ما بعد المساواة

تاريخ النشر:

2010

تأليف:

ما بعد المساواة: النوع الاجتماعي، والعدالة، والاختلاف*

تقديم المحررة:

اختارت جين فلاكس (Jane Flax) هذا الفصل، من بين مطبوعاتها العديدة، ليُنشر في كتابنا. لقد نشر هذا الفصل في كتاب آخر مهم، وساهم في تطوير النقاش الذي أشار إليه الفصل السابق حول المساواة في مواجهة الاختلاف“. وتناقش فلاكس كيف يمكن أن يسهم الاختلاف النوعيفي إبراز فهم جديد حول مصطلح العدالةكهدف بديل للمساواة، وتأكيدها للتماثل. ونظرًا لأن العدالة ترتكز على مهارات وصفات وأفكار مختلفة حول الخير، فإنها تُعد أكثر المفاهيم إفادة بالنسبة للفكر النسوي واهتمامه بالاختلاف ونضاله من أجل إنهاء هيمنة النوع الاجتماعي. وقبل أن توضح طبيعة النظريات النسوية الجديدة حول العدالة، تطرح فلاكس نقاشًا حول استفادة التنظير النسوي من التفكيك ما بعد الحداثي للذات والذاتية، والتي تتشكك فيها إلى حد ما. وتطرح، في مكانهم، تعريفًا للعدالة كعملية تدمج في تعريف المواطنة النشطة كلاً من المصالحة، والتبادلية، والإقرار، والحكم.

 

ما بعد المساواة:

النوع الاجتماعي، والعدالة، والاختلاف

جين فلاكس

يتمثل الاعتقاد المركزي للنظرية النسوية في أن النوع الاجتماعي كان ولا يزال علاقة سيطرة متغيرة تاريخيًّا ومتمايزة داخليًّا. إن مفهوم النوع الاجتماعي يعني لاتماثل علاقات القوى، ويعكس استمرارها، وليس مجرد الاختلافات (البيولوجية/التشريحية) ’الطبيعية‘. في الغرب الحديث (بعد القرن السابع عشر)، كان النوع الاجتماعي يتشكل من خلال منطق دائري خبيث، حيث يجري تعريف نطاق من ’الاختلافات‘ (مثال: العقل / الجسد، المنطق / العاطفة، العام / الخاص) باعتبارها اختلافات، وباعتبارها أساسية للنوع الاجتماعي وجزءًا لا يتجزأ منه. كما كان إدراك هذه الاختلافات يعتبرها أيضًا ثنائيات متعارضة ولامتماثلة على مقياس تراتبي وثنائي ومطلق، وليس بوصفها تعددية في عالم غير محدد ولا نهاية له. وكان تعريف ’المرأة‘ يعتبرها رابطة لعناصر بعينها، وتقع دائمًا في الجانب الأدنى من الثنائية. أما الرجل – نقيضها المتفوق – فيدمج ’طبيعيًّا‘ الجانب الأعلى من الثنائية ويتشكل منه. وبالتالي، نجد في الغرب المعاصر أن الاعتراف بالاختلافات يبدو جزءًا لا يتجزأ من الثنائيات اللامتماثلة وعلاقات السيطرة. وفي إطار الثقافة الغربية المعاصرة، تتولد الاختلافات وتستخدم بالتأكيد لتبرير التراتبيات وعلاقات السيطرة – بما فيها تلك المرتكزة على النوع الاجتماعي (أو التي تُعزى إليه).

ومن هنا، يمكننا فهم إغراء مفهوم المساواة. لقد وظف الفكر السياسي الغربي الحديث هذا المفهوم بوصفه (كما يبدو) النقيض الثنائي للاختلاف والسيطرة. وكانت النسويات يأملن في أن توسيع المساواة، بحيث تشمل النساء، يمكن أن يوفر علاجًا لعلاقات السيطرة القائمة على النوع الاجتماعي. على أنني أجادل أن المساواة، وبالدقة كما يجري حاليًا فهمها وممارستها، مبنية جزئيًّا داخل – ومن خلال إنكار – الاختلافات وتحديد منزلتها، فإنها تُعد أقل فائدة من العدالة كترياق لعلاقات السيطرة.

إن الهيمنة تبرز من العجز عن الاعتراف بالاختلافات وتقديرها واحتضانها، وليس نتيجة الإخفاق في رؤية كل شخص بنفس الطريقة. وبالطبع، فإن الحاجة إلى رؤية كل شخص بنفس الطريقة، لمنحه الكرامة والاحترام، هو تعبير عن المشكلة وليس علاجًا لها. ونظرًا لأن مشكلة النوع الاجتماعي الأساسية، كما تشكلت حاليًا، تكمن في أنها علاقة سيطرة، إذن على النسويات السعي إلى إنهاء السيطرة – وليس النوع الاجتماعي، وليس الاختلافات، وبالتأكيد ليس المؤنث. إن القضية كما أفهمها ليست المساواة و/ أو الاختلافات، وإنما تتمثل بالأحرى في كيف ولماذا يُعد النوع الاجتماعي علاقة سيطرة – وكيف يمكن إنهاء مثل تلك السيطرة.

لقد نشأت النظرية السياسية الليبرالية الحديثة كرد فعل، ورفض، لأسلوب الحياة المبني على الإقرار بالأوضاع والقوى والصفات غير المتساوية (سيطرة ترتكز على الاختلافات) وتعزيزها. إن الزعم بالمساواة، والذي يحتل موقعًا مركزيًّا في الفكر السياسي الليبرالي الحديث، يضرب بجذوره في رفض السلطة ’الطبيعية‘، القائمة على الاختلاف وعلى تأكيد وجود تماثل بشري أساسي – وعلى سبيل المثال، امتلاك نفس حزمة الحقوق الطبيعية أو المنطق. ومما يثير السخرية، بالتالي، قبول المنظرين الليبراليين – أو إدراجهم – عقيدة أساسية من أسلافهم بالعصور الوسطي (الاختلافات، وعدم المساواة، والسيطرة – لا تنفصل عن بعضها البعض)، مع إصرارهم على وجود تماثل جوهري يتجاور، على الأقل في الميدان العام، مع هذه الاختلافات الطبيعية.

وفي المقابل، تنشأ ضرورة العدالة في النظرية السياسية الكلاسيكية من الاعتزاز بالاختلافات. ومشكلة العدالة تنشأ لأن الأشخاص يمتلكون مهارات وصفات ومزاعم وأفكار مختلفة حول الخير. ومع ذلك، ونظرًا لعدم اكتفاء أي منا ذاتيًّا، يجب التوفيق بين هذه الاختلافات في وحدة كاملة تسعى إلى تحقيق الخير للجميع، بحيث تصبح علاقات السيطرة في حدها الأدنى. على أن النظرية السياسية الكلاسيكية تعتبر الاختلافات مرتبة على مقياس الخير المتأصل، وتطرح أن أفضل امرأة أقل امتيازًا من أفضل رجل. لكن العدالة تترك فضاء لأخذ الاختلافات في الاعتبار، ولذا فإنني أعتقد أن مفهومهًا أكثر فائدة من مفهوم المساواة. فلا يمكنني أن أتخيل المساواة بعيدًا عن مقياس ما للتماثل. ويبدو أن المساواة تتطلب أسلوبًا متسقًا للإجابة على السؤال التالي: المساواة فيما يتعلق بماذا؟ ولم يتسم أي مقياس مطروح حتى الآن بالحياد تجاه النوع الاجتماعي، سواء من حيث طبيعته أو آثاره.1

وعندما نشأت النسوية الغربية الحديثة في القرن الثامن عشر، ورثت بشكل طبيعي مفردات هذه اللغة السياسية، علاوة على مشكلات سياقاتها الثقافية. وعندما واجهت النسويات الغربيات علاقات السيطرة القائمة على النوع الاجتماعي، وتشكلت على أساسه، لم يعدُ هناك مفر من قضايا الاختلاف والمساواة. وإذا كانت الاختلافات تمثل الأساس التوالدي للسيطرة، فهل يمكن القضاء على السيطرة دون إبادة الاختلافات – بما في ذلك النوع الاجتماعي؟ وإذا كانت المساواة تتطلب التماثل وتعكسه، يجب عندئذ التشكك في طبيعة هذا التماثل نفسه. هنا لم يكن هناك مفر من الانتباه إلى أن مفاهيم الاختلاف / التماثل قد تشكلت ازدواجيًّا أيضًا، وتقوم على النوع الاجتماعي. فالأنوثة تُعتبر ’المختلف‘، بالنسبة إلى ’المتماثل‘، الذكوري. وبالتالي، يبدو من الضروري لتحقيق المساواة أن تكف النساء عن كونهن إناث، على الأقل في المجال العام. ونظرًا لأن أحد الأغراض التعريفية والمتفردة للمجال العام يتمثل في القضاء على السيطرة وكفالة نقيضها وتأمينه – أي الحرية – دون نفاذ إلى السلطة أو فرضها على المجال العام، كيف يمكن إذن إلغاء السيطرة القائمة على النوع الاجتماعي؟ وإذا كان من الضروري أن تكف النساء عن كونهن إناث حتى يندرجن ضمن المواطنين، فإن الحديث عن التحرير السياسي للنساء يصبح بمثابة اجتماع لفظين متناقضين، ما دام علينا أن نمحو ’اختلافنا‘ قبل الدخول إلى المجال العام.2

تلك هي المفارقات التي ورثتها النسويات بوصفهن أشخاصًا (إن لم يكن مواطنات كاملات) في الديمقراطيات الليبرالية الغربية الحديثة. وبينما لا يزال من الضروري أن يعمل المشروع النسوي على إنهاء علاقات السيطرة القائمة على النوع الاجتماعي، فإن الوسيلة المناسبة للقيام بذلك تبدو مراوغة وغير يقينية. ونظرًا لأن النظريات النسوية الحديثة توضح تحيزات جوانب الفكر الليبرالي الغربي على أساس النوع الاجتماعي، فإن استخدام تلك النظريات، فضلاً عن صلتها بالمشاريع النسوية، أصبح يثير العديد من الخلافات. ومع الإقرار بأن الفكر الليبرالي الغربي ذاته قد تشكل جزئيًّا عن طريق اتجاهات ’المثلية الجنسية‘ والتي تتقلص خلالها الاختلافات إلى تأكيد تفوق المثل (المذكر)، أو الابتعاد عنه فقد وجدت المُنظرات النسويات أنفسهن مضطرات على مضض إلى شغل وتخطيط أرضية تتداخل مع تصورات العديد من فلاسفة ما بعد الحداثة.3

وهناك التباس عادة ما يتخلل علاقات التنظير النسوي بمشروعات ما بعد الحداثة المتعلقة بتفكيك الذات المثل، وتحرير الاختلافات من وضعها باعتبارها الآخر (الأقل) بالنسبة إلى المثل. وبطرق عديدة، لم تمر النساء بالكامل بخبرة فوائد التحرير البرجوازي الليبرالي. فخطابات التنوير الليبرالي، مثل خطابات لوك (Locke) أو كانط (Kant)، لم تكن تعني تضمين النساء، بل ارتكز تماسكها جزئيًّا على استمرار استبعادنا. وهناك مفاهيم – مثل الاستقلال الذاتي للعقل، والحقيقة الموضوعية، والتقدم المفيد عالميًّا من خلال الاكتشاف العلمي – تتسم بجاذبية كبيرة، وخاصة لمن يعتبرهم التعريف عاجزين أو مجرد أشياء لتلك الأعمال البطولية. وعلاوة على ذلك، فإن الاعتقاد بأن العقل سينتصر يبعث على الراحة – لأن من يعلنون الموضوعية والحقيقة سيستجيبون للحجج العقلانية. وإن لم توجد أسس موضوعية للتمييز بين المعتقدات الحقيقية والزائفة، إذن تصبح القوة وحدها هي التي تحدد ناتج المزاعم المتنافسة حول الحقيقة. وهو أفق مخيف بالنسبة لكل من يفتقر إلى القوة أو يتعرض لقمع قوة الآخرين.4

كما أن النظريات السياسية النسوية تعتمد جزئيًّا أيضًا على المثل الليبرالية من خلال الأساليب التي تشكلت عبرها مزاعم ورؤى تحرير المرأة. وهناك مفاهيم – مثل الحقوق الطبيعية، والنظام القائم على القانون، والمساواة – ترتبط جميعها بالأفكار المتعلقة بالخصائص البشرية الجوهرية (ما قبل السياسية). ومن المفترض أن تقود هذه الخصائص إلى إجبار الدولة على العمل، ما دام ذلك مطلوبًا كجزء من التزامها التعاقدي بحماية الحقوق التي لم تخلقها. فمثل تلك ’الحقوق الطبيعية‘ الموجودة سلفًا تُمثل أيضًا حواجز صد تدخل الدولة كما هي الحال، على سبيل المثال، عند استخدام مذهب ’الحق في الخصوصية‘ لإضفاء شرعية على الإجهاض. وعلى الرغم من طرح العديد من الحجج المعقولة حول حدود المفاهيم والممارسات الليبرالية المتعلقة بالمواطنة، فلا يوجد بديل يبعث على الاقتناع. ومع معرفة المخاطر الهائلة المتضمنة، يبدو معقولاً أن تتشكك النسويات حول نبذ هذه الممارسات قبل أن تتمتع أغلب النساء تمتعًا كاملاً بفوائدها التي تُعتبر محدودة وملتبسة.5

على أن النظريات النسوية ونظريات ما بعد الحداثة تقوض أساس قبول كثير من الفروض التكوينية للنظريات السياسية السابقة. إن الخطابين تفكيكيان؛ فهما يبعدنا عن ويجعلانا نتشكك في – الأفكار المتعلقة بالحقيقة والقوة والتاريخ والحرية والقانون والذات واللغة. وهي الأفكار التي غالبًا ما تُسلم بها جدلاً النظريات الغربية الليبرالية وممارسات السياسة وتضفي عليها شرعية. وفي الخطابات السائدة، ترتبط مزاعم المساواة أو العدالة ارتباطًا لا ينفصم بعقلانية متحررة من الجسد، وتجريدية، ولاشخصية. إن قدرة ’العقل‘ على التسامي فوق ’المصالح‘، بما في ذلك ما يتعلق بالخبرة الإمبيريقية والالتزامات الشخصية، تضمن شرعية مزاعمها وإجراءاتها وقوانينها.6

إن مشكلات الاختلاف والازدواجية والتراتبية وتجاهل الجسد والعقل اللاتاريخي تُعد مشكلات مركزية لكل من الخطاب النسوي وخطاب ما بعد الحداثة. ولا ينشد ما بعد الحداثيون ’المساواة‘، سواء كانت مفهومة باعتبارها ’معاملة متساوية للمتساويين’ أو نظامًا قانونيًا للجميع. وقد بدأت النسويات في التشكك حول ما إذا كانت ’المساواة‘ يمكن أن تعني أي شيء غير استيعاب العُرف ’الذكوري‘ الموجود سلفًا والإشكالي.7 ليس بمقدور النسويات أو ما بعد الحداثيات الساعيات إلى العدالة افتراض موقف لا تاريخي متسامي أو إمكانية ’حجاب الجهل‘ الذي تتوارى خلفه المواضع الملموسة ذات الخصوصية. وليس بمقدور ما بعد الحداثيات السعي أو تأسيس مزاعم تجاه العدالة في إطار ’قانون طبيعي’ أو قواعد مجردة أو إجراءات اتخاذ قرار، حيث يُقال إن الضرورة الحاسمة تربط جميع الأشخاص العقلانيين ويمكنهم الإقرار بها. بل بالأحرى، تتشكك خطابات ما بعد الحداثة، وخطاب النسويات بمعدل متزايد، في اعتقادنا بأن مثل تلك القوة الترانسندنتالية (transcendental) المتجاوزة أو القانون ’المحايد‘ ممكن أو مرغوب.8

إن المُنظرات النسويات، مثلهن مثل ما بعد الحداثيات، يطرحن لامركزية مفاهيم التنوير بشأن الذات الوحدية أو العقلانية جوهريًّا. وتُعد هذه الفكرة أساسًا ضروريًّا حول ’الحقوق‘ التي طرحها لوك (Locke) أو نظرية ’الرجل العقلاني‘، لكانط (Kant) حول العدالة. ومع ذلك، ونظراً لأن النسويات لا يساوين الذاتية بالتعبيرات الذكورية الغربية البيضاء النمطية، فإنهن لا يجادلن بالضرورة أن جميع أفكار الذات يجب نبذها. وبالفعل، تبدو نظريات وممارسات العدالة والذاتية مرتبطة على نحو لا ينفصم. ونظرًا لوجود أسباب جيدة لعدم إمكانية نبذ هذه المفاهيم، علينا أن نطرح أسبابًا أخرى أكثر ملاءمة.

تقوم النسويات بإزاحة الأفكار الوحدية (unitary) والجوهرية (essentialist) واللااجتماعية (asocial) أو اللاتاريخية (ahistorical) للذات عن طريق تحليل أساليب دخول النوع الاجتماعي إلى كل من الذات وأفكارنا حولها، فضلاً عن تشكيلهما جزئيًّا. وقد أوضحن أن القصص التي يرويها الفلاسفة وعلماء النفس حول الذات تميل في الأساس إلى أن تعكس خبرات ومشاكل وأفعال القمع الذي تمارسه الذات الذكورية الغربية البيضاء بشكل نمطي. وتعتمد الأفكار حول ’الذات‘ على وجود مجموعة خاصة من العلاقات الاجتماعية، بما فيها النوع الاجتماعي، وتُقبل من خلالها. وعلى سبيل المثال، يُميز كانط وغيره من الفلاسفة بين ذاتنا الظاهراتية والمجسدة، وبين ذات (أعلى) محضة وعقلانية وترانسندنتالية متجاوزة. والذات المحضة قد تكون حرة، وهو ما يرجع تحديدًا إلى إزالتها من احتمالية الوجود الإمبيريقي. إن إمكانية مثل هذا التمايز وقبوله ترتكز جزئيًّا على الوجود المسبق لتقسيم العمل على أساس النوع الاجتماعي. في هذا التقسيم للعمل، تضطلع المرأة بمسؤولية، وتمثيل، العمليات الجسدية، تاركين الفلاسفة (الذكور) ’أحرارًا‘ في تأمل العالم المحض. وبدوره، نجد أن افتقاد الانخراط الواعي في مثل تلك العمليات، ووجود فئة كاملة من الأشخاص الذين يتقاسمون خبرات اجتماعية متشابهة، يخلق انفصالاً بين المقبول كما هو والمقبول كظاهرة.9

وفقط عندما يدخل الأشخاص الذين يتمتعون بمجموعات مختلفة من التجارب إلى الخطاب الفلسفي، أو يتشككون حوله، فإن هذه التمايزات تفقد مقبوليتها ’الحدسية‘. وعندئذ تظهر تساؤلات مختلفة. وعلى سبيل المثال، لا تكمن المسألة في تحديد العلاقة بين العقل والجسد، وإنما تكمن بالأحرى في تحديد أسباب افتراض أي شخص بأن هذا التمايز يتسم بالدلالة أو يحتل موقعًا مركزيًّا بالنسبة للخطاب الفلسفي؟ أو: لماذا يُعتبر الموقف العرضي فحسب مصدرًا لعدم الحرية؟ إن هذا التقييم للعرضي والمسيطر، فيما يتعلق بتساؤلات فلسفية بعينها، يعكس جزئيًّا انتشار علاقات السيطرة التي يرعى من خلالها غير المتحرر فحسب أوضاع وجودنا الطارئة.

وتؤكد أيضًا كثير من المنظرات النسويات الأهمية المركزية للعلاقات الحميمة المستدامة مع أشخاص آخرين، أو قمع تلك العلاقات، في تركيب الذات وبنيتها وخبراتها المستمرة. وفي إطار هذا التصور النسوي، تفقد الذات صفاتها اللاجتماعية واللاانعزالية ويُعاد تصورها باعتبارها ’عالمًا داخليًا‘ معقدًا في ظل نظمها الخاصة للعلاقات الداخلية. إن كل ذات تتشكل جزئيًّا من خلال شبكات العلاقات والتخيلات والتوقعات بين ’الأشياء الداخلية‘ وحولها. كما تهتم النسويات بموضع الأشخاص (والعائلات) داخل سياقات أوسع للعلاقات الاجتماعية أيضًا. ويجري بناء بعض هذه العلاقات عن طريق، ومن خلال، السيطرة، بحيث يتم تصور العائلات على سبيل المثال – باعتبارها مشكلة أكبر كثيرًا من علاقة شخصين (أو ثلاثة) في عديد من التصورات التحليلية النفسية.10

ومع وعلى نحو ما، فإن ما بعد الحداثة تجعل من الصعوبة بمكان مناقشة تساؤلات العدالة على الإطلاق. إن هذا الخطابات تمزق السرديات الأساسية للغرب، وألعاب اللغة التي تتخذ خلالها مصطلحات ’الحرية‘ و’التحرير‘ أو ’السيطرة‘ معنى لها. إن التفكيك ما بعد الحداثي للتمثيل، وبراءة الحقيقة، تثير أسئلة أساسية حول موقع المثقفين وفهمهم الذاتي، بما في ذلك المُنظرات النسويات، وحول العلاقات بين النظرية والممارسة. افتقاد البصيرة ’الممتازة‘ تجاه ’قوانين‘ التاريخ أو عمليات العقل، والتي لم تعُد أداة محايدة للحقيقة أو أفضل إفصاح لأفضل آمال ’البشرية‘، فما الذي يمنح سلطة لحديث المُنظرات أو يربطه بخبرات الآخرين؟ هناك الآن تردد في الحديث من أجل الآخرين، أو وصف خيراتنا لهم. أصبح من الصعب فصل الخطاب المعياري عن الممارسة الإمكانية للسلطة أو تصور السلطة كشيء مختلف عن السيطرة.

وبالفعل، لا يبدو واضحًا ما إذا كانت ما بعد الحداثة قد منحت، أو يمكن أن تمنح، رؤية / رؤى ايجابية للعدالة. وحتى الآن لم يكن لدى ما بعد الحداثيين سوى القليل لطرحه حول كيف أو لماذا يمكن أن تقود الخطابات كلية الطابع إلى التوقف عن توسعها الإمبريالي. إن اعتبار النوع الاجتماعي علاقة سيطرة يبدو ملحوظًا، وذلك لغيابه حتى لدى أكثر ما بعد الحداثيين الذكور راديكالية. وعلى خلاف كثير من النسويات، يبدو ملحوظًا أن أغلب ما بعد الحداثيين ليس لديهم سوى القليل الذي يمكنهم طرحه حول ممارسات ومعارف محددة يمكن أن تحل محل الممارسات والمعارف الحالية. ويجادل بعض الكتاب، مثل رورتي وليوتار (Rorty and Lyotard)، أن البرجماتية أكثر تطابقًا مع مشروعات ما بعد الحداثة.11 على أن البرجماتية، كما يعي كل من يعرف تاريخ الفكر السياسي الغربي، بعيدة عن غير الإشكالي إما كتاريخ أو كممارسة. ويتجاهل ما بعد الحداثيون، أو يفشلون في إقرار، كثير من تلك الصعوبات المهمة. إن المشكلات السياسية الملازمة للبرجماتية تضم: كيفية حل النزاع بين الأصوات المتنافسة؛ كيفية ضمان فرصة الحديث لكل صوت ومساواته بالآخرين؛ كيفية تقييم ضرورة المساواة أو المشاركة في جميع حالات أو في حالات بعينها؛ كيفية التأثير في مرحلة الانتقال من الحاضر الذي يضم العديد من الأصوات غير القادرة على الحديث، أو المستبعدة بالضرورة، أو غير المسموعة، إلى حاضر يضم أصواتًا متعددة؛ كيفية تفضيل الحديث عن استخدام القوة وكفالة تفضيله عليها؛ وكيفية التعويض عن التبعات السياسية لعدم عدالة التوزيع والسيطرة على الموارد. وعلاوة على ذلك، تتجاهل ’المحادثات‘ المتميزة العلاقات المعقدة بين الكلام والعمل كمثال للنشاط البشري. كما أن نوعًا جديدًا من ’حجاب الجهل‘ يخفي تلك الجوانب من الخبرة البشرية التي لا يسهل استيعابها عن طريق، أو من خلال، استعارة ’المحادثة‘ مثل تربية الطفل، والفانتازيا، ولاتماثل علاقات القوى. إن غياب خطاب حول تلك التساؤلات يعزز الشك في أن التفكيك قد يكون أكثر جاذبية بالنسبة لمن يعتادون على، ويثقون في، امتلاك سلطة، والتمتع باحتلال أي فضاء والسيطرة عليه، وبالتالي لا يشعرون بأي قلق خاص حول تلك التفاصيل.

وعلى الرغم من هذه الاختلافات، ليس بمقدور النسويات أو مُنظري ما بعد الحداثة نبذ أي دراسة لمشكلة مطروحة أمام النظرية الليبرالية الحديثة: أي مشكلة السيطرة (على الأقل في المجال العام).

إن مقاربة نسويةما بعد حداثية لمشكلة السيطرة تستلزم البحث عن طرق لتحرير لعبة الاختلافات. إن الانخراط ما بعد الحداثي في اللعب والتشظي والتمايز وتفضيل تلك العناصر يشتمل على غرض جدي إلى حد كبير، وحتى معياري. إن التحركات الشكوكية، والخطابية غير المحترمة، والمناهضة للتأسيسية وللجوهرية، لدى بعض الكتاب مثل ليوتار، وفوكو، ودریدا (Lyotard, Foucault, Derrida) – تُعد جزئيًّا بمثابة أدوات استراتيجية. والمقصود منها أن تبعث الفوضى والتآكل في قوة الخطابات ’التطبيعية‘ الكبرى التي تُنفذ، وتضفي شرعية على، أنماط السيطرة التي تتسم بها حالات ما بعد التنوير. ويسهم المشروع التفكيكي في إفساح الفضاءات التي تزدهر خلالها عديد من الأشكال المتمردة أو المحلية للحياة.12

وكلما اختلفت أشكال الحياة كلما ازداد بروز العدالة. على أن ما بعد الحداثة، كما يبدو واضحًا حاليًا، يكبح تطور مفاهيم وممارسات بديلة حول العدالة. إنها مسألة جزئية إلى حد كبير، حيث لا يهتم كثير من المُنظرين اهتمامًا كافيًا بالأعمال المحددة للأشكال المعاصرة للسيطرة (وخاصة النوع الاجتماعي والعنصر). وعلى نفس الدرجة من الأهمية، أضعف كثير من ما بعد الحداثيين جميع أفكار الذاتية بتحويلها إلى شكل واحد معيوب، وبالتالي عجزوا عن تناول مفاهيم الذاتية المناسبة والضرورية لممارسات العدالة. فالعدالة، قبل أي شيء، تُعد مشكلة تنبع من العلاقات بين الأشخاص وتدور حولها. كما أن المشكلات تنشأ نتيجة اختلاف، وغالبًا تصارع، الاحتياجات والرغبات والأفكار والأغراض التي يعتنقها الناس أو يشعرون بها بقوة. وفي الوقت نفسه، فإن العدالة ممكنة وضرورية نظرًا للجوانب متبادلة الاعتماد والاجتماعية لدى الذات الإنسانية. وبالتالي، تنشأ الحاجة إلى العدالة من تعقيدات الذاتية الإنسانية. ولا يمكن نبذ الخطاب حول أحدهما دون نبذ الآخر كلية.

تركز النسويات بشكل مباشر على علاقات السيطرة. ولا يروين التاريخ بوصفه قصة طغیان ’ميتافيزيقا الوجود‘، وإنما بالأحرى كاستمرار للقوة اللامتماثلة بين الرجل والمرأة، إنكار الرجال لوجود النساء وحقهن في العدالة، وذلك من خلال علاقات اجتماعية محددة، وفي أحسن الأحوال نضال ناجح جزئيًّا تمارسه النساء ضد علاقات السيطرة هذه. وتبحث المُنظرات النسويات عن تفسير للنوع الاجتماعي، وخبرات النساء، وأسباب النضال ضد السيطرة وأساليبه، وطرق فهم تورطنا فيها، والدليل على أهمية نضالنا ونضال الآخرين ضدها.

وتشعر المُنظرات النسويات أيضًا أن عليهن تقديم شيء جديد: مفاهيم السياسة التي لا تفترض سلفًا أو تتطلب علاقات لامتماثلة بين الجنسين تحقيقها. ومع شعور النسويات بأنهن مقموعات الآن، لا يمكنهن عدم المبالاة بالأسئلة المتعلقة بكيفية حدوث التحولات. وبمعرفة النتائج المخيبة للآمال بشأن الممارسات السابقة، والمزعوم أنها راديكالية، لا يوجد سبب أيضًا لدى النسويات للثقة في أن ما سيظهر – حتى في الفضاءات التفكيكية الإمكانية – سيكون من أجل خيرنا.

وهكذا، بينما قد يكون موقف رورتي (Rorty) صحيحًا في أن الكلام عن ’العدالة‘ بشكل تجريدي لا يساعدنا في القيام بعمل صحيح، هناك أيضًا من الأسباب ما يدعونا إلى عدم التوقف عن القيام به. على أن أية مقاربة برجماتية محضة لاختبار ممارساتنا الحالية لن تبعث على الرضا، لأن العدالة أوضح من خلال غيابها. إن ممارساتنا لا تفرض بالضرورة النقد الذاتي والاجتماعي أو التأمل. وفي واقع الأمر، وكما يشير المنظرون النقديون، تعمل تلك الممارسات على نفي تلك الصفات تحديدًا أو نزع سلاحها. وما من سبب يدعونا للافتراض – مثل موقف رورتي (Rorty) ضمنيًّا، أن محادثاتنا ذاتية التصحيح، وخاصة إذا كانت تلك المحادثات ممكنة نتيجة لإسكات أسئلة وأصوات بعينها.13

على أن بإمكاننا التحلي بمزيد من الوضوح فيما يتعلق بالأغراض التي يخدمها الحديث حول العدالة. فالعدالة، بمعن ما، هي مفهوم توقعي. كما أن الحديث حول العدالة يقدم إجابات جزئية على الأسئلة التالية: لماذا تعتبر السيطرة خاطئة؟ لماذا نعتقد في إمكانية وجود أشكال أخرى للعلاقات؟ وما هي الأشكال البديلة التي يمكن أن توجد؟ وبينما تعكس العدالة الطرق الممكنة لارتباط الناس ببعضهم البعض، فإن العدالة تُعد سياقًا تابعًا مثل أي مفهوم آخر أو ممارسة أخرى. وهناك برجماتيات العدالة التي ليست ذات صلة خارج بيئتها المناسبة. ويتقلص تأثير العدالة على الآخر، خارج سياقها، بخلاف تذكيرنا بالإمكانيات التي لم يتم التعبير عنها بعد. وعلاوة على ذلك، لا تخبرنا مفاهيم العدالة أو ممارساتها بكيفية التحرك انطلاقًا من سياق غير عادل إلى آخر عادل. إن العدالة والسيطرة ليسا نقيضين ثنائيين، بحيث لا يقود بالضرورة التغلب على علاقات السيطرة إلى تحقيق العدالة. كما أن سياقات الظلم هي تلك السياقات التي تسود خلالها علاقات السيطرة، وترتبط برجماتيات الظلم بالسلطة والقوة أكثر من ارتباطها بالإقرار واللعب بالاختلاف. في برجماتيات الظلم، ينبغي اتخاذ قرارات استراتيجية وتكتيكية. وتُعتبر نداء العدالة بمثابة وسيلة واحدة لمواجهة السيطرة، أو حث الخاضع للسيطرة إلى التمرد. وفي بعض الأحيان يكون معقولاً أن يتصرف الفرد وكأن العدو له إحساس بالعدالة من الممكن أن يستنجد به وفي أحيان أخرى يعتبر ذلك انتحارًا.

وهكذا، لا يوجد نقد لمفاهيم العدالة يجعلنا نقول إن تلك المفاهيم لا تستخدم في جميع السياقات أو لجميع الأغراض؛ فلا توجد فضيلة أو ممارسة رئيسية في إطار الحياة السياسية. وبالأحرى، يجب أن تكون ظروف وسياقات ازدهار العدالة غير محدودة، كما يجب أن نحدد الصفات أو الأنشطة البشرية التي تجعلنا نعتقد في إمكانية مثل تلك الممارسات. إما عن كيفية خلقنا لتلك الممارسات وتفسير أسباب غيابها، فهذه مسائل مختلفة. ويمكننا أيضًا أن نتخيل نسيج الممارسات المقترحة للعدالة وما يمكن أن يترتب عليها من تبعات. لكن الإمكانيات والمشكلات الجديدة تنشأ عندما تغيب علاقات السيطرة نسبيًّا، وتزداد قدرتنا الكاملة على تطوير علاقات عادلة. العدالة ليست حالة أو مجموعة من القواعد المنتهية التي تتحدد لمرة واحدة، بل هي عملية مستمرة تتغير خلالها أفكارنا نفسها حول ما نسعى إلى تحقيقه على مدار الزمن.

إن النظريات الليبرالية السياسية التي ورثناها ونعتمد عليها في الغرب المعاصر قد أسفرت عن مفاهيم فقيرة ولا تبعث على الرضا حول العقل، والذاتية، والعدالة. وتجبرنا النظريات النسوية والنفسية التحليلية وما بعد الحداثية على التشكك في تعريف العقل من زاوية ترانسندنتدالية، والزعم بأن التحرر واستقرار المعنى والبصيرة والفهم الذاتي والعدالة تتوقف جميعها، وقبل أي شيء، على أولية العقل والذكاء. وبالفعل، تتشكك هذه النظريات في مدى وجود علاقات ضرورية أو متأصلة بين العقل، بغض النظر عن تعريفه، والعدالة. فهناك عوامل عديدة يتوقف عليها تطور الذاتية، والفهم الذاتي، والعدالة: الممارسات السياسية؛ غياب علاقات السيطرة الاقتصادية، والعنصرية، أو بين الجنسين؛ التقمص الوجداني؛ الفانتازيا؛ المشاعر؛ الخيال؛ والتجسد. وعلى أي أساس يمكننا الزعم بأن العقل يتمتع بامتياز أو أولوية بالنسبة إلى الذات أو العدالة؟ يتعذر الدفاع عن الزعم بأن هذا الامتياز موجود لأن العقل فقط يكون مستقلاً عن أية احتمالات، كما أنه عامًا ويتوفر لدى كل فرد. على أن كلاً من التحليل النفسي والنزعة النسوية يبخس من قدر الاعتقاد بأن العقل مستقل – أو يجب أن يكون مستقلاً – عن احتمالات الذاتية المتبادلة، والتجسد، واللغة، والعلاقات الاجتماعية، أو اللاوعي. وعلى قدم المساواة، يتسم الزعم بأن العقل عامًا بالإشكالية. فلا يمكن تبرير هذا الزعم إلا بافتراض الشيء نفسه الذي نحاول إثباته – وجهة نظر تراسندنتالية يمكن من خلالها التمييز بين العام وغير العام. ويجب إقناعنا بأن العقل ثابت تاريخيًّا وثقافيًّا، بحيث يعمل بنفس الطريقة لدى كل شخص، وبالتالي يقدم مقياسًا مستقرًا للعادل وغير العادل. ولكن كيف يمكن أن يزعم الأفراد ذو ثقافة معينة تبرير الإقرار بثبات العقل؟14

والأكثر أهمية، أن افتراض وجود العدالة وممارستها يتطلب توفر أساس ترانسندنتالي يبدو غير ضروري، بل خطير. إن تحليل فوكو (Foucault) للعلاقات بين الحقيقة والقوة داخل الوحدة المعرفية يُعد مناسبًا بوجه خاص للتخلص من اشتباك تلك المعتقدات. ونحن نعتقد بوجود روابط بين الحقيقة وأي شكل للقوة، بما في ذلك أشكال العدل، لكنها ليست الحالة المطروحة بالضرورة. وحتى إذا نبذنا فكرة الحقيقة الترانسندنتالية والعقل القادر على استيعابها، فلا يزال بإمكاننا تشكيل طرح النظريات والممارسات الخاصة بالعدالة. إن اختيارنا لا يتمثل بالضرورة في تأسيس العدالة على مزاعم الحقيقة الموضوعية (التي تخضع لحكم العقل) أو على السيطرة. كما أننا لا نحتاج إلى الافتراض أن العقل الترانسندنتالي فقط هو الذي يمكن أن يحث على مزاعم العدالة أو يقر بها. ومن الممكن والضروري تطوير مفاهيم غير مُعقلنة لكل من ’الذات‘ و’العدالة‘.

يجادل ما بعد الحداثيون عن حق أن أكثر نظريات العدالة ملاءمة العدالة لا يمكن أن تعتمد على عقل ترانسندنتالي أو تجريدي يتمتع بعلاقته المتميزة بالحقيقة، والمعرفة، أو قواعد أو مبادئ أو رؤى عامة مُلزمة حول الخير. ويجب أن تتخلص النظريات النسوية ما بعد الحداثية للعدالة من اللجوء إلى الصفات والمفاهيم أو الفئات التأسيسية والجوهرية والغائية. ومع ذلك، وبينما يتعذر الدفاع عن النظريات المعتمدة على تلك الأفكار، لا يسفر الأمر عن إمكانية أو ضرورة نبذ كل خطاب حول العدالة والذاتية. ولا يوجد تبرير لموقف ما بعد الحداثيين في إنكار معنى تلك الخطابات أو في الزعم بأنها تحيلنا بالضرورة، مرة أخرى، نحو الأساطير الخطيرة حول الإنسانية (humanism). ويرجع ذلك إلى ثلاثة أسباب على الأقل: (أ) لا تتسق نفس خطابات ما بعد الحداثة دون وجود فكرة عن الذات، (ب) ربما ترجع جزئيًّا رغبة ما بعد الحداثيين في العمل بدون هذه الأفكار إلى التحيز تجاه النوع الاجتماعي، (ج) تعتمد نظريات العدالة وتعكس معضلات بعينها للذاتية الإنسانية، بما يتضمن اهتمامات ما بعد الحداثيين – مثل مسألة الاختلاف.

تضم جميع خطابات ما بعد الحداثة، وتتطلب، فكرة ضمنية للذات. وعلى سبيل المثال، يؤكد فوكو (Foucault) وجود وأهمية ’الخطابات المقموعة‘ والأشكال المحلية والخاصة من المعرفة.15 ويصعب إدراك كيفية استمرار تلك الخطابات، رغم الجوانب ’الانضباطية والإشرافية‘ للقوة، دون وجود شكل ما من أشكال الذات. يجب أن يوجد شيء ما داخل الأشخاص وبينهم لا يقتصر على مجرد تأثير للخطاب المهيمن، وعلى خلاف ذلك، كيف يمكن أن يستمر الصراع والنضال ضد السيطرة، حتى في أكثر التشكيلات الخطابية شمولية؟

ويستعيد كل من ليوتار ودریدا (Lyotard & Derrida) شكلاً من أشكال الذاتية، في علاقته تجاه الآخر غير الممثل ومن خلالها. وكما هي الحال في الحداثة العليا، يبرز الكاتب (الكتابة / النص) مرة أخرى كبطل. وفي مواجهة ابتذال الثقافة الجماهيرية، نجده يشن حربًا على الكلية (totality) وينشط الاختلافات16 التي تمتد أصولها (غير الأصلية) في الآخر غير المُمثل. إن الكتابة تتجاوز حدود اللغة وتستحضر، على الأقل، شيئًا وراء الممارسات الثقافية المعاصرة أو خارجها. ينبغي أن توجد قدرة متماسكة وذاتية تتيح دخول الفنان/الكاتب إلى ’مشهد الكتابة‘، أو تأثره بهذا المشهد، أو تتيح لأي فرد المرور بخبرة الذروة (subtime) حسب تعريفها عند ليوتار أو دريدا. وهذه القدرة ليست مجرد تشابك بين الممارسات التاريخية والاجتماعية التقليدية ’نفسها‘ التي يُقال إن ’الما وراء‘ يُنتج فيها ومن خلالها، أو لا يمكن أن يمضي إلى ’ما وراء‘ المُعطى. إن نقل الاستعارة من الفنان / المؤلف الفرد إلى ’الكتابة‘ أو ’السامي‘ لا يمكن أن تخفي بنجاح تطابق هذه الرؤية مع الرؤية الحداثية بشأن ’الثقافة الرفيعة‘ لعمل الفن والفنان. وفي هذه الرؤية، لا يرمز الفن ’الحقيقي‘، أو يشير إلا إلى نفسه. وفي الوقت نفسه، فإنه والفنان يمثلان بُعدًا أسمى للواقع والوجود ’خارج كلمات القبيلة‘.17

في كتابات فوكو يرتبط الجمالي بالذاتية، من حيث فكرته حول إحلال مثال حياة الفرد كعمل فني محل تكنولوجيات الذات.18 على أن المفارقة تكمن في أن فوكو، رغم انتقاده لتعمية (mystification) الكتابة التي يطرحها دريدا، لا يطرح على نفسه السؤال التالي حول مثله الجمالي: “ما أشكال الحياة التي تجعل هذه الفكرة ممكنة؟“. إن إعادة التشكيل المستمرة هذه للذات تفترض مقدمًا نظرة معزولة اجتماعيًا وفردية للذات. إنها تحول دون إمكانية وجود ارتباطات أو مسؤوليات دائمة لدى الشخص بشخص آخر، حيث يمكن للآخر أن يعتمد على استقراره واستمرارية الوجود. وبالفعل، وعلى الرغم من انتقاد فوكو الموجه نحو ’إنسانية‘ سارتر (Sartre) ، يبدو أن هذه الذات الجمالية تمتلك بعض الصفات الإسقاطية الفارغة للجوهر الفرد لدى سارتر. ويُدفع هذا الجوهر الفرد إلى التخلص من ’قذارة التاريخ‘ في البحث الدائم عن الحرية. لكنني لا أرى كيف يمكن مصالحة هذا البحث الفردي والذري (atomistic) عن الحياة الجميلة مع العناية بالأطفال الصغار، على سبيل المثال، أو مع المشاركة في مجتمع سياسي. وعلى الرغم من انتقاد فوكو لفكرة ’المثقف الشامل‘ ، فإن هذا الانتقاد يفشي أملاً رومانسيًّا في إمكانية أن ينقذنا الجمال من الخطابات الكلية في الثقافة الغربية الحديثة.

وهناك سبب آخر للتشكك في معالجات ما بعد الحداثة للذات: بينما يرغب بعض ما بعد الحداثيين في الحفاظ على فكرة جمالية للذاتية، فإنهم يثبتون بالكامل تقريبًا تجاهل جوانب الذاتيات التي تضرب بجذورها في العلاقات الإنسانية الحميمة. وتُعد هذه الرؤى ما بعد الحداثية موضوع نقيض بعمق للمفاهيم النسوية حول الذات في علاقتها بالآخرين. لكن إصرار ما بعد الحداثيين على الذات باعتبارها ’موضع في لغة‘ (دريدا) أو تأثر لخطاب (فوكو أو رورتي) يحل محل تلك العلاقات الاجتماعية. ومما يثير الدهشة، من وجهة نظر نسوية، أن الاستراتيجية الأولية التي تبناها ما بعد الحداثيين لتفكيك المفاهيم الجوهرية للذات تتمثل في التجاور والإصرار على فكرة الذات باعتبارها ’تخيلية‘. وتكمن الاستراتيجية البديلة في الجدال بأن ’الذات‘، تُعد اجتماعية (في بعض الجوانب)، وترتكز بطرق مهمة على النوع الاجتماعي. وبالتالي، يجب تمايز الذات أو أي تصور عنها تمايزًا محليًّا وتاريخيًّا. ويمكن استخدام النوع الاجتماعي كرافعة ضد الأفكار الجوهرية أو اللاتاريخية للذات. على أن التفكيك النسوي للذات يشير إلى تحديد موقعها وخبراتها في علاقات اجتماعية معينة، وليس فقط في اصطلاحات تخيلية أو نصية محضة.

وتصبح الذات الاجتماعية، جزئيًّا ومن خلال علاقات قوية عاطفية، في علاقة مع أشخاص آخرين. إن هذه العلاقات مع الآخرين، ومشاعرنا وتصوراتنا الخيالية حولهم، فضلاً عن خبرات التجسد التي يجري تسويتها أيضًا عبر تلك العلاقات، يمكن أن تشكل ذاتًا ’داخلية‘ وليست مجرد ’تخيلية‘ أو ’طبيعية‘. وفي الوقت نفسه، تصبح هذه الذات متجسدة، ومرتكزة على النوع الاجتماعي، فضلاً عن كونها ذاتًا اجتماعية ومتفردة. كما يصبح بإمكانها سرد القصص وإدراك واختبار نفسها بكل تلك الطرق.

ونجد، في أغلب الثقافات، أن المرأة – الأم أو بديلتها أو علاقاتها – هي أول شخص نرتبط معه في علاقة اجتماعية حميمة. وبالتالي، تتشكك كثير من النسويات في النظريات التي تتطلب إنكارًا لمركزية الارتباط الإنساني أو تتجنب الطرق التي تصبح هذه العلاقات من خلالها جزءًا من عالم داخلي معقد أو ذاتية متمايزة. وتجادل المُنظرات النسويات أن القمع، وخاصة من جانب الرجال، لهذه العلاقات الأولية والجوانب العلائقية الأساسية لذاتيتنا يُعد ضروريًا لتكرار الثقافات الذكورية المسيطرة. 19 قد تُخلص المُنظرات النسويات إلى أن التفكيكيين ما بعد الحداثيين للذات هم مجرد آخر مجموعة في صف طويل من الاستراتيجيين الفلسفيين الذين تدفعهم الحاجة إلى المراوغة وإنكار أو قمع أهمية الخبرات المبكرة للطفولة، وخاصة العلاقات بين الأم والطفل، في ظل تكوين للذات والثقافة أكثر عمومية. وربما عدم وجود الذات يكون أقل تهديدًا من وجود ذات تتخللها ذكريات التطابق المقموع أو الرعب من الأم القوية في الطفولة.

ولا يمكن أن تحقق الخطابات حول العدالة نجاحًا دون وجود مفاهيم الذاتية. إن ضرورة العدالة ومشكلاتها تنشأ جزئيًّا من تعقد الذاتية الإنسانية وعلاقاتنا بالآخرين. وكما تجادل هنا بيتكين (Hanna Pitkin):

كانت النظرية السياسية معنية دومًا، بطريقة ما، بهذا الانتقال من الخاص إلى العام والعلاقة بين الشخصي والسياسيوالمشكلة دائمًا: كيف يمكننا أن نفهم أنفسنا باعتبارنا كائنات خاصة وعامة في الوقت نفسه؟ 20

إنها تطرح أن ’الطريق إلى أفضل‘ تقييم للعدالة يسير على طريق التصورات المتعلقة بتحديد ماهية الإنسان. وتتوفر بداية تلك المفاهيم في نظريات الذاتية حول ’علاقات الأشياء‘ (object relations) في التحليل النفسي النسوي. تقدم هذه النظريات إمكانية إضفاء تصور على الذاتية والعدالة على نحو يتطابق ومشروعات كل من ما بعد الحداثيين والنسويات. وتتجنب مثل تلك التصورات إغراءات القواعد التجريدية والعقل أو الذات الترانسندنتالية. وبالأحرى، تصور كل من العدالة والذات باعتبارهما عمليات معقدة، وبالضرورة غير تامة وغير مكتملة، فضلاً عن كونها بلا نهاية أو مبرر أو أسس خارج أنفسنا.

يمكن فهم العدالة باعتبارها تنتمي إلى ’فضاء انتقالي‘، حسب وصف وينيكوت ( .D. W Winnicott) إنه ’عالم ثالث‘، غير ذاتي أو موضوعي، وغير داخلي أو خارجي. ويوجد لهذا العالم عملياته ومهامه وطرق العقلنة من خلال الخبرة. وهو فضاء انتقالي، وإنما فحسب من زاوية عبوره الفجوة بين الذات والآخر، والواقع الداخلي والخارجي. إنه جانب ثابت لحياتنا العقلية، كما لا يشكل جزءًا من مرحلة تطور تُدمج بالضرورة في حالة تالية أو أسمى. ومع ذلك، فهو ينمو باستمرار في تعقد وثراء.

هذا أصلاً هو فضاء اللعب وفضاء الارتباط بممتلكات ’لست أنا‘ الخاصة (بطانية، دمية، الخ) التي يجب دائمًا أن يتيسر وصول الرضيع إليها. إن قدرة الطفل على اختيار شيء انتقالي واستخدامه يشير أيضًا إلى أنه بدأ في الانخراط في عملية الترميز. إن القدرة على اللعب، وعملية الترميز المقترنة بها، تفضي في نهاية المطاف إلى ’التوسع نحو حياة إبداعية ونحو مجمل حياة الإنسان الثقافية‘.21 وتوجد الثقافة، مثلها مثل اللعب، في الساحة الثالثة – الفضاء الإمكاني بين حياة الفرد الداخلية والواقع الموضوعي. ودون وجود شيء يمكن الاستفادة منه (التقاليد في الخارج)، لا يمكن تحقيق الإبداع أو الثقافة. إن التحول الإبداعي للفرد لما يوجد بشكل مستقل في الواقع المشترك هو ما يميز الفن عن الأحلام أو الوهم الفردي. ومن الناحية الأخرى، يمكن أن يُحول الفرد بإبداع كل ما هو مُعطى جزئيًّا، وذلك من خلال نقل شيء من الواقع الداخلي إلى العملية. إن الذات ليست مجرد تعبير عن السلسة المعطاة سلفًا، بل يمكنها أيضًا تمزيق تلك السلسلة أو تحويلها.

وعلى خلاف فرويد أو لاكان (Freud & Lacan)، لا تقدم أطروحات وينيكوت تصورًا مفهوميًّا للترميز والثقافة ذاتها كشيء غريب عن الفرد، مفروض على الذات الداخلية وضدها. كما أن الثقافة لا تُبنى من خلال قمع وتهذيب النبض الغرائزي، أو من منطق خارجي تمامًا بالنسبة للمعرضين له. إن الثقافة تنشأ من ذلك الفضاء الثالث الذي يظل داخلنا، يمنحنا البهجة والشعور بالحيوية والاستمرارية. على أن وجهة نظر وينيكوت تطرح أن كل فرد صحي نسبيًّا يمر بخبرة النزاعات المتوطنة في الذاتية الإنسانية. وكل منا يجب أن يشتبك طوال حياته في عمليات تتعلق بمصالحة الذات والآخر، والواقع الداخلي والخارجي:

من المفترض هنا أن مهمة قبول الواقع لا تكتمل أبدًا، وأنه لا يوجد إنسان متحرر من جهد الربط بين الواقع الداخلي والخارجي، وأن التخلص من هذا الجهد يتحقق عبر مساحة متوسطة من الخبرة لا تواجه معارضة (الفنون، الدين، …). وتظل هذه المساحة المتوسطة في استمرارية مباشرة مع مساحة اللعب لدى الطفل الصغير الذي ’تاه‘ في اللعب.22

إن كلاً من قدرتنا على السعي لتحقيق العدالة وحاجتنا إليها تنشأ جزئيًّا من عملية تمتد طوال الحياة، حسب ووصف وينيكوت (Wintictt). وتُعلمنا العدالة كيفية المصالحة أو التسامح تجاه الاختلافات بين الذات والآخر دون سيطرة، وكيفية الاختلاف مع الآخر دون الشعور بالحاجة إلى تدميرها، ووضع قيود على إنهاء الفانتازيا التي تصيب العالم الداخلي بالجراح.

وأفضل فهم للعدالة يعتبرها عملية مستمرة وليست مجموعة ثابتة من الإجراءات أو مقیاس مُعطى سلفًا ويجب أن تتسق معه. ومثلها مثل الموضوع الانتقالي، لا يمكن أن تربط العدالة بين الواقع الداخلي والخارجي إذا جرى تصورها من زوايا محض موضوعية (ترانسندنتالية) أو ذاتية (قيم أو رغبات أو قوى تعسفية (arbitrary)):

يبدأ الإنسان بالموضوعات الانتقالية والظواهر الانتقالية التي تمثل أهمية دائمة بالنسبة له، وتعني مساحة محايدة للخبرة لا تواجه معارضة. ومن الموضوع الانتقالي، يمكن القول إن المسألة تُعد بمثابة اتفاق بيننا وبين الطفل الرضيع أننا لن نطرح أبدًا السؤال التالي: ’هل أدركت ذلك بنفسك أم قدم لك من الخارج؟‘. وتتمثل النقطة المهمة في غياب توقع حول القرار الخاص بهذه النقطة. والسؤال لن تتم صياغته. ۲۳

إن العدالة، بفهمها كعملية، تعد إحدى الطرق التي يتخذها الفرد للتخلص من جهد كونه – في وقت واحد عامًا وخاصًا، منفردًا وفي علاقة بالآخرين، راغبًا ومتبادل الاعتماد. وعلى المستوى الجماعي، تُعد العدالة إحدى طرق التي تنجح في تخطي جهد التوسط بين الذاتيات الفردية، التي تتكون منها الجماعات، والموضوعيات مثل الموارد المحدودة والتقاليد القديمة وتبعات القرارات والممارسة الماضية التي لم يخلقها هؤلاء الأفراد وإنما عليهم الاستجابة لها. وتتضمن إدارة تلك التوترات بالضرورة ممارسة مختلف أشكال القوة، كما يجادل فوكو. ومع ذلك، يسفر الاعتماد على كيفية إدارة التوترات عن التمكين والراحة؛ ويمكن أن يظل الفضاء السياسي مفتوحًا أو ’محايدًا‘ بدلاً من تشييئه من خلال فرض المقاييس الخارجية بشكل مباشر على الذوات الفردية. ولا تمثل علاقات السيطرة نتيجة ضرورية للنزاعات والتوترات المتوطنة لدى الأفراد، سواء على نحو منفرد أو جماعي. وتتوقف هذه النتائج على غياب العدالة النسبي كعملية.

إن العدالة – بوصفها عملية – تدمج أربعة جوانب على الأقل:

1- مصالحة التنوع داخل وحدة مُستردة لكنها جديدة. تتطلب العدالة وحدة الاختلاف، والتبادل، والاندماج، وعدم إبادة المتعارضات والتمايزات. ويمكن بناء مزاعم العدالة على أساس الحفاظ على لعبة الاختلاف، وليس الالتزام المتبادل بمقياس متسق أو تماثلية.

2- التبادلية. المصالحة ليست سلبية – تتطلب العدالة تكاملية نشطة للتبادلية. وتدل التبادلية على مشاركة مستمرة، وإن كان تعريفها للسلطة وتبادلية اتخاذ القرار غير دقيق. وهي لا تتطلب تساوي القوة، لكنها تحول دون السيطرة. وقد توجد السيطرة عند تحويل الفضاء الثالث إلى مرآة لمجموعة واحدة من المقاييس ’الموضوعية‘ أو الممارسات ’المعيارية‘.

3- الاعتراف – بمعنيين على الأقل: (أ) الاعتراف بشرعية الآخرين، بما يتضمن ضرورة أخذ الآخرين في الحسبان أو منحهم التشريف والاعتبار الواجبين والاعتراف بقبول انفصالهم الأساسي واختلافهم عن ذات الفرد؛ (ب) التطابق مع الآخر، ورؤيته بشكل ما باعتباره مثل ذات الفرد، أو حتى جزءًا منها.

4- الحكم: عملية من التوازن والتناسب، الدليل والتأمل، النظر للأمام وللخلف. وهو الأمر الذي يتضمن القدرة على رؤية الأشياء من وجهة نظر الآخر، وبالتالي استدعاء صفات مثل: التقمص العاطفي، والتخيل، بالإضافة إلى المنطق والموضوعية. يرتبط الحكم أيضًا بالأفعال. علينا تقييم الآثار المترتبة على القرارات السابقة، ووضع الخيارات الحالية والإمكانية في سياق احتياجات الأفراد والمجموعات. وبالتالي، تدعو العدالة إلى جودة الرعاية التي تنشأ من الشعور بالارتباط والالتزام تجاه الآخرين. يجب أن نتحلى بالقدرة على التخيل المفعم بالحيوية لخبرات الآخرين (الإمكانية)، على أننا نبعد أنفسنا عنهم أحيانًا من أجل التفكير في الاحتياجات التجريدية للجماعة ككل.

وعلى الرغم من أن الحاجة إلى العدالة والقدرة على الانخراط فيها تتوقف جزئيًّا على جوانب ’خاصة‘ للخبرة الإنسانية، فلا يمكن ممارسة العدالة إلا في الحياة العامة، في الفضاءات الذاتية ما بين الذوات البينية، وترتبط العدالة، بالضرورة، بفكرة نشطة حول المواطنة. وبالفعل، تُعتبر المواطنة ممارسة انتقالية أخرى تساعد على إدارة التوتر بين المجالين: ’الذاتي‘ و’الموضوعي‘. كما تضم المواطنة جانبين رئيسيين على الأقل: تحويل الاحتياج الخاص إلى فعل عام، وتحويل الضرورة إلى الحرية. ويتطلب تحويل الاحتياج الخاص إلى فعل عام العمليات الثلاث التالية على الأقل: (أ) النظر إلى الاحتياج بوصفه قابلاً للفعل العام أي، ليس مجرد البؤس الشخصي للفرد – يُعد جزءًا من الزعم النسوي القائل إن ’الشخصي سياسي‘ ؛ ولا يتطابق أو ينهار الاثنان، وإنما بالأحرى ما كان يعتبر سابقًا بؤسًا شخصيًّا للفرد أصبح مفهومًا الآن إلى حد ما، على الأقل – باعتباره ناتجًا عن نمط القرارات والممارسات البشرية والتي يمكن أن تؤدي إلى تحويله. (ب) وعند تحويل الاحتياج الخاص إلى المجال العام، يجب أيضًا تحويل الروح التي يجري من خلالها القيام بذلك، عندئذ، يجب أن تتحول عبارة ’أنا أرغب‘ إلى عبارة ’أنا والآخرون مثلي، لنا الحق في … ‘. (ج) وهذا يضع الفرد بالضرورة عضوًا في الميدان العام الذي يتقاسمه مع الآخرين. والآخرون، على نحو ما، مثل الذات، وبالتالي ليس كل شخص على شاكلتنا بالدقة – حتى الذين نتقاسم معهم هذا الزعم. وعلى سبيل المثال، قد تعاني النساء من انتشار ممارسات ثقافية عنصرية أمريكية (مثل الاغتصاب)، لكن الطرق التي نتناول المزاعم من خلالها على أساس هذه الخبرة تختلف. وقد تتسم النساء الملونات بوعي أكبر من وعي النساء البيض بالاستخدامات العنصرية الماضية لقانون الاغتصاب، وبالتالي يرغبن في وضع إطار مختلف للمعالجة. وبإقرار الاختلاف، علاوة على التبادلية، يُجبر الفرد على التفاوض مع الآخرين ورؤية حدود مزاعم الفرد، فضلاً عن مسؤولية الفرد المتبادلة عن ’نحن‘، وتبعيته لطابعها.

وفي عملية الاعتراف والتفاوض مع ’نحن‘، يبدأ الفرد في رؤية الذات باعتبارها غير مدفوعة كاملاً بالضرورة، وإنما كجزء من مجتمع يمكن أن يعمل بشكل جماعي لتغيير ممارساته المشتركة، وتحمل المسؤولية الاجتماعية التي تنغمس فيها فرديًّا وجماعيًّا. كما يتطلب تحمُل المسؤولية الجماعية الشروط الثلاثة التالية على الأقل: (أ) مجتمع الخطاب المعني بفضاءه الانتقالي؛ (ب) أفراد قادرين على الرغبة في العدالة؛ (ج) علاقات مرئية بين التحدث، والمداولات، والتقمص العاطفي، والنتائج. ولتحقيق مجتمع الخطاب، ينبغي وجود قواعد وأعراف وممارسات تحكم الخطاب والفعل وتغذيهما على المستوى الجماعي. وتنفتح هي نفسها أمام إعادة التفاوض، ويجب فهمها على أساس أن المجتمع ذاته قام بتوليدها، حيث لا يعتمد على شيء ’خارجه‘. ولوجود أفراد قادرين على الرغبة في العدالة، يتطلب الأمر أشخاصًا في حاجة إلى الارتباط بالآخرين، وقادرين وراغبين في رؤية كيفية تأثير أفعالهم على الآخرين، وقادرين على التسامح وآفاق الانخراط في عملية مفتوحة دون نهاية أو نتيجة مضمونة أو موقع متميز داخلها. ويسعى هؤلاء الأفراد أيضًا نحو الاختلاف والوعي به؛ ويقلقون عندما يصبح الخطاب صوتًا وحيدًا، أو مستقرًا، أو واحدًا. ولا يوجد معنى للخطاب خارج سياقات الفعل والسلطة. وللوعي بالآثار المترتبة على الأفعال، سواء فرديًّا أو جماعيًّا، يجب أن يقدر الفرد على تحمل المسؤولية بطريقة هادفة. وتصبح المسؤولية بلا معنى إن لم توجد قدرة للفعل، وإن لم يوجد أكثر من وهم بأن الفرد هو يُعد بمثابة المؤلف بالنسبة لأفعاله. ومن أجل التمكن من رؤية تبعات أفعال الفرد، يتطلب الأمر أيضًا القضاء على علاقات السيطرة، ذلك أن تلك العلاقات تصبح ممكنة جزئيًّا بتحويل وجود بعض أفراد المجتمع والآثار المترتبة على الأفعال الفردية أو الجماعية إلى وجود غير مرئي.

ومن أجل وجود عمليات العدالة واستمرارها، يجب أن توجد ذات ترغب في التبادلية، وقادرة على الاعتراف دون خوف بارتباطنا وتبعيتنا المتبادلة، مع قدرتها أيضًا على إضفاء الشرف والعدالة على انفصالنا وتمايزنا وكرامة كل شخص آخر. ويجدر أن تقدر تلك الذات أيضًا على الاعتراف بعدم وجود شيء خارج نسيج ممارساتنا وفضاءاتنا الانتقالية الموجودة تبادليًّا، والتي يمكنها مساعدتنا على اتخاذ القرارات والارتباط بكل شخص داخلها بعدالة.

تتمثل إحدى الآثار السلبية الناجمة عن الأفكار الترانسندنتالية حول العدالة والعقل في تحريرها لنا، كأشخاص محددين، من كامل المسؤولية عن أفعالنا. وتُعد مثل تلك الأفكار لحظات مما اسماه نيتشه (Nietzche) ’أطول كذبة‘ – فكرة وجود شيء (الله، العلم، المعرفة، العقلانية، أو الحقيقة) خارج تجاربنا العشوائية والخطرة يتقدم لإنقاذنا، شريطة أن نؤدي الطقوس الصحيحة‘.24 ويُمثل الاعتقاد في إمكانية بناء البشر لمجموعة ’موضوعية‘ من القواعد أو القوانين المحايدة، والتي تحمينا من بعضنا البعض، وجهًا آخر لهذه الكذبة. إن قوة القانون تكمن في التقيد بالاتفاق الجماعي البشري، وتضمين الزملاء البشر في فضاءه الحمائي. وبافتقاد مثل هذا الاتفاق، ورفض الممارسات التي تعمل هذه الاتفاقات على ترميزها، لن يأمن بعضنا من عدوانية الآخرين. ونجد أن الناس يقدرون إلى حد كبير على تعريف بعض المجموعات باعتبارها غير بشرية بالكامل، وبالتالي تقع وراء علاقات العدالة أو الحماية التي يوفرها قانون تلك العلاقات. لقد كانت هذه هي خبرة النساء عبر التاريخ، وكذا خبرة الملونين في النظم الكولونيالية وما بعد الكولونيالية، واليهود في ألمانيا النازية. على أن شبكة كاملة معقدة من الممارسات والمعتقدات والمشاعر بإمكانها أن تحول دون هذه العدوانية وتضعها في وضع حرج. إن طاعتنا للقانون واستهداف إدراج الأشخاص في حمايته تُعد من علامات وجود تلك الشبكة. إن القانون وحده – أو صفات الحقوق الطبيعية، أو نظرية للعدالة الترانسندنتالية، أو القانون الطبيعي – لا يمكن أبدًا أن يخلق مثل تلك الشبكة أو يعوض عن غيابها.

وعلى الرغم من أن النسويات وما بعد الحداثيين ينظرون بطرق مختلفة إلى مصادر ارتباطنا بأطول كذبة، فإن كليهما يحاول تحريرنا منها ومن تبعاتها الضرورية. وتشير النسويات إلى الآثار التي تتخلل العلاقات بين الجنسين، وإلى الانفصال بين التربية أو الرعاية أو العاطفة (nurturance) أو الاستقلال الذاتي وصنع التاريخ.25 ويؤدي مثل هذا الانفصال إلى إعاقة تطوير ذاتية يمكنها أن تعيش في راحة داخل الفضاءات الانتقالية والاستفادة منها. ويشير ما بعد الحداثيين إلى ’مركزية العقل‘، في قلب الثقافة الغربية، وإلى مساواة العقل والإنسان، وعدم تقدير اختلاف العقلاني والحقيقي.26 إن كل من هذين النوعين من المُنظرات/المُنظرين يسعى إلى ايقاظنا من أحلام الفكر الليبرالي الغربي الحديث. كما يأملان في إقناعنا بأن العدالة، علاوة على الحقيقة، تنتمي إلى هذا العالم، وأن وجودها لا يعتمد سوى على ذواتنا الهشة وغير المستقرة. ونحن كنسويات أمامنا الكثير الذي يمكن أن نكسبه والقليل الذي يمكن أن نخسره في هذه العملية المستمرة من نزع الأوهام.

*Jane Flax, “Beyond Equality: Gender, Justice and Difference”, in Beyond Equality and Difference, Citizenship, Feminist Politics and Female Subjectivity, eds. Gisela Bock and Susan James (New York: Routledge, 1992), pp. 193-210.

1-حول الطبيعة القائمة على النوع الاجتماعي لمفاهيم المساواة، انظر/ ي:

M. Thornton, ‘Sex equality is not enough for feminism, In C. Pateman and E. Gross (eds). Feminist Challenges: Social and Political Theory, Boston, Mass., Northeastern University Press, 1987.

2- حول الصفات الاقصائية، القائمة على النوع الاجتماعي، للنظرية الليبرالية السياسية، انظر/ ي:

J. B. Landes, Women and the Public Sphere in the Age of the French Revolution, Ithaca, NY, Cornell University Press, 1988, esp. part 2; C. Pateman, The Sexual Contract, Stanford, Calif., Stanford University Press, 1988, ch. 6; and L. J. Nicholson, Gender and History, New York: Columbia University Press, 1986, esp. ch. 5.

3- حول اتجاهات المثلية الجنسية في الفكر الغربي، انظر/ي:

L. Irigaray, ‘Women on the Market’, in L. Irigaray, This Sex Which Is Not One, Ithaca, NY, Cornell University Press, 1985; and H. cixous and C. Clement, The Newly Born Woman, Minneapolis, Minn., University of Minnesota Press, 1986.

حول اتجاهات المثلية الجنسية في الفكر الغربي، انظر/ ي:

L. Irigaray, ‘Women on the Market’. In L. Irigaray. This Sex Which Is Not One, Ithaca, NY, Cornell University Press, 1985; and H. cixous and C. Clement, The Newly Born Woman, Minneapolis, Minn., University of Minnesota Press, 1986.

أما العلاقات المركبة بين ما بعد الحداثة والنسوية، فأناقشها في مقالي:

Postmodernism and gender relations in feminist theory’, Signs, 12 (4), Summer 1987, pp. 621-43; the special issue of Feminist Studies, 14 (1). Spring 1988; and N. Fraser and L. Nicholson, ‘Social criticism without philosophy: an encounter between feminism and postmodernism’, in Andrew Ross, Universal Abandon?

4- انظر/ي:

Sandra Haeding’s arguments in S. Harding, The Science Question in Feminism, Ithaca, NY, Cornell University Press, 1986, ch. 6.

5- انظر/ ي:

J. Mitchell, Women and equality’, in A. Phillips (ed.), Feminism and Equality, New York, New York University Press, 1987.

6- أحدث وأكثر التصريحات تأثيرًا حول مثل هذا الموقف هي:

J. Rawls, A Theory of Justice, Cambridge, Mass., Harvard University Press, 1971.

7- انظر/ي:

L. Irigaray, ”Frenchwomen,” stop trying’, in Irigaray, This Sex; Phillips. ’Introduction’ to Phillips. Feminism and Equality; and J. B. Elshtain, Aristotle, the public-private split and the case of the suffragists’, in J. B. Elshtain (ed.), The Family in Political Thought, Amherest, Mass., University of Massachusetts Press, 1982.

8- جميع المقالات في كتاب التحديات النسوية” (Pateman and Gross. Feminist Challenges) تتشكك في تلك الأفكار. انظر/ي أيضًا:

I.M. Young, ‘Impartiality and the civic public’, and S. Benhabib, “The generalized and concrete other’, both in S. Benhabib and D. Cornell (eds), Feminism as Critique, Minneapolis, Minn., University of Minnesota Press, 1987; the essays in M. Griffiths and M. Whitford (eds). Feminist perspectives in Philosophy, Bloomington, Ind., Indiana University Press. 1988; R. Rorty, Consequences of Pragmatism, Minneapolis, Minn., University of Minnesota Press, 1982; J. Derrida, Writing and Difference, Chicago, University of Chicago Press, 1978; and M. Foucault, Truth and Power‘, in M. Foucault, Power/Knowledge, New York, Pantheon, 1980.

9- حول الفلسفة، والنوع الاجتماعي، وتقسيم العمل، انظر/ ي المقالات الواردة في:

E. Kennedy and S. Mendus (eds). Women and Western Political

Philosophy, New York, St Martin’s Press, 1987.

10- انظر/ي:

J. Flax, Contemporary American families: decline or transformation?”, in I. Diamond (ed.)m Families, Politics and Public Policy, New York, Longman, 1983.

11- أنظر/ي:

R. Rorty, Postmodernist bourgeois liberalism’, in R. Hollinger (ed.), Hermeneutics and Practice, Notre Dame, Ind., University of Notre Dame Press, 1985; and J. F. Lyotard and J. L. Thebaud, Just Gaming. Minneapolis, Minn., University of Minnesota Press, 1985.

12- انظر/ي:

J. F. Lyotard, ‘Answering the question: what is postmodernism?”, appendix to J. F. Lyotard, the Postmodern Condition: A Report on Knowledge, Minneapolis, Minn., University of Minnsota Press, 1984; M. Foucault, ‘Powers and strategies’, in Foucault, Power/Knowledge; and J. Derrida, Positions, Chicago, University of Chicago Press, 1981.

13- انظر/ي:

R. Rorty, Philosophy and the Mirror of Nature, Princeton, NJ, Princeton University Press, 1979, ch. 8.

وحول حدود رؤية رورتي Rorty، انظر/ ي:

C. West. The politics of American neo-pragmatism’, in J. Rajchman and C. West (eds), Post-Analytic Philosophy, New York, Columbia University Press, 1985.

وحول سياسة ما بعد الحداثة، بشكل أكثر عمومية، انظر/ ي المقالات الواردة في:

Andrew Ross, Universal Abandon?; and H. S. Kariel, The Desperate Politics of Postmodernism, Amherst, Mass., University of Massachusetts Press, 1989.

14- انظر/ي:

N. Scheman, ‘Individualism and the objects of psychology, and J. Flax, ’Political philosophy and the patriarchal unconscious’, both in S. Harding and M. B. Hintikka (eds), Discovering Reality: Feminist Perspective on Epistemology, Metaphysics, Methodology and Philosophy of Science, Dordrecht, Reidel, 1983.

15- انظر/ي:

M. Foucault, Two lectures’, in Foucault, Power/Knowledge, and ’The subject and power, in H. L. Dreyfus and P. Rabinow (eds), Michel Foucault: Beyond Structuralism and Hermeneutics, Chicago, University of Chicago Press, 1983.

16- أنظر/ ي:

Lyotard, Postmodern Condition, p. 82.

On Writing’, see: Derrida.’Writing and Difference, ch 4, 9.

17- انظر/ي:

R. Rorty, Habermas and Lyotard on postmodernity’, in R. J. Bernstein (ed.), Habermas and Modernity, Cambridge, Mass., MIT Press, 1985:

وانظر/ي أيضًا نقد ميشيل فوكو للكتابة في:

What is an author?’, in M. Foucault, Language, Counter-Memory, Practice, Ithaca, NY, Cornell University Press, 1977.

18- انظر/ي:

M. Foucault, On the genealogy of ethics, in H. L. Dreyfus and P. Rabinow, Michel Foucault: Beyond Structuralism and Hermeneutics. Chicago, University of Chicago Press, 1982.

19- انظر/ي:

N. J. Chodorow, ‘Gender, relation and difference in psychoanalytic perspective, in H. Eisenstein and A. Jardine (eds), The Future of Difference, New Brunswick, NJ, Rutgers University Press, 1985; Griffiths and Whitford, Feminism Perspectives In Philosophy, chs 5, 7, 8, 9, 11; and J. Benjamin, The Bonds of Love, New York, Pantheon, 1988.

20- انظر/ي:

H. F. Pitkin, Justice: on relating private and public, Political Theory, 9(3) August 1981, p. 348.

21- انظر/ي:

D. W. Winnicott, The Location of cultural experience, in D. W. Winnicott, Playing and Reality, New York, Basic Books, 1971, p. 102.

22- انظر/ي:

D. W. Winnicott, Transitional objects and transitional phenomena, in Winnicott, Playing and Reality, p. 12.

23- المرجع السابق، ص ۱۲.

24- انظر/ي:

R. Rorty, ‘Method, social science, social hope’, in Rorty, Consequences of Pragmatism, p. 208.

25- أنظر/ي:

D. Dinnerstein, The Mermaid and the Minotaur, New York, Harper & Row, 1976, esp. part 3.

26- انظر/ي:

Derrida, Writing and Difference, chs 4, 9, and Positions;

وتتقاطع هذه المقاربات في أعمال كتاب مثل: Cixous and Clement. انظر/ ي أيضًا:

J. Kristeva, ‘Women’s Time’, Signs, 7(1), Autumn 1981, pp. 13-35.

شارك:

اصدارات متعلقة

شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10
شهادة 9
شهادة 8
شهادة 7
شهادة 6
شهادة 5
شهادة 4