دُهشت كثيرًا لما نشره الأستاذ فهمي هويدي في مهاجمته لمؤتمر السكان في جريدة الأهرام ويكلي (العدد ١٧٦) ليس لأنني أعتقد أن مؤتمر السكان سوف يأتي بالحل السحري لكل مشاكلنا، السكانية منها وغير السكانية، ولكن لأننى عهدت الأستاذ هويدي كاتبًا دقيقًا حريصًا على المعلومات التي يُناقشها ويعرضها، وقد احترمت دقته رغم اختلافی التام تقريبًا مع تحليله ونظرته إلى الأمور.. ولذا دُهشت كثيرًا لأن ما كتبه الأستاذ فهمي هويدي لا يُمكن أن يترتب على قراءة الوثيقة، حيث أنها لا تتضمن الكثير من النقاط التي هاجمها بشراسة ..
فإذا كان الأستاذ هويدي قد قرأ الوثيقة، لكان أغضبه فيها الكثير من التصريحات الأخرى (المتحفظ عليها وغير المتحفظ) التي تحدُّ من مسؤولية الحكومات نحو رفاهية شعوبها، والتي توصى بخصخصةٍ شبه كاملةٍ لعملية التنمية.. كنت أتمنى أن يأخذ الأستاذ هويدي موقفًا من تلك القضايا، فيناقش الفقر والحرمان والالتزام السياسي والأخلاقي للحكومات نحو توفير الغذاء والسكن والتعليم والرعاية الصحية لشعوبها .. ولكن الأستاذ فهمي هويدي يُصرُّ على التركيز على ما يُصرُّ على إدراجه تحت عنوان: الموضوعات المفروضة علينا من الغرب، مثل الإجهاض والثقافة الجنسية لكل الأعمار بما فيها المراهقين.. ومن هنا أجدني مضطرةً أن أركز بدوري على هاتين النقطتين..
وبدايةً فليطمئن الأستاذ فهمي هويدي إلى أننا كنساءٍ مصريات مهتمات بقضايا النساء والتعبئة من أجل الدفاع عن حقوقهن والحصول على تحررهن، يستفزنا مثله تمامًا – إن لم يكن أكثر – تلك الصور النمطية التي تُصاغ لأمم بأكملها أو ثقافات بأكملها، كما يستفزنا أشكال وبرامج التنمية التي تفرض فرضًا في أحيانٍ كثيرة على بلدان العالم الثالث.. غير أن استفزازنا مرجعه رفضنا للهيمنة.. فلا يتأثر هذا الاستفزاز، فيقلُّ أو يزيد تبعًا لهوية من يُمارس الهيمنة، غربيًا كان أو شرقيًا، حكوميًا كان أو غير حكومي، خارجيًا كان أو داخلي، صادر عن أي قوة سياسيةٍ تبغى الهيمنة سواءٌ استخدمت الدين أم لم تستخدمه لتسيطر على البشر وتدفع بهم دفعًا إما بعيدًا أو نحو اختيارات بعينها..
إننى أعتقد أن هذه الموضوعات المنعوتة بالغربية، هي موضوعاتٌ شديدة الأهمية بالنسبة لصحة المرأة المصرية، وحمايتها من الاستغلال والانتهاك.. لا بأس أن يتكلم الناس فيهاجمون خدمات الإجهاض الآمن، واضعين رؤوسهم في الرمال لكي لا يرون المئات، بل وقد يكون الآلاف من النساء المصريات، الفقيرات، المسلمات منهن والمسيحيات، اللاتي يضطررن للإجهاض لأسبابٍ تتراوح بين انعدام المعرفة بأساليب منع الحمل، أو فشل الوسيلة المستخدمة، أو الفقر الذي يُجهض ويقتلُ دون إذن من شرعٍ أو قانون، أو انتهاكٍ بالنساء اللاتي يحملن نتيجة اغتصابٍ من غريبٍ أو قريبٍ أو محرم.. مشكلة هؤلاء النساء لا تمكن في أن أطباء مصر قد أخذوا موقفًا أخلاقيًا من الإجهاض، فلا يجرون عملياته.. مشكلتهن أنهن لا يملكن الثلاثمائة أو خمسمائة جنيهًا مصريًا ليحصلن على إجهاض “ممنوع قانونًا ” في واحدةٍ من عيادات القاهرة الأنيقة.. هؤلاء النساء يلجأن إلى كافة الوسائل للحصول على الإجهاض – الذي هو أقسى ما يكون عليهن أنفسهن – فيرفعون الأحمال الثقيلة ويُدخلون الأجسام الغريبة والملوثة إلى داخل أرحامهن للتخلص من حملهن غير المرغوب فيه .. ولا أتصورُ أن هؤلاء النساء سوف يرين شيئًا “غريبًا ” في معاناتهن ولن يعتبرنها ” مؤامرة غربية ” إذا وفرت لهن خدمات الإجهاض الآمن مجانًا، وبدون تكلفةٍ في مستشفيات وزارة الصحة، بدلاً من مستشفيات الفندقة ذات الخمس نجوم..
كذلك قد يكون من المريح للأستاذ فهمي هويدي وآخرين أن يؤكدوا على التقاليد والأخلاق المصرية العريقة التي تمنع العلاقات الجنسية في سن المراهقة، وأن يُعلنوا أن هذه لا تشكل مشكلة محلية، ولكن هناك يا سيدي ظاهرة شديدة المحلية قد تؤرق هذه الراحة.. ظاهرةُ المئات من الفتيات المصريات اللاتي تتراوح أعمارهن ما بين 10 و 16 سنة يُباعون في زيجاتٍ صيفيةٍ لأغنياء الخليج، وعادةً ما يعود هؤلاء” الأزواج ” إلى بلادهم تاركين “زوجاتهم” إما بجنينٍ في أرحامهن أو بدون، إنما في كل الأحوال يتركونهم بخبرة زواج لم تكن لديهن الفرصةُ في يومٍ – أو المعلومات الكافية في كثير من الأحيان – ليرفضوها ..
سواء كان هناك مؤتمرٌ للسكان أو لم يكن.. فإن قضايا الصحة الإنجابية للنساء وحقوقهن المنتهكة هي واقعٌ وحقيقةٌ مصرية لا تضاهيها سوى حقيقة المعاناة البشرية المصرية المترتبة على الفقر والقهر والجهل وانعدام الموارد .. وإذا كان المؤتمر سيوفر لنا منبرًا نقول فيه لصفوة بلادنا وكل البلاد، من كل الاتجاهات والأفكار، ما لا يريدون أن يسمعوه أو يروه، فإننا نرحب بهذه الفرصة وسوف نستخدمها .. وبغض النظر عن انعقاد المؤتمر فإننا سوف نبحث عن منابرنا، وسوف نجد منابرًا بديلةً لنقول كلمتنا، والاختيار هنا ليس اختيارًا بين معسكر الشرق ومعسكر الغرب، وإنما هو اختيارٌ بين مصالح الشعوب ومصالح حاكميها، وواضعي السياسات التي تحكم هذه الشعوب، ما بين المؤسسات العالمية – التي إنما وجدت لتتحكم في مصائر حياتنا، نساءً ورجالاً – وبين هؤلاء النساء والرجال الذين لا خيار أمامهم سوى الخضوع أو المقاومة.. وقد اخترنا المقاومة.. وإننا لنتمنى أن ينحاز الأستاذ فهمي هويدي إلى المعسكر الصحيح. وإلا قد يطرأ على الأذهان، ولو من باب الخطأ، أن غضب الأستاذ فهمي هويدي إنما جاء صدى لغضب آخر صادر من الغرب .. وتحديدًا من الفاتيكان. (نشر هذا المقال باللغة الإنجليزية في جريدة الأهرام ويكلي في العدد ١٧٨)