من قضايا العمل والتعليم
تأليف:
قضية استقلال الجامعة
اجتماعنا اليوم لنتذكر نبوية موسى له دلالة كبيرة، فنحن عندما نحيي ذكرى نبوية موسى إنما نحيي نضال المرأة المصرية على طريق العلم، ونبوية موسى رائدة متميزة في هذا المجال. كذللك عندما نتناول الجوانب المختلفة في نضال نبوية موسى على طريق العلم، فإننا نذكر لها أنها كانت من بين السيدات الأوائل اللاتي حاضرن في القسم النسائي بالجامعة المصرية التي بدأت كأمل يرتجي من صناع النهضة المصرية الحديثة للنهوض بالمجتمع المصري، علماً وفكراً.
أردت أن آخذ نبوية موسى حجة للحديث عن قضية استقلال الجامعة، واستقلال الجامعة المقصود به أن تكون الجامعة بوصفها مؤسسة علمية لها الحق في أن ترسم سياستها وأن تنفذها دون وصاية من هيئة خارجية، لأن الجامعة باعتبارها مناراً للفكر والعلم لا تستطيع أن تقوم برسالتها على أكمل وجه إذا كانت محاصرة ومغلولة الأيدي. وجامعتنا المصرية عندما قامت بوصفها جامعة أهلية في عام ١٩٠٨، إنما كان يستهدف الرواد الأوائل من ورائها أن يفتحوا أفاقاً جديدة للثقافة المصرية. وظلت الجامعة، وهي جامعة حرة أو جامعة أهلية، تتمتع بمساحة للحركة لا يقيدها إلا مواردها المحدودة حتى تبنت الحكومة الجامعة وحولتها إلى جامعة حكومية في اتفاق حرص أحمد لطفى السيد فيه على النص على أن يكون للجامعة الحق في تقرير أمورها بنفسها، لكن انضمام الجامعة للحكومة عام ١٩٢٥، أو تحول الجامعة إلى جامعة حكومية عام ١٩٢٥ بدأ بتبديد هذا الأمل، فقد أصبحت الجامعة خاضعة لوزير المعارف أي وزير التعليم فهو الرئيس الأعلى للجامعة وهو الذي يعين رئيسها. لكن وجود شخصية أحمد لطفي السهد التي لها ما لها من وزن، لم يجمل لهذا النص قيمة من حيث تقييد حركة الجامعة، ولذلك ما كاد يمر عام واحد حتى بدأت توضع قضية استغلال الجامعة موضع المحك، عندما ثارت سنة ١٩٢٦ أزمة كتاب طه حسين في الشعر الجاهلي.
القضية معروفة، طه حسين طبع محاضراته التي كان يلقيها على طلاب كلية الآداب في كتاب استخدم فيه مناهج النقد الحديثة عندئذ، وتناول فيما تناوله أشياء اعتبرها من يتربصون بالجامعة أن فيها مساساً بالعقيدة، وبدأ الهياج من الأزهر بزعامة شيخ الأزهر، واتجه الأزهر إلى الملك يطالبه بالتدخل، ونقلت المعركة إلى البرلمان، والبرلمان عندئذ رغم أنه بدأ بجهود دعاة الليبرالية لكنه كان يمثل تكوين اجتماعي يميل إلى المحافظة إلى أقصى حد، وبالتالي أصبحت هناك أزمة. حاولت الجامعة احتواء الأزمة بان أبدی طه حسین استعداده لأن يعطى الجامعة ما لديه من نسخ الكتاب، أي أن تقوم الجامعة بحظر تداول الكتاب، وتمسكت الجامعة بمساندة الأستاذ في موقفه بينما كان البرلمان يطالب بتنحيته من وظيفته، بل فرض رقابة صارمة على ما يدرس في الجامعة للتأكد أولاً من عدم مساسه “بالأخلاق“، هكذا قالوا، و“القيم الدينية“، وهنا تتجلى مواقف جديرة بالتسجيل، فقد رفضت الحكومة أن يكون للبرلمان دور في قمع الجامعة واكتفي بالطلب من الأعضاء الدين تبنوا الاقتراح في البرلمان أن يتقدموا ببلاغ للنيابة العامة، وأيضاً كان للنيابة العامة موقف جدير بالتسجيل عندما حفظت التحقيق إدارياً لأن القضية قضية حرية البحث العلمي وحرية الرأي. لكن ظلت محاولة الهيمنة على الجامعة وإخضاعها لمزيد من الرقابة الإدارية قائمة في إطار إصدار أول قانون لتنظيم الجامعة عندما كان في مرحلة الإعداد القانون الذي صدر سنة ١٩3٣. ففي سنة ۱۹۳۲ جرت عملية جس نبض لمدى تقبل الجامعة للرقابة الإدارية، فصدر قرار بنقل طه حسين، وكان عميداً منتخباً للآداب، لأن القانون الأول كان يقضي بأن ينتخب الأساتدة عميدهم في كل كلية، فنقل طه حسين إلى وزارة المعارف لحين انتهاء مدة خدمة مفتش اللغة العربية ليحل محله بوصفه مفتشاً للغة العربية. هنا أيضاً نجد مواقف جديرة بالتسجيل، مجلس كلية الآداب وقف بكامله إلى جانب عميده، طلاب الآداب أضربوا واعتصموا بالمبنى الذي كان مبنى قسم الجغرافيا، الآن أصبح مبنى المراكز العلمية، ومعهم طلبة الحقوق وطلبة الطب، واضطرت الحكومة إلى تعطيل الدراسة وخاصة عندما سجل أحمد لطفي السيد موقفاً نادراً فاستقال احتجاجاً على هذا القرار، وانتهت الأزمة بعودة الأستاذ إلى موقعه عام ١٩٣٤، وعودة أحمد لطفي السيد إلى موقعه عام ١٩٣٥. لكن القانون الذي صدر عام ١٩٣3 ألغى انتخاب العمداء وجمل من سلطة وزير المعارف أن يعين رئيس الجامعة ويعين العمداء، وأصبح أيضاً من سلطة الوزير أن ينقل الأساتذة من موقعهم إلى خارج الجامعة.
أزمة أخرى نشبت وكان الوزير على حق، لكن لأن مبدأ الدفاع عن استقلال الجامعة كان مبدأ أساسياً عارضت الجامعة موقف الوزير، الوزير هو محمد حسين هيكل والوقت عام ١٩٤١، كان القانون لا يشترط الترقيات لوظيفة الأستاذ المساعد والأستاذ بأبحاث ولكن يشترط مدة زمنية، فيرقي من مضى عليه أربع سنوات، وقد وضع تعديل للقانون ١٩٣٥ اشترط أن يكون للأستاذ أبحاث مبتكرة، ولكنه لم يبين كيف يمكن التحقق من قيمة هذه الأبحاث، أي لم تكن هناك لجان علمية، فعندما عرضت على الوزير قائمة بمن سيرقون في كلياتهم، رد الأوراق إلى الجامعة طالباً بيان ما انتجه هؤلاء منذ عينوا في وظائفهم، أي من مدرس لأستاذ مساعد ثم لأستاذ، فجاءت القوائم بيضاء من غير سوء ليس فيها إلا الدكتوراه، فرفض الوزير أن يمضي على الترقيات، والجامعة أصرت على أن يوقع الترقيات. في هذا الموقف كان الوزير على حق، والوزير هو من هو، محمد حسين هيكل لم يكن مثل أى وزير، لم يكن محمد حلمي عيسي مثلاً الذي كان وزيراً في وقت نقل طه حسين.
إنما لأن المسألة مسألة مبدأ، ما دام مجلس الجامعة قد رأى أهلية هؤلاء للترقية، فليس من حق الوزير أن يعترض. انتهى الأمر بموافقة محمد حسين هيكل على الترقية.
لكن جاءت محنة شديدة واجهتها الجامعة للأسف، عندما قامت ثورة يوليو ١٩٥٢، فقد بدأت الثورة في شكل انقلاب عسكري قام به الجيش، ولذلك سميت حركة الجيش” و“حركة الجيش المباركة“، ولهذا تحفظت هيئة التدريس في جامعة القاهرة وتوجست خيفة من هذا التغيير، لأن تاريخ الانقلابات العسكرية في أمريكا اللاتينية وغيرها غير مبشر بالخير. الجامعة التي أسرعت بتأييد الثورة كانت جامعة الإسكندرية، ولذلك كافأها الرئيس جمال عبد الناصر بأن جعل الاحتفال بخروج الملك ٢٦ يوليو دائماً في الإسكندرية، ودائماً كانت هناك إشادة بجامعة الإسكندرية على حساب جامعة القاهرة وجامعة عين شمس. ما لبثت أيضاً أن بدأت إجراءات التطهير في كل أجهزة الدولة، وطال الجامعة نصيب كبير منها. وقد كان كثير من الأساتذة يحملون ألقاب ورتب مدنية، وكان تقليداً تقريباً أن من يحصل على الأستاذية يأخذ لقب بك، وبعضهم كان يحمل رتبة الباشوية أيضاً، بعضهم له صلات بمن تولوا الحكم في الفترة السابقة على ثورة يوليو، وبعضهم كانت تربطهم روابط مصاهرة ببعض العائلات التي خضعت للإصلاح الزراعي. ولذلك ترتب على هذا التطهير خـروج كثير من الأساتذة المرموقين في تخصصاتهم من الجامعة.
وقد تشكل تنظيم في جامعة القاهرة أيضاً أطلق عليه “تنظيم المدرسين الأحرار“، وبدأ هؤلاء طبعاً يتطلعون إلى مد جسور الصلات مع النظام الجديد، والوشاية بمن لم تطولهم قوائم التطهير، وحدث انشقاق كبير، وعندما جاءت أزمة مارس ١٩٥٤ التي اتخذت شكل خلاف حول ديمقراطية أو لا ديمقراطية، وهي في حقيقة أمرها كانت صراعاً على زعامة النظام بين جمال عبد الناصر ومحمد نجيب، وقفت الجامعة طبعاً في صف المطالبة بالديمقراطية وبعودة الجيش إلى ثكناته، ولذلك فصل كثيرون من شباب أعضاء هيئة التدريس سواء من الليبراليين أو الاشتراكيين مرة أخرى سنة ١٩٥٤. بعد ذلك بشهور قليلة أصبح كمال الدين حسين وزيراً للتربية والتعليم، وهذا تطور له أهميته، فقد كونت إدارة اسمها إدارة الأمن في الوزارة، هذه الإدارة كانت تمر عليها كل أوراق الجامعة تعيينات، ترقيات، بعثات، سفر للخارج، وأصبح هناك ممثل لهذه الإدارة من كل جامعة، واختير من بين الضباط الذين أحيلوا على المعاش بعض الشخصيات الموثوق بها ليصبحوا أمناء للجامعات، أي رؤساء لجهازها الإداري، ففي وسط هذا الجو، لم تكن هناك فرصة للتفكير في موضوع استقلال الجامعة، وقد طارت الكثير من الرؤوس، وظهرت حاجة النظام إلى استوزار التكنوقراط وفتح الباب أمام أساتذة الجامعة لتولي مناصب الوزارة، وكذلك تولى الوزارة من خلال الالتحام بالتنظيم السياسي سواء كان هيئة تحرير أو اتحاد قومي أو اتحاد اشتراكي، أدى هذا كله إلى تحويل الحديث عن استقلال الجامعة إلى همس يدور في الجلسات الخاصة.
وقد أحكم القانون الذي وضع لتنظيم الجامعات سنة 1956 قبضة الدولة على الجامعات وجعل قرارات مجالس الجامعات لا تسرى إلا إذا صدق عليها الوزير أو إذا صدر بها قرار من الوزير، وأعطت أيضاً النصوص القديمة للقوانين القديمة للوزير حق نقل أعضاء هيئة التدريس إلى خارج الجامعة سواء في المؤسسات العامة أو في غيرها، وأيضاً أعطى الوزير حق تعيين رؤساء الجامعات والعمداء، ليس هذا فقط، لكن هناك نص في قانون 1956 – واستمر حتى قانون 1958 الذي صدر بمناسبة الوحدة مع سوريا – ألزم العميد بأن يبلغ رئيس الجامعة عن أي تصرفات يراها تتنافى مع واجبات عضو هيئة التدريس، أي أن العميد أصبح مخبراً حسب نص القانون يرصد ويبلغ عن كل ما يدور في كليـتـه، القانون الذي صدر بمناسبة الوحدة مع سوريا قانون تنظيم الجامعات لسنة 1958 أكد كل هذه المبادئ مرة أخرى، بل أعطى سلطات للمجلس الأعلى للجامعات جعلته أداة الوزير في التحكم في الجامعات.
لكن رغم ذلك حدثت وقفة دفاعاً عن استقلال الجامعة في مايو ١٩٦٧، وفي صيف ١٩٦٧ قبل نكسة يونيو أو هزيمة يونيو، كان هناك وزير اسمه د. عزت سلامة وزير تعليم عالی، اتخذ من القسم حجر زاوية للجامعة وليس الكلية، أي تحويل الجامعة إلى مجموعة من الأقسام وإنشاء كلية للدراسات العليا. كان هو الجانب الإيجابي الوحيد، غير ذلك أضيفت مواد تتعلق بتشكيل مجلس الجامعة جعلت من حق الوزير أن يشكل أو يضع في مجلس الجامعة شخصيات لها مساهمتها الوطنية، معنى هذا أنه يمكن أن يدخل أشخاص من الاتحاد الاشتراكي في مجالس الجامعات بحكم عضويتهم في الاتحاد الاشتراكي. أيضاً أعطى الحق للوزير بأن يعين أشخاصاً من خارج الجامعة في وظائف أعضاء هيئة التدريس لكفاءات يراها فيهم. وهنا قامت القيامة، ويبدو أن وقتها السلطة لم تكن راضية عن الوزير لأن أبواب الأهرام فتحت لمختلف الآراء، وأهرام مايو 1967 حافل بهذا الحوار بين الوزير وبين معارضيه، ومرة أخرى طفت على السطح قضية استقلال الجامعة وأتيحت الفرصة للحديث. الشخصيات التي دخلت في الحوار كانت شخصيات مهمة للغاية، منهم رفعت المحجوب وفتحى سرور وبعض من تولوا مناصب وزارية بعد ذلك ومناصب في السلطة واحتلوا مراكز في التنظيم السياسي، وانتهى الأمر بأن تغيرت كل الدنيا في يونيو 1967، (أي بعد النكسة) واستمر الحال على ما هو عليه.
باختصار ما هو جوهر هذه المشكلة؟ جوهر هذه المشكلة هو قضية الديمقراطية النظام الليبرالي، النظام الذي صنع الليبرالية في مصر بعد ثورة 1919 في تطبيقه الليبرالية جردها من أهم مظاهر الديمقراطية، وهي إتاحة الفرصة للجماهير لكي تعبر عن رأيها على الأقل من خلال اختيار ممثليها بشكل جيد، فالممارسات التي تمت في حياتنا النيابية كلها كانت تشي بأن الليبرالية التي شهدناها كانت شكلاً بغير مضمون. كذلك الحال في الديمقراطية في ظل ثورة يوليو، حيث تم تضخيم دور الأجهزة الأمنية، وكل هذا كان يشكل الإطار الذي دارت في داخله قضية استقلال الجامعة.
جابر عصفـور
ما كان يمكن لرواد الجامعة المصرية أن يحتفلوا بوضع حجر الأساس لمبانيها في نهاية شهر مارس سنة 1914، وبحضـور الخديوى عباس حلمي الثاني وكبار رجال دولته، لو لم تكن الأميرة فاطمة إسماعيل قد أوقفت للإنفاق على الجامعة أكثر من ستمائة فدان، ووهبتها ستة أفدنة لتقيم عليها مبانيها، وتبرعت بالمال الذي أعان الجامعة على أزمة نقص مـواردها، وأضافت إلى ذلك التبرع بمجموعة من أنفس مجوهراتها، بل تكفلت بجميع نفـقـات الاحتفال نفسه. ومع ذلك لم تحـضـر ذلك الاحتفال الذي ما كان يمكن أن يحدث لولاها. ولم تكن إلى جانب ابن أخيها الخديوي عباس، ولا أخيها الأمير أحمد فؤاد، وهما يضعان الحجر الذي نقش عليه عبارة “الجامعة المصرية، الأميرة فاطمة إسماعيل، سنة ١٣٣٢ هـ“. ولم تستمع الأميرة مع الحضور إلى قصيدة أحمد شوقي التي مدحها فيها بقوله:
يا عمة التاج ما بالنيل من كرم…… إن قيس بحركم الطامي بمقياس
وإنما أنابت عنها أبناءها ووكيل أعمالها، وظلت هي في قصرها تسمع وترى بأذان وعيون غيرها. والسبب في ذلك أن تقاليد المجتمع المصرى ما كانت تسمح لأميرة، فضلاً عن امرأة، أن تحضر احتفالاً عاماً للأمة، وأن تشارك فيه، أو تكون موضع التكريم منه، حتى لو كانت قد فعلت ما لم يفعله الرجال، وحتى لو كانت هي السبب في الاحـتـفـال، وحتى لو كانت عـمـة الخـديوي وأخت الأمير الذي يرأس مجلس إدارة الجامعة.
والمفارقة التي تستحق الانتباه والتأمل في الموقف كله، أن صفوة المجتمع التي لم تتردد في تقبل أمـوال هذه الأميرة لبناء جامعة تسهم في انتقال المجتمع من وهاد التخلف إلى ذرى التقدم، وتلقت هذه الأموال بعظيم الشكر والامتنان، لم تكن قادرة على أن تحث هذه الأميرة على الخروج من قصرها، وتلح في دعوتها لكي تشهد احتفال الأمة بالجامعة التي لولاها ما خرجت مبانيها إلى الوجود. ولكنها شروط التخلف وقيود التقاليد الجامدة التي فرضت نفسها على الخديوي والأمراء وصفوة الأمة وعامة الشعب. وهي شروط وقيود ظلت حجر عثرة يعرقل جهود رواد الاستنارة، منذ أن تلقى على مبارك تعليمات الخديوي إسماعيل – والد الأميرة فاطمة – في سنة 1869 للتعجيل بإنشاء المدرسة الأولى لتعليم البنات التي افتتحت سنة 1873. ولم تفلح كتابات أمثال قاسم أمين، وكتابات طليعة حركة تحرير المرأة قبله، سوى في أن تفتح ثغرة تنفذ منها نسمات التحرر التي حاولت تخفيف وطأة التقاليد البالية، لكن دون أن تملك هذه النسمات القوة التي تجعل منها – وقت إنشاء الجامعة – ريحاً تقوض أساس ما ظل مسلماً به، منذ أن قال على مبارك نفسه: “إن عادات الشرقيين في احتجاب النساء عن الرجال أصح وأصلح“.
ولحسن الحظ فإن القلة المستنيرة التي تحمست لإنشاء الجامعة، وعلى رأسها قاسم أمين سكرتير لجنة الجامعة الذي توفي قبل افتتاحها بأشهر معدودة، انطوت على رغبة تحرير المرأة، وأفلحت في أن تجعل من التعليم الجـامـعي للمرأة بعض العناصر المضمرة في مشروع الجامعة نفسها، أعنى العناصر الموجودة منذ البداية، لكن المسكوت عنها إلى حين، والتي تقرر أن يتم تنفيذها بالرفق والحيلة خوفاً من غضبة المتزمتين، وخشية من ثورة العمائم، وحماية للجامعة الوليدة من عواصف التخلف التي كانت متأهبة للانطلاق في أية لحظة. وهي عواصف ما كان يمكن مواجهتها – نتيجة الظرف التاريخي – إلا بنوع من الحكمة التي تضمنها البيت الذي تمثل به أحـمـد شوقي:
إن الأراقم لا يُطاق لقاؤها……وتُنال من خلف بأطراف اليد
وكـان مـوضع الاستشهاد بهذا البيت – في مقدمة الطبعة الأولى القديمة من الشـوقـيـات – أن التجديد لا يحدث طفرة، وأنه لابد من التدرج الذي يسـوس حـدة الرفض، شيئاً فشيئاً، إلى أن يقوى الجديد ويفرض وجوده. وكانت تلك، على وجه التحديد، السياسة التي اتبعها القائمون بأمر الجامعة منذ أن كان قاسم أمين سكرتيراً للجنتها إلى أن أصبح أحمد لطفي السيد مديراً لها بعد اكتمال مرحلتها الأولى.
وأتصور أن جهود رواد الجامعة المستنيرين من الرجال كانت موازية لجهود طليعة الحركة النسائية في هذا المسعى المتدرج، فالطليعة النسائية التي بدأت في التعبير عن نفسها حتى من قبل أن يصدر قاسم أمين كتابه “تحرير المرأة “سنة ١٨٩٩، نجحت في تأكيد صفة المرأة الكاتبة، وأفلحت في إصدار صحافة نسائية مستقلة منذ أواخر القرن التاسع عشر، وأسهمت في تشكيل نوع جديد من القارئات اللائي كن قد بدأن في التكون الفاعل مع اتساع قاعدة التعليم النسائي في مصر منذ سنة 1873، ومنذ أن توجهت إليهن كتابات خاصة بهن، بدأت بما نشره رفاعة الطهطاوي في “المرشد الأمين لتربية البنات والبنين “قبل حوالي عشرين عاماً من إصدار هند نوفل مجلة “الفتاة “في الإسكندرية سنة ١٨٩٢.
ولم تكن مجلة “الفـتاة “المجلة النسائية الوحيدة، قبل افتتاح الجامعة، فقد لحقت بها مجلة “الفـردوس “التي أصدرتها لويز حبالين في يونيو ١٨٩٦، وبعدها بأشهر أصدر سلیم سركيس مجلة “مرآة الحسناء “في نوفمبر 1896، ثم أصدرت الكسندرا افيـرنـيـو مجلة “أنيس الجليس “في الإسكندرية سنة 1898، وأعقبتها إستر ازهرى مـويـال بتـأسيس “مجلة العائلة “في عام 1899 الذي أصدر فيه قاسم أمين كتابه “تحرير المرأة “الذي أتبعه بكتاب “المرأة الجديدة “الذي صدر في سنة 1900. وهي السنة التي سافرت فيها الكسندرا أفيرنيو إلى باريس لتمثيل المرأة المصرية في مؤتمر الاتحاد النسائي العالمي للسلام، وشهدت سنة 1901 تأسيس أنيسة عطا الله مجلة “المرأة “التي رأست تحريرها في موازاة مجلة “شجرة الدر “التي رأست تحريرها سعدية سعد الدين زادة، كما شهدت السنة نفسها بداية إرسال الدولة بعثات تدريب المعلمات إلى الخارج. وفي سنة ١٩٠٢ تأسست مجلة “الـزهـرة “لمريم سـعـد ومجلة “السعادة “لرجينا عوض، وأصدرت روز انطون –شقيقة فرح أنطوان وزوج نقولا حداد– مجلة “السيدات والبنات “سنة 1903 في الإسكندرية، حيث كان شقيقها يصدر مجلة “الجامعة“. وتصدر لبيبة هاشم مجلة “فتاة الشرق “سنة 1906، وهي السنة نفسها التي اجتمعت فيها اللجنة التأسيسية الأولى للجامعة. وبعد ذلك بعام واحد، تؤسس جميلة حافظ مجلة “الريحانية “في حلوان، في السنة نفسها التي تأسست فيها مجلة “الجـريدة “للتعبير عن حزب الأمة. وفي السنة نفسها التي تفتتح فيها الجامعة، تحصل نبوية موسى على الشهادة الثانوية بالرغم من محاولة المستشار التعليمي البريطاني (دانلوب) منعها من ذلك، وتأسس “جمعية ترقى المرأة “بواسطة فاطمة راشد وأقرانها.
ويمكن وصف هذه الجهود المتتابعة من الصحافة النسائية(1) بأنها ظلت هامشية إلى حد كبير، وأنها لم تحدث تأثيراً انقلابياً أو جذرياً بكل معنى الكلمة، ولكنها –وهذا هو الأهم– أحدثت بتتابعها نوعاً من التراكم البطيء، لم يضع أثره، وأسهم في التوسيع التدريجي لدوائر المجموعات النسائية القارئة. وهي المجموعات التي أقبلت على كتابات بنات جنسها، وعملت على تشجيع الكاتبات الواعدات، خصوصاً أولئك اللاثي أخذن يطالبن بحقوق المرأة المهدرة، ويدعمن حضورها الواعد في المجتمع المدني، وهو حضور كان يتصاعد تدريجياً، جنباً إلى جنب التزايد الموازي لتعليم البنات، سواء بواسطة المدارس التي أنشأتهـا الجاليات الأجنبية أو التي أنشأتها الدولة أو التي أنشأتها الجمعيات الأهلية الوطنية.
ولذلك لم يكن من قبيل المصادفة أن تصدر مجلة “الفتاة” في الإسكندرية سنة ۱۸۹۲ بعد حوالي تسعة عشر عاماً من عمل المدرسة السنية التي كانت المدرسة الحكومية الأولى لتعليم البنات، وأن تحصل ملك حفنى ناصف (المولودة سنة ١٨٨٦) على الشهادة الابتدائية من هذه المدرسة سنة 1900، وهي السنة التي صدر فيها كتاب “المرأة الجديدة “لقاسم أمين، قبل سنة واحدة من إنشاء جمعية تعليم البنات الإسلامية لتوفير التعليم المجاني للبنات وبداية إرسال الدولة بعثاتها لتدريب المعلمات في الخارج، ولم يكن من قبيل المصادفة، بالقدر نفسه أن تحصل ملك حفنى ناصف، على دبلوم المعلمات، وتجتاز نبوية موسى (المولودة سنة ١٨٩٠) امتحان نهاية المرحلة الابتدائية في مدرسة عباس الثانوية سنة 1903. وهي السنة التي أصدرت فيها روز حداد مجلة “السيدات والبنات” في الإسكندرية. ويمكن أن نلحظ التلازم نفسه ما بين تعيين ملك حفنى ناصف بالمدرسة السنية سنة 1905 وتخرج نبوية موسى من المدرسة نفسها وتعيينها مدرسة في قسم البنات بمدرسة عباس الابتدائية سنة 1906. وهي السنة التي أصدرت فيها لبيبة هاشم مجلتها “فتاة الشرق “بعد أن أصبحت معروفة بكتاباتها القصصية التي تتابعت في مجلة “الضياء “حتى من قبل صدور روايتها “قلب الرجل” سنة 1904.
ولم تكن الطليعة التي دعت إلى إنشاء الجامعة، وبذلت جهدها إلى أن افتتحت الجامعة فعلياً، بعيدة عن الطليعة النسائية التي تراكمت إنجازاتها المتنوعة إلى وقت افتتاح الجامعة بما جعل من الحضور النسائي حضوراً لا يمكن تجاهله في الهيكل العلمي أو التدريسي. ومن المنطقي في تتابع المسار الصاعد لحضور المرأة، ورغم كل ما يمكن أن يقال عن هامشيته في تلك الفترة، أن تتصل الطليعة النسائية بالطليعة المؤسسة للجامعة، ابتداء من قاسم أمين الذي كتب عن “المرأة الجديدة “مع مطلع القرن، وليس انتهاء بحفني ناصف الذي تدين له ابنته ملك حفني ناصف بتشجيعها على الكتابة وإلقاء المحاضرات العامة.
ويبدو أن علينا التنبيه إلى أن الجامعة المصرية، حين افتتحت في نهاية سنة ١٩٠٨. لم تكن جامعة بالمعنى الذي نعرفه اليوم، إذ لم يكن بها كليات مستقلة أو حتى أقسام متميزة، وإنما كانت جامعة مفتوحة، تقوم على مجموعة من المحاضرات المتاحة للجميع مقابل رسم بسيط. ولم تعرف الجامعة فكرة الأقسام التي كانت نواة للكليات إلا مع العام الدراسي ۱۹۱۰ – 1911. ولذلك كان من الطبيعي أن تحضر المستنيرات من نساء الطبقة الأرستقراطية ومن أبناء الشرائح العليا للطبقة الوسطى الصاعدة محاضرات الجامعة العامة، ولكن بأعداد قليلة جداً بالطبع، وحرص كامل على عدم لفت الانتباه وعلى نحو غير رسمي أو معلن، وانطلاقاً مما أعلنته اللجنة الأولى المؤسسة للجامعة من أن الجامعة مدرسة علوم وآداب “تفتح أبوابها لكل طالب علم مهما كان جنسه ودينه“. وكانت تلك هي البداية التي أعقبها اقتراح تقدمت به هدى شعراوی (۱۸۷۹ – ١٩٣٧) إلى القائمين على أمر الجامعة، كي يسمحوا للآنسة كليمان بإلقاء محاضرة (بالفرنسية) على مجموعة من النساء في قاعة المحاضرات، فوافق الأمير أحمد فؤاد رئيس مجلس إدارة الجامعة على الطلب، وتبع ذلك محاضرات خاصة للسيدات في أيام الجمع، بعيداً عن أعين الرجال، وفي مأمن من النتائج السلبية المحتملة للتباين الثقافي الاجتماعي بين الطلاب المطربشين والمعممين. وقد ألقت ملك حفني ناصف عدداً من هذه المحاضرات، سواء في إحدى قاعات الجامعة أو في صالة “الجريدة” التي رحب رئيس تحريرها أحمد لطفي السيد باستضافة بعض محاضرات الجامعة إلى أن حلت الجامعة مشكلة المقر باستئجار سرای جناكليس التي لا تزال في موقعها إلى اليوم (مقر إدارة الجامعة الأمريكية بميدان التحرير). وتشجعت الجامعة على التحرك خطوة إلى الأمام، ربما لأن بداية المحاضرات المخصصة للنساء كانت بالفرنسية المقصورة على بنات الأرستقراطية الحاكمة والشرائح العليا من الطبقة الوسطى المصرية. ولم يصدم ما جاء بعد ذلك من محاضرات بالعربية الوعي الجامعي الوليد، فقد ظلت محاضرات ملك حفنى ناصف على سبيل المثال، مثل مقالاتها، معتدلة إلى حد كبير، بل أكثر تحفظاً من آراء قاسم أمين عن “المرأة الجديدة “التي وقفت ملك على النقيض من بعضها. وكانت النتيجة أن افتتحت الجامعة “قسم السـيـدات “الذي قررت أن توليـه عنايتـهـا سنة 1910، واستضافت المدموازيل كـوفـرير المدرسة بمدرسة راسين في فـرنسـا لـتـقـوم بإلقـاء محاضرات باللغة الفرنسية في علم النفس والأخلاق والتربية.
وقد شهدت هذه المحاضرات إقبالاً ملحوظاً من نساء الأرستقراطية المصرية ومن في حكمهن من اللاتي كن يعـرفـن الفـرنـسـيـة بالطبع. وفي وثائق الجـامـعـة “أسـمـاء فضليات السيدات والآنسات اللائي كن يحـضـرن المحـاضـرات التي كانت تلقيها مدموازيل كوفرير في سنة 1910 عن المرأة وتاريخ حياتها“. ويذكر أحمد عبد الفتاح بدير (في كتابه عن “الأمير أحمد فؤاد ونشأة الجامعة المصرية“) تسعة وخمسين اسماً من هذه القائمة: عشرون اسماً منها ينتمي إلى الجاليات الأوروبية، والبقية لمصريات بارزات، منهن كريمة وعقيلة أرتين باشا من مؤسسي الجامعة، وثمـاني أميرات من الأسرة المالكة، وزوجات حسين رشدى باشا وسعد زغلول باشا ومحمد بك محمود من الذين تولوا منصب رئاسة الوزارة بعد ذلك، إلى جانب زوجات وعـقـيـلات باشـاوات وباكوات وأفنديات الصفوة الاجتماعية(٢). وذلك وضع أضفى على هذه المحاضرات نوعاً من الحماية، وقرناها بأبناء وبنات الطبقات التي ورثت عن الخديوي إسماعيل حلمه بأن تكون مصر قلعة من أوروبا. وهي الطبقة التي كانت في القمة منها الأميرة فاطمة إسماعيل ابنة الخديوي الذي استهل تعليم الدولة للبنات.
ولم يتردد أعضاء هيئة التدريس بالجامعة في تقبل المدموازيل كوفرير بينهم. وفي الكتاب الوثائقي الذي أعده أحمد عبد الفتـاح بدير (الذي كان يشغل منصب أمين الحجرات التذكارية بالمكتبة العامة بجامعة فؤاد الأول وقت صدور كتابه عن مطبعة الجامعة سنة ١٩٥٠) صورتان فوتوغرافيتان للأستاذة الفرنسية السافرة غير المحجبة، تتوسط هيئة التدريس من الرجال. وتجلس المدموازيل كوفرير في الصورة الأولى (التي التقطت سنة 1911 لأعضاء هيئة التدريس) وفي المنتصف تماماً من الصف الأول، على يمينها صابر صبري باشا وحفني ناصف بك (والد ملك حفني ناصف) وعن يسارها إسماعيل حسنين باشا والأستاذ نللينو. ويقف في النصف الثاني من الصورة المسيو ألبـرت بوفليه والمسيو سيمون وأستاذ للآداب الإنجليزية لم يعرف صاحب الكتاب الوثائقي اسمه، والملامح المصرية التي تحيط بالمدموازيل الفرنسية باسمة، متطلعة إلى الأمام في ثقة وطيبة، بينما تجلس المدموازيل الفرنسية هادئة مطمئنة سافرة تعلو رأسها تسريحة شعر فرنسية تبرز استطالة الوجه الذي تتطلع عيناه إلى الأمام بما يشبه التأمل. أما الملابس ففرنسية الطراز، محتشمة، مكونة من “بلوزة “طـويـلـة الأكمام، تغطى الرقبة مع “جـوب “طويل يمس الأرض، لكن لا يخلو من زخرفة ذات معنی.
ودلالة الصورة الثانية (التي التقطت سنة ١٩١٣) أكثر كشفاً عن المعنى، فالآنسة الفرنسية ترتدى ثوباً مختلفاً هذه المرة، طويل الأكمام كالثوب السابق، لكنه مكون من قطعة واحدة يظهر من أعلاها قميص يحيط بالرقبة. والثوب بوجه عام يدنو من الأرض بما يسمح بظهور طرف الحذاء الأنيق. وتجلس المدموازيل كوفرير في الصف الأول كالصورة السابقة، وتبدو أكثر ثقة بين الشيخ محمد الخضيري المعمم بزيه الأزهرى على يمينها، قبل حفني ناصف بك، وعن يسارها إسماعيل رأفت بك المطربش بزيه الإفرنجي. ويحيط بالجلوس الأستاذ بوليه والأستاذ ماسينيون والأستاذ نللينو والأستاذ مللر والأستاذ شارل سيسون والأستاذ ليتمان. والدلالة الأولى في الورود على الذهن هي تصاعد عدد الأساتذة الأجانب الذين أخذت الجامعة تستعين بهم في توسيع دائرة المحاضرات النوعية التي أصبحت نواة إنشاء أقسام متنوعة في كلية الآداب. أما الدلالة الثانية فتتصل بأن الحضور النسائي بين أعضاء هيئة التدريس ظل أقل من القليل في هامشيته إلى أبعد حد.
وإذا صح أن الصورة قـد أخذت سنة ١٩١٣، بعد الصورة الأولى التي أخذت سنة 1911، فإن الدلالة المتكررة هي خلو الصورتين معاً من شخصية نسائية وطنية. وتلك دلالة لا تنفصل عن دلالة عـدم تـواجـد المرأة بشكل علني، أو رسمی، منتظم، في الجامعة، الأمر الذي يلازمه عدم تعاقد الجامعة مع سيدات للتدريس، باستشاء الأستاذة الفرنسية التي لم تشعر الجامعة بحرج في التعامل معها، بوصفها أستاذة أجنبية حاصلة على درجة الدكتوراه من موطنها، ويمكن أن تحاضر بالفرنسية لعدد جد محدود من سيدات الطبقة العالية، وعلى سبيل التجريب، إلى أن تتأكد الجامعة من ردود الفعل وتطمئن لحسن الاستجابة. وذلك تعارض توازی دلالته دلالة تعارض الزي في ملابس أعضاء هيئة التدريس الوطنية، ما بين المعمم والمطربش، جنباً إلى جنب الحضور الأجنبي الذي سرعان ما تعارضت فيه الكثرة العددية للأساتذة الأجانب بالقياس إلى الأساتذة الوطنيين، فضلاً عن تعارض الكثرة العددية للأساتذة الذكور (الأجانب) مقابل المرأة الأجنبية الوحيدة. والدلالة النهائية هي كثرة التعارضات التي انطوى عليها الموقف الذي انطلقت منه عملية تأسيس الجامعة.
هذه التعارضات كانت أساس السياق الذي ألقت فيه المدموازيل كوفرير محاضراتها في العام الجامعي ۱۹۱۰ – 1911، وهي المحاضرات التي طبعتها الجامعة بالفرنسية تحت عنوان “دراسة أخلاق النساء ونفسياتهم “فيما طبعته من دروس أساتذتها. ويبدو أن نجاح تجربة التعاقد مع الأستاذة الفرنسية، ومرور محاضراتها دون ردود أفعال سلبية، شجع إدارة الجامعة على دعوة البارزات من كاتبات العصر للمحاضرة في القسم النسائي. وكانت البداية دعوة السيدة نبوية موسى المصرية ناظرة مدرسة المعلمات بالمنصورة التي ألقت دروسها بالعربية في مواضيع عصرية، جنباً إلى جنب السيدة لبيبة هاشم اللبنانية الأصل التي كانت معروفة بإسهاماتها في الفن القصصي الوليد، فضلاً عن كتاباتها الإصلاحية التي تزايد إيقاعها منذ أن أصدرت مجلة “فتاة الشرق سنة 1906 قبل افتتاح الجامعة بسنوات ثلاث.
ويبدو أن إدارة الجامعة كانت تبنى على “قسم السيدات “من الآمال ما دفعها إلى اعتباره أحد أقسامها الثلاثة في العام الجامعي ۱۹۱۱ – ۱۹۱۲، حيث شمل نظام التعليم ثلاثة أقسام، هي: قسم الآداب، وفرع العلوم الاقـتـصـادية والسياسية والاجتماعية، والفرع النسائي، وكان اهتمام الجامعة بهذا القسم (الفرع) نتيجة إيمان القائمين عليها بأن التعليم النسوي من أهم أسباب تقدم الأمم وارتقائها من كل الوجوه، وقد أعلنت الإدارة أن فائدة هذا التعليم غير مقصورة على إيجاد السعادة العائلية بين الأفراد، وما يترتب عليها من بعث الهمة والخير في النفوس، ولكن يمتد الأثر الطيب إلى ما تراه ظاهراً جلياً في جميع صفات الأمم التي ارتقت نساؤها، فيما ذكر أحد القائمين على أمر الجامعة. وقد ازداد الاقتناع بذلك إلى درجة التوسع في الفـرع النسائي على قدر ما سمحت به الحال، فأصبحت دروسه تشمل محاضرات الآنسة كوفرير بالفرنسية ومحاضرات عربية عن تاريخ مصر القديم، وتاريخ مصر الحديث، والدولة الإسلامية وعلاقتها بمصر، وعادات المصريين وتأثير الإسلام فيها، ودولة المماليك، وأشهر النساء في جميع ما ذكر من التاريخ. وعهد في تدريس هذه المواد إلى نبوية موسى ومعها لبيبة هاشم، فضلاً عن السيدة رحمة صروف التي تولت تدريس التدبير المنزلي. وشارك المحاضرات من النساء في التدريس أساتذة أجانب، كانوا يحاضرون بالعربية من أمثال ليتمان الذي كان يتولى تدريس اللغات السامية، وملوني الذي كان يحاضر في تاريخ الشرق الأدنى، ونللينو الذي كان يتولى تدريس آداب اللغة العربية.
وكان المقصود من هذا التوسع، المحدود في النهاية، إكثار عدد المحاضرات العربية في القسم النسائي الذي اختيرت له مـوضـوعـات ملائمة لواقع المصريات، ومن ثم التركيز على ما يمكن أن يعود بالنفع على المرأة المصرية، ويدفعها إلى النجاح في حياتها الأسرية والترقي في المجتمع بوجه عام. ولكن يبدو أن ذلك التوسع المحدود لفت الأنظار إلى وجود المرأة في الجامعة، خصوصاً بعد أن تسابقت بعض صحف العصر على نشر المحاضرات النسائية، وشجعت المحاضرات على الكتابة التي أثارت، بدورها، استجابات متعارضة، فبدأ تحرك المتزمتين، واحتجاج المعتصمين. وتصاعد رفض الكثير من المعارضين لتعليم المرأة ابتداء، وتحول الأمر إلى نقاش لـم يخل من الهجوم الحاد على الجامعة الوليدة باسم الحفاظ على الأخلاق ونواهي الدين.
رغم أننا لا نمتلك النصوص الكاملة للمحاضرات التي ألقتها كل من ملك حفنى ناصف ونبوية موسى ولبيبة هاشم وغيرهن، لكن بعض ما وصلنا يكشف عن الأسباب التي أدت إلى سخط الجماعات المحافظة على القسم النسائي، ويكفي للدلالة على ذلك الاقتصار على أكثر هؤلاء النساء المحاضرات اعتدالاً في مواقفها أو محافظة من وجهة نظر راديكالية، أقصد ملك حفني ناصف التي قارنت بين “المرأة المصرية والمرأة الغربية “في إحدى محاضراتها، ولم تتردد في إدانة وضع المرأة المصرية، والكشف عن الواقع المهين لتخلفها، متوسعة بنقدها الذي شمل موقف الرجال من المرأة حتى أولئك الذين ذهبوا إلى أوروبا.
ولم تكن ملك حفنى ناصف تقصد بمقارنتها هذه الانحياز إلى النموذج الغربي للمرأة، فقد كانت رافضة لهذا النموذج، باحثة عن نموذج وطني لتحرر المرأة، نابع من ميراثها الديني وظروفها الخاصة. لكن انحيازها إلى تعليم المرأة بوجه عام، ومطالبتها بأن تتعلم البنات حتى مهنة الطب، ورفضها كل ما يحط من دور المرأة بالمقارنة بأدوار الرجل، وهجومها الحاد على استبداد الرجل ووصايته على المرأة ومحاربته محاولاتها في التـحـرر من تسلطه، كل ذلك ومثله في المحـاضـرات الملازمة، كان لابد أن يثيـر المحافظين على مـحـاضـرات القسم النسائي بالجامعة التي سمحت لهؤلاء النساء الكاتبات بتعليم غيرهن الثورة على الهيمنة الذكورية الراسخة.
ولم يكن شـاعـر مـثـل أحـمـد شـوقي بك (قبل أن يكون باشـا بعـيـداً عن تأثيـر مجموعات الضغط المحافظة اجتماعياً، فكتب قصيدة رمزية عنوانها “بين الحـجـاب والسفور“. يرمز فيها للمرأة بالطائر الذي يحبسه صاحبه خوفاً عليه، ويخاطب شوقي هذا الطائر (الكنار) بقوله:
بالرغم مني ما تعالج….……في النحاس المقفل
حرصي عليك هوى، ومن………يحرز ثميناً يبخل
والشح تحدثه الضـرو… رة في الجواد المجـزل
…………
صبراً لما تشقى به…….. أو ما بدا لك فافعـل
أنت ابن رأي للطبي…….عة فيك غير مبـدل
أبدأ مروع بالإسا……..…..، مهدد بالمقتل
إن طرت عن كتفى وقـع…… ت على النسور الجهل
وقد نشر قصيدته في صحيفة “الجـريدة “التي كان يرأس تحريرها لطفي السيد وأهداها إلى ملك حفني ناصف، كما لو كان يستجيب بقصيدته إلى آرائها التي أذاعتها في الجامعة وعلى صفحات الجريدة على السواء، وكان في قصيدته ينطق عن صوت الهيمنة الذكورية السائدة التي كانت ترى أن سجن المرأة، وعدم السماح لها بالخروج إلى الحياة العملية إنما هو حماية لها، وضناً بها أن تكون فريسة للحياة القاسية ومعرفة بطبيعتها الهشة الرقيقة التي لا تحتمل “النسور الجهل“. ويبدو أن القصيدة استفزت المدافعين عن تحرر المرأة، ودفعت البعض إلى الرد على أحمد شوقي بك بمعارضة قصيدته في “الجريدة “على لسان المرأة التي تصورها المعارضة الشعرية ترد على شوقي قائلة:
سميتني ملك الكنـار….. وأنت رب المنزل
وجعلتني رهنا لأق….. فاص الحدي المقفل
غللتنی وسجـنتني….. خوف اصطياد الأجدل
إن لم تكن لي حارساً….. من كل عاد مقبل
فالحصن والبيداء ي…… ستويان عند الأعزل
لو كان حبك صادقا……. لفككتني من معقـلى
والطريف في هذه المناظرة الشعرية أن ملك حفنى ناصف لم تقبل تفسير قصيدة “شوقي “على أنها اعتذار عن ضرورة إبقائها في المنزل، ورأت في “الكنار “رمزاً للوطن المحتل، وأن شوقى يهديها القصيدة إهداء متفضل، تشريفاً وتحية لها. وكتبت ملك قصيدة معارضة أخرى، على نفس الوزن والقافية، توضيحاً لتفسيرها الذي لا يخلو من مجاملة لشوقي، أو محاولة لتحييده، أو تلطفاً في خطاب الهيمنة الذكورية، ولكنها لا تترك “المـرأة “دون الدفاع عن معاني حضورها في الحياة العملية، ابتداء من الأمومة وانتهاء بالتطبيب، مؤكدة ضرورة الحركة المتأنية في التحرر، وعدم الاندفاع الذي قد يؤدى إلى المعارضة الشديدة:
سیری كسير السحب لا….………تتأني ولا تتعجـلى
وتنكبي نهج الزحـا………. م وفضلي النهج الخـلي
لا تخضعي بالقـول أو……….. تتبرجي أو ترفـلى
لا تكنسي أرض الشـوا …..… رع بالإزار المسبـل
أما السفور فحكمـه …… في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيـه ……….……بين محرم ومحلل
ويجوز بالإجماع منهـم………..…عند قصد تأهـل
لا تترك ملك حفني ناصف معارضتها الشعرية دون توضيح اختلافها مع قاسم أمين في آرائه، وتشير إليه إشارة ظالمة ساخرة لا تخلو من تفسير خاطئ لأفكار قاسم أمين، فالرجل لم يدع – قط – النساء إلى اللعب في باريس أو اللهو في بروكسل وإنما إلى العلم والعمل المفيد الذي لا يضر بدورهن في الأسرة.
ورغم النظرة المحافظة في كتابة ملك حفني، من منظور عصرنا على الأقل، فإن محاضراتها لم تعدم من يرد عليها في قسوة، ويعترض عليها في عنف قمعي، صارخاً على صفحات الجرائد: ما للسيدات والخطابة، وما لهن وللكتابة، وإن رضي أبوها فكيف يرضى زوجها، وإن رضي زوجها فكيف رضيت عشيرتها، ولم يكن هذا النوع من الهجوم سوى عينة دالة على ما كان أكثر عنفاً وقمعاً من ردود الأفعال العدائية إزاء محاضرات القسم النسائي في الجامعة. وهي ردود فعل دفعت إدارة الجامعة إلى التقهقر في آخر العام الدراسي، والإعلان عن وقف التدريس في هذا الفرع (القسم النسائي) الذي أقبل عليه كثير من عقائل الأسرات المصرية، في حدود ما سمحت به شروط العصر. وأعلنت الجامعة عن بداية العام الجامعي ۱۹۱۲ – ۱۹۱۳ من غير ذكر القسم النسائي الذي أوقف التدريس فيه – فيما أذاعت الإدارة – إلى أن “توفق لوضع الخطة التي تتبعها فيه، بحيث يكون موافقاً لحاجة السيدات المصريات“.
ويبدو أنه لم يكن هناك مفر من أن تتخذ الجامعة هذا القرار نتيجة ضغط القوى الاجتماعية المحافظة التي استرابت في وجود الجامعة منذ البداية، وقرنت بين معناها المدني وأساسها العلماني وآثارها الاجتماعية التي بدأت تضع النظرة المعتادة إلى المرأة موضع المساءلة النقدية بقوة. وقد اسـتـفـز هذه القـوى نجاح هذا الفرع الذي شهد هجوم النساء المحاضرات على العادات البالية، ومقارنة ملك حفني ناصف بين المرأتين المصرية والغربية وعاداتهما، ودعوة لبيبة هاشم إلى نظرة جديدة إلى المرأة. ووصلت حماسة بعض المقبلات على هذا الفرع إلى مناشدة الرجال في الجرائد أن لا يمنعن زوجاتهم وأخواتهم من حضور تلك المحاضرات المفيدة، وتصاعدت الحماسة بالدعوة إلى إنشاء جامعة مستقلة للنساء الشرقيات، وكانت حدة الهجوم على تعليم المرأة في الجامعة نتيجة طبيعية لتصاعد هذه الحماسة، وتجسيداً لقوى الضغط الاجتماعي المحافظ، وهي القوى التي كان لها أصواتها المؤثرة في الرأي العام بواسطة الجرائد والمجلات، والتي كانت تستند إلى ثقافة تقليدية سائدة متغلغلة في نفوس وعقول أغلب الطبقات. ولذلك لم يكن من الغريب أن يتجمع بعض الرجال أمام الجامعة للتعرض للنساء ومنعهن من الحضور إلى الجامعة التي اقـتـرن دخـولها بالخروج عن الآداب. وأرسل بعض المتشددين خطابات تهديد إلى عبد العزيز فهمى سكرتير الجامعة، كي تكف إدارة الجامعة عن إرسال خطابات إلى نساء الطبقة العالية تدعوهن إلى حضور محاضراتها، لما في ذلك من خروج على الأخلاق بكتابة الأسماء النسائية على مظاريف الخطابات التي يراها رجال ليسوا من المحارم، ابتداء من ساعي البريد وانتهاء بكل من في نفسه مرض.
وأتصور أن هذا السياق يساعدنا على تفهم بعض الأسباب التي حالت دون حضور الأميرة فاطمة إسماعيل حفل وضع الأساس لمباني الجامعة التي تبرعت بتكاليف بنائها والأرض التي أقيمت عليها، فقد كان حفل الافتتاح في أواخر ديسمبر سنة ١٩١٤ والأفق الاجتماعي لم يصف تماماً من بقايا المعركـة حـول وجود المرأة في الجامعة والرأي العام السائد المستند إلى قوة التقاليد القاهرة ما كان يسمح بحضور المرأة في المجتمعات أو وسط الاحتفالات العامة حتى لو كانت منقبة. ولكن، من ناحية مقابلة، لم يكن قرار إدارة الجامعة بإيقاف محاضرات القسم النسائي وإلغائه انسحاباً كاملاً من المعركة، أو تخلياً عن الهدف المضمر منذ البداية، وهو المضى بالتعليم العالي للمرأة إلى الأمام، وإنما كان نوعاً من المناورة، والانتظار إلى الوقت المناسب فحسب. والدليل على ذلك أن المرأة لم تنقطع عن حضور المحاضرات رغم قيام الحرب العالمية الأولى، ورحيل الأوروبيات والشرقيات اللائي كن يحاضرن المصريات.
وكان على الجامعة أن تنتظر سنوات إلى أن يحدث حدث جـذرى يقلب الموقف الاجتماعي المحافظ، ويزعـزع أركانه الراسخة، ويفتح أفق الحرية للمرأة بما يدفع بوجودها الفاعل إلى أفق الحضور على أكثر من مـسـتـوى، ومن ثم يصبح حـضـورها مقبولاً في الجامعة التي لا يكتمل معناها إلا بهذا الحضور، وقد حدث ذلك بالفعل مع ثورة 1919 التي تولت تفجير الكثير من التقاليد الجامدة، وفتحت نوافذ الوعي لتهب عليها ومنها رياح التمرد على كل مـا يعـوق الحركة الخلاقة للكائن، محطة الجدران والقضبان التي سجنت المرأة وعزلتها عن الفعل الاجتماعي لعشرات الأجيال. ولست في حاجة إلى القول إن آثار هبوب الثورة الجذرية، وثورة 1919 كانت من هذا النوع، لا يمكن أن تتوقف عند السطح، أو تأخذ اتجاهاً لا يمس غيره من الاتجاهات، فالفعل الجذري للتـغـيـر الذي تحمله الثورة يمس كل المستويات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والفكرية، ويخلف من الآثار غير المبـاشـرة ما لا يقل أهمية عن الآثار المباشرة.
ولذلك يمكن القول إن ثورة 1919 التي حدثت بعد عام واحد من انتهاء الحرب العالمية الأولى قد أدت إلى تغيير إيجابي في العلاقات الاجتماعية التي حكمت طويلاً وضع المرأة في المجتمع. وبقدر ما أسهمت الثورة في تحرير نفوس وعقول الثائرين من سطوة التقاليد الجامدة، ودفعت بهم إلى آفاق منفتحة مغايرة من الوعي، فإنها أنزلت المرأة إلى ميادين العمل جنباً إلى جنب الرجل، بعد أن ثارت بدورها، وشاركت في المظاهرات المطالبة باستقلال الوطن وحريته، ولم يكن من المصادفة، والأمر كذلك، أنه في السياقات المتصاعدة للثورة، بدأت المرأة المصرية في التخلي عن النقـاب ثم الحجاب، تعبيراً عن تمردها على ما يحول بينها والتحرر في حياتها. وما له دلالته، في هذا السياق، ما فعله سعد زغلول زعيم الأمة ورمـز ثورة 1919 الذي يروى عنه أن إحدى الخطيبات وقفت تخطب أمامه وعلى وجهها النقاب، فنهض هو “وازال بيـده نقابها فخطبت وهي سافرة“.
وكان هذا الفعل الرمزي مصدراً دالاً من مصادر العدوي في سياق التمرد الذي لزم عنه تكوين اللجنة النسائية في الوفد المصري المطالب بالاستقلال سنة ١٩٢٠، وأفضى بهدى شعراوي سنة ١٩٢٣ إلى خلع النقاب عن وجهها، وبداية حركة السفور التي واكبت تأسيسها “الاتحاد النسائي المصري“، وذلك في مدى التصاعد الذي برزت فيه صحافة نسائية جديدة مدافعة عن حقوق المرأة في كل مظاهر الحياة، فظهرت “النهـضـة النسائية ” التي كانت تحررها ليلى أحمد سنة ١٩٢١، و“المرأة المصرية “التـي كـانت تحررها بلسم عبد الملك سنة ١٩٢٢، و“روز اليـوسف “لفاطمة (روز) اليـوسف سنة ١٩٢٥، و“المصـرية “التي أصدرتها هدى شعراوي بالفرنسية ما بين سنتي ١٩٢٥ – 1940، ودعمتها بمجلة “المصـرية “باللغة العربية سنة 1937، وكان ذلك في السياق الذي ظهرت فيه من قبل مجلة “الأمـل “لمنيرة ثابت سنة ١٩٢٥ و“أمهات المستقبل” لتفيدة علام التي صدرت سنة 1930.
وقد وضعت متغيرات ثورة 1919 موضوع حضور المرأة في الجامعة وضعاً جديداً مختلفاً، ارتبط بالحراك الاجتماعي الواعد للطليعة النسائية التي خرجت من الثورة أكثر وعياً وإصراراً على انتزاع حقوقها. وكانت النتيجة أن فتحت الجامعة أبوابها للفتيات، وسمحت لهن بحضور المحاضرات على نحو منتظم بوصفهن طالبات رسميات لكن مع التزام الصمت ودون إعلان حتى لا تثور ثائرة المعارضين، فيما يروى أحمد لطفي السيد مدير الجامعة في ذكرياته، وشيئاً فشيئاً، وضعت الجامعة الرأي العام والحكومة أمام الأمر الواقع، ولم تفلح احتجاجات المحافظين وصرخات المتزمتين في إيقاف موجة التحرر هذه المرة، خصوصاً بعد أن تغير الوعي الاجتماعي تغيراً ملحوظاً واكتسب من روح الثورة تمردها.
ويسجل دونالد مالكوم ريد في كتابه عن “دور جـامـعـة القاهرة في بناء مـصـر الحديثة “التحاق ست فتيات بالسنة الإعدادية لكلية الطب سنة ١٩٢٨، وقبول الجامعة الأمريكية في القاهرة لأولى طالباتها في العام نفسه، وهي إيفا حبيب المصـرى. وعندما رفض “بانجهام “عميد كلية العلوم الإنجليزي التحاق الطالبة سهير القلماوي بكليته، قبلها طه حسين عميد الآداب مع غيرها من الطالبات اللائي دخلن الكلية سنة ١٩٢٩ وتخـرجن منها سنة ١٩٣٢(۳). ويتتبع عبد المنعم الجميعي – في كتابه عن “الجامعة المصرية والمجتمع” – تتابع التحاق الطالبات بالجامعة، ابتداء من كلية الآداب التي كانت السابقة، ثم كلية الحقوق التي تبعت الآداب عندما قبلت الطالبة نعيمة الأيوبي، ولحقت بها كلية الطب التي قبلت زينب إبراهيم ونفيسة محمد وحكمت البدري، ولحقت بالركب كلية العلوم، وإن ظلت الهندسة والزراعة في موقف التـردد الذي سرعان ما انتهى مع ارتفاع موجة التعليم العالي للمرأة من ناحية، وتقبل المجتمع لحضور الفتاة في الجامعة إلى جانب زملائها من ناحية ثانية(4). ولم تفلح حـمـلات الاتهام الديني والأخلاقي في إيقاف المد الصاعد. ولم ينجح الذين اتهموا طه حسين في البرلمان بالانحراف الأخلاقي لأنه يشجع الطلاب والطالبات على الاختلاط، حتى خارج قاعات المحاضرات، في أن يوقفوا الحضور المتصاعد للفتيات بالجامعة.
وقد ظهر ذلك الحضور في أولى صوره عندما تدخلت سلطة الحكومة في الجامعة، وحدثت محنة فصل طه حسين عميد كلية الآداب من منصبه سنة ١٩٣٢، بسبب رفضه تعليمات حكومة صدقي باشا في ذلك الوقت، وما ترتب على هذا الفصل من استقالة أحـمـد لطفي السيد مدير الجامعة، وعندئذ، ثار الطلاب مدافعين عن استقلال الجامعة، ولم يكونوا وحدهم، فقد شاركتهم زميلاتهم في التنديد بفصل طه حسين وارتفعت أصواتهم للمرة الأولى، مطالبة بحرية الفكر في الجامعة، داعية إلى صيانة استقلال الجامعة من تدخل السلطة السياسية.
لم يكن من قبيل المصادفة أن يكون سبب هذه المظاهرات طه حسين الذي لم يتوقف عن الصدام مع المجتمع التقليدي، حتى من قبل أن يكون أول طالب يحصل على درجة الدكتوراه من الجامعة المصرية سنة ١٩١٤. والذي كان أول عميد في كليات الجامعة يشجع التحاق الطالبات بكليته، ويدعو إلى الاختلاط الذي لا يعرف التمييز المتخلف بين الطالب والطالبة. وليس من المصادفة، بالقدر نفسه، أن يكون هذا الأستاذ هو المشرف على أول أطروحة دكتوراه تكتبها طالبة في الجامعة المصرية. وكان ذلك حين ناقش تلميذته سهير القلماوي التي حصلت على درجة الدكتوراه عن موضوع “ألف ليلة وليلة “وبدت كما لو كانت تتعمد اختيار موضوع هامشی تضعه موضع الصدارة الأدبية، في موازاة فعل أطروحتها التي وضعت الطالبة الجامعية في موضع الصدارة من المشهد الجامعي بلا تمييز. ورغم صيحات المعترضين فقد تمت المناقشة، ورغم تنديد المتظاهرين انعقدت المناقشة التي حرص طه حسين على أن تكون غير علنية، حماية لطالبته الأولى من المتظاهرين الذين ساءهم حصول فتاة على درجة الدكتوراة الأولى سنة 1941.
وكان نجاح سهير القلماوي في الوصول إلى درجة الدكتوراة، وتفوقها في البحث على زملائها، ثمرة الرحلة التي بدأت سنة ١٩٠٨، والنتيجة الطبيعية للمحاضرات الأولى التي ألقتها بنات جنسها، وعلامة على بداية عهد جديد من اكتمال حرية المرأة بتعلمها. وما بين سنة ١٩٢٩ التي التحقت فيها دفعة سهير القلماوى بكلية الآداب إلى سنة 1941 التي حصلت فيها على الدكتوراه، حدثت متغيرات دالة في الاتجاه الصاعد لاكتمال تحرر المرأة العقلاني إلى جانب تحررها من النقاب والسفور. ولم يتوقف الأمر على المشاركة في الاحتجاج السياسي والاجتماعي، وإنما جاوزه إلى اقتحام الأبواب المغلقة للحصول على المزيد من الحرية الاجتماعية. وكانت البداية، مرة أخرى، من كلية الآداب، فيما يذكر عبد المنعم الجميعي، عندما ظهرت طالبة من الآداب في ملعب التنس بالجامعة للمرة الأولى. ورغم ثورة الرأي العام على هذه الحرية التي أتيحت لفتاة الجامعة، ورغم الاحتجاجات الشديدة التي وصل مداها إلى القصر الملكي بخصوص ممارسة الطالبات للألعاب الرياضية في الجامعة، فقد استمر الحال على ما هو عليه بل أخذ يشتد في صعوده مع صعود أحلام طليعة الفتيات الجامعيات في نيل استقلالهن، والحصول على حقوقهن اللائي فرضنها على المجتمع التقليدى بتتابع إنجازاتهن.
وإذا استعاد المرء الرحلة الشاقة التي قامت بها الجامعة، منذ تاريخ إنشائها إلى أن أصبحت الـفـنـاة الـعـربـيـة طـالبـة تجلس إلى الطالب جنباً إلى جنب، وأستاذة تـتـولى التدريس إلى جانب زميلها الرجل، فإن الدلالات التي تتداعى على الذهن تبدأ بضرورة الصدام مع المجتمع التقليدي إلى أن يفارق تقليديته، حتى لو اقتضى الأمر الحيلة والمراوغة لتسريب الأفكار الجديدة تدريجياً. أما الدلالة الثانية فهي أن المرأة ما كان يمكن لها أن تحقق ما حققته لولا رجال، من صنف رفاعة الطهطاوي في مصر وبطرس البستاني في الشام، آمنوا بحق المرأة في الحضور الفاعل، فكتبوا عن ضرورة تعليمها، واستهلوا الدعوة إلى تحريرها، ومهدوا أمامها الطريق لتمضي هي فيه إلى النهاية. بوصفها عضواً فاعلاً، موازياً للرجل، في حركة تحرر المجتمع التي تتطلب تحرير المرأة والرجل على السواء.
أما الدلالة الثالثة فهي أن فعل التحرر الذي تقوم به الطليعة من الرجال والنساء لا يمكن أن يشيع وتتسع دائرته إلا بتوفر الشرط التاريخي الذي يضيف إلى هذا الفعل قوته المؤثرة. وإذا كان قدر الطليعة أن تبدأ الفعل الصادم، وتتحمل الهجوم عليها نتيجة تطلعها إلى مستقبل واعد لا تراه الأغلبية، فإن على الطليعة إدراك أنها تتحرك في التاريخ وبالتاريخ، ولا تتحرك خارج الزمن في مطلق الحلم الذي لا يعرف شروط زمنه النوعي المخصوص. أما الدلالة الأخيرة فهي أن التقدم يتحقق في النهاية، ويتحول الحلم إلى واقع، بالإصرار على التقدم والإلحاح على الحلم، والتضحية في سبيلهما. فعجلة التاريخ قد تتوقف حيناً، لكنها سرعان ما تستعيد مسيرتها إلى الأمام في أفق التطور الذي لا نهاية له، وبواسطة الفعل البشرى الخـلاق الذي يفرض نفسه على واقعه، مهما كانت التضحيات، ويحقق انتصاره ما ظل قادراً على أن يستعيد ما مضى من إنجازات ليؤسس ما يأتي من وعود.
(1) انظر التتبع التاريخي الذي أعدته نادية واصف في كتاب النسائيات لملك حفنى ناصف، القاهرة ملتقى المرأة والذاكرة، ۱۹۹۸، ص٣٤–٤٠.
(۲) أحمد عبد الفتاح بدير، الأمير أحمد فؤاد ونشأة الجامعة المصرية، القاهرة، مطبعة جامعة فؤاد الأول، ١٩٥٠.
(۳) انظر (1990) Donald Malcolm Reid, Cairo University and Making of Modern Egypt Cairo, The American University Cairo Press, 1991, p. 105
(4) عبد المنعم الجميعي، الجامعة المصرية والمجتمع ١٩٠٨–١٩٤٠، القاهرة، مركز الدراسات السياسية والاستراتيجية بالأهرام، ۱۹۸۳، ص۸۳–٨٤.
(1909-1912)
هالة كمال
جاءت بدايات القرن العشرين حاملة معها الدعوة إلى “نهضة مصر” على المستويات كافة: سياسيا واقتصاديا وثقافيا، وهي فترة كثيرا ما توصف بعصر اليقظة الوطنية في مواجهة الاحتلال البريطاني مما انعكس على حدوث نهضة تعليمية في مصر، حيث يشير حسن الفقى إلى أن “مقاومة الاستعمار الإنجليزي كانت تسير جنبا إلى جنب مع الدعوة إلى إنشاء المدارس(۱)، والاهتمام بالتعليم المدرسي بمستوياته المختلفة وكذلك مشروع إنشاء الجامعة المصرية.
ومثلما هو الحال مع معظم المشاريع النهضوية الكبرى حين يسعى المجتمع إلى بعث عوامل النهضة كافة، وجدت المرأة المصرية نفسها وقد خفت قبضة المجتمع عليها تاركا لنخبة من نساء مصر الفرصة للتعبير عن رؤاهن ومساهمتهن في نهضة مصر. ولعل ارتباط سير المرأة المصرية في مظاهرة عـامـة يوم 16 مارس ۱۹۱۹ احتجاجا على الاحتلال الإنجليزي لمصر من جهة، ثم كشف المرأة المصرية – متمثلة في هدى شعراوي – عن وجهها وخلعها “الحجاب“، يحمل رمزية ارتباط قضية نهضة الوطن بنهضة المرأة المصرية. وإن كان اعتبار عام 1919 بداية التعبير عن تحرر المرأة المصرية يمثل مبالغة وخطأ تاريخيا، فذلك اليوم على أهميته من حيث التواجد النسائي المصري في الحيز العام أي الشارع من ناحية والفعل السياسي من ناحية أخرى، فإنه لا يمثل لحظة بداية بقدر ما يحتل موقعا بارزا في تاريخ مصر الحديث نتيجة جهاد النساء في رفعة الوطن.
كانت مصر واقعة تحت الحماية البريطانية وهو وضع شهد محاولات عديدة للتخلص من الاستعمار، لكن احتكاك المصريين بالإنجليز وبالثقافة الإنجليزية من خلال التعليم المدني في المدارس الأولية والثانوية قد خلق أبعادًا معرفية انعكست على تعدد المواقف الثقافية لذلك الجيل ما بين دعاة السلفية والرجوع إلى التراث العربي الديني من جهة، ودعاة التغريب الذين اتخذوا النموذج الأوروبي مثالا يحتذى وهدفا يرجى تحقيقه من جهة أخرى، وفريق ثالث اتخذ من الإصلاح منهجا وسطا بين هذا وذاك(٢). وإذا اتخذنا التعليم مثالاً: فهناك المدارس الأزهرية، والمدارس الأجنبية، والمدارس الأميرية والأهلية التي تخضع بدرجـة أو بأخـرى لوزارة المعارف. ولعل البحث في صحافة تلك الفترة يؤكد هذه الاتجاهات المختلفة، فقد كانت فترة نهايات القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين تموج بحركة ثقافية بارزة من خلال الصحافة المصرية حينذاك. فإلى جانب جريدة الـلـواء والمؤيد والأهـرام والمقتطف والمقطم والجـريدة والسفور والعفاف، لمعت على الساحة المصرية الصحافة النسائية ومن أبرزها المحروسة لمي زيادة، والفتاة لهند نوفل، وفتاة الشرق للبيبة هاشم، والجنس اللطيف لملكة سعد، وفتاة النيل لسارة الميهية، والمرأة المصرية لبلسم عبد الملك، وغيرها الكثير من الصحف والمجلات التي أثرت الحياة الثقافية المصرية بشكل عام ومنها ما كان موجها إلى المرأة، وعاملا على إثارة وعيها والعمل على نهضتها في إطار النهضة الشاملة.
كما شهدت بدايات القرن قيام حركة نسائية تحدث عنها أحمد لطفي السيد في صحيفته الجريدة كالآتي:
كانت ترمي هذه الحركة النسائية في مصر إلى غرض أصلي كبير وهو تربية المرأة المصرية وتعليمها حتى تشعر لذاتها بوجود خاص وشخصية مستقلة لتستكمل حظها هي أيضا من الكمال الذاتي ولتنتفع وتنفع بخير الحرية المفيدة التي ما منعتها إياها شريعتنا ولكن أنانيتنا وفرط غيرتنا(۳).
وتؤكد إجلال خليفة على الدور الكبير الذي ساهمت به الصحافة النسائية تحديدا في بلورة العديد من القضايا التي شغلت الحركة النسائية المصرية وصارت منبـرا لعرض نماذج من الحركة النسائية في العالم، حيث خرجت المرأة المصرية إلى مجال الإعلام معبرة عن مواقفها السياسية والاجتماعية والثقافية(4).
وقد كانت قضية تعليم الفتيات من أكثر الموضوعات المطروحة على الساحة الثقافية المصرية، فإلى جانب مـدرسـة المولدات التي أنشأها محمد على عام ۱۸۳۲(٥)، كانت “المدرسة السيوفية” هي أول مدرسة أنشئت للفتيات وتم افتتاحها عام ١٨٧٣ على أن تكون مدة الدراسة فيها خمس سنوات، ثم أنشئت مدرسة أخرى عام ١٨٧٥ ضمت للسيوفية، وظل الوضع على ما هو عليه إلى أن تحول اسم المدرسة إلى المدرسة السنية منذ عام 1889(6). ومع ذلك ظل المجتمع يتخذ موقفا مستهجنا تجاه تعليم الفتيات حيث تشير نبوية موسى على سبيل المثال في كتابهـا تـاريـخـي بقلمي إلى نظرة المجتمع – المتمثل في والدتها– إلى تعليم البنات باعتباره “خروجا على قواعد الأدب والحياء ومروقا عن التربية والدين(٧). أما فيما يتعلق بأنصار تعليم الفتيات فقد ساد بينهم أيضا أكثر من اتجاه بشأن طبيعة هذا التعليم. إذ رأت الأغلبية قـصـر تعليم البنات على مفاهيم التربية وأسس التدبير المنزلي ومبـادئ الدين، بما يهيئها للقيام بأدوار الزوجة والأم. أما الاتجاه الآخر فكانت على رأسه رائدة تعليم الفتيات في مصر نبوية موسى والتي كانت تدعو بالمساواة بين الجنسين في التعليم والعمل، فكانت تدعو إلى التحاق الفتيات بالمدارس العليا التي تؤهلهن للعمل، فتقول “لقد كنت أعمل جاهدة في أن تتساوى المرأة بالرجل في الوظائف وفي كل شيء (۸).
وقد شهدت بداية القرن العشرين وعام 1901 تحديدا إتمام الفتيات المصريات لأول مرة المرحلة الابتدائية، وذلك بحصول ملك حفني ناصف وفكتوريا عوض على الشهادة الابتدائية من المدرسة السنية، وشهد عام ١٩٠٣ تعيين ملك وفكتوريا معلمتين في السنية بعد نجاحهما في دبلوم المعلمات، ثم تبعتهما فيما بعد نبوية موسى لتعين أول معلمة للغة العربية، ثم أول ناظرة مصرية لمدرسة ابتدائية للبنات عام ١٩٠٩، ثم ناظرة لمدرسة معلمات المنصورة عام 1910(۹).
وإن كنت قد أفردت بعض الوقت للإشارة إلى المناخ الثقافي السائد أوائل القرن العشرين وأوضـاع التعليم المدني الرسمي – أي الخاضع للإشراف المباشر من وزارة المعارف – فإنما أهدف من ذلك إلى محاولة تقديم السياق العام لتعليم الفتيات في مصر، ذلك السياق الذي خرجت منه رائدات النهضة النسائية المصرية من أمثال باحثة البادية ملك حفنى ناصف ونبوية موسى، وهما أيضا من أبرز المحاضرات في الجامعة المصرية عند إنشائها في بدايات القرن العشرين.
تذكر المصادر التاريخية أن اجتماع اللجنة التأسيسية لمشروع الجامعة المصرية عقد يوم ١٢ أكتوبر ١٩٠٦ في منزل سعد زغلول وتم خلاله الاتفاق على دعوة “الأمـة المصرية” للاكتتاب للجامعة، وقد جاء في هذه الدعوة ما يلي:
إن جميع الذين يشعرون منا بنقص في تربيتهم العقلية، يرون من الواجب أن التعليم يجب أن يتقدم خطوة في بلادنا نحو الأمام، وأن امتنا لا يمكنها أن تعد في صف الأمم الراقية، لمجرد أن يعرف أغلب أفرادها القراءة والكتابة، أو أن يتعلم بعضهم شيئا من الفنون والصناعات، كالطب والهندسة والمحاماة، بل يلزم أكثر من ذلك.
يلزم أن شبابنا الذين يجدون في أوقاتهم سعة، ومن نفوسهم سعة واستعدادا، يصعدون بعقولهم ومداركهم إلى حيث ارتقى علماء تلك الأمم، الذين يستغلون آناء الليل وأطراف النهار بالهدوء والسكينة لاكتشاف الحقيقة ونصرتها في العالم.
هذا هو العمل الذي نريد أن نشرع فيه، ونطلب عليه المساعدة من جميع سكان القطر(۱۰).
كما جاء في الدعوة أن الجامعة المصرية ستكون “مدرسة علوم وآداب، تفتح أبوابها لكل طالب علم مهما كان جنسه ودينه“، كما تم نفي أية صبغة سياسية عـن الجامعة(11)، وقد لاقى المشروع تأييدا من الصحافة المصرية مثل صحيفة المـؤيـد والجـريدة اللتان شجعنا الفكرة ودعنا إلى الاكتتاب حتى قبل تكوين لجنة مشروع الجامعة المصرية بينما اتخذ المعتمد البريطاني اللورد كرومر موقفاً متحفظاً من مشروع الجامعة، فتذكر هدى شعراوي في مذكراتها أن موقف اللورد كرومر القائم على محاربة كل ما من شأنه تقدم البلاد قد دفعه إلى تعيين سعد باشا وزيرا للمعارف ليبعده عن الجامعة التي كان وكيلا لمجلس إدراتها(۱۲).
وقد كان مشروع الجامعة يهدف إلى المساهمة في إحداث نهضة فكرية وثقافية في مصر مع الأخذ بالنماذج الجامعية الغربية، ومن هنا كان مشروع الجامعة النهضوي في بدايته يعتمد على الاستعانة بأساتذه أجانب من ناحية، وإرسال بعثات من الأطفال إلى إيطاليا وسويسرا وفرنسا وألمانيا بجهود الأمير أحمد فؤاد في سبيل إعداد أساتذة المستقبل (۱۳)، كما أرسلت الجامعة بعثات من الشباب بداية من صيف عام ١٩٠٨ ليعود طلابها فينقلوا معارفهم وخبراتهم لجامعتهم ويتم بالتالي تدريجيا الاستغناء عن الأساتذة الأجانب. وهو ما عبر عنه عبد الخالق ثروت في خطبته التي ألقاها بمناسبة افتتاح الجامعة قائلا:
ولما كان من الضروري أن يكون التدريس فيها (أي الجامعة باللغة العربية عولت اللجنة على أن تبعث بإرساليات إلى البلاد الأوروبية حتى إذا ما أتم أعضاؤها دروسهم واستقصوا العلوم التي انقطعوا لها هناك، عادوا فقاموا بالتدريس باللغة العربية كل في علمه الذي اختص به(١٤).
وفي ٢١ ديسمبر 1۹۰۸ تم افتتاح الجامعة المصرية في سراي “جناكليس” مقر إدارة الجامعة الأمريكية حاليا، والذي حضره الخديوي عباس ومدير الجامعة الأمير فؤاد، وقد وصف أحمد لطفي السيد ذلك الحدث بوصفه “ذلك الاحتفال الاختياري الذي اجتمع فيه التاج والأمة ليعظمـوا قـدر العلم وليثبتوا أقدام الجامعة وليضمنوا نجـاحـهـا(١٥). ومن الملاحظ أن المحاضرات قد بدأت بخمس محاضرات كانت تعقد مساء كل يوم وكانت تتضمن ثلاثة موضوعات باللغة العربية: الحضارة الإسلامية يلقيها أحمد زكي بك، و الحضارة القديمة في الشرق والغرب يلقيها أمين متحف القاهرة أحمد كمال بك، و“أدبيات الجغرافيا والتاريخ واللغة عند العرب” والتي كان يلقيها بالعربية أستاذ إيطالي هو السينيور جویدی Signor Guidi، ومـحـاضـرت بالإنجليزية في تاريخ الأدب الإنجليزي يلقيها أستاذ الأدب الإنجليزي هيو ميلر Mr Hugh Miller وأخرى بالفرنسية في تاريخ الأدب الفرنسي يلقيها أستاذ الأدب الفرنسي البير بوفيليه Albert Pauphilet (١٦). وقد تضمنت صحيفة الجريدة إعلانا عن محاضرات الجامعة المصرية، بمعدل محاضرتين ( حصتين) يوميا بداية من الساعة 4:30، ولمدة ساعة لكل منهما(١٧). وفي عدد لاحق من الجريدة نجد موضوعا عنوانه “محجوزة للسيدات” يشير إلى انتظام الطلاب في محاضرات الجامعة وإلى وجود قاعة مخصصة للسيدات ضمن قاعات الاستراحة بين المحاضرات، حيث يذكر ما يلي: “ورأيت دولة الأمير فؤاد باشا يقول لعصبة من الدوات دخلوا سهوا إلى القاعة المعدة لاستراحة السيدات وكانت خلوا منهن: اعيدوا نظرا فإنما هي (محجوزة للسيدات)… (۱۸).
إن مشروع الجامعة المصرية قد أخذ في اعتباره فئات المجتمع كافة رجالا واطفالا ونساء، وكعادة المشروعات النهضوية الكبرى كان للمرأة مكانها المأخوذ في الاعتبار بصفتها شريكة أساسية في نهضة البلاد، وليس أدل على ذلك من وجود قاعة استراحة “محجوزة للسيدات“، على أنه من الجدير بالذكر أن القاعة لم تكن “محجوزة” إلى أجل غير مسمى، حيث ضمت قاعات المحاضرات منذ بدء الدراسة بالجامعة كلا الجنسين. ويورد أحمد عبد الفتاح بدير في كتابه حول نشأة الجامعة المصرية جداول تتضمن المحاضرات وأاعداد الطلاب والطالبات منذ العام الأول لافتتاحها، ففي الفترة من ٢١ ديسمبر 1908 إلى 15 فبراير ۱۹۰۹ بلغ عدد الطلاب المواظبين على حـضـور المحاضرات كافة ٢٠٢٤ طالبا وطالبة، منهم طلبـة منتسبون (أی منتظمـون) وطلبـة متطوعون أو مستمعون(١٩). وكان عدد الطالبات المنتسبات ۲۲ سيدة إلى جانب المستمعات، ومن اللافت للنظر أن النساء كن يحضرن المحاضرات جنبا إلى جنب الـرجـال(۲۰)، رغم عدم وجود دلائل بشأن جنسية هؤلاء الطالبات، حيث تذكر بعض المصادر حـضـور نساء أوروبيات من المقيمات في مصر المحاضرات في الجامعة المصرية، ولايرد ذكر إحصائي دقيق لحضور المصريات المحاضرات في الجامعة المصرية إلا ابتداء من العام الدراسي ۱۹۰۹-1910 عند التوسع في المحاضرات ليزيد عددها إلى ثماني محاضرات منها محاضرات خاصة بالنساء أو “درس النسائيات” كما يوردها أحمد عبد الفتاح بدير في جدول مفصل بكتابه(۲۱).
وعلى الرغم من أن الجداول الإحصائية التي يتضمنها كتاب أحمد عبد الفتاح بدير تشير إلى أن بداية انتظام النساء المصريات في حضور المحاضرات في الجامعة قد ارتبط ببداية العام الدراسي ۱۹۰۹–۱۹۱۰، أي في الشهور الأخيرة من عام 1909، فإن قراءة المصادر غير الرسمية من التاريخ تشير إلى دلائل أخرى سأوضحها لاحقا فتشير الجداول إلى أن ٢٦ سيدة كانت تحضر المحاضرات العامة بانتظام وتحديدا في موضوعات آداب اللغة الفرنسية (٢١ سيدة) وآداب اللغة الإنجليزية (3 سيدات) والاقتصاد السياسي (سيدتان)، أما “درس النسائيات” فقد كانت تحضره 60 امرأة بانتظام منهن 35 سيدة مصرية، ذلك إلى جانب العديد من السيدات المستمعات ما بين طالبات بالمدارس الثانوية والخاصة والمدرسات واحدة (ولعلهـا نبـوية موسى) ونساء بدون صناعـة (٨١ سيدة). فقد كان إجمالي عدد النساء الحاضرات لدروس الفرع النسائي ٨٦ طبقا للوثائق الجامعية، إلى جانب “التذاكر الوقتية” التي كانت تصـرف لحضور محاضرة واحدة من آن لآخر (۹۰۳ تذاكر المحاضرات السيدات على مدار السنة الدراسية)(٢٢).
وقد شهد العام الدراسي التالي (16 نوفمبر ١٩١٠– ٢٥ فبراير ۱۹۱۱) تطويرا في الموضوعات الدراسية التي تقدمها الجامعة المصرية، حيث تم تقسيم الدراسة ما بين ثلاثة فروع وهي: كلية الآداب والفلسفة (وبها ٢٤ سيدة)، وتأسيس قسم العلوم الاجتماعية، و“قسم السيدات” الذي التحقت به ۱۷ سيدة أوروبية و٢٦ مـصـرية وانخفض عدد النساء المصريات في العام التالي ليصل إلى 18 سيدة، وبلغ أدنى معدلاته في عام ١٩١٢–١٩١٣ حيث كان عدد الدارسات في الجامعة ١٤ سيدة ليس بينهن مصرية واحدة، ثم طالبة مصرية واحدة في العام التالي ١٩١٣–١٩١٤ (يبدو أنها نبـويـة مـوسـى حيث تشير الإحـصـائيـة إلـى كـون هذه الطالبة من نظار المدارس والمدرسين)، وهي فترة شهدت تراجعا في أعداد طلاب الجامعة بشكل عام بسبب ظروف الحرب العالمية الأولى، ثم عادت أعداد الدارسات المصريات المقيدات في الجامعة إلى الارتفاع بداية من العام الدراسي ١٩١٤–١٩١٥ ليصل عددهن إلى ستين سيدة مستمعة، منهن ١٤ مصرية، وحتى بعد إلغاء القسم النسائي بالجامعة، ظلت هناك ٨٤ سيدة مستمعة في قسم الآداب(٢٣).
تشير إجلال خليفة إلى أن المحاضرات الخاصة بالسيدات جاءت نتيجة المطالب الجمعية الأدبية التي رأستها هدى شعراوي في بداية كفاحها في مجال الحركة النسائية (٢٤). تذكر هدى شعراوي في مذكراتها بإيجاز شديد قصة أولى المحاضرات الخاصة بالنساء، فتشير إلى زيارة خطيبة وكاتبة فرنسية من القائمات بالحركة النسائية، وهي مدموازيل مارجريت کليمان Mlle. Marguerite Clement لمصر فدعتها هدى شعراوي إلى إلقاء محاضرة عن المرأة الشرقية والغربية، وتم الاتفاق على أن تكون المحاضرات تحت رئاسة الأميرة عين الحياة، فتحدد للمحاضرة يوم الجمعة 15 يناير ١٩٠٩ في مقر الجامعة المصرية(٢٥). وتصف الحدث كما يلي:
وكانت هذه أول محاضرة ألقيت على جمع من السيدات في الجامعة المصرية.
وقد لقيت نجاحا وتقديرا شجعاني أن أطلب من “الآنسة كليمان” أن تعود إلينا بعد ذلك لتلقي سلسلة محاضرات مفيدة على سيداتنا، وبخاصة بعد أن رتب سمو الأمير محـاضـرات خاصة للسيدات أيام الجمع(٢٦).
وبالفعل ألقت الأنسة كليمان محاضرة نشرت الجريدة نصها بتاريخ ٢٠ يناير ۱۹۰۹ تحت عنوان “خطبة مدموازيل كليمان في تحرير المرأة” أكدت فيها على وضع المرأة المصرية حبيسة عادات المجتمع المصرى، ولكنها في الوقت ذاته حملت المرأة المصرية مسئولية تقبل الوضع القائم وعدم الاستعداد لتحمل أعباء المطالبة بالحرية، فقالت:
وكأني بالسيدة منكن تقول: لماذا تخلق لنا أعباء جديدة ما دامت الحياة الحاضرة موافقة لنا ومادامت نفوسنا ألفت العزلة والسنن التي جرينا عليها حتى الآن ووجدنا فيها الراحة والسعادة والسلام والصون. على هذا النمط تدافعن أنتن أو الغرائز الوراثية التي رباها فيكن أسيادكن في الزمن الغابر(۲۷).
ولعل النيرة شديدة اللهجة التي كانت تحملها المحاضرة تجعلني أتساءل إن كان ذلك هو ما دعا الأمير فؤاد إلى الاضطلاع بمهمة اختيار الأستاذة المناسبة لمحاضرات قسم السيدات في الجامعة، فاستشار ماسبيرو الذي رشح له الآنسة كوفرير، ومن الملاحظ أن الآنسة كليمان قد حضرت في زيارة لاحقة إلى مصر في عام ۱۹۱۲، أي قبل إغلاق الفرع النسائي بالجامعة، وألقت محاضرة بعنوان “حق الانتخاب للنساء” تم الإعـلان عنها في الجريدة يوم 6 إبريل ١٩١٢ كالآتي:
حضرت إلى مصر مدموازيل كليمان المعروفة في عالم الأدب المصرى بخطاباتها في تربية البنات وفي النسائيات بالقاهرة من ثلاث سنين. وإحدى القـائمـات بالحركة النسائية لإزالة النساء حق الانتخاب في فرنسا… وستلقى يوم الأربعاء القادم 10 إبريل الساعة الحادية عشر بالجامعة المصرية محاضرة عن الحالة النسائية في فرنسا فيما يتعلق بحق الانتخاب للنساء(۲۸).
ويذكر أحمد عبد الفتاح بدير أن الأمير فؤاد كان يرى أن مركز المرأة المصرية الأدبي، لا يرقى إلا برقيها في العلوم، وأن الجامعة هي التي يجب أن تأخذ بيدها، فتسير بها إلى مستوى المدارك الصحيحة، والأفكار الحديثة“، فسعى الأمير بموافقة مجلس الجامعة إلى الاستعانة بأستاذة تتولى “إلقاء المحاضرات التي تهم السيدات المصريات“، وهكذا تم الاتفاق مع الأنسة كوفري Mlle Couvreur المدرسة بمدرسة راسين في باريس، “وفوض إليها إلقاء محاضرات في موضوع أحوال المرأة في العصور القديمة والحديثة“، ويشير بدير إلى الترقب و“الشك” تجاه تلك التجربة نظرا لكونها الأولى من نوعها. لكن التجربة حققت نجاحا ملحوظا بتردد السيدات عليها، فبلغ عـددهـن حـوالي 60 امـرأة منهن ٣٥ امـرأة مـصـريـة، ذلك إلى جانب السيدات المستمعات(٢٩). وقد ورد في بيان القاه الأمير فؤاد على الجمعية العمومية للجامعة المصرية أن هذه المحاضرات خاصة بالسيدات، جعلناها أساسا لإنشاء قسم نسائي في المستقبل“(30).
وقد كانت المحاضرات في عامها الأول باللغة الفرنسية كما أنها كانت تعكس وجهة نظر أوروبية بل وتتناول لمحات من التاريخ الأوروبي بعيدا عن الواقع المصرى، مما أثار رائدة من رائدات الحركة الثقافية المصرية حينذاك وهي السيدة لبيبة هاشم صاحبة مجلة فتاة الشرق، فكتبت على صفحات مجلتها مقالا في يناير ١٩١٠ بعنوان “الجامعة المصرية والمحاضرات النسائية” (31)، تثنى فيه على فكرة البدء في “محاضرات نسائية ترقى المرأة الشرقية بل ترقى الأمة بأسرها” مشيرة إلى حضورها إحدى محاضرات الأنسة كوفرير. لكنها أخذت على محاضرات الأنسة كوفرير تركيزها على تاريخ النساء في العصور المظلمة بدلا من “المباحث الاجتماعية العصرية” من ناحية، وكون هذه المحاضرات باللغة الفرنسية لا العربية من ناحية أخرى، مما يضعف من فائدتها. وتتضمن مقالة لبيبة هاشم الدعوة إلى الاستعانة بالنساء المصريات في إلقاء محاضرات السيدات في الجامعة المصرية، مقارنة محاضرة الأنسة كوفرير في الجامعة بمحاضرة ألقتها باحثة البادية في حزب الأمة، فتقول:
ولا ريب في أن عذر الجامعة في ذلك عدم وجود نساء في الشرق قادرات على القاء محاضرات عربية، والجواب على ذلك هو أن نساء بلادنا لا يزلن مـتـأخـرات جـدا بالعلوم ومدارسهن مـقـصـرة في واجب إرشادهن… وعليه فهن أحوج إلى إرشادت بسيطة تلقي البهن بقالب يلائم حالتهن وبلغـة تقـرب الحقائق إلى أفهامهن وهذه لا تحتاج إلى نابغية في العلم، بل يكفي لها إحدى المتـخـرجـات الشـرقـيـات وهؤلاء کثیرات بيننا … وهي مهما قلت مادتها قد تكون أقرب إلى الإصلاح من التي تلقيها الأستاذة الغربية لأن الشرقي أو الشرقية أعلم بحال نسائنا … وفضلا عن ذلك فإن إقبال الوطنيات على المحاضرات العربية يكون عظيما جدا لا كما هو الحال الآن، والدليل على ذلك ما رأيناه في نادي حزب الأمة عندما أنشئت حفلة لسماع خطبة باحثة البادية. فقد كانت القاعة حينذاك تموج بالسيدات كالبحر الزاخر في حين أن الوطنيات اللواتي حضرن محاضرة الأمس كن لا يتجاوزن العشرين عدا(۳۲).
ولعل دعوة لبيبة هاشم كان لها دور في إنشاء قسم السيدات أو القسم النسائي داخل الجامعة المصرية بدءا من العام الدراسي التالي ۱۹۱۰–۱۹۱۱. كما تشير هدى شعراوي إلى قيام ملك حفنى ناصف فيما بعد بإلقاء محاضرات في الجامعة، ذلك إلى جانب محاضراتها في قاعة بصحيفة الجريدة(٣٣). ويبدو أنه قد تمت دعوة ملك حفنى ناصف لإلقاء محاضرات في الجامعة المصرية عن المرأة المصرية والمرأة الغربية نشرتها لبيبة هاشم في مجلتها فتاة الشرق في مايو ١٩١٠، وهي مقالة طويلة تناولت مقارنة المرأة المصرية بالغربية في أدوار الحياة المختلفة سعيا للتوفيق بين النموذجين واستخلاص زبدة الاثنين لتعمل بها (٣٤).
فبعد أن كانت محاضرات الجامعة تتضمن محاضرة واحدة للسيدات ضمن برنامج المحاضرات العامة تلقيها الآنسة كوفرير، أصبح هناك قسم خاص يعرف بقسم السيدات أو الفرع النسوي أو الفرع النسائي(٣٥) في الجامعة المصرية، جنبا إلى جنب قسم الآداب والفلسفة وقسم العلوم الاجتماعية والاقتصادية، أما عن محاضرات هذا القسم فهي كالآتي:
(۱) علم النفس والأخلاق الخاصة بالنساء، وهي محاضرات تلقيها بالفرنسية الأنسة كوفرير.
(2) مواضيع عصرية، تلقيها بالعربية السيدة نبوية موسى ناظرة مدرسة معلمات المنصورة.
(3) مواضيع في التربية، تلقيها بالعربية لبيبة هاشم صاحبة مجلة فتاة الشرق.
(4) مواضيع طبية في علم حفظ الصحة باللغتين العربية والفرنسية(٣٦).
وتورد الجـريدة في 11 إبريل ١٩١٢ تقريرا عن “حالة الجامعة المصرية“، فيشير المقال إلى حالة الجامعة في العام الدراسي ۱۹۱۱–۱۹۱۲، مفردا جزءا عن “الفرع النسائي” يرد فيه التأكيد على أن التعليم النسائي هو من أهم أسباب تقدم الأمم وارتقائها من كل الوجوه” ، ثم يعرض المقال موضوعات محاضرات الفرع النسائي كالآتي:
أولا– محاضرات باللغة الفرنسية في التربية الأخلاقية، تقوم بإلقاها الآنسة کوفرير المدرسة بمدرسة راسين بباريس.
ثانيا– محاضرات باللغة العربية وهذا بيانها:
تاریخ مـصـر القـديم: أهم التـغيـيـرات التي طرأت على الحكومة في مصر أيام سطوتها وارتقاء فنونها وصناعتها. أشهر الملكات في مصر وأعمالهن.
تاريخ مصر الحديث: الدولة الإسلامية وعلاقتها بمصر باختصار. عادات المصريين وتأثير الإسلام فيها. دولة المماليك. حروب فرنسا، ذكر النساء في جميع ما ذكر من
التاريخ.
وقد عهد تدريس هذه المادة للآنسـة نبـويـة مـوسى ناظرة مدرسة المعلمات بالمنصورة.
ثالثا– التدبير المنزلي: تقدم التدبير المنزلي وتاريخه. علاقة النقود بتدبير لمنزل. التدابير الصحية، اختيار المنزل وأثاثه. الحياة الزوجية وسعادة العائلة، الآداب المنزلية والأخلاق.
وقد عهد تدريس هذه المادة للسيدة رحمة صروف (۲۷).
وأود الإشارة هنا سريعا إلى أن موضوع محاضرات رحمة صروف – رغم عنوانها وما توحي به من وقوعها في إطار شئون المنزل وتربية الأطفال – كان يتناول قضايا مرتبطة بمبادئ علوم الاقتصاد والاجتماع والطب. وهو ما يتضح من جداول محاضرات السيدة رحمة صروف والإعلانات المنشورة في الجريدة التي تشير إلى قيامها بإلقاء محاضرات أسبوعية في الفرع النسائي في موضوعات عدة، منها: التدبير المنزلي الذي تقدم فيه تعريفا لمفهوم التدبير المنزلي وتاريخه وعلاقة النقود بتدبير المنزل. وكذلك مبادئ علوم الصحة والتدابير الصحية، وأسس اختيار المنزل وأثاثه والأسس النفسية للحياة الزوجية وسعادة العائلة، إلى جانب الآداب المنزلية والأخلاق.
وقد قدمت رحمة صروف بإيجاز موضوع إحدى محاضراتها وذلك على صفحات الجريدة، فكتبت ما يلي:
كتب إلى ثلاث من كرائم السيدات المصريات يسألنني عن موضوع الخطبة التي سألقيها في قسم السيدات بالجامعة المصرية في يوم الأربعاء ٢٠ مارس الجاري(1912)الساعة الثالثة والنصف بعد الظهر، فلم أر بأسا بإجابتهن إلى ما طلبن على صفحات جرائدنا المحلية ودعوة سائر السيدات إلى سماع الخطبة التي أريد إلقاءها لأهميتها وعظيم فوائدها لا سيما وأنني اقتبست كثيرا منها عن أشهر المؤلفين الغربيين وعلماء الاقتصاد منهم.
فسأتكلم فيها عن علاقة النقود بتدبير المنزل، فأبين أوجه الاقتصاد والتدبير التي تتخذها المرأة الغربية في إدارة منزلها وجعل عائلتها تعيش في سعادة وهناء…
وأبين أيضا كيف تساعد البنوك في أوروبا ربات المنزل على الاقتصاد أو كيف ساعدت رؤوس رجال الغرب المفكرة المرأة الغربية على القيام بواجباتها المنزلية…
وسأبين فيها السبب الحقيقى الأول في النهضة النسائية الجديدة في بلدان الغرب التي نسمع بها ولا نكاد نراها بالعين ونلمسها باليد. وهذه النهضـة لم تأت عـرضـا ولا اتفـاقـا وإنما نشأت في سلسلة من الفترات الاجتماعية والاقتصادية…
وسأتلو في ختام الخطبة فصلا أترجمه عن كتاب حديث اسمه صفحة من حياة المرأة التركية” .. (۳۸).
وهكذا نلاحظ أن الدروس التي كانت تلقيها السيدة رحمة صروف إنما هي نتاج بحث ودراسة جادة تقع في مجال مبادئ علوم الاقتصاد والاجتماع والمحاسبة، والعلوم الطبية والنفسية وعلم الأخلاق، إلى جانب مبادئ فنون الديكور، مع وضع هذه العلوم جميعاً في إطار يأخذ المرأة في الاعتبار بصفتها جزءا لا يتجزأ من بيئة المجتمع، ويخرج بها من حدود الحيز الخاص إلى الحيز العام أيضا.
وإذا كانت محاضرات السيدات تعقد عند بدئها أيام الجمع وفي الصباح تجنبا للاختلاط بين الجنسين(٣٩). فإن ذلك الوضع لم يستمر مع تزايد أعداد المحاضرات وتنوعها، حيث يرد في جريدة العـفـاف في إبريل ١٩١١ نص محاضرة لوكيلة إدارة جريدة العفاف السيدة زكية كامل الكفراوي القتها بعد ظهر يوم الاثنين 3 إبريل 1911 في الجامعة المصرية(40)، كما نجد في الجريدة في أحد أعداد عام ١٩١٢ إعلانا عن محاضرات رحمة صروف ونبوية موسى، نلاحظ فيه أن محاضرة رحمة صروف كان موعدها يوم الأربعاء من الرابعة إلى الخامسة بعد الظهر، بينما محاضرة نبوية موسى موعدها بعد ظهر يوم الجمعة(٤١).
ويلاحظ حدوث تطوير كبير في موضوعات المحاضرات النسائية في الجامعة على مدى العامين الدراسيين الأخيرين من عمر الفرع النسائي الذي تم وقف محاضراته في مايو ١٩١٢، وقد جاء في تقرير عن الجامعة للعام الدراسي ۱۹۱۲–١٩۱۳ التبرير التالي المبهم لوقف محاضرات الفرع النسائي بعد الحماس الشديد الذي كان قد ارتبط بإنشاء الفرع:
أما الفرع النسوي الذي أنشئ بالجامعة، وأمه الكثير من عقـائل الأسرات المصرية، فقد اضطرت الجامعة لوقف التدريس به هذا العام، حتى توفق لوضع الخطة التي تتبعها فيه، بحيث يكون موافقا لحاجات السيدات المصريات(٤٢).
لكنه من المثير للانتباه هنا أن تقرير الجامعة عن العام الدراسی ۱۹۱۲–۱۹۱۳ قد أعلن توقف محاضرات الفرع النسائي، في حين أنه بالرجوع إلى عدد أكتوبر ١٩١٢ من الجـريدة نجده يتضمن جدول محاضرات الجامعة المصرية لنفس السنة، وأنه قد تم قصر محاضرات السيدات على محاضرات باللغة العربية خاصة بالسيدات في علم حفظ الصحة لا سيما حفظ صحة الأطفال والتدبير المنزلي والتاريخ وغير ذلك (٤٣).
ويثير هذا التدهور الشديد والمفاجئ في محاضرات الفـرع النسائي بالجامعة المصرية أكثر من علامة استفهام: هل يرجع ذلك إلى مرور الجامعة المصرية الأهلية بضائقة مالية أدى تفاقمها فيما بعد إلى تسليمها للحكومة المصرية؟ وهل يرجع إلى ظروف حرب البلقان وبوادر الحرب العالمية الأولى التي دفعت المصريين إلى التقشف فقل الإقبال على محاضرات الجامعة لتوفير مصروفاتها؟ أم كان ذلك نتيجة لظهور أصوات تنادي بإنشاء جامعة خاصة بالنساء، وهي قضية دارت حولها مناقشات عديدة وتباينت فيها وجهات النظر على صفحات الجرائدة(44) أم أن السبب الرئيسي لوقف هذه المحاضرات يرجع – كما تذكر إجلال خليفة – إلى الموقف المحافظ لكثير من الرجال ممن تجمعوا أمام الجامعة للتعرض للنساء ومنعهن من حضور المحاضرات تصديا لما اعتبروه خروجا عن الآداب لخروجهن من بيوتهن وترددهن على الجامعة؟(٤٥) أم أن السبب الحقيقي هو الشعور بتنامي الحركة النسائية المصرية ونهضة المرأة المصرية نهضة تعليمية ثقافية قد تدفعها إلى المطالبة بحقوقها الإنسانية كذات مستقلة، والخوف من تأثرها بالحركة النسائية العالمية واتساع مجالات طموحاتها، فتطالب بحريتها وحقوقها السياسية والإنسانية، خاصة وقد تحولت محاضرات الفرع النسائي إلى منبر يتبني قضية المرأة بوصفها قضية ذات أولوية؟
من المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية: نبوية موسى نموذجا(٤٦)
كانت نبوية موسى (١٨٨٦–١٩٥١) من رائدات تعليم الفتيات في مصر، وقد كانت مؤمنة بضرورة الوعي بخصوصية المرأة وضرورة التأكيد على دور المرأة في التاريخ والحياة بشكل عام. ومن هنا لجأت إلى تأليف مناهج دراسية خاصة بتلميذاتها. ولعل أبرز مواقفها في هذا الصدد هو انتقادها لكتاب الفوائد الفكرية لعبد الله باشا فكرى والذي كان يدرس في المدارس الابتدائية، فقامت بتأليف كتاب لمـرة الحياة في تربية الفتـاة والذي تم تحويله فيما بعد إلى كتاب للمطالعة العربية في مدارس البنات(٤٧). وفي مقدمة كتاب المطالعة العربية توضح نبوية موسى منهجها التعليمي القائم على الاختيار لا الأمر والنهي والإجبار فتقول:
ولما كنت فتاة أشعر بما تشعر به الفتيات وأعرف من أين يتأثرون وما يحرك عواطفهن، ألفت هذا الكتاب لتلميذات السنتين الثالثة والرابعة من المدارس الابتدائية للبنات، وجعلتـه حـاثا على الآداب في أسلوب لا يظهر فيه أمر ولا نهي، لأن الإنسان إذا أمر بشئ فريما يقل عليه عمله، أو نهي عن شئ تاقت نفسه إليه.. لذا شرحت الأمر الحسن ومدحته وبينت الشئ القبيح وذممته وتركت الفتاة تختار لنفسها ما شاءت…(٤٨)
ويكشف منهج نبوية موسى التربوي عن وعي بأن يخاطب التعليم خبرات المرأة بعيدا عن الأدوار النمطية في إطار أدوار الأمومة والحياة الزوجية، فتنتقل بالمرأة إلى الحيز العام من خلال إلقاء الضوء على الأدوار السياسية البارزة التي لعبتها النساء المصريات والعربيات على مدار التاريخ الإنساني، كما أنه منهج يتميز بالمرونة ويقوم على مفاهيم الحرية والتفاهم والاختيار لا الأسلوب السلطوي الجامد الذي يرتكز على الأمر والنهي والإجبار، ولعل كتابها المرأة والعمل (49) أيضا بما يتضمنه من موضوعات حول المرأة المصرية وتاريخ المرأة عبر العصور، يمثل مؤشرا لفكر نبوية موسى الذي يربط التعليم بالعمل، والذي انعكس بلا شك على مضـمـون محاضراتها في الجامعة المصرية، وهي تستهل مقدمة هذا الكتاب بقولها:
لقد بحثت في كـتـابي هذا عن تاريخ المرأة في بعض الأمم وعن مواهبها الفطرية وما ينجع في تعليمها خصوصا ما يتعلق بالفتاة المصرية، ثم أظهرت ما يعوز ذلك التعليم وطرقت بعض مواضيع أخرى لها مساس بعلاقة المرأة بالرجل مستشهدة بذلك كله على احتياج المرأة إلى العمل لكسب قوتها .. (٥٠)
وقد كان لنبوية موسى، بوصفها أول مصرية تحصل على شهادة البكالوريا وأول معلمة مصرية للغة العربية ثم أول ناظرة مصرية لمدارس البنات، أن تمت دعوتها عند إنشاء الفرع النسائي بالجامعة المصرية عام ۱۹۱۰– ۱۹۱۱ للاستعانة بها كي تلقی محاضرات باللغة العربية حول موضوعات عصرية متنوعة، ثم طلب منها في العام التالي أن تلقى محاضرات حول التاريخ القديم والحديث، قامت من خلالها بالتركيز على الشخصيات النسائية البارزة في التاريخ المصري والعربي. وفي أولى محاضراتها بالجامعة المصرية والتي نشرت في جريدة الأهرام بعنوان المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية (51) تقول نبوية موسى:
كلفتني إدارة الجامعة هذا العام بتدريس تاريخ مصر وستعلم منه إن شاء الله حالة نساء الفراعنة، كما سيظهر لنا كفاءة المرأة في زمن العرب الفاتحين.
ويسرني أن أقـول إن في كلا الأمتين المصرية والعـربـيـة قـد بلغ الاهتمام بشأن المرأة شأوا بعيدا حتى ساوت الرجل أو كادت. ففى الأمة المصرية شاركته في سياسة الملك وتدبير الحروب، كما شاركته في تعضيد الصناعة وترقية البلاد… أما في الأمة العربية فقد شاركت المرأة الرجل في حروبه وشجاعته وزاحمته في أسواق الشعر والأدب… ولعل السر في تقديم قدماء المصريين في العلم والحضارة كان في رقي نسائهم، كما كان نجاح العرب ناشئا عن رقى المرأة رقيا ضـارعت به الرجال، والتاريخ كله شواهد ساطعة على أن الأمة إنما ترتقي بنسائها وتحط بانحطاطهن(٥٢).
وحين تتحدث عن دور المؤرخين الشرقيين في تدوين التاريخ تحمل عليهم إغفالهم ذكر إنجازات النساء من الملكات اللاتي حكمن البلاد فيما مضى من الزمان، فتقول:
انتبه الشـرقـيـون بعـد النوم وأرادوا تدوين التاريخ وقد درست آثاره، فأخذوا يترجمون تاريخ مصر عن الكتب الأجنبية، ومن العجيب أني قرأت بعض الكتب المترجمة، فوجدت أن كتابنا الشرقيين – سامحهم الله – قد حذفوا في ترجمتهم كثيرا مما يتعلق بذكر النساء(٥٣).
وهي تشير بذلك تحديدا إلى ذكر ملكات مـصـر القديمة وإنجازاتهن في تاريخ الفراعنة. وهي تحاول تبرير ذلك بقولها إنهم لعلهم قد فعلوا ذلك خشية من تأثير إنجازات النساء في الماضي على ممارسة الرجل المعاصر سلطته على المرأة فتتساءل ساخرة: “أم خافوا أن تسمع نساؤنا ذلك فتعرف ما للمرأة من المكانة العالية وتخرج من ذلك الخمول والهبوط إلى العمل والحياة، فيصعب عليهم قيادتها كما يزعمون (٥٤).
ومن اللافت للنظر أن محاضرات نبوية موسى كانت تمثل في حد ذاتها إعادة قراءة للتاريخ المصري، وتكشف في ذات الوقت عن وعيها بالدور الذي يلعبه المؤرخون في عملية التأريخ، وما يصاحب ذلك أحيانا من تجاهل واستبعاد لأدوار النساء في التاريخ العربي والمصري. فقامت نبوية موسي بمحاولة إلقاء الضوء على الأدوار التي لعبتها النساء في التاريخ المصري والعربي بهدف التأكيد على موقع تاريخ المرأة في إطار تاريخ الأمة. وقد كان التعليم والمعرفة هما السبيل نحو نهضة النساء والمجتمع، وهو ما كانت حريصة على تأكيده دوما، كما كانت تلك رسالتها التي وردت في إحدى محاضراتها ضمن محاضرات الفرع النسائي في الجامعة المصرية حين قالت:
… أريد أن تحيا المصريات حياة حقيقية، فيقبلن على العلم ويسعين إليه سعيا متواصلا، فلا يمضى زمن حتى أرى في هذه الدار مئات من السيدات… وأملي وطيـد أن تعـضـدني السيدات في تلك النهـضـة الوطنية… وما لنا نحن السيدات إلا ما نستطيع الآن وهو الاهتمام بنشر التعليم بيننا وترقية شئوننا ليرقي بها الوطن العزيز… هؤلاء نساء أوروبا قد زاحمن الرجال وتطرفن في التمسك بحقوقهن إلى حد بعيد فطلبن حق الانتخاب ونحن بإزائها نائمات…(٥٥)
أود ختاما أن أشير إلى بعض النقاط التي تثير في نفسي تساؤلات حول علاقة محاضرات الفرع النسائي بالحركة النسائية المصرية.
إن أولى المحاضرات التي عقدت بالجامعة المصرية للسيدات كانت بمبادرة من هدى شعراوي رائدة الحركة النسائية المصرية، كما أن المحاضرات الأخيرة قبل وقف الفرع النسائي كانت ذات صبغة نسائية سياسية تحررية. كما أن المحاضرات التي كانت تعقد للسيدات على مدى السنوات 1909-1912 في إطار الفرع النسائي كانت تسير جنبا إلى جنب مع الدراسات الأدبية والاقتصادية القائمة في الجامعة المصرية منذ نشأتها، وكانت تحضرها السيدات مع الرجال. كما أن دراسات الفرع النسائي كانت تتميز بخصوصية لا لمجرد كونها موجهة خصيصا للنساء بل لأنها تمثل خطاباً نسائياً ثقافياً شاملاً ومتحرراً يخاطب المرأة من حيث انتمائها إلى حيزين: العام والخاص، وتتبنى بالتالي قضايا نسائية بعيدا عن حدود الخطاب التقليدي الذي يضع المرأة في دائرة مسائل التطريز والطهي وغيرها. وهكذا كانت محاضرات الفرع النسائي تتبنى منظوراً نسويا صرفا، فلم تكن المحاضرات مبنية على كتب لأساتذة الجامعة من الرجال رغم ورود هذا الاقتراح حينذاك.
ومن الملاحظ أن هذه المحاضرات تطرقت إلى قضايا ثقافية نسائية شائكة في ذلك الوقت، من أبرزها التاريخ لدور المرأة المصرية عبر العصور، في محاولة لإثارة همة وحماس المرأة المصرية حينذاك في إطار نهضة شاملة، مع ربط حاضر المرأة بماضيها الفعال. كما تمت إثارة قضايا متعلقة بالعلاقات الثقافية بين الشرق والغرب، وتحديدا موقع المرأة المصرية حينذاك مقارنة بالمرأة الغربية، حيث كان النموذج الأوروبي من القوى الدافعة للمشروع النهضوي أوائل القرن. كما لعبت هذه المحاضرات دورا بارزا في دفع المرأة المصرية للخروج من حدود الحيز الخاص إلى الحيز العام، وهو ما تمثل على مستوى الفعل لخروج النساء إلى الجامعة لحضور المحاضرات، وعلى مستوى المعرفة من خلال مضمون المحاضرات النسائية. وقد تم تناول قضايا اقتصادية وسياسية مهمة من خلال محاضرات رحمة صروف، وكذلك الإشارات المتكررة بشأن حقوق المرأة الاجتماعية والسياسية في محاضرات نبوية موسى على سبيل المثال. وهكذا اتصفت هذه المحاضرات بالصبغة الثورية شكلا ومضمونا من حيث المضمون المعرفي الذي كان مرتبطا في الأساس بمبادئ الحركة النسائية ورائداتها المصريات من أمثال هدى شعراوي وملك ناصف ونبوية موسى وغيرهن، وخروجها في مضمونها عن موضوعات التعليم الذي اقتبسته الجامعة المصرية عند إنشائها نقلا عن النموذج الأوروبي.
ومن الجدير بالذكر أنه على الرغم من إلغاء محاضرات الفرع النسائي عام ١٩١٢، فإن صحافة أوائل القرن تشير إلى قيام رائدات الحركة النسائية والثقافية المصرية بإلقاء خطبهن في أماكن أخرى مثل صحيفة الجريدة وجمعية المحبة وحزب الأمة بل وفي إطار اتحاد النساء التهذيبي حيث تشير مجلة الجنس اللطيف لصاحبتها ملكة سعد إلى أن ملك حفني ناصف ألقت على سبيل المثال محاضرة حول تأثير المرأة في العالم في إطار الاتحاد في مقر سراي الجامعة المصرية يوم 6 مارس ١٩١٤(٥٦).
وبناء على ما سبق أود أن أنهي هذه الدراسة بتساؤل:هل يعتبر الفرع النسائي في الجامعة من إنجازات مشروع الجامعة المصرية الأهلية أم أنه في الواقع إنجاز للحركة النسائية المصرية أوائل القرن؟ وإلى أي حد يمكن أن تعتبر محاضرات الفرع النسائي بالجامعة نموذجا رائدا لبرامج الدراسات النسائية Women’s Studies Programs المتضمنة في بعض المؤسسات التعليـمـيـة اليـوم، إذا أخذنا في الاعتبار أن برامج الدراسات النسائية تتناول موضوعات وقضايا تأخذ المرأة في الاعتبار. ومن أهم هذه الموضوعات: تاريخ المرأة وكشف المسكوت عنه في التاريخ الرسمي المرأة في موقعها ضمن إطاري الحيز العـام والـحـيـز الخاص. قضايا التعليم والعمل والأسرة، أشكال مقاومة المرأة لمختلف أشكال القهر والسلطة الذكورية. وصورة المرأة في الثقافة السائدة والكشف عن نماذج تهميش النساء وقولبتهن، وغيرها من قضايا تتناولها برامج الدراسات النسائية (٥٧) إيمانا منها بأن المعرفة هي السبيل إلى تمكين المرأة والنهوض بالمجتمع… وهي القضايا التي برزت على الساحة المصرية أوائل القرن، وتبنتها الحركة النسائية المصرية في سبيل نهضة المجتمع معرفيا وثقافيا واجتماعيا وسياسيا؟
(1) حسن الفقى، التاريخ الثقافي للتعليم بالجمهورية العربية المتحدة في القرن التاسع عشر والعشرين (القاهرة: دار النهضة العربية، ١٩٦٦)، ص ۱۳۷.
(2) محمد أبو الإسعاد، رؤية في تحديث التعليم المصرى (القاهرة: طيبة للدراسات والنشر، ۱۹۹۳)، ص۷.
(3) أحمد لطفي السيد، “الحركة النسائية في مصر“، الجريدة، ع ١٤٨١، ٢٧ فبراير ۱۹۱۲، ص۱.
(4) إجلال خليفة، الحركة النسائية المصرية: قصة المرأة العربية على أرض مصر (القاهرة: المطبعة الحديثة، ۱۹۷۳)، ص 59 وما بعدها.
(5) كان من شروط الالتحاق أن يكون عمر الفتاة ما بين ٩–١٢ سنة، وأن تكون بكرا . ولم تلتحق بها أول الأمر أية مصريات فبدأت بعشرة جاريات حبشيات، كانت أول دفعة من خريجاتها من اللقيطات! للمزيد يمكن الرجوع إلى: إجلال خليفة، الحركة النسائية الحديثة: قصة المرأة العربية على أرض مصر، سبق ذكره، ص١٠٤.
(6) حسن الفقي، سبق ذكره، ص ۰۸۷
(۷) نبوية موسى، تاريخي بقلمي، (القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، ۱۹۹۹)، ۳، ص۳۲
(۸) نبوية موسى، تاریخی بقلمی، ص82
(۹) محمد أبو الإسعـاد، نبـويـة مـوسى ودورها في الحياة المصرية (١٨٨٦–١٩٥١)، سلسلة تاريخ
المصريين، ع٦٩. (القاهرة: الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٤)، ص ۱۲–۱۳ .
(10) أحمد عبد الفتاح بدير، الأمير أحمد فؤاد ونشأة الجامعة المصرية (القاهرة: مطبعة جامعة فؤاد الأول، ١٩٥٠)، ص 6 – ٩.
(11) أحمد عبد الفتاح بدير، ص۹.
(۱۲) مذكرات هدى شعراوی، ص ۱۱۷.
(١٣) كانت أولى هذه البعثات عام ۱۹۰۸واستمرت بعدها لعدة سنوات، وقد ورد في تقرير حول “حالة الجامعة المصرية” إشارة إلى بعثات الأطفال إلى فرنسا وإيطاليا لحصولهم على شهادة البكالوريا أو ما يعادلها، مع تكفل إدارة الجامعة بتدريسهم اللغة العربية والدين، وإمكانية مواصلة المبعوثين دراستهم للحصول على الشهادات الجامعية، على أن يتعهدوا بخدمة الجامعة عند عودتهم الجريدة، ع ١٥٤٧، 14 إبريل ١٩١٢، ص۰۲
(١٤) مجلة الجامعة المصرية، المجلد الأول، ج۱، ع1، 1ینایر ۱۹۰۹، ص 5-6.
(١٥) أحمد لطفي السيد، “الحفلة الكبرى بافتتاح الجامعة“، الجـريدة، ع ٥٤٤، الاثنين ۲۱ ديسمبر۱۹۰۸، ص٤.
(16) مجلة الجامعة المصرية، ص6 وما يليها.
(۱۷) الجريدة، ع٥٤٠، الخميس ۱۷ دیسمبر ۱۹۰۸، ص۵.
(۱۸) الجريدة، ع ٥٤٧، الخميس ٢٤ ديسمبر ۱۹۰۸، ص٤.
(19) أحمد عبد الفتاح بدير، ص ۲۰۹. وفي إعلان بصحيفة الجـريدة من المحاضرات بالجامعة تمتقسيم الطلبة إلى منتسبين وهم يحضرون كل المحـاضـرات بغرض الحصول على شهادة من الجامعة، والمستمعون الذين يمكنهم اختيار المحاضرات التي يرغبون في حضورها دون الحصول على أية شهادات: الجريدة، ع ٥٤٣، الأحد ٢٠ دسمبر ۱۹۰۸، ص ٤.
(٢٠) من الملاحظ أن نص محاضرة الأستاذ هيو ميللر Mr Hugh M. Miller أستاذ الأدب الإنجليزي بالجامعة المصرية بتاريخ ٢٣ ديسمبر ۱۹۰۸ كان موجها إلى كلا الجنسين بقوله Ladies and Gen tlemen فـي مجلة الجامعة المصرية، المجلد الأول، ج۱، ع1، 1ینایر ۱۹۰۹، ص9 من الجـزء الإنجليزي.
(۲۱) أحمد عبد الفتاح بدير، سبق ذكره، ص ۰۲۱۰
(۲۲) احمد عبد الفتاح بدير، سبق ذكره، ص ۰۲۱۰
(۲۳) أحمد عبد الفتاح بدير، سبق ذكره، ص ۲۱۰–۰۲۲۰
(٢٤) إجلال خليفة، الحركة النسائية المصرية، ص ۱۲۱–۱۲۲
(٢٥) تشير هدى شعراوي إلى مقر الجامعة باسم “قصر خيري باشا” لا “سرای جناکلیس“، منكرات هدى شعراوی، سبق ذكره، ص 116.
(٢٦) مذکرات هدى شعراوی، سبق ذكره، ص ١١٦.
(۲۷) الجريدة، ع ٥٦٦، ۲٠ بنابر ۱۹۰۹، ص۱.
(۲۸) الجريدة، “إعلان عن محاضرة: حق الانتخاب للنساء” . ع ١٥٤١، 6 إبريل ١٩١٢، ص5.
(۲۹) أحمد عبد الفتاح بدير، سبق ذكره، ص ۱۱۹.
(۳۰) أحمد عبد الفتاح بدير، سبق ذكره، ص 94: وقد تم نشر تقرير الأمير أحمد فؤاد بمناسبة مرور 4 سنوات على إنشاء الجامعة بصفتها “أول جامعة شرقية حديثة ظهرت في العالم الإسلامي“، وتم نشر مضمون هذا الكتيب على صفحات الجريدة، “الجامعة المصرية وادوار تقدمها“، ع ١٤١٧، ١٥بنابر ۱۹۱۲، ص۲ وبقية الموضوع في العدد ١٤٧٤، ١٨ يناير ۱۹۱۲، ص۱: ومـقـال بعنوان “حالة الجامعة المصرية“، ع ١٥٤٥، 11 إبريل ١٩١٢، ص ۱–۰۲
(۳۱) لبيبة هاشم، “الجامعة المصرية والمحاضرات النسائية“، فتاة الشرق، القاهرة: الجزء الرابع، يناير ۱۹۱۰، ص ۱۲۳–۱۲۷.
(۳۲) لبيبة هاشم، ص ١٢٥-126.
(۳۳) مذکرات هدى شعروای، من 118-119.
(34) باحثة البادية، “المرأة المصرية والمرأة الغربية: خطبة الباحثة بالبادية “، فتاة الشرق، الجزء ۸، مايو۱۹۱۰، ص٢۸۳–٢٩٦ : وتتمتها في الجزء 9، يونيو ۱۹۱۰، ص ۳۲۷–٣٤۰.
(٣٥) تعددت مسميات هذا القسم عبر السنوات (۱۹۰۹-1912) كما يرد في أحمد عبد الفتاح بدير، ص ١٢٥– ١٢٦. ۱۲۸، ۲۱۰– ۲۱۲
(٣٦) أحمد عبد الفتاح بدير، ص ١٢٥– ١٢٦.
(۳۷) الجريدة، “حالة الجامعة المصرية“، ع ١٥٤٥، 11 إبريل ١٩١٢، ص۲.
(۳۸) رحمة صروف، “دعوة إلى حضرات السيدات“، الجريدة، ع ١٥٢٦، ١٩ مارس ۱۹۱۲، ص۰۳
(۳۹) مذکرات هدى شعراوی، ص116: أحمد عبد الفتاح بدير، ص ۱۲۰.
(٤٠) زكية كامل الكفراوي، “تاج المرأة وكيف تحافظ عليه“، العفاف، ۲۲، ۷ إبريل ۱۹۱۱، ص۱، تتبنى الكاتبة هنا وجهة نظر محافظة حيث يشير تاج المرأة إلى عفافها وتقصد به أساسا حجابها، وفي مقارنتها بين المرأة الشرقية والغربية من حيث العفاف تقول: “فلا يصح الحكم بتوحيد العادات في كل البلاد … فإن مخالفة النساء للرجال في البلاد الأوروبية وترك التبرقع عادة مستحسنة عندهم، فلیست مشادة للعفاف ولكن هذا في بلادنا مناف للحياء والأدب فهو مناقض للعفاف…”
(41) الجريدة، “إعلان عن محاضرات ، ع ١٥٤٠، الخميس 4 إبريل ١٩١٢،ص5 .
(٤٢) أحمد عبد الفتاح بدير، ص ۱۳۰.
(٤٣) الجريدة، “إعلان عن محاضرات الجامعة المصرية للسنة المكتبية“، ع ۱٦٩٩، ۱۳ اکتوبر ۱۹۱۲ص6.
(44) يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى مقالة شكري صادق، جامعة النساء الشرقيات على بساط البحث ، الجريدة، ع 1061. ۱۰ سبتمبر ۱۹۱۰.
(45) إجلال خليفة، الحركة النسائية الحديثة: قصة المرأة العربية على أرض مصر، (القاهرة المطبعة الحديثة، ١٩٧٣)، ص٨٤.
(46) تذكر نبوية موسى قصة سعيها للالتحاق بالجامعة المصرية فور افتتاحها، ورفض طلبها ثم الاستعانة بها لاحقا كمحاضرة في الفرع النسائي، نبوية موسى، “ذكرياتي: الجامعة قديما وحديثا“، الفتاة، ع ١٠٤، ص ۱۷–۱۸.
(٤٧) محمد أبو الإسعاد، سبق ذكره، ص ۱۹.
(٤٨) نبوية موسى، كتاب المطالعة العربية لمدارس البنات، (القاهرة: نظارة المعارف، ۱۹۱۱، ط۲)، ص 5-6.
(٤٩) نبوية موسى، المرأة والعمل، (الإسكندرية: المطبعة الوطنية، ١٩٢٠).
(50) نيوية موسى، المرأة والعمل، ص 3 وما يليها.
(٥١) نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية“، الأهرام، 16 إبريل ١٩١٢، وقد تمت إعادة نشرها في كتاب الأهرام: شهود العصر، (القاهرة: مركز الأهرام للترجمة والنشر، ١٩٨٦): هاجر: کتاب المرأة، ع5-6، (القاهرة: دار نصوص، ۱۹۹۸)، ص ١٤٣–١٤٦.
(52) نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية“، هاجر، ص ١٤٣–١٤٤.
(٥٣) نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية من١٤٥.
(٥٤) نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية“، ص١٤٥.
(55) نبوية موسى، “المحاضرات النسائية في الجامعة المصرية” ، ص١٤٣–١٤٤.
(٥٦) الجنس اللطيف، ۱۹۱۳، ص۲۷۲–۰۲۷۹
(٥٧) للمزيد حول مجالات “الدراسات النسائية” يمكن الرجوع على سبيل المثال إلى:
Joy Magezis, Women’s Studies (London: Hodder & Stoughton, 1996).
(۱۹۲۳-۱۸۸۲)
عوض توفيق عوض
مقدمة:
بدأ عهد الاحتلال البريطاني لمصر منذ عام ١٨٨٢ نتيجة لاندحار الثورة العرابية وهزيمة العرابيين، واستمر حتى عام ١٩٢٣ الذي حصلت فيه مصر على استقلالها الجزئي وصدر فيه دستور عام ١٩٢٣ الذي ظهرت بعده فترة أخرى كان لها سماتها وتوجهاتها السياسية التي تختلف في بعض ملامحها عن فترة الاحتلال.
وقد قامت سياسة الاحتلال البريطاني في مصر– كما قال اللورد كرومر– على أساس أن الاحتلال البريطاني يدوم إلى ماشاء الله (1)، ولتحقيق ذلك بني على تجميع السلطة السياسية في يده وإبقاء المصريين في قبضته أطول مدة ممكنة، وفي سبيل تحقيق ذلك سلك عدة سبل منها:
– وضع يده على المالية بحجة أن الاحتلال مسئول أمـام أوروبا عن حالة مصر المالية، وتشجيع المصريين على الاستدانة من البنوك الأجنبية التي لها فروع في مصر، ونظراً لخطورة هذا الاتجاه فـقـد حـذر منه مجلس شوري القوانين، ووضح مصطفى کامل نوايا الاحتلال من وراء ذلك في قوله “إن الإنجليز فتحوا المصارف ليرهنوا أملاك الأمة ويعمموا الاستدانة التي هي في نظر الاقتصاديين مجلبة الدمار على الأمم (٢).
– محاربة الصناعة المصرية وعدم تشجيعها وذلك بإيهام المصريين بأن مصر لا يمكن أن تكون وطناً للصناعة لأنها ليست وطناً لمناجم الفحم والمعادن(۳).
– تخصيص مصر للإنتاج الزراعي وحده وإنتاج القطن بالذات وإيهام المصريين بأن مصر بلد زراعي دون اتخاذ أية خطوة للنهوض بالزراعة وترقيتها(4).
وساعد الاحتلال البريطاني على تنفيذ سياسته ودعم مركزه في مصر اختفاء دور فرنسا بوصفها قوة استعمارية منافسة منذ أبرمت إنجلترا معها الاتفاق الودي في 8 إبريل عام ١٩٠٤، وبموجبه تركت فرنسا طليقة اليد في مراكش مقابل أن تترك إنجلترا طليقة اليد في مصر، وبهذا الاتفاق ثبت الاحتلال البريطاني أقدامه في مصر من الناحية الفعلية، وساعده على ذلك ضعف الدولة العثمانية المستمر مما أدى إلى تقلص نفوذها في مصر(5).
وقد قامت سياسة الاحتلال في مصر على شمار كثيرا ما تكرر في كتابات كرومر وهو “بقدر معلوم (6)، وقد فسر الأستاذ محمد شفيق غربال هذه السياسة بأنها تقوم على منح كل شئ بقدر وبمقدار يمنح ولا يطمع، فإذا أذل الكبار فانه يمنع أذاهم ولكن لا يطمع الشعب في الحكومة النيابية الحقيقية، وإذا أرضى الشعب فعلى شرط أن يقنعوا ويكتفوا بما أتاهم في المجالات كافة ومنها التعليم الذي يجب أن يكون لعـدد محدود من أبنائه(۷).
وعلى الرغم من بروز أهمية تعليم المرأة فإن سلطات الاحتلال اتبعت عدة وسائل لتطبيق سياسة القدر المعلوم في تعليمها، وهو ما كان له أثره في محاولات الأهالي المستمرة للتغلب على هذه المشكلة، وهو مأسوف تتناوله الدراسة بالتفصيل في الأجزاء التالية.
عمل الاحتلال على تحقيق سياسة القدر المعلوم في التعليم بصفة عامة وتعليم البنات بصفة خاصة رغم بروز أهمية تعليم المرأة بعد أن شاركت في الثورة العرابية عام ۱۸۸٢، مما جعل عدد رواد التنوير يدافعون عن مصالحها ومنهم عبد الله النديم أديب الثورة الذي كتب سلسلة من المقالات بالعامية في مجلته الأستاذ على هيئة محاورات سماها مدرسة البنات، أبدي فيها رأيه في وجود تعليم البنات(٨).
وأحدثت أراء قاسم أمين الذي يمثل القـمـة التي برزت في مـجـال تـحـرير المرأة تأثيرها في المجتمع بعد ما نشر كتابه تحرير المرأة عام ١٨٩٩، فأثار أكبر معركة فكرية حديثه حول قضية المرأة من كل جوانبها خاصة وأنه نادى فيه برفع الحجاب وتعليم المرأة، وتشييد الحق المطلق الممنوح للرجل في الطلاق، وتحـريم تعدد الزوجات إلا للضرورة، وضمان حق المرأة في العمل في حالة الحاجة إليه(٩).
وبذلك وجـه الأذهان إلى ضرورة خلق نهضة من خلال تثقيف المرأة وتحريرها، وكان يؤيده في ذلك الشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد(١٠). وأعقب هذا بنشر كتاب المرأة الجديدة الذي صدر عام ١٩٠٠ وركز فيه على أهمية سلاح العلم والثقافة والاستثارة للمرأة(١١)، وأيده في ذلك سعد زغلول (۱۲).
وكان الشيخ محمد عبده يؤيد قاسم أمين فيما ذهب إليه، إلى جانب أنه كان يرى أن تعليم المرأة يمكنها من عدم الإذعان للخرافة والشعوذة أو الاستسلام للأباطيل وأمور السحر بحيث لا تخضع لغير تعاليم الله(١٣)، كما كان يرى أن الوسيلة الكفيلة بالقضاء على الكثير من المشكلات الاجتماعية تتمثل في تربية المرأة وتسليحها بالعلم(١٤). وهكذا أدرك الأستاذ الإمام الحاجة الملحة إلى تعليم المرأة في عصره وأثر ذلك في تحسين أحوالها وعد ذلك من الأمور الرئيسية في برنامجه للإصلاح الاجتماعي(١٥).
ولإيمان أحمد لطفي السيد بحرية المرأة وحقوقها وخاصة حقها في التعليم، فقد ايد قاسم أمين فيما ذهب إليه وكتب على صفحات الجريدة المقـال تلو المقال لينبه الأذهان إلى أنه ينبغي على المجتمع في مصر أن يتيح للنساء نفس الحرية التي يجب أن تتاح للرجال(١٦)، مع الإكثار من عدد المتعلمات على أن لا يقتصر تعليمهن على القراءة والكتابة والمراحل الأولى من التعليم(۱۷).
وأدى انتشار فكر التنوير الذي كان من رواده عبد الله النديم وقاسم أمين والشيخ محمد عبده وأحمد لطفي السيد إلى ظهور تطورات ملحوظه سارت – كما قال سلامة موسى – في هدوء، فـقـد رات مصر سيدة مصرية تكتب في الجرائد باسم باحثة البادية وهي ملك حفنى ناصف، بل رات ايضـا نبـويـة مـوسى تنجح في نيل الشهادة الثانوية على الرغم من معارضة دنلوب لها ومنعها من التقدم للامتحان ولكنها لم تزعن واستمرت في الكفاح وأحدثت ضجة في الجرائد وتقدمت للامتحان في السنة التالية فقبلت ونجحت (۱۸).
وظهرت بوادر تحرير المرأة على يد المثقفات أمثال عائشة التيمورية التي أعطت اليقظة الوطنية روح الإلهام(١٩)، وتلخصت مبادئها في المناداة بتعليم المراة والمساواة بين الرجل والمرأة وتحطيم الأساليب الرجعية(٢٠)، واستطاعت بخطبها وأحاديثها وأشعارها وكتاباتها أن توقظ في المرأة المصرية الحماس وتحثها على الوقوف إلى جانب الرجل في الكفاح أو الاعتداد بنفسها وكيانها كجزء من المجتمع(۲۱).
وتأسست الصحافة النسائية التي عرضت أهم قضايا ومشكلات المرأة ودعت من خلال مقالات للمثقفات أمثال هند نوفل– التي أصدرت أول مجلة نسائية في عام ۱۸۹۲ أطلقت عليها اسم الفتاة إلى تعليم المرأة وتثقيفها وتحرير عقلها ومنحها حقوقها السياسية وحقها في التعليم(٢٢). ولم يقتصر الأمر على ذلك بل أفسح أحمد لطفي السيد مجال الكتابة على صفحات الجريدة لملك حفني ناصف ومـاري زيادة المعروفة بمي ونبوية موسي ولبيبة هاشم للدفاع عن حقوق المرأة (۲۳)، كان إلى جانب ذلك يدعو المرأة إلى محاضرات عامة – بنادي الجريدة– تكون فيها محـاضـرة أو مستمعة، وبذلك خرج بالمرأة من نطاق البيت المحدود إلى النطاق الخارجي الواسع وبث فيها نوعاً من الثقة بالنفس على مواجهة المجتمعات العامة(24).
ولم يقف الأمر عند مطالبة المرأة بحقها في التعليم وتشجيعها على طلب هذا الحق بل تعداه إلى اقتناع الرجال من الاتجاهات والمستويات كافة بهذا الحق. يدل على ذلك ما ذكره سعد زغلول يوم ٢٤ مارس عام ١٩٠٨ من أن رفقى باشا دعاه إلى تناول الشاي عنده في مساء نفس اليوم فذهب، وكان هناك الشيخ على يوسف وقاسم أمين ثم حضر أحمد شفيق “ودار الحديث عن تربية المرأة وانها في طريق التقدم” وأنه “لا فائدة من تعليمها وحبسها” (أي حبسها في المنزل)، وانحط “(أى استقر الرأي على أن التعليم يؤدي إلى الإطلاق (أى إلى حرية المرأة)(٢٥). وهكذا أجمع الحاضرون وكانوا يمثلون اتجاهات مختلفة على أهمية تعليم المرأة وأثر ذلك في تحريرها وفي خروجها للعمل.
وبصفة عامة كان لاهتمام قادة الفكرة من الاتجاهات كافة بقضية المرأة وتعاطفهم معها ومع كفاحها للحصول على حقوقها أثره في حصولها خلال فترة الاحتلال (۱۸۸۲– ۱۹۲۳) على الكثير من حقوقها ومنها حقها في التعليم على الرغم من سياسة القدر المعلوم.
وقد أثار التقدم الذي أحرزته المرأة في مختلف المجالات وبصفة خاصة في مجال تعليم المرأة دهشة كرومر الذي وصف عان 1903 التحول الذي طرأ على آراء الأهالي نحو تعليم المرأة بأنه “عظيم جداً“. فقد كان الأهالي كما قال “ينظرون إليه شرراً أو يرمقونه بعين العداء فصاروا ينظرون إليه بالاهتمام الشديد“، ويذكر في موضع آخر “أن البنات اللواتي يتعلمن في مدارس القرى يزيد عددهن سنة فسنة (26)، وفي تقرير آخر يرجع ذلك إلى “تغير المادات” وإلى التقدم السريع المستمر الذي جعل الكثيرين يطلبون إنشاء مدارس في جهات مختلفة وأدي إلى زيادة المدارس الخصوصية للبنات زيادة عظيمة في السنوات الأخيرة (٢٧) كما قال.
ويذكر غورست عام ١٩٠٧ ان مدارس البنات الأميرية غصت بالطالبات، وأن “الهمة
مبذولة لإنشاء مدارس البنات في أنحاء البلاد بواسطة الأفراد والجماعات (۲۸)، ويتضح من تقرير آخر له مدى التقدم الذي حدث في مجال التغلب على العادات والتقاليد فنذكر أن الناس يبقون بناتهم أللواتي أدركن سن الزواج في المدارس حتى یکملن دروسهن” (۲۹). وإذا كانت الفتاة قد نجحت في الحصول على حقها في التعليم ووافق الأهالي على حصولها على هذا الحق وشـجـعـوهـا عليـه، مما أدهش سلطات الاحتلال وكان يجب أن تعمل على تحقيقه لها لكن سياسة القدر المعلوم التي طبقتها سلطات الاحتلال في مجال التعليم بصفة عامة وتعليم الفتاة بصفة خاصة قد أدت إلى اتباعه عدة وسائل لإعاقة التعليم ومنه تعليم الفتاة.
ومن الأساليب والوسائل التي اتبعها الاحتلال لإعاقة تعليم البنات: التغيير في الإنفاق على تعليم البنات، وعدم الاهتمام بإنشاء المدارس والتوسع فيها، والغاء مجانية التعليم وزيادة المصروفات المدرسية على البنات، والهبوط بمستوى التعليم، وفصل تعليم البنات على بعض الأنواع، وللتغلب على هذه العقبات لجأ الأهالي إلى المدارس الأجنبية لتعليم بناتهم فيها، وإلى إلحاقهم بالمدارس التي أنشأتها الجمعيات الخيرية الإسلامية والقبطية، وهو ما سوف نتناوله بالتفصيل في الأجزاء التالية من الدراسة التي سوف نتعرض فيها أيضاً لبعض الوسائل التي اتبعها الاحتلال– وإن كانت قليله – لدفع التعليم، وهي في مجملها خاصة بالمعلم.
اتبع الاحتلال البريطاني (۱۸۸۲–۱۹۲۳) عدة أساليب لتطبيق سياسة القدر المعلوم التي سار عليها في حكم مصر لإعاقة التعليم بصفة عامة، وتعليم البنات بصفة خاصة، وقد كانت هذه السياسة على النحو التالي:
۱– عدم تكافؤ نسبة ما ينفق على تعليم البنات مع ما ينفق على تعليم البنين:
نفذ الاحتلال سياسة القدر المعلوم على سياسته التعليمية في مصر وكان من وسائله لتحقيق هذه السياسة التحكم في ميزانية التعليم يؤيد ذلك أنه بينما بلغ مجموع الإيرادات التي حصلتها الحكومة المصرية في الخمس وعشرين سنة الأولى من الاحتلال (۱۸۸۲–١٩٠٦) مبلغ ٢٥٨ مليون جنيها، وأن ما أنفق منها على التعليم كان 2،801000 جنيها فقط أي ما يزيد قليلاً عن ١٪ (30).
وإذا كان ينبغي أن تتساوى ميزانية تعليم البنات مع ميزانية تعليم البنين – رغم ضآلة ميزانية التعليم – لأن أعداد البنات تكاد تكون متساوية مع أعداد البنين، فإنه يتضح من الإحصاءات التي بين أيدينا وهي الخاصة بأعداد سكان مصر عام 1907 آن جملة عدد السكان كانت ۱۸۹۹۷۸، ۱۱ نسمة، وأن عدد الإناث والذكور يكاد يكون متساوياً، حيث كان عدد الذكور من هذه الجملة هو 616,640, 5 نسمة وعدد الإناث هو ٣٣٨ ، ٥٧٣ ، 5 نسمة، وأنه يتضح من نفس الإحصاءات أن أعداد الأطفال الذين كانوا في سن الإلزام من البنين والبنات كانت متقاريه وأنهم كانوا يقدرون بنحو 15٪ من السكان، وأنه كان منهم ٨٤٢٤٩٦ بنينا و ٨٣٦٠٠٠ بناتا(٣١).
ورغم أن سلطات الاحتلال قد أقرت بالإقبال المتزايد من الأهالي على تعليم بناتهن، حيث يذكر كرومـر في تقريره عن عام 1900 أنه حدث تغيير عظيم في الرأي العام المصري في السنوات الأخيرة من حيث الاهتمام بتعليم البنات(۳۲)، ورغم أنه يكرر ذلك في تقاريره التالية، ورغم أن من جاء بعده سواء كان الدن غورست أو كتشنر قد أكد على هذه الحقيقة، ورغم أن سلطات الاحتلال أعتقدت أن ترقية المرأة المصرية بالتعليم من شأنه أن يساعد على تقبل المجتمع المصرى لعناصر المدينة الأوروبية بما يسهم في کسر حدته ضد الوجـود البريطاني، فقد كان القدر من الميزانية الذي يوجه لتعليم البنات ضئيلاً للغاية ولا يكاد يذكر، فقد ظل هذا القدر حتى عام ١٩١٢ يصل إلى نحو3% من ميزانية التعليم، بينما كانت ميزانية التعليم في عام ١٩١٢ تصل إلى ٥٣٥،٧٦٤ جنيها كانت ميزانية تعليم البنات تصل إلى ١٦٧٢٢ جنيها أي بنسبة 1،3%(۳۳).
وعندما بدأ الاهتمام بتعليم البنات يتزايد في نهاية عهد الاحتلال وصل القدر الذي خصص لتعليم البنات في عام ١٩٢١ إلى 51,000 جنيهاً من جملة ميزانية التعليم التي كانت تصل إلى ۱،۲۰٩,٦٥3 جنيها أي بنسبة تصل إلى4,2%(٣٤).
ونتيجة لقصور ميزانية تعليم البنات عن الوفاء باحتياجاتهن التعليمية وأمام إقبال الأهالي المتزايد على تعليم بناتهن، فقد ندد أعضاء مجلس شورى القوانين بتأخر تعليم البنات وطالبوا بزيادة ميزانية هذا التعليم، وكـمـا قـال أحـد أعضاء مجلس شوری القوانين في جلسة 18 ديسمبر عام 1909 “تعليم النساء متأخر عندنا جـداً … وأننا نظلم النساء، ولو عدلنا معهن لخصصن لهن الثلث من ميزانية المعارف باعتبـار الفريضة الشرعية (٣٥).
ونتيجة لضعف ميزانية تعليم البنات في ظل الاحتلال البريطاني – رغم تظاهر المسئولين عن الإدارة في ذلك الوقت بأهميته – فقد ظل التعليم الرسمي للبنات متأخراً إلى أن حصلت مصر على الاستقلال الجزئي عام ١٩٢٣. ولم يهتم الاحتلال بإنشاء مدارس جديدة أو بالتوسع فيها وهو ما سوف نتناوله بالتفصيل في الجزء التالي.
۲–عدم اهتمام سلطات الاحتلال بإنشاء المدارس والتوسع فيها:
رغم اعتراف الاحتلال بأن “نجاح المشروعات المختلفة التي يقصد بها ترقية حال الفلاحين يتوقف كثيراً على انتشار التعليم في القطر حتى يتكمنوا من العلم بأمور أخرى غير ما علموه بالتقليد، وأن الكتاتيب تعتبر من المؤسسات التعليمية الأساسية في تحقيق هذه السياسة خاصة وأنه يلتحق بها البنون والبنات، وأن الكتاتيب التي كانت تحت إدارة نظارة المعارف عام ١٩٠٤ كان عددها 94 كتاباً، كانت تضم 4318 صبياً و ١٣٥٣ بنتاً، وأن الكتاتيب التي كانت تحت مراقبة نظارة المعارف كان عددها في نفس العام 3698 كتابا بها ١١٥٨٧١ صبياً و8615 بنتاً، فإنه اعترف في نفس التقرير بأن هذه الكتاتيب كانت تحتاج إلى بناء أمكنة ملائمة للتدريس وأن بعضها كان في حالة سيئة بسبب الازدحام (36).
ويدل على ازدحام الكتاتيب وسوء حالها ما ذكره دنلوب أيضاً في نفس عام 1904 وهو أن كتاب مثل كتاب السيدة عائشة السطوحية بالجمالية– وهو في ذلك لم يكن يقل عن غيره من الكتاتيب – كـان به ۸۸ تلميذاً من كلا الجنسين مـتـراكـمين في غرفة مساحتها أربعة أمتار فقط أعمارهم تترواح بين 5، ١٤ سنة، وفي كتاب آخر هو كتاب عودة باشا بالجمالية كان يوجد 69 تلميذا في غرفة مساحتها خمسة أمتار، وفي كتاب ثالث (بين القصرين بالجمالية) 117 تلميذاً في حجرة مساحتها ستة أمتار (۳۷).
وقد أقر غورست بازدحام الكتاتيب لعدم التوسع فيها، وذكر في تقرير عام 1909 أن عدد الكتاتيب زاد في السنوات الخمس الأخيرة (من سنة 1904 إلى سنة ١٩٠٩) نحـو ٤٤٪ وأن عدد التلاميذ بها زاد 111% (۳۸). ومعنى هذا أن الزيادة في عـدد الكتاتيب تتكافأ مع الزيادة في عدد التلاميذ مما أدى إلى ازدحام الكتاتيب بالتلاميذ والتلميذات.
وقد ترتب على اهمال الكتاتيب والتقصير في الإنفاق عليها أن أصبحت كما قال محمد فريد “مرابط للبهائم أو مخازن للعلف أو أماكن للوافدين من الضيوف” (۳۹)
وتركت كما قال روثتين “تنعى من بناها حتى لا يقال أن عدداً كبيراً منها حوله العمد إلى إصطبلات ومخازن للتبن ونحو ذلك (٤٠).
ولم تحـاول سلطات الاحتلال أن توسع في عـدد مـدارس البنات الابتدائيـة رغم التحول في آراء الأهالي وإقبالهم على تعليم بناتهم بها، فمنذ بدأ الاحتلال لمصر كان بها مدرسة ابتدائية واحدة للبنات تسمى مدرسة السيوفية ضمت إلى نظارة المعارف حيث كانت تابعة للأوقاف وسميت باسم مدرسة السنية، وظلت هي المدرسة الابتدائية الوحيدة للبنات التابعة للحكومة حتى عام 1895 الذي افتتحت فيه نظارة المعارف قسماً للبنات بمدرسة عباس الابتدائية للبنين. ورغم ازدحام هاتين المدرستين بالتلميذات كما اعترف بذلك كتشنر في تقريره عام ١٩١٣، فإن وزارة المعارف لم تفتح مدرسة ابتدائية للبنات إلا في 1917 وقد تم فتحها بالإسكندرية في 31 مارس عام 1917. وأنشـات الوزارة في إبريل عام ١٩١٨ مدرسة ابتدائية رابعه للبنات. وظلت المدارس الابتدائية للبنات التي تديرها وزارة المعارف أربعاً حتى نهاية العام الدراسي ۲۲ /۱۹۲۳ (نهـاية فترة الاحتلال)، ثم افتتحت الوزارة في عام ٢٣/ ١٩٢٤ ثلاث مدارس ابتدائية للبنات في شبرا وحلوان والحلمية الجديدة.
ورغم قلة عدد المدارس الابتدائية للبنات في عهد الاحتلال وعدم اهتمامه بإنشاء مدارس ابتدائية جديدة للبنات، فإن الهدف من إنشاء هذه المدارس لم يكن إعدادهن للتعليم الثانوي ثم التعليم العالي وإنما كان تعليم المتلحقات بها بعض الأعمال المنزلية وتوجيههن لأن يصبحن معلمات، وفي هذا يقول كتشنر “ليس للنساء في مصر عمل يعملن به خارج بيوتهن سوى خدمة بنات نوعهن، ولذلك وجب أن يقصد في تعليمهن أعدادهن للقيام بالأعمال البيتية (٤٢).
ولأن الاحتلال حاول قصر تعليم البنات على بعض أنواع التعليم دون البعض الآخر فلم يهتم بإتاحة الفرص لهن للالتحاق بالتعليم الثانوي الذي يتيح الالتحاق بالتعليم العالي، لذلك لم يعمل على إنشاء مدارس ثانوية للبنات إلا من عام ١٩٢٠ الذي أنشئت فيه أول مدرسة ثانوية للبنات بالحلمية، ولم تستمر طويلا حيث ألغيت عام ١٩٢٥ لأن مناهجها كانت ذات طبيعة خاصة لذلك لم تكن تعطى خريجاتها شهادة تؤهلهن للتعليم العالي، وأنشئ بدلاً منها في نفس عام ١٩٢٥ مدرسة ثانوية للبنات بشبرا على نسق مدارس البنين لتيسر السبيل للبنات للالتحاق بالجامعة(٤٣).
وحتى لا يؤدى اهتمام الأهالي بتعليم أولادهم من البنين والبنات إلى المطالبة بإنشاء المدارس والتوسع فيها، ولتطبيق سياسة القدر المعلوم وحصر التعليم في عدد محدود من البنين والبنات فقد ألغي الاحتلال مـجـانيـة التعليم وعمل على زيادة مصروفاته وجعلها على البنات أكثر منها على البنين وهو ما سوف نتناوله في الجزء التالي.
3- إلغاء مجانية التعليم وزيادة المصروفات المدرسية على البنات:
اتجه الاحتلال في تطبيق سياسة التعليم بقدر معلوم نحو قصر التعليم على فئة محدودة من التلاميذ وعلى طبقة دون أخرى، وكان من وسائله لتحقيق هذه السياسة إلغاء مجانية التعليم وفـرض المصروفات المدرسية على التلاميذ وزيادتها بالنسبة للبنات.
وقد بدأ الاحتلال فرض المصروفات المدرسية منذ عام 1884 على فئة محدودة من التلاميذ تطبيقاً لقانون صدر عام ١٨٧٤ ولكن لم يطبق عند صدوره، فأصدر محمود الفلكي ناظر المعارف أوامره بتطبيقه على من رأى فيهم المقدرة على دفعها من التلاميذ المجانيين(44). وعلل كرومر ذلك بأن “ما كانت تنفقه الحكومة على المعارف العمومية إنما تنفقه على تعليم أولاد فئة صغيرة أكثرها من أغنى أغنياء السكان (٤٥)، ولم يذكر ان الهدف من ذلك كان الحد من عدد المتعلمين من البنين والبنات.
وقد تدرجت نظارة المعارف في تقليل عدد التلاميذ الذين يتعلمون مجانا فبعد أن كانت نسبة التلاميذ الذين يتعلمون مجانا عام ۱۸۷٩ (قبل الاحتلال) تزيد عن 90% من التلاميذ الذين يتعلمون في مدارس الحكومة انخفضت النسبة حتى أصبحت نسبة من يدفع المصروفات تصل في عام 1899 إلى98,5% في المدارس الابتدائية وبذلك أصبح التعليم الحديث وقـفـا على طبقة معينة من أبناء القادرين على تحـمـل نـفـقـات الدراسة(٤٦).
ولم تكتف سياسة الاحتلال بذلك بل بيتت النية على إلغاء التعليم المجاني وهذا ما يوضحه تقرير صادر عام ١٨٨٦ جاء فيه ما نصه “إن التعليم من الآن فصاعداً ينبغي أن يكون بالمصروفات بحيث لا يكون مجانيا إلا بوجه الاستثناء” (٤٧). وأتيحت الفرصة للاحتلال لإلغاء المجانية بصدور قرار اللجنة العلمية الإدارية الصادر عام ١٩٠٢ والذي تقرر بموجـيـه “إلغـاء المجـانيـة مـن جـمـيع المدارس الابتدائية والثانوية والعـاليـة والخصوصية التابعة لنظارة المعارف وتعزيزها مؤقتاً في مدارس المعلمين الصنائع الخديوية ومدرسة عباس (48).
ولم يكتف الاحتلال بإلغاء المجانية بل إنه إمعاناً في تضييق فرص التعليم أمام التلاميذ الراغبين فيه من البنين بصفة عامة والبنات بصفة خاصة فقد عمل منذ مارس عام ١٨٨٩ على زيادة المصروفات المدرسية، ولتحقيق ذلك عدل القانون الصادر عام ١٨٨٧ والذي تحددت فيه المصروفات المدرسية بما يقضي برفعها بالنسبة لتلاميذ الداخلية في المدارس الابتدائية إلى16 جنيهًا بدلا من 14 جنيهاً، ورفعها في التعليم التجهيزي (الثانوي) إلى عشرين جنيهاً بدلاً من 16 جنيهًا، وبالنسبة لتلاميذ الخارجية فقد رفعت المصروفات المدرسية في التعليم الابتدائي إلى 8 جنيهـات بدلا من 6 جنيهات، ورفعت في التعليم التجهيزي إلى عشرة جنيهات بدلاً من 8 جنيهات (٤٩).
وعندما رأت اللجنة العلمية الإدارية زيادة المصروفات المدرسية مرة أخرى ابتداء من العام الدراسي 1905/ 1906 فقد رفعتها بالنسبة لتلاميذ الخارجية البنين إلى عشرة جنيهات بينما رفعتها بالنسبة للبنات إلى أثنى عشر جنيها(٥٠).
وعندما أنشأت وزارة المعارف أول مدرسة بنات عام ١٩٢٠ (كما سنبين بالتفصيل) لم تكن هناك مساواة بين مدارس البنين ومدرسة البنات في المصروفات المدرسية فكانت في مدرسة البنات أكثر منها في مدارس البنين كمحاولة من الاحتلال للحد من تعليم البنات، لذلك ورغبة في تحقيق المساواة بين البنين والبنات في المصـروفـات المدرسية رفع الاتحاد النسائي عام ١٩٢٣ طلباً إلى وزير المعارف يلتمس فيه تطبيق العدل، ولم يكتف الاتحاد بذلك ولكن أرسل وفداً من أعضائه لمناقشة الوزير في الأمر ومطالبته بتخفيض المصروفات بمدارس البنات ومساواتها بمدارس البنين وجعل التعليم الديني إجبارياً(٥١).
ورغم إلغاء التعليم المجاني وزيادة المصروفات المدرسية فإن الآباء ضحوا في سبيل تعليم أبنائهم لأنهم أدركوا أهمية التعليم. يؤكد ذلك أن غورست ذكر في عام 1909 أنه رغم إلغاء التعليم المجاني في المدرسة السنية سنة 1904 ومع زيادة أجور التعليم زاد عدد التلميذات وهذا شأن مدرسة عباس للبنات بحيث وصل عدد التلميذات في المدرستين 445 تلميذة(٥٢).
ويحاول كرومر تبرير إلغاء المجانية ورفع المصروفات المدرسية بأن التعليم المجاني وضع ليستفيد منه الفقير ولكن لم يستفد منه فعلاً إلا أهل الغنى والجاه” وأن التعليم المجاني كان سبباً في ضعف شـعـور الوالدين بأنهم مكلفـون بتعليم أولادهم ودفع نفقاتهم“، وبأن هذا “بمثابة إبطال امتیاز استنفد كل أموال نظارة المعارف مما لم يترك شيئا للتعليم الشعبي (٥٣) أي التعليم في الكتاتيب.
وإذا أمعنا فيما ذكره كرومر نجد أنه بعد بالتعليم عن مبدأ تكافؤ الفرص وأصبح الحق فيه لمن يدفع نفقاته، وأنه جانبه الصواب في كثير مما ذكره حول التعليم الشعبي أو الكتاتيب لأنها لم تحصل إلا على النذر اليسير من ميزانية التعليم، يدل على ذلك ما ذکره غورست في تقريره السابق عن عام 1909 الذي ذكر فيه أن عدد الكتاتيب زاد44% في السنوات الخمس الأخـيـرة (من سنة 1904 إلى سنة 1909) بينمـا زاد عـدد التلميذات بنسبة 111% (٥٤).
حيث تدل الزيادة في أعداد التلاميذ والتلميذات على أن الوالدين كانا مهتمين بتعليم أولادهم رغم إدراكهما أن سياسة الاحتلال التعليمية كانت تقوم على منح التعليم بقدر معلوم، لذلك عمل على إلغاء مجانية التعليم وزيادة المصروفات المدرسية– كما ذكرنا – وعمل من ناحية أخرى بالنسبة لتعليم البنات على قصر تعليمهن على بعض أنواع التعليم ومراحله كما سنبين من الجزء التالي من الدراسة.
٤– قصر تعليم البنات على بعض أنواع التعليم:
حاول الاحتلال توجيه الأهالي إلى نوع بسيط من التعليم بهدف امتصاص رغبتهم في تعليم أبنائهم وإلهائهم بتلك الصورة الباهتة التي تمثلت في إنشاء الكتاتيب التي كان يقبل بها الأطفال من الجنسين. هذا ورغم الأصول السيئة التي كانت عليها هذه الكتاتيب فإنها لم تقم بدورها في نشر التعليم وتعميمه(٥٥)، ويرجع ذلك إلى ضآلة ما كان ينفق عليها مقارناً بما كان ينفق على أنواع التعليم الأخرى، يدل على ذلك أنه بينما كانت ميزانية التعليم تصل عام 1918 إلى 700,000 جنيهاً، فإن ما خصص منها للتعليم في الكتاتيب كان يصل إلى ٢٠,٠٠٠ جنيهاً فقط. ومعنى هذا أن التعليم الشعبي الذي كـان يلتحق به السـواد الأعظم من أبناء الشعب من الجنسين كانت سلطات الاحتلال تنفق عليه نحو 3% فقط من ميزانية التعليم بينما كانت تتفق ٩٧٪ من الميزانية على أنواع التعليم الأخرى(٥٦).
ورغم ضآلة ميزانية الكتاتيب فقد كان عددها في عام 1906 يصل إلى ٤٥٥٤ كتاباً خاضعاً إما لإشراف نظارة المعارف أو مجالس المديريات ويتعلم فيها نحو 165000 تلميذًا وتلميذة منهم نحو 13000 تلميذة (57)، أي بنسبة تقل عن 8٪ من جملة تلاميذ هذه الكتاتيب.
وقد أنشأت نظارة المعارف في عام 1903 أول مدرسة لمعلمات الكتاتيب، وتوالى بعد ذلك إنشاء هذه المدارس، ولتشجيع التلميذات الائي أتممن دراستهن في الكتاتيب على الالتحاق بهذه المدارس قررت نظارة المعارف أن يكون التعليم بها بالمجان وأن تقيم التلميذات بالقسم الداخلي وتصرف لهن كسوه. وكانت مدة الدراسة بهذه المدارس سنة واحدة زيدت إلى سنتين عام 1907 ثم إلى ثلاث سنوات عام 1909 (٥٨).
ولمن لايرغبن في الالتحاق بمدارس معلمات الكتاتيب أنشـات وزارة المعارف عام 1916 المدارس الأولية الراقية للبنات على أن يكون التعليم فيها متمماً للتعليم في المدارس الأولية والكتاتيب، وأن يسير نظامها إلى حد ما مع النظام المقرر للمدارس الأولية الراقية للبنين، وقد بدأت الدراسة بهذه النوعية من المدارس عام 1917 في مدرستين، وعندما أقبلت البنات على الالتحاق بها نمت نمواً سريعاً في مدة قصيرة حتى وصل عددها عام ٢٣/ ١٩٢٤ إلى7 مدارس يتعلم بها 899 تلميذة (٥٩).
وكان يقف إلى جانب التعليم الشعبي تعليم عدد قليل جدًا من البنات تعليم ابتدائی قـاصـر، لأنه لم يكن يعـد للتعليم الثانوي، وإنما يعـد التلميذات لامـتـحـان الشـهـادة الابتدائية مع قصر تعليم اللواتي يجزن هذا الامتحان على إعدادهن لمهنة التدريس أو لتعليم الأعمال البيتية. وبالنسبة لأعداد من يرغبن في مهنة التدريس كان يحق لمن ينهين التعليم الابتدائي الالتحاق بمدرسة المعلمات السنية التي أنشئت عام 1900 وكانت مدة الدراسة بها سنتين، زيدت إلى ثلاث سنوات عام 1909 ثم إلى أربع سنوات عام 1915(٦٠).
وحتى لا يلتحق أحد من المنتهين من التعليم الابتدائي بالمرحلة الثانوية ويقتصر التحاقهن على مدرسة المعلمات السنية، فقد أوقفت سلطات الاحتلال امتحان شهادة الدراسة الابتدائية بالنسبة للبنات منذ عام 1915 واستبدلت به امتحان قبول إجراءاته سهلة يلتحق من يجتزنه بمدرسة المعلمات السنية(٦١).
وبالنسبة لإعداد من ينهين الدراسة الابتدائية للأعمال البيتية، لأن أهداف تعليم البنات كما حددتها سياسة الاحتلال التعليمية كانت تتركز في إعدادهن للأعمال البيتية(٦٢)، فقد أنشئت مدرسة التدبير المنزلي بالقاهرة بموجب القانون رقم 3 الصادر بتاريخ 8 فبراير عام ١٩١٣ بهدف تكميل المعارف النظرية والعملية التي يستدعيها حسن إدارة المنزل، وكانت الدراسة بهذه المدرسة باللغة العربية ومدتها سنتان، وكانت بمصروفات مدرسية قدرها ثمانية جنيهات (٦٣).
وبالنسبة لالتحاق البنات بالتعليم الثانوي فلم يتقرر إلا في نهاية فترة الاحتلال حيث لم يسمح طوال إشرافه على وزارة المعارف بإنشاء مدرسة ثانوية للبنات، وحاول منع تقدم البنات لامتحان الشهادة الثانوية من الخارج، وهذا ما حدث مع نبوية موسى التي صممت على أن تحصل على شهادة البكالوريا واستعدت لها بمجهود ذاتي وتقدمت لهذا الامتحان فأثارت ضجة في نظارة المعارف باعتبارها أول فتاة في مصر تجرؤ على التقدم لهذه الشهادة التي كان الحاصلون عليها يحظون بمكانة اجتماعية مرموقة ونجحت نبـوية موسى فعلاً في الامتحان وحصلت على شهادة البكالوريا عام 1907، فكان نجاحها ضجة كبرى امتدت إلى كل الأوساط وإلى جميع أنحاء البلاد ونشرت الصحف المصرية أخبارها بعناوين بارزة في الصفحات الأولى، وبذلك اكتسبت نبوية موسی شهرة واسعة في كل الأوساط خاصة العلمية والثقافية(٦٤).
ورغم إنشاء أول مدرسة ثانوية بالتعليم العالي إلا أنها لم تمنح خريجاتها شهادة تؤهلهن للالتحاق بالتعليم العالي، لذلك الغيت عام ١٩٢٥ وانشئت أول مدرسة ثانوية للبنات تسير وفق خطة ومناهج مدارس البنين الثانوية عام ١٩٢٥(٦٥)، وحصلت أول دفعة من خريجاتها على شهادة إتمام الدراسة التي تؤهلهن للتعليم العالي والجامعي عـام ١٩٢٩(٦٦)، والتحقت أول دفعة من خريجاتها في نفس العام بالجامعة المصرية عندما كان الأستاذ أحمد لطفي السيد رئيساً لها.
هذا وتمشياً مع سياسة القدر المعلوم في التعليم بصفة عامة وتعليم البنات بصفة خاصة، فقد عمل الاحتلال على إضعاف المستوى الكيفي لتعليم البنات والهبوط به وهو ما سوف تبينه الدراسة في الجزء التالي.
5- الهبوط بمستوى التعليم بصفة عامة وتعليم البنات بصفة خاصة:
لما كان هدف الاحتلال هو منح المصريين التعليم بقدر معلوم، فقد كان يهدف من وراء تعليمهم إعداد موظفين لمصالح الحكومة وإعداد الفتيات للأعمال المنزلية ولتحقيق هذه الأهداف فقد حرم الاحتلال مصر من نظام تعليم صالح، وهبط بمستوى التعليم حتى لا تظهر أصوات متعلمة تطالب بمصلحة البلاد دون مصلحتها (٦٧)، وحتى لا ينشئ هذا التعليم كما قال الإمام محمد عبده عالماً وكاتباً وفيلسوفاً(68).
ولتحقيق هذه السياسة فقد عمل الاحتلال على إضعاف مستوى التعليم– من ناحية الكيف – واتخذ لذلك عدة وسائل منها الهبوط بمسـتـوى المواد التي كانت تدرس بالكتاتيب للبنين والبنات، بحيث لم تكن إلا صورة مما كان سائداً في القرون الوسطى، وبحيث لا تتعدى طريقة التعليم بها الحفظ والاستظهار– دون وعي أو فهم (69) وقـد لاحظت جريدة المؤيد ذلك فذكرت أن خطة التربية المتبعة في الكتاتيب وأسلوب التعليم المستخدم فيها عقيمان لا يؤديان إلى تربية التلاميذ وإعدادهم إعداداً سليماً، وأن مثل هذه التربية داعية للتأخر والانحطاط(۷۰).
ويرجع ذلك إلى أن مناهج التعليم بالكتاتيب كـانت تشـتـمـل على لون بسيط من التعليم ينحصر في الإلمام بمبادئ اللغة العربية والحساب وأصول الدين، وقد اعترف كرومر بأن هذا التعليم البسيط القائم على تعليم الغالبية من أبناء الشعب مبادئ القراءة والكتابة والحساب لم يؤد إلى تحقيق الهدف من هذه الكتاتييب. يدل على ذلك – كما ذكر– أن نحو ٨١٠٠٠ تلميذاً من مجموع التلاميذ كلهم وقدره ١٢٤٠٠٠ تلميذا لم يتعلموا الكتابة، و٧٠٠٠ لم يتعلموا الحساب، و ٥٤٠٠٠ لم يتعلموا شيئا من القراءة(٧١).
وبالنسبة للتعليم الابتدائي فإنه رغم إقرار نظارة المعارف بأنه هو الأساس الذي ینى عليه جميع أنواع التعليم إلا أن ذلك كما يبدو كان مجرد فلسفة نظرية، فقد كانت مناهج هذا التعليم من البساطة والضالة بحيث لا يؤهل خريجي هذه المدارس للاندماج في الحياة الاجتماعية وما تتطلبه من مهارات كسب العيش (۷۲)، هذا إلى جانب أنها عملت على نشر الثقافة الإنجليزية وإضعاف اللغة العربية، ومن أجل ذلك ألغى الاحتلال استعمال اللغة العربية كوسيلة للتعليم وأحل محلها اللغة الإنجليزية، وعمل إلى جانب ذلك على إلغاء اللغات الأخرى، ولذلك قلل عدد حصص اللغة التركية شيئاً فشيئاً حتى ألقاها نهائياً وأضعف اللغة الفرنسية أيضاً حتى ألغاها نهائياً (٧٣).
وعندما اتجهت وزارة المعارف عام 1916 إلى تعديل نظم وبرامج التعليم الابتدائي لم تختلف برامج التعليم الجديدة كثيراً عما كانت عليه من قبل، إذ ظل هذا التعليم – كما ذكر أحد المربين – غير صالح لإنبات ناشئة جديدة ناضجة العقل والتمييز لأن التلاميذ كانوا يدرسون فيه النحو والصرف وجدول الضرب بطريقة حشو الذاكرة وترك ما عداها كقوة الخيال والتفكير وتصور الجمال واستحسانه(٧٤).
وعندما أنشأت وزارة المعارف أول مدرسة ثانوية للبنات عام ١٩٢٠ ووصل عدد الطالبات بها عام ١٩٢٢ إلى 43 طالبة لم تهدف من إنشائها إلى إعدادهم للتعليم العالى لأن مناهجها لم تكن مماثلة لمناهج مدارس البنين ولكنها كانت أرقى من مناهج التعليم الابتدائي وأقل من مناهج التعليم الثانوي للبنين في بعض مواده(٧٥). وعلى الرغم من أن الدكتور طه حسين يصف ما يدرس في التعليم الثانوي للبنين بأنه كان “خزى لمصر” (٧٦)، فإنه من هذا الوصف يتضح لنا مدى ضحالة وتفاهة وبساطة مناهج هذه المدرسة التي كانت أقل من مستوى مناهج التعليم الثانوي للبنين التي وصفها الدكتور طه حسين بأنها كانت خزى لمصر.
حتى يتم تطبيق سياسة الاحتلال البريطاني الخاصة بالتعليم بصفة عامة وتعليم البنات بصفة خاصة، التي كانت تقوم على إعـاقـة التعليم ولكي يتم تحقيق هدف الاحتلال من التعليم وهو منح التعليم بقدر معلوم، فقد اتبع عدة أساليب منها خفض نسبة الإنفاق على التعليم بصفة عامة وتعليم البنات بصفة خاصة، عدم الاهتمام بإنشاء المدارس والتوسع فيها، إلغاء مجانية التعليم وزيادة المصروفات المدرسية على البنات، قـصـر تعليم البنات على بعض أنواع التعليم والهبوط بمستوى التعليم بصفة عامة وتعليم البنات بصفة خاصة.
ونتيجة لهذه المعوقات التي وضعها الاحتلال لتحقيق أهدافه من التعليم التي تقوم على تعليم عدد محدد من أبناء الشعب المصرى رغم اهتمام الأهالي بتعليم أولادهم، فقد أقبلوا على تعليمهم بالمدارس الأجنبية ومدارس الجمعيات الخيرية التي لجأت الهيئات الإسلامية والقبطية إلى تكوينها على أن يكون هدفها الأساسي إنشاء مدارس لتعليم أبناء الشعب (بنيناً وبناتا) وهو ما سوف تتناوله بالتفصيل في الجزء التالي من الدراسة.
1.إقبال الأهالي على المدارس الأجنبية لتعليم بناتهم:
انتشر التعليم الأجنبي في مصر على مـدى القرنين التاسع عشر والعشرين، فأسست إرساليات التبشير الديني والحكومات والجاليات الأجنبية المداس التابعة لها في مصر(۷۷).
وقد انتشرت مدارس الإرسالية الأمريكية بشكل كبير بعد الاحتلال، فوصلت في عام1896 إلى حوالي 168 مدرسة تابعة بطريقة مباشرة أو غير مباشرة للإرسالية الأمريكية منها 133 مدرسة للبنين و ٣٥ مدرسة للبنات يلتحق بها ١١٠١٤ تلميذاً وتلميذة، وانتشرت هذه المدارس حتى دخلت القرى في الوجهين البحري والقبلي وارتفع عددها في عام 1900 حتى وصل إلى 186 مدرسة، كذلك نجد أن المدارس الألمانية لم تبدأ على نطاق واسع إلا اعتباراً من عام ١٨٨٤ عقب الاحتلال البريطاني مباشرة، أما المدارس الإنجليزية التي لم يتعد عددها مدرستين في الإسكندرية ومدرستين في القاهرة – أوقفت الأخيرتين نشاطهما بين عامي ١٨٤٨ و ۱۸۸٢ ولم يبق إلا مدرستي الإسكندرية – فقد وصل عددها بعد الاحتلال إلى ثماني عشر مدرسة رئيسية كبيرة في كل من القاهرة والإسكندرية وبورسعيد(۷۸).
كذلك زاد عدد الإرساليات الأجنبية التي وفدت إلى مصر بشكل كبير، فبينما وفد إلى مصر قبل الاحتلال خمس إرساليات كاثوليكية نسائية في الفترة ما بين عامي ١٨٤٤ و ١٨٨١ فقد وفد إلى مصر بعد الاحتلال ثماني عشر إرسالية نسائية توسعت في إنشاء المدارس، وإذا اتخذنا الإرساليات الكاثوليكيـة مـثـالاً ينطبق على باقي الإرساليات نجد أن هيئة التحرير قد أنشأت خمس مدارس قبل الاحتلال البريطاني وأنشأت ثلاثين مدرسة بعد الاحتلال (۷۹).
ويرجع انتشار مدارس الهيئات والجاليات والإرساليات الأجنبية في مصر إلى أنها وجدت الفرصة سانحة لها، فالدولة تغل يدها عن نشر التعليم وبالتالي لا يجد المصريون أمامهم إلا المدارس الأجنبية، يؤكد ذلك ما ذكرته الجريدة يوم 18/10/1913 نقلاً عن مراسلها في الإسكندرية الذي ذكر أن المدينة في أزمة شديدة والآباء يشكون مر الشكوى من تأخر التعليم فـيـهـا وعدم وجود المدارس الوافـيـة بحـاجـة الشعب السكندري، ولذلك فقد التجأ الكثيرون إلى إدخال أبنائهم في المدارس الأوروبية(٨٠).
وإذا كان للاحتلال أثره في زيادة عدد المدارس الأجنبية في مصر فإن له أثراً آخر على هذه المدارس يتمثل في أنها تمتعت بنوع من الاستقلال الذاتي، فلم يكن للدولة أي إشراف عليها، فقد كان لكل منها تقاليدها ومناهجها ونظامها الخاص وكل ما يحدث داخل جدرانها لا تشرف عليه الدولة ولا تتدخل فيه، ولذلك تمكن المشرفون على هذه المدارس من توجيه تلاميذها الوجهة التي يرغبون فيها دونما تدخل من الدولة في شئون هذه المدارس(۸۱).
وقد لعبت المدارس الأجنبية في مصـر دوراً كبيراً في تعليم البنات، فقد فتحت أبوابها لتعليم البنات المصريات في وقت كان تعلم البنات فيه متخلفاً إلى درجة كبيرة، وأقبلت الطبقة الراقية المستنيرة على تعليم بناتها في هذه المدارس(۸۲)، ولتـشـجـيع الفـقـراء على إلحاق أولادهم بمدارس الإرساليات فقد فتحت أمامهم باب التعليم المجاني إلى جانب التعليم بمصروفات، هذا إلى جانب أن بعض المدارس، وخاصة الفرنسية منها كانت تمنح المجانية أو تخفيضاً كبيراً في المصروفات لعدد كبير من التلاميذ لتشجيعهم على الالتحاق بهذه المدارس (۸۳).
وقد ساهمت هذه المدارس في إضعاف اللغة العربية لدى تلاميذها وتلميذاتها ونجحت في خلق طبقة ثالثة لها ثقافتها الأجنبية التي أدت إلى صعوبة التقائها مع بقية أفراد الشعب في الثقافة أو الاعتزاز بالقيم الموروثة والتراث المشترك، وهذا ما جعل نبـويـة مـوسى ترى في هذه المدارس خطراً على تعليم البنات المصريات، ولذلك شنت حملة هجوم شديدة عليها لأنها لا تعتنى بتعليم لغة البلاد وآدابها القومية وديانتها، ولأنه ليس من بين الأمم الراقية أمة واحدة تقبل أن تعلم بناتها اللغات الأجنبية دون أن تتقن لغتهن، وأن من شأن مثل هذا التعليم أن يجعل الفتيات بعيدات عن الشعـور الوطني الحقيقي (٨٤).
ويذهب أحمد لطفي السيد المتشيع للثقافة الغربية إلى أنه إذا كان صحيحاً أن العلم ليس له وطن وأن التمدن ليس له بلد، فإنه من الضروري أن تأخذ طريقة التعليم وطريقة التمدن الطابع الوطني حتى يمكن أن نضمن بقاء المتعلم جزءاً من أمته حافظاً لكل مـا يربطه بأمـتـه لا مـتـخـذا عـادات جديدة تربطه بغيرهم وتعـتـبـر فـروقاً بينه وبينهم(٨٥).
وإذا كان بعض الأهالي نتيجة لسياسة الاحتلال التعليمية قد لجأوا لتعليم بناتهم إلى المدارس الأجنبية رغم سلبياتها، فإن البعض الآخر قد لجأ إلى المدارس التي أنشأتها الجمعيات الخيرية الإسلامية والمسيحية لتعليمهن، وهو ما سوف تبينه الدراسة في الجزء التالي.
ب– إقبال الأهالي على المدارس التي أنشأتها الجمعيات الخيرية لتعليم بناتهم:
نتيجة لقصور السلطات الرسمية في إنشاء مزيد من المدارس لمواجهة الإقبال على التعليم فقد وجه رجال الفكر الدعوة للأغنياء للقيام بإنشاء جميعات خيرية يكون من مهامها إنشاء المدارس. فنجد قاسم أمين يطلب في كلمة ألقاها في حفل سرای حسن زايد بالمنوفية من الهيئات الحرة ألا تعتمد على الحكومة “وأن تتولى بنفسها نشر التعليم“، ويدعو عبد الله النديم الأغنياء إلى تأليف جمعيات خيرية تتولى إقامة المدارس الأهلية على مبادئ نابعة من حاجات البلاد” (۸۷).
وقد كان للدعوة لإنشاء الجمعيات الخيرية التي يجب أن يدخل ضمن مهامها إنشاء مدارس للبنين والبنات أثرها في اهتمام الهيئات الإسلامية والقبطية بتكوين العديد من هذه الجمعيات التي كان من أهدافها إنشاء المدارس. هذا ونظرا لكثرة هذه الجمعيات وصعوبة تتبع جهودها فسوف نتناول عرض جهود بعضها في مجال تعليم البنات وهي:
الجمعية الخيرية الإسلامية: وهي أقدم الجمعيات التي شمل نشاطها نشر التعليم منذ عام ١٨٩٢. وقد اعتمدت هذه الجمعية في تأدية رسالتها على تبرعات الخيرين وإيرادات الأوقاف التي أوقفوها عليها وساهمت مساهمة فعالة في نشر التعليم عن طريق مدارسها التي أنشأتها في كثير من البلاد، هذا وقد وصل عدد البنات في مدارسها عام 1919 إلى ٣٨٤ بنتاً منهن ٢٦١ بمصروفات و ۱۲۳ مجاناً(۸۸).
جمعية العروة الوثقى الخيرية الإسلامية: وقد تأسست بالإسكندرية عام ١٨٩٢ بهدف نشر العلوم والمعارف والآداب والصنائع وتعليم الفـقـراء مـجـاناً والإعانة في تربيتهم كما جاء في قانونها الأساسي(۸۹)، وقد اهتمت الجمعية بنشر التعليم بين البنين والبنات فبلغ عدد المدارس التي أنشأتها للبنات 6 مدارس التحق بها 531 بنتاً منهن 341 بمصروفات، ۱۸ بنصف مصروفات، ۱۷۲ مجانا (۸۹)، وأخـذ العـدد في الزيادة حتى وصل عدد البنات بها عام 1910 إلى 1068 بنتاً منهن ٣٨٠ بمصروفات، 64 بنصف مصروفات و٦٢٤ مجانا (٩٠).
الجمعية الخيرية القبطية: وقد تأسست عام ١٨٨١ باسم جمعية المساعي الخيرية وانشأت المشتل البطرسي بمدارسة الابتدائية والأولية والتدبير المنزلي والفنون الطرزية التي قامت بتعليم عدد كبير من ابناء الفقراء(٩١).
جمعية التوفيق القبطية: وقد تأسست عام ١٨٩١ وأنشأت مدرسة للبنات تجمع أقساماً للتعليم الابتدائي والفنون الطرزية وروضة أطفال، وكان لها ثلاثة فروع في الإسكندرية وطنطا والفيوم ولكل فرع منها مدرسة(٩٢).
جمعية المحبة: وقد تأسست عام 1901 وقامت بافتتاح مدرسة ابتدائية مجانية لتعليم البنات بدأت باثنی عشر بنتاً ولما توسعت المدرسة انشأت فرعاً مستقلاً لتعليم الفنون الطرزية وصل عدد الملتحقات به إلى ١٢٠ تلميذة، وزاد عدد تلميذات القسم الابتدائي إلى ۱۸۰ تلميذة(۹۳).
إذا كان ما سبق يبين مدى اهتمام قادة الفكر بقضية تعليم البنات وأثر ذلك على إقبال الأهالي على تعليم بناتهم، ويوضح موقف الاحتلال من قضية التعليم بصفة عامة وتعليم البنات بصفة خاصة، وأثر ذلك في زيادة عدد المدارس الأجنبية وقيام الجمعيات الخيرية الإسلامية والقبطية بدور كبير في إنشاء المدارس کرد فعل لسياسة التعليم بقدر معلوم التي سار عليها الاحتلال في تعليم أبناء المصريين من الجنسين. وإذا كنا قد سرنا في نفق مظلم لأن ما سبق يبين مدى التردي الذي كان عليه التعليم في عهد الاحتلال، فإنه كان هناك بصيص من ضوء في نهاية النفق تقتضي الأمانة العلمية أن نتعرض له بتوضيح بعض الإيجابيات التي كان لها أثر في تعليم البنات في مصر في عهد الاحتلال ومنها:
– إن بعض المعلمات الإنجليزيات تركن أثراً طيباً في تعليم البنات يدل على ذلك ما ذكرته نبوية موسى عن مس كارتر كبيرة مفتشات اللغة الإنجليزية بوزارة المعارف التي خدمت تعليم البنات في مصر لمدة 38 عاماً كانت خلالها مثال الإخلاص والنشاط، مما جعل طالبات قسم المعلمات في المدرسة السنية أقوى بكثير من اللغة الإنجليزية من الحاصلين على شهادة المعلمين العليا(94). هذا رغم أن نسبة كبيرة من المعلمين الإنجليز لم تتوفر فيهم التخصصات المطلوبة للتدريس، يؤكد ذلك ما ذكره الأستاذ أحمد لطفي السيد في أحد مقالاته التي قال فيها الأساتذة عندنا لا يشترط فيهم شئ بل تكفي الجنسية الإنجليزية لأن يكون المرء أستاذا في المدارس الثانوية (٩٥).
–عمل الاحتلال على غرس الثقافة والحضارة الأوروبية في البيئة المصرية وجعلها في متناول تلاميذ المدارس، وكانت وسيلته لتحقيق هذه السياسة هي فرض اللغة الإنجليزية على الطلبة المصريين وإرسال المعلمين المصريين لتأهيلهم في إنجلترا بعد تخرجهم في مدارس ومعاهد المعلمين، وإذا كان هدف الاحتلال من وراء ذلك سياسي فإن له أهدافاً أخرى، وهي تصريف المعلمين بنواحي التقدم وما وصل إليه العلم في مجال تخصصهم مع تعريفهم بأساليب التدريس الحديثة التي كانت متبعة في ذلك الوقت في المدارس الانجليزية.
وقد أدركت وزارة التربية والتعليم أخـيـراً أهمية هذه البعثات لذلك تتبع هذه السياسة في الوقت الحالي بإرسال المعلمين والمعلمات في البعثات إلى بعض الدول الأوروبية مثل إنجلترا وفرنسا وإلى الولايات المتحدة للتدريب واكتساب خبرات حديثة في مجال تخصصهم.
ولتشجيع المعلمين على استكمال تأهيلهم في إنجلترا فقد عمل دنلوب على تشجيع الطلبة على الالتحاق بمدرسة المعلمين لأن من يتم دراسته بها يجد الفرص متاحة أمامه لإعداد أرقي في إنجلترا(96). وعمل سعد زغلول عندما كان ناظراً للمعارف على رفع مرتبات العائدين من البعثة في إنجلترا حتى يكون مشوقاً لهم في التغرب لطلب العلم في البلاد الإنجليزية(٩٧).
– وضع المتخرجين في مدارس ومعاهد المعلمين تحت التمرين لمدة عامين حتى إذا أثبت المعلم كفاية وقدرة صدر قرار بمنحه إجازة التدريس(٩٨). وبالرجوع إلى العديد من محاضر جلسات اللجنة العلمية الإدارية ومنها محضر جلسة اللجنة يوم الثلاثاء 13 أكتوبر عام ١٩٠٨ نجد أن اللجنة وافقت على منح شهادة الدبلوم وإجازة مدرس في التعليم الابتدائي إلى المدرسين والمدرسات المبينة أسماؤهم بالمحضر لأنهم “مضوا سنتين في التدريس وحسنت الشهادة في حقهم من مفتشى النظارة“، وقد ورد بهذا المحضر اسم نبـوية موسى التي تم تعينها تحت الاختبار بتاريخ 6 أكتوبر سنة 1906 (99).
هذا وتحاول الدول المتقدمة ومنها اليابان تطبيق هذا الأسلوب في الوقت الحالي بهدف ربط المعلم بالميدان وحثه على التقدم باكتساب خبرات جديدة من الميدان ومن قدامى المعلمين ومن رؤسائه المباشرين والموجهين لأنه يدرك أن تعيينه مرتبط بحسن أدائه وبما اكتسبه خلال فترة التمرين التي سيكون لها أثرها في حياته العملية في المستقبل.
(1) خطبة اللورد كرومر، في: الجريدة 5 مايو ۱۹۰۷.
(۲) مصطفى كامل، أوراق مصطفى كامل، المقالات، الكتاب الأول من ۱۸۹۳–۱۸۹۹، تحقیق يواقيم رزق مرقص، القاهرة، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، ١٩٨٤، ص ۲۷۹ . (۳) إبراهيم رمزي. الصناعة في مصر، في مجموعة أعمال المؤتمر المصرى الأول المنعقد بالقاهرة في الفترة من ٢٩ إبريل – 4 مايو 1911، القاهرة، المطبعة الأميرية، ١٩١١، ص ١٠٥.
(4) أحمد الألفي، حالتنا الاقتصادية والزراعية، في مجموعة أعمال المؤتمر المصري مرجع سابقص174
(۵) محمد أنيس ثورة 1919، تحالف الطبقات بقيادة الرأسمالية المصرية في الكاتب، س4، ع53 (أغسطس ١٩٦٥) ص١٤.
(6) إميل فهمی شنودة. سعد زغلول ناظر المعارف ۲۸ اکتوبر سنة ١٩٠٦، ٢٣ فبراير 1910، القاهرة دار الفكر العربي، ۱۹۷۷ ص ۵۱.
(۷) محمد شفيق غربال: تاريخ المفاوضات المصرية البريطانية ج1، بحث في العلاقات المصرية البريطانية من الاحتلال إلى عقد معاهدة التحالف ۱۸۸۲–١٩3٦، القاهرة – مكتبة النهضة المصرية، ١٩٥٢ ص ۱۸، ص۱۹
(۸) فاتن عبد الرحمن محمد حسن الطنباري، موقف الصحافة تجاه قضايا المرأة، دراسة تحليلية لمضمون الصحف الثلاث الأهرام الأخبار الجمهورية منذ عام 1975 حتى عام ١٩٧٩. رسالة
ماجستير قدمت لكلية الإعلام جامعة القاهرة عام ١٩٨٦، ص14
(۹) نبیل راغب. هدى شعراوي وعصر التنوير، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ۱۹۸۸ص ٣٦.
(۱۰) لويس عوض. تاريخ الفكر المصري الحديث من عصر إسماعيل إلى ثورة 19 ج۲، القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ۱۹۸۳ ص ١٧٤.
(۱۱) نبیل راغب، مرجع سابق س۱۳۹
(۱۲) لطيفة محمد سالم المرأة المصرية والتغير الاجتماعي ١٩١٩–١٩٤٥، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٤ ص۱۷
(۱۳) محروس سید مرسى، تربية المرأة المصرية بين الفكر الإسلامي والفكر الغربي في القرن التاسع عشر، رسالة ماجستير قدمت لكلية التربية جامعة أسيوط، عام ١٩٧٦ ص۲۱۰
(۱٤) عباس محمود العقاد الإمام محمد عبده عبقري الإصلاح والتعليم. القاهرة الهيئة المصرية
العامة للكتاب، ١٩٦٣، ص ۰۲۹۹
(١٥) درية شفيق. تطور النسائية في مصر القاهرة: مكتب الآداب، ١٩٤٥، ص ۷۸.
(١٦) لطيفة محمد سالم، مرجع سابق ص ۱۹.
(۱۷) صلاح محمد توفيق، الفكر التربوي عند أحمد لطفي السيد، رسالة ماجستير قدمت لكلية
التربية جامعة الزقازيق فرع بنها عام ١٩٨٦، ص۲۰۷.
(۱۸) سلامة موسى. تربية سلامة موسى، القاهرة، دار الاتب، ١٩٤٨، ص ٤٠.
(19)Boktor Amir. School and Society in valley of The Nile. Cairo. Ellas Modern Press, 1936.
(۲۰) لطيفة محمد سالم، مرجع سابق ص ۱۸ .
(۲۱) فاتن عبد الرحمن محمد حسن الطنباري ، مرجع سابق ص 15.
(۲۲) عادل عبد الصمد. كان ياما كان في صحافة زمان. في: الهلال (بنابر ۱۹۹۱) ص ١٤٥.
(۲۳) حسين فوزي النجار. أحمد لطفي السيد أستاذ الجيل. القاهرة، المؤسسة المصرية العامة للتأليف والنشر: 1965 (سلسلة أعلام العرب) ص ٢١٦.
(٢٤) المرجع السابق من 14.
(٢٥) سعد زغلول. مذكرات سعد زغلول ج1، تحقيق عبد العظيم رمضان، القاهرة، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصرة، ۱۹۸۷، ص ٤٧٨.
(٢٦) كرومر الارل: تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1903 القاهرة إدارة المقطم، ١٩٠٤ ص ۹۹
(۲۷) کرومر الاول: تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1905 القاهرة إدارة المقطم ١٩٠٦، ص ١٤٢.
(۲۸) عورست ألدن. تقرير عن المالية والإدارة والحالة العـمـومـيـة في مصر والسودان سنة 1907. القاهرة، إدارة المقطم، ۱۹۰۸ ص 61.
(۲۹) غورست ألدن: تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1918 القاهرة. ۱۹۰۹، ص ۷۹.
(۳۰) روثستین تیودور. تاريخ مصر قبل الاحتلال وبعده، ترجمة أحمد شكري على، القاهرة، ۱۹۲۷، ص 471, ص472.
(۳۱) سعيد إسماعيل على. قضايا التعليم في عهد الاحتلال القاهرة، عالم الكتب، ١٩٧٤، ص۱۹۳.
(۳۲) سعيد إسماعيل على. دور التعليم المصري في النضال الوطني زمن الاحتلال البريطاني، القاهرة الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٥، (سلسلة تاريخ المصريين ٧٦) ص ٢٩٤، ص ٢٩٥.
(۳۳) محمد أبو الاسعاد. سياسة التعليم في مصر تحت الاحتلال البريطاني ۱۸۸۲– ۱۹۲۲، القاهرة، دار النهضة العربية، ۱۹۸۳، ص۰۹۱
وأيضـا جـرجس سلامه: أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القـومـي في مصر ۱۸۸۲–۱۹۲۲ القاهرة مكتب الأنجلو المصرية، 1966 ص ۱۰۷.
(٣٤) محمد أبو الإسعاد. سياسة التعليم مرجع سابق ص 91، وأيضا جرجس سلامة أثر الاحتلال مرجع سابق ص ۱۰۷.
(٣٥) مما قاله العضو مرقس سميكه بجلسة مجلس شورى القوانين يوم ١١٨ ديسمبر 1909 من ملحق الوقائع نمرة 6 الصادر يوم 15 يناير ۱۹۱۰ ص 16.
(٣٦) کرومر. تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة ١٩٠٤. القاهرة، إدارة المقطم، ١٩٠٥ ، ص ۱۱۷.
(۳۷) سعيد إسماعيل على. قضايا التعليم في عهد الاحتلال مرجع سابق ص ۲۰۱.
(۳۸) غورست ألدن. تقرير عن المالية والإدارة والحالة العـمـومـيـة في مصر والسودان سنة 1909 .القاهرة إدارة المقطم، ۱۹۱۰، ص ۰۷۷
(۳۹) عبد الرحمن الرافعي. محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية. ط3، القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ١٩٦٣، ص ٣١٥.
(٤٠) روثين تيودور. مرجع سابق ص ۳۷۹.
(٤١) سعيد إسماعيل على. قضايا التعليم في عهد الاحتلال مرجع سابق ص ٤٤٠–٤٤٧.
وأيضا : كتشنر إدوارد جرای، تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة ١٩١٣، القاهرة، إدارة المقطم، ١٩١٤، ص٧٥.
(٤٢) كتشنر إدوارد جراى، المرجع السابق س ٧٤.
(٤٣) رشوان محمود جاب الله. تاريخ التعليم العام في مصر ۱۹۲۲–١٩٥٣ رسالة دكتوراه قدمت لكلية الآداب جامعة عين شمس عام ١٩٩١. ص ۲۳۷، ص ۲۳۸ .
(44) تقـريـر مـرفـوع إلى عطو فتلو ناظر المعارف من وكيل المعارف. في: ملاحظات مجلس شوری القوانين على ميزانية المعارف سنة 1895- القاهرة، ۱۳۱۲، ص5، (التقرير مرفوع من وكيل المعارف إلى ناظر المعارف رداً على ملاحظات مجلس شورى القوانين).
(45) كرومر. تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1905، القاهرة إدارة المقطم، 1906 ص ١٣٤.
(46) إميل فهمی شنودة: سعد زغلول ناظر المعارف ۲۸ أکتوبر سنة ١٩٠٦– ٢٣ فبراير ١٩١٠ ، القاهرة دار الفكر العربی، ۱۹۷۷، ص ٦٣.
(47) نظارة المعارف العمومية. ملخص ترجمة التقرير الثاني المرفوع إلى الأعتاب السنية الخديوية من نظارة المعارف العمومية عن حالة التعليم بهذه النظارة في سنة ١٨٨٦ ميلادية، القاهرة، المطبعة الأميرية، ١٣٠٤م، ص ۱۷.
(٤٨) نظارة المعارف العمومية واللجنة العلمية الإدارية. محضر يوم ٢٧ نوفمبر سنة ١٩٠٢ نمرة ٢٥٥.
(٤٩) تقرير مرفوع إلى عطو قتلو ناظر المعارف من وكيل المعارف مرجع سابق ص ۱۹.
(٥٠) محضر اجتماع اللجنة العلمية الإدارية يوم 30 مايو ١٩٠٥ نمرة ٣٠٣ من: جرجس سلامة. أثر الاحتلال مرجع سابق ص ۱۲۸.
(٥١) لطيفة محمد سالم مرجع سابق ص ٧٤.
(٥٢) غورست ألدن: تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1909،القاهرة إدارة المقطم، ۱۹۱۰، ص ۷۷.
(٥٣) كرومر. تقرير عن المالية والإدارة.. سنة 1905. ومرجع سابق ص ١٣٤، ص ١٣٥. (54) غورست ألدن، تقرير عن المالية والإدارة سنة 1909، مرجع سابق ص ۰۷۷
(55) سعيد إسماعيل على. قضايا التعليم في عهد الاحتلال مرجع سابق ص 195-۲۰۱
(٥٦) جرجس سلامة. أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومی مرجع سابق ص ۱۹۹.
(57)Cromer, The Earl. Modern Egypt. Vol.2: London, Macmillan and co. 1908. p. 543.
(٥٨) عوض توفيق. إعداد وتدريب المعلمين منذ عام ١٨٨٢ وحتى الوقت الحالي، ودراسة توثيقية القاهرة، المركز القومي للبحوث التربوية، 1985، ص ۱۲.
(٥٩) سعيد إسماعيل على. دور التعليم الوطني، مرجع سابق ص ۳۰۲، ص 303.
(٦٠) عوض توفيق. إعداد وتدريب المعلمين مرجع سابق من ۲۳، ص ٢٤.
(٦١) جرجس سلامة. أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومي مرجع سابق ص ۲۱۳، ص ٢١٤.
(٦٢) كتشنر، إدوارد جرای. تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة 1913.القاهرة، إدارة المقطم، ١٩١٤ م ٧٤.
(٦٣) جرجس سلامة. أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومي مرجع سابق ص ٢١٤، ص ٢١٥.
(٦٤) محمد أبو الإسعاد. نبوية موسى ودورها في الحياة المصرية (١٨٨٦–١٩٥١). القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٤. (تاريخ المصريين ٦٩) ص ۱۱.
(65) رشوان مـحـمـود جاب الله، تاريخ التعليم في مصر ١٩٢٢–١٩٥٣. رسالة دكتوراة قدمت لكلية الآداب، جامعة عين شمس، ۱۹۹۱، ص ۲۳۷
(٦٦) سلامة موسى. مرجع سابق من 41.
(٦٧) خطبة لمحمد فريد في سبتمبر 1909 في: عبد الرحمن الرافعي. محمد فريد رمز الإخلاص والتضحية القاهرة، مكتبة النهضة المصرية، ١٩٦٣، ص ۱۳۸.
(٦٨) رسالة الأستاذ الإمام إلى الكونت جريفيل. من: محمد عمارة، الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده ج 3الإصلاح الفكري والتربوي والإلهيات، بيروت، ۱۹۷۲، ص ۱۷۱.
(69) سيد إسماعيل على. قضايا التعليم في عهد الاحتلال، مرجع سابق ص ٢٠٦.
(۷۰) جريدة المؤيد العدد 94 الصادر في 24/3/1890.
(۷۱) کرومر: تقرير عن المالية والإدارة والحالة العمومية في مصر والسودان سنة ١٩٠٤، القاهرة١٩٠٥ ص ۱۱۷
(۷۲) سعيد إسماعيل على. قضايا التعليم في عهد الاحتلال مرجع سابق ص ۱۰۲.
(۷۳) جرجس سلامة. أثر الاحتلال البريطاني في التعليم القومي، ص ٢٦٣–٢٦٦.
(٧٤) محمد عبد القادر أحمد. رأي في التعليم ونقد لمنهج المدرسة الابتدائية. في صحيفة المعلمين،ع ۱۱ فبرابر ۱۹۲۳، ص ٦٣, ف: سعيد إسماعيل علي. قضايا التعليم في عهد الاحتلال مرجع سابق ص ۱۱۰.
(٧٥) منير عطا الله سليمان وآخرون. تاريخ ونظام التعليم في جمهورية مصر العربية. ط3. القاهرة مكتبة الأنجلو المصرية، ١٩٧٢ ، ص ١٣٣، وأيضاً: لطيفة محمد سالم . مرجع سابق ص ٧٤
(٧٦) طه حسين: في وزارة المعارف سرعة وبطء. في: السياسة 31/12/1923
(۷۷) محمد أبو الإسعاد. نبوية موسى ودورها في الحياة المصرية (١٨٨٦ – ١٩٥١) القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٤. (تاريخ المصريين ٦٩) ص ۰۹۸
(۷۸) جرجس سلامة. تاريخ التعليم الأجنبي في مصر في القرنين التاسع عشر والعشرين. القاهرة: المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ١٩٦٢ ص ٦٠، ص ۱۱۲، ص ۱۱۳.
(۷۹) جرجس سلامة. المرجع السابق من 49، ص ۱۱۲، ص ۱۱۳
(۸۰) الجريدة العدد ٢٠٠٧ الصادرة يوم 18/10/1923 .
(۸۱) جرجس سلامة: تاريخ التعليم الأجنبي في مصر ص ۱۱۳، ص ١١٤.
(۸۲) محمد أبو الإسعاد . نبوية موسى. مرجع سابق ص ۰۹۸
(۸۳) جرجس سلامة. تاريخ التعليم الأجنبي في مصر مرجع سابق ص 60.
(٨٤) محمد خيري حربي، والسيد محمد العزاوي تطور التربية والتعليم في إقليم مصر في القرن
العشرين القاهرة، مركز الوثائق التربوية، ١٩٥٨، ص ۰۱۸
(٨٥) محمد أبو الإسعاد. نبوية موسى مرجع سابق ص ۰۹۹
(86) الجريدة العدد ٥٣٢ بتاريخ 6/12/1908. من: سعيد إسماعيل على. دور التعليم المصري مرجع سابق ص ١٤٢.
(۸۷) سعيد إسماعيل على. قضايا التعليم في عهد الاحتلال مرجع سابق ص ٢٤٤.
(۸۸) جرجس سلامة. أثر الاحتلال مرجع سابق من ٤٠٠–٤٠٥.
(۸۹) جرجس سلامة. المرجع السابق ص ٤٠٦، ص ٤٠٧.
(۹۰) سعيد إسماعيل على. قضايا التعليم في عهد الاحتلال ص ٢٤٩، ص ٢٥٠.
(۹۱) جرجس سلامة. أثر الاحتلال مرجع سابق ص 413.
(۹۲) المرجع السابق من ٤١٤.
(۹۳) المرجع السابق، الصفحة نفسها.
(٩٤) نبوية موسى. تاریخی بقلمي. القاهرة د.ت من ٤٥.
(٩٥) أحمد لطفي السيد. الحالة الحاضرة. في: الجريدة ع ٢٦٢ يوم ١٧ مايو ۱۹۰۸.
(96)Dunlop Douglas. Notes on the Progress and Condition of public instruction in Egypt, in (41)1907. Cairo, Minstry of Education, 1908, p. 95.
سعد زغلول. مذكرات سعد زغلول ج2 تحقيق عبد العظيم رمضان القاهرة، مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر، ۱۹۸۸، ص ۰۷۱۸
(۹۸) جميعة المعلمين. الكتاب الذهبي المدرسة المعلمين العليا ١٨٨٥– ١٩٣٥، القاهرة، ١٩٣٥. ص ٥٨.
(۹۹) نظارة المعارف العمومية. اللجنة العلمية الإدارية محضر جلسة يوم الثلاثاء 13 اکتوبر سنة 1913.
أشكال مساهمة النساء في سوق العم
لطيفة سالم
أعطى الإسلام للمرأة حقوقها والتي تدخل تحتها إجازة الإتجار والخروج من منزلها لاكتساب معيشتها بالطرق المشروعة، والاشتغال بالوظائف، فلها أن تكون قاضية ولكن في غير عقوبات، وأجمع الفقهاء على أنه ليس للزوج منع زوجته من العمل إلا إذا كان اشتغالها يفوت عليه حقاً من حقوق الزوجية أو ينجم عنه ضرر.
والواقع أن المرأة المصرية أسهمت منذ وقت مبكر في ميدان العمل، ولكن إذا تتبعنا خطواتها في العصر العثماني نجد أن نشاطها كان محدوداً، فهو أحياناً يبرز الدور وأحياناً يتوارى. ومع بداية القرن التاسع عشر واهتمام محمد على بالتحديث، أنشئت مدرسة الولادة، وخدم خريجاتها في هذا المجال، واتسع الأمر مع حكم إسماعيل نظراً للتغيرات التي طرأت على المجتمع حيث لعب المثقفون: (الطهطاوي، الأفغاني، محمد عبده، قاسم أمين) دورهم في النهوض بالمرأة وتعليمها وعملها، وفسر الأخير (قاسم أمين) كيف أن العامل الاقتصادي له الدور في سلوك المرأة، وأنه لابد لها من التمتع به والخروج للعمل إذا كانت في حاجة له.
وأثمرت النتائج مع نهاية القرن التاسع عشر، فتأسست الصحافة النسائية منذ عام ١٨٩٢، وشاركت النساء الأرستقراطيات في المجال الثقافي، وكان صالون الأميرة نازلي فاضل مثالاً لصحوة المرأة، وكذلك نشاط عائشة التيمورية وملك حفنى ناصف، كما أسهمت الجامعة المصرية في النهضة، حيث حاضرت فيها المرأة المثقفة، وبرزت فيها نبوية موسى.
وجاءت ثورة 1919 وخرجت المرأة للمشاركة الوطنية، وتفجرت قضية عمل المرأة وبالطبع ارتبط ذلك بالتعليم، وصدر أول كتاب عن المرأة والعمل لنبوية موسى، فتناولت فيه أهمية عمل المرأة واحتياج مصر إلى الطبيبات والمحاميات والمدرسات والموسيقيات والكاتبات والخياطات، وأنه يجب مراعاة المهن المختلفة في تعليم البنات، كما قرنت السفور بخروج المرأة للعمل وطبقت ذلك على نفسها.
وتولت الصحافة عرض القضية من مؤيد ومعارض، ورأى المؤيدون أن نزول المرأة للعمل يجعلها في غير حاجة للرجل سواء أحجم عن الزواج أو أقدم، أيضاً أوضحت حاجة المرأة المتزوجة إلى العمل کی تضمن مـورد رزق إذا مات زوجها أو طلقها، وأن العمل لا يحول دون إتمامها لدورها كزوجة وأم، وأن خروجها للحياة العملية يصقلها ويثقفها ويقتل وقت فراغها ويعطيها الأمان والاستقرار ويقوم من شخصيتها، ويثبت مشاركتها في نشاط المجتمع، وأنه لابد من توسيع مجال العمل فلا يقتصر على التدريس والتمريض والصحافة، وإنما يجب أن يمتد إلى جميع الأعمال. أما المعارضون فاعتبروا ذلك ثورة على العادات والتقاليد، وهاجموا الاتجاه المؤيد، وقد تصدت هدى شعراوى لذلك.
وتعددت المجالات التي عملت فيها المرأة. ونبدأ بالتدريس الذي رحب باستقبالها، وكانت نبوية موسى المثال الذي احتذى، فهي أول فتاة حصلت على البكالوريا عام 1907 ثم نالت دبلوم المعلمات، والتحقت بالتدريس، وتألقت فيه، وتدرجت في الوظائف، وكانت أول ناظرة مصرية تعين في المدارس الأميرية، وتولت رئاسة مدرسة المعلمات فتفوقت على الإنجليزيات، ووصلت إلى منصب كبيرة المفتشات بالوزارة، وأعطت النموذج والمثل الأعلى للمرأة العاملة. وفي عام ١٩٢٦ اتجهت إلى التعليم الخاص وأسست مدارسها .
والواقع أنه لم يأت عام ١٩٢٥ إلا والمدرسات المصريات قد مثلهن أكثر من النصف في المدارس، وفي عام 1930 كان أكثر الناظرات وأيضاً المفتشات بما فيهن رئيستهن مصريات. وأتقن عملهن ونلن الثقة، واستفادت وزارة المعارف من المبعوثات العائدات، وراعت التوزيع المحلي للمعلمات بمعنى أنه تم تعيينهن في مدنهـن ومـا حـولهـا. وفي البداية واجهت المرأة مشكلة: وهي حرص الوزارة على عدم السماح لها بالجمع بين الزواج والعمل، ولكن مع الاحتجاجات، خاصة بعد زواج منصور فهمى من ناظرة مدرسة شبرا الثانوية، ألغت الوزارة ما سبق أن قررته. ومارست المدرسات نشاطهن، وتمكن من إحلال نظام المعاشات مكان المكافأة، وحافظن على مظهرهن لكونهن القدوة للطالبات، وتمتعن بسمعة طيبة خارج مصر، حتى لقد طلبت الحكومتان العراقية والهندية مدرسات مصريات لتنظيم شئون تعليم البنات لديهما.
والتحقت المرأة بالعمل الصحفي، وقد أسهمت الصحافة في مساندة تحركات المرأة من ناحية، وكانت الأداة التي استخدمتها للوصول إلى تحقيق أغراضها من ناحية أخرى. وقد وضح تماماً ذلك التحرك مع ثورة 1919، فنرى الصحفيات يحثن المرأة على الصحوة وينقلن لها ما حصلت عليه المرأة الأجنبية. ولعبت الصحافة النسائية دورها بفهم وإدراك، ولمعت أسماء ملكة سعد وروز انطون وبلسم عبد الملك ولبيبة أحمد ومنيرة ثابت، والأخيرة أصدرت مجلتها باللغتين العربية والفرنسية، وكانت تدعى للمؤتمرات بوصفها صحفية ممثلة للمرأة، وحضرت جلسات مجلس النواب، وخاضت مغامرة الصحافة، كذلك برزت في المجال الصـحـفـى تـفـيـدة عـلام، وأسـهـمـت هـدى شعراوي في هذا المجال، وحرصت على أن تصل مجلتها L’Egyptienne للخـارج وتولت سیزا نبراوى تحريرها. كذلك عملت نبوية موسى بالصحافة وأنشأت مجلتها (الفتاة) تضمنت فيها السياسة وقضايا المجتمع والأدب والفن وكانت على وعي وإيمان بدور الصحافة في المجتمع. أيضاً هناك هانم العسقلاني ولبيبة هاشم ومنرفا عبيد وفاطمة نعمت راشد. والأخيرة ترأست جمعية الصحفيات التي كانت بمثابة نقابة لهن.
هذا بالإضافة إلى أن كثيراً من هؤلاء الصحفيات كن يكتبن في الصحافة العامة فنری مقالات نبـوية موسى ومي زيادة وبنت الشاطئ في الأهرام، كما سطرت أقلام الأولى والثانية في السياسة الأسبوعية، كما كتبت أمينة السعيد في البلاغ، وقد نجحت فاطمة اليوسف في إصدار روز اليوسف التي حولتها من مجلة فنية إلى سياسية. كما كتبت إلى المرأة العاملة ونصحتها بالطريق الذي تسلكه واتفقت مع نبوية موسى بالتفرغ للعمل والتضحية من أجله بالزواج.
واشتغلت المرأة بالأدب، وكان الاتجاه الفرنسي غالباً على أعمالها، وتناولت أقلام درية فهمي وفاطمة نعمت راشد ودرية شفيق وبولا العلايلي موضوعات مختلفة في الشعر والفلسفة. كما كتبت بالعربية كل من مي زيادة وسهير القلماوى وبنت الشاطئ ونبـوية موسى وإحسان أحمد ومنيرة ثابت وفـاطـمـة فهمي وجميلة العلايلي ورباب الكاظمي في الأدب والترجمة والشعر. أيضاً طرقت المرأة أبواب الإذاعة، فتردد صوت صفية المهندس عبر الأثير عام ١٩٤٥.
أما عن الموظفات في الحكومة، فإنه في عهد وزارة الشعب عام ١٩٢٤ وبعد سريان الدعوة لعمل المرأة، بدأ باب الوظائف العامة يفتح أمامها، فالتحقت إحدى الفتيات بمصلحة التليفونات بالإسكندرية. ولكن لم يسـتـمـر الأمـر لأنه عندما جاءت الوزارة التالية، فصلت الموظفة بدعوى الاقتصاد رغم وجود الأجنبيات. ثم عادت المصلحة وسمحت بتوظيف المرأة، ولكن ربطت بين عملها وبين الزواج، وبذلت هدى شعراوي مجهوداتها لإبطال هذا الشرط. وجندت كثير من الصحف لخدمة مسألة عمل المرأة في الوظائف الحكومية، وأجرت استفتاء عن مساواة المرأة مع الرجل في حق شغل الوظائف العامة، وردت سهير القلماوي على المعارضين، وتدريجياً التحقت المرأة ببعض الوظائف، فهي مثقفة في كلية العلوم، وهي موظفة في بعض أقسام وزارة الشئون الاجتماعية، وقد برزت فيها نعيمة الأيوبي وزاهية مرزوق، وتقدمت المرأة في مجال الوظائف حتى إن السفارة البريطانية ألحقت مصريتين للعمل فيها.
أما عن خريجات الجامعة في عام ١٩٢٩، فقد شكلت مسألة العمل في الساحة القضائية موضوعاً جوهرياً وضحت معالمه مع تخرج نعيمة الأيوبي أول محامية تشغل الرأي العام، فقد سجلت نفسها في جدول المحامين لدى المحاكم الأهلية ودافعت عن زملائها المحامين الذين سجنوا لموقفهم السياسي، ولكن نظراً لظروف خاصة تحولت إلى وزارة المعارف ثم إلى وزارة الشئون الاجتماعية وواصلت خريجات الحقوق طريقهن في المحاماة، وأدرجن أسماءهن في جدول المحامين، وآثرت عطيات الشافعي المحاماة الشرعية لندافع عن حقوق المرأة المهضومة، ولم يكن اختيار المرأة للعمل بالمحاماة على حساب الحياة الزوجية، فالمحامية مفيدة عبد الرحمن حصلت على شهادة الحقوق وهي متزوجة ولها من الأبناء أربعة.
ونجحت المرأة في المحاماة، وكسبت القضايا، وارتفعت صيحات الذين أنكروا عليها هذا العمل، وقدم أحد البرلمانيين من المحامين إلى مجلس الشيوخ مشروعاً لتعديل قانون المحاماة وقصر الاشتغال بها على الرجال مبيناً أن عمل المرأة بالمحاماة ومجالسة الرجال خروج على العادات والتقاليد، وكان لذلك رد الفعل، وعرضت أقوال العلماء عن رأي الدين فجاءت (إنه ليس في الشرع ما يمنع المرأة من مزاولة أعمال الرجال حتى الفتيا والقضاء إلا في الدماء، وأن المحاماة مهنة من مهن الرجال زاولتها المرأة حديثاً، وشاركت فيها الرجال بنصيب طيب… وان المحاماة الشرعية في الأنسب للمرأة).
واتهمت المحاميات الرجال بأنهم يخشون تفوقهن عليهم، وأقيمت مناظرة في أواخر يناير 1944 بالجامعة الأمريكية برئاسة نقيب المحامين، واشترك فيها عبد الحميد عبد الحق وزير الأوقاف وهدى شعراوي، وأقطاب القانون والسياسة، ودافعت مفيدة عبد الرحمن عن حقوق المرأة، وأظهرت أنانية الرجل واستعجبت كيف يبيح الرقص والغناء والبناء ويريد أن يحجب المهن الشريفة عن المرأة. وذكر الوزير أنه بينما كان نقيباً للمحامين لاحظ أن قضايا الحجر والسفه كانت ضد الرجال ولم تقدم واحدة ضد المرأة، وأنه لم تتقدم إلى النقابة شكوى ضد محامية، وإنما ضد محامي وقال (أنا شخصياً أقرر أن اشتغال المرأة بالمحاماة مظهر من مظاهر النهضة المصرية، لتستمر في التقدم وتستمر في القوة، وأنا لا أريد أن أراها أمام المنصة فحسب، بل أريد أن أراها فوق منصة القضاء). وعليه رفض المشروع المقدم للبرلمان وتثبت حق المرأة في مزاولة مهنة المحاماة.
وأرادت المرأة أن تدخل النيابة، وذلك عندما نالت كريمة حسين شهادة الحـقـوق بتفوق، وحينما رفض وزير الحقانية لجأت لوزير المعارف فرفض أيضاً، فتحركت لوزير الشئون الاجتماعية فرفض كذلك. وكانت قد أبدت استعدادها للتنقل إلى أي مكان معلنة أنه لابد القضاء من على التقاليد البالية، وتولت هدى شعراوي الدفاع وبينت أن حق المرأة الشرعي هو العمل، ووظيفة النيابة ليست أشق من مهنتي المحاماة والطب وأخيراً وبعد مجهودات تمكنت المرأة من الالتحاق بوظيفة وكيلة للنيابة الإدارية عام 1944.
أما باقي خريجات الجامعة، فاللاتي تخرجن من كلية الآداب، البعض منهن تطلعن لاستكمال الدراسات العليا، واتجه البعض إلى الصحافة، وعين البعض معيدات، كما رحبت الجامعة بالمصريات العائدات من الخارج، أما عن الطبيبات فقد زاولن عملهن بسهولة، حيث عملن بالقصر العيني، وبعض المستشفيات، وبرزن في تخصص أمراض النساء وتخصص الأطفال، وكان منهن طبيبات عدن من الخارج مثل هيلانة سيداروس وكوكب حفني ناصف، والأخيرة أسهمت بمقالاتها في الصحافة عن الأمراض وطرق علاجها، والمخدرات وخطورتها، وافتتحت الطبيبات العيادات الخاصة، ومنهن من عملت بالطب الشرعي عام ١٩٤٤ وكانت فاطمة الملاحظ أول من مارسته .
وخاضت المرأة العمل التجاري خاصة مع صيحة الثورة الاقتصادية التي صحبت ثورة 1919، وأفرزت إنشاء بنك مصر، وقد أسهمت فيه المرأة، أيضاً اشترك بعض السيدات في تأسيس شركة تجارية، وبرزت في المجال الاقتصادي هيلانة عبد الملك التي زاولت تجـارة القطن بنجاح، وأنشأت معملاً للحليج ودخلت البورصة وضاربت بالأسعار. وتواجدت المرأة في المعرض الزراعي الصناعي عام ١٩٣١ بوصفها تاجرة وعارضة، وأثناء الحرب العالمية الثانية زاحمت رجال الأعمال، كما عملت في المجال المصرفي.
وكان للمرأة نصيب في الطيران، ففي عام ١٩٣٢ التحقت عصمت فؤاد أول طيارة مصرية بمدرسة الطيران، وقادت الطائرة، كما طارت لطفية النادي، واشتركت في سباق الطيران الدولي عام ١٩٣٧، وعينت لندا مسعود بمدرسة مصر للطيران.
وعملت المرأة بالبوليس النسائي منذ عام 1930 في مكافحة تهريب المخدرات بواسطة النساء، والبعض التحقن بسجن الأجانب بالإسكندرية عام ١٩٤٤.
أما عن الـعـمـل بـالـفـن فقد كان صعباً في البداية نظراً للعادات والتقاليد، ولكن كافحت المرأة وتمكنت من أن تثبيت أقدامها على المسرح منذ عام ١٩٢٣، ومن رائدات التمثيل فاطمة اليوسف (روز اليوسف) ودولت أبيض وفردوس حسن وزينب صدقي وفيكتوريا موسى وأمينة رزق، ونبغت منيرة المهدية في التمثيل الغنائي. أما التمثيل السينمائي فقد برزت فيه عزيزة أمير التي عملت أيضاً في الإخراج، وتألقت بهيجة حافظ التي أنتجت وأخرجت ومثلت ووضعت الموسيقى التصويرية. كما أقدمت (أمينة محمد) على إعداد الفيلم من قصة وتمثيل وإخراج ومونتاج. كذلك الحال بالنسبة للفنانة آسيا. أيضاً امتهنت أم كلثوم الغناء. وتفوق البعض في فن الموسيقى خاصة ذلك النوع الذي تمتزج فيه الألحان الشرقية بالألحان الغربية واشتهرت به كل من ماری سلامة وعايدة علم وعزيزة موسى وصوفي عبد المسيح. وأسهمت المرأة في الفن التشكيلي والتصوير، وعرض إنتاجها في المعارض، ومما يذكر أن هدى شعراوی قدمت العون سواء بشراء الأدوات أو إقامة المعارض.
وأخيراً نأتي إلى المرأة الفقيرة التي أعوزها المال ولازمت العامل في جهاده الطويل وكفاحه المرير من أجل لقمة العيش، حيث مثلت العاملات في الزراعة نسبة أكبر من العاملات في الصناعة، وتعـرضن للظلم والشـقـاء بحكم وضعهن في نهاية السلم الاجتماعي، وقد نظم قانون العمال لسنة 1933 والذي عدل بقانون سنة ١٩٣٦ بعض المواد التي تخص العـامـلات، وأهمها تحديد عدد ساعات العمل وأوقات الراحة والإجازات بأنواعها.
وكان أول عهد للعاملات بالعمل الآلي في صناعة النسيج مع بداية الثلاثينيات، وتدريجياً ارتفع عددهن، كما كان للحرب العالمية الثانية الأثر عليهن، حيث استخدم الإنجليز حوالي أربعة آلاف عاملة، بالإضافة إلى العـامـلات اللاتي أدين الخـدمـات الشخصية المتضمنة العمل بالفنادق والبارات والأندية.
وعانت العاملات من حالتهن، ومن النظرة التي عوملن بها، ومن انخفاض أجورهن، ومن تميز العاملات الأجنبيات عنهن، ومن حرمانهن من الضمانات الاجتماعية، ومن انعدام الرعاية الصحية لهن، وأخيراً من تلك الظروف القاسية التي عشن فيها. وقد اشتركت العاملات في الإضراب الذي قام به العمال بشركة الغزل الأهلية بالإسكندرية، كما ساندن اعتصام العمال لعام ١٩٤٤ من أجل تحسين ظروف العمل.
وهكذا يتبين لنا من هذا الرصد التاريخي الأشكال التي أسهمت بها النساء في سوق العمل.
تحليل مضمون لإعلانات الوظائف الخالية بجريدة الأهرام
هدی زکریا
مقدمة الدراسة:
راقب المعنيون بقضية المرأة العاملة بقلق بالغ التطورات المؤسفة التي تمر بها المرأة في مصر في الأونة الأخيرة، والتي سجلتها المنحنيات الإحصائية والرسوم البيانية على الرغم من أن بلادنا قد شهدت حالة من المد النسائي، منذ فترة ليست بعيدة، وقد عبرت هذه الحالة عن نفسها في إقبال قطاعات ضخمة من مختلف الشرائح الاجتماعية على التعليم والعمل. ولقد كان من المتوقع أن تنجح المرأة العربية التي بدأت الجهاد الأكبر: وهو النضال من أجل الحرية في اقتحام مجالات الجهاد الأصغر في التعليم والعمل، لكننا فوجئنا بأنه بدلاً من أن تتطور حالة المد النسائي إلى نهـضـة حقيقة، إذا بنا نكتشف أن المهمة النسائية التي تمت بنجاح قد انتهت، وأن المجتمع الذي رحب بتضحيات نسائه وبطولاتهن – أيام شدته وأزماته – قد أصبح يضيق بالنساء اللاتي أدين الخدمة العسكرية للوطن، وعندما بدأت عملية توزيع الغنائم والفرص اكتشف صناع القرار والـقـانون أن صـورة المرأة تكون أجـمل في إطارها التـقـلـيـدي وأدوارها الخدمية التقليدية، وبهذا أعلن تسريح الجيش النسائي.
وتروج هذه الأيام دعـوة زائفة تفسر مشكلة انتشار البطالة بخروج المرأة لمزاحمة الرجل في مجالات عمله وهي دعوة يروج لها السلفيون فكرياً، والانفتاحيون عملياً، وأساس هذه الفكرة أن العمالة هي كم ثابت من الفرص القابلة للنقص وليس الزيادة وبالتالي، فإنها تبعدنا عن التفسير الحقيقي لمشكلة البطالة، من حيث هي نتاج سياسات التبعية السياسية والاقتصادية(1)، فيبدو الأمر في صورة جماعة من النساء تصارع الرجال في عمق مصالحهم. فإذا كان مفهوم الرجولة هو القيام بعمل مأجور خارج المنزل، فإن مفهوم العمل الحقيقي The real Work للمرأة لا يزال هو الخدمة داخل جدران المنزل، وكل عمل تؤديه المرأة خارج منزلها يعد ثانوياً، ويتم حالياً تفسير الآية الكريمة: “وقرن في بيوتكن باعتبارها أمر لكافة النساء العاملات بالعودة إلى البيت، والمؤلم أن تلك الفكرة تلقى رواجاً بين المتعلمات من بنات الطبقة المتوسطة، والتي بمقارنة تاريخية سريعة نلاحظ أنها نفس الطبقة التي ناضلت منذ أكثر من خمسين عاماً من أجل الحق في التعليم والعمل واختيار شريك الحياة، باعتبارها حقوقاً إنسانية تمثل الأبعاد المتكاملة للحرية. ولا تزال تحضرنا مأساة الأب، الذي أرسل لبريد الأهرام شاكياً ومندهشاً من إصرار ابنته، التي أنفق عليها آخر مليم لديه حتى تخرجت من قسم الهندسة الطبية بكلية الهندسة، على البقاء في المنزل في انتظار العريس، لتقتل آخر أمل لدى أبيها في أن تحتل مكانها في العمل وفي المسئولية(٢). وقـد يظن البعض أن الإخلاص لدور الأم والزوجة التقليديين هو الذي ساد هذه الأيام، لكننا نلاحظ بوضوح أن الكثيرات ممن اتخذن موقف الترحيب بالبطالة والبقاء بالبيت قد اتخذن هذا القرار من منطلق الأنانية وحسابات المصلحة، التي تغلبت فيها الرغبة في الراحة والبعد عن مسئوليات العمل وهمومه، وترك الرجل ليكافح وحده، وذلك بعد أن اكتشفن أن حجم المكاسب في حالة الخروج لا يزيد كثيراً عن مجرد إضافة العمل الرجالي إلى مجموعة الأدوار التقليدية النسائية.
من ملاحظة سريعة لإعلانات الوظائف بجريدة الأهرام يظهر لنا أن العلاقة بين التعليم والعمل والمكانة الاجتماعية قد أصابها نوع من الارتباك والانفصام، وبعد أن كانت الوظيفة المرموقة اجتماعياً ترتبط بالمستوى التعليمي الراقي وتحصل على دخل يتناسب مع مكانتها، حدث نوع من الخلل الناجم عن تراكم الثروة في أيدي الانفتاحين (أصحاب رؤوس الأموال الجدد) وميل هؤلاء إلى استخدام مربية الأطفال والسكرتيرة بمرتبات تصل أحياناً إلى ثلاث أضعاف مرتب الطبيبة وأستاذة الجامعة، وأصبح الذين يملكون ولا يعلمون حريصين على استخدام الذين يعملون ولا يملكون. ولم يعد العمل المنتج هو صانع الثروة بقدر ما أصبحت عمليات السمسرة والممارسات الرأسمالية الرثة لتجارة العملة والمضارية في البورصة(۳).
فتعاظمت أهمية السكرتيرة الحسناء لدى الرأسمالي الجديد الذي تعامل مع المرأة العاملة لديه كسلعة من السلع المطروحة، فجعلها جزءاً من فـتـرينـة العرض، ولا بأس عنده بالجارية العصرية التي تتحدث اللغات وتجيد العمل على الكمبيوتر.
ودون قصد – أو بقصد – استطاع السلفيون أصحاب التفسيرات الرجعية أن يسيروا في نفس خط الرأسماليين الجدد، عندما اختزلوا المرأة إلى مجرد متعة مشـروعـة(4)، عليها أن تفسح الطريق أمام الرجل ليحصل على فرصته في العمل، بعد أن هدد شبح البطالة فرص العمل المحدودة، وقد فات هؤلاء جميعاً أنه كان من المفروض، لو أن خطط التنمية وسياساتهـا تتحرك بجدية إلى الأمام، أن تزداد فرص العمل أمام الرجل كلما زاد إسهام المرأة في العمل، حيث تسرع عجلة الإنتاج بالدوران. لتخلق مشروعات عمل وفرصاً جديدة باستمرار.
وهنا يصبح التطلع إلى المستقبل وأفاقه ضرباً من الخيال الرومانسي الذي يعجز عن مواجهة علامة استفهام كبيرة متشائمة، لأنه إذا كان المستقبل هو امتداد مستقيم لخط رسمه الواقع، فأي السناريوهات يمكننا أن نرسم ونخطط؟
إن المستقبل بتعبير إجرائي يعني الخروج بالقوى النسائية العاملة من الأزمة التي لا تهددها وحدها بقدر ما تهدد كيان المجتمع العربي كله، وهو مشروط بإحداث تحول، تتحرك بقوة دفعه القوى النسائية كافة من موقعها المتدنى المهمش إلى مكان ومكانه ملائمين للدور الفاعل المنوط بهذا القطاع الاجتماعي النشط.
تحاول هذه الدراسة أن تقف على الحد الفاصل بين منطقتين:
الأولـى: تلك المنطقة المعلنة والظاهرة من الحجم الحقيقي لمشكلة عمالة المرأة بالعالم العربي، أو ما يمكن أن نطلق عليه الجزء الظاهر من جبل الثلج العائم، وتحظى هذه المنطقة باهتمام الجميع، ابتداء من صناع القرارات والنقابات العمالية، وانتهاء بمؤسسات الأبحاث الرسمية.
الثـانيـة: كامنة خافية لا تظهر ليس لأنها صعبة، وإنما لأن تعمداً واضحاً في تجاهلها بين صناع القرار من جهة، والقوى الاجتماعية والاقتصادية التي تفيد من بقاء هذه المنطقة بعيدة عن هيمنة أجهزة الدولة من جهة أخرى، لتتمكن هي من استخدامها واستنزافها دون رقيب أو حسيب، وهي منطقة العمالة غير الرسمية، وتفرض هذه المنطقة نفسها على البحث لأنه لا يمكن أن نبني تصورات مستقبلية حقيقية ما لم نسبر غور هذه المنطقة.
ولنبدأ بالتساؤل البسيط:
ألا تعكس فكرة عودة المرأة إلى البيت انتهازية النظرة إلى عمل المرأة؟ عندما تنصب أساساً على النساء من فئات البورجوازية الصغيرة في المدن، وهن منافسات الرجل في سوق العمل الرسمي، وإلا فلماذا لا نسمع من يدعو لعدم ذهاب الفلاحات إلى الحقول؟ أو الخادمات إلى منازل مخدوميهن؟ أو البائعات إلى الأسواق؟ أو راعيات الأغنام إلى المراعي؟
تدفعنا هذه الأزدواجية أو التعددية إن شئنا الدقة إلى الشعور بأننا لن نحسن فهم حقيقة مشكلات المرأة العاملة في الحاضر ولن نحلها في المستقبل ما لم نرس قوة العمل النسائية العربية على أرضيتها الاجتماعية. أو بمعنى آخر نكشف عن التفاعلات القائمة بين قوة العمل النسائية والأبنية الاجتماعية التي تغذيها بدواعي الاستمرار والتقدم أو تعيقها عن الحركة البناءة.
أما مكونات هذه الأرضية الاجتماعية فبعضها ثابت متصل عبر التاريخ وبعضها متحول متغير، وفيما يلي بعض هذه المكونات في ثباتها وتحولها .
أولاً : التركيب الطبقي للمجتمع:
حيث يلعب التدرج الاجـتـمـاعي دوره في تحـديـد مـواقـع الـفـئـات والـجـمـاعـات الاجتماعية المهنية، كما تتحدد من خلاله مجموعة الأنشطة الإنتاجية التي يقيم أفراد المجتمع من خلالها نظام حياتهم. وتختلف درجة التباين الاجتماعي والطبقي بالمنطقة العربية من مجتمع عربي لآخر، من حيث شدة التدرج الاجتماعي وصرامته أو انفتاحه ومرونته، فبينما تتسع فرص الحراك الاجتماعي لأعلى في المدن إذا بها تضيق بالريف وتكاد تنعدم في المجتمعات البدوية، وهذا يعطى مؤشراً غير مباشر لما يمكن للمرأة المصرية بمختلف قطاعاتها أن تفيد منه عندما ينفتح أمامها بناء الفرصة Structure of Opportunity لتمارس عملاً وتتلقى تعليماً يمكنها من الصعود اجتماعياً من موقعها الطبقى إلى موقع أفضل.
فنلاحظ أن انفتاح البناء الاجتماعي الطبقي المصري في الستينيات قد ساهم في مساعدة نساء الطبقة المتوسطة – والشريحة الدنيا بالذات من تلك الطبقة – على أن تفيد من المشروع الإصلاحي الكبير لثورة يوليو والذي كان يتطلع لتجديد دماء البناء الاجتماعي المصري، بفتح قنوات الحراك الاجتماعي الصاعد من الشرائح الدنيا للطبقة المتوسطة، والحد من النمو المتزايد للإقطاع ورأس المال الأجنبي. فكان لانتشار التعليم ومجانيته، واتساع فرص العمل في القطاعات المختلفة للدولة في إطار فكرة العدالة الاجتماعية بين الجنسين، أثره في تمكين آلاف الفتيات اللاتي كانت ظروف أسرهن الاقتصادية لا تسمح لهن بمواصلة التعليم، كما أدت قرارات التأميم وتمصير الشركات إلى إحلال المصريات محل الأجنبيات. فساهمت المرأة المصرية في استمرار الحياة الصناعية والاقتصادية، ولم يعد الأب يجد حرجاً في مساعدة الابنة له مادياً، وإن ظلت الثقافة الأبوية مسيطرة، وقد تواكبت عمليات تحرير المرأة وخروجها للعمل مع ظاهرة الحد من الفروق الطبقية، لأن إتاحة التعليم المجاني لبنات الطبقة المتوسطة ثم الراقية، وخروجهن للعمل، ضيق الفجوة التي كانت تفصلهن عن بنات الطبقة الدنيا وذلك ضمن اتجاه الدولة في ذلك الوقت إلى تحقيق نوع من “الاندماج بين الطبقات والجماعات الاجتماعية والسياسية(5).
وهكذا قدمت ثورة يوليو لمختلف الشرائح الاجتماعية من النساء فرصاً متساوية. الأمر الذي يبدو للوهلة الأولى “عدلاً“، لينتج عنه في النهاية نتائج غير عادلة، لأن تساوى فرص التعليم للأغنياء والفقراء لا يلغى المنافسة المتوقعة على الوظائف، طالما بقيت التركيبة الهيكلية للوظائف ثابتة، والمنافسة في هذه الحالة تكون بين ضعيف وقوى، ولابد في نهايتها من انتصار القوة، وكل الفرق أن الصراع الكامن في هذه الحالة يكون بين أعداد هائلة من البشر، وأن نتائجه تتأجل فقط ولكنها لا تتغير، ومن المعروف أن طابع ثورة يوليو كان إصلاحياً يعتمد بالدرجة الأولى على إصدار القرارات والتشريعات كقرار الإصلاح الزراعي وقوانين التأميم ومجانية التعليم… إلخ.
ولقد اتجهت تشـريعـات العمل منذ عام ١٩٥٢ إلى تصحيح وضع المرأة العاملة، فاعترفت بمساواتها في الأجور مع الرجال، وقدمت لها حماية لم تكن متوفرة من قبل حيث حرم التشريع تشغيل النساء في بعض الأعمال التي يجوز تشغيل الرجال فيها بسبب صعوبتها أو الخطر الناجم عنها، كما قدمت لها امتيازات الإجازات المرتبطة بظروفها البيولوجية والاجتماعية (حالات الولادة والحضانة..) فضلاً عن حقها في الإجازات الاعتيادية والمرضية. ومضى التشريع في تطوره حيث نظم عام 1975 إجازة الوضع في شكلين: أحدهما يفرض إجازة وضع إجبارية عقب الولادة، والآخر يسمح لها بالانقطاع عن العمل قبل الوضع بشهر بشهادة طبية، كما أجاز التشريع للنساء إطالة مدة انقطاعهن عن العمل بعد الوضع، وأعطى لهن الحق في إجازة وضع تصل إلى ثلاثة أشهر تتكرر ثلاث مرات طوال حياتهن المهنية. ومن ناحية ثانية ضمن التشريع حقوق المرأة العاملة فترة انقطاعها الإجباري عن العمل، حيث ألزم رب العمل بإعطائها أجراً كاملاً عن مدة إجازة الوضع بشرط أن تكون قد أمضت في الخدمة سبعة أشهر بصفة متصلة قبل الانقطاع عن العمل(۷).
ثم أسندت الثورة تنفيذ القوانين “الثورية” إلى جهاز الدولة البيروقراطي الذي هيمنت على رجاله أفكار محافظة عرقلت فرص المرأة في تحقيق المساواة.
وبرغم هذه المثالب، فإن مشاركة المرأة في قوة العمل قد اتسعت لا شك منذ قيام ثورة يوليو، كما أن تركيب قوة العمل النسائية قد تغير بحيث أصبح أكثر ميلاً لصالح القطاعات الاقـتـصـادية الحـديثـة. ويظهـر ذلك بـوضـوح في عـقـدى السـتـيـنـيـات والسبعينيات، فنجد أن نسبة العاملات بالمهن العلمية والفنية قد ارتفعت من 8،3% من جملة العاملات عام 1961 إلى 19.3٪ من جملة العاملات عام ١٩٧١، وكذلك ارتفعت نسبة المشتغلات بالوظائف الكتابية من 2,5% إلى ١٠,7٪ من جملة العاملات في عامي 1961، 1971 على الترتيب، واتسـمت تلك الـفـتـرة أيضـاً بازدياد نصيب الحـرف والصناعات الإنتاجية الخفيفة من العمل النسائي، حيث ارتفعت نسبة العاملات في هذا القطاع من6,7٪ من جملة العاملات عام 1961 إلى 9,6% من جملة العاملات عام ۱۹۷۱ (8).
ويمكن أن نجـزم بأن بنات الصـفـوة قـد أفـدن إلى حد كبير من التحولات التي أحدثتها الثورة، وذلك بإضافة ما حصلن عليه من فرص للعمل بالوظائف الحيوية والمهمة إلى جانب ما كان لديهن من قدرة على التأثير في مجريات أمور حياتهن وحياة من يحوطهن بحكم الثروة أو الانتماء لأب وجيه أو زوج له مكانة كبيرة. وكان نجاحهن في العمل والحياة الزوجية مضـرباً للمثل في الصحف ووسائل الإعلام، خاصة عندما استطعن التغلب على صراع الأدوات المتباينة في حياتهن باستخدام من ينوب عنهن في بعض الأنشطة المنزلية وفي رعاية الأطفال في أفضل الظروف. الأمر الذي انعكس على عملهن استقراراً وإنجازاً ومزيداً من الترقي في المهنة حتى قمتها ومنافسة الزملاء من الـرجـال(٩). وتركزت مشكلاتهن في التحيز الجنسي الثقافي عند ترشيحهن لمناصب الإدارة العليـا(١٠). أما نساء الطبقات الاجتماعية الفقيرة فكانت معاناتهن من نوع مختلف، فإذا أخذنا قطاع الزراعة على سبيل المثال سنجد أن المرأة العاملة في هذا القطاع تعاني كثيراً من القيود المجتمعية المفروضة على عمل المرأة المريح، فتشير الدراسات إلى نقاط ثلاث بالغة الأهمية.
أولاً : أن الحق في امتلاك الأراضي يعـود فـي معظم الأحيان إلى الرجل نتيجة لقوانين الميراث السائدة، وحتى في برامج الإصلاح الزراعي اقـتـصـر توزيع الأرض على أرباب الأسر، وهم في معظم الأحيان من الرجال، لا بل إن هذه البرامج شملت ميكنة للإنتاج الزراعي وحملات تدريبية توجهت إلى الرجال، فزادت من هامشية المرأة في الأعمال الزراعية، وقد توجهت برامج الإرشاد الزراعي أيضاً إلى الرجل دون المرأة.
ثانياً: ليس للمرأة في الريف عامة سلطة التصرف بقدرتها الإنتاجية وبربحها من إنتاجها الاقتصادي، بل إن التقاليد والعادات المسيطرة في هذه المجتمعات تعطى الرجل والعائلة والمجتمع حق تقرير مصيرها، وخصوصاً بالنسبة لاشتراكها في الأعمال الاقتصادية. وقد بينت الكثير من الدراسات أن أي دخل تجنيه المرأة يقدم عادة لرب الأسرة ولا يكون للمرأة قدرة على التصرف فيه.
ثالثاً: أن المرأة مـقـيـدة فـي قابليتها للتحرك، مما يحدد إمكانات العمل، فهي لا تستطيع السعى للعمل خارج نطاق الأراضي المحيطة بالمنزل أو التفكير بالعمل خارج القرية، أو الهجرة إلى المدينة كما يفعل الرجل. وهذا ما يعزلها عن طلب السوق لليد العاملة ويؤكد تبعيتها للرجل والعائلة(١١).
ثانياً: تقسيم العمل حسب الجنس:
ظل تقسيم العمل حسب الجنس Sex شبه ثابت في معظم الشرائح الاجتماعية المصـريـة العـربيـة – بدرجـات مـتـفـاوتة – وترتب على ذلك أن بقيت شبكة الأدوار الاجتماعية المنوطة بالمرأة دون تغير يذكر، اللهم إلا في الحالات التي يضطر فيها الرجل اضطراراً إلى القبول بدور إيجابي جديد للمرأة. ولعل المثال الأوضح على ذلك هجرة الرجل إلى الخارج للعمل والارتزاق كما حدث في السبعينيات. ففي تلك الفترة اتسعت بشكل غير مسبوق ظاهرة الهجرة، وخاصة هجرة العمالة الزراعية. ولقد كان لذلك أثره على جانب العرض في سوق العمل المصرى، حيث إن هجرة العمالة الزراعية لم يصحبها تغير مكافئ في اتجاه إحلال الآلة محل العمل اليدوى، وظل الاستثمار في شراء الآلات الزراعية من جانب العاملين في الخارج مقتصراً على شراء أنواع محدودة من الآلات لا تحل محل الإيدى العاملة(١٢).
وكان من نتيجة نقص الأيدي العاملة أنها في المقام الأول تضخم دور المرأة في عملية الإنتاج الزراعي، فبدأت الزوجة، أو الأم، أو الأخت تقوم بدور الرجل الغائب، سواء بالعمل مباشرة، أو بالإشراف على العاملين الأجراء أو بتسويق المحصول. وتتفق الدراسات التي أجريت على المجتمع المصري، في الفتـرة المذكورة، على أن المرأة استطاعت أن تلعب دوراً شديد الإيجابية، وتحملت بقوة مهام العمل المضني، فضلاً عن دورها التقليدي كأم وزوجة، حيث تحولت من امرأة تابعة لزوجها إلى امرأة تستطيع الاعتماد على نفسها كلية، فقد أعطتها الهجرة الفرصة لأداء أدوار بديلة وإضافة مسئوليات جديدة، بإدخالها دائرة اتخاذ القرارات ومباشرة أعمال الزراعة والتعامل مع المؤسسات الزراعية والجمعيات التعاونية والعيادات الصحية(١٣).
ثالثاً: المهن والوظائف وتقسيم العمل الجنسي:
تم نوع من تقسيم المهن والوظائف في ظل تدرج جنسي أحـتـل فـيـه الرجل المرتبة الأولى مهنياً، وبشكل متدرج شـبـه ثابت أصبح احتلال الرجل لوظائف الإدارة العليا وصنع القرار والمهن ذات النجومية والدخل المرتفع أمراً طبيعياً، بينما اتجهت النساء إلى التدريس والخدمة الاجتماعية والتمريض كامتداد طبيعي لأدوارها الأسرية في رعاية أفراد أسرتها وخدمتها، فضلاً عن دورها الأساسي في التنشئة الاجتماعية للأبناء.
وقد لعبت طبيعة بعض المهن متضافرة مع التقسيم الاجتماعي للمهام دوراً أساسياً في استبعاد العنصر النسائي من بعض المهن نهائياً، فالمهن التي تتطلب تواجداً مستمراً أو قضاء بعض الليالي خارج البيت كالطب والصيدلة والهندسة قد أصبحت مقصورة على الرجل الذي تسمح له التقاليد بحرية الحركة ليلا ونهاراً وتحد من حركة المرأة خارج المنزل خاصة في الليل(13).
كما استلزمت بعض المهن – التي تعتمد في نقل الخبرة عبر الأجيال عن طريق التلمذة – أن تقوم علاقات التبني بين الأجيال مثل أستاذ الجامعة والمعيـد وكـبـار المحامين ومن يتدربون على أيديهم وجـراحي الطب وتلامذتهم من الأطباء المبتدئين. هذه العلاقات لم يكن ممكناً أن تقوم بين أستاذ المهنة الذي يغلب عليه أن يكون رجلاً وتلميذته إلا فيما ندر: ذلك لأن علاقة التبني المهني تتطلب صحبة اجتماعية شبه دائمة بين الأستاذ والتلميذ على حد سواء. لذا بقيت المستويات العليا ببعض المهن رجالية لأسباب تتداخل فيها طبيعة المهنة مع بنية التقاليد السائدة اجتماعياً(14).
وإن لم يمنع هذا بعض الجسورات من غـزو المهن الرجـاليـة وأن يثبتن نجاحاً في حالات خاصة جداً، ولكن يجب الانتباه إلى أن هذه الحالات الاستثنائية كان على المرأة فيها أن تثبت جدراتها الأخلاقية باستمرار، وأن تنجح في إثاره إعجاب مجتمعها “برجولتها“، فهم يقولون “الست دى بميت راجل“، أي أن صفات النبل بقيت رهينة بعالم الرجال، وكان على النساء الراغبات في إثبات الجدارة أن يتخلين عن أنوثتهن إذا شئن الاستمرار(15).
وحتى في القطاعات والمهن التي لعبت المرأة فيها دوراً كبيراً مهماً كالزراعة، أبت الثقافة الرجالية المسيطرة إلا أن تتجاهل مشاركتها، وجاء الظلم والتعنت هذه المرة من القائمين بتسجيل مشاركة المرأة في هذه القطاعات، حيث برهن ذلك على أن التحيز ضد المرأة لا يقف عند حدود قـهـرهـا اقتصادياً واجتماعياً وإنما يتجاوز ذلك إلى تجاهلها عند حساب القوى العاملة. ويلاحظ ذلك في التقديرات الإحصائية للقوى العاملة في البلدان العربية، حيث تشير تلك الإحصاءات دائماً إلى تدنى مساهمة المرأة في النشاط الاقتصادي، “فالمرأة في السودان والصومال على سبيل المثال تقوم بحوالي ٨٠٪ من النشاط الزراعي في بعض المناطق، وعلى الرغم من ذلك يلاحظ أن معدلات النشاط الخام منخفضة جداً حتى في البلاد العربية التي قطعت فيها المرأة شوطاً كبيراً نحو المساهمة في الحياة العملية مثل مصر، حيث يصل معدل النشاط “75، 4٪، وسوريا 8%، والأردن ٤,٢٥٪ (16).
ويكشف الاقـتـصـادي العربي د. سمير رضـوان عـن التـحـيـز الذي تبطئه هذه الإحصاءات، ففي رأيه أن تلك التقديرات “متحيزة إلى أسفل بعض الشئ” نتيجة طريقة جمع المعلومات في تعدادات السكان ومسح القوى العاملة، حيث تظهر المرأة التي تعمل في الزراعة أو الحرف المنزلية (مثل صناعة النسيج والسجاد) على أنها “ربة منزل” فقط، وبالتالي يظهر معدل النشاط منخفضاً(۱۷).
وتتفق د . هدى زريق مع هذا التصور، حيث ترى أن كثيراً من النشاطات التي تقوم بها المرأة، وبخاصة في الحقل الزراعي، تشمل إنتاجاً سوقياً، ولكنها لا تلاحظ بسهولة لكونها غير منظمة على أساس ساعات عمل كاملة، وتتخذ هذه النشاطات واحداً أو أكثر من المظاهر التالية: أعمال عائلية، دوام جزئي، أعمال غير منتظمة، أعمال فصلية، وفي بعض الحالات أعمال لا يمكن تصنيفها بسهولة على أساس مصطلحات العمل المتعارف عليها (۱۸).
وترصد د. زريق الأسباب وراء ذلك الخطأ في قياس المشاركة الاقتصادية للمرأة، ونعتقد من جانبنا أن تلك الأسباب تمثل في ذاتها دوال لأنماط مستترة من القهر يمارسها الرجل الزوج / الباحث / ضد المرأة، ومن بين تلك الأسباب “التقاليد والنظرة السلبية تجاه المرأة، فضلاً عن أن المرأة التي تقوم بعمل غير مأجور وقت کامل، أو الذكر الذي قد يجيب عوضاً عن المرأة، قد لا يعلنا عن هذا العمل، على اعتبار أنه يدخل في إطار الواجبات المنزلية، أو قد تخجل المرأة بالتصريح عن عملها. وعلى صعيد مماثل فإن الشخص الذي يقوم بعملية المسح، ذكراً كان أم أنثى، قد يقبل بسهولة اعتبار المرأة التي لا تقوم بعمل كامل خارج منزلها كربة منزل دون الاكتراث بمعرفة ما إذا كانت تقوم بعمل جزئي أو فصلى أو بأي عمل آخـر لا يندرج ضمن إطار الوظائف المتـعـارف عليها(۱۹).
رابعاً: صناع القرار:
على الرغم من أن صناع القرار في المنطقـة يـتـبـاينون – إلى حد كبير في توجهاتهم الاجتماعية، فإن الكثيرين منهم قد لعبوا دوراً في محاولة تغيير بناء القيم الاجتماعية التي تحد من حركة المرأة نحو التعليم والعمل، وقد نجح منهم بوضوح جمال عبد الناصر عندما أحدثت قراراته الناصرية تحولات في البنية الاجتماعية أفادت منها النساء على النحو الذي سبق ذكره، ويبدو ذلك واضحاً إذا ما قارنا بين النشاط الاقتصادي للمرأة المصرية في مرحلة سيادة التخطيط الاقتصادي والتوجهات القومية للدولة المصرية في السبعينيات وحتى الآن. فإذا كانت نسبة مشاركة الإناث في النشاط الاقتصادي قد ارتفعت منذ عام 1966 حتى عام ١٩٨٦، فإن معدل نموها كان أسرع بكثير خلال الفترة من ١٩٦٦ إلى 1976 عنه خلال الفترة من ١٩٧٦إلى١٩٨٦، ففي المرحلة الأولى ازدادت نسبة مشاركة الإناث من ٢ ، ٤٪ عـام ١٩٦٦ إلى 9,2% عام ١٩٧٦، بزيادة قدرها 5%، ما في المرحلة الثانية فلم تزد سوى ٪۲ حيث ازدادت من9,2 إلى 11,1 %(۲۰) .
ولكنه من الواضح أن صناع القرار برغم قوتهم السياسية يصدرون القرارات التي قد لا تؤتي ثمارها اجتماعياً عندما يتصدى لها أصحاب مصالح في استمرار الأوضاع الراهنة، متمترسين ببناء القيم التقليدية ومدافعين عن مصالح يغلفونها بالغلاف الأيدويولوجي. ويمكن أن تقرر أن أقصى ما صنعته القرارات السياسية الهادفة للتنمية والتحديث وتوسيع رقعة القوى العاملة النسائية الرسمية وبعض المساندة للقوى العاملة غير الرسمية، هو دمج القوى العاملة النسائية في خطة الدولة بما يكفل للأنظمة السياسية استيعاب كل الأشخاص المعنيين.
من هنا بقيت القرارات والقوانين الهابطة على قطاع العاملات غير قادرة على التغلغل إلى أعماق اجتماعية أشمل وأوسع.
في نموذج (۱) تظهر لنا العلاقة الدينامية بين قوة العمل النسائية الرسمية وغير الرسمية، حيث تقف القوى العاملة النسائية “الرسمية في شكل دائرة صغيرة ضيقة فوق دائرة كبيرة هي القوى العاملة غير الرسمية، حيث تعمل الأولى لدى صاحب عمل موضوعي إلى حد كبير هو الحكومة، وتقع الثانية في براثن أصحاب عمل لا يشغلهم سوی ما سوف يحققونه من فائض القيمة والربح الناجم عن عمل هذه الفئة التي يقع أربعة أخماس عددها في المهن المتصلة بالعمل الزراعي والخدمي، وكلاهما يتطلب عدداً ضخماً من ساعات العمل اليومية المضنية التي يقابها في العادة فترات راحة نادرة وأجور زهيدة لا تتمتع عادة بالثبات أو احتمالات الزيادة.
والعلاقة بين الدائرتين رغم ثباتها النسبي، فإنها تتمتع بقدر من الدينامية، نظراً لوجـود التأثير المتبادل والجـدل التاريخي، ويتوقف ذلك بدرجة واضحة على ظروف الثوابت والمتحولات.
فعندما تستعيد الثوابت قوتها وجبروتها في مراحل المعاناة الاقتصادية للمجتمعات العربية أو هيمنة صناع قرار رجعيين، نلاحظ انكماش دائرة العمالة الرسمية النسائية بفعل خروج الكثيرات ممن تضيق أمامهن فرص العمل أو يخرجن من تلقاء أنفسهم نتيجة لتدهور الوعى المصاحب لمثل تلك الفترات أو من أجل الهجرة لدول تعطى راتباً أكبر، ولا يعني هذا بالضرورة اتساع الدائرة الثانية “العمالة غير الرسمية” فقد تنكمش هي الأخرى بفعل تأثير الهجرة إلى الدول العربية بحثاً عن عمل، وكانت هذه الأخيرة تتمتع بقدر واضح من الثبات النسبي فضلاً عن ظاهرة جديدة بدأت في الانتشار وهي الجمع بين الصفتين الرسمية وغير الرسمية، عندما تلجأ بعض العاملات بالمستويات الدنيا للمهن الرسمية إلى العمل بمهن غير رسمية (كالخياطة بعد الظهر) وذلك في محاولة لزيادة الدخول المتواضعة.
وقد ظهر هذا بوضوح في مصر بعد السبعينيات وفي السودان ودول المغرب العربي. ويمكن الادعاء بأن ضيق الدائرة “الرسمية” يرتبط عادة بانكمـاش واضح في الشرائح الاجتماعية الوسطى التي تضيق أمامها فرص الحراك الاجتماعي الصاعد، فتبدأ بعض قطاعاتها في الحراك الاجتماعي الهابط وتفقد فاعليتها الاجتماعية التي تتسم بها في فترات النهضة الاجتماعية، وتنتقل إلى منطقة الهامش الاجتماعي فئات اجتماعية طالما لعبت دوراً إيجابياً.
ونظراً للاتصال التاريخي صارت الثوابت شديدة التعقيد لاكتسابها صفات المراوغة والكمون ثم الظهور الذي يبدو مفاجئاً، وعلى الرغم من أنها تبدو أحياناً خافتة، فإنها تختار اللحظة المواتية للظهور ثانية والقتال بضراوة.
وتتسع دائرة العمالة الرسمية في فترات التغيير السياسي، كأن تنتهج الدولة سياسة مغايرة لسابقتها أو أن تظهر قوانين جديدة تسمح بزيادة الدائرة ولكن بصورة غير مباشرة. فقوانين مجانية التعليم للمرأة تؤدى إلى اتساع دائرة العمالة الرسمية فيما بعد كما حدث في مصر في الستينيات وكذلك العراق وسوريا واليمن، هذا فضلاً عن السعودية وإمارات الخليج والكويت.
وفي حالة تبنى الدولة لسـيـاسـة التـوسع في التعليم ولو كـان ذلك من منطلق التحديث، فإن الدولة لابد أن تتبع سياسة التوسع التعليمية بسياسة توظيف أعداد كبيرة تلحقها بهيكلها الإداري في الغالب أو تستخدمها في إدارة المشروعات الجديدة في فترات الإصلاح.
هنا تحدث حالات كثيرة من الحراك الاجتماعي الصاعد من الدائرة غير الرسمية إلى الدائرة الرسمية، خاصة ممن ينتمين إلى شرائح اجتماعية تسمح لها ظروفها بالالتحاق بركب التعليم، ولكن هنا لابد وأن تؤكد أن غالـبـيـة العـامـلات بالزراعة والصناعة بمستوياتها الدنيا وغير الرسمية تستمر خارج الدائرة الرسمية، فعاملات التراحيل يسافرن مصطبحات صغارهن إلى قرى بعيدة للعمل لقاء قروش معدودة في الحقول، حيث يمارسن نفس عمل الرجل ولكن بأجور أقل. ولأن الحياة أقسى من أن تتيح لهن فرصة لرعاية الأطفال، فهن يمارسن دورهن كأمهات أثناء قيامهن بالعمل في الحقل، ولا يكاد يلمس حياة هذه الشريحة الضخمة من النساء تحول يذكر، فقامتهن أقصر من أن ترتفع لتغير من قرارات مجانية التعليم أو من قوانين إصابة العمل.
يهدف البحث الميداني إلى التعرف على تطور ملامح العمالة النسائية المطروحة في سوق العرض والطلب في بداية التسعينيات، ففي ظل تراجع دور الدولة عن توظيف الخريجين، فإن أهمية صفحة إعلانات الوظائف الخالية بالجريدة الرسمية (الأهرام) قد أصبحت تمثل واقعاً حياً لقوانين العرض والطلب الجديدة، بحيث يمكن باستقرائها أن تتعرف على ملامح العمالة المطلوبة في شرائحها الاجتماعية والتعليمية والمهنية المختلفة.
كما تتميز هذه الإعلانات بأنها تمس الشرائح الاجتماعية كافة من القمة إلى السفح، وذلك ابتداء من طلب الهيئات الدولية للمستشارين والخبراء الحاصلين على أعلى الدرجات العلمية في تخصصاتهم وانتهاء بالطلب على السعاة وعمال النظافة.. إلخ. لهذا يمكن أن تتخذ من هذه الصفحة عينة ممثلة representative لكل من:
1- أصحاب الأعمال.
2- طالبو العمل من الجنسين.
3- المواصفات الخاصة بكل وظيفة.
وقد اختارت الباحثة عدد يوم الجمعة من صحيفة الأهرام لحرص المعلنين على اختيار هذا اليوم بالذات باعتباره يوم الإجازة الأسبوعية.
ونظراً لأنه بحث فردي فقد قامت بتحليل مضمون أعداد شهر واحد هو شهر يناير ١٩۹۰، وقد راعت الباحثة أن تكشف العينة المختارة عن تنوع قطاعات المجتمع المصرى يحددها في ذلك قول بيرلسون:
إن عينة صغيرة تنتقي بعناية سوف يترتب عليها نتائج صادقة تماماً مثل تلك التي تترتب على استخدام عينة كبيرة، بالإضافة إلى ما توفره من وقت وجهد (۲۰).
وقد وصل عدد الإعلانات بالأعداد الأسبوعية بشهر يناير 1990 لجريدة الأهرام 648 إعلاناً .
أما إجمالي الوظائف المعلن عنها فكانت ٧٦٤، حيث احتوت بعض الإعلانات على أكثر من وظيفة.
أولاً : لغة الإعلان:
تستخدم الإعلانات لغات أجنبية كالإنجليزية والفرنسية بنسبة لا يستهان بها (حوالي ١٣٪) من إجـمـالـي الإعلانات، وتقـوم بها في الغالب الهـيـئـات الـدوليـة والسفارات، والشركات المتعددة الجنسية، فضلاً عن بعض الأسر التي تطلب جليسة الأطفال المؤهلة باللغات الأجنبية ومدارس اللغات… إلخ. وفي الأغلب الأعم يكون الإعلان بلغة إنجليزية، وهو يتوجه مباشرة لجمهوره، الذي يتقن اللغة الأجنبية، مما يعني أنه موجه لشريحة اجتماعية معينة، من أبناء الصفوة الذين أتيح لهم فرصة التعلم بمدارس اللغات باهظة التكاليف. إنه إعلان متميز منذ البداية ويتسم هذا الإعلان بأنه يحدد نوع الجنس المطلوب للعمل.
ثانياً: الإعلان بين القطاع العام والقطاع الخاص:
ينقسم أصـحـاب إعلان الوظائف الخالية إلى: إعلان القطاع الحكومي وإعـلان القطاع الخاص، أما الحكومي فيمثل نسبة ضئيلة تصل إلى 5% من إجمالي الإعلانات ويتميز هذا الإعلان – الذي يصدر عن إحدى المصالح الحكومية أو شركات القطاع العام– بأنه يحدد الوظائف المطلوبة ودرجاتها المالية والمؤهلات المطلوبة لها وأسلوب تقديم الطلب وتفاصيل المستندات المطلوبة. ومن الوهلة الأولى نلاحظ في الإعلان الحكومي أنه يربط بين نوع المؤهل المطلوب والوظيفة المعلن عنها أو ما يمكن أن نطلق عليـه Terms of Reference بصورة حيادية إلى حد كبير. ويلتزم الإعلان الحكومي باستخدام اللغة العربية ما لم يكن مضطراً لكتابة اصطلاحات هندسية أو طبية، مثال ذلك: إعلانات وظائف المعيدين والأساتذة بالجامعات، وتتنوع الوظائف التي يطلبها الإعلان الحكومي مـا بين أدنى درجات السلم المهني وأعـلاه (ابتداء من السعاة والفراشين وانتهاء بأساتذة الجامعة ومديري العموم). ولا يحتاج الإعلان الحكومي لتحديد المرتب في الإعلان نظراً لوجود لائحة منظمة لتحديد المرتبات بالدولة.
ولا يعني الإعلان الحكومي بالشكل أو لفت النظر، فهو لا يضع عناوين كبيرة أو إغراءات كالتي يستخدمها الإعلان الخاص مثل (فرصة كبرى)، وهل تريد أن تزيد دخلك.
أما الإعلان الصادر عن القطاع الخاص فيتسم بقدر كبير من المرونة عند تحديده للمؤهل المطلوب. فكثيراً ما يطلب مـؤهل عال دون أن يحدد في أي تخصص. كما يحرص على أن يكون المتقدم للوظيفة مستوفياً لشروط عديدة، بعضها ليس له علاقة بالوظيفة، بقدر ما هو مرتبط بالانتماء لشريحة اجتماعية معينة، مثل (يفضل من يملك سيارة) أو يفضل خبرة استخدام الحاسب الآلى.
كما يعني إعلان القطاع الخاص بشكل الإعلان ودرجة تأثيره على عين القاريء فيكتب اسم الشركة المعلنة بخط ضخم أسود بارز، أو يتم التركيز على الوظيفة المعلن عنها، بوضع إطار أسود واضح، أو يستخدم المعلن شعار الشركة أو المدرسة الأجنبية.
ويسمح المعلن من القطاع الخاص لنفسه أن يكون غامضاً، دون أن يحدد هويته أو نشاطه، فيكتفي بكلمة (شركة كبرى) أو فرصة ذهبية، أو هل تريد أن تزيد دخلك، ولا يذكر هذا النوع من الإعلانات سـوى رقم تليـفـون، وفي حالات كثيرة تكشف هذه الإعلانات عن عمليات نصب أو خوف المعلن من الضرائب.. أو عن قيام المعلن بأنشطة مشبوهة كتجارة العملة مثلاً.
ويمكن أن نحضر النشاط الاقتصادي الذي يمارسه المعلنون عن الوظائف الخالية فيما يلي:
1- شركات ذات نشاط إنتاجي، مثل: مؤسسات العاشر من رمضان التي تتضمن شركات للصناعات الغذائية والملابس وبعض قطع الغيار، وصناعة النسيج والسيارات… إلخ.
2- شركات ذات طابع خدمي، مثل: شركات السياحة والفنادق والقرى السياحية والمؤسسات التعليمية، والحضانات والمستشفيات.
3- مؤسسات مالية، كالبنوك، وشركات الصرافة، وتجارة العملة.
٤– مؤسسات تسويق، مثل شركات التصدير والاستيراد والسمسرة والوسطاء بصفة عامة.
تبدو إعلانات الوظائف الخالية في الأعداد المذكورة محايدة إحصائياً في توجهها للذكور والإناث ويظهر ذلك في الجدول الآتي:
الوظيفة |
التكرار |
النسبة |
وظائف للنساء فقط وظائف للرجال فقط وظائف للجنسين |
216 192 356 |
28,3% 25,1% 46,6% |
ومن الوهلة الأولى يبدو لنا أن الجنسين قد تقاسما إعلانات الوظائف الخالية بنسبة واضحة، حيث تمثل الوظائف الصالحة للجنسين معاً ما يقرب من نصف الإعلانات، بينما تحظى النساء بنسبة أعلى من الرجال في إعلانات الوظائف الخاصة بالنساء 28,3% أما الرجال فيستأثرون بـ 25,1٪ من الوظائف الخاصة بالرجال فقط.
وهنا يجب أن نعترف أننا نواجه مشكلة لغوية ثقافية في قراءة الإعلانات، فإنه إذا لم يوجـه الإعلان للإناث، يسـتـخـدم لغـة المذكر، مثل مطلوب مهندسين ومحاسبين وصيادلة… إلخ، دون تحديد للجنس، الأمر الذي قد يفهم أنه موجه للجنسين معاً مما يوقعنا في سوء الفهم اللغـوى والاجتماعي معاً، خاصة إذا علمنا أن الكثيرين من أصحاب الأعمال يلجأون لهذه الحيلة اللغوية ليصبح الإعلان عاماً يمكنهم أن يفسروه بطريقتهم خاصة إذا تضمنت مهام الوظيفة التأخير ليلا أو المبيت خارج المنزل أحياناً، الأمر الذي يجعل الوظيفة التي يعلن عنها للجنسين إنما هي للرجال في حقيقة الأمر.
وتتميز إعلانات الوظائف الخاصة بالرجال فقط بالتنوع والتعدد الذي يصعب حصره، والذي نلجأ لحل مشكلته بتصنيف العديد من هذه المهن تحت بند الحرفيين والفنيين، ويندرج تحتها أعمال (السمكرة والدكو والتجليد والطباعة والكهرباء والنقاشة والتكييف وصيانة المعدات الكهربائية ولحام الأكسجين.. وغيرها). هذا فضلاً عن أعمال أخرى كقيادة السيارات وأعمال الفندقة ومهمات الأمن، مما يجعل فرص التحاق الرجال بتلك الأعمال أكبر بكثير من المهن النسائية الطابع التي تتحدد في ما لا يزيد عن 8 مهن يمكن أن يشارك فيها الرجال، اللهم إلا في حالة (مديرة المنزل) والممرضة وفي الجدول التالي تتضح هذه المعلومات.
جدول (۱)
الوظائف المحددة للنساء وتكرارتها
الوظيفة |
التكرار |
%من وظائف النساء |
%من إجمالي الوظائف |
سكرتيرة عاملات تفصيل شغالة(مديرة منزل) بائعة بسوبر ماركت عاملة نظافة ممرضة مديرة دار حضانة كوافير |
120 48 16 16 4 4 4 4 |
55,6 22,2 7,4 7,4 1,9 1,9 1,9 1,9 |
15,7 6,3 2,1 2,1 0,5 0,5 0,5 0,5 |
المهن الرجالية و المهن النسائية على سلم المكانة
جدول رقم (2)
الوظائف المحددة للرجال وتكرارتها
الوظيفة |
التكرار |
النسبة المئوية |
النسبة المئوية |
حرفيين و فنيين أعمال فنادق سعاة أمين مخازن سائق وظائف دينية أمن غيره(..) |
56 32 28 16 12 12 12 20 |
29,2% من و ظائف الرجال 16,7%من وظائف الرجال 14,6% من وظائف الرجال 8,3% من وظائف الرجال 6,3% من وظائف الرجال 6,3% من وظائف الرجال 6,3% من وظائف الرجال 10,4%من وظائف الرجال |
7,2% من الإجمالي 4,1% من الإجمالي 3,7% من الإجمالي 2,1% من الإجمالي 2,1% من الإجمالي 1,6%من الإجمالي 1,6% من الإجمالي 2,6% من الإجمالي |
من النظرة العامة للجدول رقم (۲) يتضح لنا أن المكانة الاجتماعية للمهن الرجالية تتوزع بصورة تجعل أعمال السعاة والفراشين تكمن أسفل السلم المهني الرجالي، بينما تتركز بقية الأعمال في منتصف السلم المهني من حيث المكانة الاجتماعية (أعمال أمين المخزن والسائق ورجل الأمن)، ونظراً لما تعرفه عن الدخل الكبير الذي تحققه مهنة الحرفيين والفنيين، فإن سلم المكانة الاجتماعية يرتبك في تفسير العلاقة بين التعليم والدخل والمكانة في مثل هذه المهن، الأمر الذي دفع بالكثيرين ممن أنهوا تعليمهم العالي في كليات نظرية وعملية إلى اكتساب الخبرة في المجالات الحرفية لتعويض فجوة “الدخل” التي صارت سبباً في الفصل بين ثلاثية التعليم والمكانة والدخل.
لكننا بصفة عامة سنلاحظ من الجدول أن نسبة الوظائف ذات المكانة الدنيا لا تتجاوز 15% من إجمالي الوظائف، بينما يكشف الجدول رقم (1) عن تركيز النساء بوظائف المهن الدنيا، فباستثناء الكوافيرة ومديرة الحضانة والسكرتيرة، يمكن أن نؤكد أن 40% من إعلانات المهن النسائيـة تعلن عن وظائف تقبع في أسفل السلم المهني، كالممرضة وعاملة النظافة وبائعة السوبر ماركت وعاملات مصنع الملابس الجاهزة. هذا إذا اعتبرنا أن عمل السكرتيرة يمثل مكانة اجتماعية مرتفعة، لكننا نقع عند تحديد المكانة الاجتماعية للسكرتيرة في مأزق حقيقي لأنها مهنة “فضفاضة” تبدأ من أعلى مكانة مهنية وهي السكرتيرة التنفيذية للمؤسسات والشركات الكبرى، وتحمل لقب مديرة مكتب وهي عادة ما تلى رئيس مجلس الإدارة في الدرجة، لتتدنى فيما بعد لأدنى السلم الإداري لمهن اليـاقـة البـيـضـاء، حيث السكرتيرة محدودة التعليم (دبلوم تجارة) محدودة المرتب والمكانة، ويتضح لنا ذلك من تباين الشروط المطروحة لوظيفة السكرتيرة وذلك تبعاً لمكانة المؤسسة المعلنة ودرجة ما تتمتع به من تقسيم للعمل.
الشروط المذكورة للمتقدمات الوظيفة السكرتيرة وتكرارتها
الشروط |
التكرار |
%من إعلانات الطلب على الوظيفة |
تجيد الإنجليزية حسنة المظهر إجادة الآلة الكاتبة إجادة الكمبيوتر مؤهل عال |
76 36 32 24 24 |
6,3 30,3 26,7 20,0 20,0 |
ويتميز الإعلان الخاص بالطلب على المربية ومديرة المنزل بأنه يأتي في الغالبية العظمة مشفوعاً بذكر المرتب المغرى الذي يتراوح ما بين مائتي جنيه وخمسمائة جنيه، والذي يتحدد تبعاً للمهام المطروحة على الوظيفة، فالشغالة تقبع في أسفل درجات سلم العمل المنزلي وتحصل في المتوسط على ١٥٠– ٢٠٠ جنيه، أما جليسة الأطفال Baby Sitter التي يشترط أن تكون مؤهلة بما يناسب مهمتها فيرتفع راتبها الشهرى إلى خمسمائة جنيه، وتمثل الدرجة المماثلة مهنياً لمديرة المنزل House Keeper الـتـي يفترض فيها أن ترأس عدداً لا بأس به من الخـدم. والواقع أن الطلب على وظائف العمل المنزلي يمثل حـوالي 7,5٪ من المهن النسائية، وبمقارنة سريعة بين مرتب المهندسة أو الطبيبة ومعيدة الجامعة ومديرة المنزل يمكن أن نكتشف حجم الارتباك الذي أصاب محددات المكانة الاجتماعية للعمالة النسائية. وليس من المفاجئ أن تعترف بعض خريجات الجامعة من الشريحة الدنيا للطبقة المتوسطة بأنهن يتتبعن إعلانات المربية المؤهلة ومديرة المنزل، رغم الإحباط والمرارة التي تغلف رغبتهن في الحصول على المرتب المرتفع للعمل المتدنى اجتماعياً.
ويمكن أن نرجع الإقـبـال على وظائف المربيـة ومـديرة المنزل وجليسة الطفل لاعتبارات أساسية:
أولاً: تضخم الشريحة الغنية، التي تنتمي إلى المليونيرات والمليارديرات بصورة تجعل عودة الطابع الأرستقراطي للحياة المنزلية أمراً طبيعياً.
ثانياً: تضخم مشكلات المرأة العاملة، التي تحرص على الاستمرار في التزامها بعملها الوظيفي، الذي تستمد منه الشعور بالمكانة كالطبيبة والمهندسة وأستاذة الجامعة، الأمر الذي دفع بالبعض منهن إلى التنازل عن أكثر من نصف مرتبها للشغالة أو المربية، حتى تتمكن من تحقيق التوازن بين متطلبات المهنة ذات الدخل المحدود والتزامها برعاية الأبناء وإدارة المنزل. وتضطر المرأة المنتمية لهذه الشريحـة أن تدخل في المنافسة على طلب الشـغـالة مع غيرها من المقتدرات القادرات على اقتناء “الشغالة الفلبينية“، رغم ما يمثله الرقم الذي تدفعه من أهمية بالنسبة لدخلها . وهنا يجب أن نشير إلى أن غزو الشغالة الفلبينية للأسر المصرية المقتدرة قد أسهم في رفع مرتب الشغالة المصرية، كما بعث في نفوس العاملات بالمهن الدنيا كعاملات المصانع والكتبة محدودة الدخل حالة من السخط والتوتر، التي دفعت بالكثيرات إلى تحمل وطأة الشعور بالإهانة عند العمل بالمنازل. وهكذا دار التاريخ دورة استطاعت خلالها “البيوت” استدعاء الشغالات من “المصانع” بعد أن قام “المصنع” في الستينيات بجذب خادمات المنازل للوقوف أمام آلات النسيج، ليرفع وضعهن المهني بوصفهن عاملات مصانع من شعورهن باكتمال إنسانيتهن.
وعلى الرغم من أن الطهي بالمطبخ هو دور نسائي منزلي في حدود الثقافة السائدة، فقد جرى العرف التقليدي على أن يأنف الرجال من دخول المطبخ إلا فيما ندر، فإن صفحة إعلانات الوظائف الخالية تقوم بتذكير هذا الدور النسائي في إعلانات الفنادق التي تطلب وظيفة الطباخ ومساعده تحت مسمى (شيف المطبخ)، وهي مهنة مرتفعة الأجر يبلغ مرتب صاحبها حوالی ۷ آلاف جنيه، أما مساعد الطباخ فيحصل على ثلاثة آلاف جنيه. وهنا لا يدهشنا التناقض بين السلوك الاجتماعي للطباخ الرجل في منزله عندما يرفض التعامل مع المطبخ المنزلي، لكنه يقبل بشدة على المنافسة على مهنة الطباخ بالفنادق والمطاعم السياحية لارتفاع أجرهم. كما يتعمد الطلبة الذكور في مدارس الفنادق ومعاهدها التدريب على عمل الطباخ باعتباره عمل من أكثر الأعمال دخلاً، فهو يفوق العمل بالاستقبال والقاعات الكبرى.
وهنا ينبغي أن تذكر أن تنظيف الغرف بالفنادق هو عمل نسائي لتدنى وضعه المهنى وأجره المادي، أما خدمة الغرف فهي رجالية لأنها أرقى من حيث المكانة المهنية بالعمل في الحقل. ولا يكاد يلمس حـيـاة هذه الشريحة الضخمة من النساء تحـول يذكر، فقامتهن أقصر في العادة من أن ترتفع لتستفيد من قرارات مجانية التعليم أو من قوانين إصابات العمل.
نحن لا نستطيع أن نرسم خطى المستقبل في شكل روشته علاجية لجسد المجتمع المصري الذي يصر عن سبق إصرار وترصد على الادعاء بأنه يستطيع أن يستمر في الوجـود بنصفه فقط. في ذات الوقت الذي يحرك فيـه نصفه الآخر بكل نشاط في العمل المضنى والجـهـود الدنيا التي تتوارى عن شاشات التليفزيون وتـصـريـحـات المسئولين.
لقد حاول البعض مجتهداً أن يضع تصوره للمستقبل في شكل خيارات أمام المرأة العاملة، وتتلخص هذه الخيارات في:
أن تتفرغ المرأة للعمل المنزلي ولأدوارها كزوجة وأم، وفي تلك الحالة عليها التضحية بالعمل خارج المنزل. أما إذا كانت هناك حاجة ملحة لتنمية دخل الأسرة عن طريق عملها، فتستطيع المرأة أن تقوم ببعض الأعمال المدرة للدخل في المنزل، مما لا يترتب عليه أية خلل بوظائفها الرئيسية … اما اختيارها الثاني فيتمثل في أن تكرس المرأة وقتها للعمل خارج المنزل، وأن يتولى المجتمع تخفيف عبء العمل المنزلي عن طريق إتاحة الأدوات المنزلية الموفرة للجهد والوجبات السريعة الجاهزة ودور الحضانة لرعاية الأطفال في أوقات غياب الأمهات. أما الخيار الثالث فيتمثل فيما ينادي به البعض من إتاحة الفرص أمام المرأة للانخراط في النشاط الاقتصادي خارج نطاق الأعـمـال المنزلية، وبالتالي يطالب أصحاب هذا الاتجاه بتعديل شروط العمل الخارجي للمرأة لإتاحة الفرصة أمامها للاضطلاع بأعبائها العائلية.
لكن الأمر تجاوز مرحلة أن نختار “منح” المرأة دوراً في منطقة الفعل أو لا نختار، لأن الوقت لم يعد يسمح بمثل هذه الرفاهية، بعد أن دارت آلة التنمية بعكس اتجاها المرجو، كنتيجة طبيعية للثبات النسبي للأرضية الاجتماعية التي كان من المفروض أن تكسب روحاً دينامية خلاقة لو أن التحولات تعدت القشرة الخارجية إلى الأعماق.
(1)عادل حسين، الاقتصاد المصري من الاستقلال للتبعية ١٩٧٤–١٩٧٩ الجزء الثاني، القاهرة، دار المستقبل العربي، ۱۹۸2، ص 283-290.
(2) الأهرام، العدد الصادر في 7/11/89.
(3) هدى زكريا، “نون النسوة … قضية صفوة أم جماهير؟ في المرأة وتحديات القـرن المـشـرين
القاهرة 1986.
(4) سناء المصري، خلف الحجاب، دار سينا للنشر، القاهرة، ۱۹۸۹، ص ۲۰-25.
(5) هدى زكريا، “صانع القرار وقضايا المرأة” ، في المرأة العربية والحقبة النفطية تحت رعاية منظمة التضامن الأسيوي الأفريقي، القاهرة، ۱۹۸۷.
(6) سعد الدين إبراهيم، المسألة الاجتماعية بين عبد الناصر والسادات، الأهرام الاقتصادي، نوفمبر۱۹۸۲
(۷) محمد سلامة آدم، المرأة بين البيت والعمل .. سلسلة علم الاجتماع المعاصر، الكتاب ٤٩، دار المعارف، القاهرة، 1982، ص 48-51
(۸) محيا زيتون، “نحو أساس موضوعي لتقييم دور المرأة العربية في النشاط الاقتصادي“، في المـرأة وتحديات القرن العشرين. القاهرة، ١٩٨٦.
(۹) جرمين جرير، المرأة المدينة، ترجمة هنريیت عبودي، دار الطليعة، بيروت ۱۹۸۱، ص ۱۱۰–۱۲۱
(10)Prather Jane E: “When The Girls Move, in Journal of Marrige and Family. Nov., 1971.
(۱۱) حسين العطار، “المرأة ومستويات العمل الدولية“، في المرأة والاستخدام والتنمية في الوطن العربي، ١٦–۱۸، كانون الأول ١٩٩١، عمان.
(۱۲) عبد الباسط عبد المعطى، الهجرة النفطية والمسألة الاجتماعية، دراسة ميدانية على عينة من المصريين بالكويت، القاهرة، مكتبة مدبولي، ١٩٨٤، ص ۰۹۸
(۱۳) هدى زكريا، “الحراك المهني للمرأة المصرية في المجتمع الحضري“، رسالة ماجستير غير منشورة. إشراف الأستاذ الدكتور فاروق العادلي، جامعة القاهرة، ۱۹۷۷.
(١٤) نهاد حنبلي، “السلوك الإنجابي والإنتاجي للمرأة العربية“، ورقة بحث غير منشورة، مقدمة لمؤتمر إشراف الأستاذ الدكتور فاروق العادلي، جامعة القاهرة، ۱۹۷۷.
(15) سامية الساعاتي، “اغتراب المرأة في علم الاجتماع المعاصر“، مجلة المركـز القـومـي للبـحـوث الاجتماعية والجنائية، العدد ۱– ۳، ۱۹۷۷، المجلد الرابع عشر، من ١٨٥– ۲۰۹.
(١٦) بنت هانسن وسمير رضوان، العمل والعدل الاجتماعي: مصر في الثمانينيات، دراسة في سوق العمل، دار المستقل العربي، القاهرة، ١٩٨٤، ص ١٤٨–١٦٠.
(۱۷) بنت هانسن وسمير رضوان، مرجع سابق، ص؟.
(۱۸) عفاف إبراهيم، “وضع المرأة العاملة في التنظيم الاجتماعي للمصنع“، مجلة المـركـز القـومي للبحوث الاجتماعية والجنائية، العدد ۱–۳، ۱۹۷۷، المجلد الرابع عشر، ص ۲–۰۳۳
(۱۹) زین العابدين درويش، “مكانة المهنة وظروف التغيير في المجتمع المصرى المعاصر“، في الكتاب السنوي لعلم الاجتماع، العدد الرابع، أبريل ۱۹۷۳، ص ۷۲–۰۹۸
(۲۰) رشید طعيمة الجرف، تحليل المحتوى في العلوم الإنسانية، دار الفكر العربي، القاهرة، ص ١٣٥.
ملك زعلوك
تمهيد:
بمناسبة الندوة التي أجريت في ذكرى أحد أهم رواد تعليم الفتيات بمصر، السيدة نبوية موسى، أقدم هذه الورقة التي تم عرض مضمونها في مشروع مدارس المجتمع بمصر من خلال شفافيات وشريط فيديو وشرائح مصورة، حيث تعتبر قصة كفاح نبوية موسى قصة ملهمة لمثل هذا المشروع، ليس فقط لاهتمامها واعتزازها بتعليم الفتيات ولكن أيضاً لاعتناقها أفكاراً مستحدثة ومستنيرة حول التعلم والطرق التربوية الحديثة. ففي كتابها “تاريخي بقلمي” تتحدث عن العديد من المبادئ المهمة في أسس التعلم الحديث، أحياناً بشكل مباشر وأحياناً أخرى من خلال معايشة التجربة بذاتها، فهي تشير إلى أهمية تعلم الأقران، والاعتزاز بالذات والتشجيع والإثابة والتعلم من أجل الفهم والاستيعاب وليس التلقين. ومن هذا المنطلق أبت السيدة نبوية حفظ ما كان يلقن عليها من قواعد الصرف لأنها كانت تصر على الفهم.
بدأ مشروع مدارس المجتمع عام ١٩٩٢ من خلال اتفاقية مبرمة بين وزارة التربية والتعليم ومنظمة اليونيسف للخوض في تجربة مستحدثة للتعليم من خلال المشاركة المجتمعية.
وقد أوضحت الاتفاقية أدوار الشركاء بحيث باتت من مسئولية قسم التعليم بمنظمة اليونيسف أن تضع أطراً لنموذج لمدارس المجتمع في المناطق المحرومة من صعيد مصر.
واتفق على أن الهدف الأسمى لهذه التجربة هو ضمان تعليم ذي نوعية رفيعة للجميع، وصمم النموذج ليؤكد على المبادئ الآتية.
-
ضمان التحاق جميع الأطفال في سن الالتزام بالمدارس وخاصة البنات.
-
تشجيع الجهود الذاتية والموارد غير الحكومية لتمويل المدارس من حيث الإنشاء والترميم والتجهيز بالأثاثات.
-
تقديم نماذج جديدة تتسم بالفاعلية والقوة وتساند الميسرات والمعلمات في النواحي الإدارية والفنية.
-
الاهتمام بتنمية التفكير الناقد والابتكاري ومهارات أسلوب حل المشكلات وكذلك تعزيز السلوك الديمقراطي مقابل الحفظ والتلقين.
-
ضمان ملاءمة المناهج لاحتياجات الأطفال في التعليم من حيث تفصيلاتهم وميولهم.
-
وأخيراً اتباع جميع المبادئ المعتنقة من قبل اتفاقية حقوق الطفل والتي تمكن الأطفال من اكتساب مهارات التعلم مدى الحياة.
أ– تتحدد أدوار الشركاء في المشروع كالتالي:
۱ – تتولى وزارة التربية والتعليم مسئولية دفع رواتب الميسرات (اي المعلمات في المشروع) وضمان وصول الكتب للمدارس، والمشاركة في التدريب.
۲ – يتم انتقاء الميسرات من المجتمعات المحلية في نجوع الصعيد . ولقد حصلت غالبية الميسرات على تعليم متوسط مثل الدبلومات الفنية والتجارية والصناعية.
3 – يتم انتقاء المرشحات لشغل وظيفة الميسرة من خلال لجان مكونة من إدارة المشروع وأساتذة من كليات التربية وبعض العاملين بالإدارات التعليمية المحلية والعاملين بالجمعيات. وتمر عملية الانتقاء هذه بعدة مراحل، تبدأ بإعلان عام في العزب والنجوع، ثم إجراء مقابلات شخصية، ثم اختبارات شفهية وأخرى تحريرية تقيس النواحي الفنية والتعليمية والفكرية والقدرة على التعامل مع الأطفال وكذلك اتجاهاتهن نحو التعليم.
4- تقوم المجتمعات المحلية في المشروع بتقديم مكان مناسب لإقامة المدرسة.
5 – يقوم المجتمع المحلي من خلال لجنة التعليم بإدارة المدرسة.
6 – تنشأ لجنة تعليمية في كل نجع وتتكون من القيادات الطبيعية المحلية والمتبرعين بالمدرسة. والفئات الممثلة في هذه اللجنة هم الرجال والشباب والنساء من المستويات الاقتصادية والاجتماعية المتفاوتة في المجتمع المحلي. وتعمل اللجنة بمثابة مجلس الأمناء حيث إنها تتخذ جميع القرارات الإدارية الخاصة بالمدرسة وتكون مسئولة عن ربط المدرسة بالبيئة المحلية وكذلك ترشيح الميسرات اللاتي يستوفي لديهن شروط التوظيف في النجوع.
7 – ينشئ المجتمع المحلى بعض المشروعات المدرة للدخل لضمان استمرارية نفقات
ترميم المدرسة.
۸ – تتولى منظمة اليونيسف مسئولية تصميم وتنفيذ التدريبات الموجهة لجميع الفئات المعنية والعاملة بالمشروع حتى يتسنى لها إدارة وتنفيذ المشروع من خلال الجمعيات في المحافظات. كما تقدم المنظمة الأثاثات بالفصول والأدوات الكتابية والإمدادات الأخرى.
ب – يعفى جميع التلاميذ في هذا النوع من التعليم من جميع النفقات الخاصة بالتعليم سواء المباشر منها أو غير المباشر مثل الزي المدرسي الذي لا يكون إلزامياً.
وتتسم الدراسة في هذه المدارس بالمرونة الشديدة من حيث المواعيد والإجازات حتى يستطيع الأطفال مساعدة ذويهم في الزراعة والأعباء المنزلية،
أ– يؤكد هذا النوع من التعليم على أهمية العمل الزراعي والشعور بالفخر تجاهه، كما أنه يدعم الشعور بالانتماء للمجتمع المحلى والمساهمة في إنماء وحل مشكلاته.
ب– يحصل التلاميذ على شهادة إتمام المرحلة الابتدائية عند الانتهاء من الدراسة في هذه المدارس مثلهم مثل أقرانهم في التعليم النظامي الإلزامي. ويحق لهم الجلوس في الامتحانات الحكومية لنهاية المراحل في الصف الثالث والخامس (والآن السادس). وتتعدد المستويات في هذه المدارس بحيث يستطيع الأطفال الأكبر سناً والأسرع تقدماً دمج سنتين في سنة واحدة.
ج– يقوم بالإشراف اليومي على المدارس فريقان أحدهما يسمى الهيئة المساندة الفنية والآخر الهيئة المساندة الميدانية، وتقوم هذه الفرق بالتوجيه اليومي والتدريب أثناء العمل وكذلك بعمليات التقويم وربط المدرسة بالمجتمع المحلي، ولهذه الفـرق مساهمة قوية في تطوير العمل من حيث المنهج المتبع والأنشطة التعليمية والتدريبات الأسبوعية وكذلك المتابعة المستمرة. وتكون هذه الفرق داخل الجمعيات في المحافظات من خريجات التعليم العالي من كليات التربية أو من كليات أخرى على أن تتوفر لهم خبرة سابقة في التدريس.
مر المشروع بعدة مراحل: فمن الأعوام ١٩٩٢ – ١٩٩٤ اعتبر المشروع تجريبياً ومحدوداً في الانتشار وفي أعداد المدارس، ثم في عام 1995 بدأ المشروع في الانتشار والتزاوج مع مشروع حكومي آخر هو مشروع مدارس الفصل الواحد. ومنذ هذا الوقت أخذ المشروع يتخذ خطوات مهمة في طريق التوسع والتعميم منها: إنشاء لجنة التحديث في التعليم الابتدائي، تطوير منهج المرحلة الابتدائية من خلال مركز تطوير المناهج حتى يتبع هذا المنهج أسلوب التعلم النشط، وأخيراً نقل أسلوب ومنهج التدريب المتبع في هذا المشروع إلى المشروع الآخر، أى مـدرسـة الفصل الواحد، وفي نهاية المطاف إلى التعليم العام.
ماذا نعنى بالتعلم النشط؟ وما دواعيه؟
يطرح هذا السؤال المهم نفسه عند الحديث عن النوع الجديد من التدريب الفعال. وتبدأ الإجابة بالمعرفة الحديثة والدقيقة لأنماط التعلم عند الطفل الصغير وكذلك شكل وبنيان المخ وكيفية تفاعله والبيئة المحيطة. تؤكد الدراسات الحديثة في هذا المجال على أهمية التعلم من خلال الخبرة المباشرة والتفاعل الاجتماعي. فتؤتى الخبرات التي يتعرض معها الطفل منذ السنوات المبكرة من عمره – وبالأخص من صفر إلى ثلاث سنوات – على شكل وتكوين المخ وأدائه مدى الحـيـاة. فبكل خـبـرة تعلميه تتواصل خلايا المخ ببعضها وتكون تشابكات. وبكثرة الوصلات يصبح المخ أكثر ثراء وأفضل أداء. ولا تعني بالخبرة التعليمية قراءة الكتب وتذكر ما فيها فقط، بل نعنى ما هو أكثر من ذلك سواء من حيث: المهارات والتفاعلات الاجتماعية والوجـدائيـة والجسمانية والمكانية والموسيقية والرياضية واللغوية والنفسية التحليلية والروحانية مما يستثير جميع أنواع الذكاءات لدى الطفل.
فالطفل مولود عبقرى لديه الكثير من أنواع الذكاءات ومواطن العبقرية من خلال حب الاستطلاع واللعب والمرح والاعتزاز بالذات والفكاهة والحكمة والابتكار. ويتطلب تحريك هذه العبقرية كلها، وأنواع الذكاءات الكامنة، نوعاً مختلفاً من التعلم يعتمد على النشاط والخبرة المباشرة والتعاون مع الآخرين والحرية والانطلاق.
ويتبين من كثير من التقارير الدولية حول التعليم، سواء في الولايات المتحدة أو في اليابان، أن من أهم أسباب تكرار التسرب من المدرسة سأم الأطفال وإحساسهم بالملل من تقليدية المنهج وعدم ملاءمته لطبيعة نموهم وازدهار قدراتهم العقلية والوجدانية.
كما أن العصر الذي نعيش فيه حالياً عصر يتسم بسرعة الإيقاع والتغير والمرونة. فالحاجة إلى العقل الابتكاري القادر على بناء العلاقات بخيال ومرونة، حاجة شديدة. هذا العصر الذي لا يعتمد على السكون أو الحقائق المطلقة، بل على التحديث المستمر وتقبل الاختلافات والبحث والسؤال الدائم والمفتوح، وهـو يتطلب أيضاً نوعاً جديداً من التعلم المليء بالنشاط والأسئلة المفتوحة والخيال والابتكارية والتفاعل مع الآخرين.
السؤال الآن هو: كيف إذا تترجم كل هذه الاحتياجات وهذه الخلفية العلمية إلى برنامج عمل أو منهج متكامل جديداً يتسم بما يلي: 1) يحقق كل أركان التعلم النشط، والتعلم بين الأقران، والتعلم التعاوني، ۲) يؤهل المعلم لإدارة فصل يعتمد على مشاركة الأطفال. 3) ينظم الجدول اليومي من خلال العمل في مجموعات. 4) يسمح بقدر كبير من الحيوية والحرية والحركة والابتكارية دون التحول إلى الفوضى. 5) ينمي قـدرة الأطفال على البحث والاكتشاف والاعتماد على الذات والأقران.
يعتمد هذا البرنامج المتكامل على ثلاث ركائز هي:
أولاً: معلم من نوع جديد :
ثانياً: منهج (بالمعنى الواسع) من نوع جديد لشكل إدارة الفصل واكتشاف المعلومات واستنارة الأنواع المختلفة من الذكاءات وتنمية المهارات.
ثالثاً: فهم عميق لاحتياجات الأطفال الملخصة في العديد من الأبحاث العلمية والمنعكسة تماماً في اتفاقية حقوق الطفل وهي الوثيقة التي تقود مسيرة برنامج مدارس المجتمع.
وفيما يلى حديث تفصيلى عن كل منها :
أولاً: المعلم الجديد:
اعتمد مشروع مدارس المجتمع كما ذكر من قبل على ميسرات تم انتقاءهن من نجوع أسيوط ، وقنا. وقد حصلن على تعليم متوسط يتمثل في دبلوم صناعي او تجاری أو فني، وفي قليل من الأحيان حصل بعضهن على تعليم جامعي. وتعتمد عملية الانتقاء هذه على العديد من المحكات مما يدل على شدة دقتها.
وقد أصر المشروع أن يطلق لقب الميسرة على هذه الفتاة التي تقوم بتعليم أبناء نجعها للتأكيد على فلسفة المشروع هي أن المعلم في هذا النوع من التعليم يقوم بتفسير العملية التعليمية وليس بتلقين المعلومات وأن مسئولية التعلم والعملية ذاتها تنبع من الطفل نفسه. وأن دور الميسرة هو خلق مناخ آمن ونشط ومنظم وممتع ومبتكر ليقوم التلاميذ بالعديد من الأنشطة التي من خلالها تتم التشابكات في المخ أى تتم العملية التعليمية“.
وتعتبر تنمية المعلم أو المعلمة علمياً ومهنياً، عملية مستمرة حتى تتحول من نموذج المعلمة التقليدية إلى المعلمة الميسرة. وهي عملية تستغرق بعض الوقت وتتم في مراحل. ويتطلب كل ذلك أنواعاً متعددة من التدريبات وأشكالاً مختلفة من الدعم. ويؤثر نوع التدريب على أداء المعلمة / الميسرة في الفصل بشكل جلي. فعندما تتمكن المعلمة من المشاركة الفعالة في تطوير مدرستها والمنهج المتبع بداخلها تستطيع أن تقفز قفزات مبهرة جداً حتى لو كان تعليمها المبدئي متواضعاً جداً. فبالمشاركة تتفجر الطاقات الابتكارية الكامنة لدى المعلمات، وتصبح عملية التعليم والتعلم متعة منقطعة النظير.
وفيما يلي بعض المسلمات التي ينبغي أن تستند إليها عملية التحول من معلمة/ تقليدية إلى معلمة /ميسرة:
أولاً: لابد من بناء رؤية وسياسة عامة وخطط إجرائية بمشاركة المعلمات لتدريبهن وتنميتهن على المدى البعيد.
ثانيـاً: لابد من الحرص على انتقاء الميسرات ممن لديهن اقتناع قوى بهذا النوع الجديد من التعلم وممن يعتبرن رقي التعليم قضيتهن.
ثالثاً: لابد من الاعتماد على التدريب أثناء الخدمة وداخل المدرسة طوال العام.
رابعاً: لابد من الحرص على الارتقاء بحوافز المعلمات حتى تصبح هذه المهنة جاذبة لأفضل العناصر وحتى تؤمن مناخاً وظيفياً يساعد على الاستمرار. وقد تكون الحوافز هذه مادية أو غير مادية بحسب الاحتياج والمرحلة في السلم الوظيفي وسنوات الخبرة.
خامساً: لابد من تفويض الميسرة /المعلمة وإعطائها سلطة ومسئولية وضع جدولها مع قدر من المرونة.
سادساً: لابد من تكليف المشرفين والموجهين بتنمية قدرات المعلمين وتوصيل أحدث واكفأ المعلومات الخاصة بالتدريس الفعال وتقديم الدعم والمساندة لهم.
سابعاً: لابد من إعطاء المعلمات حرية التجمع وإبداء الآراء الجماعية والفردية حتى يتسنى للنظام التطوير والإصلاح.
ثامناً: لابد من توضيح أدوار وحقوق الموظفين والعاملين بالأعمال الإدارية حتى تتضح الاحتياجات الخاصة بالتغيرات القانونية والوظائفية وتلك الخاصة بالبنية.
تاسعاً: لابد من دعم المدارس بالخامات والموارد الكافية للقيام بالنوع الجديد من التعلم والوصول إلى الأهداف المرجوة.
وبعد توافر كل هذه الشروط والمسلمات الأساسية يتوقع من الميسرة أو المعلمة أن تكون
1- رائدة وقائدة التغير الاجتماعي.
2- ميسرة للتعلم.
3 – مطورة للمنهج ومشاركة في كتابته.
4- مدرية.
5- صانعة للوسائل التعليمية والأنشطة.
6- طالبة للعلم والتعلم وباحثة.
۷ – مديرة للعملية التعليمية.
8- مخططة للعملية التعليمية.
9- مصدر حب للتلاميذ.
۱۰ – مجال الاحترام من قبل التلاميذ.
۱۱ – صديقة للأطفال.
ثانياً: المنهج الدراسي:
يعتمد المشروع على الكتب المدرسية الصادرة من وزارة التربية والتعليم للمرحلة الابتدائية. ولكن تختلف طريقة التعامل مع الكتاب وكذلك فقرات اليوم الدراسيٍ عن المدارس الابتدائية النظامية سواء المتبعة نظام الفصل الواحد المتعددة المستويات أو الفصول التقليدية الأحادية الصف. راعي المشروع منذ بدايته أن تتضمن الفقرات الدراسية والبرنامج اليومي الأسلوب والمنهج المرجو من هذا النوع من التعلم النشط. ويستلزم توفر معلمتين / ميسرتين في كل فصل.
وتتلخص فقرات اليوم الدراسي فيما يلي:
الفقرة الأولى: تحية العلم أثناء طابور الصباح وتتضمن هذه الفقرة إذاعة مدرسية يستطيع الأطفال من خلالها فهم آية كريمة أو حديث شريف أو معلومة جديدة أو مثل شائع أو حدث مهم لإذاعته على باقي التلاميذ.
الفقرة الثانية : التهيئة والتحية الاجتماعية بعد الدخول في الفصل بنظام شديد وتسجيل أسمائهم في لوحة الحضور، تبدأ هذه الفقرة حيث يجلس التلاميذ في دائرة حتى يتم التواصل بينهم على أكمل وجه، وأثناء هذه الفقرة يتحدث التلاميذ مع بعضهم البعض ومع ميسرتهم عن خبراتهم اليومية سواء كانت خبرات إيجابية أو سلبية. وتهدف هذه الفقرة إلى إزالة الشوائب التي قد تعطل عملية التعلم باقى اليوم. وعلى وجه التفصيل تهدف هذه الفقرة إلى: 1 – إتاحة الفرصة للأطفال للتحدث عما يشغل بالهم، فتكون بمثابة جلسة جماعية للصحة النفسية. ٢ – تنمية القدرة على تحديد مشكلاتهم وحلها وعلى التعبير عن الذات وأصول الحوار الجماعي. ۳ – طرح بعض القضايا القيمية مع محاولة ترسيخ القيم والسلوكيات الحميدة المستقاة من التراث الديني والتقاليد الشعبية الإيجابية. 4 – ترسيخ أسس الأمن والأمان الوجداني لدى الأطفال حيث تشعرهم الميسرة بالحب والاهتمام والترحاب دون أي نوع من التمييز.
هذا وتستغرق هذه الفقرة ما يقرب من نصف ساعة يومياً.
الفقرة الثالثة: التخطيط لليوم الدراسي:
يقوم التلاميذ أثناء هذه الفقرة بتخطيط الأنشطة التي سوف يقـومـون بتنفيذها بداخل الأركان الثابتة بالفصل، وتتكون هذه الأركان من ركن اللغة (العربية والأجنبية) وركن الرياضيات وركن الأنشطة العلمية والمعلومات العامة (والعلوم والمواد الاجتماعية في السنوات المتقدمة) وأخيراً ركن الفن. وتكون هذه الأركان بمثابة مراكز تعلم ذاتي لدى الأطفال. فهي مجهزة بوسائل من صنع الميسرات أو كتب خارجية وبعض الألعاب والأدوات التعليمية. ويعد التلاميذ خطة للعمل الجماعي أو الثنائي أو الفردي، يقومون بتنفيذها في أحد الأركان ويناقشون أقرانهم حول الأسئلة ماذا – وكيف – ومتي – ومع من. وتسجل الخطط بقيادة أحد التلاميذ. وتهدف هذه الفقرة إلى: 1 – تنمية قدرة الأطفال على التخطيط والبحث والاعتماد على الذات حيث تتكون مجموعات من العمل في كل ركن ويأتي التلاميذ بالخدمات والوسائل والأدوات التي سوف يستخدمونها إما من الركن أو من منازلهم. ۲ – تنميـة قـدرة التلاميذ على إدارة تعلمهم وكذلك على معرفة خطوات اكتسابهم للمعرفة والمهارة.
الفقرة الرابعة: تنفيذ الخطط:
حيث يعمل الأطفال باستمتاع وجد، وتمر الميسرتان لتلبية احتياجات الأطفال من استفسارات أو أفكار جديدة أو تشجيع أو أدوات إضافية. ويتعلم الأطفال أثناء هذا العمل الإتقان والاعتماد على الذات والعمل الجماعي.
الفقرة الخامسة: العرض والتقييم:
هي من أمتع الفـقـرات والتي يديرها قائد من الأطفال، وفي هذه الفـقـرة يقـوم الأطفال بعد الانتهاء من عملهم بعرض الناتج ومناقشة العمليات التي مروا بها للوصول إلى العمل النهائي، ويقيم الأطفال بعضهم البعض. وتهدف هذه الفقرة إلى: 1 – تنمية القدرة على العرض، وآداب الحوار والانضباط. ٢ – تنمية القدرة على التقييم والتقييم الذاتي والقدرة على النقد. 3 – تنمية القدرة على تقبل الرأي الآخر. ويسود جو من الديمقراطية والاحترام الشديد أثناء هذه الفقرة كما أن فرص الإبداع تزدهر.
الفقرة السادسة: النشاط الجماعي الموحد:
وتبدأ بعد فترة من الراحة والفسحة يستغلها الأطفال في تناول بعض الطعام أو الذهاب إلى المنزل القريب من المدرسة أو القيام بالصلاة أو اللعب، وتبرز هذه الفقرة دور الميسرة بوصفها موجهة للعملية التعليمية بشكل أوضح، فهذه الفقرة تتبع الدروس الواردة في الكتاب المدرسي ولكن تقوم الميسرتان، بعون التلاميذ، بتحويل محتوى الكتب إلى أنشطة ملائمة للمستوى العام لكل صف وأخرى إثرائية يتعلم الأطفال من خلالها المستهدف من المنهج كل وفق سرعته. ويجلس التلاميذ في مجموعات وفقاً لمستواهم، وتنوع كذلك الأهداف الإجرائية سواء منها المعرفية أو المهارية أو الوجدانية. وفي نهاية هذه الفـقـرة يقيم التلاميذ بعضهم بعضاً، وكذلك تستخدم الميسرة بعض الألعاب والأنشطة الإضافية لتقييم التلاميذ. وتهتم كثيراً بتشجيع الأطفال على التغذية المرتدة وتخطط الميـسـرتان للعديد من الألعاب والأنشطة لتحديد نشاط الأطفـال وجـذب انتباههم.
وفي نهاية اليوم الدراسي يخرج التلاميذ من الفصل للقيام بنشاط حركي أو تربية بدنية وينتهي بذلك اليوم الدراسي للتلاميذ ولكنه يستمر بعض الوقت للميسرتين. فهما تجلسان معاً ولمدة ساعة أو أكثر لتقييم ما حدث في اليوم الدراسي وللتخطيط لليـوم المقبل. وتسجل الخطط في كشاكيل التخطيط متضمنة الأهداف وسير العمل والوسائل المستخدمة وكذلك التقييم. وتتضمن الخطط أيضاً تقسيم العمل بين الميسرتين مع مجموعات التلاميذ أثناء اليوم الدراسي.
وينبغي التنويه هنا على المرونة الشديدة والمجال الخصب الذي تتمتع به الميسرات. فباستطاعتهن تغيير الجدول بعض الشئ، وإضافة بعض الفقرات لتجديد نشاط التلاميذ أثناء اليوم الدراسي. ومنذ عام 1995 حرص المشروع على تدريب الميسرات والهيئات المشرفة والمساندة على تحويل الكتب المدرسية إلى أنشطة متعددة المستويات يستطعن من خلالها إدارة فصل متعدد الصفوف. وقد أسفرت هذه التدريبات والورش العمليـة منذ 1995 حتى الآن عن كم هائل من الأدلة المنهجية وأدلة وسائل غاية في الابتكارية والإتقان. وباتت هذه الأعـمـال المهـمـة تشكل أساساً قوياً لتطوير المناهج المتعددة المستويات في الآونة الأخيرة، وشاركت الهيئات المساندة والميسرات بخبرتهن في تطوير هذه المناهج تحت قيادة مركز تطوير المناهج والمواد التعليمية. وتعتبر هذه الخبرة المشاركية من قبل المركز من أندر وأهم التجارب الدولية في تطوير المنهج.
ثالثاً: الطفل المستهدف:
يعتبر الطفل في هذه المنظومة – كما سبق الذكر – عبقرياً بالقوة والإمكان (أي بشكل كـامـن) ويتسم بحب الاستطلاع حب اللعب – الخـيـال الواسع – الابتكارية – الاستغراب – والانبهار والحكمة والإبداع، والحيوية والحساسية والمرونة والفكاهة والبهجة.
وبالإضافة إلى كل هذه الصفات فكل طفل فريد في تكوينه، فعلى الرغم من وجود بعض المراحل المشتركة والمتعارف عليها في النمو، فإن كل كائن يتمتع بمجموعة من الخبرات والذكاءات المؤثرة في تكوينه. فكل طفل يتعلم بطريقته الخاصة ومن خلال المدخل الحسي والإدراكي المناسب له. كذلك لكل طفل ساعته التعليمية الخاصة، أي أن كل طفل يتعلم ويصل إلى الأهداف التعليـمـيـة المرجوة في وقت يتناسب مع قدراته وطريقة تعلمه.
حقوق الأطفال:
وللأطفال حقوق واضحة، وهي التي تنير الطريق في مشروع مدارس المجتمع، ومن أهم الحقوق التي وردت في اتفاقية حقوق الطفل والتي لها علاقة مباشرة بالموضوع الراهن هي الآتية:
1 – (مادة ١٣) يكون للطفل الحق في حرية التعبير، ويشمل هذا الحق حرية طلب جميع أنواع المعلومات والأفكار وتلقيها وإذاعتها، دون أي اعتبار للحدود، سواء بالقول، أو الكتابة أو الطباعة، أو الفن، أو أية وسيلة أخرى يختارها الطفل.
۲ – (مادة ٢٨) تعترف الدول الأطراف بحق الطفل في التعليم، وتحقيقاً للإعمال الكامل لهذا الحق تدريجياً وعلى أساس تكافؤ الفرص، تقوم بوجه خاص بما يلي:
أ– جعل التعليم الابتدائي إلزامياً ومتاحاً مجاناً للجميع.
ب– تشجيع تطوير شتي أشكال التعليم الثانوي، سواء العام أو المهني، وتوفيرها وإتاحتها لجميع الأطفال، واتخاذ التدابير المناسبة مثل إدخال مجانية التعليم وتقديم المساعدة المالية عند الحاجة إليها.
ج – جعل التعليم العالي، بشتى الوسائل المناسبة، متاحاً للجميع على أساس القدرات.
د– جعل المعلومات والمبادئ الإرشادية والتربوية والمهنية متوفرة لجميع الأطفال وفي تناولهم.
هـ – اتخاذ تدابير لتشجيع الحضور المنتظم في المدارس والتقليل من معدلات ترك الدراسة.
تتخذ الدول الأطراف التدابير المناسبة كافة لضمان إدارة النظام في المدارس على نحو يتمشى مع كرامة الطفل الإنسانية ويتوافق مع هذه الاتفاقية.
تقوم الدول الأطراف في هذه الاتفاقية بتعزيز وتشجيع التعاون الدولي في الأمور المتعلقة بالتعليم، وبخاصة بهدف الإسهام في القضاء على الجهل والأمية في جميع أنحاء العالم وتيسير الوصول إلى المعرفة العلمية والتقنية وإلى وسائل التعليم الحديثة. وتراعي بصفة خاصة احتياجات البلدان النامية في هذا الصدد .
3 – (المادة ٢٩) توافق الدول الأطراف على أن يكون تعليم الطفل موجهاً نحو:
أ– تنمية شخصية الطفل ومواهبه وقدراته الفعلية والبدنية إلى أقصى إمكاناتها .
ب – تنمية احترام حقوق الإنسان والحريات الأساسية والمبادئ المكرسة في ميثاق الأمم المتحدة.
ج– تنمية احترام ذوى الطفل وهويته الثقافية ولغته وقيمه الخاصة، والقيم الوطنية للبلد الذي يعيش فيه الطفل والبلد الذي نشأ فيه في الأصل، والحضارات المختلفة عن حضارته .
د– إعداد الطفل لحياة تستشعر المسئولية في مجتمع حر، بروح من التفاهم والسلم والتسامح والمساواة بين الجنسين والصداقة بين جميع الشعوب والجماعات الإثنية والوطنية والدينية والأشخاص الذين ينتمون إلى السكان الأصليين.
ه– تنمية احترام البيئة الطبيعية.
4 – (المادة 31) تعـتـرف الدول الأطراف بحق الطفل في الراحـة ووقت الفـراغ ومزاولة الألعاب وانشطة الاستجمام المناسبة لسنه والمشاركة بحرية في الحياة الثقافية وفي الفنون.
وتحترم الدول الأطراف وتعزز حق الطفل في المشاركة الكاملة في الحياة الثقافية والفنية وتشجع على توفير فرص ملائمة ومتساوية للنشاط الثقافي والفني والاستجمامي وأنشطة أوقات الفراغ.
وتعتبر كل هذه الحقوق هي الأسس التي بني عليها منهج مشروع مدارس المجتمع بالإضافة إلى الاستكشافات الخاصة بطبيعة الطفل. فهذه الحقوق هي التي تدعم وتؤدى إلى التعليم الديمقراطي والعادل والمتمركز حول نشاط الطفل وتنمية قدراته، وتولى هذه الحقوق أهمية كبرى لنمو شخصية الطفل، ومهاراته وقدراته على الابتكار وكذلك تؤكد على اهتمام المربيين بالثقافة والفنون والنشاط البدني واللعب عند تعليمه.
ويؤدي الاهتمام بحقوق الطفل إلى احترام مبادئ العدالة الاجتماعية بما فيها من احترام لحقوق الفقراء والمحرومين وكذلك مناصرة حقوق الطفلة والمرأة. فنمـوذج مدارس المجتمع نموذج اهتم بالعدالة الاجتماعية والتحيز الإيجابي نحو الطفلة والمرأة. كما وضع المشرع نموذجاً لشكل التمدرس الذي يراعي اعتزاز الطفلة بنفسها وقدرتها على اكتساب الثقة بالذات وحرية التعبير، وأكد المشروع على شكل التعامل المحترم الذي ينبغي أن يكون بين الرجل والمرأة والتلاميذ والتلميذات. فهناك جهد مبذول في إدارة التفاعل الصنفي الذي يؤدي إلى شكل جديد من علاقات النوع.