ما يدفعنا للحلم بالضي وقت العتمة

الشركاء: اختيار

كتابة:

ما يدفعنا للحلم بالضي وقت العتمة

  • الرابع عشر من مارس 2020 الحكومة المصرية تفرض حظر التجول، ضمن خطتها لمواجهة فيروس كورونا (المسبب لمرض كوفيد ١٩)

7مشهد نهار داخلي الإسكندرية (حيث أعيش).

هنرجع كلنا البيت النهاردهقرر أبي. بعدما أتى مع أمي وأختي في زيارة لم يُلغوني بها قبل هذا التاريخ بأسبوع.

كانت مفردة كلناإشارة مقتضبة إلى أن عليّ الانصياع كجزء من هذا الكل.

سنعود بعد أسبوع.

كان وجود حرف النونكافٍ لأعرف أنني أساق كنفرٍ من قطيع عائلة تحاول أن تبدو للعابرين كذلك، وأنه يسوق ذاته وأمي وأختي إلى حياتي، التي خرجوا منها ولم يخرجوا منذ خمس سنوات.

عزيزاتي,

هذا ليس درسًا لشرح المعاني أو استيعاب كيف تؤدي اللغة دورًا في السطو، لكن أسفل ذاك الحرف وتلك المفردة ترقد أصوات ودموع ودماء المعارك لا يكفي معجم لشرحها. عادت أمي وأختي إلى بيت أبي. أما أنا فلم أعد إلى أي بيت, لا بيتي ولا بيته. علقت أجزائي على الأبواب. ولم أملك من القوة المادية ما يكفي للوقوف على أرض، أو العودة إلى بيت. بقيت بالأعلى أنتقض في مكاني دون أن يتهاوى جسدي، فقط روحي. لقنتنا الانتفاضات العامة والثورات الفردية في كل الدنيا، أن الرفض يلزمه عُدة وتجهيزات. لتنشق ولا نمت, على الواحدة منا أن تملك ما يبقيها حية بكل ما تحمله الحياة من دروب, استوعبت الدرس وقبلتُ تعلمه.

أواخر مايو 2020

مشهد ليل خارجي المنيا

لا أتحدث إلى أي منهما, لا آكل في المنزل، فقط ألبي نداء الطبيعة وأفعل ما يشبه النوم أحيانًا. انتهى الأسبوع. وزاد عليه عدد لم أعد أحصيه من الأسابيع. أيام كثيرة مضت وأنا أقصي بضع ساعات على سطح بيت صاحبتي هاء“. في اللحظة الحالية، يبدو بالنسبة لي مثاليًا أن أجلس إلى جانب تشابك أصابع هاءالكبيرة مع أصابع ابنة عمها الصغيرة. تلعبان وتضحكان، بينما أحدق في السماء التي تحمل نجومًا لا يتسنى لي رؤيتها في المدن الكبرى. كما لا يتسنى لي الحظو بصمت يغلفه لطف صوتٍ غير مزعج، كما هو الحال بالنسبة لصرخات العراك حين ينشب بين أناس في الشارع، أو صوت سيارات يصدح الكاسيت فيها بأغاني المهرجانات“. كان صوت اللعب يوفر لي مؤنسًا, دون أن أنبس أنا بكلمة واحدة. بالرغم من أني كثيرًا ما أتحدث إلى الآخرين، مثل هاءوغيرها, بحيوية مرئية لهم لا لي. أقول كما لو أني لا أخفي شيئًا، أشارك قصصًا ومواقف كما لو أني أفرغ جعبتي من الحكي. أنفتحُ كما لو أني مطمئنة فعلاً يحتاج اللقاء إلى قدر من الذكاء الإنساني، لدفع الملل. يلزم الصُحبة حديثًا متقدًا بالحماسة والابتسامات, شيء يشبه الألق ولا يكونه في الحقيقة بحالتي الحالية. يكون نصفي الثاني كما يحتاج اللقاء ويلزمهم. ويكون نصفي الأول كما تتراءى لي حقيقة كلي؛ ساكتة. بين اثنتيهم مراضاة، أحاول الإمساك بشيء منها، ربما تهدأ الروح، وربما تقاوم أعاصير يعززها كل فعل يذكرني أني غريبة هنا..

أعيش الآن مرحلة ما قبل المُضي. ولت أزمنة الأمل، الذي كان يدفعني لضخ الماء في الأرض التي ظننت أنها تجمعني بهم طوال عقدين من الزمن. في الأول لم أدرك أنني أسقي أرضًا بور. في الثاني رفضت الإدراك، لأن الرغبة في أن تكون عائلة حقيقية كانت أكبر من كل الأذى، ولأن الحب بيننا كان مشوهًا والعلاقة مربكة على نحوٍ أعقد من قدرتي على فك طلاسم هذا النوع من الحب، واستبصار سم تجرعناه سويًا.

أراني أتقدم داخل عقلي، في حين يرونني أتراجع خارج أعينهم. قلبي يستوحش المحيط ويفتقد الوجود، يوم كان بالأرض مكان ما يدعي بيتي. سقيته بعشرة أعوام من عمري، لينمو وأنمو معه. اليوم أصبح ماضيًا، الوصول إليه لم يعد يستغرق نصف نهار، إنما يلزمه نصف عمر آخر, لست متأكدة من أني أملك نصف عمر حتى أدفعه، ولست واثقة من جدوى الدفع المتواصل. الطرقات أطول، والخطوات أثقل، لكني أمشيأهرولأسقط.. وأفعل كل ما يجدر بإنسان حقيقي أن يفعل.

منتصف يوليو

مشهد نهار داخلي بيته بالمنيا

هل تذكرنَ محادثتنا عن مشاعرنا تجاه الشجارات التي نخوضها مع عوائلنا اليوم وجدت في إحدى الملفات شيئًا دونته من وحي جلسة جمعتنا في ديسمبر من العام الماضي، كتبت فيها:

ينساب صوت الذاكرة في عقلي باستمرار كما لو أنه خلفية موسيقى مارشال جنائزي. دون انقطاع, أفكر في سيل الأوامر التي لا أجيد التعامل معها بطريقة أخرى سوى الرفض العلني. رفض أوامرهم يسلمني إلى رفضهم لشخصي ككل. يعيد كلا منا إنتاج الرفض في صور لا يجمع بينها سواه، ويفرق بينها كل ما دونه من معايير وأنماط وقيم.

أستشعر في كل لحظة استياء والدي مما أعلنه، واستياء أمي مما أخفيه. أخفيه ضجرًا وإحباطًا غالبًا، وأحيانًا خوفًا من أن يؤدي البوح بنا إلى مسارات لا تتقاطع أبدًا، ولو حتى في نقطة التقاء لحظية كهدية أو صالة مطار يلتقي فيها المشتتونيتعانقون، تجمعهم أرض واحدة، يتنفسون نفس الهواء، ويجلسون على مقاعد الطاولة الدائرية نفسها. تهدأ حدة عربتهم في هذه اللحظات قبل أن يعودوا لشتاتهم مرة أخرى. خوفى من فقد نقطة التقاء لحظية يطغي الآن على رغبتي في أن يكون كلٌ منا نفسه تمامًا.

لم أعد أملي أذن أمي بالحكايات. لم أعد أشاركها الكثير من الأشياء لأن ما يروقها سماعه تغير، ولأن هذا التغيير غير مرحب به. علمني تنكيلهم بي في تجارب سابقة أن وضوحي خطأ يستحق عقابات لا تتسق مع بساطة غايتي من الوضوح، ومع الجهد الذي علىّ بذله لنيل أي من الغايات هذه. قولاً واحدًا يجمعون سويًا حديثي مرفوض“. الغريب أن صمتي أيضًا مرفوض.

صرتُ كالراقصين على حبل رفيع، على أن أؤدي رقصة دون أن أقطع الحبل، دون أن أَسقط أو أُسقط أي مما حملت أوزاره وإن لم أرغب به. لابد أن يحدث ذلك دون أن أدعي أو أعوي بصوت عال أنني متعبة من القيام بكل هذه الأشياء المتناقضة معًا، في مكان ما عميق، ترقد رغبة في أن أطرح كل هذا أرضًا، وأطلق قدماي للريح في الاتجاه المعاكس لكل ما سبق“.

قرأت هذا في الوقت الذي أستعدُ فيه اليوم للانطلاق بعيدًا. في الوقت الذي تُصم أوامر أبي إلى هذا وتعليقات أمي على ذاك, أتخيل نفسي في مكان ثان. أفعل أشياء أحبها. يحيطني تفاهم ومحبة آخرين. بالرغم من غياب شواهد قدرتي على القيام بذلك, لكني أترقب. تذكرني هذه الحالة بإهداء دونته جميلة في مقدمة كتاب أهدتني إياه في بداية تعارفنا، وصفتني فيه بالحالمة. تعرفن أني لم أعد حالمة أبدًا، لكن شعوري بأن آلية توقع الأسوء فقدت فاعليتها في جعلي أتنازل، فالواقع دائمًا يبرع في حمل الأسوأ والأسوأ، ولأني أتخيل أن فقداني للأمل وسقوطي في وحل الواقعية سيأتي على ما بقي من رغبتي في الحياة. شيئ آخر يدعوني للحلم في هذه اللحظة هو فشل محاولاتي للتعايش مع ما أرفضه منهم، وسعيي لخلق أرضية ما، من الأفعال الأولية كالطعام أو الإنصات إلى صوت غنوة نطرب لها معًا. لأن ما ينقصهم ليس معرفة المحبوب والمكروه, أو ما يؤذي علاقتنا وما ينفعها، لكن الرغبة في فعل أدنى مجهود لتحقيق أي مما سبق.

غالبًا يدفعنا الفشل للإحباط، لكنه أحيانًا يزج بنا نحو الحلم والرغبة في خلاص قريب. تتضح تفاصيل الحلم وتزداد رغبة الخلاص ، كلما ارتفع صوت الأوامر واشتدت حدة التعليقات ونمى الخراب، بحيث لم تعد مساحيق التجميل مجدية، أو إيهام النفس بحشو الهوة بأكلة أو غنوة.

أعتذر عن طول الرسالة، أعرف أن رسالة من هذا النوع لا تتماشى مع سرعة حقبتنا، لكن ما شجعني على إرسالها بهذا الشكل ثلاثة أشياء: أولاً، معرفتي بأن ثلاثتنا ننتمي إلى التأني والاستفاضة وأشياء لا تشبعها رسائل قصيرة. ثانيًا، أمنيتنا بتبادل الجوابات، لنعتبر نصوصنًا كذلك. ثالثًا، محاولتي مشاركتكن أحوالي في أوقات مختلفة بعد فترة صمت أطول من رسالتي. أتوق إلى أن أسمع منكما أيضًا.

حُضني وقبلاتي

میام

شارك:

اصدارات متعلقة

أسئلة وأجوبة بشأن الوقاية من كوفيد 19 ومكافحتها للعاملين /ات في مجال الرعاية الصحية
الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي