(عدم) الراحة والمعايير
من المهم التفكير في طريقة تأثير العلاقات الغيرية، ليس فقط على سلسة من المعايير والمثل العليا، ولكن أيضًا على المشاعر التي تتشكل بخصوص الأجساد وكذلك العوالم. معايير الغيرية هي استثمارات “يتم تبنيها” و”يتوارثها” الناس. وبالتالي فممارسة الغيرية الجنسية من خلال اتباع المعايير والسرديات المتوارثة بخصوص اختيار المرء لأن يحب بعض الأشياء – ورفض البعض الآخر – هو أيضًا استثمار في إعادة إنتاج الغيرية.
بالطبع، لا “يمارس” الشخص الغيرية ببساطة من خلال مجرد الشخص الذي يمارس معه الجنس أو من لا يمارسه معه. إن الغيرية تتجاوز هذا عبر ادعاءات قوية تتبنى سيناريو لحياة نموذجية، تفترض أن جميع الترتيبات ستتبع من ترتيب الزوجين: رجل/ امرأة. وبالتالي ليس من قبيل الصدفة أن تكون العلاقات الغيرية الإجبارية فعالة وقوية حتى في أكثر أنماط الحوارات الهامشية وغير الرسمية. كأن يسأل أحدهم الفتاة: “هل لديك صديق؟”، أو يسأل أحدهم الصبي: “هل لديك صديقة؟
شعر الكويريون/ات بالإرهاق من كثرة التصحيح والتغاضي. فالضغط الناتج عن هذا الإصرار، هذا الافتراض، وهذا التساؤل الذي يُطرح إما “للتجاوز” (لحظة مرور، ليست متاحة دائمًا) أو أشكال مباشرة أو غير مباشرة من الكشف عن الذات (ولكن في الواقع، هو هي أو هي هو، أو قول هي بدلًا من هو أو هو بدلًا من هي في أوقات الوضوح).
بغض النظر عن مدى كونك “خارجًا”، ومدى شعورك (غير) المريح، فإن لحظات الاستجواب تلك تتكرر بمرور الوقت، ويمكن اعتبارها إصابة جسدية. اللحظات التي تضع فيها الكويريون/ات على أنهم/ن فشلوا/ن في الارتقاء إلى مستوى “مرحب به” في إطار العلاقات الغيرية المتعارف عليها. الحياة اليومية للغيرية الإجبارية تستمد تأثيرها الفعال من خلال لحظات الاحتفال (الولادة، والزواج، والموت)، التي تربط العائلات معًا، وعبر الاستثمار المستمر في مشاعر الصداقة والرومانسية. بالطبع، هذه المشاعر متأصلة بعمق في الثقافة العامة وكذلك الخاصة.
تتكاثر القصص الرومانسية بين الجنسين كمسألة تهم الإنسان، كما تشير لورين بيرلانت ومايكل وارنر: “الغيرية الجنسية الوطنية” هو الآلية التي يمكن من خلالها تخيل الثقافة الوطنية الأساسية كمساحة طاهرة للمشاعر العاطفية” (بيرلانت ووارنر 2000: 313). يمكننا اعتبار تلك المساحة الطاهرة منطقة راحة، فاتباع المعيارية مريح لأولئك الذين يمكنهم العيش فيها. تشير كلمة “الراحة” إلى الرفاهية والرضا، ولكنها تشير أيضًا إلى السهولة واليسر.
إن اتباع قواعد الغيرية الجنسية يعني أن تكون مرتاحًا في عالم يعكس الزوجين باعتبارهما واحدًا كنموذج مثالي. بالطبع، يمكن أن يشعر المرء بعدم الارتياح لاتباع المثل الأعلى، يمكن أن يجد المرء عدم الراحة في وسائل الراحة نفسها. يمكن ألا يرتاح المرء لرؤية العلاقة الجنسية الغيرية كنموذج يمكن اتباعه أو عدم اتباعه، ويمكن أن ينبع عدم الارتياح من الامتيازات التي يحصل عليها الناس باتباع الغيرية الجنسية. لكن الراحة تبقى ويصعب ملاحظتها طالما نعيشها.
بعد أن عشت بشكل غير مريح في عالم الغيرية الجنسية لسنوات عديدة، أعرف هذا جيدًا. الآن، وأنا أعيش حياة كويرية، يمكنني التفكير في العديد من وسائل الراحة التي لم أبدأ حتى في ملاحظتها على الرغم من المضايقات “المحسوسة”. نحن لا نميل إلى ملاحظة ما هو مريح، حتى عندما نعتقد أننا نفعل ذلك. ومن ثم، فإن التفكير في الراحة هو دائمًا نقطة انطلاق مفيدة للتفكير. لذلك دعونا نفكر في الشعور بالراحة. لنفترض أنك تغرق في كرسي مريح. لاحظ أنني قمت بالفعل بنقل التأثير إلى شيء (“إنه مريح”). لكن الراحة تتعلق بالتناسب بين الجسد والشيء. فقد يكون الكرسي المريح بالنسبة لي عكس ذلك بالنسبة لك، بشكل جسدك المختلف. الراحة هي لقاء بين أكثر من جسد، وهو الوعد بشعور “الغوص”. بعد كل شيء، الألم أو عدم الراحة هو الذي يعيد انتباه المرء إلى سطح الجسد كجسد.
أن تكون مرتاحًا يعني أن تكون مرتاحًا للغاية مع بيئة المرء بحيث يصعب التمييز بين المكان الذي ينتهي فيه الجسد ويبدأ العالم. تشعر بأنك جزء لا يتجزأ، وبتلك الملائمة تختفي الأجساد عن الأنظار. إن اختفاء السطح أمر مفيد. في الشعور بالراحة، تمتد الأجساد إلى مساحات، وتمتد المساحات إلى أجساد. ينطوي الشعور بالغوص في الراحة على مساحة سلسة، أو مساحة لا يمكنك فيها رؤية “الغرز” بين الأجساد.
تعمل الغيرية كشكل من أشكال الراحة العامة من خلال السماح للأجساد بأن تمتد إلى المساحات التي اتخذت شكلها بالفعل. تعاش هذه المساحات بشكل مريح بقدر ما تسمح للأجساد بالملاءمة. لقد تأثرت بالفعل أسطح الفضاء الاجتماعي بشكل هذه الأجساد (مثل الكرسي الذي يكتسب شكله من خلال تكرار بعض الأجسام التي تجلس عليه) يمكننا تقريبًا رؤية شكل الأجساد على أنه “انطباعات” على السطح. تعمل الانطباعات التي تكتسبها الأسطح على أنها آثار للأجساد. يمكننا حتى رؤية هذه العملية في المساحات الاجتماعية. كما أشار جيل فالنتين: “يتم صبغ المساحات العامة والشوارع بالغيرية الجنسية من خلال تكرار أشكال مختلفة من السلوك الجنسي المغاير (الصور على اللوحات الإعلانية، والموسيقى التي يتم تشغيلها، وعروض العلاقة الحميمة بين الجنسين وما إلى ذلك)، وهي عملية تمر دون أن يلاحظها أحد من الغيريين/ات” (فالنتين 1996: 149).
إن أسطح الفضاء الاجتماعي والجسدي “تسجل” تكرار الأفعال، ومرور بعض الأجساد دون غيرها. وتصبح المعيارية الغيرية أيضًا شكلاً من أشكال الراحة. يشعر المرء بتحسن من الدفء الذي يواجهه العالم الذي استوعبه بالفعل. لا يلاحظ المرء هذا على أنه عالم تم تشكيله من قبل الناس وتوارثوه وتبنوه. قد لا يكون للمعايير طريقة في الاختفاء عن الأنظار فحسب، بل قد تكون أيضًا ما لا نشعر به بوعي. قد يشعر الكويريون/ات، عند مواجهتهم/ن بوسائل الراحة للغيرية الجنسية، بعدم الارتياح (لا يرتاح الجسد في الفضاء الذي اتخذ شكله بالفعل). الانزعاج هو شعور بالارتباك. يشعر المرء بجسده في غير مكانه، مربكًا، وغير مستقر. أعلم هذا الشعور جيدًا، الإحساس بالغربة والاغتراب يتضمن وعيًا حادًا بجسد المرء، والذي يظهر كسطح، عندما لا يستطيع المرء أن يعيش في الجلد الاجتماعي، الذي تشكله بعض الأجساد، وليس غيرها. علاوة على ذلك، قد يطلب منهم عدم جعل أصحاب الميول الغيرية يشعرون بعدم الارتياح من خلال تجنب عرض علامات الحميمية الكويرية، والتي في حد ذاتها شعور غير مريح وتقييد لما يمكن أن يفعله المرء بجسده وجسد الآخر في الفضاء الاجتماعي.
قد يعتمد توفر الراحة لبعض الأجساد على إخفاء الآخرين. قد تعمل الراحة كشكل من أشكال “الشهوة الجنسية”. يمكن أن “تتمتع” بعض الأجساد بالراحة، فقط نتيجة لعمل الآخرين، فيما يتم إخفاء العمل نفسه عن الأنظار. ومن ثم، ولأسباب وجيهة للغاية، تم تعريف نظرية الكوير ليس فقط على أنها مناهضة للمعايير الغيرية، ولكن أيضًا على أنها مناهضة للمعايير في المطلق. كما أشار تيم دين وكريستوفر لين، فإن نظرية الكوير: “تدافع عن سياسة تقوم على مقاومة جميع المعايير” (دين ولاين 2001: 7).
الأهم من ذلك، تشير المعيارية الغيرية إلى أكثر من مجرد افتراض أنه من الطبيعي أن تكون مغاير الجنس. لكنها آلية تنظيمية تدعمها “مثالية” تربط السلوك الجنسي بأشكال أخرى من السلوك. يمكننا أن نفكر –على سبيل المثال– في كيف أن تقييد موضوع الحب لا يتعلق ببساطة باستحسان أي اقتران بين الجنسين. يجب أن يكون الزوجان “متطابقين جيدًا” (حكم غالبًا ما يمارس الطبقية التقليدية والافتراضات العرقية حول أهمية “مطابقة” خلفيات الشركاء) ويجب أن يستبعدوا الآخرين من مجال العلاقة الجنسية الحميمة (إضفاء الطابع المثالي على الزواج الأحادي، ذلك غالبًا ما يساوي العلاقة الحميمة بحقوق الملكية). علاوة على ذلك، قد يقترب الاقتران بين الجنسين من المثل الأعلى فقط من خلال الحكم عليه من خلال الزواج، والمشاركة في طقوس التكاثر والأبوة الصالحة، وكونكم جيرانًا جيدين وكذلك محبين وأبوين صالحين، وحتى من خلال كونهم مواطنين أفضل.
تتضمن الثقافة المعيارية بهذه الطريقة، التمييز بين طرق العيش المشروعة وغير المشروعة، حيث يُفترض أن الحفاظ على ما هو شرعي (الحياة كما نعرفها) ضروري لرفاهية الجيل القادم. تنطوي المعيارية الغيرية على إعادة إنتاج الثقافة أو نقلها من خلال الطريقة التي يعيش بها المرء حياته فيما يتعلق بالآخرين.
بالنسبة لمنظري الكوير، من المهم إذن ألا تتبع حياتهم نصوص الثقافة المعيارية الغيرية. فهم لا يصبحون في مصطلح “جوديث هالبرستام” الاستفزازي والمقنع، قادرون على “التجانس مع المعايير “. (هالبرستام 2003: 331).
مثل هذه الأرواح لا ترغب في الحصول على تلك الراحة. فهم سيحافظون على عدم ارتياحهم لجميع جوانب الثقافة المعيارية التي تقرر كيفية عيشهم. من الناحية المثالية، لن يكون لديهم عائلات، أو يتزوجوا، أو يستقروا في أزواج، أو ينجبوا أطفالًا ويربونهم، أو ينضموا إلى حراسة الأحياء، أو يصلوا من أجل الأمة في أوقات الحرب. كل من هذه الأفعال “يدعم” المُثل التي تنص على نمط حياة، يعتبر الكوير فاشلون وغير قابلين للعيش في المقام الأول. يُطلق على التطلع إلى مُثل السلوك التي تعتبر التكاثر محوريًا في المعيارية الغيرية، شكلاً من أشكال الاستيعاب.
على سبيل المثال يقول أندرو سوليفان في كتابه “Virtually Normal” “الطبيعي الافتراضي” بأن معظم المثليين يريدون أن يكونوا طبيعيين، وأن كون الشخص مثليًا لا يعني أن تكون غير طبيعي، حتى لو لم يكن الشخص طبيعيًا تمامًا مثل الشخص الغيري (لإعادة صياغة هومي بهابها، “طبيعي تقريبًا، لكن ليس تمامًا”). لذا فهو يقترح أنه يمكن للمرء أن يطمح إلى الحصول على حياة الغيريين دون أن يكون غيريًا. سيكون الاختلاف الوحيد هو اختيار موضوع الحب. على حد تعبيره: “من الممكن تمامًا الجمع بين الاحتفال بالعائلة التقليدية والاحتفال بعلاقة مثلية مستقرة أيضًا”. النموذج الأول على غرار الآخر، إذا تم بناؤه بعناية كأيديولوجية اجتماعية محافظة، فإن فكرة العلاقات المثلية المستقرة قد تعمل حتى على دعم أخلاقيات الزواج الغيري، من خلال إظهار كيف يمكن حتى لأولئك المستبعدين منه أن يرغبوا في أن يصمموا أنفسهم على شكله وبنيته (سوليفان 1996: 112).
هنا، يتم تقدير علاقات المثليين/ات والاحتفاء بها بقدر ما يتم “تشكيلها” وفقًا للنموذج التقليدي للعائلة الغيرية. في الواقع، يعرّف سوليفان مشروعه صراحةً على أنه وسيلة لدعم وتوسيع المثل الأعلى للأسرة من خلال إظهار كيف يسعى أولئك الذين “ليسوا أسرة” إلى “أن يصبحوا”. وبالتالي، تتعهد العلاقات المثلية، من خلال تقليد أشكال الاقتران بين الجنسين، بالولاء للأشكال التي لا يمكنهم العيش فيها.
هذا التقليد، كما أشار دوجلاس كريمب (2002)، هو وسيلة للحفاظ على الظروف النفسية الكئيبة بقدر ما يعرّف سوليفان بما لا يستطيع أن يكون، ومع ما رفضه بالفعل. وكما لاحظ كريمب، فإن سوليفان “غير قادر على التعرف على استعصاء رهاب المثلية الجنسية؛ لأن حزنه يتألف على وجه التحديد من تعريفه برفض المثلية الجنسية له” (كريمب 2002: 6).
ينطوي الاستيعاب على رغبة في تقريب نموذج قد فشل بالفعل، وتم تحديد وتصنيف البعض كفاشلين. من الواضح أن اختيار الاستيعاب –بشرة غريبة، وأقنعة غيرية– يدور حول دعم عنف تمييز المعيارية الغيرية بين الحياة المشروعة وغير المشروعة. كما أشارت جوديث بتلر، فإن إحدى أكبر المشاكل في حملات زواج المثليين، هي على وجه التحديد الطريقة التي قد تعزز بها التسلسل الهرمي بين الحياة المشروعة وغير المشروعة، بدلاً من التسلسل الهرمي القائم على التمييز بين المثليين والغيريين، فإنه ينزاح إلى تمييز جديد بين العلاقات الأكثر شرعية والأقل شرعية (بتلر 2002: 18). كما تسأل، هل يصبح زواج المثليين “خيارًا” فقط من خلال توسيع نطاق نفسه كمعيار (وبالتالي منع الخيارات)، وهو معيار يوسع أيضًا علاقات الملكية ويجعل الأشكال الاجتماعية للجنس “أكثر تحفظًا”؟ (بتلر 2002: 21).
بعبارة أخرى، إذا امتدت بعض حقوق الغيرية الجنسية للكوير، فماذا يحدث للكوير الذين لا يمارسون هذه الحقوق، الذين لا يمكن ترجمة اختياراتهم الحياتية ورغباتهم الجنسية إلى شكل زواج، حتى عندما يفرغون من نذرها على الاقتران مع الطرف الآخر؟ هل هؤلاء الكويريون/ات (غير المتزوجين/ات) يصبحون غير الشرعيين/ات في مواجهة “الشرعيين/ات” الذين يؤيدون الزواج؟
بالطبع، تظل مسألة زواج المثليين/ات معضلة سياسية. إن عدم دعم توسيع نطاق حق الزواج ليشمل علاقات المثليين/ات يمكن أن يدعم الوضع الراهن، الذي يحافظ على التمييز بين الحياة المشروعة وغير المشروعة على أساس التوجه الجنسي. كما توضح جوديث بتلر (2002) بأن التكاليف الاجتماعية والنفسية لعدم الاعتراف بعلاقة المرء من قبل الآخرين (سواء كان الاعتراف يحدده القانون أم لا) كبيرة للغاية خاصة في حالات الخسارة والفجيعة.
أريد الدخول في هذا النقاش من خلال التفكير في كيفية الطعن في الاختيار السياسي المتمثل في كون الشخص كويرًا أو غيريًا (أو كويرًا مندمجًا). تعترض بتلر نفسها على الاختيار من خلال تبني موقف التناقض. وبينما أدرك قيمة هذا التناقض، أود أن أقترح أن المزيد من التفكير في ارتباطات الكوير، قد يسمح لنا بتجنب افتراض الاستيعاب أو التجاوز كخيارات.