كتابة الجسد: نحو فهم الكتابة الأنثوية
آن روزالیند جونز*
إن فرنسا اليوم ساحة لأنواع من النسوية، وتتنامى حركة تحرير النساء ( MLF: Mouvement de liberation des femmes) عاما تلو الآخر، ولكن للناس في الوقت نفسه الانقسامات داخلها، حيث تواصل المحلات والدوريات النسوية نشر الجدل المرير بين الأطراف، ومجموعة من الكاتبات تقاطع دار نشر نسوية، وتجد الفرنسيات المشاركات في مؤتمرات بالولايات المتحدة تعارض إحداهن مواقف ومواقع الأخرى بأعلى نورة صوت (لقد قالت مونيك ويتبع لإيلين سيكسون “إنها فضيحة!” – “Ceci est un scandalel”) ولكن في مجال النظرية تشترك الفرنسيات في المراجعة النقدية المتعمقة للأنماط التي زعم الغرب من خلالها بأنه قد رأى دليلا – او واقعا – وشكوكا بشأن الجهود الرامية إلى تغيير موقف النساء اللاتي يفشلن في تناول القوى الموجودة في الجسد، وفي اللاوعي. وفي البنى الأساسية المتعلقة بالثقافة، والتي تكون غير مرئية للعين الفاحصة المتتبعة للمنهج العلمي التجريبي وباختصار فإن النسويات الفرنسيات عموما على قناعة بأن الفكر الغربي قد اعتمد على قمع منظم لتجربة النساء. وهكذا فإن تأكيدهن على وجود طبيعة أصلية للأنثى هو مسألة منطقية تمثل نقطة انطلاق لتفكيك اللغة والفلسفة والتحليل النفسي والممارسات الاجتماعية واتجاه الثقافة الأبوية إذا تعيش فيها ونقاومها.
إن هذا الموقف القائم على التحول إلى الأنثوية (féminité) باعتبارها تحديا للتفكير في المركزية الذكورية، هو موقف أثار الفضول وأدى إلى سماع أصدائه عند النسويات الأمريكيات اللاتي يتزايد انفتاحهن على النظرية وإلى المراجعات النقدية الفلسفية وفالماركسية في التحليل النفسي بشأن الأساليب الذكورةي لرؤية العالم. (بل لقد تم اتهام بعض المتحدثات في مؤتمرات نسوية بالولايات المتحدة بتهمة الإفراط في النظرية.) ويبدو لي أنه من خلال النظرية على وجه التحديد، يتعين طرح التساؤل بشأن بعض مواقف النسويات الفرنسيات، وهو ما يتم بالفعل في فرنسا منذ بدايات حركة تحرير النساء. وبالتالي فإن ما أقصده هنا هو طرح بعض الأسئلة عن الانساق النظري، وكذلك (نعم. لا يمكن قمع) التداعيات العملية والسياسية المتعلقة بالمناقشات وأوجه الاحتفاء الفرنسية بالأنثوية (the feminine). فإذا سلمنا بأن ذاتية الأنثى مشتقة من وظائف أعضاء النساء والغرائز الجسدية من حيث تأثيرها على التجربة الجنسية واللاوعي، فمن الممكن أن تطرأ مشكلات نظرية وعملية، بل وتنشأ فعلا.
إن الفرنسات الأربعة اللاتي سأتناولهن بالمناقشة هنا يشتركن في وجود خصم واحد لهن وهو الفكر الذكوري، ولكنهن يرين أنماطا مختلفة لمقاومة هذا الفكر وتجاوزه – وهن: جوليا كريستيفا, لوسي إيريجاراي، إيلين سيكسو، ومونيك ويتيج ( ,julia Kristeva, Luce Irigaray, Hélène Cixous Monique Wittig). أما الأساس المشترك بينهن فهو تحليل الثقافة الغربية بوصفها ثقافة قائمة على القهر وثقافة قائمة على مركزية فحولة الكلمة (phallogocentric)، فقد زعم الرجل (الأبيض الأوروبي، المنتمي إلى الطبقة الحاكمة) قائلا: “أنا مركز العالم الموحد والمتحكم في ذاته“، وأضاف “وبقية العالم، الذي أعرفه بوصفه “الآخر“، فيتحدد معناه تبعا لعلاقته بي، باعتباري الرجل/ الأب وصاحب عضو الفحولة“.1 إن ادعاء المركزية هنا لاقى دعما لا من الدين والفلسفة فقط بل من اللغة أيضا. فالحديث، وعلى الأخص الكتابة، من مثل هذا الموقع تعني الاستحواذ على العالم وتوظيفه أي السيطرة عليه بواسطة السيادة اللفظية والخطاب الرمزي (اللغة في سياقات متنوعة) وسيلة أخرى يقوم الرجل من خلالها بتحويل العالم إلى موضوع واختزاله بما يتوافق مع شروطه الخاصة، ويتحدث في مكان كل شيء وكل شخص آخر – بما في ذلك النساء.
فكيف تتم مقاومة المؤسسات والممارسات ذات الدلالة (من حديث وكتابة وصور وأساطير وطقوس) الخاصة بمثل تلك الثقافة؟ تتفق هؤلاء النساء الفرنسيات على أن المقاومة لا تحدث في شكل المتعة (jouissance) أي الشكل المباشر لإعادة تجربة اللذات الحسية والجسدية من الطفولة والحياة الجنسية فيما بعد، وهي اللذات التي تتعرض للكبت لا الطمس بفعل “قانون الأب“.2 وتتوقف جوليا كريستيفا عند هذه النقطة، ولكن لوسي إيريجاراي وإيلين سيكسو تواصلان التأكيد على أن النساء، وقد تم تحديد كيانهن تبعا لحدود كونهن موضوعات جنسية للرجال (عذراوات أو عاهرات.. زوجات أو أمهات)، تعرضن للمنع من التعبير عن جنسانيتهن (sexuality) في حد ذاتها أو من أجل أنفسهن، فإذا تمكنت النساء من التعبير عن حياتهن الجنسية، وإذا تمكن من الحديث عنها في اللغات الجديدة التي تدعو لها، فسوف يؤسسن وجهة نظر (موقع اختلاف (difference)) يمكن النظر من خلالها إلى أفكار وتحكمات مركزية فحولة الكلمة وتجزئتها، لا نظريا فقط بل عمليا أيضا، ومثلها مثل ايلين سيكسو، قامت مونيك ويتيج بإنتاج عدد من النصوص الأنثوية، ولكنها تصر على ضرورة أن تركز “الأنثوية” في النظرية والتطبيق على النساء فيما بينهن لا على مدى ابتعادهن عن الرجال أو عن آراء الرجال فيهن، وبالتالي فمن منطلق ذلك الهجوم المشترك على مفهوم مركزية فحولة الكلمة، تنتقل هؤلاء الكاتبات الأربعة إلى استراتيجيات متنوعة ضد ذلك المفهوم.
إن جوليا كريستيفا (Julia Kristeva)، وهي عضوة مؤسسة لمجلة “تيل كيل” (Tel Que) الماركسية – السيميوطيقية والمؤلفة لعديد من الكتب عن الكاتبات والكتاب الطليعيين وعن اللغة والفلسفة، تجد في التحليل النفسي المفهوم الخاص بالمحفزات الجسدية التي تنجو من الضغوط الثقافية نحو التسامي فنظهر فيما تطلق عليه كريستيفا “الخطاب السيميوطيقي” أي اللغة الإيمانية والإيقاعية والسابقة على المرجعية لدى كتاب مثل جويس ومالارمي وأرتو ( loyce Mallarme, Artaud).3 إن هؤلاء الكتاب. بدلا من التنازل عن تداخلهم الطفولي البهيج مع أمهاتهم والتنازل عن مراحلهم القمية والشرجية، نجدهم يعيدون تجربة تلك المتع على مستوى العقل الباطن ويطلقون لها العنان بوساطة بناء نصوص تتعارض مع القواعد والأسس المنظمة للغة التقليدية. فكيف تتماشي النساء مع هذا النظام المخطط للتحرير السيميوطيقي؟ يتم ذلك بصورة غير مباشرة للنساء باعتبارهن أمهات، نظرا لأنهن موضوع الحب الأول الذي ينفصل ويتحول عنه الطفل بطبيعة الحال خلال عملية دخوله إلى المجتمع، وفي واقع الأمر فإن كريستيفا ترى الخطاب السيميوطيقي بمثابة تحد للنظام الرمزي وقائم على علاقة محرمة، وهو خطاب يؤكد على عودة الكاتب إلى لذات المرحلة ما قبل اللفظية والتي يتماهى فيها مع أمه وكذلك رفضه التماهي مع أبيه ومع منطق خطاب الآب، وتعتبر كريستيفا أيضا أن النساء يتحدثن ويكتين باعتبارهن “مهسترات” (hysterics)، وخارج الخطاب ذكوري السيادة، وذلك لسببين: تبرز لديهن محفزات ودوافع متصلة بالمرحلة الشرجية والولادة، وأنهن يوجدن في موقع هامشي بالنسبة للثقافة الذكورية. ومن الوارد أن يتضمن أسلوبهن السيميوطيقي مظاهر انفصال تشنجي متكرر عن الخطاب السائد الذي كثيرا ما يجبرن على تقليده.4
ولكن كريستيفا تشك فيما إذا كان يتعين على النساء أن يهدفن إلى صياغة خطابات بديلة. وهي ترى في موقعهن الهامشي بعض البوادر التحررية، ذلك الموقع (المثير للإعجاب) لأنه ليس من المتوقع أن ينتج ذاتا/متحدثا أو لغة ثابتة تدعي السلطة: “في التجارب الاجتماعية والجنسية والرمزية، أدى كيان المرأة دوما إلى توفير وسيلة لتحقيق هدف آخر والتحول إلى شيء مغاير: أي ذاتا قيد الصياغة، ذاتا تحت الاختبار“. وبدلا من تشكيل خطاب جديد، يجب على النساء الإصرار والإلحاح في تحدي الخطابات القائمة: “إذا كان للنساء دور يلعبنه … فهو يقتصر على القيام بوظيفة سلبية، أي رفض كل ما هو متناه ومحدد وذو بنية وهيكل، ومحمل بالمعنى، في المجتمع على وضعه الحالي. إن مثل هذا الموقف يضع النساء على الجانب الخاص بانفجار الشفرات الاجتماعية، أي مع الحركات الثورية“.5 – وفي الواقع فإن “المرأة” لا تمثل لكريستيفا جنسا بقدر ما تمثل موقفا، أية مقاومة للثقافة واللغة التقليدية. ولكن الرجال يمكنهم أيضا الوصول إلى المتعة التي تتعارض مع مركزية فحولة الكلمة:
إن الممارسة النسوية لا يمكنها إلا أن تكون … على خلاف مع ما هو قائم بالفعل وذلك كي تتمكن من القول بأن “ليس هذا هو المقصود” و“ليس هذا هو المقصود بعد“، وأقصد بكلمة “امرأة” كل ما لا يمكن تمثيله، وما لا يمكن قوله، وما يظل فوق المسميات والأيديولوجيات ويتجاوزها، ويوجد بعض “الرجال” ممن هم على دراية بتلك الظاهرة.6
وعلى النقيض من ذلك، ترى لوسي إيرىجاراي (Luce Irigaray) أن للنساء خصوصيتهن التي تميزهن بشدة عن الرجال. وهي محللة نفسية وعضوة سابقا في المدرسة الفرويدية بجامعة باريس (فينسين)، وقد تمت إقالتها من التدريس في خريف عام 1974، وذلك بعد ثلاثة أسابيع من صدور دراستها عن التحيز مركزي الفحولة (phallocentric bias) عند فرويد وعنوان دراستها تلك “منظور المرأة الأخرى” (Speculum de l’autre femine)، وهي دراسة متعمقة ساخرة تكشف عن الطرق التي قام بها كل من أفلاطون وفرويد بتعريف المرأة، بوصفها غير عقلانية وغير مرئية على أنها رجل (مخصي) غير مكتمل، وفي مقالات لاحقة، تواصل التأكيد على فكرتها بأن النساء لم تتوفر لهن طريقة لمعرفة أنفسهن أو تمثيل أنفسهن، وذلك بسبب وقوعهن في إطار عالم شكلته الأفكار المتحورة حول الرجل، ولكنها تقدم في دراساتها، كنقطة بداية ينطلق منها الوعي بالذات لدى الأنثى، حقائق عن أجساد النساء وعن اللذة الجنسية عند النساء، وذلك تحديدا لما تعرضن له من تغييب أو سوء تمثيل في خطاب الرجل. وتقول إن النساء يعشن تجربة جنسية منتشرة على سبيل المثال من “شفتي” عضو الأنوثة، وكذلك عديدا من الطاقات الشهوانية التي لا يمكن التعبير عنها أو فهمها داخل فرضيات الخطاب مركزي الفحولة القائم على ادعاء الهوية (“أنا كائن موحد ومتسق، والأشياء المهمة في العالم تعكس صورتي المذكرة“)7، بل وتؤكد إيريجاراي على أن الحياة الجنسية للأنثى تفسر علاقة النساء الإشكالية بالمنطق واللغة (الذكورية).
للمرأة أعضاء في كل مكان تقريبا، وهي تعيش تجربة اللذة في كل مكان تقريبا … إن جغرافية لذنها أكثر تنوعا وأكثر تعددية في اختلافاتها، وهي أكثر تعقيدا وأكثر عمقا مما هو متخيل – في نظام خيالي يرتكز بقدر مبالغ فيه على شيء واحد.
“هي” مختلفة عن نفسها بدرجة لا متناهية، وهو بلا شك السبب وراء تسميتها بأنها متقلبة وغير مفهومة ومضطرية وهوائية – ناهيك عن لغتها التي تتطلق “هي” فيها في كافة الاتجاهات والتي يعجز “هو” فيها عن رؤية تماسك واتساق في أي معنى، إن الكلمات المتناقضة تبدو على شيء من الجنون بالنسبة النطق العقل، وغير مسموعة بالنسبة له وهو المنصت للإمساك بمعان مسبقة، وشفرة معدة مقدما، إن المرأة في مقولاتها – على الأقل عندما تجرؤ على الحديث – في تعيد لمس جوانب في نفسها طول الوقت.8
وترى إيريجاراي أن اكتشاف النساء لما يتمتعن به من شبق ذاتي لن يأتيهن وحده تلقانيا أو يمكنين من إحداث تحول في النظام القائم: “إن وصول المرأة إلى النقطة التي يمكنها فيها الاستمتاع بلذتها كامرأة، فمن الضروري بالتأكيد أن تسلك طريقا طويلا ملتفا من تحليل الأنظمة المتنوعة التي تقهرها“. 9 وتكتب إيربجاراي نفسها مقالات مستخدمة الفئات الماركسية لتحليل استخدام الرجال للنساء واستبدالهن، وفي مقالات أخرى تستخدم وظائف أعضاء الأنثى (الفيسيولوجيا) للصور المجازية النقدية والأفكار المضادة (ضد الفيزياء، والبورنوجرافيا، والتحيز ضد النساء لدى نيتشه، والأسطورة)،10 بدلا من استخدامها حرفيا، ولكن تركيزها على الأسس الجمدية للاختلاف بين حياة الرجل الجنسية وبين الحياة الجنسية الجسدية يظل كما هو، حيث يجب على النساء إدراك المتعة jouissance)) الخاصة بهن وتأكيدها إذا أردن تقويض القهر مركزي الفحولة في أعمق مستوياته.
منذ عام 1975، عندما أسست برنامج “الدراسات النسائية” في فينسين، أصبحت إيلين سيكسو (Hélène Cixous) هي المتحدثة بلسان مجموعة “التحليل النفسي والسياسة” (Psychanalyse et politique)، وكاتبة متميزة لنصوص تصدرها دار نشر “النساء (Des Femmes) التابعة لتلك المجموعة البحثية، وهو معجبة بالكتاب الرجال، مثل جويس وجينيه، الذين أنتجوا نصوصا مناهضة لمركزية الفحولة (antiphallocentric).11 ولكنها مقتنعة بأن لاوعي النساء مختلف تماما عن لاوعي الرجال، وأن الخصوصية النفسية الجنسية هي التي ستقوي النساء وتمكنهن من إزاحة الأيديولوجيات الذكورية وإيجاد خطابات جديدة عن الأنثى، ومن كتاباتها الخاصة تقول “التي موجودة حيث يتحدث لاوعي الأنثى” (Je suis la ou ca parle)12 وقد أنتجت سلسلة من التحليلات لمعاناة النساء من قوانين الرجل بشأن الحياة الجنسية (نص سردي بضمير المتكلم “القلق” Angst) ومسرحية “صورة دورا” (Portrait de Dora)، كلمات اوبرا “اسم أوديب” ((le Nom dodipe ومجموعة متزايدة من النصوص الموضحة لما ستصبح عليه خطابات الأنثى المتحررة من اللاوعي (id liberated)، وهي: (La Ananke, Illia)، وفي كتابها الصادر عام 1979 (Where forange ) تحتفي إينين سيكسو بالكاتبة البرازيلية كلاريس ليسپيکتور (Clarice Lispector) لما تراه لديها من انتباه يخص الأنثى حيال الأشياء والقدرة على إدراكها وتمثيلها بأسلوب راع ومعنن لا أسلوب متسلط، وترى أن ذلك الانتباه العاطفي والشكل الأدبي الذي ينشأ عنه يرجعان إلى مصادر خاصة بالرغبة الجنسية لا إلى مصادر ثقافية اجتماعية، إن “الفعل الأنثوي بطبيعته يعني، ليس من منطلق الثقافة بل من الرعية الجنسية، الإنتاج من أجل إيجاد الحياة واللذة، لا من أجل التراكم” 13
وتنقد إيلين سيكسو التحليل النفسي لما فيه من “فكرة وجود حتمية تشريحية طبيعية للتعارض الجنسي القائم على الاختلاف“، مع التركيز على المحفزات والدوافع الجسدية بدلا من أجزاء الجسم في تعريفها لأوجه التناقض لدى الرجل – المرأة، الذكر – الأنثى: “إنه على مستوى اللذة الجنسية. في رأيي، يكون الاختلاف هو الأكثر وضوحا فيما يتعلق بكون نظام الرغبة الجنسية عند المرأة غير قابل للتحديد بواسطة الرجل وغير قابل للإرجاع إلى النظام الذكوري“. 14 وفي النص الذي جاء إعلانا عن مفهوم “الكتابة الأنثوية“، وهي مقالة “ضحكة الميدوزا” (1975 “The Laugh of the Medusa”). نجد في مقارناتها وفي أسلوبها الشعري إعجابها بالنساء انطلاقا من حياتهن الجنسية التي تتميز بالثبات والاستقرار الملحوظ وبكونها تكاد تكون أسمى روحانيا من العقلية الفحولية الأحادية التي تتجاوزها وتسمو عليها:
مع أن الحياة الجنسية الذكورية تدور في فلك القضيب، فتأتي بهذا الجسد المتمركز (في التشريح السياسي) ليخضع لديكتاتورية أجزائه، إلا أن المرأة لا تأتي بنفس التقسيم الذي يخدم مصالح الثنائي الرأس/ الأعضاء الجنسية والمدون في إطار تلك الحدود. إن رغبتها الجنسية تشمل الكون، مثلما أن لاوعيها يشمل العالم.
وتواصل حديثها في صيغة قريبة من إيريجاراي، للربط بين الحياة الجنسية للنساء وبين لغة النساء، أي لغة الكتابة في هذه الحالة:
يمكن لكتابها أن تستمر فقط دون تدوين أو تمييز المنحنيات… فهي تتيح الحديث للغة الأخرى – وهي لغة ١٠٠٠ لسان لا يعرف الحصار ولا الموت إن لغتها لا تحتوي، بل تحمل، وهي لغة لا تتراجع بل تجعل الأشياء ممكنة.
وتنتهي الفقرة بنداء إلى المحفزات والدوافع الجسدية الأخرى (بالفرنسية: pulsions) في سلسلة متصلة بالتعبير عن الذات لدى النساء:
أيتها القوة الدافعة الفمية والشرجية والصوتية – إن كل تلك المحفزات والدوافع هي مصادر قوتنا، ومن بينها القوة الدافعة للحمل – ومثلها مثل رغبة الكتابة، هي رغبة لأن تحيا الذات من الداخل، رغبة في البطن المنتفخة، وفي اللغة، وفي الدماء. 15
وفي كتاباتها النظرية والخيالية على حد سواء (ونجد جمعا بين الاثنين في “الوليدة الصغيرة” la) (1975 ,Jeune Nee) تصر سیكسو على بروز النزعات الجنسية المتعددة التي تختص بها الأنثى في اللاوعي النسائي وفي كتابة خطابات الأنثى التحررية المستقبلية.
وبالتالي فإن ما تشترك كل من كريستيفا وإيريجاراي وسيكسو في فعله هو معارضة التجربة الجسدية النسائية (أو في حالة كريستيفا، الأثر الجسدي للنساء باعتبارهن أمهات) مع الأنماط الرمزية – الفحولية الكامنة في الفكر الغربي، ومع أن كريستيفا لا تميز النساء بوصفهن الحائزات الوحيدات على خطاب ما قبل المركزية الفحولية (prephallocentric)، إلا أن إيريجاراي وسيكسو تريان المزيد: فإذا كان على النساء اكتشاف هوياتهن والتعبير عنها، وأن يظهرن الجوانب التي قام التاريخ الذكوري بقمعها داخلهن، فيجب عليهن أن يبدأن بحياتهن الجنسية، وحياتهن الجنسية تبدأ بأجسادهن، وبالاختلاف مع الرجال في الأعضاء والرغبة الجنسية.
ولأسباب متنوعة يعتبر ذلك الرأي رأيا قويا، وقد رأينا صيغا منه في النسوية الراديكالية في الولايات المتحدة أيضار وفي السياق الفرنسي، يقدم هذا الرأي مساحة للأمل في الفراغ الذي تركه تفكيك الإنسانية والذي تم الكشف عنه باعتباره ابتكارا مشبوها أيديولوجيا من ابتكارات الرجل، فإذا كان الرجال مسؤولين عن نظام المعاني الثنائي الحاكم – الهوية/ الآخر، الرجل/ الطبيعة العقل/ الفوضى، الرجل/ المرأة – فإن النساء لسن طرفا في خلق أساطير هذا النظام بسبب إبعادهن إلى القطب السالب والسلبي في تلك التراتبية. (وبالقطع لم يعد هناك أنهار بها) ونجد أن النائم الفوري الذي يفترض أن يمر به الجسد، واللاوعي والمتعة إنما يبشر بوضوح في الرؤية أو بحيوية يمكنها أن تطيح بجبال من الوهم مركزي الفحولة، وأخيرا، فبمقدار ما تتم رؤية جسد الأنثى كمصدر مباشر لكتابة الأنثى، تبدو نشأة خطاب بديل قوي مسألة ممكنة: فالكتابة من الجسد هي إعادة خلق للعالم.
ولكن الأنثوية والكتابة الأنثوية هما فكرتان إشكاليتان بقدر كونهما فكرتين رصينتين، فقد تم تقدهما من منطلق المثالية والجوهرية ولوقوعهما داخل النظام الذي يسعيان إلى نسفه، قد تم من الهجوم على الأنثوية والكتابة الأنثوية باعتبارهما مفہومين مشوشين نظريا وتأثيرهما مميت على الفعل السياسي البناء.16 وأنا أعتقد أن كل تلك الاعتراضات تستحق الطرح، بل ولابد من طرحها إذا كانت النساء الأمريكيات يردن انتقاء العناصر الإيجابية في التفكير الفرنسي بشأن الأنثوية.
أبدأ أولا بالسؤال النظري الأساسي، هل يمكن للجسد أن يكون مصدرا لمعرفة الذات؟ هي وجود الهوية الجنسية للأنثى أسبق على التجربة الاجتماعية أو قائم بالرغم عن تلك التجربة؟ هل تعيش النساء في الواقع تجربتهن عن أجسادهن كتجربة خاصة أو جوهرية، خارج التفاعل الثقافي المدمر الذي تقوم النساء بتحليله تحليلا نفاذا في فرنسا وغيرها؟ والإجابة هي لا، حتى من منطلق نظرية التحليل النفسي التي تعتمد عليها عناصر كثيرة في مفهوم الأنثوية. إن النسويات اللاتي يقمن بإعادة قراءة لفرويد وجاك لاكان، وكذلك النسويات اللاتي يقمن بأبحاث جديدة حول بناء الحياة الجنسية، يتفقن جميعا على أن الهوية الجنسية ليس خاصية فطرية لدى النساء أو الرجال، بل تتطور عن طريق تفاعلات الفرد مع الأسرة الصغيرة (النووية) ومع الأنظمة الرمزية المتفاعلة بوساطة ثنائي الأم – الأب إذ يقوم الوالدان أنفسهما بممارسة الأدوار المفروضة اجتماعية تجاه الطفل أو الطفلة. وقد أوضحت جوليت ميتشيل (Juliet Mitchell) أن فرويد يصف العملية التي تقوم من خلالها البنات في مجتمعاتنا بتحويل حيين الأول لأمهاتهن نحو حب تعويضي لأبائهن، وبأن إحساسا يتطور لديهن باستقلاليتهن الذاتية باعتبارها أقل قيمة اجتماعيا من استقلالية الأولاد.17 وقد قامت نانسي تشودورو (Nancy Chodorow) بتوثيق وتنظير صعوبة ذلك التحول، واستخدمته لتفسير الاحتياجات العاطفية المعقدة عند البنات والنساء.18 ويضيف لاكان إلى تحليل العملية التي يتم من خلالها تشكيل الهوية الجنسية إضافة تتمثل في دور الأب بوصفه حامل اللغة والثقافة، ويحدد القيمة الرمزية المتصلة بالفحولة باعتبارها أساسا للتناقضات والقيم المتناقضة التي تستخدمها الطفلة في محاولاتها لإيجاد معنى لها وأن تدمج نفسها داخل العالم مركزي الفحولة، فإذا كانت الهوية الجندرية المبكرة تنشأ من منطلق الاستجابة للبنى الأبوية – كما يرى على سبيل المثال كل من تشودوروف ولاكان ودوروثی دینیرستاین.19 وإذا كان يتم إشفاء تقسيم جنسي حتى على اللاوعي بما يتوافق مع الأسرة الصغيرة (النووية)، فييدو بالتالي أنه لا وجود لطبقة جوهرية من الهوية الجنسية غير المشبعة بالنظم الاجتماعية والأنظمة الرمزية، إن القراءة الجديدة الفرويد ولنظرية علاقة الأشياء ((object-relations theory تعمل على تأكيد كون الهوية والحياة الجنسية مسألة لا ثاني بصورة طبيعية بل هي نتيجة للتفاعلات الاجتماعية ما بين البشر والعلامات.
إن الأعمال النظرية والأدلة التطبيقية تشير بقوة إلى أن الهوية الجنسية (“أنا امرأة، وأعيش تجربة جسدي من منطلق التجربة الجنسية“) لا تتشكل أبدا في عزلة أو في سياق جسدي فقط. والطفلة تصبح ذكرا أو أنثى استجابة للإناث والذكور الذين تلقاهم في أسرتها واستجابة أيضا لصور الذكر والأنثى التي تصبوغها تبعا لتجربتها، وخاصة تجربة فقد التواصل المباشر مع أحد الوالدين.20 إن رغبات الطفلة والمرأة الراشدة التي تنمو من هذه الطفلة هي رغبات لا تنتج عن حساسيات شبقية منعزلة خاصة بجسد الطفلة، وإنما يتم تأويل هذه الحساسيات عبر المعاني التي تربطها الطفلة بجسدها خلال تجربتها المبكرة في عالم يتسم بالتقسيم الجنسي، فإذا أخذنا من التحليل النفسي مفهوم المحفز أو الدافع ومفهوم الرغبة الجنسية دون تناول ما يحدث فيما بعد للطفلة من حيث أنظمة إدراك الذات، إنما يعني ذلك إغفال المستوى الأكثر عمقا الذي يؤكد فيه المجتمع مركزي الفحولة سلطته، أي الأسرة ذات الخصائص الجنسية إذ تترك بصمتها على إحساس الطفلة بذاتها باعتبارها كيانا جنسيا.
إن نظرية التحليل النفسي ليست معتقدا نسويا دوجماتيا متحجرا، كما قامت النسويات أيضا بتحليل الأيديولوجيات المتحيزة جنسيا التي تواجه النساء ممن تجاوزن سن الطفولة في الأسرة. وليس من المدهش أن تلك الأيديولوجيات تجد طريقها إلى التجربة اليومية للعديد من النساء بشأن أجسادهن، بل وحتى في المواقف التي أعددناها بحيث تكون متحررة من سيادة الرجل. فعلى سبيل المثال، نجد أن الممارسات التحررية مثل الاستمناء والمثلية والطب المتمحور حول النساء هي ممارسات تتواجد جنبا إلى جنب العادات الخاصة بالفكر والمشاعر في المركزية الفحولية، وهي ليست ممارسات تحررية لمجرد كونها تسعى إلى ذلك، حيث تكتشف بعض النساء مثلا أن الاستمناء تصاحبه لديهن خيالات غير مستنيرة، فعلى النقيض من مزاعم الأنثوية تلاحظ أن شبق الذات عند النساء على الأقل في العقود الحالية تتخلله صور من العالم الخاضع لسيادة الفحولة. وبالمثل فإن الكثيرات من المثليات يدركن حاجتهن لمقاومة أدوار السيادة والخضوع التي تحمل أوجه شبه قائمة بل ومحاكية للجنسانية الغيرية. والنساء في حالة الولادة قد يتساءلن عما إذا كانت المصطلحات التفاؤلية بل والبطولية بشأن الولادة الطبيعية هي مصطلحات متعلقة بالمثال المشبوه عن “التحمل كالرجال“. وحتى في العيادات الخاصة بمساعدة الذات والتي أقيمت لتجنيب النساء التحيز الجنسي القائم في مؤسسة النساء والولادة التي يتحكم فيها الرجال. قد يسود فيها “مخزون من الصور مركزية الفحولة” (phallocentric magasin des images)، إن المعالج في إحدى تلك العيادات قال (عن غير قصد، وهذا هو ما يجعل الأمر جديرا بالذكر)، وهو يبين لإحدى صديقاتي عنق رحمها لأول مرة منعكسا في مرآة، ملاحظة أدهشتنا لكونها تحررية بدرجة أقل مما كان مقصودا منها، إذ قال: “إنه كبير، أليس كذلك؟ ألا يبدو فعالا؟ إنه في نفس كفاءة القضيب ” وإجمالا، فإننا نجد في هذه اللحظة من التاريخ أننا في غالبيتنا ندرك أجسادنا عبر شبكة متقلبة ومتناقضة من الترميز الجنسي العتيق ومن ردود الأفعال والاستجابات السياسية المضادة. ومن الممكن أن تؤكد على أن النسويات الفرنسيات يجعلن جسد الأنثى كيانا مبالغا في شموليته ولذته الخالية من الإشكالية.
إن الجانب الفسيولوجي عند النساء يحمل قطعا معان مهمة للنساء في الثقافات المتنوعة، ومن الجوهري لنا التعبير عن تلك المعاني بدلا من الخضوع لتعريفات الرجل – أي استحواذه وتوظيفه – لحياتنا الجنسية، ولكن جسد الأنثى يبدو بالكاد أفضل موقع لشن هجوم على القوى التي عملت على إبعادنا وتغريبنا عما يمكن أن تصبح عليه حياتنا الجنسية. فإذا أكدا على وجود أنثوية فطرية ما قبل ثقافية، فأين يدعنا هذا الموقف (مع تباعده الواضح من حيث المضمون عن الفكر الذكوري الدوغماتيكي المتحجر) في علاقته بالنظريات الأسبق بشأن “طبيعة” النساء؟ وأشعر أنا نفسي بالإطراء من إشادة سيكسو بالإدراك الحسي عند النساء والقائم على الرعاية، ولكن عندما تتحدث عن الدافع إلى الحمل، أبدأ في سماع أصداء التمجيد الجبري للأمومة والذي تعاني منه النساء على مدى قرون من الزمان، فإذا عرفنا ذات الأنثى من خلال مسلمات عالمية بيولوجية/ جنسية. فما مصير مشروع تغيير العالم في اتجاهات نسوية؟ وكذلك، هل الحياة الجنسية للنساء كتلة موحدة بالدرجة التي تجعل من مفهوم الأنوثة الطبيعية المشتركة مسألة عادلة؟ وماذا عن أوجه التنوع في الطبقة والعرق وفي الثقافة بين النساء؟ وماذا عن التغيرات على مر الزمن في الحياة الجنسية لامرأة واحدة (في علاقتها مع الرجال، مع النساء، مع نفسها)؟ كيف يمكن لصوت واحد خاص بالرغبة الجنسية – أو شفتي عضو الأنوثة تبعا لوصف إيريجاراي – أن يتحدث نيابة عن كل النساء؟
إن المراجعة النقدية من منطلق التحليل النفسي لمفهوم الأنوثة كمفهوم لا ينتبه إلى الحقائق الاجتماعية النفسية المهمة ليست هي المراجعة النقدية الوحيدة التي يمكن استحضارها في مواجهة المواقع مثل تلك التي تحتلها إيريجاراي وسيكسو. فقد قامت نساء فرنسيات أخريات بسن هجوم مادي قوي على ما أطلقن عليه مسمى الأنثوية الجديدة (néo-féminité)، حيث يعارضتها باعتبارها نموذجا مثاليا مقيدا عن طريق التعارض المتناظر داخل النظام الأيديولوجي ذاته الذي تريد النسويات تدميره (إن مجلة “أسئلة نسوية Questioris fliministe) التي تأسست عام ١٩٧٧ حاملة اسم سيمون دي بوفوار كمحررة، تمثل مصدرا أساسيا لهذا النوع من التفكير في فرنسا)، وتجد أن النسويات الماديات، مثل كريستين ديلتي وكوليت جيلورنين. متشككات في المنطق الذي تقوم من خلاله الأنثوية بتعريف الرجال باعتبارهم فحوليين – ذهنيين، عدوانيين. ومبالغين في العقلانية – مع الإشادة بالنساء اللاتي بطبيعة حياتهن الجنسية المتناقضة مع ذلك المفهوم من متمحورات حول الآخر، وعاطفيات ومتعددات الخيال. فبدلا من طرح التساؤلات حول جوانب مثل هذا التعريف (من حيث كون المرأة هي عكس الرجل) نجد الأنثوية أثناء احتفائها باختلاف النساء عن الرجال إذا بها تبقي على هذا التعريف، فالأنثوية تعكس القيم التي تم إضفاؤها على كل جانب من القطبين، ولكنها تدع الرجل هو المرجع المحدد، وبالتالي لا تبتعد عن الثنائية المتعارضة بين الرجل – المرأة بل تشارك فيها.
وأرى أن هذا موقع مقنع على المستويين الفلسفي والبراجماتي العملي، فنحن في حاجة إلى التحرك تماما خارج المنطق الثنائي المتمركز حول الرجل. ولا يجب أن نطرح السؤال عن كيفية اختلاف المرأة عن الرجل (على الرغم من أهمية السؤال عن كيفية اختلاف النساء عما يظنه الرجال). إننا في حاجة إلى معرفة كيف تسنى للنساء أن يصبحن ما هن عليه عبر التاريخ، وهو تاريخ تعرضين للقهر من الرجال والمؤسسات ذكورية التكوين، فإن تحليل العلاقات القوية بين الرجال والنساء، والممارسات القائمة على هذا التحليل، هو وحده الذي يجعلنا نضع نهاية لما تتعرض له من قهر – وعندها فقط ستكتشف ماهية النساء أو ما يمكن أن يصبحن عليه، ومن منطلق أكثر استراتيجية، نحن في حاجة إلى معرفة ما إذا كان التأكيد على وجود طبيعة للأنثى بناء على مفهوم الأنثوية يمكنه أن يساعدنا في الفعل النسوي نحو تحقيق مجموعة من الأهداف: إمكانية العمل، أو العمل فعلا بطرق هامشية أو طرق تم تحديدها من جديد، أو عدم العمل على الإطلاق في العالم العام، وحرية الممارسات الجنسية المتنوعة، والحق في الأمومة أو عدم الإنجاب أو أي مشاركة أخرى في العملية الإنجابية لم تخضع للتنظير بعد، والتأكيد على قيم الأنوثة الخاضعة للظروف التاريخية (الرعاية والعناية، الطموحات الجماعية لا الفردية، الإصرار على تحسين جودة الحياة الخاصة)، واستكشاف قيم جديدة، فإذا رکزنا طاقاتنا على ذلك الرأي المضاد بشأن المرأة في مواجهة الرأي الذي يتمسك به الرجال في الماضي والحاضر، فما مصير قدرتنا على دعم تعددية النساء والإمكانيات المتنوعة في الحياة التي يكافحن من أجل تحقيقها في المستقبل؟
وفي مراجعة نقدية للأنثوية باعتبارها إشادة باختلاف النساء عن الرجال، لابد من الإشارة إلى مونيك، ويتيح (Monique Wirttig). وقد كانت نشطة في السبعينات من القرن العشرين في حركة “النسويات الثوريات” (Feministes révolutionaires)، وساهمت منذ البدايات في مجلة “أسئلة نسوية” (Questions féministes)، وهي مؤلفة أربعة كتب على قدر من الاختلاف والمتصلة مع ذلك فيما بينها من خلال تركيز مونيك ويقيج على النساء بين بعضين البعض: قنيات المدرسة في كتاب “لوپوپوناکس” (LOpopomax)، والأختية القبلية في كتاب “المحاربات” (tes Gazerilleres)، والثنائي العاشق في كتاب “الجسد المثلي” (le corps lesbian)، واستخدام مفردات اللغة ما بعد مركزية الفحولة في كتاب “مسودة قاموس العاشقات” (Grounillon pour tan dictionnaire des aimantes) وتكتب مونيك ويتيج رواياتها وكتاباتها المونولوجية والتاريخية كي تستكشف العلاقات الاجتماعية القائمة والممكنة. بين النساء ذوات الهوية النسائية.21 وهي تعيد كتابة الثقافة التقليدية في صبع ساخرة، ففي إحدى أجزاء “مسودة قاموس العاشقات” تقول: “هكذا تحدثت فريدريكا، حكاية للأطفال” (“Ainsi parlait Frederika, conte pour enfants”) وذلك بالتأكيد في إشارة إلى فريدريك نيتشه هي الأكثر تجرؤا في المراجعات النقدية الفرنسية للثقافة، كما نجدها تبتكر أماكن جديدة للأحداث، مثل الاحتفالات والمهرجانات في كتاب “المحاربات” وكتاب “الجسد المثلي“، وتستخدم أيضا أنواعا جديدة في الكتابة مثل الملحمة المؤنثة في كتاب “المحاربات“، والحوار الشعري في “الجسد المثلي“، وذلك لتمثيل ما يمكن أن تكون عليه حياة المرأة/ المرأة – انفصالية ولكن غير انعزالية.
وكما تبين لنا الكلمات التي تلقيها مونيك ويتيج في المؤتمرات التي عقدت مؤخرا، فإنها متشككة في التفكير القائم على المعارضة والذي يعرف المرأة من منطلق الرجل، ومتشككة كذلك في المنحى المثالي الأسطوري لبعض صيغ الأنثوية.22 وفي تأكيدها على أهمية وجو فهم يتصف بقدر أكبر من المركزية السياسية بشأن النساء في “مؤتمر الجنس الثاني” بنيويورك (سبتمبر ۱۹۷۹)، استخدمت مفردات ماركسية ربما تكون مألوفة للنسويات الأمريكيات بدرجة أكبر من الأطر الفلسفية وفي التحليل النفسي التي تعمل من خلالها كل من إيريجاراي وسيكسو:
ويبقى … لنا أن نحدد ما نتعرض له من قهر من منطلق مادي، وأن تقول أن النساء طبقة، أي أن فئة “المرأة” وكذلك “الرجل” هي فئة سياسية واقتصادية، لا فئة أبدية. … إن مهمتنا الأولى … هي الفصل التام بين “النساء” (الطبقة التي نكافح من داخلها) وبين “المرأة” أي الأسطورة. حيث أن “المرأة” لا وجود لها بالنسبة لنا، بل هي مجرد تكوين خيالي، بينما “النساء” نتاج لعلاقة اجتماعية. 23
ونجد عند كوليت جيلومين (Colette Guillaumin) منطقا يمضي على نفس المنوال في مجلة “أسئلة نسوية” (Questions féministes) حيث تبين أن السمات النفسية التي يشيد بها دعاة الأنثوية هي سمات حددتها في الواقع الأدوار العائلية والاقتصادية المفروضة على النساء بواسطة الرجال. وهي تصر على أنه لا يوجد شيء تحرري في زعم النساء بان الخصائص التي لاءمت الرجال على الدوام هي فضائل، فكيف يمكن أن تمثل رقة الأمومة أو التعاطف بلا مقابل تهديدا لـ“السيد“؟24 بل إن الموقف التحرري يعني الإصرار على تحليل البنى الأبوية ووضع نهاية لها، وهي البنى التي أنتجت تلك الخصائص دون رجوع إلى احتياجات النساء.
ولدي وجه آخر للاعتراض على مفهوم الأنثوية باعتباره كتلة من السمات النفس– جنسية التي تتسم بها “كل امرأة“، فهو مفہوم بعمل على تسطيح وتوحيد الاختلافات المعاشة بين النساء، وبقدر استجابة كل منا لموقف قبلي أو وطني أو عرقي أو طبقي معين في علاقته بالرحال، بقدر ما نحن في الواقع متفصلات إحدانا عن الأخرى. وكما أوضحت لنا الانقسامات الأليمة وذات التأثير المضاد والتي حدثت على المستويين الطبقي والعرقي في الحركة النسائية الأمريكية، فإننا في حاجة إلى فهم واحترام التنوع الموجود في مواقفنا الاجتماعية المعينة. إن وجود رؤية واحدة موحدة للحياة الجنسية المشتركة الخاصة بالأنوثة تكاد تغلق أعيننا عن احتياجاتنا المتنوعة والأساسية وإلى أشكال النضال المحددة التي يجب علينا الترتيب لها في سبيل إشباع تلك الاحتياجات، وذلك بدلا من العمل على هزيمة مركزية الفحولة باعتبارها فكرا تعليميا وممارسة تطبيقية. فماذا تعني “الشفتان” بالنسبة للنساء ذوات الميول الجنسية الغيرية اللاتي يردن أن يدرك الرجال لذتهن البظرية – أو ماذا يعني “الشفتان” للنساء الأفريقيات أو شرق الأوسطيات اللاتي نتيجة لعادة ختان الإناث الفرعونية لا يملكن شفتين ولا بظرا يمكنهن من الاستمتاع (jouir)؟ هل الاحتفاء بفكرة “الأمومية” ضد “الأبوية” يحمل نفس المعنى، أو أي معنى على الإطلاق، بالنسبة للنساء البيض من الطبقة الوسطى اللاتي يكافحن للحفاظ على حق الإجهاض، وبالنسبة للنساء السود ونساء العالم الثالث اللاتي يقاومن عمليات التعقيم الإجبارية. وبالنسبة للنساء في المجتمعات الاقتصادية الصغيرة القائمة على الزراعة من أجل الاكتفاء الذاتي حيث يعتمد رزق الأسرة على عمل كل طفل ممن ولدوا وكتبت لهم الحياة؟ وبالطبع فإن كل امرأة تضفي معان مختلفة على حياتها الجنسية على مدار تاريخها الفردي. ولعل الفتيات في العالم الغربي في أمس الحاجة إلى التحرر من التوقعات والنشاط الجنسي، نظرا لما يتعرض له من إضفاء السمات الجنسية علين في مرحلة مبكرة من أعمارهن بفعل وسائل الإعلام، والدعاية والإعلان، والضغط من الصحاب، واستخدام الأطفال في الصور الإباحية ومواد البورنوجرافيا، وتمر النساء من مختلف الأعمار بتغيرات جذرية في الهوية والاستجابة الجنسية من خلال علاقاتهن بالرجال، وبالنساء، أو يخترن حياة العزوبة والصداقة كبدائل، ومن الصعب أن ترى كيف يمكن من خلال مفهوم المتعة فهم أو تغيير أوضاع النساء المسنات اللاتي تم حصارهن في مجال الخمول الجنسي بسبب أعمارهن أو قصرهن في حالة ترملين على العمل بلا أجر عند أسر غير أسرهن أو إيداعهن عزلة الفقر وأعاود التساؤل عما إذا كان صوت واحد للرغبة الجنسية، مهما كان معرفا بلامركزية الفحولة، قادرا على مواجهة المشاكل الاقتصادية والثقافية الخاصة بكل النساء.
وهكذا يمكنني التأكيد على أننا في حاجة إلى العمق النظري والطاقة الجدلية الموجودة في مفهوم الأنثوية كفكرة بديلة، ولكن الوحدة ذات القوة والاستجابة التاريخية ستتحقق للنساء من خلال ممارستنا المشتركة والمتواصلة، وتجربتنا في العالم المادي وضده، وتعتبر كل من الأنثوية والكتابة الأنثوية ذات أهمية حيوية كمنظور واستراتيجية جزئية. والنساء قطعا في حاجة إلى نقض المواقف الخاطئة والمهينة تجاه حياتهن الجنسية، والمتغلغلة داخل الثقافات واللغات الغربية (وغيرها) في مستوياتها الأكثر عمقا، كما أن الخروج بصيغ لتمثية الذات تتحدى الخطابات مركزية الفحولة هو جزء هام من النضال الأيديولوجي. وقد بدأت النساء بالفعل في إحداث تحول ليس في المضمون بل أيضا في أساليب إنتاج المعنى في الشعر وفن الرواية وفن السينما وفي الفنون البصرية. (إن البحوث النسوية تشير حقا إلى أن الفرنسيات ربما كن أكثر تسرعا في الزعم بأن النساء لم يبدأن سوى الآن في تحدي النظام الرمزي ) ولكن حتى إذا اعتبرنا الكتابة الأنثوية مثالا طوباويا، أي أسطورة مولدة أكثر من كونها نموذجا لكيفية الكتابة عند النساء أو ما يجب أن تكون كتابتهن عليه، نجد أن المشاكل النظرية والعملية تنشأ (مرة أخرى!) من ذلك المثال المعرف بتلك الطريقة. فهل يمكن للجسد أن يكون مصدر الخطاب جديد؟ هل من الممكن بافتراض وجود إحساس بالجسد قائم على المتعة والمباشرة بلا وساطة (أو بالأحرى إحساس بالجسد تم صياغته صباغة إيجابية)، كي تنتقل من تلك الحالة من الإثارة اللاواعية مباشرة إلى نص الأنثى المكتوب؟
وتأتي إجابة مادلين كانيون بالإيجاب في كتابها “الطريق إلى الكتابة” (Madeleine Cagnon, La Venue à l’écriture) الذي ألفته بالاشتراك مع إيلين سيكسو عام 1977. وهي ترى أن النساء، المتحررات من الاقتصاد المحدد للرغبة الجنسية عند الرجل (“سآتي مرة واحدة فقط، وعن طريق عضو واحد فقط، وبمجرد وقوفه ينتهي الأمر، وبالتالي يجب علي الانتباه والتوفير وتجنب الفيضان قبل الأوان“)، يتمتعن بقدر أكبر من التلقائية والوفرة في الجسد واللغة معا:
لم نكن أبدا سادة على الآخرين أو على أنفسنا. لا يتعين علينا مواجهة أنفسنا كي تحرر أنفسنا، ولا يتعين علينا مراقبة أنفسنا أو أن ننصب ذاتا أخرى كي تفهم أنفسنا. كل ما علينا فعله هو إتاحة المجال لجسدنا كي يفيض، من الداخل، كل ما علينا فعله هو محو كل ما قد يعوق أو يؤدي الأشكال الجديدة من الكتابة، وتحتفظ بما يلائمنا، بما يناسبنا، بينما الرجل يواجه نفسه باستمرار، إنه يضع نفسه في مواجهة ذاته المنتصبة ويتعثر بها.25
ولكن نظرية التحليل النفسي والتجربة الاجتماعية تشيران إلى أن القفزة من الجسد إلى اللغة مسألة صعبة تحديدا بالنسبة للنساء.26 وترى نظرية لاكان أن بداية تعامل الفتاة مع اللغة (أي النظام الرمزي الذي يمثله الأب والميني على التعارضات بين الفحولي/ اللافحولي phallic/nonphallic) تكون بداية معقدة نظرا لعدم قدرتها على التماهي مباشرة مع الأقطاب الإيجابية الموجبة لهذا النظام. وفي كثير من الثقافات ما قبل القراءة والكتابة وما بعدها، يتم فرض التابوهات (المحرمات) على حديث المرأة، حيث تكثر الدعوات لإسكات النساء أو السخرية من كلام النساء أو “الكتب النسائية” . إن التحول الذي شهدته مجموعات رفع الوعي الأولى في الولايات المتحدة الأمريكية كان القصد منه تحديدا هو التغلب على التردد اللفظي الذي يتم التسبب فيه عند النساء بواسطة مجتمع يتمتع الرجال فيه بالكلمة الأولى والأخيرة، إضافة إلى ذلك، فبالنسبة للنساء ممن لديهن وظائف وأزواج أو عشاق وأطفال والتزامات بالنشاط والفعل السياسي، نجد أن العثور على الوقت والمبرر للكتابة يمثل في حد ذاته مشكلة عملية وأيديولوجية هائلة.27 كما أننا أقرب إلى الكتابة وإلى قراءة كتابات بعضنا البعض إذا بدأنا العمل ضد الصعوبات المحددة والأحكام المسبقة المحيطة بالكتابة النسائية، مقارنة بالوضع إذا ما قمنا بساطة بإضفاء المثالية على تلك العملية عن طريق جعل الكتابة بمثابة حميل تلقاني بفيض من الجسد.
إن الدعاوى المطالبة بالعودة اللفظية إلى الطبيعة تبدو مدهشة تحديدا نظرا لصدورها عن نساء يتصفن في مواقف أخرى (وعن حق!) بالتشكك والاشتباه في اللغة وقد تغلغل فيها الفكر مركزي الفحولة الدوجماتيكي المتحجر. ومن الصحيح أن التقنيات السردية التقليدية وكذلك قواعد النحو والتراكيب اللغوية توحي بوجهة نظر موحدة وبالتمكن والتحكم في الحقائق الخارجية التي ادعى الرجال امتلاك زمامها. ولكن الأنواع الأدبية واللغة نفسها لا يمكنهما أن يكونا الهدفين الوحيدين للتحول، حيث أن السياق الخاص بالخطابات النسائية يتطلب إعادة تفكير وتوسيعا لآفاقه. وقد تمر امرأة ما بتجربة المتعة في علاقة شخصية بجسدها، ولكنها تكتب من أجل الآخرين. فمن التي تكتب؟ ومن التي تقرأ؟ ومن يجعل/ تجعل النصوص النسائية متاحة للنساء؟ ما الذي تريد النساء قراءته عن تجارب النساء الأخريات؟ إن الوقوف في موقف الشاعرة أو الروائية يعني الدخول في دور يتقاطع مع أسئلة عن سلطة الكتابة، والجمهور، وأنواع الطباعة والتوزيع. وإنني أعتقد أننا نشعر بدين أكبر تجاه “جسد” الكاتبات الأوليات وإلى الناشرات وبائعات الكتب النسويات مقارنة بما ندين به لأي فيض جسدي جنسي لكاتية من النساء، وتلخص الروائية كريستيان روشفور (Christiane Rochefort)، في دقة مسلية، القوى والأصوات العامة المتناقضة التي اوجدت المازق الذي تعانيه المرأة الفرنسية الراغبة في الكتابة:
حسنا. إذن أنت هنا الآن، جالسة إلى طاولة الكتابة الخاصة بك، وحيدة، لم تعودي تسمحين لأحد بأن يتدخل. هل أنت حرة؟
أولا، بعد ذلك المسعى الطويل، أنت سابحة في حساء فظيع من القيم – فقد كان عليك على سبيل الأمان أن ترفضي القيم التي يطلق عليها قيم الأنوثة، وهي ليست تباعة للأنوثة بل للنظام الاجتماعي، وأن تتماهي مع قيم الذكورة، والتي ليست ذكورية بل يستحوذ عليها الرجال – أو راجعة للرجال – من بين كل القيم الإنسانية المختلطة بالقيم المضادة من سيادة–عنف–قهر وما شابهها. وفي هذا الخليط، أين هي هويتك الحقيقية؟
ثانيا، من المفترض، أو المفضل، أن تكتبي ضمن أشكال معينة للكتابة. ما تشعرين أنك لا تبدين في بعض أشكال الكتابة بمثابة المغتصبة. الروايات الشعر الثانوي، والذي سيجعلك في تلك الحالة موصومة في اللغة الفرنسية بمسمى “الشاعرة” (poetess)، وهو ما لا يحتمله الجميع. … ومن المفترض أيضا أن تكتبي عن أشياء معينة: المنزل، الأطفال، الحب. وحتى وقت قريب كان يوجد في فرنسا ما يطلق عليه الأدب الأنثوي literature feminine
ربما لا ترغبين في الكتابة عن، ولكنك ترغبين في الكتابة وحسب، وبالطبع أنت لا تريدين الانصياع لهذا النظام الاجتماعي، فتميلين إلى القيام برد فعل تجاهه، ليس من السهل أن تكوني أصيلة وصريحة.28
ومهما كانت الصعوبات، فإن النساء يقمن بابتكار أنواع جديدة من الكتابة، ولكن كما يتضح لنا من فصاحة إبريجاراي وتلاعبها بالصوت المتكلم (مثلما هو الحال عند سيكسو في استخدامها الماكر للدورية والاقتباسات عن اللغات من اليونانية إلى الألمانية والبرتغالية، وكذلك ما ابتكرته مونيك ويتيج من كلمات مستحدثة ومراجعة للأنواع الأدبية التقليدية)، فإن النساء يقمن بذلك عن قصد. وعلى مستوى النظرية النسوية والوعي الأدبي بالذات بما يتجاوز بمسافة الجسد واللاوعي، وهو أيضا بين كيف تجب قراءتهن، حيث يتطلب الأمر معرفة دقيقة بشخصيات الرجال في الثقافة الغربية لإدراك ألعاب التناص التي تلعبها هؤلاء الكاتبات، إذ توضح لنا كتاباتهن أن مقاومة الثقافة تنبني دائما أولا من مقتطفات وأجزاء من تلك الثقافة ولكنها تخضع للتفكيك والنقد والتجاوز إن الاستجابة للكتابة الأنثوية هي مسألة غريزية لا تفوق عملية إنتاج الكتابة الأنثوية اتساما بالنزعة الغريزية، وستصبح الكتابة النسائية متاحة بدرجة أكبر للكاتبات والكتاب والقارئات والقراء إذا اعترفنا بها باعتبارها استجابة واعية للواقع الأدبي الاجتماعي بدلا من أن نقلها بوصفها سيلا يفيض من عملية تواصل امرأة ما بجسدها تواصلا مباشرا بلا وساطة. وقطعا فإن الممارسة التي تقوم بها الكاتبات سوف تحدث في نهاية الأمر تحولا في ما يمكننا رؤيته وفهمه في نص أدبي، ولكن حتى المرأة التي تنطلق للكتابة عن جسدها ستقوم بذلك ضد وعبر أمهاتها ومولداتها وأخواتها في المجال الأدبي الاجتماعي، إننا في حاجة أيضا إلى إدراك عدم وجود شيء عالمي بشأن الصيغة الفرنسية للكتابة الأنثوية، إن الحديث والغناء والحكي والكتابة التي تقوم بها النساء في الثقافات الأخرى بخلاف فرنسا تستدعي كلها النظر إليها وفهمها في سياقها الاجتماعي إذا كنا نعمل لاستكمال رسم صورة للإبداع النسائي تكون ملائمة ومخلصة في تمكين النساء.
ولكني بعد كل هذا أخاطر بالمبالغة في وجه اعتراضي على الأنثوية والكتابة الأنثوية، وقد يعني ذلك الأمر خسارة حقيقية، ويمكن للنسويات الأمريكيات توظيف عنصرين مهمين، اثنين على الأقل، من الموقف الفرنسي، وهما: المراجعة النقدية لمركزية الفحولة في كافة الأشكال المادية والأيديولوجية التي اتخذتها، والمطالبة بتمثيلات جديدة لوعي النساء. فليس من الكافي الكشف عن البطلات القديمات أو تخيل بطلات جديدات، ومثلنا مثل الفرنسيات، تحتاج إلى فحص الكلمات والتراكيب اللغوية والأنواع الأدبية والمواقف العتيقة والنخبوية تجاه اللغة والتمثيل والتي عملت على تقليص تعبير النساء ومعرفة الذات على مدار قرون طويلة من الأبوية، ولكن لا يجب علينا أن نستبدل مركزية الفحولة بمفهوم “وحدة المركز“، المبني على أساس مهترة نظريا، والذي ينكر على النساء خصوصياتهن التاريخية في التعرف على مدى العمق الذي يجب أن يكون عليه رفض ونبذ القيم الذكورية“29. وإذا تذكرنا أن الأمر المشترك بين النساء حقا هو تعرضهن للقهر على كافة المستويات، ومع أنه يؤثر على كل منا بطرق مختلفة – وإذا تمكنا من ترجمة الأنثوية إلى هجوم منظم لا على اللغة فحسب، بل أيضا مباشرة على النظم الجنسية الاجتماعية التي تحول بيننا وبين تحقيق قدراتنا الكامنة وبيننا وبين بعضنا البعض – فحينها ستكون في طريقنا إلى التحول إلى “الشابات الوليدات” (les jeunes nées) اللاتي استشرفتهن النسويات الفرنسيات في أحسن حالاتهن.
آن روزالیند جونز، أستاذة الأدب المقارن في كلية سميث، بالولايات المتحدة الأمريكية لها دراسات عديدة في أدب القرن السادس عشر، ومهتمة بالنظرية النسوية والمقاربات الماركسية الجديدة للثقافة، كان كتابها الأول الصادر عام 1990 عن شعر الحب لدى عدد من الشاعرات من فرنسا وإيطاليا وإنجلترا في القرن السادس عشر وبدايات القرن السابع عشر، أما كتابها الأخير الصادر عام ۲۰۰۰ فكان بالاشتراك مع بيتر ستاليبراس عن ذاكرة ملابس وأدوات عصر النهضة.
* Anne Rosalind Jones, “Writing the Body: Toward an Understanding of l’écriture feminine”, Feminist Studies 7, no 2 (Summer 1981). Electronic version available: https://webs.wofford.edu/hitchmoughsa/Writing.html
1 – للحصول على ملخص عن الخلفية الفكرية الخاصة بالنسوية الفرنسية، أنظر/ي:
“Women and Literature in France”, Signs 3 (Summer 1978): 832-42
ويتم تحليل ممارسات مركزية فحولية الكلمة (phallogocentrism) بقلم شوشانا فیلمان في دراستها عن شخصيات ونقاد واحدة من القصص القصيرة لبالزاك:
choshana Felman, “Women and Madness: The Critical Phallacy”, Diacritics 1975: 2- 10.
2 – كلمة “المتعة” (jouissance) مليئة بالإيحاءات، وأبسط ترجمة لها هي “اللذة“. وصيغة الاسم مشتقة من “الاستمتاع” (Jouir) والاندماج في المتعة بلا خوف من المقابل، كما تعني الكلمة أيضا “الذروة الجنسية“، عن الترجمة أنظر/ي:
tephen Heath, “Translator’s Note” in Roland Barthes’s Image-Music-Text (New York: Hill & Wang, 1978 p. 9
وترد الإيحاءات النسوية لكلمة “المتعة” (jouissance) في هامش مقدمة الكتاب التالي:
New French Feminisms An Anthology, ed. Elaine Marks and Isabelle de Courtivron (Amherst: University of Massachusetts ,Press 1980
ومفادها كالاتي:
إن هذه اللذة، عند إلحاقها بالمرأة، تعتبر من نوع مختلف عن اللذة المتمثلة داخل نظام الرغبة الجنسية الذكوري والذي كثيرا ما يوصف من منطلق دافع المكسب والخسارة الرأسمالي. إن “متعة” النساء تحمل معها مفهوم السيولة والانتشار والاستمرارية، وهي نوع من المائدة الفياضة في عالم الذروة، أي منح وتوفير وتقديم للذة دون حرص على النهايات أو الانغلاق. (ص36، هامش ۸) إن “قانون الأب” صيغة أوجدها لاكان عن اللغة باعتبارها الوسيط الذي يوضع من خلاله البشر داخل الثقافة وهي وسيط تمثله وتدعمه شخصية الأب في الأسرة، أنظر/ي:
Anika Lemaire, Jacques Lacan, trans. David Macey (London: Routledge & Kegan Paul, 1977), esp. pt. 7, “The Role of the Oedipus in Accession to the Symbolic”,
3 – تضم كتب جوليا كريستيفا الآتي:
Julia Kristeva, Semiotike: Recherches pour une semanalyse (Paris: Tel Quel, 1969); Le Texte du roman (The Hague: Mouton, 1970); Des Chinoises (Paris: Des Fernmes, 1974); La Révolution du langage poétique (Paris: Editions du Seuil, 1974); Polylogue (Paris: Editions du Seuil, 1977); Pouvoirs de l’horreur: essai sur l’abjection (Paris: Editions du Seuil,1980)
كما تشارك بالكتابة في مجلة “نيل كيل” بما في ذلك العدد 74 الصادر خريف ١٩٧٧ عن النساء والكتابة النسائية (1977 Tel Quef74, Fall )، وللمزيد عن نقدها لبعض مفاهيم الأنثوية (féminité) أنظر/ي المقابلة التي قامت بها مع فرانسواز فان روسوم جيون:
Françoise van Rossum- Guyon, “Féminité et écriture: En réponse à deux questions sur Polylogue Revue des sciences humaines 168 (December 1977): 495-501.
Kristeva, “Le Sujet en process”, in Polylogue, p. 77.4
وانظر/ ي في نفس المجلد مناقشتها عن الأمومة بوصفها تجربة تفكك فئات الفكر الذكوري في: Maternité selon” Giovanni Bellini”, pp. 409-38
كما تقوم بتوسيع مناقشتها لمعاني الأمومة بالنسبة لإبداع النساء في مقالتها:
:Un Nouveau Type d’intellectuel” le dissident” and “Héréthique de l’amour”, Tel Quel, no. 74 (Fall 1977), pp. 3-8, 30-49,
وللحصول على تفسير لنظريتها عن السيميوطيقا ومفاهيم إيريجاراي عن الكتابة الأنثوية
(l’écriture feminine) أنظري 14-2 :(1978 Josette Féral, “Antigone, or the Irony of the Tribe”, Diacritics 8 (Fall
5 – “Oscillation du pouvoir’ au ‘refus,” interview by Xavière Gauthier in Tel Quel, no. 58 (Summer 1974), 166-67 .trans in
Marks and Courtivron, New French Feminisms, pp، وهو كتاب يضم مقتطفات مترجمة من أعمال كاتبات نسويات فرنسيات، ولعله يكون مفيدا جدا للقارئات والقراء باللغة الإنجليزية
6 – Kristeva, “La Femme, ce n’est jamais ça”, interview in Tel 6Quel, no. 59 (Fall 1974), trans. in New French Feminisms, pp. 134-38.
وتناولت كتابات كريستيفا أساسا كتابت من الرجال، ولكن يمكن الرجوع إلى تعليقاتها على بعض الموضوعات الأنثوية في العديد من كتابات النساء الفرنسيات: -100 .Oscillation”, Tel Quel, no. 58 (Summer 1974), pp” 2. كما تعلق على بعض العناصر في أسلوب كتابة النساء في المقابلة التي أجريت معها (أنظري الهامش رقم 3)، وذلك رغم أنها تستقي ملاحظاتها من مصادر اجتماعية أكثر منها متصلة بالرغبة الجنسية.
7 – Luce Irigaray, an interview, “Women’s Exile”, in ideology and Consciousness, no. 1 (1977), pp. 62-67, trans, and intro. Diana Adlam and Couze Venn.
8 – Irigaray, “Ce Sexe qui n’en est pas un”, Ce Sexe qui n’en est pas un (Paris: Editions de Minuit, 1977( trans, in New French Feminisms, p. 103
. أما كتاباها اللذان صدرا في أعقاب الكتاب أعلاه فهما:
Et une me bouge sans / autre (Paris: Editions de Minuit, 1979)
Amante marine (Paris: Editions de Minuit, 1980)
اما كتابها الأول فكان دراسة إكلينيكية
(1973 ,le Langage des diments (The Hague: Mouton
9 – New French Feminisms, p. 105.”
10 – تناقش ابربخاراي الموقع التاريخي للنساء من منطلق ماركسي في : Le Marche aux femmes ” in Ce Sexe” اما ردود فعلها بالنسبة لنيتشه ففي كتابها Armante marine
11 – تتضمن دراسات ايلين سيكسو للكتاب الرجال رسالة الدكتوراه الخاصة بها:
Helene Cixous / Exil de loce ou l’art du remplacement (Paris: Crasset, 1968). Prénoms de personne (sur Hoffman, Kleist, Poe, Joyce) (Paris: Editions du Seuil, 1974)
وكذلك مقدمات طبعات دار نشر “أوبلير” (Aubler) لكتب جيمس جويس ولويس كارول. ومنذ عام 1975 تم نشر كل كتبها في دار نشر “النساء” Des Femmes
12 – Cixous. “Entretien avec Françoise van Rossum-Guyon”, Revue des sciences humaines 168 (December 1977): 488,
إن هذه العبارة صاغها لاكان، ولكننا نجد أنها في كتابات أخرى تسخر مما تعتبره بمثابة هوس الأب/ الفحل في التحليل النفسي الصادر حديثا، مثل الرواية المقالة: (1976 ,Cixous, Partie (Paris: Des Femmes
13 – Cixous, “Entretien, p. 487: Vivre l’orange (Paris: Des Femmes, 1980), pp.9, 105-7.
وهو كتاب يتضمن نسخة إنجليزية بقلم سيكسو وأن ليدل وساره كورنيل
(Helene Cixous, Anne Liddle, Sarah Cornell).
14 – Cixous, “Sorties”, La Jeune Née (Paris: Union Générale d’Editions, 1975), trans, in New French Feminisms, p. 98.
15 – New French Feminisms, pp. 259-60.
16 – إن البيان الافتتاحي في “أسئلة نسوية” (Questions féministes) يقدم مراجعة نقدية مطولة لمفهوم “الأنثوية الجديدة” (neo-femimite)، وقد ورد مترجما إلى الإنجليزية في: New French Feminisms as “Variations on Common Themes”, pp. 212-30 انظر/ي أيضا: Beverly Brown and Parveen Adama, “The Feminine Body and Feminist Politics”, m/f3 (1979): 33-37.
17 – Juliet Mitchell, Psychoanalysis and Feminism: Freud, Laing, Reich and Women (New York: Vintage Books, 1975(
وأنظر/ي تحديدا: The Holy Family, 4: The Different Self, the Phallus and the Father”, pp 382 – 98
18 – Nancy Chodorow, The Reproduction of Mothering: Psychoanalysis and the Sociology of Gender (Berkeley: University of California Press, 1978).
19- Dorothy Dinnerstein, The Mermaid and the Minotaur: Sexual Arrangements and Human Malaise(New York: Harper & Row, 1977)
20- في مقالة بقلم جاكلين روز عن تحليل فرويد لشخصية دورا الهستيرية، تؤكد أن أدوار الذكر/ الأنثى التي تستبطنها الطفلة تدخل مجال اللاوعي على مستوى بالغ العمق إلى الدرجة التي تجعل تلك الأدوار متحكمة في إنتاج الأحلام.
إن دورا، التي ترغب في امرأة، تمثل نفسها باعتبارها رجلا – وهي مثال واضح جلي على صورة الرغبة في سياقها الاجتماعي: Jacqueline Rose, “Dora – Fragment of an Analysis”, m/f (1979): 5 -21
21 – لقد تمت ترجمة كل كتب موتيك ويتيج إلى الإنجليزية:
Monique Wittin d Opexww , trans, by Helen Weaver (Plainfield, Vt: Daughter’s Press Reprint, 1976); Les Guérillères, by David Le Vay (New York: Avon Books, 1973), The Lesbian Body by David Le Vay (New York: Avon Books, 1976); Lesbian Peoples: Material for a Dictionary (with substantial revisions) by Wittig and Sande Zeig (New York: Avon Books, 1979(
22- كلمة ألقتها مونيك ويتيج في مؤتمر “الباحثة النسوية” في كلية بارنارد بنيويورك في مايو 1979 :
Monique Wittig “The Straight Mind”, speech given at the Feminist as Scholar Conference in May 1979 at Barnard College, New York.
23 – كلمة ألقتها مونيك ويتيج في جامعة سيتي بليويورك، في مركز الدراسات العليا، سبتمبر ۱۹۷۹:
Monique Witig “One Is Not Born a Woman”, text of the speech given at the City University of New York Graduate Center, September 1979.
24 – Colette Guillaumin, “Question de difference”, Questions féministes 6 (September 1979): 3-21,
وتشير الكاتبة إلى أن دعوى “الاختلاف” تأتي أيضا من مجموعات أخرى مضطهدة (مثل السود في الولايات المتحدة، والعالم الثالث) ممن لم ينجحوا بعد في تفعيل رغبتهم في تحقيق سلطة الذات، وقيامهم بتأكيد اختلافهم ضد الطبقة الحاكمة يقوي من التضامن بين أفراد المجموعة ولكن على حساب القيام بتحليل للمصادر السياسية
لهذا الاختلاف.
25- Madeleine Gagnon, “Corps I”, New French Feminisms, p. 180.
وللحصول على مقولة شبهة، أنظر/ي: ,Chantal Chawaf, La Chair linguistique”, New French Feminisms pp. 177-78.
26 – تجمع كورا كابلان بين روايات التحليل النفسي والروايات الأنثروبولوجية عن تردد النساء في الكلام ,Cora Kaplan “Language and Gender”, Papers on Patriarchy (Brighton, England: Women’s Publishing Collective 1976)
وكذلك تبين ساندرا جيلبيرت وسوزان جوبار كيف أن الغموض الاجتماعي حول دور الكاتب أو الكاتبة انعكس على الكاتبات باللغة الإنجليزية:
Sandra M. Gilbert and Susan Gubar, The Madwoman in the Attic: The Woman Writer and the Nineteenth-Century Literary Imagination (New Haven, Conn.: Yale University Press, 1979)
27 – للحصول على مناقشة للمطالب العملية والشكوك في النفس التي أعاقت الكتابة النسائية، أنظر/ي
Tillie Olsen, Silences (New York: Delacorte Press, 1979), esp. “The Writer-Woman: One out of Twelve”, pp. 177-258.
28 – كلمة ألقتها كريستيان روتشفورت في جامعة ويسكونسين في فبراير 1975:
Christiane Rochefort, “Are Women Writers Still Monsters?” a speech given at the University of Wisconsin, Madison, February 1975 translated in New French Feminisms, pp. 185-86
29 – مصطلح “وحدة المركز ” (Carscentrism) استخدمته إيلين شوولتر في كلمة عن “النظرية الأدبية النسوية وأوجه أخرى مستحيلة في مؤتمر عن النقد الأدبي النسوي عقد في كلية سميث في ٢٥ أكتوبر ۱۹۸۰:
Elaine Showalter “Feminist Literary Theory and Other Impossibilities”, speech given at the Smith College Conference on Feminist Literary Criticism, Northampton, Mass, October 25, 1980.