موقف التيارات الفكرية

في مصر من قضية المرأة

لم تختلف الخريطة الفكرية المصرية خلال العقود القليلة الأخيرة، عما كانت عليه طوال القرن العشرين. فمنذ بدايات هذا القرن ظهرت تيارات فكرية تصوغ الحياة السياسية والاجتماعية في مصر تتمحور في: التيار الإسلامي والتيار الوطني الليبرالي والتيار القومي والتيار الاشتراكي.

فرضت قضية المرأة نفسها بطبيعة الحال على تلك التيارات، وشكلت أحد الهموم الرئيسية لها، على تفاوت فيما بينها، فضلاً عن بعض توازنات يلجأ إليها كل منها، لكي ينفذ إلى الكتل الرئيسية من الجماهير، في مجتمع يرزح تحت إرث ثقافي تقبل التخلف، تسوده الأفكار التقليدية والإقطاعية، وهي أفكار تتخذ من بعض التفسيرات، والتأويلات الدينية تبريرًا لمحافظتها، ومركزًا لمواقفها من المرأة.

   

ينطلق التيار الإسلامي بمختلف تنويعاته من موقف فكري يؤمن بشمولية الإسلام وينظر إلى الأمور وفقًا للعقيدة، ويرى أن إقامة الدولة الإسلامية التي تطبق مبادئ الشريعة هي المدخل الوحيد لحل مشاكل المجتمع والارتقاء به، ويستند في ذلك إلى سلطة النص الديني بالرجوع إلى الكتاب والسنة، ويرفض محاولات الاجتهاد التي تدعو إلى الأخذ بمقاصد الشريعة لا نصوصها، ويميل إلى التعامل مع التفسيرات الشرعية المتشددة، ويقحم بها ما ليس منها، ويأخذ بالرؤى الأكثر ميلاً للمحافظة في كتب التفسير ويخلط بين نصوص الشريعة، وبين الفكر المحافظ الذي يروج له. وفي هذا الإطار يصوغ التيار الإسلامي موقفه من قضايا المرأة، فمنذ تأسست جماعة الإخوان المسلمين في عام 1882 تبنت الموقف المحافظ منها، وأضفت على هذا الموقف التفسيرات الدينية، في مواجهة قوى الإصلاح الديني، والتوجهات العصرية التي أتت بها ثورة 1919.

ألحت فكرة أن تمتد دعوة الإخوان إلى النساء على المرشد العام المؤسس حسن البنا منذ تأسيس الجماعة، لكنها تأجلت بسبب ظروف كثيرة لعل من بينها معارضة الرجال أنفسهم لإقحام نسائهم في هذا الشأن وهو ما يفسر إنشاء حسن البنا لما يسمىفرقة الأخوات المسلماتفي منتصف عام 1933 ثم توقفها عن النشاط حتى تشكلت ما سميبت أول لجنة تنفيذية للأخوات المسلمات في منتصف عام 1944، وتفاوتت درجات نشاطها قبل وبعد اغتيال حسن البنا في عام 1949، إلى أن اتخذ المركز العام للإخوان قرارًا في عام 1951، بإعادة تشكيل قسم الأخوات المسلمات، ووضع لائحة داخلية ونظام أساسي له، وتم إسناد رئاسته للمرشد العام للإخوان المسلمين، وتطور هذا القسم إلى عدة شعب، حتى وصل في عدد من المدن الرئيسية المصرية إلى 150 شعبة.

وكان ما وراء جذب المرأة وتنظيمها داخل الجماعة الفكرية التي نشأت مع الجماعة وتبلورت فيما بعد، فكرة أن مراحل نشاط الجماعة، تبدأ بتكوين الفرد المسلم الذي يكون أسرة مسلمة، ليتشكل من ذلك المجتمع المسلم الذي يقيم الحكومة الإسلامية، وهي الهدف النهائي للإخوان المسلمين.

أدى الصدام الدامي بين جماعة الإخوان المسلمين وثورة يوليو وجمال عبد الناصر، إلى تنامي دور قسمالأخوات المسلماتالذي شكل لجانا لرعاية المسجونين وأسرهم ماديًا ومعنويًا. وبعدما عادت الجماعة للنشاط بقوة مع تولى الرئيس السادات للسلطة، بدأت الجماعة في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي حركة نشطة لنشر الحجاب باعتباره فريضة إسلامية، بوسائل تنطوي على أشكال مختلفة من الضغوط تجمع ما بين الدعوة وبين الضغوط الاجتماعية التي وجدت استجابة لها في سنوات الانفتاح وخصخصة الاقتصاد والسوق الحرة، التي شهدت تحللاً كبيرًا في القيم الاجتماعية ,مما أزعج فئات الطبقات الوسطى والدنيا، ودفعها لفرض قيود على ملابس النساء، صيانة لهن من عوامل الفتنة في مجتمع مليء بالمزالق الأخلاقية. وكان الأساس لهذه الحركة النشطة هو إدراك جماعة الإخوان المسلمين أن المرأة تلعب دورًا في تنشئة الأطفال، ويمكن أن تكون عنصرًا مؤثرًا على الرجل في اتجاه دفعه إلى الالتزام الديني ثم جذبه للانخراط في التنظيم. وبرزت في هذا السياق مجموعة من النساء الداعيات بينهن حميدة قطب وزينب الغزالي، كما برز في الفترة الأخيرة من يسمون بالدعاة العصريين الجدد، الذين بدأوا نشاطهم في أروقة المساجد، وخرجوا منها إلى الصالونات والنوادي، في محاولة لجذب نساء الطبقات العليا استنادًا إلى عوامل من بينها أن الفئات الاجتماعية التي اصطلح على تسميتها بالأغنياء الجدد، تشعر بحالة من الفراغ الروحي، وتخشى أن تذهب إلى المعصية الدينية، بما حققته من ثروات مفاجئة، تراكمت ربما بأساليب ينطوى بعضها على ارتكاب المعاصي الدينية.

وفيما عدا استخدام المرأة للحشد للدعوة، وباعتبار حجابها مقياسا لانتشار ما، وتقديس دورها في تربية الأبناء الذين يجندون في صفوفها، فإنه يمكن القول بشكل عام إن التيار الإسلامي بمختلف تنويعاته، وقف أمام نيل المرأة لحقوقها، بالاعتراف الكامل بحقوق المواطنة، والمساواة أمام القانون، واعتبر المطالبة بذلك هو من قبيل التأثر بما يسميه بالغزو الثقافي الغربي للمجتمعات العربية، ووضع كثيرًا من الضوابط الفقهية والأيديولوجية التي تقيد حركة المرأة خارج المنزل، وتسعى للفصل بينها وبين الرجال في أماكن الدرس والجامعات والعمل والمواصلات العامة، وترفض المرأة من حيث المبدأ، وتقبل بها كاستثناء تفرضه الضرورة، لكنها تتشكك فيه، وتنسب إليه الخطايا، من انحراف الأبناء وإدمانهم، إلى خيانة الأزواج وبطالة الرجال وتشريد الأطفال وفشلهم الدراسي، وتصدع بنيان الأسرة، وتقدس دورها داخل المنزل وتدعوها لترك العمل والعودة إليه. ومن المفيد التذكير بأن قضية عمل المرأة كانت أبرز أسباب الخلاف بين الإخوان وعبد الناصر عام 1954، فقد طالب المرشد العام للإخوان آنذاك حسن الهضيبي الرئيس عبد الناصر بمنع المرأة من العمل وعودتها إلى المنزل. وعاد هذا التيار لإثارة نفس القضية مجددًا عند مناقشة ميثاق العمل الوطني الشهير عام 1962، وكان رد عبد الناصر على تلك المطالب، هو أن خروج المرأة إلى العمل، هو الذي يوفر لها الحماية الأخلاقية، إذ يكفل لها دخلاً يمنعها من المتاجرة بجسدها، كما أن الحفاظ على الأخلاق لا يتم بقانون، بل هو قضية تربية وقدوة.

وحتى حين قررت جماعة الإخوان المسلمين، أكثر فصائل التيار الإسلامي تحررا، أن تعدل من موقفها قبل نحو عقد، وأن تساند حق المرأة في العمل، وتولى المناصب العليا والترشيح لها، استثنت من ذلك، تولى رئاسة الدولة أو ما يسمى بالإمامة الكبرى، وهو الاستثناء الذي أكده برنامج الإخوان المسلمين الانتخابي في الانتخابات البرلمانية الأخيرة،على عكس ما أخذت به دول إسلامية أخرى، مثل إندونيسيا وبنجلاديش وباكستان. وحين أقر الشيخ يوسف القرضاوي، وهو أحد أبرز قادة هذا التيار، بحق المرأة في تولى منصب القضاء، اشترط لذلك أن تكون قد تجاوزت سن اليأس.

وبدأ إقرار جماعة الإخوان بحق المرأة في الترشيح في الانتخابات كما يقول منتقدوها أقرب إلى مناورة سياسية وتنظيمية، استهدفت استغلال أصوات النساء كما تفعل معظم الأحزاب للدفع بمرشحي الجماعة إلى مقاعد البرلمان، خاصة وقد لاحظوا أن هيئة مكتب الإرشاد يخلو تشكلها من أي امرأة.

خلاصة الأمر أن التيار الإسلامي وفي القلب منه حركة الإخوان المسلمين وقف في أغلب الأحيان أمام نيل المرأة لحقوقها على أساس مبدأ المساواة الذي يقره الدستور، ويعد أحد أهم المعايير الدولية لحماية حقوق الإنسان. ولم يقدم هذا التيار اجتهادًا مختلفًا في إعادة قراءة النص الديني، وتنقيته مما شابه من آراء فقهية معادية للمرأة، أو يجتهد للتوصل إلى تفسير مقاصد الشريعة بما يصون حقوقها في القيام بواجباتها التقليدية في نطاق الأسرة وتربية الأبناء، وبما يتفق مع تغير الأزمان واختلاف البيئات، بل إنه لاحق المفكرين والكتاب الذين اجتهدوا في هذا السياق، ووصمهم بالكفر والإلحاد.

وينهض التيار الإسلامي، بكل قوته ليتصدى لأية محاولة تبذل لتحديث وتطوير التشريعات الخاصة بالمرأة وبالتحديد قوانين الأحوال الشخصية، بهدف إجهاض كل محاولة في هذا السبيل، قبل أن يكون رأى عام يدعم تقنينها. وفي عام 1984 أسقط التيار الإسلامي مشروعًا لتعديل قوانين الأحوال الشخصية، كان يدعو لأن يتم الطلاق أمام القاضي، وأن يكون للزوجة الحق في طلب الطلاق إذا ما تزوج زوجها ثانية، وأن يبحث القضاء المبررات التي تدعو الزوج إلى أن يعدد زوجاته، وأن يتدخل لإعطاء كل من الزوجين المنفصلين حق رؤية أبنائه، وغير ذلك مما اشتمل عليه قانون الخلع، الذي كان على المجتمع أن ينتظر نحو عشرين عامًا قبل أن يمر هو بصعوبة في أروقة البرلمان، بعد مناوءة شرسة من التيار الإسلامي لصدوره.

وكذلك كان موقف التيار الإسلامي قبل نحو عقد من الزمان، منذ صدور وثيقة قانون الزواج الموحدة، التي تقرر للمرأة أن تحتفظ لنفسها بحقوق في عقد زواجها، يتم الاتفاق عليها بينها وبين زوجها، ومن بينها الحق في أن تطلق نفسها إذا تزوج عليها زوجها بدون علمها أو موافقتها. كما قاد معارك ضد تحريم ختان الإناث والتعليم المختلط وتولى المرأة لشئون القضاء.

لكن من الإنصاف القول إن حركة الإخوان المسلمين، تبدو أكثر اعتدالاً، وقدرة على الاستجابة لتطورات العصر ومتغيراته من الجماعات الأكثر تشددًا في الحركة الإسلامية، والأرجح أن خطواتها المترددة بشأن قضية المرأة تعود إلى أسباب تحرص على ملاءمة المناخ الثقافي المحافظ في المجتمع المصري، أكثر منها معارضة لحقوق المرأة، التي تظل مرهونة لدى أعضاء الحركة بما ورد في الشريعة.

بدأ التيار الوطني الليبرالي الحداثي في النظر لقضايا المرأة منذ الاحتكاك الذي حدث بين الشعب المصرى وبين الفرنسيين أثناء الحملة الفرنسية، وأخذ هذا التيار في التنامي ببطء، عندما أقام محمد على الدولة القومية، وبدأت بشائره في البروز، في عهد الخديوي إسماعيل، الذي كان أول من أنشأ مدرسة لتعليم البنات، بفضل الرواد الأوائل لحركة التنوير في الفكر المصرى الحديث وفي مقدمتهم رفاعة الطهطاوى، والذي دعا إلى الاهتمام بتعليم المرأة وتهذيبها، وألف في ذلك كتابه المعروف المرشد الأمين في تعليم البنات والبنين. وتواصل هذا الاتجاه، وكان من بين قممه العالية، صدور كتابي قاسم أمين تحرير المرأة والمرأة الجديدة في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. ثم تبلور تيار وطني ذو توجهات ليبرالية في حزب الأمة، سانده مفكر الحزب أحمد لطفى السيد على صفحات جريدةالجريدة، ودعا فيها إلى تعليم البنات، وأثار مناظرات حول قضية المرأة، والدعوة إلى رعايتها اجتماعيا، وظل هذا التيار يتراكم، إلى أن طرح نفسه بقوة أثناء ثورة 1919، عندما خرجت المرأة، وشاركت في المظاهرات التي قامت أثناء الثورة، وشاركت زوجات الزعماء في تقديم احتجاجات لممثلي الدول الأجنبية في القاهرة على اعتقال قادة الثورة ونفيهم. وقد نجم عن ذلك فيما بعد عدة تنظيمات كان من بينها إنشاء لجنة النساء الوفديات في سنة 1923 بزعامة هدى شعراوي، التي كانت زوجة على شعراوي أحد زعماء الثورة المنفيين ثم ظهرت صفية زغلول زوجة زعيم الثورة سافرة، وهو ما شجع حركة سفور النساء بين الطبقات الوسطى والعليا، وأدى ذلك إلى تأسيس الاتحاد النسائي المصري.

وفي الفترة ما بين ثورة 1919 و 1952 بدأت حركة نشطة في المجتمع المصرى لإبراز دور المرأة، فاتسع نطاق تعليمها، وأثيرت معارك حقيقية حول أحقيتها في الالتحاق بالجامعة المصرية، بعد أن تحولت من أهلية إلى حكومية عام 1952 وما بعدها، ووصلت إلى أزمة كبيرة في ثلاثينيات القرن الماضي، بعد أن سمحت إدارة الجامعة، بفضل الرؤى المستنيرة لمديرها أحمد لطفى السيد، ولعميد كلية الآداب في ذلك الوقت الدكتور طه حسين بدخول الفتيات إلى الجامعة للدراسة فيها. ونشأت فيما بعد في مراحل متأخرة أحزاب نسائية مثل الحزب النسائي الذي أسسته فاطمة نعمت راشد، وحزب بنت النيل الذي أسسته درية شفيق.

ومع تصاعد المد الوطني المعادي للاستعمار فيما بعد الحرب العالمية الثانية، شاركت المرأة بفاعلية في الحركة الوطنية، التي برزت في ذلك الحين، وبدأ ظهور دور نسائی للمرأة في الحركة النقابية العمالية مع بدء تقدم الصناعة المصرية الجنينية مع توقف الواردات بسبب العمليات العسكرية، مما أدى إلى توسع نطاق الطبقة العاملة، وظهور جناحها النسائي من العاملات في مصانع النسيج، وبالذات في المحلة الكبرى وشبرا الخيمة وكفر الدوار، ومن هنا برزت المشتغلات بالعمل النقابي بين النساء.

عندما جاءت ثورة يوليو كحلقة من حلقات الثورة الوطنية، بدت أكثر انفتاحًا فيما يتعلق بقضية المرأة، ولذلك نشطت الحركة النسائية وأنصار حقوق المرأة، في الضغط على الحكومة أثناء صياغة دستور الثورة، بحيث يضمن حقوق المرأة السياسية، في الترشيح والانتخاب، وهو ما تمت الاستجابة له بالفعل في دستور عام 1956، أول دستور في عهد الثورة، والذي تضمن فضلاً عن ذلك،فصلاً كاملاً عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية للمصريين، كان بينها الاهتمام بشئون المرأة والأسرة والطفولة، والتزام الدولة أن تضمن للمرأة التوفيق بين عملها وبين رعايتها لأسرتها. وغير ذلك من الضمانات الاجتماعية التي كانت جديدة على الدستور المصري، والتي تكررت بعد ذلك في دستور 1964ودستور 1971.

تبنت ثورة يوليو فضلاً عن ذلك رؤية مستنيرة لقضية المرأة، فيما يتعلق بجانبها الاقتصادي والاجتماعي، بالتوسع في التعليم بشكل عام، والتوسع في تعليم المرأة بشكل خاص، وفي إقرار حقها في العمل في الجهاز الحكومي، والمصانع،وتمتعها بنفس الضمانات التي يتمتع بها الرجل مثل المساواة في الأجر عند تساوي العمل ومنع الفصل التعسفي والمشاركة في العمل النقابي وتولى المناصب القيادية، بالإضافة إلى منح المرأة الحق في الاحتفاظ بمعاشها إلى جانب معاش زوجها، والتوسع في مشروعات رعاية الأمومة الطفولة. وخاضت المرأة الانتخابات البرلمانية لأول مرة عام 1957، وتولت منصب الوزارة لأول مرة عام 1962.

ويمكن القول بشكل عام إن التيار الوطني ذا الأفق القومي، الذي عبرت عنه التجربة الناصرية، نظر إلى المرأة نظرة مستنيرة، وأقر عددًا من القوانين والإجراءات لصالحها، لعل أبرزها وقف تنفيذ الطاعة بالقوة الجبرية، وإلغاء المحاكم الشرعية والمحلية، بحيث تنظر قضايا الأحوال الشخصية أمام القضاء المدني، وكان ذلك تطوراً مهمًا، لبطء عمل تلك المحاكم، واتسام عملها بنظرة معادية للمرأة، فضلاً عن الفساد الذي كان ينتشر في عملها.

لكن هذه الإجراءات التقدمية من الثورة قوبلت بمقاومة من التيارات المحافظة في المجتمع، وخاصة من التيار الإسلامي وممثليه الأقوياء داخل الأزهر الذي سعى دائمًا إلى عرقلة خطوات الثورة خاصة فيما يتعلق بالأمور ذات الصلة المباشرة بالشريعة الإسلامية مما عرقل كثيرًا من تلك الخطوات، وأدى ذلك في التطبيق إلى تفريغ بعضها من مضمونة الحقيقي.

وقد أثار هذا التيار ضجة كبيرة، عندما تضمن ميثاق العمل الوطني عام 1962 إشارة إلى مساواة المرأة والرجل مساواة كاملة ضمن معارضتهم العامة لما ورد بالميثاق، وأثار جدلاً حول ضرورة أن تبقى هذه المساواة في إطار تفسيرهم المحافظ للشريعة.

وبفضل تأثير السيدة جيهان السادات حدثت في عهد الرئيس السادات خطوات متقدمة في هذا السبيل، كان أبرزها إدخال تعديلات قانونية تجعل شقة الزوجية من حق الزوجة الحاضنة حتى تنتهي فترة حضانتها، وهو إجراء مر بصعوبة شديدة. ومن بينها الأخذ بفكرة التمييز الإيجابي للمرأة، والنص في قانون الانتخابات على تخصيص 30 مقعدًا في مجلس الشعب لها، وهو ما ظل قائمًا لدورة برلمانية بدأت عام 1979، إلى أن حكمت المحكمة الدستورية ببطلانه فيما بعد، وتكرر الحديث عنه أخيرًا على أساس إدخال تعديل في الدستور، بما يسمح مجددًا بتطبيقه.

وفي السنوات الأخيرة صدر قانون الخلع، وأنشئت محاكم خاصة بالأسرة لتيسير إجراءات التقاضي بشأنها، كما تم منح أبناء المرأة المتزوجة من أجنبي حق الجنسية.

وشكل تصاعد نفوذ التيار الديني مرة أخرى، عقبة أمام الاتجاهات الإصلاحية في قضية المرأة خلال الربع قرن الأخير، كما ساهم في تغذية التيار المحافظ وسط النساء، بحيث أصبحت قطاعات واسعة من النساء تقاوم الذين يطالبون لها بالمزيد من الحقوق.

لقد دفع كل من التيار الوطني الليبرالي والتيار القومي بقضية المرأة خطوات مهمة، لكنهما مازالا عاجزين عن ترسيخ ثقافة الإيمان بحرية المرأة، في داخل مجتمع محافظ، تلعب التيارات الدينية دورًا كبيرًا في تشكيل آرائه وتحديد سلوكه.

وبينما قبل التياران الليبرالي والقومي، بتفسير الجناح المعتدل في الحركة الإسلامية للموقف من حقوق المرأة، بالدعوة إلى سفورها وحقها في التعلم والعمل، ومنحها حقوقًا تعزز من مساواتها مع الرجل متأثرين في ذلك بالرؤى الحداثية الغربية، فإن التيار اليساري أخذ بفكرة المساواة الكاملة والمطلقة، وركز على قضايا الحرية الشخصية، كحق المرأة في اختيار زوجها، وحقها في الانفصال والتنقل وما إلى ذلك، وطالبت عناصر منه بفكرة الزواج المدني، فضلاً عن وضع ضمانات تكفل للمرأة التوفيق بين أدوارها المختلفة، وبين عملها ورعايتها لأسرتها، وحقها في المشاركة السياسية، كما هاجم التيار اليساري الرؤية التي تنظر إلى المرأة باعتبارها سلعة، كما انتقد الفنون الأثرية التي تعتمد على جسد المرأة، وفرق بين الحرية الجنسية وممارسة الدعارة. كما تصدى اليسار لرؤية التيارات الأصولية المتشددة التي تغالى في قراءة النصوص الدينية بما ينتقص من إنسانية المرأة لأسباب ترتبط بالطبيعة البيولوجية لها.

ولأن التيار اليساري لم تتح له فرصة لكي يحكم فقد برع بشكل أفضل في تقديم نماذج حداثية من النساء، وكان دوره الأبرز في توسيع نطاق مشاركة المرأة في العمل السياسي الحركي عبر التظاهر والأحزاب والاعتصام، ولأنه تيار تبشيري، فقد ظل تأثيره الأساسي فكريًا لا جماهيريًا، لكنه قدم في هذا السياق رؤية متكاملة تنطلق من المساواة التامة والمطلقة وتستند إلى المنظومة الدولية لحقوق الإنسان في النظر إلى قضايا المرأة.

أمينة النقاش: كاتبة وصحفية، ومديرة تحرير جريدة الأهالي.

1– كتاب الأخوات المسلمات وبناء الأسرة القرآنية، تأليف محمد عبد الحكيم خيال ومحمود محمد الجوهري، صادر عام 1980 عن دار الدعوة.

2 – وقد لفت النظر النصائح الواردة في الكتاب للأخوات من المسلمات ومن بينها أن أولئكالمثقفات الآتي يجرين وراء الاشتغال بالسياسة ونحوها تافهات مقلدات، وهن في مجتمعات كالفقاعات الحائرة الفارغة لا أثر لها إلا خفة الوثوب.. . ولو أن كلا منهن فقهت رسالتها الخطيرة، لوجدت في محيطها النسوى من الأعمال الجليلة ما يعلى ذكرها بين أهل الأرض والسماء ذلك خير وأنفع وأكرم من تدبير المظاهرات والتزاحم على منصات الخطابة لوعظ الرجال في الوطن، يجدر القول إن موافقة الإخوان على اشتغال المرأة بالسياسة ليس سوى تكتيك ومناورة“.

3 – أمينة النقاش:”ماذا وراء البعث الجديد لمعركة الحجاب في مصر” – مجلة شهر زاد الجديدة العدد الأول مايو 1981.

4 – صلاح الدين الجورشي:”المرأة والخطاب الحركي الإسلامي، مجلة رواق عربی عددی 15, 16, 1999.

5 – القرارات الكبرى لثورة 23 يوليو الجزء الأول الهيئة العامة للاستعلامات عام 1985.

 

يسرى مصطفى

إن دراسة موقف اليسار من قضايا حقوق وحريات المرأة له أهمية نسبية بسبب أن اليسار تاريخيا قدم نفسه باعتباره المخلص من كافة أشكال القمع التي مورست في التاريخ البشري، ومنها قهر النساء الذي يعد تاريخيا بكل معاني الكلمة. فكل الأنظمة الاقتصادية والسياسية بما فيها النظام الرأسمالي القائم هي أنظمة ذكورية في جوهرها. ولكن مع ظهور الحركة النسوية بدأ النقد النسوى يتوجه لليسار ذاته، سواء فيما يتعلق بممارسات الأنظمة التي استخدمت النهج الماركسي، أو حتى الحركات الماركسية الرديكالية التي لم تصل إلى السلطة.

وكن مع الأسف الشديد فإن موضوع علاقة اليسار المصرى والعربي بقضايا حقوق وحريات المرأة، لم تكن موضع اهتمام حتى من قبل المنظمات النسائية التي انشغلت بقضايا دفاعية ولم يكن لديها الوقت للاشتباك الفكري والنظرى مع القوى المحيطة. ولعل الاتجاه السياسي الوحيد الذي حظى بالعديد من الدراسات من منظور حقوق المرأة أو المنظور النسوى هو الاتجاه الإسلامي، فثمة دراسات عديدة حول موقف الحركات الإسلامية من المرأة. وقد يكون هذا مفهومًا من حيث إن هذه التيارات تعلن موقفها المحافظ والصريح من قضايا المرأة، ولأنها تتبني موقفًا أيديولوجيا أخلاقيًا يوظف النساء بوصفهن ركنًا أساسيًا من هويتنا وتمايزنا عن الآخر. أما اليسار فربما بسبب موقفهالإيجابي المعلنمن قضايا المرأة، أو ربما بسبب ضعفه السياسي، لم يكن موضع تساؤل، ربما إلا في عدد محدود من الكتابات مثل النقد الشخصي اللاذع الذي قدمته أروى صالح لجيل السبعينيات في كتابهاالمبتسرون“. ولذا فثمة صعوبة منهجية تتعلق بالكتابة في هذا الموضوع بسبب ندرة الكتابات، والشهادات سواء من داخل جماعات اليسار أو من قبل المؤسسات الأكاديمية والبحثية.

وفي هذه الورقة سوف تجرى محاولة لإلقاء بعض الضوء على افتراض يزعم أن اليسار المصري، في تجلياته السياسية على الأقل، لم يكن صاحب رؤية فيما يتعلق بالقضايا النسائية، فهو خطاب يمكن أن يوصف بأنهخطاب بلا هوية، لأنه متعدد المرجعيات. إن مواقف اليسار من هذه القضية حددتها شروط أخرى تتصل بالتفاعلات والتجاذبات والتناحرات مع قوى أخرى محيطة. وفي هذا السياق يمكن افتراض أن ليس هناك موقف واحد، ليس فقط لأنه لا يمكن الحديث عن يسار واحد، ولكن أيضًا لأن التفاعلات والتجاذبات جعلت اليسار يتبنى مواقف متباينة من قضايا حقوق وحريات المرأة، أحيانًا تنویری علماني، وأحيانًا محافظ وفي أحيان أخرى متشكك وناقد. وفي كل الأحوال،لم تحظ هذه القضية بالاهتمام الكافي من قبل جماعات اليسار، حتى ولو أن بعض المثقفين اليساريين أولوها بعض الاهتمام.

إن التفاعلات والتجاذبات التي سنتناولها في الورقة تتصل بموقف اليسار من تيارات وأيديولرجيا أخرى:أي الأيديولوجيا الإسلامية والقومية ثم الأيديولوجيا الحقوقية، إن جاز القول، والتي تبنتها المنظمات غير الحكومية الجديدة. وقد تباينت مواقف جماعات اليسار وفقًا لمحددات العداء للإسلام السياسي من ناحية، وعدم تجاوز الفكر القومي من ناحية ثانية، وعدم الثقة في أفكار المنظمات غير الحكومية من ناحية ثالثة. وفي حين أن اليسار في تحديه لأيديولوجيا الإسلام السياسي عمل على إبراز تقدميته الفكرية وخاصة في الحقوق والحريات فقد ظل، من ناحية أخرى، مكبلاً بشروط الأيديولوجيا القومية وخاصة في صيغتها الناصرية، التي تضمنت رؤية محافظة إزاء العلاقة بين الذات والآخر، وكانت بمثابة نقطة اتصال اليسار بخطاب الهوية في صورته المحافظة. وفي الصفحات التالية نستعرض بعض أشكال هذه التفاعلات والتجاذبات التي صاغت موقف اليسار من مسألة حقوق وحريات النساء.

لا يستطيع أحد أن ينكر مشاركة النساء في الحركة اليسارية، ونضالاتهن داخل هذه الحركة وتحملهن الكثير من الأعباء السياسية والأمنية. وكل هذا لا يعني بالضرورة تحقق المساواة بين الرجال والنساء داخل اليسار كما لا يعني، وهذا الأهم، اهتمامًا كبيرًا من قبل اليسار بقضايا النساء ضمن مشاريعه السياسية والاجتماعية وعلى صعيد الممارسة السياسية. وعلى الرغم من وجود أمثلة على اهتمام الحركة بقضايا المرأة مبكرًا مثل كتابات إنجي أفلاطون، إلا أن هذا أيضًا ليس مؤشرًا دالاً على كبير اهتمام من قبل الحركة اليسارية بشكل عام بقضايا حقوق المرأة وحريتها.

لقد اعتمدت الحركة في جزء كبير منها الموقف الماركسي الكلاسيكي، وسعت إلى مقاربة الواقع الاجتماعي والسياسي انطلاقًا منه، ويمكن الزعم أن هذه الحركة لم تنتج كتابات إبداعية بشكل عام عن الواقع المصرى سواء فيما يتعلق بالطبقات الاجتماعية التي كانت الشاغل الرئيسي لفكر اليسار أو فيما يتعلق بقضايا أخرى نوعية وفي مقدمتها العلاقة بين الطبقة والنوع الاجتماعي. وبالتالي يمكن القول إن المرجعية الفكرية الأولى لليسار لعبت دورًا رئيسيًا في إنتاج فكر يساري، وممارسة، لم تول كثيرًا من الاهتمام لقضايا المرأة. ومع ذلك يجب الانتباه إلى أن الحديث عن المرجعية قد ينطوى على مجازفة تتعلق بالتعميم، فلا يمكن الزعم أن حركة اليسار في أي مكان كانت ترتكز على مرجعية واحدة ووحيدة، فثمة تيارات فكرية متصارعة ومتباينة في توجاهاتها ومواقفها. ولكن، يمكن الحديث عن تيار عام ومنظومة فكرية كلية تحدث بداخلها مثل هذه التباينات.

لاشك أن اليسار المصري، في تياره العام على الأقل، كان يرتكز على الأفكار الماركسية التقليدية، ناهيك عن إيمان الكثيرين منهم بالماركسية السوفياتية قبل انهيارها. وليس جديدًا القول بأن هذه المرجعية ترتكز تقليديًا على مفهوم الصراع الطبقي، بوصفه التناقض الرئيسي في المجتمعات البرجوازية. وكان ثمةإيمانبأن حل هذا التناقض سيتضمن بالضرورة حل تناقضات أخرى وفي مقدمتها اللامساواة بين النساء والرجال، وغير ذلك من قضايا نوعية. وعلاوة على ذلك فقد كان ينظر إلى حل هذه التناقضات من منظورالحتمية التاريخية، أي أن منطق التاريخ وعقلانيته تقتضى حل هذه التناقضات. يضاف إلى ذلك أن هذه المرجعية، بتركيزها على التناقض الطبقي، خلقت في وعي اليساري إيمانًا بكل ما هو شعبي في مواجهة كل ما هو برجوازي. وبهذا المعنى، لم يكن ثمة سبيل لتحليل الواقع والثقافةالشعبيةوالتعرف على تناقضاتها الداخلية وفي مقدمتها ما يتعلق بوضع النساء. حتى الانتهاكات التي تتعرض لها النساء كان ينظر إليها على أنها النتيجة الحتمية لواقع الاستغلال الطبقي، ولم ينظر إليها على أنها أيضًا استغلال وقهر.

هذه هي المعادلة الرئيسية التي صاغت الموقف الفكرى العام لليسار المصرى، ولذا فلا اعتقد أن اليسار، وفق هذه المرجعية، ظل في موقع يمكن من خلاله أن يبرر عدم إعطاء أهمية خاصة لقضايا حقوق وحريات المرأة، لأنها ببساطة مدرجة ضمن هدف أشمل وأعم وهو التحرر الاجتماعي الأشمل. ومن ناحية أخرى، كانت تجربة الأحزاب اليسارية في إنشاء ما يسمى بـلجان المرأةأكبر دليل على تهميش النساء من التيارات الرئيسية داخل الأحزاب. وتقول الخبرة التاريخية إن مثل هذه اللجان لم تلعب دورًا في طرح قضايا حقوق وحرية المرأة داخل المناخ العام كمسألة ثقافية وسياسية، كما أنها لم تلعب دوراً حتى في تحسين موقع المرأة داخل هذه الأحزاب نفسها.

وبكلمات أخرى يمكن القول إن المرجعية الماركسيةالتقليديةلم توفر مناخًا فكريًا مواتيًا لتبني قضايا حقوق وحريات النساء بوصفها ركن أساسي من مشروع التحرر الاجتماعي على صعيد الفكر والممارسة. وهذا يعد أحد المحددات الرئيسية الذي يجب أن يؤخذ في الاعتبار عند مناقشة موقف اليسار من قضايا المرأة.

 

تعتبر القضية الوطنية مكونا رئيسيا من مكونات الخلفية الفكرية لليسار المصرى والعربي بشكل عام. ففي كل وقت كان ثمة تلازم بين المشروع الاجتماعي والمشروع الوطني المتمثل في التحرر من الاستعمار. بل إن القضية الوطنية حظيت بأولوية على القضية الاجتماعية عند بعض فصائل اليسار، وباتت محددًا رئيسيًا لتوجهاتها الفكرية. وقد استمر هذا التلازم قائمًا منذ الاحتلال المباشر لمصر وخلال ما يسمى بمرحلة التحرر الوطني، ولاحقا لتأخذ أشكالاً جديدة منها مقاومة الاستعمار الجديد أو العولمة.. إلخ.

وفي الحقيقية، إن القضية الوطنية كانت حاضرة حتى داخل الحركة ذاتها لأسباب موضوعية تتعلق بأن اليسار المصرى نشأ في ظل الاستعمار ولعبت الجاليات الأجنبية دورًا في تشكله، وهو في نهاية الأمر يسار عالمي، ولم يكن موضوعيًا أن يتخلف عن مطالب التحرر الوطني في العالم التي كانت ومازالت أحد شواغل اليسار. ففي الفترات الأولى كان الشاغل الرئيسي لحركة اليسار، ليس فقط التحرر من الاستعمار، ولكن أيضًا إضفاء الطابع الوطني على الحركة ذاتها بمعنىتمصيرالحركة أي إضفاء الطابع المصري عليها في مواجهة أعضاء الجاليات الأجنبية من مؤسسيها. ثم في ظل الحكم الناصري ومرحلة التحرر الوطني تبنى اليسار قضايا العداء للامبريالية والصهيونية والاستعمار. وبعد المرحلة الناصرية باتت قوى رئيسية في اليسار مدافعة عن الدولة الوطنية التي تفسدها الرأسمالية والانفتاح والعولمة، وعن مفهوم الأمة في مواجهة الصهيونية.

إن ما يهمنا في هذا السياق هو أثر هذه التوجهات الوطنية على المطالب النوعية الأخرى ومنها تلك المتعلقة بحقوق المرأة وحرياتها. أتصور أن ثمة مشكلة في هذا الصدد تتعلق بالتوازنات الثقافية والفكرية التي قامت بها جماعات اليسار في إطار دفاعها عن القضية الوطنية. لقد كان على اليسار أن يدخل في تحالفات ضمنية أو صريحة مع الأيديولوجيا القومية. وكانت هذه الأخيرة مصممة على أساس ثنائية الذات والآخر، ومستندة بالأساس على مفهم الهوية الجماعية للأمة في مواجهة هوية جماعية أخرى يمثلهاالآخرالذي أخذ أكثر من صفة فهو رأسمالي إمبريالي وغربي أيضًا. وقد تأسست الأيديولوجية القومية كأيديولوجيا لسلطة ثقافية ترسم حدود الأولويات وتصونها، كما أنها استخدمت كأيديولوجيا للتعبئة السياسية التي ضمت بين جنباتها عناصر إسلامية وقومية وماركسية أيضًا. لقد شكلت الأيديولوجيا القومية بوتقة ونقطة التقاء بين أيديولوجيات مختلفة.

وفي هذا المسار لم تكن قضايا مثل حقوق النساء ضمنالأولويات“, فقد كان كافيًا إضمار فكرة قابلية مثل هذه القضايا للحل من خلال حل المشكلة الاجتماعية والوطنية. كما أن التوازنات الثقافية والسياسية التي انخرط فيها اليسار شكلت حاجزًا حال دون التواصل بين الجماعات المحلية اليسارية والحركات الاجتماعية الجديدة التي تشكلت خارج نطاق هوية الأمة. إن المشكلة الكبرى للأيديولوجيا القومية أنه قد أمكن توظيفها من قبل السلطات لمحاصرة الداخل في مواجهة الخارج، وبات كل خارج هو امتداد للاستعمار أو الصهيونية أو الإمبريالية. ومن هنا باتت أيديولوجيا سلطة بكل المعاني واستمر توظيفها حتى بعد تراجع المشروع القومي.

ويمكن القول إن اليسار، وخاصة بعد الناصرية، بات الأكثر حماسة في الدفاع عن الهوية القومية، وبات أكثر حدة في نقده لأي شكل من أشكال التواصل مع الحركات الجديدة ومنها الحركات النسوية – التي تشكلت في الغرب. وسوف نلاحظ لاحقا طبيعة العلاقة بين قوى اليسار ومنظمات المجتمع المدني التي تم النظر إليها باعتبارها أحد أشكال الاستعمار الجديد. وبعد انهيار الاتحاد السوفيتي وخفوت بريق المرجعية الماركسية لدى العديد من جماعات اليسار، توجه البعض لتبنى خطاب ديمقراطيليبراليوتمسك البعض الآخر وبقوة بالأفكار القومية في مواجهة إسرائيل، والحمية الوطنية في مواجهة العولمة ولأن الأيديولوجيا القومية والوطنية كانت بالفعل موظفة بصورة سلطوية، فقد اندرجت مجموعات من اليسار في بنية السلطة الثقافية، وتمسكوا بما صاروا يدعونه بـالأولوليات، وأحيانًاالثوابت، وكلها أفكار كانت تضع قضايا المرأة في مرتبة أدنى.

ليس من قبيل المبالغة أن نقول إن أيديولوجيا الإسلام السياسي لعبت دوراً ملحوظًا في رسم خريطة المواقف السياسية والفكرية من حقوق وحريات النساء. فالمرأة بالنسبة لهذه الأيديولوجيا هي قضيةهوية، وهي أحد معايير رسم الحدود بين الذات والآخر. وفي الحقيقة أن بروز المرأة كقضيةهويةليس من إبداعات حركة الإسلام السياسي، بل هي متجذرة في عملية التحديث التي لم تتجاوز القيم الذكورية بل أعادت إنتاجها في بنية الدول. فلم تكن الحالة الذكورية نسقًا فرعيًا، بل دعامة لمجمل الأنساق الثقافية والتربوية والسياسية القائمة. كما أن حضور النساء كمكون أساسي من مكونات الهوية نما وتشكل بصورة موازية لمفهوم الأمة الذي عبر عنه وأنشأه مثقفون أفراد ومؤسسات وحركات سياسية. والهوية المرتبطة بالأمة لم تتشكل فقط في مواجهة التقاليد الغربية بل أيضًا في مواجهة تقاليد شعبية تم النظر إليها على أنها تقاليدلا أخلاقية“.

وفي حين ظلت النساء خارج المجال العام، فإن خطاب الهوية هذا حملهن إلى المجال العام عندما تم ربطهن بتميزالأمة على الآخر الغربي، ولأن الآخر متقدم علميًا وتكنولوجيًا وعسكريًا، فإن مقاومته لم تصبح ممكنة إلا من خلال الأخلاق، والنساء هن الموضوع الرئيسي للأخلاق في مجتمعنا. وهكذا تم بناء خطاب هويتنا كخطاب يرتكز على الأخلاق (النساء بالأساس) وبصورة سلبية أي في مواجهة آخر لا نريد له أن يُرى إلا من زاوية التسيب الأخلاقي.

وفي هذا المناخ برزت أفكار تحرير المرأة بوصفها خروجًا على الهوية، وظل هذا الفكر راسخًا في العقول على الرغم من حصول النساء، في ظل التحديث، على عدد غير قليل من المكاسب. وهكذا تشكل الجدل حول تحرير المرأة بوصفه جدلا حول الهوية، أي بين من يدافع عن هويتنا وبين من يريد هدمها، وبينهما برزت محاولات للتوفيق بين بعض حريات النساء ومقتضيات الحفاظ على الهوية.

أزعم أن هذه التيارات بخطابها الكثيف حول المرأة كخطاب هوية، قد حثت اليسار على التفاعل مع قضية حرية المرأة. فقد كان على اليسار أن يخرج من نطاقه الاجتماعي ليتخذ مواقف علمانية تنويرية إزاء الموقف الإسلامي المحافظ من حرية المرأة. وهكذا فقد برزت قضية حرية المرأة بوصفها الحيز الذي يمكن فيه ومن خلاله كشف ظلامية وسلفية أيديولوجيا الإسلام السياسي. وقد لاحظنا ذلك خاصة في الثمانينيات والتسعينيات مع الصعود القوى والعنيف لتيارات الإسلام السياسي، حيث نشط مثقفو اليسار في تبني قضايا حقوق النساء وخاصة فيما يتعلق بالزي والحجاب وغير ذلك من القضايا التي أثارتها التيارات الإسلامية واتخذ اليسار تجاهها موقفًا نقديًا.

وبالتالي فإن جزءاً من اهتمام اليسار بقضايا النساء جاء كرد فعل على ما تطرحه تيارات الإسلام السياسي. ولكن هذا الاهتمام اليساري لم يتجاوز حدود نقد تيارات الإسلام السياسي، ففي حين تم الاهتمام بقضايا مثل الحجاب، لم تنخرط قوى اليسار كثيرًا في قضايا مثل ختان الإناث، وجرائم الشرف وقوانين الأحوال الشخصية، والصحة الإنجابية والحقوق الجنسية وغيرها من القضايا التي لم تبرز إلى الحيز العام إلا لاحقًا مع ظهور المنظمات غير الحكومية. كما أن اليسار لم يطور خطابه ليدرج قضايا تتعلق بالنقد النسوى للمجتمع الرأسمالي واستراتيجيات التنمية وغيرها من القضايا التي من المفترض أن تكون على قائمة الأولويات.

على الرغم من أن مؤسسي منظمات حقوق الإنسان والمرأة هم من بين صفوف الحركة اليسارية، إلا أن ثمة قطيعة وقعت بين هذه الحركة وبين المنظمات البازغة. فقد نظر كثير من أعضاء الحركة اليسارية إلى هذه المنظمات وكأنها خروج على التقاليد الاجتماعية والوطنية التي طالما دافع اليسار عنها. فهي في نظر الكثيرين منهم مجرد نتاج لعودة تستهدف هدم الحركة السياسية، وإعادة صياغة الأولويات، والانتقاص من المبادئ الوطنية. وهنا نلاحظ أنه في حين نشط تيار الإسلام السياسي بعض اليساريين في اتجاه تبني موقف علماني تنويري فيما يتعلق بقضايا حقوق المرأة وحرياتها، ففي الوقت ذاته نشطت منظمات المجتمع المدني الجديدة لدى عدد كبير من اليساريين المخزون القومي والوطني، فاتخذوا مواقف محافظة إزاء هذه المنظمات. وفي هذا السياق لاحظنا كيف أن الكثيرين من مثقفى اليسار اعتبروا أن قضايا مثل مكافحة ختان الإناث هي من القضايا المشتتة للجهود والتي تصرفنا عن أولوياتنا الوطنية، وبكلمة هي أجندة غربية. بل أن الأمر الدال هو أن تصبح قضيةختان الإناثعلى وجه التحديد الأكثر استخداما لإثبات أن أجندة المنظمات غير الحكومية هي أجندة غربية.

وهنا نلحظ أنه في حين تحدث اليساري بلسان العلماني التنويري في مواجهة الإسلاميين، فقد تحدث بلسان القوميالوطنيفي مواجهة المنظمات غير الحكومية وقضاياها. وفي هذه المرحلة برزت على السطح بقوة فكرةالأولوياتعند عدد غير قليل من مثقفي اليسار، وكانت الأولويات تصاغ دائما ضد ما يتعلق بحقوق النساء. وزاد التشكيك في أية أشكال للتضامن على المستوى الدولي خاصة فيما يتعلق بحقوق الإنسان والمرأة، وهنا حدث تقارب كبير بين الخطاب الماركسي والقومي وربما الإسلامي فيما يتعلق بالموقف من تلك المنظمات الحاملة لما ليس فينا. لقد برزت قوة خطاب الهوية وأثرها على سائر الخطابات السياسية.

لا شك أن المجتمعات التي شهدت حركة نسوية قوية، تأثر اليسار فيها بما تطرحه مثل هذه الحركات من قيم وأفكار. ولكن اليسار المصرى لم يتفاعل مع هذا النوع من الحركات التي لعبت دورا تاريخيا في طرح رؤى مختلفة بشأن حقوق النساء، ليس فقط على مستوى اليسار، بل على مستوى المؤسسات والإعلام والهيئات الدولية. صحيح أن المجتمع المصرى شهد حركات نسائية طالبت ببعض الحقوق، ولكن مثل هذه المطالب كانت تجرى ضمن التيار العام لعملية التحديث أو ضمن التيار العام لمنظمات المجتمع المدني المحلي أو الدولي. وبالتالي فإنها لم تبن هويتها كحركة اجتماعية مؤثرة على توجهات القوى الأخرى ومنها قوى اليسار. وقد نجد بعض النسويات أو الكتابات النسوية، ولكنها أيضًا كتابات بدون هوية سياسية أو اجتماعية، كما أنها في الغالب تكون رد فعل على أيديولوجيا الإسلام السياسي، وليس منها ما يدخل في جدل أو تحدي مع الاتجاهات والأيديولوجيات الأخرى ومنها اليسارية.

ومن الملاحظ أيضًا أن اليسار، على صعيد الممارسة والخطاب السياسي، لم يكن بمقدوره الانفتاح كثيرًا على الخطاب النسوي الراديكالي، ربما لحسابات سياسية وربما أيضًا لأسباب ذاتية تتعلق بغرابة المشروع النسوى بالنسبة لكثيرين من مثقفي اليسار ممن اعتادوا أكثر الانفتاح على الفكر القومي وعلى منظومةالأولويات“. ومع ذلك يمكن القول بأن بعض اتجاهات اليسار أبدت انفتاحا – متحفظًا على منظمات المجتمع المدني، ولكن على ما يبدو فإن انفتاحها على المنظمات النسائية أقل من انفتاحها على منظمات حقوق الإنسان. وقد يصعب أن نلقى بالمسئولية على اليسار وحده، لأن هذه المنظمات النسائية لم تتجاوز مهام العمل الضيق والبنى التنظيمية المنغلقة على ذاتها، ولم تعمل على خلق تيار ثقافى وقيمي واجتماعي يمكن الانفتاح عليه والتفاعل معه.

ألقت هذه المحددات الخمس المذكورة بظلالها على موقف قوى اليسار من مسألة حقوق وحريات المرأة. فقضايا النساء حاضرة على استحياء وفقًا للمرجعية الماركسية،وحاضرة بقوة في مواجهة التيارات الإسلامية، وهي مدانة في مواجهة المنظمات غير الحكومية. إن هذا الخليط من المواقف لم يمكن اليسار من بناء رؤية ومشروع تحرري حقيقي من أجل حقوق وحريات المرأة. كما لم يكن بمقدور اليسار التفاعل مع الأفكار العالمية في هذا المجال، فقد ظل منطويًا على ذاته داخل خطابه الوطني المتشكك فيما هو خارجه. ولم يثر إعجاب اليسار، فيما هو كوني، إلا الإطار العام للحركات المناهضة للعولمة بدون حتى التفاعل الإيجابي مع ما تطرحه هذه الحركات من قضايا وأفكار فائقة التنوع.

قد نتوجه بالنقد إلى اليسار بسبب عدم اهتمامه الكافي بقضايا حقوق وحريات المرأة؛ ولكن علينا أن نأخذ في الاعتبار أن اليسار المصري كان نتاج واقعه وأن مواقفه المتباينة هي نتاج لتفاعلات موضوعية مع هذا الواقع. ولا أعتقد أن اليسار في أي مكان كان يمكن أن يتبنى قضايا نوعية مثل حقوق المرأة لو لم تكن هنالك حركات نوعية قوية فرضت عليه أن ينفتح عليها وأن يتبنى ما تطرحه من أفكار وقيم. لقد لعبت الحركات النوعية دورًا تاريخيًا في بناء هويات نوعية في مواجهة الهويات الشمولية. إن النسوية هي في نهاية الأمر هوية نوعية. وأزعم أن مسئولية إبداع مثل هذه الهوية يقع على عاتق حركات نسوية، وليس بفضل قوى سياسية لها توازناتها الخاصة. ولكن المشكلة في مجتماعاتنا أن الحركات، وبالتالي الهويات، النسوية لم تتشكل بعد.

الحقيقة ما يمكن أن تقوم به الحركات الاجتماعية، ومنها الحركات النسوية، ليس مجرد الدفاع عن قضايا نوعية، وإنما تفكيك الهويات الكبرى السالبة والذكورية في الغالب، وكذلك حث رؤى نقدية إزاء النسق العام الذي تناقش فيه حقوق وحريات النساء، بما في ذلك نقد الممارسات والأفكار الذكورية وخاصة تلك التي تمارسها قوى تزعم أنها معنية بتحرير المرأة ومنها اليسار، الذي لم يسلم من الممارسات والأفكار الذكورية حتى في أكثر أشكاله الراديكالية والناقدة لاستغلال المرأة في المجتمع الرأسمالي. إن الحركة النسوية وليس اليسار، هي القادرة على خلق محددات ثقافية واجتماعية جديدة تعيد صياغة تجاذبات وتفاعلات الهويات القائمة. وقد يكون اليسار إيجابيًا في استجابته للحركات النسوية، وقد يكون سلبيًا، ولكن هذه قضية ممارسة وفعل تاريخي.

يسري مصطفى: باحث في مجال حقوق الإنسان.

 

أمل محمود فايد

جاءت ثورة ٢٣ يوليو في لحظة تاريخية من عمر أمة رزحت لفترات طويلة تحت نير الاستعمار، حيث حكمت مصر لفترات طويلة من محتلين أجانب وظل أفراد الشعب المصري طوال هذا التاريخ يعانون من القهر والاحتلال، رجالهم ونساؤهم، ومحرومين من خيرات البلاد وكذلك من حقوقهم الطبيعية في صنع قرار وطنهم، وحينما قامت الثورة كانت قضيتها الأولى تحرير الوطن وطرد المحتل الغاضب، وإقامة حكم وطنى يمارسه المصريون بأنفسهم لأول مرة منذ زمن بعيد.

وقد كان إدراك الثورة منذ اللحظة الأولى أن القاعدة التي ينبغي أن يبنى عليها استقلال البلاد هي الحقوق المتساوية لأفراد المجتمع بغض النظر عن طبقاتهم الاجتماعية أو جنسهم أو دينهم, فكان أول أهداف الثورة، بعد إقامة حكم وطني وجيش مصرى يؤمن حدود وحرية البلاد، هو إقامة العدالة الاجتماعية بين كافة أفراد المجتمع دون تمييز. وكذلك إقامة حياة ديمقراطية سليمة لا تحكمها الثروة أو الملكية وإنما يشارك فيها الشعب فقراؤه قبل أغنيائه ورجاله ونساؤه على حد سواء. ونستطيع أن نقول إن المصريين تحولوا من رعايا في ظل الحكم الملكي والاستعماري إلى مواطنين لأول مرة في ظل حكم أدرك أن اكتمال مفهوم المواطنة لا يمكن أن يتم دون اقتسام الثروات بين أبناء الوطن الواحد والمشاركة في الحكم.

وقد كانت المرأة جزءاً أصيلاً من مشروع هذه الثورة كمواطنة تتطور أوضاعها بتطور أوضاع الوطن وتنميته، فكانت شريكة منذ اللحظة الأولى في كافة مراحل النضال الوطني من أجل التحرير كما سنت التشريعات الجديدة بعد الثورة على أساس قاعدة المساواة في كافة الحقوق بدءًا من الدستور الذي نادي بالحقوق السياسية لها لأول مرة إلى قوانين العمل إلى مجانية التعليم التي أتيحت لأبناء الفقراء إناثًا وذكورًا، كما كانت المرأة جزءًا من المشروع التنظيمي للثورة في مختلف مراحله، وفتحت أمامها أبواب النقابات والتنظيمات الجماهيرية المختلفة التي كانت إما موصدة تمامًا من قبل أو بها مشاركة نسائية محدودة وهامشية كما فتحت أمامها مجالات العمل في قطاعات غير تقليدية واهتمت بدورها الإنتاجي، فهيأت بذلك مناخًا تقبل المجتمع فيه أدوارًا جديدة للمرأة تتجاوز ذلك الدور التقليدي الراسخ في عقل المجتمع المتعلق بدورها الإنجابي وتبعاته داخل الأسرة فقط.

مما لاشك فيه أن كل الخطوات السابقة ساهمت في خلق نخبة نسائية جديدة ذات انتماءات اجتماعية مختلفة وعلى درجة أرفع من الثقافة والتعليم، بعد أن كانت الحركة النسائية قبل الثورة حكرًا على غالبية من الطبقة الأرستقراطية وبنات أو زوجات الأغنياء. غير أنه لابد من الاعتراف بأنه رغم كل تلك التطورات إلا أن وضع المرأة الآن وبعد مرور 50 سنة على الثورة لا يزال دون مستوى الطموح وخاصة في مجال المشاركة السياسية في دوائر صنع القرار حيث إن معدلات تمثيلها ظلت محدودة للغاية بصورة لا تتناسب مع إنجازات تلك الفترة التي اتسع فيها إسهام المرأة العملي في المجتمع.

الأمر الذي يثير العديد من القضايا والتحديات في مجال النهوض بأوضاع المرأة وتحقيق هدف المساواة وتكافؤ الفرص بينها وبين الرجل، وعلى رأسها الموروث الاجتماعي والثقافي السلبي للمجتمع والذي ترسخ عبر سنين التخلف والاستعمار الطويلة والذي يعوق تقدم أوضاع المرأة ويعمل من أجل ترسيخ دورها التقليدي داخل المنزل، كذلك يطرح ضرورة مراجعة استراتيجيات العمل في هذا المجال، ولعل إحدى القضايا الهامة المثارة في هذا الإطار هي محاصرة مؤسسات المجتمع المدني ومصادرة استقلالها وتحويلها إلى مؤسسات تابعة للدولة.

وسنستعرض في هذه الورقة التطور التاريخي لعلاقة ثورة 23 يوليو بالمرأة في السياق الاجتماعي وأثر ثورة يوليو في هذا المجال في محاولة لإلقاء الضوء على هذه التجربة التي أعتقد أنها رغم كل شيء قد هيأت القاعدة والمناخ لتجاوز تلك المعوقات وخلق صورة جديدة عن المرأة في مصر، بعد أن نشير في إطلالة سريعة إلى وضعها قبل الثورة والأبعاد التاريخية الرئيسية لهذا الوضع.

مكان المرأة في تاريخ مصر القديم:

تبوأت المرأة المصرية مكانة رفيعة فكانت في مصر القديمة لها نفس الحقوق الشرعية التي منحت للرجل وقد سجلت فوق المقابر الفرعونية القديمة من عام 2263 – 2778 ق. م ما يفيد بأنه كان يتم دفن العظماء بجوار أمهاتهم، وفي عام 1785 إلى 2160 ق. م كان الزوج عادة ينسب لزوجته والابن لأمه وكل ما تملكه المرأة من عقار لا يرثه غير المستحقات من إناث الأسرة. كما كان حق الوراثة للملك ينتقل بواسطة المرأة بحكم الأمومة، وقد تمتعت المرأة كذلك بالحقوق المساوية للرجل بما فيها الحقوق السياسية بما في ذلك حكم البلاد، حيث حكمت البلاد أكثر من ملكة مثل الملكةخنت طاوسفي الأسرة الرابعة، والملكةبنت أقرنيفي الأسرة السادسة الفرعونية.

غير أنه ومن بداية الأسرة الخامسة بدأ يسود قدر من الاضطهاد في الحكم وازداد انقسام والتناقض داخل المجتمع وزادت سطوة أمراء الأقاليم الذين ثاروا على الملك في أواخر عهد الأسرة السادسة، وقد بدأت علاقة الرجل بالمرأة هي الأخرى يصيبها الاضطراب وبدأ اقتران محاولات السيطرة على الحكم بإضعاف مكانة المرأة. وقد تبوأت المرأة في فجر التاريخ عدة مناصب منها كتابة رسائل الملكة وتوجيه القضاء وتصريف شئون الوزراء، وهناك من اشتهرت بلقب العارفة أو العالمة، وتولت وظائف الكاهن والوزيرة.

غير أن وضع المرأة المصرية قد انتكس في فترة حكم الفرس للبلاد (البطالمة) ثم الرومان حيث كانت المرأة تعتبر كائنًا من الدرجة الثانية، وتعتبر قاصرة في حضارة تلك البلاد. كما يعتبر الفتح التركي لمصر هو بداية لأقصى عهود الجهل والظلام التي عاشتها مصر حيث محى دورها التاريخي وأصبحت واحدة من الولايات العثمانية وتراجع وضع المرأة كثيرًا في هذه الفترة.

حين تولى محمد على حكم البلاد تبنى مشروعًا نهضويًا بدأ بتشكيل نخبة من المفكرين والمثقفين المتعلمين من خلال ابتعاثهم إلى أوروبا للتزود بالعلوم الحديثة، الأمر الذي أدى إلى اكتسابهم عادات وتقاليد جديدة حاولوا نقلها فيما بعد إلى مصر. وفي هذا السياق بدأت بذور النهوض بوضع ومكانة المرأة من جديد ولعل رفاعة الطهطاوي هو أحد دعائم هذه النهضة حيث ظهر له كتابتخليص الإبريز في تلخيص باريزعام 1834 أشار فيه إلى أهمية المساواة بين جميع أفراد المجتمع، وقد اعتنى محمد على بهذا الكتاب وأمر بطبعة وتوزيعه في الدواوين وكافأ مؤلفه.

وقد ظهرت في هذا الوقت دعوة قاسم أمين لتحرر المرأة من الحجاب وإلى حريتها وتعديل نظم الزواج والطلاق، وربط بين انحطاط المرأة وانحطاط الأمة. وقد أثارت هذه الأفكار جدالاً هامًا بين مؤيدين ومعارضين مما دفع بقضية المرأة إلى دائرة اهتمام الرأى العام. وتأسست الصحافة النسائية منذ عام 1892 في هذا السياق لتزيد من حيوية الجدل القائم حول تحرير المرأة.

وقد بدأت مشاركة بعض الفتيات في البعثات التعليمية في بداية القرن العشرين حيث يبدأ بذلك تشكيل نخبة نسائية متعلمة ومثقفة تتصدى للدفاع عن وضع المرأة وتنخرط في العمل الوطني وقد ظهر ذلك بوضوح في ثورة 19 التي تعتبر نقطة تحول هامة أتاحت للمرأة المصرية المشاركة السياسية الفعالة. وكان أول عمل سياسي لها هو تنظيم مظاهرة في 16 مارس 1919 للاحتجاج على تنكيل الإنجليز بالمصريين واشترك في المظاهرة حوالي 530 سيدة على رأسهن زوجات الزعماء الذين تم اعتقالهم، مطالبات بالحرية والاستقلال وسقوط الحماية، وقد تحمس لها الشعب وردد الهتافات خلفهن.

وتكررت مظاهرة السيدات في 20 مارس 1919 وحاصرهن الجنود الإنجليز لمدة ساعتين حيث أرسلن احتجاجًا إلى سفراء الدول حتى جاء القنصل الأمريكي واحتج لدى القيادة الإنجليزية التي أمرت بفك الحصار. وقد سقطت في هذه الفترة شهيدتان. وقد ترتب على تلك التظاهرات ما يشبه الاعتراف بدور المرأة في المجتمع بعد فترة طويلة من الإنكار وبدأ زعيم الثورة يستهل خطاباته بسيداتي سادتي في اعتراف واضح بها.

استمر النهوض بنشاط النساء السياسي، فكان لهن دور في الاجتماعات الوطنية والأعمال الخيرية، وازدهرت الصحافة النسائية وأصبح هناك دور للصحفيات حيث برزت منيرة ثابت صاحبة مجلةالأملعام 1925 وفاطمة اليوسف. وقد تبنتمنيرة ثابتمطلب الحصول على الحقوق السياسية للمرأة غير أن دستور 1923 جاء متجاهلاً حقوق المرأة السياسية. وتشكل الاتحاد النسائي المصري في 1923 للمطالبة بحقوق المرأة، ثم تأسس أول حزب نسائي بمبادرة من السيدة فاطمة نعمت راشد، كما تابعتدرية شفيقحركة المطالبة بحقوق المرأة السياسية من خلال اتحاد بنت النيل.

اهتمت الثورة في بدء عهدها بقضايا التحرير والاستقلال ثم بدأت في بلورة مشروع للتغير يشمل كافة جوانب الحياة في البلاد، وأتى الدستور المصرى في عام 1956 ليمنح المرأة حقوقها السياسية. وقد جاءت نصوص الدستور لا تفرق في أي حق بين الرجل والمرأة بدءًا من حق التعليم المجاني وحق العمل وحق الرعاية الاجتماعية والصحية وحق المعونة في أحوال الشيخوخة والمرض والعجز عن العمل. كما نص الدستور على أن الانتخاب حق للمصريين جميعًا وأن مساهمتهم في الحياة العامة واجب وطنى ونص قانون الانتخاب على حق كل مصرى ومصرية بلغ 18 سنة ميلادية في مباشرة الحقوق السياسية، ثم جاء الميثاق الوطني، عام 62 لينص على أن المرأة لابد أن تتساوى بالرجل، ثم جاء دستور 64 لينص على تكافؤ الفرص لجميع المصريين وأنهم متساوون في الحقوق والواجبات العامة دون تمييز بينهم بسبب الجنس أو الأصل أو اللغة أو الدين أو العقيدة.

أما من حيث السلطة التنفيذية فقد شغلت النساء المناصب الوزارية، حيث دخلت المرأة الوزارة لأول مرة في عام 62 كوزيرة للشئون الاجتماعية. وقد بدأت المرأة المصرية في شغل مناصب السلك الدبلوماسي منذ عام 1961 ومارست العمل الدبلوماسي سواء في ديوان عام الوزارة أو في سفارات مصر في الخارج، كما تولت العديد من المناصب الإدارية في جهاز الدولة والتي كانت محظورة عليها.

وإذا ما أردنا تقييم مشاركة المرأة السياسية وتطور أوضاعها في ظل مشروع 23 يوليو ينبغي أن نرصد ذلك من خلال ما طرأ على الدينامية الاجتماعية والتغيرات التي تبنتها الثورة لتهيئة المجتمع لواقع جديد يرتكز على مشاركة المواطنين في نظام الحكم بعد فترة طويلة من الاستعمار، عبر خطوات مرحلية متعاقبة تجعل المواطن هدفًا لاتخاذ القرار وجزءًا من آلياته، وفق أسس المساواة بغض النظر عن الوضع الاجتماعي والطبقي أو الجنس وإقرار مبدأ تكافؤ الفرص بين كافة أفراد المجتمع وهو السياق الذي يهيئ المناخ لاعتراف المجتمع بدور مختلف للمرأة كمواطنة.

ومما لا شك فيه أن فرص المرأة في المشاركة السياسية لابد وأن تبني على قاعدة عريضة من النساء المتعلمات فالتعليم يتيح للإنسان مكانة اجتماعية مختلفة كما يفتح أمامه مجال العمل في مواقع أرقى، الأمر الذي ينعكس في مستوى اقتصادي أرفع ومن ثم القدرة على الاستقلال بالقرار والتعبير عنه. ورغم أنه قد تم الاعتراف بحق المرأة في التعليم في منتصف القرن التاسع عشر وتلى ذلك الاعتراف بحقها في العمل ظلت الممارسة محكومة بنوعيات محددة من التعليم والعمل، كالتمريض والخياطة والتدريس ثم الصحافة وفي نطاق طبقات ومستويات اجتماعية محددة دون غيرها، الأمر الذي كانت محصلته في النهاية نسب محدودة من المتعلمات العاملات وظلت الغالبية العظمى من نساء مصر يرزحن تحت نير الأمية والفقر بعيدًا عن سوق العمل مما رسخ تلك المكانة الاجتماعية المتدنية للمرأة المصرية.

في نهاية القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين بلغ عدد المدارس 4554 مدرسة بها 165000 تلميذ من بينهم حوالي 13000 تلميذة أي نسبة أقل من 10% في التعليم الأولى. غير أن نسبة الفتيات في التعليم المتوسط والعادي كادت تكون معدومة.

وقد أولت الثورة التعليم اهتمامًا شديدًا باعتباره هدفًا وسبيلاً للنهضة فاهتمت بتوسيع قاعدته وإتاحته لمختلف فئات المجتمع دون تفرقة بين الرجل والمرأة. وقد شهدت الفترة التالية على الثورة طفرة كبيرة في تعليم البنات حيث ارتفعت معدلات التحاق الفتيات بالتعليم كما انخفضت نسبة الأمية بين الإناث من 84% سنة 47 إلى 70% في 76 ثم إلى أقل من 50% في 2000 وارتفعت نسبة الفتيات في التعليم المتوسط والعالي بصورة ملحوظة وبخاصة في مجالات جديدة مثل التعليم التجاري حيث ارتفعت نسبة الفتيات من 11% سنة 53 إلى 54.6% سنة 78 وفي التعليم الجامعي من 7.5% سنة 51 إلى 46.7% سنة 78/ 79.

كما زاد إقبال الإناث على نوعية كليات جديدة مثل الصيدلة والآثار والاقتصاد والعلوم السياسية والطب والهندسة والزراعة والإعلام. وإذا ما قارنا نسبة الزيادة بين الذكور والإناث مثلاً في التعليم الجامعي سنجد أنها زادت بنسبة 820% للذكور و 5643% للإناث، الأمر الذي يشير إلى الاتساع الشديد في قاعدة المتعلمات وفي مجالات لم تكن مطروحة من قبل أمام النساء، غير أن نسبة الزيادة بين الفتيات تشير إلى التوجه المركزي للثورة في مجال استهداف تعليم الإناث وتأهيلهن لمشاركة أكثر فعالية في كافة قطاعات المجتمع، دون تنميط لمجالات محددة للنساء.

وتعتبر كليات الاقتصاد والعلوم السياسية والإعلام من الكليات التي تؤدى إلى النشاطات السياسية المباشرة وغير المباشرة ومن ثم يعد ارتفاع نسب الفتيات في تلك الكليات بمثابة قاعدة جيدة لتهيئة قيادات سياسية من النساء تشارك في مواقع اتخاذ القرار وتطرح نموذجًا فعليًا لتقاسم السلطة وتدعم نفوذ النساء في المجتمع. كما شكلت زيادة نسبة الإناث في مجال هيئة التدريس في كافة المراحل، أحد أهم المتغيرات التي تؤسس لفهم جديد لدور المرأة ووضعها في المجتمع.

إن انتشار التعليم في مصر بعد الثورة ومجانيته على جميع المستويات أعطى للمرأة ثقة بنفسها ومفهومًا جديدًا لذاتيتها، مما ساعد على دعم مركزها داخل الأسرة، كما أن انتشار ظاهرة التعليم المشترك بين الجنسين تعتبر الوسيلة الفعالة التي تساعد المجتمع على اجتياز فترة الانتقال من النظام الأسرى القديم القائم على سلطان الرجل وعزل المرأة إلى النظام الحديث القائم على الزمالة والمشاركة والفهم المتبادل بين الجنسين.

إذا كانت المشاركة السياسية تميل إلى الزيادة بين أعضاء المجتمع ذوى الفرص التعليمية الأفضل فإنها تميل كذلك إلى الزيادة بين الجماعة المهنية وأصحاب الدخل الأعلى، وقد أثبتت إحدى الدراسات التي أجريت حول أداء المرأة البرلماني للباحثة الدكتورة عزة وهبي أن غالبية النائبات اللاتي تمكن من الفوز بمقاعد المجلس النيابي طوال فترة ما بعد الثورة هن من النساء العاملات خاصة العاملات في المجال الحكومي. وقد اهتمت الدولة بإتاحة فرص العمل أمام المواطنين جميعًا دون تمييز بين الرجال والنساء، فصدرت القوانين منذ عام 1952 لا تفرق بين فئات موظفي الدولة ولم تشترط للتعيين سوى أن يكون المرشح لها مصريًا محمود السيرة، وقد صدر دستور سنة 56 مشيرًا بوضوح لأهمية عمل المرأة حيث جاءأن الدولة تيسر للمرأة التوفيق بين عملها في المجتمع وواجباتها في الأسرةوسنت العديد من القوانين التي تكفل حماية المرأة وتؤمن حقوقها في العمل.

وقد سلكت الثورة طريق التنمية المخططة واهتمت بالتوسع في إنشاء المشروعات الصناعية لاستيعاب مزيد من القوى العاملة ففتحت الطريق أمام النساء للعمل في الصناعات التحويلية حيث تضاعفت نسبة المشتغلات خمس مرات خلال الفترة من 1961 إلى 1971. كما صدر قانون القوى العاملة الذي التزمت به الدولة والذي نص على ضمانات العمل لكل الخريجين/ ات مما أدى إلى اتساع قاعدة النساء العاملات.

وقد لوحظ مع مرور السنوات بعد الثورة زيادة دخول الإناث وخاصة المتعلمات في سوق العمل، وقد حدث تحول جوهرى في عمالة المرأة خلال الفترة من 1961 إلى 1971 إذ تحول عدد كبير من النساء من الاشتغال بالزراعة إلى أنشطة اقتصادية أخرى وتناقصت نسبة العاملات في الزراعة من 43% في سنة 61 إلى 25,8% في سنة 71. وزاد إسهام المرأة في قوة العمل بنسبة نحو 8% سنويًا. وقد أدت تلك الخطوات إلى تمكين المرأة اقتصاديًا فضلاً عن زيادة سلطتها داخل الأسرة نتيجة اقتسامها المسئولية الاقتصادية مع زوجها.

ومما لا شك فيه أن المرأة العاملة أكثر قدرة وقابلية من غير العاملة على المشاركة السياسية. وتشير الدراسات المختلفة إلى أن المرأة التي تعمل بالسياسة هي غالبًا امرأة عاملة. واعتبرت إحدى الدراسات التي أجريت على 20 دولة أن عمالة المرأة كانت بمثابة الجذور الخضراء للمشاركة السياسية.

ومما سبق نود أن نشير إلى أن قيام الثورة بتثبيت حقوق المرأة وبتوسيع مشاركتها في مجالات التعليم والعمل يعد بمثابة خطوتين هامتين أدتا إلى تغير وضع المرأة والارتقاء بمكانتها وتغيير النظرة التقليدية لدورها كما هيأتها لممارسة الحق في المشاركة في صنع القرارات خاصة القرار السياسي.

ورغم ما سبق فإن ما لا نشك فيه أن الوضع الاجتماعي للمرأة المصرية يظل مختلفًا عن وضع الرجل تبعًا للوسائل المادية ومستوى الإمكانيات التي أتيحت للرجل وحجبت عن المرأة لعهود طويلة، ولابد من الاعتراف باستمرار الصراع بين الاتجاه التقليدي داخل المجتمع المصري الذي يرغب في استمرار تقسيم العمل التقليدي بين الرجل الذي من حقه المشاركة في الحياة العامة بكل وسائلها وإمكانياتها وبين المرأة التي يرى حصارها داخل الدور الإنجابي لمسئوليات المنزل والأسرة وبين الاتجاه الذي يجد في خروج المرأة وتعلمها وعملها وتزودها بالخبرات تمكينًا لها، فضلاً عن كونه تنمية للمجتمع. والأمر الذي لاشك فيه أن ذلك الصراع استحوذ على عقول البعض من رجال السلطة مما شكل عائقًا أمام تعظيم الآثار الناجمة عن تلك الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية الجديدة للمرأة.

 

امتد اهتمام الثورة بالمرأة في كافة القطاعات والمناطق الجغرافية داخل البلاد، فاحتلت المرأة الريفية نصيبًا وافرًا من الاهتمام حيث نظمت برامج لتنمية المجتمع، بدءًا من عام 1962. اعتمدت مشاركة المرأة بشكل رئيسي في رفع مستوى الأسرة الريفية وعملت على تدريب أعداد النساء العاملات لتكون مهمتهن الاتصال من أجل بناء القرية، ثم تكونت لجان نسائية في القرى تعمل على رفع مستوى المرأة الريفية وإشراكها فعليًا في الحياة العامة، ومزاولة حقوقها المدنية والسياسية. وأنشئ نظام الرائدات الريفيات في سنة 1964 في مختلف المحافظات وبدأ باختيار عناصر من خارج القرية فلم يحقق النجاح المطلوب لعدم مقدرة هذا العنصر على المعايشة اليومية لأهالي القرية ومشاكلها فبدأ الاعتماد على رائدات من الفلاحات بذات القرية من سنة 1973 وقد أسهمت تلك الخطوات في تغيير مركز المرأة في المجتمع الريفي وتغيير تلك العادات والتقاليد السلبية وتعديل تلك الصورة التقليدية للمرأة والتي ترتبط بأدوارها النمطية داخل الأسرة فقط.

جاءت الممارسة العملية في أول تجربة لاستعمال المرأة المصرية لحقوقها السياسية استنادًا لدستور 1956 وكانت التجربة معبرة عن طبيعة التحول والانتقال من عهد طويل كانت فيه المرأة محرومة من حقوقها السياسية ولم تتدرب على ممارستها. ومن المهم أن نحلل هذه التجربة الأولى؛ فعلى الرغم من النشاط الذي قامت به الهيئات والاتحادات النسائية لحث المواطنات المصريات على قيد أسمائهن في جداول الانتخابات بعد إقرار حق الانتخاب والترشيح للمرأة المصرية إلا أن الذي حدث أن المرأة لم تقبل على القيد بحماس إذ بلغ عدد من قيدن أسماءهن في جداول الانتخاب عام 1957 144.983 ناخبة في مقابل 9.575.692 ناخبًا. وقد تطور الموقف الخاص بإسهام المرأة المصرية في الحياة السياسية؛ فمنذ صدور دستور 1956 كان عدد النساء اللاتى مارسن حقهن الانتخابي صغيرًا نسبيًا وشغلت عضوتان فقط مقاعد في مجلس الأمة 1957 أول برلمان، ثم قفز هذا العدد في جداول انتخاب 1965 حتى وصل إلى ربع مليون ناخبة ثم تضاعف هذا العدد إلى نصف مليون في 1967 كما أصبحت ثماني سيدات يشغلن مقاعد من مجلس الأمة.

وقد ارتبط التطور والنمو الخاص بمنح المرأة المصرية حقوقها السياسية والخطوات التي تخطوها في مجال ممارسة هذه الحقوق وكفاحها في هذا السبيل بالتطور الخاص بحقوقها وممارستها للمهام والوظائف السياسية في الدولة. لذلك كان من الطبيعي أن يقترن شغل المرأة لمقاعد السلطة التشريعية بمساهمتها في مناصب الحكم في السلطة التنفيذية ومسئوليات التمثيل السياسي وأعباء العمل الخارجي فضلاً عن اشتراكها في السلطة القضائية.

وقد استمر في هذه الفترة نضال المرأة السياسي ضمن صفوف القوى الوطنية التي احتشدت لمواجهة تحديات تحرير الوطن والدفاع عن مشروع الثورة. ففي أعقاب العدوان الثلاثي أعيد إحياء تشكيل اللجنة النسائية للمقاومة الشعبية وقد ضمت اللجنة في تكوينها الجديد 18 لجنة فرعية في مختلف الأحياء الشعبية بالقاهرة والجيزة وعملت هذه اللجنة بالتعاون مع اللجان العامة للمقاومة الشعبية ومع معسكرات التدريب التي أنشأتها الحكومة بالقاهرة وفي جميع أنحاء مصر.

ونستطيع رصد تطور وضع المرأة في هذه الفترة في العديد من المجالات من خلال الملامح التالية: كون الاتحاد المصرى للعمال بعد تشكيله في سنة 1957 سكرتارية نسائية من بعض النقابات. انتخبت لأول مرة في تاريخ مصر الفلاحة أمينة عبد الحميد خلاف عضو مجلس إدارة الجمعية التعاونية الزراعية بميت طريق مركز السنبلاوين سنة 1957 كما تكونت أول نقابة عمالية نسائية هي النقابة العامة لمساعدات المولدات بوزارة الصحة. كما أنشئ اتحاد خريجات الجامعة، وفي نفس العام اختيرت النقابية عايدة فهمي، ولأول مرة في مصر تختار امرأة، لعضوية المجلس الاستشاري الأعلى للعمل والعمال.

كما تطور موقف القضاء من المرأة ليكون مواكبًا للتطور العام حيث رفضت إحدى الدوائر الاستئنافية سنة 1957 طلب وزارة التربية والتعليم الحكم لها بنفقات التعليم على إحدى المدرسات التي جرؤت وخالفت قوانين الوزارة وتزوجت واستندت المحكمة في حكمها إلى مبادئ الدستور الجديد التي تقضى بالمساواة بين الرجل والمرأة. وفي بداية سنة 1958 شهدت البلاد أول انتخابات شعبية سياسية تشارك فيها النساء للاتحاد القومي وهو أول تنظيم شعبي للثورةوأسفرت الانتخابات عن فوز 25 امرأة على مستوى مصر كلها وقد فازت إحدى السيدات بالمركز الأول في قائمة الفائزين العشرة، وتشكلت لجنة باسم لجنة المرأة على المستوى القومي.

في سنة 1963 تم تعيين أول وزيرة للشئون الاجتماعية د. حكمت أبو زيد وبإقرار دستور 1964 الذي يدعم مكاسب المرأة في المرحلة السابقة عليه تأتى انتخابات مجلس الشعب بثماني نائبات.

شهدت تلك المرحلة تنامي القوى المدافعة عن قضية المرأة حيث دخلت النساء مجالات عمل جديدة ومتنوعة في مجال الأدب والصحافة والنشاط السياسي في الاتحاد الاشتراكي ومنظمة الشباب. وفي مختلف المنظمات الجماهيرية تزايد عدد النساء وتقدمت مكانتهن في النشاط العملي، فلأول مرة في تاريخ بلادنا احتلت العاملات الزراعيات مركزاً قياديًا. وكانت من أهم الخطوات التي دعمت من مكانة المرأة في هذه الفترة تشكيل وحدات نسائية في جميع وحدات القطاع العام والحكومي والشركات الكبرى، الأمر الذي نقل الحركة النسائية إلى صفوف المؤسسات الإنتاجية الضخمة، وعزز مكانة المرأة بين العاملين فيها رجالاً ونساءً.

وبالنسبة للتنظيم السياسي الذي تم تشكيله بعد ذلك وهو الاتحاد الاشتراكي بلغت نسبة النساء العضوات 4.8% من مجموع أعضائه. وقد صدرت بعض التشريعات لتشجيع مساهمة المرأة في الاتحاد الاشتراكي حيث خصص لها مقعدان في كل وحدة أساسية، وفي المجالس المحلية عينت المرأة رئيسة في ثلاثة مجالس قرى في الدقهلية في سنة 1962 وشغلت عضوية القواعد الشعبية ومجالس المحافظات والمدن والقرى.

وعند تشكيل المؤتمر الوطني للقوى الشعبية في 1962 ضم 105 سيدات من 1550عضوًا وتحدث رئيس اللجنة التحضيرية للمؤتمر عن دور المرأة في المعركة وعدم وجود تنظيم نسائي يجمع أشلاءها المبعثرة.

أمل محمود: الأمينة العامة لملتقى الهيئات لتنمية المرأة بالقاهرة، ناشطة في مجال حقوق الإنسان والمرأة.

 

أميرة بهي الدين

إن هذا الحديث ليس تعقيبا بالمعنى الدقيق، إنما هو ملاحظات سريعة على الأوراق المقدمة بهذه الجلسة، أولاً بالنسبة لورقة أمينة النقاش، لاحظت أنها تبين موقف التيار الإسلامي الإخوان المسلمين من المرأة بناء على مواقف قديمة تاريخية كالاستشهاد بمواقف حسن البنا وزينب الغزالي، وكنت أتصور أنها ستحاول استكشاف مواقفهم الحديثة والمبينة بشكل واضح على مواقعهم الإلكترونية على شبكة الإنترنت عن طريق الأحاديث التي تدلى بها كوادرهم الحالية مثل جيهان الحلفاوى وأماني أبو الفضل وغيرهن، لكنها لم تفعل واكتفت بالرؤية التاريخية والمواقف القديمة.

لذا أقترح الاطلاع على مواقف الكوادر الحالية والصورة التي يقدمون أنفسهم بها للمجتمع مع ملاحظة أن التيار الإسلامي غير معنى بقضية المرأة أساسًا، لكنهم يضطرون لإعلان موقفهم منها بسبب الحصار المفروض عليهم من المجتمع والحركة النسائية خارجهم والغرب ومنظماته، ذلك الحصار فرض عليهم إعلان مواقفهم من المرأة، إلا أنهم في هذا الشأن يؤمنون بنظريةتكلم قليلا تخطىء قليلافتصدر عنهم كلمات قليلة لكنها كلمات متوارية حمالة أوجه غامضة قابلة للتفسير بأكثر من طريقة، مثلا بالدخول على موقع إسلام أون لاين نجد العديد من المقالات التي تبدو وكأنها مهتمة بالمرأة ومعنية بقضاياها لكن بالقراءة المتأنية تجد أنها لا تطرح أي مفهوم محدد. كنت أتمنى لو أن التيار الإسلامي يعلن عن قناعات واضحة بشأن المرأة أيا ما كان مضمون تلك القناعات حتى يتسنى للجميع مناقشتها قبولاً أو رفضًا لكنهم لا يفعلون.

فضلاً عن هذا فالواضح دائمًا حرصهم على التعامل مع المرأة باعتبارها الكائن الرقيق الذي ينبغي الحفاظ عليه ومحاصرته حرصا عليه:”طابور سيدات،عربات خاصة للسيدات في المترو ووسائل المواصلات، باعتبار أن المرأة هشة ناعمة عاجزة عن حماية نفسها.. . إلخ. وهذا كلام مستفز بل ويشكل اعتداءً على ملايين النساء العاملات في جميع المواقع والمناصب والأعمال، فالحماية الزائدة التي يطالبون بها للنساء إنما توضح النظرة الدونية التي ينظرون بها للنساء، والإطار الذي يرون النساء فيه !!!

من ناحية أخرى بالرجوع لمبادرة جماعة الإخوان المسلمين للإصلاح الداخلي في مصر، تلك المبادرة التي تم الاحتفاء بها باعتبارها البرنامج والرؤية المستحدثة لجماعة الإخوان المسلمين، وجدنا ذات الموقف من المرأة الذي أعلنت عنه جريدةآفاق عربيةبعد انتهاء المرحلة الثانية من انتخابات مجلس الشعب الأخيرة؛نحن مع عمل المرأة بما يتناسب وطبيعتهاولم يقولوا لنا ماهية تلك الطبيعة وما هي الأعمال التي تتناسب معها، وكانوا في ذلك مثل المشرع الدستوري الذي يأتي بأحكام مقيدة كمثلالحرية مكفولة بما لا يتعارض وأحكام القانونثم يأتى القانون ويقيد تلك الحركة المزعومة !!! هم قالوا نحن مع عمل المرأة في جميع المجالات بما لا يتعارض مع طبيعتها، لكنهم لم يوضحوا ماهية الطبيعة كما سلف القول، فيكون موقفهم المعلن حمال أوجه قابل للعديد من التفسيرات. لكن لأننا نرى مثلما قال صلاح جاهينالبنت زى الولد ماهيش كمالة عددفنحن نرى أن من حق النساء أن تعمل في جميع الوظائف والأعمال. أيضًا ورد في مبادرة الإصلاح عاشرا في مجال المرأة: (البند الخامس)”تضمين مناهج التعليم مع ما يتناسب مع طبيعة المرأة ودورهاولم يحددوا ما هو دورها، لكني أتصور أن قناعاتهم الحقيقية هي أن المرأة تابعة للرجل وأن الموقع الأساسي للمرأة هو المنزل وأن وظيفتها الأساسية هي تنشأة الأسرة، وهو ما يترتب عليه تضمين مناهج التعليم مع ما يتناسب وطبيعة المرأة ودورها واحتياجاتها على سبيل المثال اقتصاد منزلي وطبيخ وتفصيل إلخ. هذا فهمنا لحديثهم وقد قصدوا كما قلت سابقا عدم تحديد المفاهيم المعلنة منهم. أيضًا قالوا في مبادرة الإصلاحسادسًاالحرص على المرأة وصيانتها في كل مكان في وسائل الانتقال وفي أماكن العمل، ولم يحددوا معنى الصيانة وكيفية تنفيذها إلخ. لذا كنت أتصور أن تحاول أمينة النقاش – وهي أكثر مني اجتهادًا وبراعة – عند تحديدها لموقف التيار الإسلامي من المرأة أن تعود إلى إخوان أون لاين؛ مثلا د. أماني أبو الفضل – قدمتها إخوان أون لاين باعتبارها أستاذة جامعية ناشطة في مجال المرأة قالت إن تيارهم يرى أن مشاركة المرأة في العمل السياسي مهمة جدًا، مضيفةأن ذلك لا يعني ألا تكون هناك ضوابط شرعية تحكم تحركاتها وإلا تحولت إلى فوضى أخلاقيةثم شرحت ما تعنيه:”ثلاثة أشياء: 1 – احترام الزي الشرعي 2 – منع الخلوة 3 – مراعاة الآداب الإسلامية“.

وهذا الأمر يثير قضية مسكوت عنها، وهي المزايدة الدائمة على تديننا أو إسلامنا، إن ديننا وإسلامنا ليس مطروحا للمزايدة، ولا فهمنا للدين مطروحًا للمناقشة. وفي هذا الاطار فإن التعامل أو التنسيق مع نساء التيار الإسلامي، وهي الفكرة التي طرحها البعض منذ بداية المؤتمر، تستلزم من وجه نظري الاحترام المتبادل لكل طرف من حيث خياراته سواء الفكرية أو العملية أو ما يتعلق بملبسه أو زيه، لا يطالب أي طرف الطرف الآخر بتغيير زيه أو ملبسه بصرف النظر عن مدى قناعات كل منا بذلك الأمر. نحن على استعداد للتنسيق مع الإسلاميات بشرط واضح ومحدد أن يعلنّ بشكل واضح ومحدد مع التزامًا واضحًا مبدئيًا أنهن سيقفن معنا إذا ما استدعى الأمر دخولنا في معركة عدم فرض الحجاب على النساء السافرات. مثلما نقف معهن في حقهن بارتداء الحجاب. وإذا لم يكن ذلك في مقدرتهن، فإن المسافات بيننا تكون واسعة وتحتاج لنقاش مختلف قبل أن أن نتناول مسألة التنسيق.

أما ورقة الدكتور يسرى مصطفى فقد أسعدتني جدا، ذلك لأنها تصدت لإشكاليات العلاقة بين اليسار والمرأة. عندما انتمينا لعالم اليسار لم يكن هناك شيء اسمه حقوق المرأة. كانت هناك حقوق الشعب والانحياز للطبقات الفقيرة، كانت القضايا طبقية ووطنية، ليس فيها على الإطلاق حقوق المرأة: الزواج والطلاق والنفقة والاستقلال.. .. الخ. لم يكن الأمر مدرجا على أجندتنا أصلاً. لكن عندما هجمت التيارات الإسلامية ودائما ما تبدأ هجماتها بالحلقات الضعيفة – بدأت بالنساء، وقتها قرر اليسار أن يدافع عن المرأة باعتباره يدافع عن المجتمع وعن الحداثة وعن حقوق الإنسان. وأكبر دليل على ذلك ما قررته الأستاذة فريدة النقاش أمس حين قالتمرجعيتي حقوق الإنسان، وهو ما يتناقض مع كل المواقف التاريخية الثابتة لليسار والتي كانت تتعامل مع مثل هذا الحديث باعتبارهاستعماری امبریالی أمریكاني“. لكن الارتباك لحق بالجميع مما يلزم معه أن يقوم الجميع بإعادة ترتيب أولوياتهم. أنا فعلا أحييى د. يسرى لأن خطاب اليسار بشأن المرأة هو فعلا خطاب بلا هوية. عندما نتحدث عن النساء الفقيرات الفلاحات العاملات، فذلك لأن لهن قضايا طبقية، أما أنا كامرأة، حريتي وحقى وكتفى في كتفك والمساواة.. . إلخ، فلم يكن مطروحا على أجندة اليسار فقط، بل هو أمر مستحدث من ضمن المستحدثات.

يبقى التعقيب على كلمة أمل محمود.. أنا أوافقها بأن تجربة ثورة يوليوعلمت البنات ودفعت بالنساء إلى العمل ومنحتهن الحقوق السياسية، أعطتنا أول سفيرة وأول وزيرةتجربة يوليو – ونحن جميعا بناتها جعلت للنساء مكانًا واضحًا في الحيز العام للمجتمع، لكن في إطار الحيز الخاص إن صح التعبيروعلاقة الرجل بالمرأة والنفقة والمساواة لم تكن هناك جهود أو مناقشة على مستوى المجتمع. خروج النساء للعمل لم يصاحبه تغيير في فكر الرجل وفكر المجتمع بأن النساء يمارسن حقا وليس منحة من الرجل الأب أو الزوج.

أميرة بهي الدين: محامية.

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات