قوانين الأحوال الشخصية المصرية
دراسة عن عملية الإصلاح للقوانين الجديدة والتطبيق في المحاكم
مقدمة:
في العقد الماضي، تم إصدار عدة قوانين أحوال شخصية جديدة، وقد كانت لهذه القوانين أهمية كبرى بالنسبة للمرأة المصرية. على سبيل المثال في عام 2000 تم إصدار قانون رقم (1) الخاص بتنظيم إجراءات التقاضي، وقد احتوى هذا القانون على مادة (رقم 20) والتي تتيح للمرأة حق الحصول على الخُلع دون موافقة الزوج مقابل ردها مقدم المهر وتنازلها عن حقها في نفقة العدة والمتعة ومؤخر المهر.
وفى عام 2004 تم إصدار قانون رقم (10) الذي بموجبه تم إنشاء محاكم الأسرة وهي محاكم متخصصة استحدثت استخدام التسوية هي المكملة أو البديلة عن التقاضي. وفي العام نفسه صدر قانون رقم (11) والذي بموجبه أقيم صندوق الأسرة والذي تُصرف من النفقات المستحقة للمتقاضيات بموجب الأحكام الصادرة من محكمة الأسرة. وأخيرًا في عام 2005 صدر قانون رقم (4) الذي مد حق الحاضنة في حضانة أولادها من الذكور والإناث حتي يبلغوا سن الخامسة عشرة.
تعرض هذه الورقة دراسة قام بها مركز البحوث الاجتماعية بالجامعة الأمريكية تحت مظلة المشروع البحثي المسمى بمسارات تمكين المرأة. كان أعضاء الفريق البحثي كالآتي: الباحثة الرئيسية وهي كاتبة هذه الورقة وباحثتان مساعدتان هما سوسن شريف وفيروز جمال.
كان الهدف العام لهذه الدراسة هو إجراء بحث متعدد الأوجه على عملية إصلاح قوانين الأحوال الشخصية في العقد الماضي وإلقاء الضوء على نجاحات وتحديات هذه العملية من منظور: (1) النساء اللاتي يلجأن إلى محكمة الأسرة بحثًا عن العدالة، (2) الناشطات الحقوقيات بمنظمات حقوق المرأة واللاتي يعملن على تحقيق المساواة والعدالة للمرأة المصرية عن طريق الدعوة إلى والحث على إصلاح منظومة قوانين الأسرة.
بدأت الدراسة في يناير 2007 وانتهت في 31 يوليو 2010.
تتكون الورقة من ستة أجزاء:
في الجزء الأول سأعرض أهداف الدراسة والأسئلة البحثية التي وجهت مكونات البحث الميداني.
في الجزء الثاني، أصف المنهجية التي تبناها الفريق البحثي في عملية جمع المادة البحثية والجدول الزمني للأعمال البحثية المختلفة التي قام بها الفريق.
أما في الجزء الثالث، فسأعرض نتائج الدراسة الرئيسة وأناقش دلالاتها.
وفى الجزء الرابع، سأعرض بعض المقترحات للفاعلين المعنيين بحركة إصلاح قوانين الأحوال الشخصية.
أما في الجزء الخامس، فسأتناول مفهومي الجندر والتمكين في سياق هذه الدراسة وأخيرًا في الجزء السادس، سأختم بعرض بعض القضايا والأسئلة البحثية والمستخلصة من نتائج هذه الدراسة والتي في اعتقادي جديرة بالبحث في دراسات مستقبلية.
يهدف قانون رقم (1) لعام 2000 المسمى بقانون تنظيم بعض إجراءات التقاضي في الأحوال الشخصية إلى تسهيل وتقصير عملية التقاضي في النزاعات الأسرية على عكس القوانين السابقة له والتي كانت تحتوي في مجملها على 600 مادة بينما قانون رقم (10) لعام 2000 يتكون فقط من 29 مادة. هذا في حد ذاته إنجاز كبير بما أن المتقاضيات من أشد من يعانين من طول أمد التقاضي ولا سيما في قضايا التطليق والنفقة.
ولكن ربما أهم ما يميز قانون رقم (1) لعام 2000 هو مادة (20) والتي تتيح للمرأة المتقاضية الحق في الحصول على الخُلع عن طريق المحكمة ومن دون موافقة الزوج إذا استوفت جميع إجراءات القضية وتشمل هذه الإجراءات: رد مقدم المهر والتنازل عن بقية حقوق الزوجة مثل نفقة العدة ومؤخر الصداق وأيضًا المشاركة في إجراءات التسوية ومحاولات الصلح التي تقوم بها المحكمة قبل الانتهاء من عملية التقاضي وإصدار الحكم.
الإصلاح القانوني الثاني الذي ميز العقد الماضي هو إصدار قانون الأحوال الشخصية رقم (10) لعام 2004 والذي بموجبه تمت إقامة نظام محاكم الأسرة. وفلسفة هذه المحاكم هي إتاحة الفرصة للمتقاضين لحل نزاعاتهم عن طريق آليات قانونية تسعى إلى تقليل التخاصم والعداء بين الأطراف المتنازعة وحل النزاع بصورة تحافظ على علاقات أسرية صحية. كما تقوم فلسفة هذه المحاكم على جعل عملية التقاضي فعالة وغير مكلفة للمتقاضين. وأهم سمة تميز هذه المحاكم هي عملية التسوية والتي تتم قبل مرحلة نظر القضية أمام القاضي. فطرفا النزاع مطالبان بموجب قانون رقم (10) لعام 2004 بإجراء تسوية عن طريق مكاتب التسوية والتي تشكل جزءًا من هيكل محكمة الأسرة بل وهذه المكاتب موجودة في مباني المحكمة نفسها.
في البداية كان هدف هذه الدراسة هو إجراء بحث عن عملية تطبيق قانون رقم (10) الخاص بمحكمة الأسرة والوقوف على مدى فعالية هذا النظام الجديد في تحقيق العدالة للمتقاضيات. ولكن بعد بضعة أشهر من بدء الدراسة وأثناء مناقشات مع زميلات وزملاء باحثين وآخرين معنيين بقوانين الأحوال الشخصية وهذا أثناء ورشة عمل أقامها الفريق البحثي، تبين لي أنه لكي أستطيع أن أصل إلى فهم متعمق عن عملية إصلاح قوانين الأحوال الشخصية في العقد السابق يتعين علينا أن(1):
ندرس ليس فقط تطبيق قانون محكمة الأسرة وأثره على المرأة بل علينا:
أولاً: أن ندرس جميع أوجه عملية الإصلاح التي من خلالها تم طرح هذه القوانين الجديدة ومناقشتها والجهود التي تبنتها الأطراف الداعية لها والتحالفات والتجاذب الذي تم بين الأطراف المختلفة.
ثانيًا: أن نضع هذه الدراسة في سياق حركة إصلاح أشمل قادتها أطراف شتى من أهمها جمعيات حقوق المرأة. وقادنا هذا الإدراك إلى أن توسع من محور البحث إلى دراسة القوانين الجديدة الأخرى مثل قانون رقم (1) لعام 2000 ليس فقط من منظور نصوص القوانين وتطبيقاتها في المحاكم، بل أيضًا من منظور عملية الدعوة والعمل على إصدار هذه القوانين وجهود الذين يقومون بذلك وجهود ومواقف الذين كانوا يعارضون هذه القوانين الجديدة، وأثر القوانين الجديدة على علاقات وممارسات الزواج على أرض الواقع.
ولقد أُجريت هذه الدراسة على ثلاث مراحل كان لكل منها جدول زمني، وأهداف، وأعمال بحثية محددة، ألخصها كالآتي:
المرحلة الأولى: 1 يناير 2007 – 31 مارس 2008 في هذه المرحلة الأولى كان لدينا هدفان هما: (1) دراسة عملية الدعوة إلى ومناقشة وإصدار قانوني رقم (1) لعام 2000 وقانون رقم (4) لعام 2004؛ (2) دراسة عملية التقاضي في محكمة الأسرة عن طريق بحث میدانی کيفي للوقوف على مزايا وعيوب النظام الجديد بالنسبة للمرأة، وإذا كان فعلاً نظام المحكمة الجديد يساعد المرأة المتقاضية على سعيها إلى العدالة أم يعيقها. وفي إطار تحقيق الهدف الثاني في هذه المرحلة درسنا أيضًا دور الجندر كإطار فكرى يشكل عملية التسوية والتقاضي والتفاعل بين الأطراف المشاركة في هذه العملية. بمعني آخر، في هذا الجانب من الدراسة كنا معنيين أيضًا بدراسة كيف يفهم العاملون بالمحكمة (من أخصائي تسوية، وخبراء محكمة وقضاة) طبيعة المرأة والرجل وأدوارهما وحقوقهما في إطار علاقة الزواج وكيف يؤثر هذا الفهم على عملية التقاضي.
المرحلة الثانية: 1 أبريل 2008 – مايو 2009 أثناء قيامنا بالبحث الميداني في المرحلة الأولى، كانت أطراف متعددة في المجتمع المصرى تقوم بجهود مكثفة لإصدار قانون أسرة جديد مبنى على إصلاح شامل لمنظومة قوانين الأحوال الشخصية، ذلك لأن كثيرًا من الناشطات الحقوقيات بمنظمات حقوق المرأة شعرن بأنه بالرغم من أن القوانين الجديدة التي صدرت في السنوات العشر الماضية مهمة ورفعت بعض الظلم عن المرأة لكن ما تم من إصلاح لا يكفى لمعالجة شاملة وفعَّالة للظلم وعدم المساواة الذي تعانيه المرأة في حقوق الزواج، الطلاق، الولاية والحضانة على الأطفال. ولقد تبلورت جهود هؤلاء الناشطات إلى إقامة شبكة ائتلاف لمنظمات حقوق المرأة. وتبنت هذه الشبكة حركة متعددة الأوجه للدعوة إلى قانون أسرة جديد شامل ومتكامل وقائم على المساواة والعدالة بين الرجل والمرأة. وأصدرت الشبكة ورقة أفكار لمقترح القانون. كما قامت لجنة سياسات المرأة في الحزب الوطنى حينذاك بجهود أيضًا لوضع أفكار لمقترح القانون وكذلك فعل المجلس القومي للمرأة.
ولقد اشتملت جهود هذه الأطراف العديدة (بالإضافة إلى كتابة ورقة أفكار لتصورهم لأهم الإصلاحات المقترحة) إقامة ورش عمل مع المشرعين والإعلاميين وعلماء الدين ونشر أفكارهم وأهدافهم عن طريق نشر مقالات في الصحف الحكومية والمستقلة وإجراء اللقاءات التليفزيونية. كل هذه الأحداث الزاخمة التي كانت تحدث حينذاك أوجدت لنا فرصة لدراسة الفصول المتوالية لقصة هذا الإصلاح لذا رأينا أن يكون للمرحلة الثانية من الدراسة هدفان هما:
الهدف الأول: دراسة النقاش المجتمعي الذي كان دائرًا حينذاك عن القانون المقترح. كنا مهتمين على وجه الخصوص في هذا الصدد بتحليل الخطاب المجتمعي بأنواعه المختلفة المتقدمة من قبل أطراف شتى شاركت في هذا النقاش. كما كان يهمنا الوقوف على فهم الأطراف المشاركة في هذا النقاش المجتمعي لكلمة «الدينية» و «الشرعية الدينية».
الهدف الثاني: هو دراسة أثر القوانين الجديدة التي تم إصدارها على المرأة والرجل خارج إطار عملية التقاضي (أي أثرها على اختيارات الطرفين وفهمهما لحقوقهما وواجباتهما تجاه الطرف الآخر عند الزواج أو الانفصال).
المرحلة الثالثة: كان لنا في هذه المرحلة هدف واحد شامل وهو إجراء مزيد من البحث على عدة محاور محددة من القوانين الجديدة التي صدرت ودلالاتها للمرأة وركزنا على ثلاثة محاور هي كالآتي:
المحور الأول: العلاقة بين قضايا الخلع والطاعة.
المحور الثاني: دراسة مقارنة بين قضايا الخلع وقضايا التطليق. وفي هذا الصدد كنا مهتمين بالوقوف على العوامل التي تؤثر على اختيارات المتقاضيات في هذه القضايا، والاستراتيجيات القانونية التي يتبنينها من أجل الحصول على الطلاق، والسياق المجتمعي والسياسي الذي يشكل حياة هؤلاد المتقاضيات ومشاكلهن.
المحور الثالث: الوقوف على طبيعة مشروع عدالة الأسرة. بدأ هذا المشروع عام 2007 تحت إشراف وزارة العدل والمجلس القومي للطفولة والأمومة وبدعم مالي من المعونة الأمريكية. وكان هدف المشروع حل ثغرات وسلبيات نظام محكمة الأسرة وتمكين الأسر المصرية المعرضة لخطر النزاعات الأسرية. وكان هدفنا هو التعرف على أهداف ونشاطات مشروع عدالة الأسرة من منظور العاملين بهذا المشـروع مـن الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية التي تعمل في مجال تنمية المجتمع وحقوق المرأة وتمكين الفئات المهمشة في المجتمع.
المرحلة الأولى: كانت مقاربتنا لدراسة القوانين الجديدة وعملية الإصلاح هي أن نسعى لفهمهما من منطلق أنهما جزء من عملية ديناميكية (Dynamic) يقوم فيها أطراف متعددة مثل المتقاضين والمحامين والقضاة والعاملين الآخرين بالمحكمة بالتفاوض على معاني القانون وطريقة فهمه وتطبيقه. ولقد أجرينا النشاطات البحثية التالية لجمع المواد البحثية:
أولاً: أجريت أنا مقابلات متعمقة مع (11) فردًا (نساًء ورجالاً) كانوا معنيين بعملية صناعة، ومناقشة، وإصدار قانون رقم (10) لعام 2000 وقانون رقم (10) لعام 2004. وكان المبحوثون والمبحوثات من الفئات التالية: ناشطات حقوقيات في منظمات حقوق المرأة، محامين وقضاة، مفكرين، مشرعين، وصحفيين. وكانت أهداف مقابلاتي مع الأحد عشر فردًا من هذه الفئات كالآتي: تتبع العملية التي من خلالها تم إصدار هذين القانونين، التعرف على الفاعلين الأساسيين الذين شاركوا في هذه العملية، الوقوف على الأهداف المختلفة لهؤلاء الفاعلين وإسهامتهم والتجاوب الذي دار بينهم.
ثانيًا: أجرى الفريق البحثي(2) تحليلاً لمحتوى المقالات الصحفية التي تناولت القوانين الجديدة في الفترة من 1999 وحتى 2010.
ثالثًا: أجرى الفريق البحثي مقابلات متعمقة مع 53 متقاضية. وتم اختيار خمس وعشرين من هؤلاء المتقاضيات عن طريق مؤسسة التنمية والنهوض بالمرأة وهي مؤسسة توفر خدمات متعددة للنساء مثل المشورة القانونية، قروض للمشاريع الصغيرة، ورش عمل لتنمية القدرات… إلخ. أما الباقي وهن الثاني والعشرون مبحوثة، فقد تم اختيارهن من خلال محامي ومحامية تمت الاستعانة بها لتسهيل البحث الميداني. وكانت أهداف المقابلات مع المتقاضيات دراسة آراء تجارب المتقاضيات في محاكم الأسرة، كيفية استخدامهن للنظام الجديد، المشاكل التي تواجههن في المحكمة والعوامل المسببة لهذه التحديات ومدى فعالية النظام الجديد في تحقيق العدالة للمرأة المتقاضية، كما كنا ندرس أيضًا تجارب وآراء المتقاضيات في الزواج وأدوار وحقوق الزوجين.
ويجب التنويه على أن اختيار المبحوثات تم عن طريق آليتين مختلفتين (أي عن طريق مؤسسة وعن طريق محامين) لكي نحصل على عينة متنوعة من النساء من حيث أنواع القضايا والإشكاليات القانونية، والمستوى الاجتماعي والمستوى الاقتصادي.
رابعًا: أجرى الفريق البحثي مقابلات متعمقة مع (11) متقاضيًا وتم اختيار المبحوثين عن طريق المحامي المعاون للفريق البحثي. وكانت أهداف هذه المقابلات التعرف على الأساليب القانونية التي يلجأ إليها المتقاضون وأثرها على سير عملية التقاضي وسعى المرأة المتقاضية للعدالة؛ التعرف على فهم وآراء المتقاضين في محكمة الأسرة وقوانين الأحوال الشخصية، والتعرف أيضًا على تجارب المتقاضين وآرائهم في الزواج وأدوار وحقوق الزوجين.
بما أن البحث كان معنيًا في الأساس بدور محكمة الأسرة في تسهيل عملية التقاضي للمرأة ورفع الظلم عنها. وتعضيد حقوقها، ركزنا على تجارب المتقاضيات ولذا أجرينا مقابلات مع عدد أكبر من المتقاضيات يفوق عدد المتقاضين.
كان المتقاضيات والمتقاضون الذين شاركوا في هذه الدراسة أطراف نزاع في القضايا التالية: نفقة، خلع، تطليق، طاعة، حضانة، زيارة صغير، إثبات نسب، تبديد منقولات زوجية وتمكين من مسكن زوجية.
خامسًا: تم إجراء مقابلات مع متعمقة ثلاثين من العاملين بمحكمة الأسرة وهم مع ينقسمون إلى الفئات التالية: ثمانية قضاة، ثلاثة وكلاء نيابة، عشرة خبراء(3) محاكم أسرة واثنا عشر أخصائي تسوية. ولقد أجريت بمفردي المقابلات مع القضاة ووكلاء النيابة والخبراء وتقاسم الفريق البحثي المقابلات أخصائي التسوية. ويعمل هؤلاء المبحوثون في محاكم الأسرة في المحافظات التالية: القاهرة، الجيزة، الإسكندرية، الغربية، القليوبية وقنا. كما كانت أهداف هذه المقابلات كالآتي، التعرف على دراسة هياكل وإجراءات محكمة الأسرة، طبيعة الأدوار الوظيفية للمبحوثين، والوقوف على فهم المبحوثين للجندر كإطار فكرى يشكل آراءهم في القوانين والمتقاضين ويؤثر على ممارسات عملهم على عملية التقاضي. كما أردنا التعرف على المشاكل التي يواجهها المبحوثون في عملهم والمسببات لهذه المشاكل وتقييمهم لنظام محكمة الأسرة ومنظومة قوانين الأحوال الشخصية بمجملها.
سادسًا: أجرى الفريق البحثي حلقتين نقاشيتين بؤريتين مع مجموعتين من المحامين والمحاميات وكان العدد المجمل للمجموعتين هو 16. وكانت أهداف هذه الحلقات النقاشية كالآتي: التعرف على آراء المبحوثين في إجراءات التسوية وبقية مراحل عملية التقاضي، طبيعة عمل المبحوثين أثناء جلسات التسوية وعملية التقاضي، فهم المبحوثين للجندر كإطار فكرى، تأثير ذلك الفهم على عملهم والحجج التي يستخدمونها في الدعاوى التي يكتبونها ويقدمونها للمحكمة. كما كان هدفنا أيضًا إلقاء الضوء على آراء المبحوثين في قوانين الأحوال الشخصية.
سابعًا: أجرى الفريق البحثى ملاحظة لجلسات التسوية في ثلاث محاكم في الجيزة والقاهرة على مدار يومين. كما أجريت أنا ملاحظة لبعض جلسات التسوية في محكمتين على مدار ستة أشهر.
ثامنًا: وأجريتُ أيضًا ملاحظة لجلسات المحكمة في دائرتين في القاهرة والجيزة (ابتدائية واستئناف) على مدار ستة أشهر.
وكانت أهداف ملاحظتي لجلسات المحكمة والتسوية هي: توثيق وتحليل عملية التقاضي، دراسة التفاعل بين الأطراف المختلفة (مثل المتقاضين والعاملين بالمحكمة) وإلقاء الضوء على انعكاسات فهم هذه الأطراف للجندر في تفاعلهم مع بعضهم البعض ومع القوانين أثناء عملية التقاضي.
تاسعًا: أجريت أيضًا تحليل محتوى لملفات خمس وعشرين قضية. واشتمل هذا على تحليل أحكام القضاة، صحف الدعاوى المقدمة من المحامين ومستندات أخرى مرفقة في الملفات مثال عقود الزواج والطلاق وكشف بيانات لدخل الزوج وتقارير بأخصائي التسوية وخبراء المحكمة وكان الهدف الرئيسي لهذا النشاط هو الوقوف على الطرح والمفاهيم المنعكسة في هذه الوثائق والمستندات والمتعلقة بالزواج وحقوق وواجبات الزوجين وعلاقة قوانين الأحوال الشخصية بالفقه الإسلامي والشريعة.
المرحلة الثانية: لتحقيق الهدف الأول لهذه المرحلة وهو دراسة المناقشات المجتمعية حول إصلاح منظومة قوانين الأحوال الشخصية، تم أداء عمل الآتي:
أولاً: تم إجراء مقابلات مع تسع شخصيات عامة كانت أطرافًا رئيسية في هذه المناقشات وهم:
-
الدكتورة هبة عزت رؤوف أستاذة العلوم السياسية بجامعة القاهرة وهي أيضًا مفكرة تحاضر وتكتب عن حقوق المرأة من منطلق إسلامي ليبرالي.
-
الدكتور محمد عمارة وهو عالم إسلامي معروف بكتاباته عن حقوق المرأة في الشريعة وهو أيضًا عضو في مجمع البحوث الإسلامية.
-
الدكتور الراحل عبد المنعم بيومي وهو أستاذ الفقه الإسلامي بجامعة الأزهر وكان أيضًا عضوًا بمجمع البحوث الإسلامية.
-
الدكتورة آمنة نصير وهي أستاذة الفلسفة الإسلامية بكلية البنات.
-
الأستاذ جمال البنا وهو مفكر إسلامي أصدر عديدًا من المؤلفات وكتب عديدًا من المقالات في الصحف المصرية عن ضرورة وكيفية مراجعة أحكام الفقه فيما يتعلق بأمور شتى من ضمنها الزواج والطلاق وحقوق الطرفين.
-
دكتورة زينب رضوان أستاذة الفقه الإسلامي بجامعة القاهرة وعضوة لجنة سياسات المرأة بالحزب الوطنى المنحل.
-
المهندسة كاميليا حلمي رئيسة اللجنة الإسلامية الدولية للمرأة والطفل والتي هي جزء من المجلس الإسلامي الدولي للدعوة والإغاثة.
-
سكرتير عام إدارة الفقهاء ومدير برنامج التعليم والتدريب على شبكة الإنترنت الموجهة لأئمة المساجد وفقهاء الأزهر.
-
المستشارة تهاني الجبالي نائبة رئيس المحكمة العليا الدستورية سابقًا.
أجرت الزميلة سوسن المقابلة مع المهندسة كاميليا حلمي وأجريتُ أنا المقابلات مع الشخصيات الثانية الآخرين من المبحوثين/ ات السالف ذكرهم/ ن.
ثانيًا: تم إجراء مقابلات مع 6 ناشطات يعملن بمنظمات حقوق المرأة. ولقد أجرت هذه المقابلات مروة شرف الدين باحثة وناشطة مصرية وطالبة دكتوراه في قسم القانون بجامعة أوكسفورد. الزميلة مروة كتبت ورقة خلفية عن النتائج المستخلصة من هذه المقابلات كجزء من نشاطات هذه الدراسة. وتعمل المبحوثات اللاتي أجرت معهن مروة مقابلات بهذه المؤسسات: مؤسسة تنمية ونهوض المرأة، مؤسسة المرأة الجديدة، المرأة والذاكرة، المركز المصرى لحقوق المرأة، ملتقى تنمية المرأة ومركز قضايا المرأة. ورغم أن المؤسسات الأربع الأولى لم تنضم إلى شبكة ائتلاف منظمات حقوق المرأة، فإن هذه المؤسسات لعبت دورًا ملحوظًا في جهود إصلاح قوانين الأحوال الشخصية.
ثالثًا: أجرى الفريق البحثي جمع وتصنيف المقالات المنشورة في الصحف عن عملية إصلاح قوانين الأحوال الشخصية والتي نشرت في الفترة من أبريل 2008 وحتى يوليو 2010 وقُمت بتحليل هذه المادة.
رابعًا: أجريتُ ملاحظة بالمشاركة في خمس ورش عمل تم تنظيمها من قبل شبكة ائتلاف منظمات حقوق المرأة، رابطة المرأة العربية، مركز قضايا المرأة المصرية، وملتقى تنمية المرأة.
ولتحقيق الهدف الثاني للمرحلة الثانية (أي دراسة أثر القوانين الجديدة التي صدرت في العقد الأخير على اختيارات ومفاهيم وتجارب النساء والرجال في الزواج أجرى الفريق البحثى مقابلات مع 100 سيدة ورجل (خمسين من كل نوع) واختير المبحوثون المائة من أربع فئات حسب حالتهم الاجتماعية: متزوجات ومتزوجون، مطلقات ومطلقون، مخطوبات وخاطبون، وفاسخات لخطوبتهن وفاسخون لخطوبتهم.
المرحلة الثالثة: لتحقيق هدف هذه المرحلة (دراسة عدة محاور متعلقة بالقوانين الجديدة وأثرها على المرأة)، تم عمل الآتي:
أولاً: لدراسة العلاقة بين قضايا الخلع وقضايا الطاعة وارتباطها بفكرة قوامة الرجل، أجرى الفريق البحثي مقابلات مع 30 متقاضيًا ومتقاضية (15 سيدة و15 رجلاً).
كما أجرى الفريق حلقات نقاشية بؤرية مع عشر محامين ومحاميات.
أيضًا أجريت ملاحظة لجلسات المحكمة في محكمة أسرة في الجيزة على مدار ثلاثة شهور (أكتوبر – ديسمبر 2009). وكان محور ملاحظتي في هذه الفترة هي القضايا المتعلقة بالخلع والطاعة.
كما جمعتُ إحصائيات عن قضايا الطاعة في خمس محاكم أسرة في محافظات الجيزة والقاهرة و 6 أكتوبر، ولقد كانت هذه الإحصائيات لقضايا منظورة في الفترة من 2001 إلى 2009.
وأخيرًا جمعتُ وحللت 30 حكمًا في قضايا الطاعة.
ثانيًا: لدراسة فعالية الخلع كأداة قانونية لتمكين المرأة، أجرى الفريق البحثى مقابلات مع 131 متقاضية في قضايا خلع وتطليق (69 خلع و 62 تطليق) وأجريت أيضًا ملاحظة لجلسات المحكمة في قضايا خلع وتطليق منظورة في الفترة من أكتوبر 2009 إلى أبريل 2010، وأجريت أيضًا حلقة نقاش بؤرية مع ثمانية محامين ومحاميات بخصوص إجراءات وتحديات قضايا الخلع والتطليق.
ثالثًا: للتعرف على أهداف وطبيعة عمل مشروع عدالة الأسرة، تم إجراء 23 مقابلة مع عاملين بالمؤسسات والجمعيات غير الحكومية والتي كانت تعمل في هذا المشروع تحت مظلة المجلس القومي للطفولة والأمومة، أجرت الزميلة سوسن شريف 22 مقابلة بالهاتف، وأجريت أنا المقابلة الثالثة والعشرين وجهًا لوجه مع رئيسة إحدى الجمعيات غير الحكومية العاملة في مجال حقوق المرأة، والتي سبق أن شاركت أيضًا في مشروع عدالة الأسرة، كما جمعتُ وحللت أيضًا مواد التدريب المستخدمة في المشروع لتنمية مهارات أخصائيي التسوية.
الجزء الثالث: النتائج الرئيسية:
فيما يلى سأعرض عشر نتائج رئيسية لهذه الدراسة(4):
أولاً: طبيعة العملية التي تمت من خلالها إصدار قوانين الأحوال الشخصية الجديدة في العقد السابق مهمة بنفس أهمية النتائج التي أدت إليها هذه العملية. بمعنى آخر أن الأطراف التي شاركت في هذه العملية وأهدافهم والاستراتيجيات التي تبنوها والمناقشات المجتمعية التي دارت حول هذه العملية والتجاوب الذي تم بين الأطراف المتعددة المعنية بإصدار هذه القوانين أو تلك التي رفضتها والتحالفات التي تمت بين الأطراف والمفاوضات والتنازلات التي بنيت عليها هذه التحالفات، كل هذه كانت عوامل متشابكة ومهمة أثرت على عملية الإصلاح إيجابًا وسلبًا بالنسبة للمرأة.
كانت أهداف بعض الأطراف الرئيسية التي شاركت في الدعوة إلى والعمل على إصدار قانون رقم (1) لعام 2000 و 2004 تتمحور حول التخلص من نظام المحكمة القديم الذي كان متكدسًا بالقضايا وبطيئًا ومكلفًا للمتقاضين، ولقد أراد هؤلاء الإصلاحيون الذين تبنوا هذا الهدف تغيير النظام القديم واستحداث نظام جديد تكون فيه عملية التقاضي ناجزة وفعالة وغير مكلفة، ولكن كان لدى بعض الأطراف الأخرى التي سعت إلى إصدار هذه القوانين (مثل الدكتورة ليلى تكلا المحامية والأكاديمية) هدف آخر، وهو إقامة نظام قضائي متخصص مبنى على فكرة أن النزاعات الأسرية ذات طبيعة خاصة لأنها خلافات بين أطراف تربطهم روابط أسرية مهمة لذا وجب أن تحل هذه النزاعات بطرق تحقق من جهة العدالة ومن جهة أخرى تتيح للأطراف المتنازعة عدة آليات لحل النزاع في إطار يسعى إلى الحد من العداء والخصومة بين الطرفين وحماية مصلحة الأطفال.
أما الجهات الحكومية في عهد الرئيس السابق مبارك التي شاركت في عملية إصدار هذين القانونين فكانت تدفعها عدة أهداف كانت في بعض أوجهها متباينة. فمن ناحية سعي النظام السابق إلى اكتساب شرعية دينية عن طريق مشاركته وتأييده للخطاب الديني المهيمن حينذاك على المجتمع، والذي لم يكن يتبنى مفهوم المساواة والعدالة في الزواج وحقوق الزوجين. ولقد ازدادت أهمية هذا الهدف لا سيما بعد كبر الدور المجتمعي للجماعات الإسلامية منذ ثمانينيات وتسعينيات القرن الماضي. ومن ناحية أخرى رأى النظام السابق أن الأسرة آلية مهمة تسعى الدولة من خلالها إلى تحديث المجتمع والنهوض بعملية التنمية وكسب دعم الهيئات الدولية المانحة للقروض.
تباين هذه الأهداف التي تبنتها الحكومة في جهودها لإصلاح قوانين الأحوال الشخصية أدى بها إلى أن تنتهج منهجًا حذرًا ومحدودًا في عملية الإصلاح. أما الناشطات الحقوقيات العاملات في مجال حقوق المرأة فقد سعين إلى إصدار قانونين وهما: رقم (1) لعام 2000 ورقم (10) لعام 2004 من أجل تحقيق حق المرأة في الحصول على الطلاق بواسطة عملية تقاضى سريعة وناجزة ودون اشتراط موافقة الزوج. فقانون رقم (1) لعام 2000 يمنح المرأة حقين متعلقين بالطلاق فالمادة رقم (20) تتيح للمرأة حق اللجوء إلى المحكمة لطلب الخلع دون الحاجة إلى موافقة الزوج والمادة (17) تمنح المرأة المتزوجة زواجًا عرفيًا حق طلب التطليق عن طريق المحكمة. أما قانون رقم (10) لعام 2004 فهو أيضًا يشتمل على مادة لها دلالاتها بالنسبة لسعى المرأة إلى التطليق. فالمادة (4) في هذا القانون تلغي درجة النقض في قضايا الأحوال الشخصية مما يعني حماية المرأة التي تحصل على التطليق من مد زواجها لفترة التقاضي إلى ما لا نهاية عن طريق نقض حكم الاستئناف.
وبالرغم من أهمية قانون الخلع وإلغاء التقاضي في درجة النقض في محكمة الأسرة، مازالت منظومة قوانين الأحوال الشخصية الموضوعية في حاجة إلى إصلاح شامل وهذا لن يتحقق بالمنهج الإصلاحي الحذر المحدود الذي تبنته الحكومات السابقة في النظام السابق.
ولكن لم تستطع منظمات حقوق المرأة حتى الآن كسب دعم كل المعنيين بالأمر لتغيير هذا النهج، وكانت نتيجة تبني هذا النهج الحذر للإصلاح، إن هذه القوانين المهمة التي صدرت قد احتوت على مواد تنتقص من الحقوق الجديدة الممنوحة للمرأة، على سبيل المثال ينص قانون رقم (1) لعام 2000 على وجوب محاولة المحكمة الصلح بين الزوجين في فترة لا تتجاوز ثلاثة أشهر أثناء نظر قضية الخلع. والذي يحدث هو أن هذه الفترة تمتد أحيانًا مما يمد فترة التقاضي للمرأة.
كما أن الأهداف المتباينة التي تبنتها الأطراف التي سعت إلى الإصلاح كانت لها تداعياتها على عملية التطبيق وكان لهذا آثاره على المرأة المتقاضية. فمن جهة بفضل قانون الخلع الجديد، أصبحت المرأة المصرية قادرة على الحصول على الطلاق عن طريق المحكمة بصورة أضمن وأسهل من مسار التطليق للضرر. وهذا مكسب كبير للمرأة حيث إنه وفر لها طريق النجاة من البقاء في علاقة زواج لا تريدها وقد تعاني فيها من ظلم كبير. بالطبع علي المرأة المتقاضية الساعية إلي الخلع التنازل عن كل حقوقها المادية تجاه الزوج مقابل هذا الحق (أي رد مقدم الصداق والتنازل عن نفقة العدة ومؤخر الصداق). وبالرغم من هذا الثمن، فالإحصائيات تشير إلى زيادة عدد النساء اللاتي يستخدمن هذا الحق الجديد الممنوح لهن. فإحصائيات وزارة العدل في الفترة من عام 2004 إلى 2007 تشير إلى أن عدد قضايا الخلع زاد من 2886 إلى 8662(5). كما أن الإحصائيات التي نُشرت في الصحف في عام 2010 تشير إلى أن عدد قضايا الخلع ارتفع إلى 20.000 (6). ولكن من جهة أخرى، تعيق ممارسات العمل لدى بعض العاملين بالمحكمة سعى المتقاضية إلى الخلع. وفي اعتقادي أن هذه الممارسات انعكاس للأهداف المتباينة لدى الأطراف التي سعت إلى القانون الجديد مما أدى إلى غياب رؤية واحدة وواضحة لدى العاملين بالمحكمة عن قانون الخلع ودور محكمة الأسرة.
على سبيل المثال، في الملاحظة التي أجريتها لجلسات التسوية وجدت أن كثيرًا من الإخصائيين يرون أن الهدف الرئيسي لعملهم هو تحقيق الصلح بين الزوجين والحفاظ على الحياة الزوجية. ولقد أكد هؤلاء الإخصائيون أن هذا بالفعل هو الهدف الرئيسي لعملهم في المقابلات التي أجريتها معهم. بمعنى آخر لم ير هؤلاء الإخصائيون التسوية كآلية بديلة للتقاضي للوصول إلى حل عادل للطرفين سواء كان هذا الحل يؤدى إلى الإبقاء على الحياة الزوجية أو ينهيها، بل رأوا أن التسوية في المقام الأول هي وسيلة لإنقاذ الزواج بصرف النظر عن تداعيات هذا الحل على الأطراف المتنازعة ولا سيما المرأة. وبالتالي كان بعض الإخصائيين في الجلسات التي لاحظتها يضغطون على المتقاضيات للتصالح مع الزوج ويحاولون الكرة للحفاظ على الحياة الزوجية، وكان هذا ملحوظًا على وجه الخصوص في قضايا الخلع والتطليق للضرر.
النتيجة الثانية: طبيعة نظام محكمة الأسرة الجديد وآلياته تجعل منه مالكًا لمقومات توفير عملية تقاضي فعالة وسريعة وعادلة. ولكن هناك عدة عوامل تعيق هذا النظام من القيام بهذا الدور ويمكن تلخيصها كالآتى: أولاً الآليات البديلة لحل النزاعات الأسرية (أي أخصائيو التسوية والخبراء)، غير مفعلة وبالتالي غير قادرة على تحقيق دورها كآليات بديلة للتقاضي. وهذا راجع لعدة أسباب مثل: عدم تملك هؤلاء العاملين في هذه الآليات لأي سلطة تجعل اتفاقات التسوية التي يتوصلون إليها مع طرفي النزاع نافذة ومُطبقة. كما أن كثيرًا من هؤلاء الأخصائيين والخبراء تنقصهم المهارات والموارد التي تمكنهم من أداء عملهم حسب فلسفة نظام المحكمة الجديد والهدف المرجو منه.
كما أن دور خبراء المحكمة في توفير آلية بديلة للتسوية العادلة أثناء نظر القضية أمام المحكمة يصعب تأديته بصورة فعالة في ظل عدم تملك الخبراء السلطة لإلزام الطرفين بحضور الجلسات التي يعقدونها مع طرفي الدعوى. وهذا صحيح على وجه الخصوص بالنسبة للأزواج الذين في كثير من الأحوال لا يحضرون جلسة خبراء المحكمة ولا سيما حين تكون الزوجة هي المُدعية أي هي الطرف الذي رفع الدعوى. هذه المشكلة يواجهها أيضًا أخصائيو التسوية. وربما العائق الآخر والمهم الذي يواجهه أخصائيو التسوية والخبراء هو عدم وجود إطار وإرشادات واضحة وثابتة لعمل إخصائيي التسوية وخبراء المحكمة.
على سبيل المثال، في بعض الدوائر التي أجريت فيها جلسات ملاحظة كان خبراء المحكمة يقومون بعدة أدوار مثل محاولة التسوية بين طرفي الدعوى، جمع معلومات عن الطرفين والنزاع من خلال اجتماعهم مع أطراف الدعوى، وتقديم هذه المعلومات إلى هيئة خلال التقارير التي يكتبونها ويقدمونها إلى القضاة. ولكن في دوائر أخرى، تحدثت إلى قضاة كانوا يرون أن دور الخبراء في محكمته هامشي للغاية ومضيعة للوقت.
العائق الثاني: الذي يحد من فاعلية نظام المحكمة الجديد هو أن النظام مازال، مثل الذي سبقه، محصورًا حول نهج إجرائي دون إفساح المساحة للمتقاضين والمحامين للتواصل مع هيئة المحكمة على نحو يتيح للأخيرة الإلمام الجيد بكل نواحي القضية.
العائق الثالث: يتعلق بدور وكيل النيابة فهو غير مفعل ولا يفيد بأي صورة حقيقية عملية التقاضي. فدور وكيل النيابة يقتصر على تقديم مذكرة إبداء رأي لهيئة المحكمة والتي في أغلب الأحيان (حسب مقابلاتي مع القضاة ووكلاء النيابة) لا يعطى فيها رأيًا جديدًا لهيئة المحكمة ولكن يقر فيها فقط موافقته على الرجوع إلى رأى المحكمة وهذا لا يضيف شيئًا إلى عملية التقاضي ويطيل فقط من الفترة التي تستغرقها. والجدير بالذكر هنا أن بعض القضاة رأوا أنه كان الأفيد لهم إذا جعل المشرع دور وكيل النيابة مساعدة المحكمة في التحقق من موارد الزوج ودخله في قضايا النفقة والمتعة ونفقة العدة ومؤخر الصداق.
أما العائق الأخير: لأداء فعَّال لنظام محكمة الأسرة وتحسين المسار القانوني لتحقيق العدالة هو منظومة قوانين الأحوال الشخصية الموضوعية التي مازالت قائمة على عدم المساواة بين المرأة والرجل، وظلم المرأة في أوجه كثيرة تتعلق بحقوق الزواج والطلاق والولاية على الأطفال.
وبالرغم من المشاكل والعوائق السالف ذكرها أحب أن أشير إلى ثلاث فوائد محددة للنظام الجديد والتي لامسناها من خلال هذه الدراسة وهي كالآتي:
أولاً: إن هيئة المحكمة في النظام الجديد تتكون من ثلاثة قضاة: رئيس الدائرة وقاضيان معاونان ويمكن أن يساهم هذا النظام في جعل عملية التقاضي أكثر مهنية وعدالة. فبناء على ملاحظتي لجلسات ومقابلات مع القضاة وجدت أنه حين يعمل القضاة الثلاث معًا بصورة فعالة ويتناقشون في ملف القضية ويتبادلون المعرفة القانونية فهذا يساعد القاضي الرئيسي على الوصول إلى حكم مبنى على قدر أعلى من المعرفة واليسر والتداول المفيد مما يجعله قابلاً لأن يكون حكمها أكثر عدالة. ولكن لتحقيق الفائدة الأعظم من هذه الهيئة الثلاثية يجب أن يكون القضاة العاملون بهذه الدوائر متخصصين ويملكون خبرة مهنية في قضايا الأسرة.
الفائدة الثانية: التي لامسناها لنظام المحكمة هو أنه في الحالات التي يتوصل فيها أخصائيو التسوية إلى اتفاقات عادلة للمرأة المتقاضية يجدون تعاونًا من الطرفين في الالتزام بهذه الاتفاقات. ففي مثل هذه الحالات توفر آلية التسوية حلاً سريعًا وميسرًا وفعالاً للزوجة يوفر عليها مالاً وجهدًا ووقتًا، ولكن كما قلت سلفًا إن تفعيل مثل هذا الحل معتمد تمامًا على تعاون الطرفين مع المكتب والتزامها بالاتفاق ولاسيما الزوج. لذا رغم أننا رصدنا عدة حالات وجدنا فيها أن آلية التسوية أوجدت مسارًا سهلاً وسريعًا وناجزًا لتحقيق العدالة للمرأة تبقى فائدة هذه الآلية محدودة. والفائدة الأخرى التي كانت النساء تحصلن عليها من اتفاقات التسوية هو أن المتقاضيات في قضايا النفقة كن يصرفن اتفاقات التسوية الخاصة بالنفقة من بنك ناصر ولكن في عام 2007 صدر قرار حكومي بوقف تنفيذ اتفاقيات التسوية الخاصة بالنفقة عن طريق بنك ناصر. هذا القرار للأسف حد من فائدة آلية التسوية في قضايا النفقة.
أما الفائدة الثالثة للمحكمة: فهي أن في المجتمعات الصغيرة التي يملك فيها العاملون بالمحكمة معرفة جيدة عن الأسرة التي تعيش في المجتمع المحيط بالمحكمة وتربطهم بهم علاقات طيبة وثقة متبادلة، وجدنا أن في مثل هذه المجتمعات ينجح أخصائيو التسوية وخبراء المحكمة في أداء دورهم في توفير آليات بديلة للتقاضي، كما ينجحون أيضًا في مساعدة هيئة المحكمة في الإلمام بكل الجوانب المهمة المتعلقة بالقضية وطرفي الدعوى، وذلك بسبب علاقة الثقة والمعرفة التي تربط العاملين بالمحكمة والأسر التي تعيش في مجتمعهم الصغير، ولقد رصدنا بعض أمثلة لهذه النماذج في بعض المناطق شبه الريفية.
وحتى تتسع وتزداد فوائد الآليات البديلة للتقاضي يجب إعداد وتدريب إخصائيي النسوية وجعلهم ذوي مهارات تسوية عالية، ويجب أن تشتمل هذه المهارات على القدرة على التواصل مع الأطراف المتنازعة والتوجيه المهني لعملية التسوية، والقدرة على العمل بحيادية مع الطرفين وفهم طبيعة العلاقة بين الطرفين، ولاسيما في الحالات التي يملك فيها أحد الطرفين قوة وسلطة على الطرف الآخر. فيجب على الإخصائيين في هذه الحالات أن يملكوا المهارات التي تمكنهم من إجراء عملية تسوية لا يشعر فيها الطرف الأقل قوة بأنه في موقف ضعف في عملية التسوية.
كانت هناك مبادرة من قبل الحكومة في عهد النظام السابق لمعالجة معوقات العمل في محكمة الأسرة. ففي ديسمبر 2006 بدأت وزارة العدل حينذاك بالمشاركة مع المجلس القومي للطفولة والأمومة مشروع عدالة الأسرة. استغرق هذا المشروع خمس سنوات وتم تنفيذه بدعم مالي من المعونة الأمريكية وكان للمشروع مكونان. كان هدف المُكون الأول والذي كان تحت إشراف وزارة العدل هو تطوير مهارات العاملين بمكاتب التسوية. ولتحقيق هذا الهدف تم تنظيم برامج تدريب لأخصائيي التسوية. وفي هذه البرامج تم تدريب أخصائيي التسوية في: فلسفة محكمة الأسرة، مهارات التسوية، كيفية تطبيق إجراءات ممنهجة لأداء عملهم. ولقد ركزت المرحلة الأولى لهذا المشروع على محاكم الأسرة في الجيزة، والمنيا، وبورسعيد. وكان هناك برنامج تدريب للقضاة في هذا المكون أيضًا.
أما المكون الثاني لمشروع عدالة الأسرة فقد كان تحت إشراف المجلس القومي للطفولة والأمومة وكانت أهدافه كالآتي:
-
تنمية وعى الأسرة المصرية والمجتمع العام بمحكمة الأسرة وتنمية مهارات الآباء والأمهات في تربية أولادهم والتواصل معهم.
-
إقامة مكاتب المشورة في الجمعيات والمؤسسات غير الحكومية وتقوم هذه المكاتب بتقديم الإرشاد والمشورة للأسر في المجتمعات المحيطة بها.
-
توفير حزمة خدمات تهدف إلى حماية الأطفال.
-
تمكين الأسر المصرية من خلال توفير حزمة خدمات لها مثل: قروض صغيرة، ورش عمل لتنمية المهارات، مشورة قانونية، رعاية أطفال، ولقد تبنت عدة جمعيات مؤسسات غير حكومية العمل على تحقيق هذه الأهداف بدعم مادي وتدريب من المجلس القومي للطفولة والأمومة.
ومن أهم النتائج التي استخلصناها من البحث الذي أجريناه على مشروع عدالة الأسرة هي: أن برامج تدريب القضاة وأخصائيي التسوية بالمشروع جيدة ومواد التدريب المستخدمة فيها تركز على تنمية مهارات تسوية جيدة لدى الأخصائيين، وتنمية معرفة القضاة ليست فقط في قوانين الأحوال الشخصية ولكن في فلسفة محكمة الأسرة أيضًا. ولكن مازال هناك بعض البلبلة عند بعض القضاة الذين اشتركوا في برامج التدريب حول الإجراءات الصحيحة التي يجب اتباعها في قضايا الخلع حين يدفع الزوج بصورية مقدم الصداق المُدون في عقد الزواج. هناك أيضًا نقطة خلاف بين العاملين بمحاكم الأسرة الذين اشتركوا في المشروع والجمعيات غير الحكومية المشاركة حول خدمات المشورة التي تقدمها الأخيرة للأسر التي تتعامل معها تحت إطار هذا المشروع. فأخصائيو التسوية يرون أن هذا من اختصاص عملهم بينما ترى الجمعيات غير الحكومية أن المشورة التي تقدمها للأسر هي خدمات وقائية الهدف منها هو مساعدة هذه الأسر على حل مشاكلها وتجنب وصول نزاعاتهم إلى مرحلة التقاضي.
النتيجة الثالثة: قانون الخلع هو حل قانوني مفيد للمرأة المتقاضية الفقيرة. فلقد وجدنا أن النساء المتقاضيات الفقيرات الساعيات لإنهاء زيجاتهن يلجأن إلى الخلع ويستفدن منه. وهذا على عكس ما ادعاه الذين عارضوا قانون الخلع حين قدم كمقترح لمجلس الشعب عام 2000، حيث قال بعض معارضى هذا القانون إنه سيضر الفقيرات. فلقد وجدنا في هذه الدراسة أن بالرغم من أن المرأة المتقاضية في الخلع تتنازل عن كل الحقوق المالية التي تستحقها في حالة التطليق للضرر، فإن الخلع يوفر على النساء الفقيرات كثيرًا من المال والوقت الذي تتطلبه قضايا التطليق للضرر، كما أن الخلع يوفر لهن مسارًا مضمونًا إلى إنهاء الزيجة على عكس التطليق. ولقد وجدنا أن لدى النساء اللاتي يلجأن إلى الخلع والتطليق للضرر أسباب تكاد تكون متطابقة تدفعهن إلى السعى إلى الطلاق وهي: عدم انفاق الزوج، هجر الزوج، سجن الزوج، اتخاذ الزوج لزوجة جديدة، الإساءة… إلخ. وما يدفع بعض الفقيرات إلى طلب الخلع بدلاً من التطليق هو تفادي عملية تقاضي طويلة تتكلف كثيرًا من النفقات،الرغبة في الحصول على وثيقة الطلاق سريعًا حتى تستطيع هؤلاء النساء الحصول على خدمات التضامن الاجتماعي ومساعدات الجمعيات الأهلية، عدم ضمان الحصول على الطلاق في حالة رفع قضية تطليق للضرر والمشاكل العديدة التي عادة ما تعرقل تنفيذ الأحكام الخاصة بنفقة العدة والمتعة ومؤخر الصداق.
عند مقارنة النفقات القانونية التي تكلفتها المبحوثات المتقاضيات في قضايا الخلع بتلك التي تكلفتها المبحوثات المتقاضيات في قضايا التطليق للضرر، وجدنا أن النفقات في قضايا الخلع تراوحت بين 250 إلى 1000 جنيه، بينما النفقات في قضايا التطليق تراوحت بين 250 إلى 1500. ووجدنا أيضًا أن معظم المبحوثات في قضايا الخلع والتطليق دفعن بالفعل من 800 إلى 900 جنيه سواء على قضية التطليق أو الخلع. هذا يجعلنا نستنتج خطأ أنه ليس هناك فرق كبير بين الأعباء المالية التي تتكبلها المرأة المتقاضية أثناء عملية التقاضي في قضايا التطليق أو الخلع. ولكن هذا غير صحيح وذلك لأن معظم المبحوثات في قضايا التطليق في هذه الدراسة كن أيضًا أطرافًا في قضايا أخرى (غير التطليق) تتعلق أيضًا بنزاعهن مع أزواجهن مثل قضايا نفقة، ومتعة ومؤخر صداق. وكانت هذه القضايا الأخرى لا تزال منظورة أمام المحكمة حين أنهينا هذه الدراسة، إذًا ما دفعته هؤلاء النساء على عملية التقاضي والمذكور أعلاه يتعلق فقط بنفقات قضية التطليق ولا يعبر عن إجمالي المبلغ التي ستتكلفه هؤلاء المتقاضيات حين ينتهين من كل القضايا المنظورة. إذًا إجمالي ما ستنفقه هؤلاء المتقاضيات على قضاياهن سيفوق بكثير تلك التي أنفقته المتقاضيات في قضايا الخلع.
وربما من المهم هنا أن نشير إلى أن كثيرًا من المبحوثات في قضايا التطليق، ذكرن أنهن حصلن على دعم مالي من أسرهن بينما كثير من المبحوثات في قضايا الخلع لجأن إلى منظمات حقوق المرأة التي تقدم مساعدات قانونية مجانية للنساء.
عندما نقارن فترة التقاضي بين قضايا الخلع والتطليق للضرر، نجد الآتى: أولاً: عدد المتقاضيات في قضايا الخلع اللاتي أنهين قضيتهن في خلال عام (49 سيدة) يفوق بكثير عدد اللاتى انتهين من قضايا التطليق في الفترة الزمنية نفسها (33 سيدة). ثانيًا: فاق عدد قضايا التطليق التي استغرقت أكثر من عامين عدد قضايا الخلع التي استغرقت المـدة نفسها بنسبة 16: 7. ثالثًا: لم تنته أي من قضايا التطليق التي درسناها أثناء هذا البحث في فترة أقل من عام، بينما تم الفصل في خمس قضايا الخلع في خلال ستة أشهر.
وأخيرًا فاقت عدد قضايا التطليق التي كانت لا تزال منظورة أمام المحكمة حين أنهينا الدراسة عدد قضايا الخلع المنظورة بنسبة ( 7: 2). إذًا بناًء على النقاط السابقة نستخلص أن الخلع (بالرغم من تنازل المتقاضية عن حقوقها المادية) هو حل قانوني أسهل وأسرع وأقل تكلفة وأكثر ضمانًا من التطليق. ولذلك تلجأ إليه النساء الفقيرات بالذات لتفادي المشاكل والمصاعب التي تواجهها المتقاضيات في التطليق من طول فترة التقاضي وإثبات أسباب إقامة الدعوى ومعوقات تنفيذ الأحكام الصادرة لصالح المرأة.
فالمرأة الفقيرة التي لا تملك الوقت والمال لخوض عملية تقاضي طويلة تلجأ إلى الخلع حتى تجد مخرجًا سريعًا ولا سيما أن سعى مثل هذه المرأة إلى الطلاق (كما رأينا في عدد كبير من الحالات التي درسناها في هذا البحث) ليس مدفوعًا فقط بهدف النجاة بنفسها من علاقة زواج قائمة على الإساءة والضرر. ولكنها مدفوعة أيضًا بهدف إنجاح جهودها للحصول على معاش الضمان الاجتماعي أو خدمات الجمعيات الأهلية.
النتيجة الرابعة: الأسباب التي تدفع كثيرًا من المتقاضيات إلي السعى إلى إنهاء الزواج سواء عن طريق الخلع أو التطليق تتشابه في أغلبها. فالأسباب الأكثر شيوعًا والتي تدفع النساء إلى رفع إما قضية تطليق أو خلع هي: عدم إنفاق الزوج، الإساءة البدنيـة للزوجة من قبل الزوج، سوء معاملة الزوجة من قبل الزوج، الإساءة الجنسية للزوجـة من قبل الزوج، تعاطى الزوج للمخدرات، هجر الزوج للزوجة، زواج الزوج من امرأة أخرى.
النتيجة الخامسة: بالإضافة إلى الأسباب السالف ذكرها والتي تدفع المتقاضيات إلى إنهاء الزيجة عن طريق التقاضي، فإن سياسات الدولة الخاصة بالضمان الاجتماعي والشروط التي تضعها الجمعيات الأهلية لتحديد الفئات المستحقة لخدماتها، كل هذه العوامل الأخيرة تدفع النساء الفقيرات إلى السعى إلى الخلع. إن سمات مثل هؤلاء المتقاضيات كما رصدناها في الدراسة كالآتي: نساء فقيرات يقمن بمناطق عشوائية وحضرية. كثير من هؤلاء النساء توقفن عن الدراسة في المرحلة الابتدائية قبل زواجهن كي يعملن مع أسرهن كبائعات متجولات أو في خدمة المنازل أو أعمال أخرى غير ثابتة. وكانت هؤلاء النساء يقمن بمساعدة أسرتهن في رعاية أخواتهن وأخوتهن الصغار والقيام بأعمال المنزل. ولقد تزوج كثير من هؤلاء النساء من رجال يعملون بصورة متقطعة وفى أعمال يدوية (عامل بناء، شيال، بائع متجول، إلخ). قضت هؤلاء المتقاضيات معظم سنوات زواجهن مع زوج لا يحصل على دخل لأنه لا يعمل أو يعمل بصورة متقطعة ويحصل على دخل ضئيل، وفي بعض هذه الحالات يتعاطى الزوج المخدرات بسبب سوء حالته النفسية في ظل ظروف الأسرة المعيشية الصعبة للغاية. وقد تتفاقم المشاكل والنزاع بين هؤلاء النساء وأزواجهن وتتطور إلى حد الإساءة البدنية والمعنوية التي يوقعها الأزواج على الزوجات. وتقوم هؤلاء الزوجات بتدبير نفقات إعالة أطفالهن عن طريق أداء أعمال متقطعة والسعى إلى الحصول على الخدمات والمساعدات التي توفرها الجمعيات الأهلية. وتشمل هذه الخدمات بعض المبالغ المالية الصغيرة أحيانًا، توفير المستلزمات المدرسية لأطفالهن وشنط رمضان وبعض الخدمات الصحية، وأحيانًا توفير قروض صغيرة. كما تسعى بعض هؤلاء النساء إلى الحصول على معاش الضمان الاجتماعي والذي توفره الحكومة للفئات المحتاجة مثل المطلقات والأرامل الفقيرات أو ذوى الإعاقة، إلخ. لذا قرار سعى هؤلاء النساء إلى الخلع في كثير من الحالات مبنى على عدة عوامل متشابهة مثل: مشاكل زوجية متفاقمة للرغبة في النجاة من الإساءة الواقعة عليهن من قبل الزوج، عدم وجود دخل أو عائل لهن ولأطفالهن وقناعتهن أنهن سينجحن في الحصول على خدمات الجمعيات الأهلية أو معاش الضمان الاجتماعي إذا أصبحن مطلقات.
النتيجة السادسة: بالرغم من أن الحصول على الخلع لم يكن بالأمر العسير بالنسبة لأغلب المتقاضيات المبحوثات في هذه الدراسة، فإنه توجد عدة ثغرات تتعلق بنص قانون الخلع وتطبيقاته. وهذه الثغرات في بعض الحالات تؤدى إما إلى إطالة فترة التقاضي أو تعوق كسب المتقاضية للقضية، هذه الثغرات تتعلق بإشكالية دفع الزوج بصورية مقدم الصداق المُدون في عقد الزواج. فإن بعض الأزواج يدفع بصورية مقدم المهر ويزعمون أنهم دفعوا مبلغًا أكبر مما دون في عقد الزواج، وتأتى المشكلة أولاً من عدم وجود أي مواد في قانون رقم (1) لعام 2000 تتعرض لكيفية التعامل مع مثل هذه الدعاوى. وأثناء حضوري لجلسات المحكمة ومن مقابلاتی مع القضاة وجدت أن القضاة يتعاملون مع هذه الإشكالية بطرق شتى بسبب عدم وجود نصوص قانونية واضحة تنظم مثل هذه النزاعات.
فبعض القضاة يقضون بأن النزاع حول صورية مقدم الصداق لا يقع تحت اختصاص سلطتهم وبالتالى يحيلون النزاع إلى محكمة مدنية وفي الوقت نفسه يمضى هؤلاء القضاة في البت في قضية الخلع معتبرين أن ما هو مدون في عقد الزواج هو مقدم المهر. ولكن هناك قضاة آخرين يرون أن عليهم أن يقضوا في أمر النزاع حول صورية مقدم الصداق كجزء من عملية سير قضية الخلع. وبالتالى طلب هؤلاء القضاة من طرفي الدعوى أن يثبت كل منهما حقيقة المبلغ الذي دفع كمقدم صداق عن طريق إحضار شهود أو تقديم مستندات أخرى تطمئن إليها المحكمة. نتيجة لذلك تواجه المتقاضيات في مثل هذه الحالات مشكلة إطالة فترة التقاضي وإثبات عدم صورية مقدم الصداق المدون في عقد الزواج. وفي بعض الحالات قد تفشل المتقاضية في الحصول على الخلع إذا خسرت في النزاع حول صورية مقدم الصداق. ومن إجمالي 69 قضية خلع درسناها وأجرينا مقابلات مع المتقاضيات فيها في هذا المشروع، وجدنا قضيتين دفع فيهما الزوجان بصورية مقدم الصداق. في إحدى هاتين القضيتين طلب القاضي من الطرفين إحضار شهود حتى يستمع إلى شهادتهم ويبت في أمر الدفع بصورية مقدم الصداق، وفي نهاية الأمر حكم القاضي لصالح الزوج، أي أن المحكمة رفضت الحكم بالخلع للزوجة حتى ترد للزوج المبلغ الذي إدعاه الزوج بأنه مقدم المهر واطمأنت المحكمة إلى أنه الحقيقة. وبناء على هذا، رفعت المتقاضية قضية جديدة للتطليق للضرر. أما في القضية الثانية لم يكن مقدم الصداق المدون في عقد الزواج واضحًا وتنازع طرفا القضية حول قيمة المبلغ. وأمر القاضي بإحضار شهود ولكن أثناء سير القضية خشى محامي الزوجة من أن تحكم المحكمة لصالح الزوج ونصح المتقاضية بالتنازل عن الدعوى ورفع قضية تطليق للضرر أيضًا أثناء ملاحظتي لإحدى الجلسات لقضية خلع رأيتُ الزوج يدفع بصورية مقدم الصداق حيث قال إنه وزوجته اتفقا على كتابة مبلغ رمزي لمقدم صداق (25 قرشًا) على أن يكون صداقها الحقيقي التزامه بدفع رسوم ونفقات دراستها العليا وتحضيرها للدكتوراه، لذا طلب الزوج من المحكمة أن تلزم زوجته برد ما أنفقه على دراستها قبل الحكم لها بالخلع. ولكن القاضي رفض دعواه واعتد بالمبلغ المُدون في عقد الزواج كمقدم الصداق وحكم لصالح الزوجة.
لا أملك إحصائيات لعدد قضايا الخلع على مستوى الجمهورية التي دُفع فيها بصورية مقدم الصداق ولا عدد الأحكام التي صدرت لصالح الزوج في مثل هذه القضايا. ولكن نتائج دراسة حديثة تشير إلى أن الدفع بصورية مقدم الصداق إشكالية موجودة في بعض قضايا الخلع ولكنها ربما لا تكون منتشرة بكثافة (7).
وبما أن بعض الأزواج يدفعون بصورية مقدم الصداق كحيلة لخلق عقبات لسعى زوجاتهم إلى الخلع، وجب على المشرع وضع نصوص قانونية واضحة وإجراءات فعالة للتعامل مع هذه النزاعات بصورة عادلة.
وربما تذكرنا إشكالية الدفع بصورية مقدم الصداق بالتباين الشديد بين الزواج وحقوق وواجبات الزوجين كما تعرفه وتنظمه قوانين الأحوال الشخصية من جهة وتجارب الزواج التي يعيشها الناس على أرض الواقع من جهة أخرى. في إطار منظومة قوانين الأحوال الشخصية، على الزوج دفع المهر والإنفاق على الزوجة والأطفال. ومقابل إنفاق الزوج على الزوجة، يجب عليها طاعته وتعريف الطاعة في قوانين الأحوال الشخصية. أن لا تكون الزوجة ناشزًا، والأخيرة يًعرفها القانون بالزوجة التي تترك منزل الزوجية «الشرعي» بدون عُذر «شرعی» (مادة رقم (11) في قانون رقم (100) لعام 1985) وإقامة الزوجة مع الزوج هو في منزل الزوجية يتضمن أن تمكنه الزوجة من نفسها حسب ما هو مذكور في مادة (1) في قانون رقم (100) لعام 1985، أي تقيم معه المعاشرة الجنسية. وإذًا طبقًا لمنظومة الزواج في قوانين الأحوال الشخصية، ليس على المرأة أي التزامات مادية تجاه زوجها أو أطفالها ولكن عليها أن تقيم مع الزوج في مسكن الزوجية وتقيم معه المعاشرة الجنسية، وعلى الزوج في المقابل أن يعيلها وأطفالها، كما عليه أن يقدم لها مهرًا. ولكن واقع كثير من النساء والرجال يطرح صورة مغايرة تمامًا لمنظومة الزواج القانونية. فعلى أرض الواقع، يقع على المرأة والرجل معًا مسئولية تأثيث مسكن الزوجية ولا تأخذ النساء عادة (لا سيما من الطبقات الفقيرة أو المتوسطة) أي مهر بل يدفع الزوج المبلغ الذي خصصه للمهر في نفقات توفير مسكن الزوجية. كما يشارك الطرفان في تأثيث مسكن الزوجية وتكتب في عقود الزواج مبلغًا رمزيًا كمقدم المهر أو تكتب عبارة «الصداق المُسمى بيننا» إذًا المهر كواجب قانوني على الزوج يؤديه للزوجة لكن لا وجود له على أرض الواقع. كما أن على الزوجة التزامات مادية ومشاركة الزوج في تأثيث مسكن الزوجية حسب العرف السائد وتُدون مساهمات الزوجة في تأثيث مسكن الزوجية في قائمة يوقعها الزوج ويتعهد بها كدين عليه للزوجة. وبالتالي إذا تنازع الزوجان وقررا الانفصال يحق للزوجة المطالبة بهذه القائمة أو قيمتها في حالة تم تبديد منقولات مسكن الزوجية. إذًا على أرض الواقع، أن قائمة أثاث مسكن الزوجية هي التي تشكل أهمية كحق مادى للزوجة. هل هذا يعني أنه ربما من العدالة أن تكون القائمة هي ما يجب أن ترده الزوجة مقابل حصولها على الخلع؟ في الحقيقة كان لدى بعض أخصائي التسوية هذا الرأي بعينه. أثناء ملاحظتي لجلسات المحكمة أو تحليلي لملفات القضايا أومقابلاتي مع القضاة لم أجد أي قضية حكم فيها القاضي بأن يرد الزوج قائمة منقولات مسكن الزوجية ولكن هناك دراسة حديثة عن الخلع ذكرت أن بعض القضاة حكموا برد المتقاضية القائمة للزوج كشرط لحصولها على حكم الخلع (8).
إن الخطأ في فكرة رد الزوجة منقولات مسكن الزوجية مقابل حصولها على الخلع هو أنها لا تأخذ في الحسبان المساهمة المالية التي تقوم بها الزوجة في تأثيث منزل الزوجية، بل ومساهمتها أيضًا في الإنفاق على الأسرة التي تكونها مع الزوج. ولقد رصدنا في هذه الدراسة كثيرًا من الحالات التي تقوم فيها الزوجة إما بمشاركة الزوج في أعباء الإنفاق على الأسرة أو تقوم هي بالجزء الأكبر من المسئولية في إعالة الأسرة. فالدور الاقتصادي الذي تقوم به الزوجة في إطار الأسرة هو حقيقة شائعة وملموسة في الحياة اليومية التي يعيشها كثير من الأزواج والزوجات. ولكن هذا الدور لا وجود له في منظومة قوانين الأحوال الشخصية، وبالتالي لا يترجم إلى أي حقوق قانونية للمرأة. وهذا على عكس الرجل الذي يحصل بموجب أدائه لواجبه القانوني في الإنفاق على الزوجة على حق طاعة الزوجة له (بمفهومه القانوني) وبالتالي أرى أن هذه الفجوة بين علاقات الزواج في الخطاب القانوني وكما تعاش على أرض الواقع تزيد من التناقضات والإشكاليات التي تحدث في النزاعات المادية بين الزوجين في قضايا الخلع وغيرها.
النتيجة السابعة: تشير نتائج هذه الدراسة إلى أن بعض الأزواج الذين هم أطراف في دعاوي خلع يرفعون على زوجاتهم قضايا إنذار طاعة كنوع من الحيلة القانونية لخلق عقبات في طريق سعى الزوجة للخلع. وفقًا للمادة (11) في قانون رقم 100 لعام 1985، تفقد الزوجة التي تصدر المحكمة عليها حكم نشوز حقها في النفقة الزوجية. الطريف أن هؤلاء الأزواج رفعوا قضية إنذار طاعة بالرغم من أن رفع الزوجة لقضية خلع يعني بالضرورة أنها إذا حكم لصالحها تتنازل عن كل حقوقها في النفقة، والمهر والمتعة.
في مثل هذه الحالات التي رصدناها في هذه الدراسة وجدنا أن الزوجة كانت تمضى قُدما في قضية الخلع وترفع أيضًا اعتراضًا على إنذار الطاعة. وفي كل الحالات التي رصدناها حصلت الزوجة أولاً على حكم الخلع وبموجب هذا الحكم كسبت قضية الطاعة حيث قضى بأن لا يجب على المطلقة حق الطاعة لزوجها. بمعنى أن هيئة المحكمة اعتبرت أن المتقاضية مطلقة بموجب حصولها على حكم الخلع وبالتالى لا يحق للزوج طلب الطاعة. إذًا فإن رفع الزوجة لقضية الطاعة لم تؤثر في النهاية على مساعي الزوجة إلى الخلع ولكنها جعلت الزوجة طرفًا في قضية أخرى إلى جانب قضية الخلع مما يضيف إلى الأعباء التي تتكبدها من الوقت والمال أثناء عملية التقاضي.
النتيجة الثامنة: تجهل كثير من الشابات المصريات (سواء المتزوجات أو غير المتزوجات) اتحاد حقوقهن القانونية المتعلقة بالزواج، والطلاق، والحضانة، والولاية على الأطفال. على سبيل المثال لم تكن تعلم كثير من النساء المبحوثات في هذه الدراسة أن من حقهن التفاوض مع الزوج عند إبرام عقد الزواج ووضع شروط في العقد تضمن لهن بعض الحقوق المهمة مثل العمل والسفر دون الحاجة إلى موافقة الزوج، تفويض الزوج لها حق الطلاق، عدم اتخاذ الزوج لزوجة أخرى وحقها في الطلاق إذا خالف هذا الشرط….حتى هؤلاء المبحوثات اللاتي كن يعلمن بحقهن في التفاوض مع الزوج على وضع شروط معينة في عقد الزواج شعرن أن هذا يسبب لهن الحرج وخشين أن يفسر الزوج ممارستهن لهذا الحق بأنه تخوين للزوج وعدم الثقة به.
كما وجدنا أيضًا أن كثيرًا من النساء والرجال الذين أجرينا مقابلات معهم في إطار الدراسة لم يكن لديهم دراية عن طبيعة عمل محكمة الأسرة وفلسفتها وأهدافها.
النتيجة التاسعة: بالرغم من إصدار قانون الخلع وإقامة نظام محكمة الأسرة، مازالت تعانى النساء التهميش والتمييز في قوانين الأحوال الشخصية الموضوعية والتي تنظم منظومة الزواج بأكمله (القوامة، الطلاق، الحضانة، الولاية… إلخ). وهذا يرجع إلى أن هذه القوانين مازالت مبنية على ثنائية الطاعة مقابل الإنفاق. وهي ثنائية مأخوذة من التعريف الفقهي للزواج، بل إن قوانين الأسرة الحالية غيرت وشوهت بعض أحكام الفقه التي تحقق العدالة للمرأة وزادت من التمييز الذي كان موجودًا ضد المرأة في بعض الأحكام الفقهية الأخرى. ولكن تبقى الإشكالية الكبرى وهي أن هذه الثنائية تتجاهل التعريف القرآني للزواج بأنه سكن ومودة ورحمة. كما تتجاهل التعريف الإلهي للعلاقة بين الزوجين بأنها علاقة حماية وتشارك متبادل وهذا من خلال الوصف القرآني للزوجين بأن كل منهما «لباس» للآخر. ونتيجة غياب هذا الفهم القرآني للزواج والعلاقة بين الزوجين من منظومة قوانين الأحوال الشخصية، هيمنت فكرة الزواج كعلاقة تراتبية مبنية على ثنائية الإنفاق والطاعة ويسيطر فيها الزوج على الزوجة ويعطى للأول حقوق كثيرة وغير متساوية على حساب الزوجة مثل حق الطلاق المنفرد دون اللجوء إلى المحكمة وحق الولاية على الأطفال (9)، إلخ. إذًا بالرغم من إنجازات مثل إصدار قانون الخلع وإقامة محكمة أسرة متخصصة ذات آليات متعددة لحل النزاعات الأسرية، تبقى الحاجة إلى حركة إصلاح شاملة في منظومة قوانين الأحوال الشخصية الموضوعية لأن هذه المنظومة تشكل عائقًا كبيرًا لتمكين النساء والرجال من إقامة علاقات زواج سعيدة وصحية تقوم على المعاني القرآنية السالف ذكرها(10).
النتيجة العاشرة: أن التحديات التي تواجه الجهود الرامية لإصدار قانون موضوعي جديد وشامل للأحوال الشخصية يتبنى منظومة جديدة للزواج مبنية على المساواة والعدالة بين الجنسين ليست محصورة على هيمنة الخطاب الديني والمجتمعي الذي يصبغ هوية دينية على قوانين الأحوال الشخصية ويفترض قدسيتها وعدم جواز تغييرها. فهناك عدة قضايا تدفع التجاذب والصراع الدائر بين الأطراف الشتى المعنية بقوانين الأحوال الشخصية (سواء بغرض تغييرها أو الإبقاء عليها) وعدم توافق الأطراف حول هذه القضايا يساهم بصور مختلفة في عرقلة الجهود الساعية لإصدار قانون جديد. ويمكن تلخيص هذه القضايا العالقة كالآتي: الصراع على الشرعية بين خطابات دينية عدة موجودة في الساحة العامة المصرية، الإشكاليات الناتجة عن سعي بعض الناشطات والناشطين العاملين في مجال حقوق المرأة في الوطن إلى إصلاح قوانين الأحوال الشخصية عن طريق إقامة تحالفات مع بعض الجهات في النظام السابق والتعاون معها في جهود الإصلاح في الوقت الذي كان يعاني فيه المواطنون من قهر النظام وفشله في تحقيق المواطنة، الخلاف بين أطراف شتى سعت إلى أو باركت جهود إصلاح قوانين الأسرة لتحقيق المساواة والعدالة بين الجنسين حول ملاءمة الخطاب النسوى العالمي وآلياته (مثل اتفاقية سيداو) كالإطار المنظم للنشاط الحقوقي في السياق المحلى.
ألقت هذه الدراسة الضوء على عدة نقاط يجب أخذها في الاعتبار من قبل أصحاب القرار والمشرفين والفاعلين الآخرين الذين يلعبون دورًا حيويًا في إصلاح قوانين الأحوال الشخصية هذه النقاط كالآتي:
أولاً: نقترح إلغاء مفاهيم ومرادفات الطاعة والتمكين (أي تمكين الزوجة لزوجها من نفسها) في مقترح القانون الجديد. فمثل هذه المفاهيم والكلمات ترسخ لمنظومة الزواج المبنية على علاقة غير متساوية بين الطرفين وتعضد من فكرة أن الدور الرئيسي للزوجة يتمحور في كونها تشبع رغبات زوجها الجنسية. من الضروري إقامة منظومة قانونية جديدة للزواج وتكون دعائمها لتنظيم حقوق وواجبات الزوجين المودة والرحمة والتشارك حتى تعكس القوانين الفلسفة القرآنية للزواج.
ثانيًا: حين يعمل المشرعون على إصدار قانون جديد، عليهم الأخذ في الاعتبار الدور الذي تقوم به النساء في تأثيث مسكن الزوجية ومشاركة الزوج في إعالة الأسرة بل وأحيانًا توليها كاملة لدور العائل. كيف يمكن أخذ هذا الدور الذي تقوم به كثير من النساء على أرض الواقع دون الإغفال عن تباين تجارب واحتياجات وأهداف النساء المصريات من أطياف وطبقات المجتمع المختلفة؟ فدعوتنا إلى الأخذ في الاعتبار الدور الاقتصادي الذي تقوم به كثير من النساء في الأسرة لا يعني بالضرورة أننا ننادي بوجوب فرض إعالة الأسرة على كل المتزوجات مثلهن مثل الرجال أو رفع هذا الواجب عن كاهل الزوج، ولكن يعني أن على المشرعين والذين يساهمون في إعداد القوانين الجديدة أن يشحذوا أذهانهم للتوصل إلى منظومة جديدة لتنظيم حقوق وواجبات الزوجين، وأن تعكس هذه المنظومة حقيقة ما يحدث على أرض الواقع في تجارب الزواج.
في الحالات التي تقوم بها النساء بدور العائل أو المشارك في الأسرة يترجم هذا الدور إلى حقوق قانونية لتلك المرأة (ولا سيم) في قضايا الخلع). كما نقترح أن تكون في المنظومة الجديدة مساحة لتنظيم أدوار وحقوق الزوجين بطرق شتى تناسب الاختلافات في تجارب الأسر واحتياجاتها ويكون العامل المشترك بين هذه الطرق المختلفة أنها قائمة على مبدأ التشارك بين الزوجين ولا تفترض افتراضات تأصيلية عن دونية المرأة أو تمييز الرجل. وكجزء من هذه العملية علينا أيضًا مراجعة الحقوق التي تمنحها القوانين الحالية للرجل دون شروط أو تمنعها المرأة حتى وإن لم يقم الزوج بواجب الإنفاق. فللرجل حق الطلاق دون اللجوء إلي المحكمة وبدون سبب كما له حق الولاية على أولاده حتى وإن لم يكن ينفق عليهم أو لم يكن حاضنًا لهم. والغرض من طرح هذه الإشكالية ليس هو أننا ندعو إلى ضرورة ربط هذه الحقوق بالإنفاق أو ننادي فقط بمساواة شكلية في كل الحقوق بين الجنسين. بل هدفنا واقتراحنا كما قلنا سلفًا، هو أن تراجع الافتراضات التي تقوم عليها المنظومة الحالية لقوانين الأحوال الشخصية وتبنى افتراضات جديدة لإقامة منظومة جديدة ترى العلاقة بين الزوجين علاقة تشارك بين طرفين متساويين وجديرين بحقوق تحميهم من التهميش وتحقق لهم العدالة.
ثالثًا: وبناء على ما تم ذكره في النقطة السابقة، نقترح أن يتم تنظيم ممارسة الزوج لحقه في الطلاق عن طريق المحكمة. بمعنى أن على الرجل الذي يريد أن يطلق زوجته أن يتقدم بطلب بذلك للمحكمة. كما نقترح الاقتباس من القانون المغربي في هذا الشأن وتلزم الرجل الذي يقدم طلب الطلاق للمحكمة أن يؤدى أولاً للزوجة كل حقوقها المادية كما تراها المحكمة قبل أن تجيز المحكمة له الطلاق، والهدف من هذا الاقتراح هو أن نجد آلية فعَّالة لتمكين المرأة من الحصول على حقوقها حين يمارس الرجل حقه في إنهاء علاقة الزواج بإرادته المنفردة كما أن تنظيم المحكمة لممارسة الرجل لحق الطلاق سيحد من سوء استخدام الرجل لهذا الحق ولا سيما إذا استحدث أيضًا إلزام الطرفين بمحاولة المصالحة أو التسوية عن طريق المحكمة كما هو الحال الآن في قضايا التطليق والخلع.
وإذا ما أخذ بهذا الاقتراح، فيصبح في هذه الحالة حق الرجل في الطلاق مساويًا لحق المرأة في الخلع، كما أرادته الشريعة الإسلامية. ففي هذه الحالة يحق للطرفين إنهاء علاقة زواج لا يريدانها حتى وإن لم يوافق الطرف الآخر ولكن لتحقيق العدل لهذا الطرف الآخر يُقدر له عن طريق المحكمة العوض المادي لما لحقه من ضرر.
هذا المنطق المرجُو الذي يساوى بين حق الرجل في الطلاق وحق المرأة في الخلع غائب في القوانين الحالية. فالرجل يطلق دون اللجوء إلى المحكمة ودون أن يعطى لمطلقته حقوقها المادية. وعلى مطلقته أن تسعى بنفسها في عملية تقاضي معقدة وطويلة لتحصل على هذه الحقوق وحتى حين يصدر حكم لصالحها تحول ثغرات متشابكة وعديدة في آليات التنفيذ دون حصولها على أي من حقوقها المادية. أما المرأة فلا تستطيع أن تحصل على الخلع إلا عن طريق اللجوء إلى المحكمة وبعد أن تتنازل عن كل الحقوق المادية الممنوحة لها بموجب القانون. إن التوازن بين حق الرجل في الطلاق وحق المرأة في الخلع يعزز من فكرة الزواج كعلاقة يهيمن فيها الرجل على المرأة. وبالطبع تعيق هذه الفكرة الجهود الرامية لبناء منظومة جديدة للزواج قائمة على العدالة والتشارك بين الزوجين.
رابعًا: على صانعي القرار ومنظمات حقوق المرأة وغيرهم من العاملين في المجتمع المدني المعنيين بقضية تحقيق العدالة الاجتماعية توعية الإعلام بفلسفة نظام محكمة الأسرة ولا سيما فكرة التسوية كآلية مساعدة أو بديلة لعملية التقاضي. على الإعلام والمجتمع أن يدركا أن هدف عمل التسوية في محكمة الأسرة هو مساعدة الطرفين المتنازعين علي الوصول إلى تسوية عادلة توفر عليهم الوقت والجهد والمال الذي تتطلبه عملية التقاضي.
فتحليل محتوى مقالات الصحف التي تناولت محكمة الأسرة تبين أن الرؤية السائدة لدور المحكمة في هذه الصحف هو أنها تسعى إلى المصالحة بين الزوجين بهدف البقاء على علاقة الزواج والحفاظ على الأسرة. لذا كانت هذه الصحف تُقيم نجاح دوائر المحاكم في المحافظات المختلفة بعدد القضايا التي تمت فيها المصالحة بين الزوجين وعدلت الزوجة فيها عن قرار التطليق. وكما ذكرنا سالفًا أن هذه الرؤية لدور المحكمة (وبالذات لدور التسوية) كانت متبناة أيضًا من العاملين بالمحكمة الذين تم إجراء مقابلات معهم. هناك مؤشرات إلى أن التدريبات التي تلقاها بعض أخصائيي التسوية في مشروع عدالة الأسرة أدت إلى بعض التصحيح في هذا الفهم الخاطئ للهدف من التسوية في عمل المحكمة وفلسفة نظام المحكمة عمومًا. كما أن هذه التدريبات ساعدت أخصائيي التسوية على اكتساب المهارات المطلوبة لأداء عملهم بصورة صحيحة وفعالة. ولكن بعض الصحف كانت ومازالت تتبنى هذه الرؤية لدور التسوية كما كان واضحًا في مقالة نشرتها جريدة الأهرام في 15 أكتوبر 2009 حيث كان العنوان «نجاح عدة محاكم أسرة في عدة محافظات في أداء عملها» وفي متن المقالة دللت الجريدة على هذا النجاح بذكر عدد الحالات التي استطاع فيها أخصائيو التسوية تحقيق الصلح بين الزوجين وأقنعوا الزوجات بالبقاء في علاقة الزواج. إذا هذا الطرح يرى أن دور المحكمة في الأساس هو الإبقاء على مؤسسة الزواج والحد من الطلاق بينما دور المحكمة حسب فلسفة هذا النظام المتبع في كثير من البلاد هو توفير نظام قانوني يوفر آليات متعددة، متاحة وغير مكلفة لحل النزاعات الأسرية والحفاظ على حقوق الأطراف المتنازعة. بالطبع نتوقع أنه كلما زاد عدد العاملين بالمحكمة (وصانعي القرار) الذين يتبنون الفهم الصحيح لدور محكمة الأسرة، فإن الإعلام بدوره سيتبنى هذا الفهم أيضًا. ولتحقيق هذا الهدف يتعين أيضًا على منظمات حقوق المرأة ووزارة العدل والفاعلين الآخرين المهتمين بهذا الشأن أن يقوموا بتوعية الإعلام بفلسفة وأهداف نظام محكمة الأسرة بعدة طرق هي: إقامة ورش عمل للإعلاميين، نشر هذه التوعية عن طريق اللقاءات التليفزيونية، ونشر مقالات في الصحف حول دور محكمة الأسرة.
خامسًا: على صانعي القرار والناشطات والناشطين المعنيين بحقوق المرأة وكل العاملين في الحكومة أو المجتمع المدني الذين يسعون إلى إصلاح منظومة قوانين الأحوال الشخصية من أجل تحقيق العدالة للجنسين، عليهم أن يأخذوا في الاعتبار في جهودهم العلاقة الوثيقة بين قوانين الأحوال الشخصية وقوانين التضامن الاجتماعي، ففي المنظومتين هناك افتراض خاطئ عن الأسرة النووية وهو أنها تتكون من زوج يقوم بإعالة الزوجة والأطفال بينما الزوجة والأطفال يعتمدون ماديًا على هذا العائل ويتبعونه ويقعون تحت سلطته. ولكن هذا التصور لأدوار الزوجين بعيد عن ما يحدث على أرض الواقع، حيث تقوم الزوجة بكثير من الأعباء المالية وهي إما تشارك في إعالة الأسرة وإما تكون العائل الرئيسي للأسرة، ورغم ذلك وجدنا في هذه الدراسة أن كثيرًا من النساء الفقيرات يحرمن من الخدمات التي توفرها الحكومة والجمعيات الأهلية للفئات الفقيرة والمهمشة وذلك بسبب حالتهن الاجتماعية کمتزوجات رغم أن كثيرًا من هذه الحالات لا يعيل الزوج الأسرة إما لأنه لا يعمل أو يعمل بصورة متقطعة للغاية، أو لأن الزوج يقيم مع الأسرة بصورة متقطعة هذه المشاكل الاقتصادية الخانقة وسوء حالته النفسية ومحاولة هروبه من هذه المشاكل، إما بإدمان المخدرات أو تعدد الزوجات دون الالتزام بإعالة أي من زوجاته، وحتى حين تنجح هؤلاء السيدات في الحصول على بعض الخدمات التي توفرها هذه الجهات فإنهن لا يستطعن تجنب تشكك هذه الجهات في أحقية هؤلاء النساء في خدماتها من منطلق أن لديهن أزواجًا يعولهن وتزداد هذه الشكوك حين تحاول هؤلاء السيدات السعى إلى العمل (11) حتى يستطعن توفير بعض الدخل لأطفالهن رغم أن الأعمال التي يقمن بها متقطعة ولا تغنى عن احتياجهن إلى خدمات الجمعيات الأهلية المحدودة ومعاش الضمان الاجتماعي إذا استطعن الحصول عليه فإن واقع هؤلاء النساء لا ينطبق عليه صورة الأسرة النووية كما تتبناها قوانين الأحوال الشخصية من جهة وقوانين الضمان الاجتماعي وسياسات الجمعيات (الحكومية) وغير الحكومية التي تعمل مع الفئات المُهمشة في المجتمع من جهة أخرى، لذلك يسعى كثير من هؤلاء النساء للخلع ليس فقط لإنهاء زيجة تعيسة ومليئة بالضرر، ولكن أيضًا لأن سياسات الدولة وقوانينها ترى هؤلاء النساء كمتزوجات مسئولات من أزواجهن قبل أن تراهن كمواطنات لهن حقوق المواطنة من عدالة اجتماعية وكرامة. هذا يعنى أننا نحتاج إلى إصلاح ليس فقط في قوانين الأحوال الشخصية ولكن أيضًا منظومة سياسات وقوانين الدولة المعنية بالعدالة الاجتماعية وتوفير سبل العيش الكريم للمواطنات.
سادسًا: على الساعين إلى إصلاح قوانين الأحوال الشخصية بهدف تحقيق المساواة والعدالة للجنسين بناء حجج قوية تدعم أهدافهم وجهودهم، وتكون هذه الحجج مبنية على تفاعل بناء مع الفقه الإسلامي وأدبياته القديمة والمعاصرة. هذا لا يعني أن تكون الدعوة إلى الإصلاح مبنية فقط على الحجج الدينية. فحقوق المواطنة، والاستجابة لضروريات واحتياجات الواقع الذي تعيشه النساء والرجال، والالتزام بالاتفاقات الدولية المعنية بحقوق الإنسان وعدم التمييز ضد المرأة، كل هذه المرجعيات دعائم مهمة أيضًا في بناء حجج قوية تدعم الجهود الرامية للإصلاح القانوني الشامل. كما أنني لا أنادي إلى الاستخدام الانتقائي للحجج الدينية في السعى إلى إصلاح قوانين الأحوال الشخصية. ولكن ما أقترحه هو أنه لكي يصبح الإصلاح القانوني مسارًا فعالاً ويساعد على تغيير مجتمعي ملموس هناك الكثير الذي يمكن أن يقوم به فاعلون عديدون مثل صانعي القرار، منظمات حقوق المرأة، الإعلام، علماء الدين، المؤسسة الدينية متمثلة في الأزهر، العاملين بالمحكمة، ولكن ما يتعين على علماء الدين على وجه الخصوص الذين يؤمنون بأن المساواة والعدالة للجنسين هو مبدأ أساسي في الشريعة الإسلامية، يتعين على مثل هؤلاء العلماء أن ينتجوا وينشروا المعرفة الدينية التي تعرض الرؤية والحجج الدينية المتكاملة التي تؤيد وتعضد من قيمة المساواة والعدالة للجنسين وتتبنى منظومة جديدة للزواج وحقوق وواجبات الزوجين وأن تعكس هذه المنظومة قيم القرآن الكريم. ونقترح نشر أعمال هؤلاء العلماء ليس فقط بين صانعي القرار والمشرعين ولكن أيضًا بين كل فئات المجتمع بأكمله. ويمكن نشر مثل هذه المعرفة والخطاب الديني الجديد عن طريق إقامة ورش العمل واللقاءات التليفزيونية. ولقد بدأ بالفعل بعض علماء الدين القيام بمثل هذا المشروع بالتعاون مع بعض منظمات حقوق المرأة مثل الراحل الدكتور عبدالمعطی بیومی. فقد نشر د. بيومي سلسلة من المقالات للدعوة إلى إصدار قانون الخلع في 2000 في مجلة «المصور». كما أنه عمل بصورة وثيقة مع مركز قضايا المرأة على مدار عدة سنوات ونشر بالتعاون معه دراسة عن القوامة والولاية كمفهومين فقهيين وعلاقتهما بإصلاح قوانين الأحوال الشخصية. ففي هذه الدراسة يطرح مراجعة من منظور ديني للفهم الفقهي القديم والحالي للقوامة بأنها علاقة تراتبية بين الزوج والزوجة قائمة على أفضلية وتميز الأول ودونية الزوجة.
في هذه الدراسة استخدمت مفهوم «الجندر» كأداة تحليلية لكي:
(1) أرصد وألقى الضوء على الفروق في الواجبات والحقوق القانونية للنساء والرجال فيما يتعلق بالزواج.
(2) أرصد كيف تؤثر الرؤية القانونية لأدوار وحقوق الجنسين في حياة النساء وكيف تؤثر على اختياراتهن.
(3) ألقى الضوء على كيف ومتى تترجم هذه الفروق القانونية إلى عدم المساواة بين الجنسين وإذا كان هذا يؤدي إلى غياب العدالة.
(4) وأخيرًا أتبين إذا كانت القوانين الجديدة التي صدرت في العقد الماضي (مثل الخلع ومحكمة الأسرة) أحدثت أي تغيير في العلاقة التراتبية في الزواج والحقوق المتباينة للزوجين.
تقول أندريا كورنول في م قالة بعنوان “مراجعة أجندة الجندر” (12) إن مفهوم الجندر في أدبيات دراسات التنمية فقد قدرته كأداة تحليلية وكأداة لتحقيق التمكين للمرأة ورفع الظلم عنها. وتحذر كورنول من إشكالية أن يصبح مفهوم الجندر كلمة عامة جامعة لأشياء كثيرة وبذلك يفقد المفهوم قيمته التحليلية أو يؤدى إلى تأصيل أفكار ومعان مغلوطة عن النساء والرجال وأدوارهما وعلاقتهما ببعض وهذا بدلاً من إظهار إشكاليات هذه الأفكار وتدعو كورنول إلى ربط التحليلات المبنية على منظور الجندر بتلك التي تلقى الضوء على العوامل الهيكلية التي تؤدى إلى العلاقات التراتبية وعدم المساواة وغياب العدالة. وأنا أتفق مع كورنول في هذا التحليل لذلك في هذه الدراسة أحاول تحليل الرؤية القانونية لدور الزوجة والزوج وحقوقهما وافتراضات هذه الرؤية حول المرأة والرجل في السياق السياسي والاقتصادي والديني الذي تتشكل في إطاره تجارب حياة واختيارات المتقاضيات والمتقاضين الذين كانوا محور هذا البحث.
كان من أحد أهداف هذه الدراسة الوصول إلى فهم متعمق عن الإصلاحات الحديثة التي تمت في قوانين الأحوال الشخصية وفعاليتها كمسار لتمكين المرأة. وفي هذا السياق أعرض بعض التأملات حول فكرة تمكين المرأة عن طريق الإصلاح القانوني.
أولاً: إذا ما ألقينا الضوء على الناشطات الحقوقيات اللاتي كن فاعلات رئيسيات في جهود إصدار القوانين الجديدة والسعى إلى مزيد من الإصلاحات نجد أن تمكينهن لم يتعلق فقط بإنجازهن أو عدم إنجازهن للأهداف التي سعين لها بل تمكين هؤلاء الناشطات ارتبط أيضًا بعدة أشياء أخرى مهمة ولكنها تتعلق بعملية الإصلاح (وليس بمُنتج العملية فقط) وهي: كيف فهمت هؤلاء الناشطات أهدافهن؟ ما رؤيتهن للعدالة للجنسين وما يتطلبه ذلك؟ كيف وظفن جهودهن لإصلاح منظومة قوانين الأحوال الشخصية؟ كيف تواصلن وعملن مع صانعي القرار والفاعلين الآخرين المعنيين بالإصلاح وباقى فئات المجتمع؟ ما أقصده أن عملية تمكين الناشطات الحقوقيات اشتملت على عدة محاور، وبالتالي لا يمكن قياسها بالمكاسب القانونية فقط بل تشمل أيضًا اكتساب هؤلاء الناشطات وعيًا جديدًا وخلق المساحة لحوار ومناقشات مجتمعية تدعم من الجهود الساعية إلى إحداث تغيير في المفاهيم والافتراضات المغلوطة حول دونية المرأة وأفضلية الرجل ونموذج الزواج المبنى على علاقة تراتبية.
أما بالنسبة للمتقاضيات، فلقد حاولنا دراسة تمكينهن من عدة زوايا يمكن تلخيصها في هذه الأسئلة: ما الاختيارات التي أوجدتها بالفعل القوانين الجديدة لهؤلاء المتقاضيات؟ ما العوامل المُعيقة لاستخدام هؤلاء المتقاضيات لتلك القوانين كأداة تمكين؟ كيف تستفيد هؤلاء المتقاضيات من هذه القوانين؟ وكيف تؤثر في وتتأثر تجارب الحياة التي تعيشها هؤلاء النساء باستخدامهن لتلك القوانين وما ينتج من عملية التقاضي؟ ووجدنا أن هناك فروقًا بين تمكين النساء على المستوى الفردي وعلى المستوى الجماعي. فإن بعض القوانين قد تؤدى إلى تمكين بعض النساء على المستوى الفردي بينما هذه القوانين نفسها تُميز ضد النساء كفئة والعكس صحيح، أي بعض القوانين تكون أداة تمكين للنساء كفئة ولكن لهذه القوانين آثار متباينة على المتقاضيات على المستوى الفردي حسب الفروق بين هذه المتقاضيات. مثلاً وجدنا في هذه الدراسة أن بعض المتقاضيات بمساعدة محاميهن نجحن في توظيف بعض نصوص قوانين الأحوال الشخصية والتي تعضد من فكرة حصر دور الزوجة في إقامة المعاشرة مع الزوج واعتبار هذه العلاقة حقًا أساسيًا للزوج، وجدنا أن بعض المتقاضيات وظفن هذه المواد لصالحهن في دعواهن للتطليق للضرر، هذا يعنى أن هؤلاء المتقاضيات نجحن على المستوى الفردي في الوصول إلى مساعيهن إلا أن الأساليب القانونية التي لجأن إليها والمنطق المستخدم في دعواهن يعضد من منظومة العلاقة التراتبية بين الزوج والزوجة. وتبقى هذه المنظومة إطارًا أساسيًا لتهميش النساء وعلى المنوال نفسه أوجد قانون الخلع حلاً حقيقيًا للنساء (من جميع فئات المجتمع) اللاتي يسعين إلى إنهاء علاقة الزواج دون خوض عملية تقاضي طويلة وغير مضمونة. ولكن ينتقص من إيجابيات هذا القانون كأداة لتمكين المرأة أن كثيرًا ما قد تلجأ إليه النساء كبديل للتطليق للضرر مما يعنى تنازلهن (بدون حق) عن حقوقهن المادية. وهذا يتناقض مع فكرة التماثل بين حق الرجل في الطلاق وحق المرأة في الخلع. كما أن السياسات والقوانين المتعلقة بالضمان الاجتماعي وخدمات الجمعيات الأهلية تدفع بعض النساء الفقيرات إلى اللجوء إلى الخلع حتى وإن كانت لديهن الأسباب التي تسمح لهن بطلب التطليق للضرر. وأخيرًا إشكاليات آليات التنفيذ في محاكم الأسرة تدفع المتقاضيات إلى مسارات قانونية بعينها لا تمكنهن بالضرورة من تحقيق العدالة المرجوة وإن كانت هذه الحلول القانونية تجد لهن مخرجًا سريعًا لمشكلتهن، كل هذه المشاكل السابق ذكرها تؤدي بنا إلى الخلاصة أن تمكين المتقاضيات هي عملية متشابكة ومعقدة تتم على. عدة محاور ولا تتبع خطًا أحاديًا؛ بمعنى آخر فإن تمكين المرأة، في اعتقادي، هو أن تكون لديها اختيارات والقدرة على تبنى هذه الاختيارات، التمكين يعني أن تؤمن المرأة بنفسها وتجد البيئة التي تدعمها وتنمى ثقتها بنفسها، والتمكين يعنى أيضًا أن تستطيع المرأة أن تحدث تغييرات إيجابية وملموسة في حياتها. إذًا التمكين هو عملية وليس مجرد نتيجة تصل إليها المرأة، هو رحلة وليس فقط مقصدًا(13). وهذه الرحلة قد تأخذ المرأة في مسارات شتى، وأحيانًا قد تتشابك هذه المسارات. وهذه الرحلة قد تحوى تجارب عديدة، خسائر ومكاسب، وكفاح، ومفاوضات، وتنازلات. كما تحوى أيضًا اكتشاف المرأة لذاتها ومصدر قوتها الداخلية.
ختامًا استفادت النساء من بعض قوانين الأحوال الشخصية الجديدة والتي صدرت في العقد الماضي. فلقد أتاحت هذه القوانين للمرأة حق الخلع، كما مدت للحاضنة فترة حضانتها لأطفالها وأقامت نظام محكمة الأسرة (بالرغم من الثغرات في هذا النظام التي أشرت إليها).
ولكن تبقى ضرورة ملحة لإجراء إصلاحات جذرية في منظومة قوانين الأحوال الشخصية الموضوعية حتى تتحقق العدالة للمرأة. ولكن التمكين الذي يؤدي بالمرأة لن يتحقق قط بالإصلاح القانوني وإصدار القوانين الجديدة بل يستلزم جهودًا وتغييرات على نطاقات عديدة في مؤسسات وأعراف وثقافات المجتمع.
ألقت هذه الدراسة الضوء على قضيتين يمكن أن يكونا محور دراسات في المستقبل:
القضية الأولى تتعلق بالعلاقة بين عمل المرأة المتزوجة وقوانين الأحوال الشخصية والقوانين الأخرى المعنية بالسياسات الاجتماعية (مثل الضمان الاجتماعى) ويمكن دراسة العلاقة بين هذه المحاور في إطار أربع نقاط تم رصدها في هذه الدراسة وهي كالآتي:
أولاً: أن كثيرًا من الشابات من الطبقات الفقيرة يعملن ويساهمن في تأثيث مسكن الزوجية عند الزواج.
ثانيًا: لدى هؤلاء النساء مشاعر متضاربة حول عملهن وفي العادة هن يتركن العمل حين يتزوجن لأسباب عدة من ضمنها عدم حصولهن على أي مردود قانوني أو اجتماعي من عملهن. ولكن بعد فترة من الوقت تعاود هؤلاء النساء العمل لأن أزواجهن لا يستطيعون أو لا يريدون الإنفاق عليهن.
ثالثًا: وحين تفشل علاقة الزواج بين هؤلاء النساء وأزواجهن، تلجأ هؤلاء النساء إلى الخلع لأنه مسار سريع ومضمون للطلاق حتى يستطعن الحصول على معاش التضامن الاجتماعي.
ورابعًا: تبقى المشاعر المتضاربة حول العمل لدى هؤلاء النساء لأن الأعمال التي يعملن بها شاقة، قليلة الأجر، متقطعة وتُقوض من فرص حصولهن على استحقاقات الضمان الاجتماعي أو خدمات الجمعيات الأهلية، رغم أن هذه الأعمال لا تلبي ما تحتاج إليه النساء وأطفالهن للعيش.
إذًا هناك حاجة لإجراء مسح على مستوى الجمهورية لدراسة النساء اللاتي يلجأن إلى الخلع. ومن خلال هذا المسح يمكن جمع مادة بحثية تلقى الضوء على:
(1) عدد النساء اللاتي يلجأن إلى الخلع.
(2) الأسباب المشتركة والشائعة بين النساء التي تدفعهن إلى طلب الخلع.
(3) العلاقة بين اختيارات وتجارب هؤلاء النساء المتعلقة بالزواج من جهة واختياراتهن وتجاربهن المتعلقة بالعمل.
(4) حصول هؤلاء النساء (أو عدمه) على استحقاقات الضمان الاجتماعي وخدمات الجمعيات الأهلية وعلاقة ذلك بتجارب النساء في الزواج. وبالإضافة إلى هذا المسح، يمكن إجراء بحث كيفى لتقصى النتائج التي يتم التوصل إليها في المسح.
القضية الثانية التي تحتاج إلى مزيد من الدراسة تتعلق بالخطابات العديدة والأطر والمرجعيات الشتي التي توجه أو تؤثر على المناقشات والجهود المعنية بإصلاح قوانين الأحوال الشخصية. ومن أمثلة هذه المرجعيات: الخطاب الديني السائد في المجتمع، المواطنة وحقوقها، مبادئ وأهداف حركة النسوية العالمية والمصرية، وخطاب الحداثة والتنمية. فهذه القضية الأخيرة جديرة بالدراسة ولا سيما بعد ثورة 25 يناير. فالسؤال الآن: كيف سيتم طرح وتناول قضية المساواة بين المرأة والرجل وتحقيق العدالة في إطار إصلاح قوانين الأحوال الشخصية في مصر الجديدة؟ ففي مصر الجديدة توجد من جهة البيئة المهيئة لتحقيق العدالة للمرأة بعد قيام ثورة مجيدة كان مطلبها الأساسي الحرية والعدالة الاجتماعية. ولكن من جهة أخرى توجد مخاطر قد تعرقل السعى إلى تحقيق المساواة والعدالة للمرأة بسبب هيمنة فاعلين جدد في الساحة السياسية والمجتمعية لا سيما هؤلاء الفاعلون الذين يتبنون خطابًا دينيًا يُنكر على المرأة كثيرًا من الحقوق المشروعة لها ليس فقط بموجب مبادئ المواطنة ومواثيق حقوق الإنسان ولكن أيضًا بموجب مبادئ الشريعة الإسلامية!
مُلكی شرمانی: أستاذة بحث مساعدة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة.
(1) أنا شاكرة للزميلة هانيا الشلقامي بمركز البحوث الاجتماعية لهذا الإدراك والذي جاء بعد مداخلتها أثناء ورشة العمل التي أجراها الفريق لعرض أهداف الدراسة والنتائج الأولية في يوليو 2007.
(2) كلما ذُكر في هذه الورقة أن الفريق البحثي قام بنشاط بحثى معين، أعنى بذلك أن العضوات الثلاث في الفريق قمن جميعًا بهذا النشاط.
(3) يعاون الدائرة القضائية خبيرات متخصصات في علم الاجتماع وعلم النفس وينص قانون رقم (10) على: أن يكون أحد الخبيرين إمرأة. ودور الخبيرات المتخصصات هو حضور جلسات المحكمة، مقابلة طرفي النزاع ومحاولة الصلح بينهما وتقديم تقرير عن القضية والأطراف المتنازعة لرئيس الدائرة.
(4) لمزيد من المعلومات عن نتائج هذه الدراسة، انظر/ي إلى المقالات وفصول الكتب التي نُشرت حول الدراسة وهي كالآتي:
4- Mulki Al-Sharmani. “Egyptian Family Courts: pathway to Women’s Empowerment?” In: Hawwa: Journal of the Middle East and the Islamic World, 7, 2009:89-119;”Legal Reform, Women’s Empowerment, and Social Change: The Case of Egypt”. In: IDS Bulletin, 41, 2, 2010: 1-7; “Egyptian Khhul’ Legal Reform, Court Lew Practices and Realities of Women’, In:j Rubya Mehdi et al (eds.). Interpreting Divorce Laws in Islam. Copenhagen, Denmark: DJOF Publishing, pp 85-104; “Qiwamag in Egyptian Family Laws: Wifely obedience between Legal Doctrine, Courtroom Practices and Lived Realities of Marriage”. In: Lena Larson et al (eds). Gender and Equality in Muslim Family Law : Justice and Ethics in Islamic Legal press. I. B. Taurus; Mulki Al sharmani (ed.). Feminist Activism, Women’s Rights and Legal Reform, 2013. London and New York: Zed Books, pp. 73100.
كما إنني بصدد الانتهاء من كتاب عن هذه الدراسة
(5) انظر/ ى إلى كتاب إحصائيات وزارة العدل. إدارة إحصائيات القضائية، البيانات الإحصائية لمحكمة الأسرة لعام 2004، 2005، 2006، 2007 تنشر الوزارة الإحصائيات متأخرة سنتين عن عام النشر.
(6) نسبت عدة صحف هذا الرقم إلى وزارة العدل في الفترة من مايو إلى يوليو 2010.
(7) انظر عزة سليمان وعزة صلاح الدين. «الخلع: القانون وتطبيقاته». في الصاوى (محرر)، الحصاد. عامان بعد الخلع، القاهرة: مركز قضايا المرأة 2003، ص 13-37، انظر/ي أيضًا نادية حليم وآخرون. الآثار الاجتماعية للخلع: دراسة مقارنة: الخلع وقضايا التطليق. القاهرة. مركز قضايا المرأة، 2005 (طبعة إلكترونية). انظر/ ى أيضًا مكتب شكاوى المرأة. المجلس القومى للمرأة. تقرير حول مشاكل المرأة في محاكم الأسرة، القاهرة، 2007.
8- Nadia Sonneveld. Khul Divorce in Egypt public Debate, Judicial Practices and Daily Life. Cairo: The American University in Cairo press, 2010.
(9) قانون الطفل الأخير الذي صدر في عام 2008 يُعطى للحاضنة الولاية التعليمية على المحضون خلال فترة الحضانة.
(10) أنا لا أزعم أن كل المتزوجات والمتزوجين في مصر غير قادرين على إقامة زيجات سعيدة. ولكنى أزعم أن هذه المنظومة القانونية لا تساعد على خلق البيئة المدعمة لمثل هذه الزيجات وبالتالي الرجال والنساء الذين يتمتعون بزيجات سعيدة نجحوا في تحقيق ذلك بالرغم من هذه القوانين وليس بسببها.
(11) المقابلات التي أجريناها مع المتقاضيات في قضايا الخلع في منطقتي العياط وعين الصيرة أبرزت هذه النقطة. وفي مقالة حديثة عن الجمعيات الأهلية والنساء الفقيرات في عين الصيرة تناولت هانيا شلقامي إشكاليات مثل هذه البرامج الحكومية وغير الحكومية التي تعمل مع الفئات المهمشة. انظر/ ى:
11- Hanya Shalkamy. “No path to powers Girls: Society, State Services and poverty of City Women” In IDS Bulletin 14, 24, 2010: 46-53.
12- انظر/ي
Andrea Cornwall. ‘Revisiting the Gender Agenda” In: IDS Bulletin Marsh 2007, 36, 2; 69-78.
(13) أنا شاكرة لنائلة كبير وأندريا كورنول اللتين ساعدتاني في بلورة فهمي لمفهوم التمكين من خلال أعمالهما عن هذا المفهوم، وتحليلي هنا مبنى أيضًا على المناقشات التي دارت حول هذا المفهوم في ورش العمل التي عُقدت تحت إطار مشروع مسارات تمكين المرأة بمركز البحوث الاجتماعية، الجامعة الأمريكية في عامي 2007 و2009.