قُدِمت هذه الورقة في ربيع 2014 في الدورة الثالثة و الثلاثون لمؤتمر جمعية الدراسات السودانية في مدينة سان فرانسيسكو، تحت عنوان لماذا نحتاج إلى بناء هوية وطنية سودانية جديدة ؟
نشأتي في المملكة العربية السعودية لأبوين نوبيين جعلتني سودانية أكثر مما كنت أعتقد. البيئة المحيطة لم تكن مرحبة، و لم تكن هناك أي وسيلة للإندماج في الثقافة السعودية. إعتناق هويتي كسودانية وعلى وجه الأخص نوبية، كانت طريقتي لرفض أن أصبح مجرد ظل لفرد في ثقافة إعترفت بالسعوديين والعرب فقط. عند زيارتي للسودان في العطلات، لاحظت أنني في الواقع لست سودانية بما فيه الكفاية بالنسبة لعشيرتي أو للثقافة المركزية. الإندماج بات أكثر من مجرد لغة مشتركة أو وجود نسب أبوي. عند دخولي الوسط السياسي، قيل لي كثيراً :لا تتصرفين أو تتكلمين كالسودانيين
جعلتني هذه العبارة أفكر، ماذا يعني أن أكون “سودانية” على أية حال؟
وفقاً لوسائل الإعلام وملاحظاتي من التفاعلات اليومية في المجتمع، المواطن السوداني الحقيقي يتصف بأنه عربي ومسلم. إفتقار أي من هذه المعايير يضع الشخص في خطر السقوط إلي مستوى أدنى على الفور. “أولاد الناس” تعبير مشهور لوصف أبناء القبائل العربية والإسلامية
فهم الهوية
أجريت بحثاً على نطاق صغير مع مجموعة من الأصدقاء والمعارف تتراوح أعمارهم بين 23 و 60. طلبت منهم إجابة سؤال بسيط هو “ما الذي يجعلك سوداني؟” أود أن أشير إلى أن المشاركين في هذا الإستطلاع كانوا محدودين؛ فلقد إستهدفت أشخاص لديهم معرفة باللغة الإنجليزية وصلة بالإنترنت. مع ذلك، كانت الإجابات مثيرة للإهتمام
بغض النظرعن الموقع الجغرافي أو الخلفية، وجد المشاركون صعوبة في الإنتماء للهوية العربية–الإسلامية فقط. عدد قليل من الشباب الذين نشأوا في دول الخليج تمسكوا بهويتهم العربية بإستعلاء واضح. بعض الشباب لم يعتبروا أنفسهم سودانيين، على الرغم من أنهم يعيشون في السودان! بل وجدوا سهولة أكبر في ربط أنفسهم مع الهويات الفرعية الأخرى؛ مثل الطوائف والقبائل، والطبقة الإجتماعية والاقتصادية. أما بالنسبة للجيل الأكبر سناً (41- 60) فقد حددوا إنتمائهم مع ما قد قيل لهم عندما كانوا أصغر سناً أو بناءاً على خبرتهم في السنوات التي تلت الإستقلال، حيث كانت الأيديولوجيات القومية والسياسية وفيرة ومزدهرة. لم أتمكن من إلتماس هوية “سودانية” مشتركة
بعد تحليل الإجابات، إقتنعت بأن نطاق مفهوم الهوية صعب التعريف. ينقصنا الشعور بالإنتماء على أساس المواطنة التي تحكمها قواعد و قوانين، وما ينطوي عليه من الحقوق والإلتزامات
من هو السوداني؟
بالنسبة لمعظم السودانيين الإجابة عن سؤال الهوية مهمة لَعِينة. تشير الأغاني والأمثال الشعبية إلى أن الشخص السوداني النموذجي من الشمال أو الوسط – يرتدي جلابية و عمة ويتحدث العربية، وبطبيعة الحال، مسلم
من جانب آخر، يجب على النساء تلبية معايير معينة لإعتبارهن “سودانيات”. من المتوقع أن تبدو وكأنها إمرأة نموذجية من الشمال أو المركز. وفقاً لذلك، فإن معظم معايير الجمال لا تشمل أو تعتز بالميزات الأفريقية الشائعة في الأجزاء الغربية والجنوبية من البلاد. متوقع أيضاً منها إرتداء التوب لو كانت متزوجة أو الحجاب إذا كانت عازبة. في الأغاني وقصائد الحب، النساء المرغوبات هن ذوي البشرة الفاتحة، العيون الواسعة والشعر الناعم. هذا النموذج هو أبعد ما يكون عن واقع متوسط الملامح السائدة لمعظم النساء في السودان، وهي سمات أفريقية مميزة من أجناس وأعراق مختلفة
فرض الهوية العربية–الإسلامية المزدوجة على حساب القوميات و الثقافات الغنية المتنوعة في السودان. وهكذا، تم صب التنوع الثقافي قسراً في شخصية معينة تداولتها وسائل الإعلام، و الأدب والأغاني الثقافية كمثلها الأعلى. بات من الصعب العثور على أغنية وطنية لا تتماشى مع هذه الهوية المختصرة. الأغاني المحلية والإقليمية الأخرى أو الأعمال الفنية التي لا تتمحور حول الهوية المتداولة نادرة الظهور في الصدارة، ما عدا خلال “الأسابيع الثقافية”، كأنها ليست عناصر هامة من التراث والهوية الوطنية
الهوية الوطنية الجديدة
أنا أقترح بخلق نظام سياسي ثقافي جديد، ومجموعة من السياسات تقبل هويّات متعددة ولا تميّز أي عنصر من تلك الهويات. خلق هوية متعددة الجوانب لا يعني رفض خيارات أو إنتمائات الأفراد من الهويات الفرعية، لكن لا ينبغي لتلك الهويات الفرعية أن تحدد حقوق مواطنة الفرد. كذلك، لا ينبغي أن يستند مفهوم الدولة الحديثة عن الجنسية والمواطنة على مدى عروبة أو إسلام الشخص. مثالياً، لجميع المواطنين حق التمتع بنفس القدر من حقوقهم على أساس مجموعة من القواعد والقوانين التي تحترم معتقدات و إنتمائات كل الأفراد
أتصور أن الكثيرين قد يجدون صعوبة في التخلص من “العروبة” فهذا أمر مفهوم، بسبب عدم وجود بدائل ملموسة بإمكانها ملء الشعور بالفخر الذي تملؤه العروبة. والبعض الآخر قد يجد صعوبة في الشعور بالإفتخار بتراثهم الأفريقي بعد سنوات من الدونية المريرة المفروضة. على الشعب السوداني أن يجد مصادر أخرى ملموسة للفخر الوطني بدلاً من التشبث بجذور مجيدة وهمية، لا تحمل قيمة حقيقية في الدولة الحديثة. وفي هذا الصدد يمكن لوسائل الإعلام والإنتاج الفكري إستخدام رسائل مبسطة ومحددة لتعزيز روح الوحدة عبر التعبيرات الأدبية، المسرحية، الموسيقية، الشعرية والفنية، وجعلها جذابة وشاملة لجميع الأفراد. على سبيل المثال حركة الحقوق المدنية الأمريكية كانت غنية بالشعر، مسرح الشارع، الروايات، والمسرحيات الموسيقية والرموز المتألقين مثل لاروي جونز (الذي سمى نفسه أميري بركة لاحقاً)، وجيمس بالدوين وبيلي هوليداي
يجب أن ننظر إلى الداخل للحصول على إجابات، تماما مثل البحث الروحي الحقيقي. واحد من وسائل تفريغ القضايا الإجتماعية هو الحوار بين الجماعات، فهو يبني الثقة بين المتنافسين وهو أمر أساسي لسد الفجوة بين أي جانبين من المجتمع إذا كانوا متباعدين لعقود. حتماً هذا سيستغرق وقتاً طويلاً، لكن مع ذلك، المهم البداية على الخطوات الصحيحة بإلتزام