من تاريخِ الحركةِ النسائية
ملك حفني ناصف “باحثةُ البادية”
لم تكن ملك حفني ناصف (١٨٨٦ – ١٩١٨) أول من نادى بتحرير المرأة، فقد سبقها الشيخُ رفاعة الطهطاوي في مطلع القرن الماضي. وسبقتها وزاملتها دعوةُ قاسم أمين الجريئة القوية، فكان لها من الدعوتين سند. وكان لها في دعوة قاسم أمين رأي. ولم تكن ملك أول كاتبة بالعصر الحديث، فقد سبقتها عائشةُ التيمورية الشاعرة، وداعيةُ إصلاح حال المرأة. كما سبقتها كاتباتٌ وافداتٌ من الشام، أمثال السيدة زينب فواز. وعاصرت ملك الكاتبة الرومانسية الشهيرة مي زيادة. ولعل هذا المد الفكري المتصل بوضع المرأة كان الإرهاصات الحقيقية التي أدت للمفاجأة الكبرى أثناء ثورة 1919 الشعبية، حيثُ خرجت المرأةُ المخدرة من ظُلمة الحرملك لتتقدم صفوف الثورة بجانب الرجل، وتشارك مشاركة إيجابية واسعة، ثم لتستثمر خطواتها الأولى، وتبدأ تشكيل الاتحاد النسائي والمنظمات النسائية المختلفة، لتدافع عن حقها في التعليم والعمل والمساواة بكل صورها.
نشأت ملك في أحد بيوت الطبقة الوسطى، وكان لوالدها الأستاذ حفنى ناصف (أحدُ المشاركين في تأسيس الجامعة المصرية) الفضل في إتمام ملك لتعليمها حتى تحصل على دبلوم التدريس، وتشجيعها على كتابة المقالات والشعر والمشاركة في العمل العام. وقد صهرت ملك موقف الزواج التقليدي تحت وطأة زوج يريدها أن تكون ملحقًا له، وزينة لمنزله. ولا يتورعُ أن يجمع بينها وبين زوجة أخرى كما كانت تقاليد ذلك العصر تبيح. وكيف لإنسانة كاملة مثل ملك أن ترضى بذلك مع اكتمالها عقلاً ونفسًا. ومع ذلك رضيت ملك أن تستمر مع زوجها، ورفضت الطلاق حتى لا يُقال أن المتعلمات العاملات بالحياة العامة يفشلن في حياتهن الزوجية. وتحملت قهر هذه الحياة، محولةً نارها إلى وقود يدفعها للمزيد من الفهم الواعي للضغوط الواقعة على امرأة العصر، وكل طموحاتها المشروعة لحياة إنسانية.
ولعل أبرز ما يُميزُ ملك أنها كانت ابنة عصرها بمعنى الكلمة، ولكنها ليست الابنة الخاضعة لضغوط ذلك العصر؛ بل الابنة التي تظهر فيها ملامح التغيير، في عصر كان التغييرُ فيه هو الأساس. ولكن التغيير في ملك كان بالتدريج وليس بالطفرة. كثرُ الحديثُ في عهدها عن الحجاب وأهمية تخلص المرأة منه، فكان رأيها أن الخلاص من الحجاب المعنوي الملقى على عقل المرأة هو البداية، ولها بعد ذلك الخيار في ترك حجابها المادي أو التمسك به. تقول: نطالبكم بتهذيب أرواحنا وتثقيف عقولنا، ولسنا نطالبكم برفع نقابنا … فمن المرؤة أن تُلبوا طلبنا وتتركوا ما عداه لنا، فسيأتي الوقتُ الذي نشعرُ فيه بحاجتنا إلى السفور. إذا قمتم بواجبكم نحونا؛ وهو تعليمنا وتهذيبنا، كنا بعد ذلك أبصرُ منكم بما ينفعنا وما يضرنا، كذلك نحنُ نعلمُ أن هذا الحجاب لن يدوم، ولكن ليس هذا أوانُ السفور، لأننا غيرُ مستعدات له، ونُفوسنا رُكب فيها أن تنتقب، ونفوسكم لا تصلحُ الآن باستقبال هذا السفور بالرضاء، فخذوا بأيدينا للعمل والتربية” .
كان هذا هو محورُ موقفها من قضية السفور، وقد أثارها كتابي قاسم أمين: تحرير المرأة ، والمرأةُ الجديدة. ولم تكن الأذهانُ في مصر مهيأة لقضية تحرير المرأة بهذه المباغتة. حتى أن الكتب التي انبرت للرد على قاسم أمين زادت عن المائة. تنبهت ملك لهذه الحقيقة، فأخذت تبدأُ بما هو أقربُ للإصلاح، بما لا يتعارضُ مع التقاليد، وهكذا سارت ملك بتحفظ بين الجديد والقديم.
إن تجربة الزواج جعلت ملك تنظرُ حولها كثيرًا، فإذا هي ترى فيه أساسُ الشر الذي تعانيه البيوتُ المصرية، وهي لا ترى الشر في الرجل؛ ولكن في التقاليد المحيطة بالزواج، فتطالبُ بحق المرأة في رؤية العريس المتقدم لها، ومخالطته في وجود الأهل حتى يعرف كل من الطرفين شريكه المقبل. وحاربت عادة تعدد الزوجات بشراسة، ورأت في الطلاق أخف الضررين: “والطلاقُ على مذهبي أسهلُ وأخف ألمًا من الضرة، فالأولُ شقاءٌ وحرية، والثاني شقاءٌ وتقييد . فإذا كان الشقاءُ واقعًا على أية حال؛ فلماذا تلتزمُ المرأةُ الصبر على الشدة، وترى بعينها ما يُلهبُ قلبها ويُدمى محجريها، ألا إن حزينًا حرًا خيرٌ من حزين أسير. ووقفت ملك ضد عادة تزويج الفتيات الصغيرات، وانتقدت تكلف الحياة الزوجية، وديكتاتورية الرجل واعتمادية المرأة، وكثيرًا من القيم الزائفة السائدة في ذلك العهد، كالمبالغة في المهور والمبالغة في إظهار الحزن والفرح. ونقدت بلا هوادة كثيرًا من الخزعبلات، مثل الزار والخوف من الحسد وتمائم الأطفال وغيرها. بل إن لها محاضرات عن كيفية تربية الاطفال، أراها منافسة لما كتبهُ الأطباءُ المتخصصون في علم نفس الطفل بعد ذلك بعقود عديدة.
ولعل الفضل الأكبر لملك كان دعوتُها الحازمة لتعليم المرأة: “والخلاصةُ أنّ المرأة يجبُ أن تتعلم بما يُمكنها أن تكون مستقلةً عن الرجل نوعًا، لا عالةً عليه. وهذا ما يُعيرها به الرجال“. “ووظيفةُ المرأة نافعةٌ وضروريةٌ كوظيفة الرجل، ولكن الجهل أفسد خُلقها وجعلها ترضي بأن تكون أنثى لا غير، فاحتقرها الرجلُ لأنها هي احتقرت نفسها، وجهلت قدرها“، بل إن ملك دعت إلى عمل المرأة، ولكن بنفس طريقتها المتحفظة المتدرجة: “لا أريدُ بقولي هذا أنَّ أحثَّ النساء على ترك الأشغال بتدبير المنازل وتربية الأطفال إلى الانصراف لاحتراف القضاء والمحاماة وإدارة القاطرات. كلا. ولكن إذا وُجدت منا من تريدُ الإشتغال بإحدى هذه المهن، فإن الحرية الشخصية تقضى بألا يُعارضها المعارضون” . ” يقولُ لنا الرجالُ ويجزمون: أنكن خُلقتن للبيت، ونحنُ خُلقنا لجلب المعاش. فليت شعري أيُّ فرمان صدر بذلك من عند الله، ومن أين لهم بمعرفة ذلك والجزم به؛ ولم يصدر به كتاب؟“
لقد آمنت مَلك بالتدريج ورفضت الطفرة. ولعل هذا الطابع الأصيل فيها هو اهتمامُها الشديدُ بالرأي الاجتماعي فيها. وهو ما دعاها كما أسلفنا القول، أن تحتمل حياةً بائسةً حتى لا يقال طُلقت السيدة المتعلمة. ولعلنا نرى هذا واضحًا في موقفها من قضية السفور، حيثُ أقرت ملك بالسفور في كثير من خُطبها ورسائلها، ورغم هذا كانت دعوتها الواضحة هي تقليدُ نساء تركيا في الخروج والحجاب. وقد أثبتت أحداثُ ثورة 1919 بعد ذلك أن ملك كانت متحفظةً بأكثر مما يتيح العصر. ففي خضم الثورة كنتيجة لانخراط كثير من النساء في العمل السياسي والاجتماعي، خلعن حجابهن كرمز لانقضاء عصر الحرملك، وعزل النساء واعتبارهن شريحةً اجتماعيةً دُنيا لا تصلحُ للعلم ولا للعمل.
ولعل عقلُ ذلك العصر، لم يكن يسمحُ لذهن كذهن ملك، أن يتصور حق المرأة المطلق في العمل واقتسام وظائف المنزل وتربية الأطفال مع زوجها، أو إيجاد حلول اجتماعية بديلة تتيحُ للمرأة القيام بوظائفها كإنسان وزوجة وأم. فظلت تعتقدُ في التقسيم التقليدي للعمل. فوظيفة المرأة الرئيسية كما تراها هي أعمالُ المنزل وتربية الصغار، والعملُ خارج المنزل من حق المرأة التي لا تلدُ أو تلك الخالية من الجمال التي لا يطمعُ بزواجها الرجال، وذلك لتعطل وظيفتها الطبيعية كأمرأة! ولعلنا لا نجرؤ أن نطالب ملك في بداية هذا القرن بأن ترى ما هو أبعدُ من ذلك بكثير.
وهناك قضية أخرى أظنها تشفعُ لملك تحفظها؛ ذلك أن مصر والبلدان العربية في ذلك العصر كانت تعاني من نير الاستعمار الأوروبي، وأن كثيرًا من الأفكار الليبرالية عمومًا كانت أفكارًا غربية ويمكننا تخيلُ حال مثقفى ذلك العصر كالماشي على الصراط يرى كثيرًا من القيم والعادات القومية تحتاجُ للنقد والهدم، ويتفهمُ الكثير من الأفكار الغربية الليبرالية ولكنه يخاف الانزلاق للتقليد والتخلي عن ثقافته القومية، وهي أحدُ أدوات مقاومة الاستعمار. ولقد كانت ملك حريصةً على قوميتها، ترى أن الاقتباس من الغرب يجب أن يكون بمقدار.
لقد ماتت ملك ولم تتجاوز الثانية والثلاثين من عُمرها، بعد أن تحدثت في هذيان الحمى الأخيرة بكل شقائها الزوجي الذي لم يشعر به أحد في حياتها. وكأنما القدرُ يريدُ أن يكون تراثها طبيعيًا فنعرف جميعًا أن قضاياها كانت نابعةً من القلب، ومن التجربة الشخصية. وبعد وفاة ملك بسنين قادت هدى شعراوي الحركة النسائية المصرية كرائدة سياسية. وبعد سنتين تاليتين امتلكت منيرة ثابت وحررت أول صحيفة نسائية بالعربية والفرنسية “جريدة الأمل“.