في أحد الأيام، أثناء حديثي مع صديقة، تساءلت لماذا تكرر النساء من الأجيال الأكبر – اللاتي تعرضن للأذى لمجرد كونهن نساء – نفس الممارسات بحق من هن أصغر؟ بعبارة أخرى، لماذا تقوم النساء اللاتي اختبرن الألم بإعادة إنتاجه؟ رأيت أن ممارسات واختيارات النساء محددة بسياق اجتماعي وسياسي، وتراكم تاريخي أكبر من إراداتهن الفردية. هذا السياق هو ما يضع الأطر التي تستطيع النساء المقاومة والتفاوض من خلالها. في وسط النقاش، قالت صديقتي إنه بالرغم من تمسك والدتها الشديد ب”العادات والتقاليد”، إلا أنها تشعر بالامتنان لأن والدتها لم تعرضها للختان، بالرغم من أن والدتها نفسها تعرضت له. صديقتي من مواليد 1989. عند هذه النقطة من النقاش، تذكرت اليوم الذي اكتشفت فيه أن والدتي تعرضت للختان. في أحد الأيام ونحن واقفتان في المطبخ، سألت والدتي عما إذا كان يُمارس الختان في البلد (القرية) التي أتت منها جدتي. أجابتني بتلقائية “آه”. لم أفكر في الإجابة وتسرعت في سؤالها “وإنتي يا ماما.. اتعرضتي للختان؟” أجابت أمي للمرة الثانية “آه”. حاولت استيعاب كلا “آهتيها”، وكعادتي كان البكاء هو رد فعلي اللحظي، سألتني أمي “ليه بتعيطي؟” لم أستطع إجابتها، فأنا نفسي لم أعرف لماذا بكيت حينها، أكملت أمي في محاولة لتهدئتي”أنا أهلي ماكانوش يقصدوا يأذوني، هما ماكانوش متعلمين وكانوا فاكرين إنهم بيعملوا دة لمصلحتي. لكن أنا وابوكي اتعلمنا وعرفنا إن دة غلط وماعيدناهوش معاكي انتي أو أختك”. في اللحظات التي تلت كلمات أمي، شعرت بغضب شديد تجاه جدتي التي لم أرها أبدًا، وتواترت بداخلي الأسئلة بسرعة؛ لماذا قامت جدتي بهذا الانتهاك في حق أمي، أي بنتها، أو بالأحرى في حق بناتها.
أنا من مواليد 1994، ولم أتصور يومًا أن تاريخ ميلادي يمكنه المساهمة في تحسين حظي. في إحدى ورش الحكي التي شاركت في تنظيمها في قرية دير درنكة بمحافظة أسيوط، تطرقت المشاركات لتجاربهن مع الختان، وحكين عن الآثار التي ترتبت على خضوعهن لتلك العملية، مثل علاقاتهن بأجسادهن وممارساتهن الجنسية. تبين أن 12 من أصل 14 مشاركة تعرضن للختان، و10 من ال12 قررن عدم ختان بناتهن. استوقفنا قرارهن وسألناهن عن الدافع ورائه. دارت إجاباتهن حول الدور الذي لعبته حملات رفع الوعي لمناهضة ختان الإناث، والتي قام بها مكتب التنمية الإيبارشي التابع للكنيسة الكاثوليكية في القرية. هل هذا ما احتاجته جدتي حتى لا تختن أمي؟ حملات رفع وعي! هل لم تختبر جدتي نفس الأذى النفسي والجسدي والجنسي الذي حكت عنه نساء دير درنكة بسبب الختان؟ هل احتاجت جدتي أن يوعيها أحدٌ بما مرت به نفسها واختبرت آثاره؟ أتخيل أنها شعرت بكل هذا، إذن لماذا أعادته؟ ولماذا استطاعت أمي كسر الدائرة التي لم تجرؤ جدتي على الاقتراب منها؟
طوال رحلة بحثي حول تطور الخطابات الدولية والمحلية عن الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية قبل لحظة مؤتمر القاهرة 94، حاولت اقتفاء آثار جدتي وأمي، والنظر للظروف التي شكلت واقعهن وحددت اختياراتهن. تمتد جذور عائلتي لأمي للريف، الذي دُمر وتدهورت حالة سكانه في القرن التاسع عشر مع ما فرضه محمد علي من إجراءات لتحويل شكل الاقتصاد المصري ودمجه في الاقتصاد العالمي. ومع فشل مشروع محمد علي الاقتصادي، تدهورت حالة الريف وبدأ سكانه الأفقر في الهجرة للقاهرة بأعداد كبيرة جدًا للبحث عن فرص عمل. ومع تطلع النخبة المصرية للاستقلال عن البريطانيين، حاولت النخبة تأكيد سيطرتها على مجال “السكان” الذي أصبح مجالاً جديدًا للحكم في فترة ما بعد الاستقلال. وبذلت النخبة المصرية كل جهودها لتحييد النظر للتوزيع غير العادل للثروة والممتلكات كسبب أساسي لتدهور أحوال الغالبية العظمي من المصريين، متبنية الترويج لأن “التضخم السكاني” هو أصل الأزمة. استهدفت النخبة الوطنية النساء الفقيرات في الريف والحضر باعتبارهن “مركز التخلف”، لتطوريهن من خلال إعادة تشكيل أنماط أموماتهن وتعليمهن “قواعد النظافة الشخصية والتغذية والتربية الصحية لأطفالهن” باعتبار جهل الأمهات الفقيرات بهذه القواعد هو السبب الأساسي لموت أطفالهن في سن صغيرة. واحتلت النسبة العالية لوفيات الأطفال مساحة كبيرة من انشغال النخبة، إذ أرّقتهم وفاة الأطفال في سن لا تسمح للدولة بالاستفادة بجهودهم الإنتاجية!
اتخذت المنظمات الحكومية والجمعيات الخيرية، والتي كانت المساحة الأولى لانخراط النسويات الأوائل في أنشطة اجتماعية وسياسية خارج المنزل (المجال العام)، على عاتقها تعليم الأمهات الفقيرات قواعد “النظافة الشخصية للأطفال الرضع ومهارات الأمومة”. ومن ضمن هذه الجمعيات “جمعية مصر الجديدة” والتي أنشأت مبرة في المنطقة الشعبية لمصر الجديدة، ورأت أن “أفضل أسلوب للارتقاء بالطبقات الشعبية هو أن يحدث الإصلاح الاجتماعي وسطها”. وفي هذا الإطار، بدأت إقامة مسابقات النظافة بين بيوت الفقراء، حيثُ تحصل البيوت الفائزة بأعلى مستوى من النظافة على جائزة، وكانت هذه المسابقات ضمن المكونات المشتركة لبرامج رفع المستوى الاجتماعي التي أقامتها الجمعيات الخيرية.
كانت جدتي من الفلاحات اللاتي هاجرن من الريف إلى القاهرة في أواخر ثلاثينات القرن العشرين، بحثًا عن فرص أفضل للحياة، وعاشت هي وجدي في غرفة في شقة مشتركة على أطراف مصر الجديدة. أنجبت جدتي تسعة أطفال، كانت أمي، التي وُلِدت سنة 1966 أصغرهم. حاولت تخيل حياة أمي من خلال قصصها عن ظروف المعيشة في غرفة مع ثمانية إخوة وأب وأم. قالت لي أمي إن خالاتي هن من “اخترن” الزواج في سن مبكرة (ما بين 14 و18 سنة)، وإن الذكور من إخوانها تزوجوا في الثلاثينات من أعمارهم. طوال قراءتي كنت أتخيل: هل من الممكن أن يكون مسار جدتي قد تقاطع مع أنشطة هذه الجمعية؟ هل من الممكن أن تكون جدتي قد قابلت إحدى أولئك “النسويات” اللاتي حاولن “تمدينها” حتى “ترتقي” لمرتبة “الأم الجيدة”؟ وهل هذا ما كانت تحتاجه جدتي لتحسين ظروف حياتها؟ وماهو شعور جدتي تجاه حملات تلومها هي ومثيلاتها على الفقر والمرض الناتج عنه؟
قرابة الوقت الذي هاجرت فيه جدتي من الريف إلى القاهرة، نُظِم أول مؤتمر لـ “تحديد النسل” في مصر سنة 1937. وأظهرت الخطابات المتداولة في المؤتمر كيف شكلت الطبقة مركزًا للسياسات السكانية المعنية بتنظيم النسل، فالمعارضين والمناصرين على حد سواءً كانوا يناقشون أثر إتاحة وسائل منع الحمل لعموم المصريين على السلوك الإنجابي للطبقات الاجتماعية المختلفة. وأشار المتحدثون جميعًا للمسئولية التي يتحملها الفقراء – خاصةً النساء – في استدامة – بل زيادة – نسب الفقر، لأن إنجابيتهن تورث الفقر، ولأن فقرهن يجلب الأمراض، ولأن أمراضهن تعوق الإنتاج. كما أشاروا إلى أهمية الحفاظ على تنامي أعداد الطبقات الوسطى والعليا للحفاظ على وجود فئة متعلمة ومتمدنة وراقية لقيادة الأمة نحو طريق التقدم والتطور. وفي قلب كل ذلك، ناقشوا أهمية الحفاظ على الأسرة باعتبارها أحد أعمدة النظام الاجتماعي، والمساحة الأولى لتنفيذ توجهات الدولة في ما يتعلق بالإنجاب. احتقار ووصم الأفقر والمصابين بأمراض نفسية وأمراض وراثية غير قابلة للشفاء كان السمة الغالبة على النقاشات في المؤتمر، والتعامل مع الأدوار الإنجابية والتربوية والرعوية باعتبارها محور حيوات النساء كان المنظور الوحيد والمهيمن. وكان السؤال المحوري يتعلق بكيفية استدامة السيطرة على إنجابية وجنسانية النساء من خلال مؤسسة الأسرة، وهو النقاش الذي بُنيت عليه لاحقا الاستراتيجية المُتَبَعة.وُضِعت جدتي ومثيلاتها على رأس المستهدفات ببرامج صحة الأمومة والطفولة، وبعدها في برامج تنظيم الأسرة وتحديد النسل، ليس فقط لكونها امرأة، بل لكونها فقيرة أيضًا! لم تساهم جدتي في صناعة أي من السياسات التي تناقش إنجابيتها أو حياتها الجنسية، ولم يُنظر لها كإنسانة تمتلك أفكار ومشاعر ورغبات وأحلام وأمنيات لحياتها ومستقبلها ومستقبل أطفالها، بل في خضم عملية “الإصلاح” الاجتماعي والسياسي، نُظِر لجسد جدتي باعتباره هدفا للتحكم والتوجيه، ووسيلة لتحقيق السياسة السكانية للدولة. وبالرغم من معرفتي المسبقة برتوش من هذه المعلومات، إلا أنه مع الاستمرار في القراءة ومعرفة المزيد من التفاصيل، شعرت بالثقل الشديد وانهكتني المعرفة. وفي كثير من الأحيان طوال رحلة البحث والكتابة، داهمني الشعور بالعجز، فكيف لي ولنا تغيير أثر قرون من سياسات وممارسات وخطابات تجردنا –كنساء – من إنسانيتنا وتعزلنا عن أجسادنا؟ وتذكرت جملة قالتها إحدى”كاتبات الخزانة“: “الحقيقة أن أبي وأمي وعائلتي والطبيب والمستشفى ووزارة الصحة يمتلكون جسدي.” وددتُ أن أكمل “وكذلك يمتلك السياسيون والدولة والمنظمات الدولية أجسادنا.” وتساءلت: يا ترى ماذا كانت تشعر جدتي تجاه جسدها مع كل هذا؟ هل كانت هناك مساحة ما تشارك فيها ما تشعر به؟ هل شعرت بالوحدة تجاه ألم تجربة قاسية كالختان؟ هل كان هناك مساحة حقيقية لها حتى “تختار” ألا تختن بناتها؟ لكن ماذا يعني “الاختيار” في سياق يُنظَر فيه للختان كضمان “للعفة”؟ وتصبح العفة بدورها هي الضمان لقابلية المرأة للزواج، ويصبح الزواج بدوره ضرورة اقتصادية وطريقة للهروب من وقع ظروف حياة قاسية ومساحة لتصور بداية جديدة لحياة أقل قسوة –حتى لو لم يكن هذا التصور قابل للتحقيق. هل “اختارت” خالاتي حقًا الزواج في سن صغيرة؟
كانت هذه ظروف نشأة أمي. استفادت أمي من بعض الإصلاحات الناصرية، فلقد حصلت على تعليم جامعي مجاني وعُيِّنت في وظيفة حكومية. ولم تمتلك أمي رفاهية عدم العمل، فلقد ساهمت سياسات الإنفتاح الاقتصادي التي فرضها أنور السادات في تدهور الوضع الاقتصادي العام، والذي أثر على أمي كشابة في مقتبل عمرها، لا يوجد لديها من تعتمد عليه ماديًا، وتسعى لتكوين أسرة مبنية على اختيارها لشريكها. تزوجت في سن السابعة والعشرين وهي سن متقدمة نسبيًا بالنسبة لصديقاتها وأخواتها. كان الانخراط في برامج وسياسات التنمية المُتبناه دوليًا نتيجة أخرى مترتبة على سياسات الإنفتاح الاقتصادي، وفي هذا الوقت بدأت جهات التمويل الأجنبية التركيز على السياسة السًكانية في مصر بهدف تقليل نسبة الخصوبة. قرابة الوقت الذي تزوجت فيه أمي، أي في ثمانينات القرن العشرين، بدأت هيئة المعونة الأمريكية USAID في ممارسة ضغوط على الحكومة المصرية لتبني سياسة مباشرة للسيطرة على الخصوبة كبديل للنهج التنموي الذي اتبعته الحكومة المصرية في سياساتها السكانية من قبل. ورأت الهيئة أن النساء المصريات “غير مسئولات” في تعاملهن مع وسائل منع الحمل التي لديهن القدرة على التحكم فيها، وذلك لأن حبوب منع الحمل كانت الأكثر استخدامًا بين النساء المصريات. لكن بناءً على مسح أجرته الهيئة، اكتشفوا أنه في غالبية الأحيان، لا تلتزم النساء بإراشادات القائمين على عيادات تنظيم الأسرة، ويتوقفن عن أخذ الحبوب بسبب أعراضها الجانبية. ومن هنا، بدأ ضخ وسائل منع حمل طويلة المدى التي تستطيع النساء التحكم فيها مثل اللولب، كما بدأ إدخال طرق الحقن، التي استهدفت بشكل أساسي النساء من الريف.في الثمانينات، بدأت نسويات الجنوب العالمي والنسويات الملونات في الشمال العالمي توجيه النقد للسياسات السكانية المتبعة دوليًا، لأنها تتعامل مع أجساد النساء باعتبارها أدوات لتحقيق أهدافها، ولا تنظر لأوضاع الحقوق والصحة الجنسية والإنجابية للنساء. في هذا الإطار، بدأت بعض النسويات المصريات بتوجيه الاهتمام نحو “ختان الإناث” كقضية تخص الصحة الجنسية للنساء. وبذلن جهودا بدأت بتجميع وخلق معرفة مرتبطة بممارسة الختان منذ أواخر السبعينات. وتراكمت هذه المعرفة من خلال أبحاثهن وحملاتهن على مدار الثمانينات، حتى تبلورت قوة مناهضة ختان الإناث في التسعينات. وأول ما شغلهن كان محاولة فهم سبب قيام الأمهات المختونات بختان بناتهن. ومن هنا، بدأ يتشكل صوت نسوي يحاول أن يسمع قبل أن يتكلم، وأن يفهم الأبعاد المختلفة لختان الإناث كممارسة اجتماعية مقبولة بل ومُطَبَعة، وأن يتعامل مع تلك الممارسة كمفتاح لرسم صورة أشمل وأعم، ترى موقعية النساء في البنى الاجتماعية المختلفة. عكست هذه الصورة النساء كفاعلات في حيواتهن، يحاولن التعايش من خلال عمليات التفاوض اليومي على أبسط المساحات، ولا “يجهلن” حقوقهن، لكنهن يضطررن لتقديم “تنازلات” عن بعض الحقوق كمقايضة من أجل ضمان الحصول على حقوق أخرى يرينها أكثر ضرورة من أجل البقاء والتعايش.
استهدف صوت أولئك النسويات استعادة امتلاك الكلام عن أجساد النساء وجنسانياتهن، وأخرج الألم المرتبط بممارسة ختان الإناث من وحدة وكتمان الصمت لفضاء مسموع، ولوح بإمكانية وجود حياة مختلفة، لا تكون أجساد النساء فيها عبئًا أو عارًا عليهن، ولا يكون فيها انتهاكهن “طبيعي” أو سبيلهن الوحيد للتفاوض.
أعتقد أن هذا هو ما احتاجته جدتي، وما وجدته أمي. أن تسمع صدى ألمها في مكانٍ آخر خارج رأسها، وأن تعلم أنها لن تكون الوحيدة التي تكسر الدائرة، ولن تضطر للتضحية بالحقوق البسيطة التي تفاوض عليها يوميًا وغالبًا ما تدفع ثمنها إذلالًا وألمًا، وأن تدرك أن ألمها حقيقي ومرئي، وأن مشاعرها ليست جنونًا أو هيستيريا، وأن لها مساحة في المجال العام. هذا هو الأثر الحقيقي الذي تركته حملات التوعية. أعتقد أن جدتي لم تحتاج أن يوعيها أحدٌ بما اختبرته هي بنفسها، فالشخص المضروب لا يحتاج لشخص آخر يقول له أنه ضُرب، لكنه يحتاج أن يثق في عدم تعرضه للعقاب إذا ما اعترض أو حاول وقف الاعتداء الواقع عليه، ولن يوصم ولن يُتهم بالجنون.
أعتقد أن هذا من العوامل التي دفعت أمي تجاه عدم ختاني أنا أو أختي.
بعد الوصول لهذا الإدراك لم يعد الشعور بالعجز هو الطاغي عليّ، بل أشعر بالامتنان تجاه أمي التي اتخذت قرارًا جعل حياتي أقل قسوة، وأشعر بالامتنان تجاه نسويات استطعن خلق صوت يؤنس أمي ولا يشعرها بالوحدة.