مفرط في العاديّة

الشركاء: اختيار

أكتب ربما لأن روحي معطوبة لا أدري!

أو ربما اكتشف أنها لم تكن معطوبة بهذا القدر.

أريد أن أكتب عن كل الأشياء التي لا تستخدم فيها كلمة نضال، قضاياأو معاركأسعى أن اكتب عن تفاصيل الحياة المفرطة في العادية، عن تجربتي الأولى في السفر، عن قرارٍ اتخذته ذات ليل ومنحته متنفسًا في الصباح. عن رغبتي في عدم الإقامة بفندق واختيار عشوائي محبب للقلب لشخصية افتراضية على كوكب الفيس بوك, التقيها, تتطوع مشكورة بمنحي هدية المبيت, أتلقى سخاءها الإنساني بترحاب، وألقي بنفسي في التجريب حتى نهايته. أود أن أكتب عن لحظة سيري في مدينة أجهلها للغاية. لحظة افتقادي بيت أمي بالرغم من قراري الواعي بمغادرته, أريد أن أكتب عن رسائل سرية نتبادلها في الخفاء على إحدانا تجد طريقها نحو الأخرى, على كلانا نتعافي حين نجد نهاية الحكاية لم ترو كاملة بعد. سأحتفظ برسائل أمي السرية، وسأتشارك رسائلي معك, كلانا عالق في علاقة شائكة نحاول التخلص من جنينها للمرة السابعة عشر بلا أي أمل لا في بقاء أمل أو تخلٍ أبدي, ينهار كل شيء حين تنير لمبة حاسوبي باللون الأخضر حاملة كلمة واحدة منك إزيك !!” ينهار كل شيء أعددته سابقًا, فاختصر آلاف الأميال من الزيف والتصنع وأكتب إليك هات بوسة“.

أريد أن أكتب عن اكتشافاتي اليومية الصغيرة في ملء فراغ الروح بدءًا من إدعاء المرح المبالغ به على صفحات الفيس بوك ونهاية باختياري الواعي أن أفني نفسي تمامًا في مهنة تستلزم مني أكثر من اثنتي عشرة ساعة متواصلة لأصل إلى ما أنا عليه, لأثبت أني جديرة به في عالم الماكينة الأعظم، ومرورًا بكل العابرين الذين أفسح لهم مكانًا ليعبروا فوقي. أريد أن أكتب لماذا أفعل ذلك؟ لماذا أسمح بحدوث ذلك ؟!

أريد أن أكتب عن كل ما لا يهم الشأن العام لربما سأنفمر بكليتي في كتابة وتفنيد وتحليل وضبط زوايا كيف تتكاثر الزرافات في محميات تنزانيا الشاسعة.

أريد أن أكتب شيئًا عاديًا تمامًا, ولربما يبدو تافهًا. لم يكن لدي أي من الجدات لتقص على مسامعي حكايا قبل النوم، ولم تخبرني أمي سوى حدوتة وحيدة عن طائر يُدعى نقار الخشبقادر على التهام كل من تخلف عن النوم في الموعد المحدد. أريد أن أكتب كثيرًا عنه, وعن كشفي الأول أني قضيت ليلة مدرسية كاملة بانتظاره وحين لم يأتي ذهبت إلى المدرسة لأسقط نائمة في حصة أستاذ رمضان للغة العربية, لم يخيفني نقار الخشب, لكن أستاذ رمضان الذي لا يتورع عن استخدام يديه وقدميه لتأديبنا أخافني كثيرًا. أريد أن أكتب كثيرًا عما يخيفني, لا أعرفه على وجه الدقة لكني سأمنحه متسعًا وسأطمئن مخاوفي لكي تطرح نفسها كما هي.

أريد أن أكتب لأفهم لماذا شعرت بالانجذاب الجسدي لذلك الرجل الجالس أمامي للمرة الأولى, كيف قفز إلى رأسي هاجسٌ بضرورة تقبيله على الرغم من أسنانه المنهكة وشفتيه اللتان تشيان برائحة المشروب. أبحث بسرعة الصاروخ داخلي عن أي اتيكيت أخلاقي يردعني من القيام على الفور وتقبيله عله يتوقف عن إلقاء نكاته السمجة, لربما حين أكتب عن ذلك سأكون أكثر شجاعة في الواقع مما أنا عليه على الورق. حين ألتقيه ثانية وسأعمل جاهدة ألا يحدث سأقبله و سأنقل إليه فيروس روحي المعطوبة لست موقنة.

الكتابة تفتح لي ذراعيها لأركض نحوها وأتخلى عن عتمتي.

علمتني أمي كيف أقضي حاجتي

كيف أضم ساقاي حين أجلس وأشد طرف ثوبي فلا تستبين ركبتاي

كيف أكف عن ترديد السباب فلست بحاجة لأبدو كصبي

غير أني لا أعرف عالمًا آخر سوى عالم أخوي.

كيف أصبح ناجحة في العمل بالمزيد من العمل وتقوى الله

لم تعلمني أمي الصلاة

لم تعلمني أمي الكتابة

لم تعلمني كيف أعبر الألم حين يقض مضجعي.

يكتب أبي في أوراق سرية أحفظها عن ظهر قلب.

يرص الحرف بجوار الحرف لأن هناك شيئاً يأكل روحه من الداخل

ويستعصي عليه أن يصفه للآخرين

الكتابة تمنحه ملاذًا آمنًا

علمتني أمي ألا أشبه أبي.

ما يؤرقني أن فعل الكتابة ليس فعل امتلاء كما ظننت يومًا. من السهل أن أفتح شاشة اللابتوب وأستجيب لغواية الصفحات البيضاء، انهمك بكليتي في رص الكلمات بجوار بعضها البعض. الكتابة أقرب لي كفعل خلق الفجوات بين كل ما ظننته يومًا امتلاءًا. تلمُسي الحياة العادية يعيد تأريخ العالم في رأسي, كنت أظنه ممتلئًا بمعارك ضارية يتوجب علي أن أنخرط في إحداها لكي استمد قيمتي وأعلن عن وجودي الإنساني. لكن ماذا لو لم يكن الأمر كذلك؟

ما يؤرقني هو عماذا أكتب, كيف أحول كل ما يجلس ساكنًا أمامي من صفحات بيضاء, متسع من الوقت, مهارة ملحوظة في تركيب الكلمات واللعب بها, كيف أجعل من كل ذلك فصلاً دراسيًا أمارس فيه عملي كمعلمة تخبر تلاميذها عن العالم بينما ينصت لها الآخرون بعيون تتسع دهشة. ما العالم الذي أريد أن أكتب عنه؟ ما جدوى أن أكتب عن العالم دون أن تستطيل رقبتي لأنظر إلى عالم بالكامل يقبع داخلي. كيف أمنح العالم بعضًا مني, إذا لم أمنح عالميكل ما يعتمل بقلبي.

الكتابة بالنسبة لي هي الفعل الأوحد الذي يُمكنُني من الانكفاء على ذاتي, وأن أعيد تفكيك عالمي, لربما إفراطه في العادية يخبرني عن حقيقة كل الأشياء التي يبدو أني أمسكها في راحتي يدي, ثم تنسل مني كمياه تعود إلى نهر يجري بعيدًا عني.

استحضر يوم تخرجي, حين صعدت إلى المسرح مرتدية أفخر الثياب, يحركني وهم أن هناك جمهورًا غفيرًا ينتظر تلك اللحظة الحاسمة, لحظة أن تطأ قدمي الكريمتين المسرح لأتسلم ورقة مختومةلا تختلف كثيرًا عن مائتين ورقة سيتم تسليمها لمن يقفون خلفي في طابور يمتد عبر السنين. تسلل الوهم إلى مسام جلدي فانتابتني القشعريرة من قداسة اللحظة, وإذا فجأة ينكسر كعب حذائي الذي حرصت أن ارتديه أول مرة ليبدو كل شيء مثاليًا. ينادون اسمي في ميكرفون الحدث، أقف أحمل فردة حذاء لا أمل في تصليحها, وهم الشهرة يتساقط,

أدرك تلك اللحظة أني لم أعد طفلة أبي الاستثنائية وأنه بات لزامًا علي العبور نحو العالم بقدم واحدة, يتم تخليد المشهد الذي تحول لحدث فكاهي: شابة تتقدم بخطوات راقصة لتسلم شهادتها فتفجر الضحكات في الجو الأكاديمي المحافظ . أعيد النظر إلى الصورة مراراً, أخطو فوق مرارة أني لم أعد طفلة أبي الاستثنائية وأن العالم ينتظرني بلهفة فاتحًا ذراعيه, أعيد طهو كل شيء وأتلذذ بالمرور فوق كل الأشياء مفرطة العادية: مسام بشرتي الواسعة التي تشبه البرتقالة، الخط النافر المجاور لفمي الذي يشي بابتسامات منحتها مجانًا في سنوات البهجة الأولى, أظافر يدي التي تشبه أظافر أبي الراحل، الكدمة الزرقاء على عنقي كتوقيع للمحبة العابرة, ساقاي اللتان تكتشفان عالم كرة القدم للمرة الأولى بشبق, رأسي الذي يعج بأفكار تتقافز مثل حبات فشار تم طهوها للتو, نظرة حارس البناية المرتابة والموشومة بأعلى مؤخرتي حيث تليق, المحادثة اليومية مع السائق لكي يصل إلي في أقل قدر ممكن من إهدار الوقت ثم الخيبة المعتادة, التلويح لسائقي الميكروباصات في نهاية الشارع أني سأحاول جاهدة أن أعود للمنزل قبل أن يحل الظلام فلا أصبح فريسة مشتهاة لإعلانهم الذكوري المفرط, التأكد أن ملابسي لا تنحشر بين آليتي فأبدو مدعاة للسخرية في اجتماع المؤسسة العاجل, الانهماك في إبداء التأييد لكل الحديث الهرائي الذي نعيد إنتاجه وتخزينه بين دفتي ملفات حرصنا على أن نبتاعها بألوان مختلفة. انتظار لحظة أن تعلن معدتي عن حاجتي لتناول طعام ثم الانخراط في تأنيب الذات لأني لا أحصل على طعام صحي ومعاودة التفكير تارة أخرى في إمكانية أن أتحول إلى نظام غذائي آخر وينتهي بي المطاف بقرار مؤجل أن أتحول شجرة, البحث عن رجل اشتهيه لا تفوح منه رائحة الخيبة, ملء فراغات اليوم بكل ما من شأنه أن يبدو نافعًاو خلاقًابينما تعتمل في صدري الرغبة في الضحك من لا جدوى أي شيء, التأكد من العودة للمنزل لكي اختار مكانًا استثنائيًا على الأريكة, التخلي عن حمالة الصدر فور الولوج للمنزل, الحرص على أن ينتهي اليوم بتناول طبق أرز بلبن داومت على ابتياعه من أحد محلات الكشري في طريق عودتي للمنزل, عندما ينتهي يومٌ مفرط في العادية كسائر الأيام.

شارك:

اصدارات متعلقة

عيد الأم ما بين الاحتفاء بقيمة الأمومة و ترسيخ الدور النمطي للنساء
خدمات الصحة الجنسية فيما بعد سن الإنجاب ضرورة لتمكين النساء
ختان الإناث في مصر... جريمة تعذيب ضد الإنسانية
حقوق النساء من اجل العدالة والتنمية
الإيدز خطر صامت يهدد حياة النساء في ظل جائحة كورونا
إشكاليات التقاضى فى جريمة التحرش الجنسي
أسئلة وأجوبة بشأن الوقاية من كوفيد 19 ومكافحتها للعاملين /ات في مجال الرعاية الصحية
الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان