من أدبيات الكتابة النسوية
المرحلة الأولى عائشة التيمورية
بین لزوم ما يلزم ولزوم ما لا يلزم
حظيت عائشة التيمورية باهتمام أدباء عصرها ونقاد ما بعد عصرها، كما حظيت باهتمام النقد النسوى الحديث والدراسات النسوية بوجه عام؛ فقد تناولت الدراسات التي تمَت حول شخصها وإبداعها الجوانب التي يمكن أن تلقى الضوء على الحركة النسوية الحديثة الأولى في العالم العربي، وكان لعائشة ونخبة من النساء البارزات فضل الريادة فيها. وقد وجهت هذه الدراسات وجهة تاريخية واجتماعية وأدبية؛ فمن الناحية التاريخية احتلت عائشة تيمور مكانًا تاريخيًا في حركة الإحياء الحديثة. ومن الناحية الاجتماعية تأكد دورها في دفع حركة التغيير الاجتماعي الذي أفضى بدوره إلى النهوض بالمستوى الثقافي. أما من حيث الدراسات الأدبية، فقد كانت هناك بعض الوقفات المتأنية مع كتابات عائشة تيمور، سواء تلك التي تندرج تحت فنون الأدب مثل الشعر والكتابة القصصية أو تلك التي تندرج تحت مفهوم الكتابات الإصلاحية. ونحن نخص بالذكر في هذا المجال الدراسة النقدية الرائدة التي قامت بها الأديبة الرائعة ذائعة الصيت مي زيادة عن عائشة التيمورية، وذلك ضمن اهتماماتها النقدية بالكتابة عن نساء كاتبات أخريات مثل ملك حفنى ناصف ووردة اليازجي. والجديد في دراسة مي زيادة عن عائشة التيمورية، في زمانها بطبيعة الحال، أن صاحبتها التي كانت تمتلك حسًا نقديًا مرهفًا، كانت تستوقفها اللغة، بوصفها حاملة للميراث الثقافي والدلالة، في الكشف عما يخص الجانب الإبداعي الخاص، وما يندرج في الميراث الثقافي العام ويخضع لتأثير المحاكاة، فضلاً عن محاولة تأسيسها للغة نسوية. تقول مي زيادة(1) عن رواية عائشة” نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال، التي نشرتها في عام ۱۸۸۷:” فحكاية عائشة بعيوبها ورواسبها تجربة أولى في النزعة المتجددة، لا سيما فيما يختص بالأدب النسائي، إذ لا علم لي بامرأة عربية اللغة وضعت قصة تامة قبل عائشة، فهي بتجربتها هذه من رواد المنهج الجديد.”
وتقول عن باحثة البادية في محاولة لاستكناه طبيعة المرأة التي تنعكس في فكرها وكتابتها:” باحثة البادية تُصلح كامرأة، وقيل إن المرأة أكثر تشبثًا بالماضي، وقاسم أمين يُصلح كرجل، أي يرسل نظره أبدًا إلى الأمام. هي تسير بتحفظ بين تشعب الأفكار الجديدة والآراء المستحدثة، وكلما خطت خطوة التفتت إلى الوراء لتثبت من أنها تابعة السبيل الذي يربط الأمس بالغد” .(۲)
ونلاحظ في هذه الكتابات وغيرها التي اهتمت فيها مي بإبراز وجوه الاختلاف بين الرجل والمرأة فكريًا وثقافيًا، أنها كانت تنطلق من مقولة مسبقة راسخة ترتكز على الفروق الطبيعية بين الرجل والمرأة والتي تضع المرأة في تصنيف الطبيعي في حين تضع الرجل في التصنيف الحضاري. ومن هنا كان اعتمادها في تشخيص خصوصية الكتابة عند باحثة البادية على تلك المقابلة بينها وبين قاسم أمين. وربما اختارت قاسم أمين بصفة خاصة لأنه كان يعد الأب الروحي لباحثة البادية ملك حفنى ناصف في تمردها على أوضاع المرأة اجتماعيًا وثقافيًا. كما كان اعتمادها في إبراز خصوصية الكتابة عند عائشة التيمورية على ما استقر عليه المجتمع من وضعه المرأة في تراتب فكري وثقافي بالنسبة للرجل، فالرجل هو النموذج، وهو المثال الذي تصبو إليه المرأة حتى في كتابتها. تقول مي زيادة عن عائشة:” إننا رأيناها متكلمة بلهجة الرجل، وذلك راجع إلى أمرين: أولا:ً عادة الضغط على عواطف المرأة وإخراس صوتها، فكان أيسر لها أن تتخذ لهجة الرجل المصرح له بما حظر عليها. ثانيًا: لأنها كانت مقلدة، قد قلدت الرجل في معانيه، كما قلدته بداهة في لهجته، الرجال أساتذتنا ومهذبونا ومكيفونا، عليهم نتلقى دروسنا، وعن كتبهم وكتاباتهم نقتبس المعرفة، وبذكائهم نستعين لصقل ذكائنا وإنمائه، ومنهم نستلهم كل فكر عظيم وكل عاطفة جليلة.” (3)
وهكذا تسلب مي زيادة عائشة التيمورية حرية اختيار الأسلوب الذي يروق لها من بين الرصيد الجماعي الثقافي المتوارث. وبدلاً من ذلك، فلكونها مسلوبة الإرادة بوجه عام، ولأن النموذج المثالي ماثل أمامها شعوريًا ولا شعوريًا، فإنها تتوجه إليه لتحاكيه – ربما على نحو لا شعوري – لا في أفكاره فحسب، بل في لغته وتعابيره كذلك. وربما لا تدري مي زيادة أنها بهذا الحكم في تبعية المرأة للرجل في الكتابة أوقفت نفسها في التناقض من ناحية، من حيث أنها كانت تلح في كتاباتها النقدية في البحث عن الكتابة الخاصة بالمرأة، كما أنها جمدت كتابات الرجال في قوالب معينة تحاكيها الكاتبات من النساء من ناحية أخرى.
على أننا ما أردنا بهذا التمحيص لآراء مي زيادة النقدية في الكتابة النسوية أن نهون من بصماتها الواعية التي خلفتها في النقد النسوي، ويكفي أنها فتحت أفقًا في النقد العربي لم يطرقه أحد من قبل، بل شئنا أن نمتد بقراءتها النقدية في الأعمال الإبداعية المبكرة للمرأة العربية. ونحن إذ نحصره في إبداع عائشة التيمورية من خلال كتاباتها وليس من خلال كتابات مسبقة، فنحن نفترض أولاً أن لكل كاتب مبدع ما يميزه في كتابته. وهذه الخصوصية يمكن أن تلقى الضوء على جانب تحاشت اللغة أن تبوح به، وبذلك تجنب أنفسنا مقولات مكررة من قبيل أن عائشة التيمورية لم تكن إلا محاكية لقوالب أسلوبية قديمة من ناحية، كما أنها لم تكن إلا محاكية للغة الرجل ومعانيه من ناحية أخرى.
على أننا نود أن نبرز المهاد الثقافي لعائشة تيمور خصوصية الذي تأسست فيه خصوصية كتاباتها، ولنبدأ بتعريف زينب فواز لها (١٨٦٠–١٩١٤) في كتابها القيم:” الدر المنثور في طبقات ربات الخدور“، تقول:” أديبة فاضلة، حكيمة عاقلة، بارعة باهرة، شاعرة ناثرة، رضعت أفاويق الأدب وهي في مهد الطفولة وتحلت بحلي لغات العرب قبل تضلعها باللغات التركية، وفاقت على أقرانها فصاحة وصارت ندرة زمانها بين أهل الإنشاء والإنشاد… تعلمت العلم والأدب في مصر القاهرة على أساتذة أفاضل بين أبويها، وكان أكثر ميلها إلى علم النحو والعروض، حتى بلغت في الشعر حدًا لم يبلغه غيرها من نساء عصرها. وبعدما تعلمت القرآن الكريم، تاقت نفسها إلى مطالعة الكتب الأدبية وأخصها الدواوين الشعرية حتى تربت عندها ملكة التصورات لمعاني التشبيهات الغزلية وخلافها. ولما صارت قريحتها تجود بمعانٍ مبتكرة لم يسبقها إليها غيرها، رأي والدها أن يستحضر لها أساتذة عروضيين من النساء الأديبات“.(4)
ويطلعنا هذا النص في وضوح على مراحل التأسيس الثقافي التي كان يمر بها أبناء العائلات الطموحة، وتمثلها في أعلى درجات الطموح العائلة التيمورية التي خلفت لنا من المؤلفات الأدبية واللغوية ما يشير إلى وعيها الكامل بدور اللغة في الثقافة على المستويين الخاص والعام. ونشير في ذلك إلى تلك المعاجم التي خلفها لنا أحمد تيمور في الأمثال الشعبية والكنايات العامية والألفاظ العامية وما خلفه لنا محمود تيمور من ثروة أدبية.
ويبدأ التحصيل الثقافي بحفظ القرآن الكريم وحفظ النصوص الدينية والأدبية, وغالبًا ما يقف تثقيف البنت عند هذه المرحلة أو قبلها. وكان من الممكن أن تنتهي عائشة عند هذه المرحلة كذلك، لولا مساندة أبيها لها. والمرحلة التي تلي المرحلة الأولى من التحصيل هي مرحلة التجريب، أي تجريب صياغة التشبيهات والصور البلاغية وفقًا للنماذج التي حفظتها، وبعدئذ تأخذ في قرض الشعر، إن وجدت في نفسها ميلاً لذلك.
وبهذا نستطيع أن نقول إن التحصيل الثقافي النموذجي كان يدور في حلقتين متداخلتين، حلقة تخص الذات وطموحاتها ومواهبها، وحلقة أخرى تحيط بها لتحفظها وتغذيها وتمدها على الدوام بوقود يعين على الفكر والإبداع المتجددين. وتتمثل المكونات الأساسية لهذه الحلقة من العناصر التي تعين على التواصل الثقافي وحفظ الهوية، وهي من ثم لم تعد ملكًا لكل من يشارك في فك شفراتها ويستوعبها ويتواصل معها.
وقد كانت عائشة التيمورية فرعًا في دوحة كبيرة اشتهر أفرادها بمواهبهم الأدبية مما ساعد على تغذية موهبتها الشخصية وصقلها بالقراءة والسماع. فإذا أضفنا إلى ذلك تواصلها مع الحركة الثقافية العامة التي كانت تموج من حولها في الصحافة والندوات والمحافل، أدركنا إلى أي حد نشط الوعي لدى عائشة التيمورية بضرورة التعبير الذاتي عما هو خارج الذات. أي عن الأمور التي كانت تشغل الجماعة والمجتمع. فهل حققت عائشة هذه الرغبة محاكاة لرجال أسرتها المرموقين؟ أم كان ذلك انطلاقًا من وعيها فحسب بضرورة التغيير وتحريك المياه الراكدة بالنسبة لوضع المرأة الاجتماعي؟ ولابد أن ننوه في هذا المقام إلى أن عائشة التيمورية (1840 – ۱۹۰۲) لها فضل الريادة الأولى في هذا المجال؟ فهي التي أفسحت المجال لسماع الأصوات النسائية والذكورية التي ملأت الأجواء من بعدها بضرورة إصلاح حال المرأة. (زينب فواز ١٨٦٠–١٩١٤) باحثة البادية، ملك حفنى ناصف 1886- 1918, أما كتابا قاسم أمين: تحرير المرأة والمرأة الجديدة, فقد ظهرا على التوالى ۱۸۹۹-1900.
وإذا كانت عائشة لم تقف عند حد الدعوة للإصلاح بالمقالات والخطب، بل إنها مارست الكتابة الإبداعية، وكان الشعر فنها الأول، فإن هذا يعني أنها عاشت تجربة الإبداع التي تبدأ بمطلب ملح للذات ينجم عن الوعي بشيء ما وهي الحالة التي تسميها الفلسفة الظواهرية: التجربة الواعية. ولا تعد هذه التجربة مكتملة إلا إذا انتهت بأن تتشكل على نحو ما مستعينة بوسيلة من وسائل التعبير، كأن تكون اللغة أو اللحن أو اللون أو غير ذلك.
وإذا كان الوعى يمثل الحافز الأول لتأمل التجربة، فإن القصدية هي التي تدفع بالتجربة إلى حصر المعنى في اللغة التصويرية ذات الأبعاد الدلالية. وبهذا يتم التشكيل الجمالي من عناصر ثلاثة أساسية: التجربة والوعي والقصدية، وإذا لم تتوافر هذه العناصر الثلاثة وتتفاعل معًا، تظل التجربة محصورة في إطار الوهم، كما يظل معناها ومغزاها غير مكتملين.
وقد كانت عائشة تيمور تمتلك هبة الوعي الحدسي بالأشياء، الذي كان يفضي بها إلى الوصول للحقيقة كما تتجلى لها. وربما اتضح هذا في اختيارها لعنواني عمليها النثريين: مرآة التأمل في الأمور، ثم نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال. فالأمور الخارجية بالنسبة لها تنعكس على مرآة ذاتها. وهي تتأملها، وبالمثل الأقوال والأفعال التي تتحول عندها إلى أحوال تُتأمل كذلك.
وإلى جانب هذه الأعمال النثرية، اشتهرت عائشة بمقدرتها على قرض الشعر وقد خلفت ديوانًا كبيرًا يشهد لها بامتلاكها لملكة قرض الشعر وفقًا للمعايير الجمالية للشعر هذا العصر. وبناء على هذا، فإن هذه الأعمال المتنوعة بين الشعر والنثر لابد أنها تحمل بصمات الكاتبة الأسلوبية التي تفشي شيئًا من مكنونات نفسها. ويمكننا أن نقسم الظواهر الأسلوبية اللافتة للنظر إلى ثلاثة مظاهر:
أولاً: ظاهرة المبادئ والافتتاحات، على حد تعبير ابن الأثير في كتابه” المثل السائر في أدب الكاتب والشاعر“. يقول في تعريفه لهذه الظاهرة الأسلوبية:” هذا النوع هو أحد الأركان الخمسة البلاغية. وحقيقة هذا النوع أن يجعل مطلع الكلام في الشعر أو الرسائل دالاً على المعنى المقصود من ذلك الكلام إن كان فتحًا ففتحًا، وإن كان هناء فهناء أو كان عزاء فعزاء. وكذلك يجرى الحكم في غير ذلك من المعاني. وفائدته أن يعرف من مبدأ الكلام ما المراد به ولم هذا النوع.”
وتقول عائشة في مستهل رسالتها” مرآة التأمل في الأمور” : الحمد لله الذي أضاء سبيل الهدى بسراج العقول، وصر مواهب الرشد والإدراك أرفع مشهود وأمتع معقول، ومهد بساط العرفان بتدبيرهم الفحول، وجعل منحة الإذعان أوثق دليل على مناهج الوصول حتى لمعت بوارق هذا الفضل المشكور بأداء كل إنسان من إناث وذكور…” ونكتفي بهذا القدر من الافتتاحية التي تمهد بها لموضوعها وهو المساواة بين الرجل والمرأة. والكاتبة تعي أن الافتتاحية تؤدى وظيفة بلاغية وهي شد انتباه القارئ للموضوع الرئيسي الذي يلي الافتتاحية، ولهذا فهي تشحنها بإشارات لغوية ذات صلة بالموضوع، كأن تنبه كما نرى في السطر الأخير (حتى لمعت بوارق هذا الفضل…) إلى أن أداء كل رجل وامرأة لمسئولياته يجب أن يكون هو الفيصل في المفاضلة فيما بينها.
ثانيًا: قد يتعدى تأثير القوالب البلاغية الموروثة الجانب الشكلي إلى الجانب المعرفي وعندئذ يتجلى قدر هذا المخزون المعرفي الذي اختزنته عائشة من التراث؛ فقد تجد المناسبة في أثناء السرد لأن تستشهد بأبيات من الشعر ذات الطابع الحكمي وله من عبق الموروث ما يجتذب القارئ لأن يحفظه في ذاكرته بدوره. وقد تتمثل عائشة بحكاية أليجورية من الموروث الشعبي وذات مغزى تأويلي، وعندئذٍ يكتسب القارئ متعتين، متعة السرد ومتعة التأويل فهي في روايتها” نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال” تحكي حكاية الأسد المتغطرس المتكبر الرافض للسعي وراء رزقه ورزق صغاره ملقيًا العبء كله على اللبؤة التي كانت تسعى وراء الرزق لتطعمه وتطعم صغارها. وطال صبرها عليه لعله يغير من سلوكه ويعرف واجبه نحوها ونحو أبنائه, ولما عيل صبرها وكبر أبناؤها، هجرته إلى أسد غيره.
وهي في مرة أخرى تحكى حكاية الحمامة التي طمع الصقر في الزواج منها لينعم بخير الأرض التي ورثتها عن جدودها. وفي الوقت نفسه خطبها الغراب الذي لم يكن يفكر في استغلال ثروتها حيث إنه لم يتعود الاعتماد على غيره في كسب رزقه. ومع ذلك فقد وقعت الحمامة في أسر الصقر لجماله الشكلي والذاتي وآثرته زوجًا على الغراب، غير عابئة بنصيحة أمها في التريث في الاختيار. وعندما وجد الصقر نفسه فيما بعد قد وقع أسير الزواج، أعلن تمرده عليها وأهانها ثم هجرها. وعندئذ تذكرت الحمامة نصيحة أمها بأن العبرة في الزواج المستقر ليست هنا بشكل الرجل الوسيم المغتر بجماله، بل بخلقه وإدراكه لمسئوليته.
ولا يخفى علينا ما في هاتين الحكايتين التمثيليتين من كشف للشروخ العميقة في بناء الأسرة. وكثيرة تلك الحكايات التمثيلية التي تفسح لها عائشة المجال في كتاباتها القصصية أو شبه القصصية. وهي تمثل نمطًا من الحكايات التي احتفظ لنا بها تراثنا القصصي العربي وتمثله ألف ليلة وليلة وكليلة ودمنة وسائر كتب التراث التي أغرمت بنقل الموروث القصصي. ومن هذا الزاد الغني تزودت عائشة بمادة عدتها ركيزتها الأساسية في كتاباتها. وقد تغير عائشة من الحكاية الأصلية لتوجهها وجهة ترضاها، وهذا ما فعلته مع الحكايتين السالفتين. وقد تقتبسها كاملة إن كانت تناسب المقام الذي تتحدث فيه، وهي في كلتا الحالتين تعد تلك الأمثولات مادة تستند إليها في حجاجها في القضايا الفكرية والاجتماعية التي عاصرتها من ناحية، كما أنها من ناحية أخرى، كانت تعدها مادة تراثية لا ينبغي التهوين من قيمها الأخلاقية والجمالية ويتحتم توصيلها إلى الأجيال.
ولا يجوز لنا اليوم أن نستخف بالأسلوب الذي كانت عليه الكتابة الأدبية آنذاك، ونحن يفصلنا عن عصر عائشة تيمور ما ينيف عن مائة عام، بل يتحتم علينا أن نراها في واقع إطارها الثقافي، والدوافع السياسية والفكرية التي شكلت هذا الإطار؛ فنحن في حقبة من التاريخ أطلق عليها زمن الإحياء، أي إحياء ما كان ذات يوم محركًا للعقول ومتحركًا بها، ثم أصبح يُتذكر بوصفه رموزًا لسيادة الفكر واستقلاليته. ولهذا فإنه ليس من الإنصاف في مثل هذا المجال الثقافي الإحيائي الذي تحكمت فيه ظروف سياسية قهرية، أن ترد هذا الأسلوب في الكتابة إلى خمول عقلي أو بلادة في الحس، فتلك فترة أقل ما يمكن أن توصف به أنها كانت وقودًا أسرع في إنتاج شعلة النضج الفكري والإبداعي المستقل فيما بعد، والمنتمي لحاضره أكثر من انتمائه لماضيه.
ونكتفي بهذين النموذجين اللغويين اللذين استوعبتهما الكاتبة شكلاً وأداء, يمكننا أن نقول إن عائشة التيمورية كانت بامتلاكها ناصية الكتابة العربية البليغة، تمثل الصوت النسوي الذي انطلق مع فجر النهضة لينشر الحقيقة التي ظلت مختبئة قرونًا طويلة، وهي أن المرأة تمتلك اللغة على نحو ما يمتلكها الرجل لا أقل ولا أكثر. وكيف لا وقد خلقا معًا من نفس واحدة، وكان التكليف موجهًا لهما معًا مع بداية الحياة، ثم كانا شركاء في المعصية على حد السواء.
وفضلاً عن هذا، فإن عائشة تيمور، تؤكد بامتلاكها للموروث اللغوي وعيها بدور اللغة في التعبير من أجل التغيير. وأكثر من هذا فهي تؤكد وعيها بأن اللغة هي سر للتواصل بين الماضي والحاضر، وأن تاريخ الشعوب يكمن في الرصيد اللغوي الذي تواصل وازداد تراكمًا عبر الأزمنة. ومن هنا كان حرصها على مداومة القراءة في كتب التراث في مرحلة التحصيل الأولية، حتى استوعبت قوالبها بقدر ما استوعبت كفاءتها التصويرية. ثم أصبحت من بعد مالكة للقدرة على إنتاجها وتوليدها في موضوعات جديدة نابعة من عصرها. وبذلك اكتسبت اللغة معها نبضًا جديدًا تسرب إليها من نبض امرأة طُلعة أطلت على عصرها بفكر جديد ومطامع جديدة. وإلى هنا نستطيع أن نقول إن عائشة التيمورية فعلت ما كان يلزمها في التأسيس اللغوي لكي تنطلق به إلى كتابة تعنيها وتعنى عصرها.
ثالثًا, على أن هناك جانبًا آخر يرتبط بجماليات الكتابة عند عائشة تيمور, واخترنا له المصطلح المضاد وهو لزوم ما لا يلزم. والمصطلح، كما يعرف القارئ, مستعار من أبي العلاء المعري في تسميته لديوان من دواوين شعره وهو” اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم“.ويقول طه حسين في دراسته للزوميات أبي العلاء:” لفظ اللزوميات أو لزوم ما لا يلزم، هو شعار أبي العلاء في جميع أطوار حياته بعد رجوعه من بغداد؛ فقد التزم في شعره ونثره وسيرته أشياء لم يلتزمها من قبل. ولم يكن من الحق عليه التزامها، وإنما آثرها حين راض نفسه على تكلف المشقة واحتمال المكروه، فالتزم في اللزوميات أن تكون القافية على حرفين، أي أن يلتزم حرفًا لو أسقطه لما كان متجاوزًا قواعد القافية” (5)
وقد كفانا طه حسين مؤونة البحث عن الدافع النفسي العميق لاستخدام أبي العلاء المعري هذه التسمية لديوانه” اللزوميات، لزوم ما لا يلزم” وإن لم يشرح لنا سبب جمع أبي العلاء بين الشيء وضده في عنوان دیوانه؛ فاللزوميات تعنى لزوم ما يلزم، وقد أعقب أبو العلاء هذا اللفظ بما يناقضه وهو لزوم ما لا يلزم. وفي تصوري أن الجمع بين الضدين في هذا العنوان يزيد المعنى الذي قدمه طه حسين وضوحًا، كما أنه يلقي الضوء على ما نريد أن نصل إليه من تفسير لظاهرة أسلوبية عند عائشة تيمور، على نحو ما نقدمها وشيكًا. فأبو العلاء فعل ما هو لازم بالنسبة لحالته النفسية، وبتعبير آخر إنه عبر عما أملته عليه حالته النفسية. ولكن ما فعله لم يكن ضروريًا وملزمًا بالنسبة لقيمة الشعر، بل إنه على العكس كان معوقًا لحرية التعبير الشعري، ومعوقًا لتلقيه.
وقد مارست عائشة تيمور قيدًا أسلوبيًا من هذا النوع وتمسكت به في كتابتها النثرية بصفة خاصة. وهو الالتزام بعبارات مثقلة بالسجع والاستعارات التعسفية. تقول على سبيل المثال في” مرأة التأمل في الأمور“:
“لعلى أستظل بواد طاب غراسًا، وزكي أنفاسًا، ونمي بالإصلاح أغصانًا وأورق بالفلاح أفنانًا. كشف النقا عن ساق أشجاره. وحلت مذاقًا حلاوة أثماره“. أو تقول على سبيل المثال كذلك في روايتها” نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال“:” وصار كلما تفرع (أي الغصن) هام الوزير نشاطًا، ومهما تشعب زاد انبساطًا حتى كاد أن يخيط أوراقه بنياط القلب حذرًا من أن يتناثر، ويسقى أصله بماء الوريد خوفًا من أن يتقاصر“.
وقد نعزو السبب في إسراف عائشة في هذا الأسلوب في كتاباتها إلى ذوق العصر الذي كان الكتاب فيه يصطنعون مثل هذه الأساليب المتكلفة احتذاء ببعض النماذج الأسلوبية في التراث. ولكننا نرد على هذا بأن الكتابات النثرية القديمة كانت قد تخففت منذ الزمن القديم من قيود هذه الصنعة المتكلفة؛ وكتابات الجاحظ (ت٢٥٥ه) خير شاهد على ذلك. وقد ترد الدافع وراء هذه الكتابة إلى رغبتها الشديدة في التفوق في الكتابة على الرجال. وقد نردها إلى میل شخصی نابع من داخلها ويدفعها لا شعوريًا لأن تشق على نفسها وتحول بينها وبين الانطلاق الحر غير المقيد بقوالب محفوظة، وهذا السبب هو ما نميل للأخذ به: لقد عاشت عائشة حياة مكبلة بالقيود ومليئة بالأحزان. وعلى الرغم مما كانت تتمتع به من حياة رغدة، فإن القيود التي كانت تكبلها من كل جانب، كانت أكبر من أن تجعلها تستمتع بمتع الحياة التي كانت تتمتع بها أسرتها. فإذا أضفنا إلى ذلك المسكوت عنه في كتابتها من علاقاتها الأسرية الخاصة، وما أضافه إليها القدر من أحزان قهرتها، أدركنا إلى أي حد عاشت عائشة حياتها في قيود نفسية جعلتها تنغلق على نفسها وفي كتاباتها ووقعت أسيرة ذلك الأسلوب الذي يمكن أن يندرج تحت مسمى” لزوم ما لا يلزم” أي أنه الأسلوب الذي لا لزوم له في العملية الإبداعية سواء في الكشف عن مكنونات النفس أو في الإثراء الجمالي للإبداع، وإن كنا لا ننكر أنه يكشف عن محصول لغوى ثرى.
وجدير بالذكر أن هذا الأسلوب في الكتابة الأدبية كثيرًا ما كان يلح على عائشة في كتابة الشعر، وهو فنها الأول، الأمر الذي حدا بالنقاد إلى تقسيم شعرها إلى نمطين: نمط تتفنن فيه في العناية باللغة شكلاً فحسب مما يجعلها قاصرة عن أن تؤدي دورها في إثراء المعنى والدلالة، ونمط تنساب فيه اللغة الشعرية لتعبر عن عواطفها. فهناك فرق بين قولها:
توشحت ساطعات الفضل بالظُّلمِ…… وباصراتُ الذُّكا غُمَّت بسُحب دمِ
وحية القلب ذابت بالفراق أسىً …… وانحطَ كل لسان بالبيان سَمِي
وقولها:
تركت الحب لا عن غير طولٍ …… ولا عن لوم واش أو رقيب
ولا عن روع زفرات التصابي ……ولا من خوف أجفان الحبيب
ولا حَذرَ الفراق وخوف هجر …… به تجرى المدامع كالصّبيب
ولكني اصطفیت عفاف نفسی …… تَقَرُّ بصفوه عين الأريب
وذاك لأنني في عصر قوم …… به التهذيب كالأمر العجيب
ولابد أن عائشة التيمورية كانت تجد متعة في كتابة النمطين من الشعر إذ إن كليهما كانا وجهين لعملة واحدة، هي ذات عائشة الداخلية المنقسمة على نفسها: وجه قُيض له أن يعيش في القيد نفسيًا كان أم لغويًا، ووجه كان يرى بصيصًا من النور فينطلق منه حيث الرحابة والاستمتاع المطلق بالجمال.
1 – مي زيادة: عائشة تيمور شاعرة الطليعة بيروت، ۱۹۸۳ ص ١٥٩
۲– می زيادة: باحثة البادية. مصر: مطبعة المقتطف،۱۹۲۰ ص 125
۳– مي زيادة: شاعرة الطليعة. المرجع السابق ص ۱۲۸
٤– زينب فواز: الدر المنثور في طبقات ربات الخدور– مادة عائشة التيمورية الكويت: مكتبة ابن قتيبة. ص 303.
5- د طه حسين: الأعمال الكاملة – المجلد العاشر بيروت: دار الكتاب اللبناني ص ۲۱۹.