علاقتي بأم نادر وشادية: العلاقات المتشابكة بين الباحثة والمبحوثة

التصنيفات: غير مصنف

علاقتي بأم نادر وشادية:

العلاقات المتشابكة بين الباحثة والمبحوثة

هذه الورقة تمثل بعض أفكارى وتساؤلاتي الخاصة، عن بحث مازلت أقوم به، وتتضمن ورقة العمل هذه، بعض ما وصلت إليه في البحث الميداني من أفكار تخص أسلوب ومنهجية البحث. والفكرة الأساسية، هى أن أكتب عن تجربتي الخاصة، عن كتابة السيرة النسائية لبعض النساء، اللاتي قمت بدراسة حالتهن إن صح أن نطلق على ما أقوم به سيرة ذاتية للمرأة المقهورة. ان الكتابة عن التجربة الخاصة المكتسبة من البحث، هو شيء يخرج عن المألوف في البحث الذكوري التقليدي. فهذه الأحاسيس والتجارب، كانت إلى وقت قريب كامنة في صدر الباحث، ونادرًا ما يبوح بها، وأن فعل، فغالباً بعد أن ينشر بحثه أو بحثها، ويصبح لها شأن في الدرب الأكاديمي.

أنا مازالت في بداية البحث الميداني، في اثنتين من المناطق الحضرية الفقيرة، في القاهرة والإسكندرية، ولابد هنا، من أن أشير إلى موضوع وهدف البحث.

إن الهدف الأساسي من البحث، هو تقييم الخدمات والرعاية الاجتماعية، التي تحصل عليها المرأة المصرية الفقيرة، خاصة المرأة التي تعول الأسرة. بناء على الأبحاث التي قام بها علماء الاجتماع والنسويات، خاصة في الولايات المتحدة الأمريكية وبعض دول أوروبية، فإن السياسة الاجتماعية لهذه البلاد متعصبة ضد المرأة، خاصة المرأة التي تعول الأسرة، المرأة المعتمدة على نفسها، ودون رجل. وتقول الباحثات إن السياسة في هذه البلاد، مبنية على أساس أن الأسرة السليمة، هى الأسرة المتكاملة، وهى الأسرة التي يرأسها رجل، وبهذا رفضت الاعتراف واحترام الأسر الجديدة، التي ترأسها سيدة. (فرازیر ۱۹، جوردن ۱۹۹۰، وبيرس ۱۹۹۰)

وتقول هذه الأبحاث أيضاًإن هناك برامج مخصوصة للسيدات، وبرامج أخرى للرجال، وإن البرامج التي تعنى الرجال، تكون عادة أصلح وأحسن من عدة نواح، مثل قيمة المساعدة، وأسلوب منح المساعدة.

إذا فان الافتراض الأساسي لبحثي، هو أن السياسة الاجتماعية تعبر عن وجهة نظر وإيديولوجية ذكورية تعتبر المرأة عبئًا غير مستقل، لابد أن تعيش دائماً في كنف رجل، أي رجل. ولذلك فإن السياسات والبرامج الاجتماعية، لا تقدم الخدمات المناسبة للمرأة التي تعول. وهي الخدمات التي قد تتيح لها أن تعيش دون أن تحتاج إلى رجل يعولها.

لماذا اخترت هذه الفئة: المرأة التي تعول الأسرة، ومن هى في نظرى المرأة التي تعول؟. أولاً: هي المرأة المسؤولة بالكامل، أو بأكثر من النصف، عن المصاريف الأساسية واليومية للأسرة. وهذه الفئة تضم بالنسبة لى وبناء على بحثى وعملى الميداني: الأرملة، المطلقة، المهجورة والمتزوجة من عاطل، من سكير أو مدمن أو مسجون أو من رجل له أكثر من زوجة، أو من زوج مسافر، ولا يرسل مصاريف المنزلثانياً: لماذا أهتم بهذه الفئة؟.

١ لأن المرأة التي تعول الأسرة، أصبحت تمثل خمس العائلات المصرية. ففي إحصائيات مختلفة، وصلت إلى 29% أو 30 % من كل الأسر، في المناطق الحضرية الفقيرة، وهذا عدد هائل.

2 – إن نظام الأسر الممتدة، لم يعد هو النظام المتبع. ولذا فإن المرأة التي تعول أسرتها، خاصة في المناطق العشوائية والحضرية الفقيرة، وفي ظل الظروف الإقتصادية المتدنية، تحتاج إلى نظام مختلف ومتكامل من الرعاية المتكاملة.

لذا؛ فأنا أهتم بدور المرأة، خاصة التي تعول الأسرة، ونظرة المجتمع إليها، ونظرتها إلى نفسها. والمنهجية الأساسية التي اتبعتها، كانت دراسات حالة، لبعض هؤلاء النسوة. وقد استطعت أن أقيم علاقات وطيدة، مع عدد كبير من هؤلاء النساء. وقد تبنيت إيديولوجية ومنهجية نسوية في بحثى. وعند قيامي بالمقابلات المستفيضة مع المبحوثات. وأنا أعرض عليكم هنا بعض تساؤلاتي، وبعض القضايا التي شغلتني، الخاصة بأسلوب البحث نفسه، وعلاقة الباحثة والمبحوثة.

إذاً، ففي هذه الورقة، سأتكلم فقط عن العلاقة بين الباحثة والمبحوثة، واخترت العنوان التالي: “علاقتي مع أم نادر كيف أثرنا على بعضنا البعض بعد البحث؟.

وهنا أكثر من إشكالية قابلتني، عند كتابة هذه الورقة المبدئية:

أولاً: السيرة الذاتية نفسها. بمعنى آخر، سيرة من؟

ثانياً: إشكالية موقف الحركة النسائية الأكاديمية، أو البحث النسوى من العلاقة، بين الباحثة والمبحوثة.

ثالثاً: موضوع وفكرة ونظرية البحث النسوي في حد ذاته.

سأقوم في البداية بتوضيح الإشكالات الثلاثة، ثم أعرض بعض أفكار عن علاقتي ببعض المبحوثات.

أولاً: سيرة من؟.

إن الكتابة في السيرة الذاتية، هي محاولة لمعرفة المعنى في الحياة، أو محاولة لفهم العالم، من خلال الفرد أو شخصية معينة، وهى أيضًا محاولة لقراءة التاريخ، أو لإعادة قراءته في بعض الأحيان، بصورة أكثر مساواة لفئة معينة (سوزان مجراى ۱۹ المقدمة). وكان المؤرخون هم أول من قام بالكتابة عن السير الذاتية، والاهتمام بها، وكانوا جميعًا من الرجال. ولقد أدى ذلك إلى إحلال تاريخ الرجل محل تاريخ الإنسانية. ولذا فان وجود مؤرخات من النساء أضاف بعدًا جديدًا للتأريخ، والسير الذاتية، ليس فقط بإبراز دور المرأة في التقدم والتغيير، ولكن أيضًا في إبراز دور الرجل، في قهر المرأة، في بعض الأحيان، وفي إعادة قراءة الثقافة الذكورية المهيمنة على المجتمع. إن الاختلاف في التأريخ، وكتابة السير الذاتية، بين الكتاب الرجال والنساء، ليس فقط اختلاف في الأسلوب، وإنما في الجوهر. فالمرأة تتكلم عن النفس من خلال العلاقات الأخرى، بينما يتكلم الرجل عن الفرد الذكر، على أنه ممثل للآخرين وللإنسانية (مجراث…). إن التأريخ النسوى، وكتابة السيرة الذاتية لابد أن يكونا ثوريا بالنسبة إلى الوضع الراهن، مؤكدًا للإيديولوجية الذكورية المسيطرة على العالم، والتي حجمت دور المرأة (جوى هوتن المقدمة).

فكل قراءاتي في موضوع السير الذاتية وهى قراءات مبدئية تؤكد شيئًا مهمًا، وهو أن كل الأبحاث عن السيرة الذاتية للسيدات اللائى كان لهن دور سياسي أو أدبي قيادى وكبير وليس عن السيدات العاديات، وهن الأكثرية. وأنا لا أقلل من السير الذاتية للسيدات المشهورات اللائي لهن دور في المجتمع، ولكن دول اللى عدواً“. وفي الغالب كان هناك دائماً دور أساسي لرجل في حياتها، سواء كان الأب أو الزوج، يساعدها، وكان متفهما لذا ظهرتونجحت…..

ولكن غالبية السيدات المقهورات، كان الرجلهو سبب قهرهن. فهل أعتبر مقابلاتي، وتأريخي لحياتهن اليومية، في المناطق الحضرية الفقيرة، سيرا ذاتية لنساء مقهورات أم لا؟.

إن أهم ركائز البحث النسوي، وهدفه الأساسي هو تمكين المرأة من إظهار تجربتها الشخصية، ودورها في التاريخ وفي مجتمعها. إن كل الدراسات تؤكد أن المرأة كانت صامتة وغير مرئية، في الأبحاث الإنسانية والتاريخية، في العالم كله، حتى بداية السبعينيات، بظهور فكر وأساليب البحث النسوى. وكان أساس هذه الإيديولوجية الجديدة هو عمل بحث عن النساء، مع النساء، على يد باحثات نساء“. وركز هذا الفكر، على عدم استغلال المرأة المبحوثة، وعلى التأكد من مشاركة المبحوثة في البحث (واختلفت الآراء عن كيفية المشاركة)، وأيضًا على أن تقدم الباحثة، نتائج البحث للنقاش، مع المبحوثات أنفسهن.

وهناك رأى أن البحث ليس نسويًا إن لم يؤد إلى تقوية وضع المبحوثات الاجتماعي، وتقوية وضعهن في المجتمع، وتغيير أوضاعهن السيئة، أى تغيير أسباب القهر (Wise and Maguire)، وآراء أخرى أكدت على مشاركة المبحوثات في وضع أسلوب وأسئلة البحث نفسه، وآراء صممت على أن البحث النسوى هو البحث الكيفي وليس الكمي(The qualitative methods and not the quantitative methods). والشيء المؤكد أن أساس كل هذه القوانين للبحث النسوى، هو التأكد من أن العلاقة السلطوية بين الباحثة والمبحوثة، لابد أن تختلف في البحث النسوى، عنه في البحث التقليدى الذكوري؛ فلابد أن تعرف الباحثة، أنها ليست أفضل أو أكثر خبرة من المبحوثة، وأن تبنى على تجارب المبحوثة، وألا تفترض أن هذه التجارب مادة علمية فقط. بل تحاول أن تتعلم منها، وأن تؤمن الباحثة أن العلاقة متبادلة؛ أى أنها تستفيد علمياً وعمليًا من المبحوثة، كما أن المبحوثة تستفيد منها.

وكما سأذكر بعد قليل، حاولت بطريقة مباشرة وغير مباشرة، أن أتبع هذه التعليمات. أولاً: لأني أؤمن بها فعلاً. وثانياً: لأني أردت أن أكون عادلة ونسوية في تفكيري وبحثي. عملت على أن أتجاوز العقبات بينى وبين المبحوثات، وخاصة العقبة الطبقية. أدركت أن للمبحوثات تجارب حياتية، ونظرة عملية للمجتمع ولحياتهن، مختلفة عنى، وثرية للغاية، ومن الممكن فعلاً أن تفيدني في حياتي، وأدركت أن تجاربنا المختلفة، لا تجعل أحدًا منا أكثر أهمية من الآخر.

إن أهم ركائز الفكر النسوى، هو أن المرأة مقهورة في هذا العالم الذكورى، ولكن هذا القهر ليس ضرورياً، أو ناتجًا عن الطبيعة، وإنما هو نتاج النظم الاجتماعية السائدة، وبذلك يمكن القضاء عليه، (ستانلى و وایز ۱۹ وروبرتس ۱۹). من هنا.. من أهم أهداف البحث النسوي، تمكين المبحوثة من خلال التأكيد، على أهمية خبرتها الحياتية، ودور النساء في المجتمع. تقول (ماجوير ۱۹۸۷): إن البحث النسوى لابد أن يمكن المرأة، وأن يقودها إلى الخلاص.

ومع ذلك، فهناك بعض النقد للبحث النسوى نفسه، بأنه لا يلغى العلاقة السلطوية، بين الباحثة والمبحوثة. تقول بعض الباحثات النسويات، إن البحث التقليدي، كان يتجاهل العلاقة السلطوية، وإن البحث النسوى يلغى ذلك، ولكن ستانلى ووايز يقولان: إن البحث النسوى الأكاديمي، يخلق جدارًا وخطًا فاصلاً بين الباحثات من ناحية، والمبحوثات من ناحية أخرى؛ حين نعطى نحن الباحثات الأكاديميات لأنفسنا حق خلق النظريات، عن قهر الأخريات، وتظل الأخريات مبحوثات فقط، ونحدد دورهن في التعبير عن التجارب الحياتية“. وبذلك يكون دورهن سلبيًا (۷، ۱۹۹۳).

ولكن المساواة المنشودة بين الباحثة والمبحوثة والـ egalitarian power relations لم أستطع الوصول إليهما، على الرغم من محاولاتي المستميتة سؤالهن النصح بصدد حياتي الخاصة، في الوقت الذي اعتبرن فيه أنفسهن أكثر معرفة منى في مسائل الحمل، العلاقة الزوجية الخاصة، ومواضيع الختان والدخلة البلدى، وأيضاً معرفتهن بتاريخ منطقتهن، وتقاليد هذه المنطقة: “حتتنا وسلونا غيركم خالص. لازم نفهمك“. بالرغم من كل ذلك ظللت أنا النافذة (المنفذ للعالم الخارجي) للسماء، أى ظللت بالنسبة إليهن منبعًا للمعرفة عن العالم الخارجي، وأصبحت ملاذا لهن في حل مشاكلهن الخاصة.

ومن هنا سؤالي: هل كانت ومازالت بيننا علاقة متساوية؟. كيف؟. ثم هل لابد أن أشركهن في اختيار أسلوب ووسائل البحث، وكيف؟. وهل أسعى فعلاً إلى التغيير، وكيف؟. وإن لم أفعل ذلك، أأكون غير نسوية؟.

هذه التساؤلات تقودنا إلى الإشكالية الثالثة، وهي ما البحث النسوى فعلاً؟

هل هو فقط البحث الذي تقوم به النساء، عن ومع النساء، أم البحث الذي لابد أن يقود إلى التغيير، وتمكين المرأة المقهورة؟. ليز ستانلى وسو وايز ۱۹۹۳ مثلاً، من رأيهما أنه لا يمكن أن يقوم رجل بعمل بحث نسوى؛ لأنه لا يستطيع أن يشعر بما تشعر به النساء المقهورات، من تهميش واضطهاد. والبحث النسوى يعتمد على مشاركة المبحوثة، في تحديد المشكلة وأسلوب البحث، وطريقة الحل، طبقاً لما جواير ۱۹۸۸، وستانلی ووایز ۱۹۹۳.

تقول مور ۱۹۸۸: إن البحث النسوى يسد فجوات في العلوم الإنسانية عن المرأة؛ لأن معظم الأبحاث التقليدية، قامت من منطلق ذكوري، وأن الوحدة التحليلية كانت الرجل بصفته ممثلاً الإنسان، وبالتالي، كانت النتائج التي يصلون إليها، تعمم على كل الناس، متجاهلين التجارب الحياتية والشخصية المختلفة للمرأة. ومن ثم بدأت الأبحاث النسوية عن المرأة، وعن تجاربها، وتفسيرها الخاص للعالم.

ولكن هناك مدرسة أخرى، تقول: وماذا عن الرجل؟. فإن قهر المرأة يضم دوري المقهور والقاهر، ولابد أن تدرس المرأة في علاقتها مع الرجل، وموقف الرجل وحضارته وفهمه لدوره؛ حتى نستطيع تمكين المرأة، وتغيير الأوضاع.

كل هذه مدارس مختلفة ومتداخلة للفكر والبحث النسوى؛ أيهما أنتمى إليه؟. والسؤال الأفضل: أيهما أستطيع فعليًا، أن أطبقه في البحث الميداني؟.

لقد اخترت أن يكون بحثي عن المرأة، ومع المرأة في معظم الوقت. ولكني طبعاً سأبحث المؤسسات الذكورية التي تقهر المرأة، خاصة مؤسسات الرعاية الاجتماعية، لذا فأنا أتعامل مع الرجل في هذه المؤسسات الرسمية وغير الرسمية، أيضًا وعلى الرغم من أن وحدة البحث، هي المرأة المسئولة عن الأسرة، وجدتني أيضًا أقابل الأزواج العاطلين والأرزقية، لبعض هؤلاء النساء. وأيضاً بعض القادة الشعبيين كي تكون عندى فكرة وصورة متكاملة للمجتمع موضوع البحث، ولكل عوامل قهر المرأة في هذا المجتمع.

ووجدتني أيضًا أحاول أن أكون نسوية، في معاملتي مع الرجال كما مع النساء، فحاولت كسر العوائق الاجتماعية، واحترام ثقافة وتجارب الرجال المبحوثين، مثلما عملت مع المبحوثات.

وقانون أن تكون الباحثة امرأة، فأنا أؤيده: فعلى الرغم من الاختلاف الطبقي والتعليمي وإدراكي اختلاف تجاربنا، ونوعية القهر الذي نتعرض له، إلا إنني أوافق إلى حد كبير على أن شعوري وفهمي القهر، سيكون مختلفاً وربما أكثر قربًا للمبحوثة، عن لو كان الباحث رجلاً.

ولكن أيضًا للاختلاف الطبقي، والمستوى التعليمي، والتجربة، أثر على شعورى بقهرهن، أو ما يتعرضن له من القهر مما قد يجعلني أكثر احساساً ورفضاً، لما يتعرضن له، أو يجعلني أرى في الموضوع أكثر مما هن يشاهدن فيه.

مثلاً: كثير من الرجال يجعلون مصروف البيت يوميًا، وعلى حسب مزاجهم، يعطون زوجاتهم المصروف اليومي. بالنسبة إلى، أشعرني هذا بالغضب، وشعرت أنهم يذلون الزوجات.

النساء تغلبن على هذا بالادخار من وراء الزوج، وبربط المصروف بالاستجابة لطلبات الزوج الجنسية.

ولكن الإشكالية الأساسية بالنسبة إلى، هى موضوع المساواة، والعلاقة السلطوية بين المبحوثة والباحثة. وهنا أقصد إلى أى حد غيرت أنا من حياة المبحوثات، أو أثرت عليهن، وإلى أي حد تأثرت أنا؟.

وهنا سأذكر حالتين: الأولى، أم نادر وعلاقتنا الثرية. ومن الممكن أن أقول إنها نوعاً ما متساوية. والثانية، حكاية شادية وكيف أن ما أشك في أنه تأثيري الذي مارسته على شادية، وحياتها؛ يجعلني لا أنام.

لقد تبنتني أم نادر، وقررت أن تكون مرشدة لى للمنطقة، وقررت – أيضًا أن أكون واحدة من العيلة، فدخلت معها في كل مشاكل حياتهم، تدخلت في اختيار عفش عروسة ابنها، وأى عريس تختاره لابنتها. وتدخلت هي أيضًا في حياتي. نصائح عن علاقتي الخاصة جداً بزوجي، وأعمل إيه ليلة الجمعة“. نصائح إنى لازم أخلف، وأعمل إيه من (۱) الشبة (۲)، زيارة المقابر، و(۳) الذهاب إلى الشيخ المبروك.

ولكن من هي أم نادر؟. إنها صورة حقيقية لبنت البلد و للمرأة الشعبية، ولكن المرأة غير المقهورة، وإنما المتصرفة والحاكمة بأمرها.

لقد اختارت أم نادر أن تكون هى المسئولة عن أسرتها بمحض إرادتها، ولم تكتف بأن تكون مسئولة عن زوجها وأولادها فقط، ولكنها رعت أهلها عند الكبر، وأيضاً زوج أختها نفسه عندما مرض. إن شخصية أم نادر، شخصية قيادية تعلمت أن تشق طريقها في الصخر، وهي ذات ذكاء حاد، تعرف كيف تصرف أمورها. وعلاقتي بأم نادر، بدأت عندما لاحظت أنا فيها الصفة الريادية، ولاحظت هي في أن علاقتها بي واحتياجي إليها كمرشدة لي، سترفع من مكانتها في المجتمع. من المهم جداً، أن تفهم علاقتي بأم نادر، من هذا المنظور. فمن بين كل المرشدات لي في المنطقة، والمبحوثات في آن واحد، كانت علاقتي بأم نادر، أكثر العلاقات المتساوية. ولا شك أن كفتها هي كانت رابحة في أوقات كثيرة. لقد أيقنت هي، أن بتواجدها معى طوال الوقت، وإرشادها لى عن النساء المستهدفات للبحث، ستكون قد أدت خدمة لي، ولهن في آن واحد، وتكسب بذلك مكانة معى ومعهن. وعلى الرغم من أنني أكدت لهن، أنني لن أستطيع تقديم العون، إلا أن مجرد وجودى كان يعنى لهن أنه يوجد من يهتم بمشاكلهن، وبما يتعرضن له من قهر وتهميش. ويكونها حلقة الوصل بعض المبحوثات في منطقة سكنها، خلقت لنفسها دوراً محورياً.

وتلعب أم نادر هذا الدور باستمرار، لعبته معى فكانت أيضًا حلقة الوصل بين الجمعية الأهلية في المنطقة، والأهالي، بل أكثر من ذلك، كانت هى من تخبر المرضى والأرامل الجدد، عن برامج وخدمات الشئون الاجتماعية، وفي بعض الأحيان تذهب معهم، وترشدهم للمكاتب المختصة. وفي نظير ذلك، كانت أم نادر أكبر مستفيدة، من كل هذه الخدمات، وهي من يطلق عليها محترفة المساعدات؛ فكانت تعرف تملأ الإستمارات، وما الأوراق المطلوبة، ومواعيد صرف جميع المنح.

ولكن لابد أن أوضح، أن كل ذلك ساعد في إعجابي وانبهارى بها كمثال للمرأة التي تتغلب على كل الظروف، مهما كانت سيئة، وتحولها في صالحها. وهى كانت تساعد المحتاجين، وتقود النساء إلى كل الخدمات الحكومية وغير الحكومية، تطلب نظير كل ذلك فقط، الاعتراف المعنوى بدورها المحورى والريادي. أما بالنسبة إلى تلقيها المساعدات فهي تستحق؛ فزوجها رجل أرزقي فقد فرص العمل؛ نتيجة التغيرات الاقتصادية في الأعوام الأخيرة، وحالة الكساد.

والسؤال هنا: هل أثرت أنا على أم نادر؟. وكيف؟.

لا أظن إلا في بعض الأشياء السطحية، مثل ملابس ابنتها، والذوق العام في طلاء حوائط الغرفة، التي تعيش فيها، وشراء أثات ابنها. أما هي، فإني أعتقد أن تأثيرها على كان كبيرًا.

فرؤيتي للحياة وللعلاقات الإنسانية، تغيرت. لقد كنت سئمت العناية بكل أقاربي، وأحسست أنني تعبت من المسئولية تجاه خالاتي وأمى. بعد ما سمعت قصة أم نادر ودورها مع أمها، التي لم تكن حنينةوتفهمها لماضى وظروف تربية أمها: “والدتي اللي رباها مرات خالها؛ أمها ماتت وهي صغيرة وما شافتش حنية ما كانتش زى أى أم كانت عنيدة – بس أنا قررت إني أعوضها عن الحنية اللي اتحرمت منها“.

أعادت إلى أم نادر إحساسي بالعائلة صحتنيمن التذمر، من العلاقات الأسرية الشخصية بأسرتي وأصدقائي.

مقهورة ومهمشة طوال حياتها، وجدت شادية في أنا، فرصة لحلمها؛ ولتطلق لخيالها العنان.

لقد روت لى حكايات عن نفسها، ومعاناتها، وأيضاً كانت تروى لى قصصًا أخرى خيالية، تعبر عما تريد أن تكون. ووجدت شادية أننى فرصتها؛ لتروى لى أحلامها، على أنها حقائق. ولأننى كنت مستمعة جيدة لها، ولم أقلل من شأنها، كما يفعل أهالي المنطقة، ولا أنتقدها، أطلقت شادية العنان لخيالها في ابتكار حياة، أو بالأحرى ماضٍ في بعض الأحيان، جميلة ورائعة، وفي البعض الآخر، تعبر عن مشاكلها الحقيقية؛ فتأتي بقصص كئيبة وتعيسة.

وكانت تضع نفسها، في الدور الأساسي والمحوري في قصصها، وبذلك تتلافي التهميش الذى تعودت عليه. من خلال الخيال، خلقت شادية لنفسها، كينونة وشخصية ودورًا مختلفًا، حققت فيه انتصارها على العوائق والعادات والظروف التي قهرتها أولاً.

كانت مسلحة بحرية أن تقول ما تريد؛ لأننى في علاقتي معها، لم أوقف خيالها، أو أعرقل أحلامها، وتركتها تقول ما تشاء. ومن خلال هذه الحرية، في الكلام والفضفضة، استطعت أن أعرف عن شادية أشياء كثيرة، لم أكن لأعرفها، لو اقتصرت العلاقة على حكايتها الحقيقية فقط، وعرفت طموحاتها وما تأمل فيه، وعرفت أيضًا نوعية الضغوط والتحديات limitations التي تتعرض لها النساء الفقيرات.

ولكن علاقتي بشادية، علاقة معقدة، أمامي اعترفت شادية بعدم سعادتها الزوجية والجنسية، وبحثها عن الحب والنشوة مع رجل آخر، وأمامي تحولت شادية من امرأة مطحونة مغلوبة على أمرها، تشتغل خادمة في البيوت، إلى عاشقة. أولاً ثم أظن إلى عاهرة. خلال أربعة أشهر، كنا نلتقى ثلاث مرات أسبوعياً، وكانت هى التي تأتى إلى في مكتبي في الجمعية، وكنا نتكلم أو بالأصح هي تتكلم لمدة لا تقل عن ثلاث ساعات أو أكثر. وفي خلال هذه المدة، لونت شعرها ميشيت، ووضعت روج، و لبست أفرنجي“. في خلال هذه المدة، تبدلت السيدة النحيلة القصيرة، التي كانت تربط منديلاً على رأسها، وتلبس قميص نوم بلديا، إلى فتاة أخرى، وبدأت أنا لا أنام.

في المرة الأولى، حكت لي شادية عن طفولتها، وكيف رماها أبوها لتشتغل خادمة، منذ أن كان عمرها ست سنوات، وكيف تعلمت شرب البيره والسجائر، عند هؤلاء الناس؛ لأنهم هاي، کانوا بيشربوا، ومش زى الغجر أهلها، أو بتوع الحتة اللى مايفهموش الحاجات دى.

(رأيها طبعًا أنا بافهم لأننى أنا كما في رأيها، ناس هاي) وقالت إنها تعلمت الشرب لأنها كانت وحيدة، وتبكي، والست إدتها سجائر وبيره علشان تنسى، إزاى أبوها وأهلها رموها رمية الكلاب….

مهم جداً أن أشرح كيف تعرفت على شادية: كنا جالسين في مكتب الهيئة، وجاءت وسألوها عن أحوالها مع زوجها، قالت مادمت تعطيه “argent” أي نقود بالفرنسية، فهو بيسكت، وعندما قلت لها: “يا سلام إيه النطق الحلو ده، فجلست وبدأت تحكى لي كيف إنها تربت في مصر الجديدة، وكانت تذهب إلى الليسيه مع ابنة الست، التي اسمها آنا، وانها كانت تلبس آخر موضة، وإنها سافرت إلى فرنسا وأمريكا وأبو ظبي، وأنها غير أهلها وغير الناس بتوع زينهم. ولحظتها سألتها: لو أن آنا دي كانت متبنياها ولا إيهوحينئذ اتكلمت شوية عن أمريكا، ثم قالت لي: “تعرفي أهلي عمرهم ما حبونى، وأبويا هو اللي وداني عند آنا، وسابني، ومع ذلك أختي عايرتني وقالت لى يا خدامة“. لم تقلها مباشرة، وإنما حكت لي حكاية عن أختها ولكن بعد ذلك تبلورت علاقتنا، أصبحت أكثر صراحة.

حاول أبوها أن يزوجها من رجل له ضعف عمرها، وهى في التاسعة عشرة؛ لأنه غنى فرفضت، وهربت.

شعرت أنها غير أهلها، فهي متربية عند ناس هاي، وباعرف فرنساوي، وباكل في طبق لوحدى، باشرب بيرة وسجائر، وبطلت الخمرة بعد معاناة“.. وهربت شادية، واشتغلت في غرز شاي، وسافرت مع واحد إلى الصعيد؛ لأنه وعدها بالزواج، ولكنه لم يتزوجها. ولكنها تقول إن الداية قالت لأهلها: “إنها كانت ساعتها لسه بنت بنوت، وأخيراً من كتر معاملة أهلها الوحشة، هربت مرة أخرى، وتزوجت واحدًا من الشارع وتصفه بأنه أسود ووحش، ولكنها كانت تبحث عن أي قشة تتعلق بها؛ لأنها كانت غرقانة ووحيدة. ولكن هذا الزوج توقف عن العمل، وأخذ يضربها حتى تقترض نقودًا من الجيران، علشان يقامر“. وبدأت تسرق من البيوت التي تخدم فيها، ولما قابلتها بدأت تحكى عن حبيبها“. وفي الأول، كان حبا من بعيد لبعيد، من واحد في الحتة بعد عدة جلسات، بدأت شادية تحكى لى عن الدكتور اللي في الجامع اللى بيحبها هوه وصاحبه، وعندما لم تجد عندي أى اعتراض مباشر حكت لي عن ضعفها معه على رغبتها في أن تبدأ علاقة معه.

ثم بدأت العلاقة، وتبدلت شادية. كما قلت من قبل. وبدأت أنا أقلق!. هل كان لي دور؟. هل بصمتي شجعتها؟. هل كان لابد أن أنصحها بالعكس؟. ولكننى باحثة ليست مهمتی إصدار الأحكام الأخلاقية، على سلوك المبحوثين، وكذلك لا أستطيع أن أسدى إليها نصيحة معينة!

وهل كان صمتي، واعتقادها أن أنا من الناس الهاي” – “فعندى الحاجات دى عادى“. هل كان هذا عاملاً مشجعًا لإنحراف شادية؟.

لقد كانت تأخذ نصيحتي تلبس إيه، وهى تقابل حبيبها، ثم اختفت شادية، وتركت زوجها، وأخذت ابنها، وتركت المنطقة. امرأة أخرى بتلبس على آخر موضة، شعرها ميشيت، وواثقة من نفسها. اختفت ولا أعرف أين هي ولكن قلبي يقول إنها تحولت إلى عاهرة“… ولازلت لا أنام.

* – إيمان بيبرس: مديرة برامج بمنظمة اليونيسف وتحضر لدرجة الدكتوراه في التنمية بجامعة ساسكس بإنجلترا.

1-Badran, Margot. 1991 “Competing Agenda: Feminism, Islam and the State in Nineteenth and Twentieth Century EgypL. “in Women, Islam and the State ed. by Deniz Kandiyo.,

2- Bahie El din, Amira. 1994, “A legal Study on families supported by Women “Paper Presented at conference on Women Headed Houscholds. Cairo, Population Council, 20 March.

3- Barett, Michele and Mclntosh, Mary. 1985, “Ethnocentrisn and Socialist Feminist Theory” in Feminist Reveiw. No. 2 Summer pp. 23-48.

4-Becker, H.S. and Geer, B. 1982, “Participant observation: The Analysis of Qualitative field data.” in Burgess, R.G. Field Research: A source book and field manual. Allen and Unwin. London. pp. 239-25 1.

5- Brown, Sarah G. 1991, “Ncw Writing on women. politics and social change in Gender and Politics: Are the changes for the berer? Merip no. 173.. Pp. 29-34.

6-Brown, Wendy, 1982, “Finding the man in the state.” Feminist Sradies. (Vol. 18. No. 1. Spring).

7-Burgess, R.G. 1982. “Keeping Field Notes in Burgess R.G. ed. Field Reseurch: A source book and field manual. Allen and Unwin. London. pp’ 191-194.

8-1982, “Styles of Data Analysis’ Approaches and Implications.” in Burgess R.G. ed. Field Research: A source boot and field munual. Allen and Unwin. London.

9-1984, In the field: An introduction to field reseurch. london, Geunge Allen and Unwin.

10-Buvinic, Mayra and Gupta, Geeta Roa. 199-4. Targeting poor women heael households and woman maintaincd families in devekoping untries: Vieus on a policy dilemma”. Paper presented to Population Council,, International Centre for Rescarch on Women Joint Program on Female Headship and poverty in Developing Countries. February pp. 1-58.

11-Buvinic, Mayra. 1993. “The Feminization of Poverty?: Research and policy necds”. Symposium on Poverty; New Approaches to analysis and policy; Geneva,

12- Buvinic, Mayra. 1984, “Projects for Women in the third World: Explaining their misbehaviour.” USAID, April. pp. 1-29.

13- Farah. Nadia, R. 1986. “Religious Strife in Egypt: Crisis and ideological conflict in the seventics.”.

14- Fergany, Nader, 1993. Characteristics of Women Headed Households In Egypt. AIMishkat, Centre for Research and training, May 1993.

15-Silverman, Dan. Interpreting Quantitative Data: Methods for Analysing Talk, Text and Interaction. London: Sage, 1994.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات