عطايا المهبل *
نعم … ليس لدي عضو أنثوي كي أستطيع أن أفهم ما تمر به الأنثى المغتصبة من مشاعر جسدية ونفسية. هذا هو ما واجهته مع نفسي عندما التقيت فتيات التحرير اللاتي تعرضن لاغتصاب جماعي وعلى مدى زمني ومكاني ممتد في العام ٢٠١٣، رغم محاولاتي وجلساتي الطويلة معهن وتتبعي لأماكن الانتهاك ومقابلاتي مع من شهدوا ذلك في ميدان التحرير والشوارع المحيطة به، كان دائمًا هناك شيء ناقص وهو أنني بلا مهبل مثلهن يمكن أن يتعرض لما تعرضن له. كطبيب نفسي أعرف أنني إذا أردت أن أساعد شخصًا يعاني، أي أمارس معه العلاج النفسي، عليّ أن أضع نفسي مكانه، وذلك لكي أفهم مشاعره بدقة وبدون تحيز، ويتم ذلك من خلال آليات محددة وهي تفريغ النفس مما يشغلها وتخيل ما يعاني منه الشخص، إما باستدعاء خبرات مشابهة من حياتي الشخصية أو حياة آخرين أعرفهم وعايشت خبراتهم. فإذا لم أجد يمكنني أن أتخيل نفسي في مكان هذا الشخص، وهذه العملية كلها هي أولى مراحل العلاج النفسي وبدونها لن يتم. وتسمى المواجدة (empathy). في حالة البنات المغتصبات، لم أستطع أن أتخيل، ووجدت أنني أفتقد الجرأة على تخيل أنني أمتلك مهبلاً يتأذى ويقتحم، وكنت أرتعب عندما أتخيل مجرد تخيل أن هناك مهبلاً أسفل بطني، واستدعيت مفهوم فرويد عن عقدة الإخصاء (castration complex)، وهي أن الذكور في مراحل النمو الأولى يعتقدون أن الإناث كانت لديهن أعضاء ذكرية، وتم قطعها كعقاب للتأديب، وبالتالي يخافون من أن تقطع أعضاؤهم كما قطعت أعضاء الإناث فيصيرون بلا قضبان كالإناث. وكان هذا هو تفسير فرويد الأساسي من قلق الذكور تجاه المهبل. كانت زوجتي نادين شمس تشفق عليّ بطريقتها الهلعة، لأن أعضائي (القضيب والخصيتين) يمكن أن تتأذى بسهولة وهي في الخارج، هكذا “في الشارع كما تقول”، على عكسها وبعكس أعضاء الإناث المختفية داخل البطن كالمبايض، والمحمية أو غير البارزة كالمهبل. وفي نفس السياق قالت لي إحدى المريضات إنها بكت شفقة على خصيتي أخيها عندما قرأت أن الخصيتين تتدليان هكذا هربًا من درجة حرارة البطن، وإلا ضمرت وتحولت إلى خلايا سرطانية. أي أن البنات يستطعن التفكير في أعضاء الذكور بعيدًا عن الجنس وكموضوعات منفصلة يخشى عليها من العطب، بينما يجد الأولاد صعوبة في التفكير في المهبل بعيدًا عن الجنس أو كموضوع للتندر والسب أو القلق والغموض والخوف. عملت كطبيب في توليد النساء، لكني لم أفكر في المهبل على هذا النحو من قبل، كان يمثل لي مهمة تنتهي باستقبال رأس الجنين وإجراء شق في المهبل لتسهيل الخروج ثم رتق هذا الشق. ولكن بعد تلك الأحداث العنيفة، بدأت في التفكير في المهبل لا كموضوع للمتعة، ولا كموضوع للعمل، وإنما كموضوع للتمثّل، ماذا لو كنت أنثى ولي عضو أنثوي؟ ما الذي كنت سأشعر به وكيف سأشعر إذا تعرضت للاغتصاب؟ ومن ثم خضت تجارب مع نفسي ومع أصدقائي ومع زملائي أثناء جلسات التدريب الخاصة بالعلاج النفسي، كما أنني ولظروف شخصية لغياب نادين في العام ٢٠١٤ اقتربت بشكل لم يسبق لي من مجموعات من النساء الرائعات، ساندنني وحمونني من الانهيار، ودعمنني بقوة، فقربتني تلك التجارب كثيرًا وساعدتني في فهم بعض المشاعر، وممارسة المواجدة مع عميلاتي المنتهكات جنسيًا. لكن رؤيتي الإنسانية والمعرفية في الحقيقة اختلفت ليس فقط فيما يخص الاغتصاب والتحرش، لكن فيما يخص القضيب والمهبل والأنوثة والذكورة. جميعنا – ذكورًا وإناثًا – نمتلك في البداية أعضاء أنثوية بدائية التكوين، ثم يتحول البعض ممن سيصبحون ذكورًا وبسبب نقص ما في كروموزوم واي التافه والمشوه باتجاه مختلف. فيستمر تطور أعضاء الإناث في الاتجاه الذي نعرفه من وجود شفرتين خارجيتين وشفرتين داخليتين وأنبوب مرن هو محل اهتمام الذكور، منه يخرج دم الحيض وتخرج الأجنة وعن طريقه تصل الحيوانات المنوية إلى المبايض، وأعلى الأنبوب هذا أنبوب آخر أصغر يخرج منه البول لكنه لا يصلح للاستعمال الجنسي وفي الأعلى تمامًا يقف البظر وهو محل المتعة والإثارة عند النساء وتقطعه كثير من الشعوب لحرمان إناثها من المتعة. أما عند الذكور فإن هذا البظر يستطيل ليكون قضيبًا وتنغلق الشفرتان لتضمان الخصيتين اللتين هربتا من ارتفاع درجة حرارة البطن على عكس المبايض القوية التي تفضل البقاء في الحماية الداخلية لأنسجة البطن الدافئة. وبسبب ذلك التركيب المتعدد الوظائف يتغير شكل المهبل وحجمه من امرأة لأخرى، ولأنه يحفل بوظائف كثيرة مثل التبول والحيض والجنس والولادة، فأنه يتعرض لأعطاب كثيرة، ويقوم بتنظيف نفسه بنفسه أولاً بأول وإصلاح أعطابه. فمثلاً بعد أن يتمدد ويتسع أثناء الولادة ليسمح بمرور جنين بوزن ثلاثة كيلوجرامات أو أكثر، يكون قادرًا على تنظيف نفسه بنفسه ورتق الانسجة المتمزقة بدون تدخل خارجي في أغلب الأحيان، وإذا حدثت مشاكل فإنها تأتي من خارجه كضيق عظام الحوض مثلاً. وفي كل شهر وبعد انتهاء فترة الحيض يقوم بتنظيف نفسه وتجهيز نسيجه وضبط التوازن الحمضي القلوي استعدادًا لاستقبال الحيوانات المنوية. وعلى عكس الذكر الذي لا يمتلك إلا قضيبًا يمارس به متعته، هناك البظر الذي يماثل القضيب عند الذكور، ثم الأنبوب والشفرات وعمق الأنبوب وكلها لها نشوتها الخاصة. وفي حين ينهار القضيب بمجرد القذف، فإن المهبل يستمر في العمل، وقادرًا على إنجاز المزيد والمزيد من الممارسات الجنسية، وهكذا يمنح القضيب للذكور نوعًا واحدًا من المتعة، بينما يمنح المهبل للإناث على الأقل أربعة أنواع، وقد سجلت نشوة أخرى عند بعض النساء، وهي نشوة الولادة. كما تقف مهمة القضيب في تسريب البول والحيوانات المنوية، وأحيانًا كثيرة يفشل في ذلك ويعجز عن أداء مهمته، بينما يعمل المهبل على تفريغ الرحم من دم الحيض وبطانة الجنين الذي لم يأت وإيصال الحيوانات المنوية إلى المبايض حتى لو لم يرغب في ذلك، ويعمل كمعبر آمن لكل إنسان من حياة الرحم إلى حياة الواقع، يبقى المهبل أنبوبًا مغلقًا مطمئنًا لا يزعج ولا ينزعج، حتى يبدأ في العمل، فينتفخ إذا اطمأن ورغبت صاحبته، وكذلك يتسع أضعاف حجمه لتعبر منه أعظم الرؤوس في لحظة فارقة وإعجازية هي لحظة الولادة. أعتقد فرويد بثقافته الذكورية الفيكتورية بمركزية القضيب في التطور الجنسي للذكور والإناث على السواء، واعتبر أن التطور الجنسي والنفسي للمرأة يمر عبر اكتشافها أنها لا تملك قضيبا مثل الذكر وتشعر بالنقص لعدم وجود قضيب لديها، وأسمى ذلك الشعور حسد القضيب (penis envy)، وبالتالي تسعى للحصول على قضيب من خلال حبها لرجل لتحصل على قضيبه. وسواء فسرنا حسد القضيب الفرويدي تفسيرًا حرفيًا، بمعنى افتقاد المرأة إلى قضيب بين فخذيها، أو فسرناه تفسيرًا مجازيًا، والذي قد يشير إلى شعور النساء عمومًا بالنقص في عالم يحتفي بالرجال ويعلي من شأنهم على النساء، مما يستدعي حقد النساء على الرجال ورغبتهن الدفينة في التحول إلى رجال، فإن فرويد أهمل وجود البظر وركز على الممارسة الجنسية التقليدية بين رجل وامرأة، وركز على الأنبوب المهبلي ومقابله القضيبي، ولم ينتبه لتعددية المهبل من الناحية التشريحية والوظيفية، على عكس أحادية وبساطة القضيب، مما عرضه لنقد شديد من زملائه علماء النفس التحليليين مثل كارن هورني Karen Horney وعلماء النفس النسويين والنسويات، بل إنهم طوروا نظرية مضادة اسمها حسد الرحم (womb envy). وربما بسبب تعددية المتعة تلك وإمكانيات المهبل الوظيفية، تم الاعتداء عليه بانتظام، إما بتحقيره أو تجاهله أو إخفائه، وإما بتدميره عبر عملية بشعة اسمها الختان، تتم عند أقدم شعوب الأرض على امتداد حوض النيل والمناطق المحيطة به، أبسط صورها يجري عبر قطع البظر، وفي صورها الأعلى، تتم بقطع الشفرات وخياطة ما تبقى منها وترك فتحة للبول وفتحة لدم الحيض. كذلك يتم الاعتداء عليه بالتحرش والاغتصاب، وقد كنّا نندهش عندما نعرف أن أحد المعتدين طعن إحدى الضحايا في مهبلها بسكين! ما الذي يعود عليه من ذلك التصرف البشع؟! وفي مصر يتم سب الرجل على أنه “مهبل أمه”، وفي سوريا ولبنان يسب على أنه “مهبل أخته”، وفي الغرب يسب على أنه هو شخصيًا “مهبل” أي ضعيف، وفي مصر أيضًا نقول للمتراجع أو المتردد (أنت بتكسكس). وتُربى البنات على الجلوس وأرجلهن مضمومة لمزيد من التخفي، رغم عدم تعرض أعضائهن أو ظهورها، بينما يجلس الرجال وأرجلهم مفتوحة مع تعرض أعضائهم وبروزها؛ ولذلك أتصور أن الحسد الحقيقي ليس هو حسد القضيب عند الإناث، وإنما هو حسد المهبل لدى الذكور (vagina envy) إن حسد المهبل الذي يعاني منه الذكور هو حسد وخوف من قوة المهبل وسكونه وبعده وغموضه وعدم قدرتهم على وضعه تحت السيطرة. إنه الحسد الذي يجعلهم يسبونه ويحتقرونه ويرغبون في امتلاكه وتحطيمه أو انتهاكه. إنه الحسد الذي يعطي للمهبل قوة سحرية وغامضة تخيف الذكور. ولابد أن نذكر هنا القوة السحرية لدم الحيض واستخدامه الشعبي في الأعمال والسحر، وكذلك التعامل مع دم الحيض على أنه دم نجس، والاغتسال بعد الجنس لإزالة النجاسة. من المحتمل أن حسد المهبل، وليس حسد القضيب، هو الذي يدفع كثيرًا من الرجال إلى الحصول على أعضاء أنثوية أو يشمئزون من أعضائهم الذكورية أو يرغبون في في تغيير هوياتهم الذكورية إلى هويات إناث. فمقابل كل إمرأة تسعى إلى إجراء عملية تحول جنسي لتغادر أنوثتها وتصير رجلاً بقضيب، هناك ثلاثة رجال يسعون ليجروا عمليات لإزالة قضبانهم وخصيهم واكتساب مهبل، لينضموا إلى جنس الإناث في الاتحاد الأوروبي. ويبدو أن حسد المهبل ليس حسدًا حديثًا، فقد احتفت الشعوب القديمة بالقضيب وأفردت له المنحوتات ورمزت إليه بآلية محددة، في حين تجاهلت المهبل ولم تظهره إلا مقرونًا بالقضيب الذي يدخل فيه. ويعد القضيب رمزًا قوميًا ودينيًا مقدسًا في دولة بوتان (Bhutan) التي تقع بين الهند والصين. يمتلك المهبل قدرات تخيف الذكور، إما بسبب الضعف أو بسبب الرغبة في السيطرة أو الجهل بوظائف المهبل وتعدديته، ورغم أننا جميعًا مررنا من هناك، مازلنا نحتاج إلى الإنصات إلى صوت المهبل داخلنا، لنتعلم أن نحترمه ونشعر به ونتعاطف معه ونحمية.الهوامش
* نبيل القط، “عطايا المهبل”، زائد ۱۸. ۱۳ يونيو ٢٠١٥:
(/ د نبيل القط – يكتب – عطايا – المهبل/ https://www.za2ed18.com)