موقف غير أخلاقي بالمرة

من اللافت تأمل كيف تتفجر المشاكل في مصر.. أو بمعني أصح كيف يصحو المجتمع المصري فجأة على قضية ما وكأنه اكتشفها لتوه مع أنها تكون تحت سمعه وبصره منذ أعوام طويلة، بل منذ عقود.. والمثال الحي بالفعل على ذلك ما جرى في قضية أطفال الشوارع.. فقد تفجرت القضية للمرة الأولى مع عرض فيلم المخرجة تهاني راشد” (البنات دول)، والفيلم يفجر المشكلة بملامحها الكاملة حتى بلغة الحوار العادية التي تجري على ألسنة البنات بما في ذلك من سب !

أحداث الفيلم صدمة للكثيرين ربما لأن معظمهم يعيش في جيتوبعيدًا بحق عما يجري في الشارع، وربما لأن أغلبهم يمر يوميًا في الشارع لكنه لا يرى بحق ما يجري فيه حيث يكون مستغرقًا في عالم لا يخرج منه ولا يرى سوى ما يهم وما ينحصر في حدود هذا العالم.. تم عرض هذا الفيلم في مهرجان كان العام الماضي وحدثت أزمة شديدة بعد عرضه حيث ثار بعض الإعلاميين المصريين واعتبروا عرض الفيلم إساءة لسمعة مصر، بل والأدهى والأمر أنهم أقسموا بأغلظ الإيمان أن هذا لا يحدث في مصر بأي حالة من الأحوال ! ثم تفجرت قضية التوربيني فتم جذب خيط قضية أطفال الشوارع مرة أخرى، وهذه المرة لم يقسم أحد أن هذا لا يحدث في مصر.. فهذه المرة كانت الوقائع التي راح ضحيتها عدد من هؤلاء الأطفال موثقة ومسجلة لدى السلطات وتم التحقيق فيها وتحولت إلى قضية ينظرها القضاء.. وهكذا وبعيدًا عن قضية التوربينيانفجرت قضية أطفال الشوارع على مستوى الإعلام المصري وبدأت مناقشة القضية بالسؤال الخالد.. مسئولية من ؟!

وصلت المناقشات إلى مجلس الشعب حينما طالب النائب الدكتور زكريا عزميبمساءلة الحكومة والجمعيات الأهلية عما تفعله لهؤلاء الأطفال.. كان لافتًا أن يتعرض النائب لمسئولي الجمعيات الأهلية في هذه القضية فهو يعني اعترافًا ضمنيًا على الأقل بأن المسئولية موزعة ما بين حكومة لم تفعل شيئًا وجمعيات مطالبة بتقديم كشف حساب عما فعلتأهم ما في هذه المساءلة أن تنفجر القضية لتحل لا أن تنفجر ليتم تبادل الاتهامات وتبادل تحميل المسئوليات لتعيش على القضية صفحات الجرائد والمجلات ومساحات القنوات الأرضية والفضائية ثم يمر الوقت ويبقى الحال على ما هو عليه، خاصة أن هذه القضية إذا كانت تعد قضية شائكة على مستوى أطفال الشوارع من البنين فهي قضية خطرة بل حرجة على مستوى البنات: فالشارع بالنسبة للبنات يعني التحرش والاغتصاب، ونتيجة لهذا لا يتوقف الأمر عند حد اغتيال براءة البنات بل الأخطر والأهم هو أن التحرش أو حتى هذه العلاقات الخاصة التي تولد في الشارع وعلى الأرصفة لا يحميها أحد، ولا يشارك فيها طرف آخر سوى طرفيها الأصليين شاب وفتاة ليس لهما ملجأ سوى الشارع فيصبح هذا الشارع هو الإطار الاجتماعي الوحيد لعلاقتهما وهنا نجد أنه تم إجراء تقييم سريع لوضع أطفال الشوارع في القاهرة والإسكندرية بدعم من مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة وبرنامج الغذاء العالمي توصل إلى حوالي 66% من أطفال الشوارع الذين شملهم الاستطلاع يتناولون بانتظام عقاقير خطرة وأن 80% منهم معرضون لخطر العنف البدني من جانب مستخدميهم والمجتمع وحتى أقرانهم مما يكشف طبيعة علاقات الشارع وبمعني وجود علاقة خاصة في إطار هذا الشارع مما يؤكد من ناحية أخرى أن كثيرًا من العلاقات الخاصة التي تكون وليدة لمثل هذه البيئة تنتهي سريعًا بثمرة أو أكثر تعيد إنتاج القصة نفسها، البنات في الشارع آلية أو معمل لإنتاج مزيد من أطفال الشوارع، إنتاج المزيد من هؤلاء الذين لفظتهم بيوتهم وتغاضى عنهم المجتمع بل وأنكر وجودهم سنوات لولا انفجار قضية التوربينيفهل مطلوب منا أن نشكر التوربيني؟!

وهناك شيء ضائع تمامًا في هذه القضية وهو نظرة المجتمع نفسه لهؤلاء الفتيات بالذات وهي نظرة متعالية تكاد تكون متقززة من لغة وتصرفات وأخلاقيات فتيات الشوارع وقد لاحظت مثل هذا الانطباع عند البعض عند عرض فيلم البنات دولوعند حديث البعض عن الفيلم وكأن هؤلاء الفتيات تربين في مدارس داخلية إنجليزية ثم أصبحن على هذه الشاكلة !!

كيف يتصور هذا المجتمع أن تكون الفتيات مختلفات عن بيئتهن.. كيف تصور أن يكون أسلوب حياة بنت بيتها قارعة الطريق؟!

إن الطبيعي أن يكون هناك اتساق بين الشارع وسلوك الفتيات اللاتي يسكنه. فكان طبيعيًا جدًا أن تكون هذه هي لغتهن، وهذه هي طريقة ممارستهن لحياتهن سواء اليومية أو الخاصة.. إن إحساس الفتاة بجسدها يختلف من بيئة إلى أخرى.. ويجب الإقرار بحقيقة ليست بخافية على أحد وهي أن الإنسان في النهاية غالبًا – نتاج بيئته.. يجب أن نقر بهذا قبل أن نحاكم هؤلاء الفتيات وقبل أن ندينهن.. وقبل أن ننظر شذرًا لأطفالهن والأخطر البنات اللاتي سوف يرثن نفس البيئة وبالتالي القيم نفسها، والنظرة للحياة نفسها، وأسلوب التعامل مع هذه الحياة نفسها.

إن نظرة واحدة لهذه القضية تجعلنا نتساءل كيف يتعامل مجتمع يرفع شعار الأخلاق عاليًا ويتباهى بشدة بتدينه ويعلن عن ذلك التدين بكل الوسائل الممكنة.. ثم يتعامل هذا المجتمع نفسه مع قضية أطفال الشوارع بكل هذا التجاهل وعدم الاهتمام بل يصل الأمر أحيانًا إلى حتى الإدانة!! رغم أن التعامل مع هؤلاء الأطفال وبالذات البنات منهم من منطق أخلاقي يستدعي رفضهن هو في حد ذاته موقف غير أخلاقي بالمرة.. إن بنات الشوارع في مصر هن بحق مشكلة مركبة فالمجتمع المصري في العادة يتخذ موقفًا عنيفًا ضد الأنثى التي تخرج عن قواعده الثابتة، وفي تعامل هذه الأنثى مع جسدها وهي المنطقة الوحيدة التي يخترقها هذا المجتمع في حياة بنات الشوارع.. منطقة الحساب، أما ما دفع هؤلاء البنات إلى ما ارتكبن وما نتج عنه فهو آخر ما يفكر فيه هذا المجتمع، فهو مجتمع مسلح بالإدانة ولا يبحث عن حل بقدر ما يستسهل الإدانة.. يتوقف عندها ولا يتخطاها.

في تقرير صدر في شهر فبراير الماضي عن منظمة هيومان رايتس ووتشجاء فيه: إن الحكومة المصرية تجري حملات قبض جماعية على أطفال جريمتهمأنهم بحاجة للحماية، وأن هؤلاء الأطفال المحتجزين لدى الشرطة يتعرضون للضرب والإيذاء الجنسي والابتزاز على يد الشرطة والمحتجزين الجنائيين البالغين، كما أنه من المعتاد أن يحرموا من الطعام والفراش والعناية الطبية.. مثل هذا التقرير يؤكد بما لا يدع مجالاً للشك أن أطفال الشوارع يعانون اضطهاد السلطات الرسمية، فمن المسئول هنا عن علاج هذه المأساة الاجتماعية المتفاقمة، الحكومة وحدها، أم المجتمع المدني، أم كلاهما، والأهم المجتمع المصري كله الذي يجب أن يتخطى الإدانة للتعاطف والحل.

شارك:

اصدارات متعلقة

شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10
شهادة 9
شهادة 8
شهادة 7
شهادة 6
شهادة 5
شهادة 4