لم لا اكتب

الشركاء: اختيار

بالنسبة لي أن أكتب عن تجربة هو أمر مؤلم، لأن هناك جرح، وفيه قشرة متكونة. لأكتب عليّ أن أنزع القشرة, وأعود إلى الألم والدم“. 1 جلوريا أنزالدوا

أتذكر حين قررت أن أبدأ الكتابة في إحدى مراحل التعافي من الثورة. لم أرسم خطة واضحة, لم تكن كتابتي لهدف سوى التعامل مع هذا الضجيج الذي يحتل رأسي. وقتها, كلما حاولت الكتابة عن تجاربي, أو عن المجتمع أو عن الثورة والحياة أجدني لا أستطيع التفكير بعيدًا عن يوم واحد يلح على كتابتي بشكل أو بآخر. يوم مقتل قريبي وصديقي الذي يصغرني بست أعوام كان لها دور كبير في شعوري بمسئولية حمايته. يومٌ تمثلت فيه كل صراعاتي. يوم رأيت فيه صغيري بجسده الذي رفض النمو بشكل يحميه من سخافات الذكور فظل حتى الموت قصيرًا نحيلاً كمراهق لم يتجاوز الثالثة عشر ملفوفًا بالبياض بعد أن تلقى رصاصة أهدرت حياته كخسارة جانبية لصراع سياسي كلا جانبيه أبطال وأشرار وشهداء وأوغاد في آن واحد. يوم جلست في ميدان يمتلئ بآلاف البشر على الأسفلت في وسط أرجل النساء المصليات للجنازة لا أصلي بل أنظر لوجوههن الباكية الخائفة والمؤمنة ايمان اليقين وهي تقف وتركع وتسجد بينما أنا أنقل نظري بينها وبين السماء وأتيقن لأول مرة أنني لم أعد أنتمي إلى هذه الحالة بأي ذرة بداخلي. لا أرى نفسي فيهن بأي شكل، لا أشاركهن أي فكرة فقط أراقبهن في حزن وخوف وإشفاق كغريبة مشوشة لا تعرف فيما تفكر. يوم لم يحتمل رفيقي أن يظل بعيدًا ففاجئني أمام المشرحة لأتسلل معه في شوارع زينهم بعيدًا عن هذا الوجه الآخر لحياتي وأحتضنه في شوارع لا تقبلنا دون تردد. يوم انهارت أمي من البكاء لحظة عودتنا للبيت بعد أكثر من عشرين ساعة قصيناها بين مشرحة ومقبرة، لا لفجاعة ما حدث أو ما سيحدث ولكن لأن مشهد بنات العائلة حولنا ذكرها أني الوحيدة التي تجرأت على خلع حجابها وعفتها. يوم اتهموني بقتله فقط لأنني علمانية لأنني العدو الذي حتما يسعى لفنائهم. لم يكن مرحب بي في حالة الحزن الجماعي التي جمعتهم كعائلة تشاركت مسار الحياة لسنوات لا مكان لي في جلسات حميمية لسرد ذكريات مشتركة جمعتنا. لا مكان لروايتي عنه فرواية أكثر ملحمية ونقاءًا قد تم إقرارها كَرواية وحيدة لحياة الشهيد. أقرأ كثيرا تعبير سرقة أصواتناوأشعر بثقله في أعماقي .

لم أكتب عن هذا اليوم أبدًا قبل الآن, لم أستطع تحمل الألم. لم أكتب عن أي يوم أبدًا. واليوم حين أتذكر هذا اليوم تلح ذاكرتي بمشهد آخر, مشهد صدیق تصادف تواجده بالمشرحة ليظل معنا طوال اليوم ويحمل أخي المقتول على كتفه لينقله للداخل وتسقط قطرات الدم على جبته الصلعاء فأمسحها بيدي, أصبحت الذكرى أثقل على النفس الآن, فقد مات صديقي فجأة في منامه بعدها بشهور دون أن أودعه. ليس اليوم الوحيد، وليسوا وحدهم من فقدت. تحمل أيام الثورة وما تبعها من تخبط آلام مشابهة لي وللكثيرين. كيف لنا أن نكتب دون المرور بكل هذا الألم والفقد والتخبط والخذلان؟ أن تعافى بالكتابة كما يعدون؟ أم نعتد الألم نحترف فتح الجروح والنظر إليها مدركين أننا سنتابع حيواتنا حاملينها معنا دون أن نفقد أنفسنا في هذا الألم المعتاد؟

أملك الكتابة في عقلي عشرات المشروعات للكتابة، أفكر في الكتابة طوال الوقت, أفكر في الكتابة لأني لم أعد أثق في ذاكرتي. أرغب في التوثيق، لكي لا أفقد إدراكي لأحداث الحياة من حولي مع الوقت. لكي لا أفقد إدراكي لنفسي مع الوقت. لا يمنعني فقط خوفي من كشف الجروح, فكثيرًا مالا تكن الجروح غائرة بهذا القدر. ولكن دائمًا يمنعني خوفٌ ما .

أرغب في الكتابة عن مجتمعات عرفتها وعايشتها, عن نساء ورجال يختزلون في انتمائهم للأقليات والمهمشين والمضطهدين, عن مشكلاتهم وآلامهم وأحلامهم. ولكني أخاف أن أنسى المسافات بين حياتي وحياتهم، أشعر بوقاحة إدعاء أنني أفهم ما يعانون بينما لم أكنه أبدًا. أخاف أن أخذلهم، أو أخذل نفسي, أو يخونني التأويل.

أرغب في الكتابة عن حياتي كامرأة تعيش هنا والآن, عن علاقتي المعقدة بجسدي والعالم. عن أمي. عن أبي. عن أبي وأمي معًا. عن خوفي من أن أصبح صورة باهتة من أحدهما، بلا طموح أو إنجاز أو شغف. ثم يمنعني خوفي من جرحهما. دائمًا ما تحوي تجاربنا بشر آخرين, نحبهم أيضًا كما نحب أن نجد لأنفسنا إيقاعاً متزنًا بالكتابة عن صراعاتنا معهم. ليست تجاربنا وحدنا. الوعي بذلك يخيفني.

ربما أخاف أحيانًا من أن يخرج الكلام مكررًا ومبتذلاً. لن أضيف الجديد، فكل المشاعر أُختبِرت وكل الأفكار نوقشت. وليست آلامي الأفظع ولا خواطري الأهم. أشعر أحيانًا أني مدينة للعالم بأن تكون تجاربي مكتملة تمامًا، أفكاري ناضجة تمامًا، إضافتي أصيلة دائمًا, لتستحق أن تكتب.

أو ربما الخوف الأكبر يكمن في أن أفقد القيمة أثناء الكتابة. أن تصبح الكتابة في ذاتها أهم من المعاني. أن أفتتن بالصياغات, بالرغبة في أن أبدو أذكى أو أنقى أو أفضل مما أنا عليه. أن أفتتن بجمهور ما أكتب له, حتى وإن كان في مخيلتي وحدي.

أبدأ كل يوم بنية بدأ لكتابة. تدور في رأسي الكثير من الحجج لصالح الكتابة. ولكنني اليوم قررت أن أواجه هذا السؤال الملح المؤجل لماذا رغم كل شيء لا أكتب؟

 

باحثة يسارية نسوية من القاهرة، مشغولة بقضايا العدالة الاجتماعية في المدينة. أكتب وأرسم للتعافي من الحياة، ولفهمها أحياناً. أهوى الجدال، وإزعاج المتنمرين، والنوم.

شارك:

اصدارات متعلقة

عيد الأم ما بين الاحتفاء بقيمة الأمومة و ترسيخ الدور النمطي للنساء
خدمات الصحة الجنسية فيما بعد سن الإنجاب ضرورة لتمكين النساء
ختان الإناث في مصر... جريمة تعذيب ضد الإنسانية
حقوق النساء من اجل العدالة والتنمية
الإيدز خطر صامت يهدد حياة النساء في ظل جائحة كورونا
إشكاليات التقاضى فى جريمة التحرش الجنسي
أسئلة وأجوبة بشأن الوقاية من كوفيد 19 ومكافحتها للعاملين /ات في مجال الرعاية الصحية
الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان