداء الحجاب كما تم اتخاذ الإجراءات لمنع أي أنشطة قد تؤدي إلى “سلوك منحل” بين الرجال والنساء. ورغم ندرة المصادر إلا أنه يجب علينا أن نفترض أنه حين قام باجيندا عمر في تيرينجانو (١٨٣٩ – ١٨٧٦) بفرض حكم الشريعة فإنه أدخل أيضًا ممارسات شبيهة بتلك التي كانت مطبقة في رياو حيث عاش بعضا من الوقت. كذلك تأثرت العلاقات بين الرجال والنساء في كيلانتان المجاورة وذلك من خلال الجهود المتجددة من أجل القضاء على العادات “غير الإسلامية“. ومع ذلك فقد كان من الصعب فرض بعض أوجه ذلك المنع على المناطق الريفية، مثل منع المسرحيات المحلية الراقصة التي كانت النساء تشارك فيها وحيث كان من المسموح ارتداء ملابس الجنس المغاير. وتقر حكايات سري كيلانتان أن القرى احتفظت بممارساتها القديمة.
في هذا السياق تعتبر النصوص الدينية أو الكتب المستخدمة في مدارس “الأكواخ” مصدرًا غنيًا للخطاب الإسلامي حول قضايا الجندر، وإن كان لم يتم استخدامها بالدرجة الكافية حتى الآن. وكانت أشهر تلك المدارس موجودة في باتاني (جنوب تايلاند) وفي دول الساحل الشرقي لشبه الجزيرة، والتي كان سكانها أقرب إلى الملايو من حيث التكوين السكاني، كما ظلوا حتى أوائل القرن العشرين خارج السيطرة البريطانية المباشرة. إن التأثير المتنامي لما يسميه مارشال هودجسون توجهات “عقلية الشريعة” يشير إلى أن المدرسين في مدارس الأكواخ كانوا يهتمون بشكل خاص بالحفاظ على السلوك الأخلاقي اللائق، لذلك فليس من المستغرب أن تكون مناقشات الزواج والعلاقات بين الرجال والنساء من الموضوعات المطروقة كثيرًا. وفي نفس الوقت، وحيث كان المقصود بالكتاب هو توصيل التعاليم العربية إلى جمهور الملايو، فإن مضمون تلك الدروس قد يساعد في التعرف على الموضوعات التي كانت لها أهمية محلية خاصة في شأن علاقات الجندر .
لقد آن الأوان لإعادة تقييم السؤال حول كيفية تأثير الحكم البريطاني والهولندي على حياة نساء الملايو، وخاصة في ضوء الأبحاث التي تمت في مجتمعات أخرى خضعت للاستعمار. إن مزيدًا من الدراسة التي تركز بشكل خاص على علاقات الجندر سوف تفتح بلا شك مجالات جديدة للبحث. فعلى سبيل المثال، كان المسؤولون الهولنديون في باليمبانغ مقتنعين بأن الزواج المتأخر، الذي فسروه بالعادات المحلية التي استدعت دفع ثمن للعروس، قد تسبب في انخفاض معدلات المواليد مما عرقل تطوير المحاصيل النقدية ذات الكثافة العمالية العالية. ويقول لنا جيروين بيترز (Jeroen Peters) أن الهولنديين استحضروا التشريع الإسلامي في محاولة الإلغاء “ثمن العروس” لصالح المهر الإسلامي أو هدية الزواج التي سعوا بعد ذلك إلى تحديد فيمتها. ورغم أن درجة تأثير تلك المراسيم كان محدودًا دائمًا، إلا أن التوسع في الحكم الاستعماري إلى داخل سومطره صاحبه انتشار أفكار الملايو الإسلامية التي ربطت ما بين قدر النساء وبين احتجابهن، ومن ثم قوضت من الحرية النسبية التي كانت النساء في تلك المناطق يتمتعن بها في السابق.
وعبر المضيق، وحيث سمحت اتفاقية بانغكور لعام ١٨٧٤م بتعيين “مستشارين” بريطانيين لبلاط الملايو، كان المسؤولون الاستعماريون الأوائل أكثر اهتمامًا بما اعتبروه استغلال الديون من قبل أرستقراطية الملايو. لكن خيرات المنطقة السابقة كانت قد علمتهم أن التدخل في الأنماط المستقرة للعلاقات بين الرجال والنساء سوف يؤدي بالتأكيد إلى ردود فعل غاضبة، وأن اتفاقية بانغكور استبعدت عن قصد الأمور الدينية من نطاق مسؤولية البريطانيين. ومن ناحية أخرى، كان لحكام الملايو وجهة نظر مختلفة تمامًا عن مسؤوليات الحكومة، وألحوا على الدولة الاستعمارية أن تلعب دورًا أكثر إيجابية في عدد من الأمور الاجتماعية والدينية مثل تحديد حقوق الزوج وعقوبة الزنا. لكن، ورغم أن العرض الدقيق الذي قام به جون جاليك للموارد الاستعمارية بطرح أسئلة هامة، إلا أن المصادر التي يتناولها لا تلقي أي ضوء على تفاصيل رد فعل النساء لتلك المبادرات من قبل رجال النخبة. ولمواجهة ذلك النقص تبنى العالم الأنثروبولوجي مايكل بيليتس (Michael Paletz) مقاربة أخرى باستخدام النصوص الاستعمارية للمنظمات الاجتماعية والسياسية في نيغيري سيمبيلان كأساس لمناقشة كيفية تأثير الأفكار الإسلامية على علاقات القوى بين الرجال والنساء، وكيف ساهمت في إعادة تشكيل الأنماط القديمة للزواج والنسب الأمومي.
ومن الموضوعات التي تلقى بعض الاهتمام في السجلات الاستعمارية في نهايات القرن التاسع عشر تتعلق بالموقف من تعليم الإناث، وهو موضوع ذو أهمية خاصة في فهم التحولات التي سوف تطرأ في القرن العشرين. فحين حاول البريطانيون إدخال قدر محدود من التعليم المحلي، وجدوا أن أسر الملايو غير متحمسة لحصول بناتها على تعليم علماني. وقد تم إحراز تقدم خاص في ولاية سيلانغور حيث اهتم السلطان سليمان (۱۸۹۸ – ۱۹۳۸م) اهتمامًا خاص بالتعليم في ملايو، مع كونه مسلمًا ملتزمًا. فبرعايته تم افتتاح مدرسة للفتيات كانت تقدم الإرشادات في مجالات القرآن والقراءة والكتابة والنسيج والحياكة وأشغال الإبرة بأنواعها والطهي. وإضافة إلى دعمه المادي للمدرسة فقد طمأن السلطان سليمان العائلات أن بناتهن لن يختلطن بشباب الملايو وذلك من خلال تنظيم انتقال الفتيات من وإلى المدرسة في عربات مغطاة تجرها الثيران.
وأخيرًا يمكن البحث في كيفية تغير الأعراف الاجتماعية من خلال عدد قليل، وإن كان يتزايد من الجرائد والمجلات المكتوبة باللغة الجاوية (عربية معدلة) ولغة الملايو بالحروف اللاتينية. فقد تناولت المقالات والرسائل طيفا من الموضوعات الاجتماعية، بما في ذلك أمور ذات صلة بالنساء والأسرة. فعلى سبيل المثال، فإن الصحيفة الصينية الملايو الأولى، واسمها بينتانغ تيمور (١٨٩٤ – ۱۸۹٥م)، وإن كانت لم تستمر طويلاً، كانت تنشر دوريًا النصائح لأولياء الأمور. وفي أحد الأعداد نشرت قصيدة يأسلوب تقليدي تحفز التقارير الطبية الغربية للاحتجاج على زواج الفتيات الصغيرات في السن، مؤكدة على أن أي أطفال يولدون من تلك الزيجات لن يكونوا بصحة جيدة. ومع ذلك، بحلول عام ١٩٠٠م كان عدد جمهور القراء لهذا النوع من المناقشات لا يزال محدودًا. ولن نجد نقاشًا أكثر استمرارية من لموضوعات مثل تعدد الزوجات والزواج والطلاق وتعليم الإناث إلا مع تأسيس مجلة الإمام وهي أول مجلة ملايو إسلامية صدرت في عام ١٩٠٤م وما تبع ذلك من اتساع في التعليم المحلي.
الخاتمة
حتى الآن، لم يركز أي عمل تاريخي على النساء في المجتمعات الإسلامية في عالم الملايو قبل القرن العشرين. ورغم أن هناك مصادر واعدة في بعض المجالات، إلا أن أدوات البحث المطلوبة ما زالت في طور التكوين والكثير منها يحتاج إلى عمل تنسيقي أكثر مما كان عليه حتى الآن. إن البحث المتكامل في ذلك الموضوع يتطلب المعرفة، ليس فقط بثقافة الملايو ولكن أيضًا بالنظرة الدينية المتغيرة في المناطق الإسلامية الداخلية وفي المراكز المجاورة مثل مينانغكاباو وجاوه. كذلك فإن وضع مصادر الملايو المتوفرة ذات الصلة بالإسلام في سياقها يستدعي معرفة اللغة العربية والوسط الديني الذي أنتج النصوص التي وصلت إلى جنوب شرق آسيا. كما أنه من البديهي أن ترتبط تلك المهارات الخاصة مع معرفة بالنظرية النسوية والاستعداد لدراسة بيانات مقارنة. وعلى الرغم من أن الكثير من الأسئلة سوف تظل بلا شك بدون إجابة، إلا أن الجيل القادم من الباحثين والباحثات سوف يفتح بالضرورة سبلاً أخرى للبحث، كفيلة بأن تدعم دراسات إسلام الملايو على قاعدة من الجندر أكثر توازنًا. وخلال تلك العملية سوف يتوفر لدارسي ودارسات مجتمع الملايو المعاصر أساس تاريخي أكثر تماسكًا يمكنهم من تقييم التغيرات المستمرة في وضع النساء المسلمات.
Raja Ali Haji Ibn Ahmad, Tuhfat al-nafis, trans. V. Matheson and B. W. Andaya, Kuala Lumpur 1982.
B. W. Andaya, Delineating female space. Seclusion and the state in pre-modern island Southeast Asia, in B. W. Andaya (ed.), Other pasts Women, gender and history in early modern Southeast Asia, Honolulu 2001, 231- 53.
D. J. Banks, Malay kinship, Philadelphia 1983.
Cheah Boon Kheng, Power behind the throne. The role of queens and court ladies In Malay history, in Journal of the Malayan Branch of the Royal Asiatic Society 66:1 (1993), 1-23.
J.M. Gullick, Malay society in the late nineteenth century. The beginnings of change, Kuala Lumpur 1987.
R. Hashim, Bringing Tun Kudu out of the shadows. Interdisciplinary approaches to understanding the female presence in the Sejarah Melayu, in B. W. Andaya (ed.). Other pasts. Women, gender and history in early modern Southeast Asia, Honolulu 2001, 105- 24.
A. H. Johns, Malay Sufism as illustrated in an anonymous collection of seventeenth-century tracts, in Journal of the Malayan Branch of the Royal Asiatic Society 30:2 (1957), 5-110.
R. Jones, Hikayat Sultan Ibrahim bin Adham. An edition of an anonymous Malay text with translation and notes, Berkeley 1985.
W. J. Karim, Women and culture. Between Malay adapt and Islam, Boulder, Colo. 1992.
M. G. Peletz, Reason and passion. Representations of gender in a Malay society, Berkeley 1996.
J. Peters, Kaum Tuo-Kaum Mudo. Sociaal-Religieuze Verandering in Palembang, 1821- 1942, Ph.D. diss., University of Leiden 1994.
M. C. Ricklefs, The seen and unseen worlds in Java 1726-1749. History, literature, and Islam in the court of Pakubuwana II, Honolulu 1998.
P. Riddell, Islam and the Malay world, Curzon (forthcoming).
J. Rigby (ed. And trans.), The ninety-nine laws of Perak, Kuala Lumpur 1929.
W. W. Skeat, Malay magic, London 1900.
Panuti H.M. Sudjiman, Adat Raja -Raja Melayu, Jakarta 1982