ملاحظات حول الجنسانية الأنثوية

تاريخ النشر:

2016

اعداد بواسطة:

ملاحظات حول الجنسانية الأنثوية*

المرحلة الأوديبية الأساسية: الإغواء والغزو

ذكر كثير من الكتاب، ومن بينهم فرويد، أن التطور النفس جنسي للأنثى يتضمن صيغتين من عقدة أوديب، وأنا أرغب الآن في أن أتقدم بتفسير معدل لذلك.

المرحلة الأولى، من الولادة إلى ما نطلق عليه المرحلة القضيبية، تبدأ ما بين العام الثالث والسادس من العمر وسوف أطلق عليها اسم المرحلة الأوديبية الأساسية. صحيح إن فرويد (Freud 1923) في أعماله الأخيرة عن الجنسانية الأنثوية، يؤكد على ما يعرف عمومًا باسم الأحادية القضيبية (Phallic Monism): “إن الخاصية الأساسية لهذا التنظيم التناسلي الطفولي هي أن هناك عضو تناسلي واحد يؤخذ في الاعتبار، هو العضو الذكوري. ما نحن بصدده إذن ليس أولية الأعضاء التناسلية وإنما أولية القضيب” (ص١٤٢). بمعنى آخر، ومن المنظور الجسدي بداخل كل طفل ذكورة متأصلة بغض النظر عن جنسه التشريحي – فالفتاة الصغيرة هي رجل صغير. “هذه البديهية المقررة، التي اعتبرت في البداية مؤشرًا للجنسانية (sexuality) الطفولية (وليس البالغة) أو للخيال، تيرز هنا أخيرًا بقلم فرويد كحقيقة لا شك فيها لكل أنواع الجنسانية.

مع ذلك، في كتاباته الأخيرة يكشف فرويد (Freud 1931) عن التصاق خاص وعلاقة قوية بين الفتاة الصغيرة وأمها وهي علاقة لا يتيسر تناولها بالتحليل لكونها متحوصلة داخل الخبرة الحسية ما قبل اللفظية، التي يشبهها مؤسس التحليل النفسي بحضارة كريت القديمة ” (ص٢٢٦). إنها تشكل الأساس للثنائية الجنسية النفسية التي تبرز على السطح بشكل أوضح بين النساء عنها بين الرجال” (ص۲۲۸). لكن لاكان (Lacan 1966) الذي يؤكد بقوة على أولية القضيبفي دعم الوظيفة الرمزيةواسم الأب في التنظيم النفسي للفرد من الجنسين، يعلق سريعًا بأن الغريزة الأموميةهي جزء من الجنسانية الأنثوية التي لا يمكن تلخيصها من خلال التحليل لأنها تراوغ في إدراك سطوة الأولية القضيبية.

أخيرًا، وعلى أساس من الملاحظات الإكلينيكية المعاصرة، فقد اقترح عدد من المحللين النفسيين إن النضوج المبكر للإنسان يعرض الطفل لتدخل البالغين، خاصة الأم، وأن ذلك ما يحمل جذور الجنسانية الطفولية. إن الطبيعة الحمائية للاعتماد العاطفي على الوالدية لا تجعلها بأي حال أقل إغواء: ففي البداية تتطور الجنسانية الطفولية تحت تأثير تلك المؤشرات المبهمةخاصة الأمومية منها لابلانش (Laplanche 1987, 125). إن تلك المؤشرات تطبع العقل اللاواعي للأم على المناطق المثيرة للشهوة الجنسية لدى الطفل بالتوازي مع الرابطة الجنسية التي تربطها بالأب وبالعقل اللاواعي للأب ذاته. إن تلك الإثارة التشاركية الأولى بين الأم والطفل تبدو بذلك بعيدة عن النماذج الأسطورية لحضارة كريت القديمة التي يستحضرها فرويد، أو عن صفاء الكينونةالسابقة على السلوك المرتبط بالبواعث الذي وصفه وينيكوت (Winnicott). إن الجنسانية الطفولية، التي هي ليست بجنسانية الغرائز وإنما جنسانية البواعث، باعتبارها تكوينات نفسجسدية ونتيجة للبيولوجيا والمعنى، هذه الجنسانية تتكون من البداية في تفاعل الطفل حديث الولادة مع كل من والديه وتحت هيمنة الإغراء الأمومي. إن واقع كون الأم هي من يتولى رعاية الطفل، ومن ثم تصبح أداة الاقتحام اللاواعي لا يحول دون رغبتها الأنثوية في الأب (والد الطفل أو والدها هي ذاتها)، أو دون أن تصبح أفعال والد الطفل وحديثه هي الوسيلة التي يلعب بها الأب دورًا من البداية كفاعل في وضع تلك البصمة الأولى، سواء بالنسبة للفتاة أو للفتى، وبشكل مختلف تبعًا لجنس الطفل.

إن الطفل الذي يسمح بأن يكون موضوعًا للإغراء ويغوي بدوره بواسطة جلده وحواسه الخمس، هذا الطفل يتفاعل من خلال فتحات جسمه ذاتها – أي بواسطة الفم والشرج والمهبل في حالة الفتاة الصغيرة. في العادة لا يكون ذلك العضو الأنثوي موضوعًا للإغراء، لكنه من الصعب من أن نتخيل أنه يجب أن يغلف بالغشاء عديم الحساسية الوحيد، كما اقترح فرويد (Freud 1905a) بشكل غريب ودون حذر في تشبيهه بالخشب الصلب” hard wood)) (ص221) – إلا إذا كان لعدم الحساسية ذاك وظيفة دفاعية. إن مؤسس التحليل النفسي مصيب حين يشير إلى غياب أي تمثيل للمهبل في اللاوعي لدى كل من الجنسين، حيث لا يتعدى كونه غورًا أو تجويفًا ملحقًا بالشرج، على حد تعبير لو أندرياس سالومي” (1980, 107 Lou Andreas-Salome). لكن، ألا يصعب هذا القصور البصري بالذات من فهم ممثل الإثارة الكهفية – خاصة المهبلية – وأثرها على وحدة ذلك الكيان في المستقبل؟

الجنسانية في حضارة كريت القديمة تجد جذورها في كيان جنسي، المتعدد الأشكال والعنيد، يمهد للكيان المخترق للمرأة. طوال تلك المرحلة الأولى من التشكل الجنسي للنفس، تكون الجنسانية الخاصة بالمرحلة الأوديبية الأولى، المهملة من قبل علاقة الإغواء بين الأم والأب، مهما كانت سلبيتها، تكون رغم ذلك تفاعلية وايجابية، كما يتضح بعدوانية إخراج البراز والتعبيرات الصوتية والإيمائية. في حالة الفتى، تضاف الإثارة القضيبية (المكثفة فيما بعد في المرحلة القضيبية) إلى هذا الطيف المركب من ردود الفعل الناجمة عن ذلك الغزوالإغراء الأصلي والذي يمثل الأساس ويشكل الحالة الأنثويةبالنسبة للذكر. هذه الحالة تبقى مميزة لجنسانية الرجل، خاصة فيما يتعلق برغبته في الامتلاك الفمي والشرجي لقضيب والده وفي تحطيمه في ثدي الأم، الذي يتخيله محتويًا لذلك القضيب، الخ.

 

في حالة الفتاة تتضمن المرحلة الأوديبية الأولى بعض الالتباسات الأكثر تعقيدًا، حيث الأنا الجلدي” (Anzieu 1985) والأنا الثقبييستسلمان لعملية الإغراء والسلبية التي تجمع في نفس الوقت ما بين النرجسية والمازوخية، بتنفيسها السادي التهام الثدي مع القضيب، وإمطاره بالبراز، الخ. كذلك فإن الإثارة البظرية، التي تختلف من شخص إلى آخر، وهي بطبيعة الحال أقل حدة من الإثارة القضيبية، تعبأ رغم ذلك من أجل توجيه الفتاة نحو الامتلاك الإيجابي للموضوع الأول الذي تم تحديده بواسطة لاوعي الأم الإغوائية. لكن هذا النشاط الانتصابي يبدو أنه يتنكر بشدة، بل وتتجاوزه، الإثارة الثقبية والمشاركة الشبقية لفتحات الجسد الفميةالشرجيةالمهبلية في الاتصال المبكر مع الأم. على حين أن كارل أبراهام (Karl Abraham) ومن بعده ميلاني كلاين (Melanie Klein) والمدرسة الإنجليزية يؤكدون على وجود عنصر مبكر مرتبط بالأنثوية المهبليةالشرجية في المرحلة الأوديبية، خاصة بالنسبة للفتاة، فإن فرويد (Freud 1905bb) يشير إلى ذلك نادرًا، على سبيل المثال في حالة دورا (Dora). وكما يلاحظ جاك أندريه (Jacques Andre 1995) فإنه لأمر شديد الدلالة أن يصدر ذلك النص معاصرًا مع تحليل فرويد لابنته أنّا (Anna) (ص 54). لقد كانت تلك في الحقيقة فرصة استثنائية لمحلل نفسي، كرجل وأب، أن يواجه الإغراء المبكر للفتاة الصغيرة من قبل أبيها. إن هذه التعبئة المهبلية القوية، مثل الإثارة البظرية للفتاة الصغيرة، تحدد جنوستها المبكرة كجنسانية ثنائية نفسية تجمع في نفس الوقت ما بين السلبية والايجابية. ان هذه الجنسانية الثنائية تكون أشد في الفتاة عنها في الفتى.

الأهم من ذلك، إن ما يكشفه المنظور، وكما يؤكد علاج بعض النساء البالغات، هو أن المرحلة الأوديبية الأولى، مع تحديدها للأعراض الدفاعية، ليست محكومة بالسلبية البسيطة فحسب وإنما، وبدرجة أكبر ومتجاوزة لذلك، من خلال إدراج ذاتية تفاعلية، لا تأخذها ثنائية الإيجابيةالسلبية في الاعتبار بالدرجة الكافية. إن الاقتحام الثقبي لا يعوضه الإثارة البظرية فحسب وإنما أيضًا البلورة المبكرة لصلة تماهي واستدماج مع الموضوع الاغرائي المقتحم المتمثل في الأم (من حيث تكون هي أيضًا موصلة لرغبة الأب).

هكذا تقوم القناة استدماجيًا بغرس الأم المغرية بداخلها: بذلك يتحول تجويف الجسد الداخلي إلى تمثل باطني. ومن هنا تبدأ عملية بطيئة وطويلة المدى من التحولية النفسية، التي تشتد فيما بعد في المرحلة الأوديبية الثانوية حيث تميل الفتاة إلى تفضيل التمثيل والتمثل النفسي أو المحب على الإثارة الشبقية. لكن هذه العملية الخاصة بالتحولية النفسية الأنثوية تواجه الصعوبات من خلال التماهي مع أداة الإغواء الوالدي وهو تماه يدعمه التشابه بين الفتاة والأم وكذلك اسقاط النرجسية والاكتئابية الأمومية على الفتاة.

بالنسبة للفتاة تنبع هذه العملية جزئيًا من التحولية النفسية المبكرة للموضوع الذي يستدمجه الأنا الشاب للفتاة من خلال التماهي وكذلك جزئيًا من خلال ذلك التماهي مع الأم اضافة الى خلق صلة حقيقية من التملك والاعتمادية مع نفس الموضوع. هكذا تستقر الإثارة الكهفية للفتاة الصغيرة والحالة الباطنية النفسية المصاحبة لها من خلال التعلق بالموضوع الخارجي الحقيقي. بمعنى آخر، فإن الحقيقة الحسية للموضوع والوجود الحقيقي للأم هما أمران ضروريان للتعويض عن اقتحام الجسد الكهفي والاستدماج النفسي النشطان طوال الوقت. ان ذلك الاحتياج الحقيقي للتواصل يتعلق بمكان مثل الباطني الكهفي، مطالبًا بمكافأة خيالية، غير قابلة للاشباع، من المتع الفمية والشرجية والمهبلية التي تعيشها الفتاة الصغيرة أكثر مما تأخذها. هذه الصلة بين الفتاة الصغيرة بموضوعها الأمومي يوازيها في نفس الوقت ارتباط الأم بطفلتها الرضيعة. بدلاً من أن تتعامل مع ابنتها باعتبارها بديل عن القضيب، مثلما هو الحال عمومًا مع الصبي، تسقط الأم خيالها النرجسي وميولها المازوخية والاكتئابية الكامنة لتتناغم مع المتع الثقبية للقناة الصغيرة.

إن المتاح للمرحلة الأوديبية الأوليةاقتحام وإخضاع الجسد الثقبي بواسطة الآخر، والعدوانية تجاه الامتلاك الفمي والشرجي والبظري للآخر والتعويض من خلال الشحن النفسي للموضوع الذي يخلق اعتماد مبكرًا على باطن الموضوعهذا المتاح ثبت أنه أكثر شدة في حالة الفتاة الصغيرة عنه في المرحلة الأوديبية المتكافئة للصبي. بسبب الفروق التشريحية بين الجنسين ولأسباب تاريخية وثقافية مختلفة لتأرجح الإغواء الوالدي فيما يخص الجنس الآخر، فان المرحلة الأوديبية الأولية في حالة الفتاة تنقلها إلى مرحلة ارتقائية تالية أكثر هشاشة وتعقيدًا عنها في حالة الصبي. الفتاة أكثر عرضة لأن تصبح سلبية. ذلك لأن الإثارة البظرية لا تلغي المتعة الثقبية، وذلك على العكس من الصبي، حيث يفترض في القضيبية أن تتجاوز الاستقبالية الفمية والشرجية، حتى وإن لم تمحها تمامًا. لكن الفتاة الصغيرة يبدو وكأنها تحصل على حماية أكثر بسبب تكوين الباطنية المبكرة حيث استدماج الآخر (الأم كوسيط للأب) المنقول من خلال التماهي بين الفتاة والأم، يحول ذلك الآخر الأمومي إلى موضوع لا غني عنه. إن ذلك يحدث في ظل وجود حيوي لصلة ما بآخرين، تستشعرها القناة كاحتياج حاضر ومترقب، مثل دراسة تحضيرية لرغبة تنمو وتصان في ظل الواقع الخارجي، تتحمل الضرورة المطلقة للجنسانية النفسية للأنثى.

بمعنى آخر، إن اعتماد القناة الصغيرة على حب أمها يحضرها مباشرة لتمثل موضوع المرأة المثير للشهوة الجنسية، حيث أنه نادرًا ما يكون ذلك الموضوع شريكًافي الرغبة، فان موضوع المرأة غالبًا ما يكون حبيبًاتتوقع منه أن يفهمها كما لو كان أمها. هذه الصلة النفسية التي ترغب الحبيبة في أن تكون لها معه ليست قابلة للمبادلة بسهولة، ومن ثم فإن هذا اللاتناسق يحدد بلا هوادة النزاع بين الجنسين. سوف تحتاج المرأة، لكي تزدهر في بحثها عن الشهوة، إلى تماهي قضيبي شديد لتخفي باطنها المخترق وحاجتها لصلة نفسية، لكي تسعد بالألف موضوع وموضوع التي تعجز عن إشباع الرغبات الفتيشية لدون جوان ذاته.

فيما دون عقبتي النرجسية والمازوخية اللتان تؤديان إلى السلبية، يؤسس تعقيد المرحلة الأوديبية الأولية للفتاة الصغيرة ككيان نفسي وعنصر رابط. مع بداية جنسانية الفتاة الصغيرة نشهد بزوغ فجر الحب والقدرة على المخالطة الاجتماعية. ان هذه الآليات هي بالطبع ذاتها، وإن بدرجات متفاوتي، التي تحكم الأنوثة الداخلية في الرجل، التي تبقى مكبوتة من خلال سطوة القضيب، شرط ألا تحيد في اتجاه معاكس من خلال اتيان فعل جنسي مثلي.

لم أقصد بتأملاتي في المرحلة الأوديبية الأولية للفتاة أن أقلل من الدور الذي تلعبه السلطة القضيبية وقلق الإخصاء المصاحبين لها في تشكيل النفس. بل إن قصدي هو أن أضعها في موضوعها كعناصر منظمة للوعي، واضعين في الاعتبار أنها تظهر في نفس الطفل باعتبارها وسيط للإغواء الوالدي، مما يضيف إلى الاستثارة التفاعلية للطفل موضوع الإغواء.

في مرحلة ما بعد فرويد، يعتقد أن العنصر القضيبي التشكيلي المشارك في كبت فرط الاستثارة الطفولية، يضاهيه ليبيدو آخر ليس سلبيًا تمامًا، وإنما يتم التعامل معه من خلال التشبث بصلة مستقرة مع الموضوع الذي يمثل أساس الباطني النفسي والعلاقة مع الآخرين. الفرضية التي أطرحها بأن الموقع الأنثوي لكلا الجنسين، وخاصة للفتاة الصغيرة، ترافقه مباشرة الخبرة القضيبية في المرحلة الأوديبية الأولية. هذه الفرضية تقترح وجود جنسانية مزدوجة منذ بداية تكوين النفس. هذا الموقع الأنثوي، الذي يتشكل منذ المرحلة الأوديبية الأولى ويكون أكثر عنفًا في قلق الإخصاء الذي يظهر في المرحلة القضيبية، ليس هو السبب وراء كون الأنثى، على حد تعبير فرويد هي الطرف الأصعب بين الجنسين من حيث التواصل معها” (1937, 251 Freud).

الأنثى تمثل التجسيد الأول لمخاوف الطفل الخوف من السلبية والنكوص النرجسي والمازوخي والخوف من فقدان نقاط المرجعية الظاهرة للهوية من خلال الابتلاع الحسي الذي يهدد بتشتيت الشخص في حالة من الذاتوية الباطنية غير المرضيةويكبتها الوصول اللاحق إلى ما هو قضيبي.

لكن الأنوثة متعددة الأشكال للمرحلة الأوديبية الأولية في المرأة تبقى مجالاً نادرًا ما يكبت. إنه، بمزيد من الدقة، يحتجب وراء أنوثة تفاعلية والعروض المصاحبة للتجميل أو المصالحة النرجسية التي تستجيب من خلالها قضيبية المرأة اللاحقة لعقدة الاخصاء. أثناء المرحلة القضيبية، التي تضع الشخص المعني ضمن المثلث الأوديبي بين عمر ثالث وخمس سنوات، تمر الأنثى بتحول نفسي إضافي يتمم بشكل نهائي اختيار الهوية الجنسية.

هناك وجهة نظر شائعة تصور التحليل النفسي باستخفاف بأنه إضفاء الطابع البيولوجي على جوهر الإنسانبحيث يجدر أن نذكر أنفسنا عند هذه النقطة أن نظرية التحليل النفسي بشأن الجنسانية هي نظرية للوجود المتزامن لكل من الجنسانية والفكر. فالإحباط الملائم وانفصال الأم عن الطفل، والحالة الاكتئابية، والفقدان، والتماهي الأولي والتسامي والاستمثال وتحقيق الأنا المثالي والأنا الأعلى هي مجرد مراحل خاصة معروفة جيدًا، يجد الشخص من خلالها موقعه في تشابك الطاقة والمعنى، الاستثارة والقانون، الذي يميز الجنسانية البشرية في المنظور التحليلي. المرحلة القضيبية تمثل في هذا الصدد خبرته النموذجية. لهذا السبب فقد أطلقت عليها اسم الكايروس1 القضيبيحيث تشير كلمة كايروسإلى لحظة لقاء أسطوري أو فراق محتوم. كيف يتم تنظيم ذلك اللقاء؟

بعد النضوج البيولوجي العصبي وإتمام خبرات الانفصال عن الموضوع تصبح المرحلة القضيبية هي المنظم المركزي للتعايش ما بين الجنسانية والفكر في كلا الجنسين. بعد أن اكتسب الطفل اللغة والفكر، لا يعود الطفل راضيًا بتهييج أعضائه التناسلية واستثارتها فحسب وإنما يسعى إلى الربط ما بين العمليات الذهني العليا التي يطبقها على العالم الخارجي وبين الحركات الداخلية لبواعثه المستثارة. ومن ثم يبرز ترادف ما بين متعة العضو القضيبي وتملك اللغة وبين وظيفة الكلام والفكر. في هذه المرحلة من الارتقاء يتمكن الشخص طور الشخص طور التشكيل من إدراك أن الأب ليس هو فقط الشخص الذي يرغب في قتله ليتمكن من امتلاك الأم، كما يدرك بداية من تلك اللحظة ما يمكن أن نصفه بإمكانية الانفصال عن الأب.

هنا يصبح الأب، باعتباره الطرف الثالث، المنظم لثنائية الأم/الطفل الحسية، يصبح أبا رمزيًا، يمثل سلطة الممنوع والقانون. وحيث أن الأب يحمل قضيبًا فإن وجد الطفلة أو توقه بعضو المتعة هذا تشتد بسبب كونه أولاً وقبل كل شيء ملكًا للأب، الذي أصبح الطفل الآن في موقف يسمح له بادراك دوره التنظيمي في عالمه الأسري والنفسي. العديد من الكتاب لاحظوا السمات المحددة التي تقدر للقضيب أن يشحن نفسيًا بواسطة الجنسين ليصبح ذكرًا، أي الدال على العوز وانعدام الوجود، ولكن الدال أيضًا على الرغبة والتوق إلى المعنى – وكلها العناصر التي تجعل من الذكر دليلاً للقانون الرمزي. فالقضيب بحكم كونه منظورًا ومعترفًا به نرجسيًا، ومنتصبًا وشديد الحساسية الجنسية، وقادرًا على الانفصال وبالتالي مذنبا، وعرضة للضياع، فإنه يصلح لأن يوفر بيئة الاختلاف، الفاعل المتميز في ثنائية صفر/واحد التي تشكل أساس كل منظومات المعني، الفاعل العضوي (ولذلك الحقيقي والمتخيل) المكون لكومبيوترنا النفس جنسي.

كذلك الأمر بالنسبة للفتاة الصغيرة. فاللقاء الحاسم بين البراعة في قراءة العلامات والإثارة الجنسية تصير كيانها كشخص له فكر ورغبة. هنا لم تعد الإثارة الفمية أو الشرجية، وإنما الإثارة البظرية، مع أو بدون إدراك المهبل، هي التي تتحكم في هذه الفترة التي نطلق عليها اسم المرحلة الاوديبية الثانية، حيث تستبدل الفتاة موضوعها ، على عكس الصبي: حيث يأخذ الأب مكان الأم كهدف للرغبة.

لكن دعونا نبحث في غموض هذا التغيير. من ناحية، تتماهي الفتاة، مثلها مثل الصبي ومثل كل أصحاب الحديث والفكر والقانون، تتماهي مع الذكر ومع الأب الذي يتمثله. بدون افتراض هذا الذكر تصبح الفتاة غير قادرة على الاحتفاظ بدورها في الكل الإنساني العالمي، ذلك الكل الذي يجعل منها كائنًا متحدثًا طبقًا للقانون. لكن في القلب من هذا الموقف الذكري تصبح الفتاة في موقف أضعف مقارنة بالصبي، فهي محرومة من القضيب، مما يقلل من قدرها في كافة الثقافات الأبوية حيث النسب للأب. لذلك فهي تتمسك بالنظام الذكري، في نفس الوقت الذي لازالت تحمل في اللاوعي بعضًا من آثار المرحلة الأوديبية الأولية، من حسيتها متعددة الأشكال المكرسة للرغبة في الأم، التي تطبع عليها علامة لا تمحى من الجنسانية المثلية الأنثوية الباطنية. بداية من تلك اللحظة تستكمل الفتاة اندماجها في النظام الذكري داخل منظومة مشروطة وهمية: “أنا أشارك في اللعبة لكنني أعلم جيدًا أنني لست جزءًا منها لأنني لا أملكه“. بالتالي، ما لم تجمد المرأة الوضع الذكري في وضع المرأة المشاكسة، فان الموقف الذكري للأنثى سوف يدرجها في قائمة الغرابة الجذرية، قائمة الاقصاء من الداخل، قائمة العزلة المتعذرة على التعويض.

كذلك، وكما لو كانت تلك الذكرية المزيفة لا تحمل ما يكفي من التناقضات التي يصعب تقبلها، فإنها تحتاج أيضًا إلى من يعدلها بسوقف نفسي جديد، سبق أن مهدت له المرحلة الأوديبية الأولية الطريق، وان كان لا يستكمل سوى أثناء المرحلة الأوديبية الثانوية: باعتبارها من الكائنات الذكرية أصحاب كائن ذكري القدرة على الحديث والتفكير والنظام، لا ترتد الفتاة إلى موقعها السلبي كما يطرح في العادة وإنما إلى موقعها كمتلقي لتصبح موضوع الأب. إنها كائن ذكري ذو قيمة رمزية خاصة بحكم كونها كائن متكلم. لكنها كامرأة لازالت ترغب في الحصول على قضيب وأن تحصل على طفل أبيها، من ذلك المكان لدى الأم التي لا تتوقف عن تصفية الحسابات معها بشأن الاستثارة الأصلية المتزامنة في المرحلة الأوديبية الأولية.

من خلال تتبع المنعطفات والالتفافات المطلوبة من الكائن الأنثوي المصاحبة لدخولها إلى المرحلة الأوديبية الثانية يمكننا أن نفهم الغربة التي تشعر بها المرأة في المنظومة الرمزية الذكرية والتي تتسبب في ظهور أعراض التحول أو القلق في المرأة الهستيرية، حين تختار أن تتنكر لكل من الذكري والإخصاء. في أفضل الأحوال تتخذ هذه الغربة شكل عدم الرضا ومقاومة السلطة، الأمر الذي يبدو غير مفهومًا في ظل المنطق المجتمعي ومن ثم يأتي السؤال: “ماذا تريد النساء؟” – ذلك السؤال الملح الذي لم يكن فرويد الوحيد الذي طرحه. لكن هذه الغربة يمكن أن تتجلى في شكل تمرد أو رفض للخضوع، الأمر الذي احتفى به هيجل لدى النساء باعتباره المفارقة الأزلية في المجتمع. في حال انعدام إمكانية التصالح مع ذلك المنفى يحصر المرأة في العالم الذكري الرمزي فإنه قادر على أن يتحول إلى أعراض اكتئابية مزمنة أو حتى كآبة غير قابلة للشفاء، كما يمكنه أيضًا أن يؤدي إلى فقدان الشهية المرضية أو الشره المرضي، تلك النتائج الانتحارية الفاشلة لرفض الأنثويوالأعراض المرضية حيث تشتد الاستثارة المندهشة للجسد الكهفي (السلبي) للمرحلة الأوديبية الأولية وتعجز عن الدفاع عن نفسها في مواجهة تطفل الإغواء الأموميالأبوي سوى بالتغذية القسرية أو امتلاء المناطق ذات الحساسية الجنسية العالية.

على العكس من ذلك حين ينجح الكيان الأنثوي في تجاوز القيد الضاغط المعقد المفروض عليه من خلال المرحلة الاوديبية الأولية والثانوية، يمكن للمرأة عندئذ أن يسعدها الحظ فتكتسب ذلك النضوج الغريب الذي كثيرًا ما يفتقد اليه الرجل، الذي يحاول أن يشق طريقه بين الموقع الذكري لنموذج الرجل الخشنوالنكوص الطفولي للسيد الطفل غير المحتمل“. بفضل ذلك النضوج تتمكن المرأة من الالتقاء بطفلها، ليس باعتباره بديلاً قضيبيا أو نرجسيًا (الذي غالبا ما يكونه) وإنما كوجود حقيقي لآخر، ربما للمرة الأولى، إلا إذا كان الوحيد الممكن، والذي تبدأ به الحضارة كمجموع صلات وروابط، لا تستند كما في السابق على الشبق” (Eros)2 وإنما إلى إعلائها في الحب” (Agape).3

فرويد الذي اعتقد أن قلة قليلةمن البشر هم القادرون على إزاحة ما يقدرونه بشكل أسـاس مـن مـوضـوع للحب إلى فعل الحب” (Frued 1930, 102) فسر هذا الإعـلاء بأنـه عمليـة دفاعيـة فـي مواجهة فقدان الموضوع، دون فك شفرة الحـب النرجسي، مثلما ورد في التعاليم المقدسة والإنجيليـة بـأن أحـب لجارك مثلمـا تحـب لنفسك.” لقـد كـان فـي غاية الاستعداد للاعتراف بـأن الشخصيات الأسطورية مثل فرانسيس أسيسي هي التي تصل إلى أبعد مدىفي الحياة الباطنيةباستخدام تلك الطرق، لكنه أكد على أن تلك الباطنية ذات الهدف المكبوت” (ص۱۰۲)، ذلـك الشعور المرجأ، الثابت والحنونلا يشبه في ظاهره شيئًا من التوتر العاصف للحب الجنسي” (ص۱۰۲). هل نسي، في قوله هذا، أن يتأمل في الأمومة؟ واقع الأمر أن مؤسس التحليل النفسي يفصـل مـا بـيـن ذلـك الإنجـاز الحضـاري” (ص١٠٣) الذي يترتب عليه الاستعداد لحب كوني للبشر” (ص١٠٥) وبين مصـالح الأسرةالتي تهب لها النساء حياتهن، ويرى أن هؤلاء النساء، اللاتي رغم كل شيء أرسين أسس الحضـارة من خلال ما استحققن مـن حـب” (ص۱۰۳)، غير قادرات على إنجـاز حضاري” (ص۱۰) على أساس من عدم القدرة على الإعلاء الغريزي؟ هل أنه ربما لم يوجه اهتمامًا كافيًا لتحليل خبرة الأمومة؟ حين تنجح الأم في تجاوز هيمنة الطفل كبديل قضيبي، وأن تهدئ من حدة الصلة مع الآخرين، فيما بعد زمن الرغبة الذي هو زمن الموت، فإن الدورة الزمنية بين التجديد وإعادة الميلاد تنفتح أمامها.

منذ تلك اللحظة، لم تعد هذه المرأة تلعب لعبة التخفي، رغم كونها مسلية وجذابة، تلك اللعبة التي تشكل الأنوثة باعتبارها صورة مزيفة من كون المرأة أنثي. لقد تعاملت مع الاستقبالية الكهفية للمرحلة الأوديبية الأولية وحولتها إلى عمق نفسي: تلك هي الأنثى. لكنها، ، مع ذلك، تعرف ما تعنيه الأنوثة، التي تعرف كيف تتظاهر كي تحمي نفسها من الأنثى، من خلال البراعة في الإغواء بل وحتى في المنافسة الذكورية. إن ما نعتبره شخصية أنثوية منسجمة هي شخصية قادرة على خلق التعايش بين كونها أنثى والأنوثة، بين الاستقبالية والإغواء، الاستيعاب والأداء، إنها خنثى ذهنيةعلى حد تشخیص كوليت. هذا التعدد الهادئ في الصلات المرنة يمنح وجـودًا اجتماعيًا وتاريخيًا مسالمًا على أغوار الأنثى الأصلية. معنى ذلك في الواقع أن المرأة (كمطلق) لا وجود لها، بل هناك تعددية في صيغ الأنوثة؛ والمجتمع الأنثوي ليس أبدا امرأة واحدة.

*Julia Kristeva, “Some Observations on Female Sexuality”. The Annual of Psychoanalysis: Psychoanalysis and Women, ed. Jerome A. Winer, James William Anderson, and Christine C. Kieffer, Vol. XXXII, 59-68.

1. كايروس Kairos كلمة يونانية قديمة تعني اللحظة الصحيحة أو الملائمة.

2. كلمة يونانية معناها الشبق أو الشهوة الجنسية القوية

3. كلمة يونانية معناها الحب المتفاني

Andre, J. (1995) Aux origines feminines de la sexualité [At the Female Origins of Sexuality). Paris: PUF.

Andreas-Salome, L. (1980). L’amour du narcissisme [The Love of Narcissism], trans. I. Hildenbrand. Paris: Gallimard.

Anzieu, D. (1985). Le Moi-Peau [The Skin Ego, trans. C. Turner, New Haven, CT: Yale University Press, 1989.

Freud, S. (1905a). Three Essays on Sexuality. Standard Edition, 7:130-243. London: Hogarth Press, 1953.

…..(1905b). Fragment of an Analysis of a Case of Hysteria. Standard Edition, 7:7-122. London: Hogarth Press, 1953.

….(1919). “A Child is Being Beaten”: A Contribution to the Study of the Origin of Perversions. Standard Edition, 17:179-204. London: Hogarth Press, 1955.

….(1923) The Infantile Genital Organization: An Interpolation into the Theory of Sexuality. Standard Edition, 19: 141-145. London: Hogarth Press, 1961.

…..(1925). Some Psychical Consequences of the Anatomical Distinction between the Sees. Standard Edition, 19:248-258. London: Hogarth Press, 1961.

….(1930). Civilization and its Discontents. Standard Edition, 21:64-145. London:Hogarth Press, 1961.

…… (1931), Female Sexuality. Standard Edition, 21:225-243. London: Hogarth Press, 1961.

…..(1933). Femininity. Standard Edition, 22:112-135. London: Hogarth Press, 1964.

…… (1937). Analysis: Terminable and Interminable. Standard Edition, 23: 216-253. ondon: Hogarth Press, 1964.

….1940). An Outline of Psycho-analysis. Standard Edition, 23:144-207.London: Hogarth Press, 1964.

Kristeva, J. (1996). Oedipus Again; or Phallic Monism. The Sense and Non-Sense of Revolt, trans, J. Herman. New York: Columbia University Press, 2000, 65-93.

……. (2001). De la passion selon la maternité. Revue Française de Psychanalyse: Débats de Psychanalyse, Nov. Paris: Société Psychanalytique de Paris, 105-120.

Lacan, J. (1966). On Feminine Sexuality: The Limits of Love and Knowledge, trans. B. Fink. New York: W.W. Norton, 1998.

Laplanche, J. (1987). New Foundations for Psychoanalysis, trans. D. Macey. Oxford, UK: Basil Blackwell, 1989.

اصدارات متعلقة

الاتجار بالاطفال
مرصد الاختطاف 2017-2018
مرصد وقائع الانتحار في مصر
استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم