إذا نظرنا إلى بداية الفن عند الإنسان البدائي، أو على سبيل المثال عند المصري القديم، نجد أن اللغة بالنسبة إليه كانت عبارة عن رموز ورسوم مجردة. ولتسجيل الحياة اليومية بتفاصيلها وأحداثها قام المصري القديم بالرسم على الجدران لكى يوصل افكاره وخبراته، وهكذا نجح في أن يوصل عصره بعصرنا. وبالمثل يمكن للفنان في عصرنا أن يستخدم الفن أيضًا كوسيلة لتوصيل أفكاره ومشاعره بطريقة أعمق لكي يؤثر بشكل قوي وعميق على ثقافة مجتمعه.
وبنقل فكره للمجتمع من حوله يكون قد أثبت – بشكل أو بآخر – ذاته وجعل الآخرين يشاركونه جهة نظره بشكل غير مباشر. ولذلك فمن وجهة نظري فإن الفن يعتبر من الأساليب الحساسة جدًا التي تستدعي نوعًا معينًا من المتلقين الذين يتمتعون بحس فني، أي يمتلكون أسلوبًا مختلفًا للنظر للأشياء، فهناك الكثير ممن يمتلكون حاسة البصر ولكن قليلاً جدًا من يرى ما وراء الأشياء.
مر الفن التشكيلي بمراحل مختلفة. ومع بداية القرن العشرين الذي كان يعتبر نقطة تحول في تطوير الفنون التشكيلية، طرح سؤال هام، وهو: هل الفن تقليد أم إبداع؟ بمعنى هل يقلد الفنان الطبيعة ويحاكيها أم يبدع في تصويرها؟ باستعراض عصور الفن المختلفة حتى المدرسة التأثيرية نجد أن العالم الخارجي، أي الطبيعة، كان مرجع الفن والفنانين، حيث كان الفنان يرسم أدق التفاصيل، ولا يترك مساحة لوجهة نظره هو فيها، فكان الناتج أقرب إلى الحرفية وخاليًا من الإبداع. بمعنى ما كان مجرد تمرين على التقاط الصورة كما هي. هذا بالطبع لا ينفي أن الفنانين في هذه المرحلة قد وصلوا إلى مرحلة متقدمة في نقل الطبيعة.. ولكن في رأيي أن هذه المرحلة الأكاديمية من النقل ومراقبة الطبيعة ما هي إلا مرحلة يجب أن يمر بها أي فنان في البداية قبل أن يتفرد بأسلوبه الخاص في ما بعد.
تحرر الفنانون بعد ذلك من فكرة نقل الواقع كما هو. وأثيرت قضية كون الحقيقة الفنية موضوعية أم ذاتية؟ أي هل يقتصر الفن على تقليد الواقع أم ينقل الفنان الواقع بعد أن يضفى عليه خبراته الذاتية. والحقيقة أن الإنسان يكون مع بيئته وحدة جديدة فهو يتفاعل باستمرار معها، يأخذ ويعطي، والأخذ والعطاء معناه أنه لا يراها بالعين فقط، بل يدرك العلاقات التشكيلية محملة بانطباعاته الخاصة، أي يراها بالعين المحملة بالتجربة الفنية الذاتية. ولذلك نجد أن الأعمال الفنية تختلف من فنان لفنان وفق خبراته وفلسفته ووجدانه. وتعتبر أعمال هنري ماتيس من خير الأمثلة على التحول من العالم الموضوعي إلى الإبداع الفني المميز. وهكذا كان القرن العشرون من وجهة نظري الخاصة أكثر وعيًا بالحقيقة الفنية وطبيعتها وكون الحقيقة الفنية موضوعية ذاتية، مما مهد لظهور المدارس الحديثة التي سوف أحدثكم عنها في العدد القادم.