“أن أنتزع نفسي من كل تلك الكوابيس“
كتابة: راوية صادق
درية شفيق – المذكرات
ألتقط عشوائيًا ورقة أمام الكمبيوتر، إذ أستخدم دائمًا ظهر الورق المطبوع في تدريبات الكتابة. أنظر في ظهرها، فأحد صورة “فوتو كوبي” لقصيدة “ساعات قاتمة” (Heures Sombres) لدرية شفيق باللغة الفرنسية. عنوان ملائم تمامًا لتلك الساعات التي تلتهم معظم أيامي حاليًا، منذ أن فرض كورونا أو كوفيد ۱۹ عليّ التزام البيت والخروج فقط للضرورة القصوى؛ فأنا على وشك أن أصبح في الثامنة والستين وضغطي مرتفع.
هل أنا “كويسة“؟ أتساءل مثلما كانت درية شفيق تقول لابنتها الصغرى جيهان عام ١٩٧٥, قبل انتحارها ببضعة أشهر, وبعد ١٨ سنة من مصادرة مجلتيها, بنت النيل والكتكوت, وفرض الإقامة الجبرية عليها. واختارت درية شفيق أن تستمر في إقامتها الجبرية بعد إلغائها، فهل العزلة الاختيارية تجعل المكان أقل أسرًا من السجن؟
عندما بدأت الأخبار تصلني عن الجائحة لم أتابعها باهتمام، ولم آخذها على محمل الجد. أعتقد أن أغلب أعضاء دائرتي كانوا مثلي، إلى أن تم إلغاء حفل إطلاق وتوقيع رواية “مايليس دو كرانجال” (شفاء الأحياء). هذا وضع مشابه لوضع درية بامتيار. في أي جانب منه؟ – تساءلت بحذر، فهي لم ترغب في عزل نفسها في البداية, ولم تكن هناك جائحة. ماذا فعلت خلال وباء الكوليرا العاشر الذي اجتاح مصر عام ١٩٤٧؟
أنا عمومًا مش كويسة, أنا بتعايش. قعدت فترة أدرب نفسي على التعامل مع الإجراءات الاحترازية ضد الفيروس. روتين يومي ينبغي متابعته بدقة، خاصة عند طلب مشتريات المنزل. كان لازم أحضر الكلور عشان أمسح أسطح المعلبات، ثم أغسل يدي بنفس الترتيب الذي أشارت إليه منظمة الصحة العالمية، ثم أعود لغسل الخضار. تنتابني الحيرة: مية ونقع في الحل أم دعك بالصابون؟ ثم أقرر في النهاية أن الصابون خطر وأكتفي باستخدام الخل. أكثر حاجة حيرتني كيفية التعامل مع الجبن الأبيض، لأنني لا أحب الجبن المعلب أفضل شراءه من اللبان, إلى أن اقتنعت بأن أنزع التغليف وأضعه في “كونتينير” نظيف، ثم أغسل يدي. أستريح قليلاً ثم أمسح الصالة بالكلور وأرش الكلور أمام الباب وعلى الجرس. استنزاف عصبي:
أرشيف *
دانتي!
هل يمكن
لجحيمك
أن يساوي جحيمي ؟
تعال
اهبط معي
درج اليأس
انظر
وقارن
قطع
موت عرفان خان يوم الأربعاء ۲۹ أبريل – أي بعد ٤٩ يوم من عزل نفسي في البيت كإجراء احترازي – جعلني أعود للفرجة على بعض أفلامه كانت عودة لآنية ما قبل كورونا. ولأن بعض الأفلام تنعش الروح، عجبني فيلمه “علبة الغذاء” (The Lunch Box)
دانتي
قارن جحيمك
-(ذا الجراح المرئية) –
بهذا التعذيب
تشغلني هذه الجملة أو الفكرة، فهي تفترض صحة المقارنة وإمكانية قياس أشياء متخيلة (مثل الجحيم) بأخرى محسوسة وإن كان وقعها مادي ومعنوي. أسرح في دلالات الجحيم (الذي هو بالنسبة لي الآن الرطوبة والحر), والتعذيب الذي تتدرج مستوياته وتتصاعد دائمًا نحو مستويات غير مسبوقة.
كلمات
فقد
الشارع
شباك
مرض
معاني
أصابته جائحة: بَليَّة – تَهلُكة – دَاهِبة.
العزلة: الانعزال: الابتعاد عن الآخرين, وحدة, انقطاع عن العالم.
يستخدم مخرجو فيلم “الخندق الدائم” (The Endless Trench) الكلمة كمدخل لفصول فيلمهم. تابعته بشغف وتأثر. أنا أشاهد أغلب الأحداث بعيون الزوج “هيجنيو” الذي اختبأ في خندق بمنزلة خلال الحرب الأهلية في إسبانيا، واستمر يعيش فيه رغم قرار حكومة فرانكو بالعفو عن جميع السياسيين.
أتخيل أنني أعيش في خندق مثل “هيجنيو“. أتخيل أنني سجينة مثل أبي السياسي في الفترة بين عامي ١٩٥٩ – ١٩٦٤. أتخيل أنني منفية في شقة بالدور السادس مثل درية. أنتقل بين الأفلام والروايات, وأتصفح سريعًا الأخبار على الإنترنت كأنها مثل هذا الفراغ الذي لا يكاد يُرى، الذي يطل منه “هيجنيو” على يوميات منزله.
أرشيف * “عانيت بعضًا من نكسة وأنا حبيسة جدران ليست من حجر لكنها أشد وطأة“.
-
مقاطع من أشعار درية شفيق من كتاب ” مع دانتي في الجحيم” ( قيد النشر. المركز القومي للترجمة). هي مقتطفات من قصائد كتبتها درية خلال السبعينيات مقتطفات متناثرة مثل تناثر الانفعالات والمشاعر التي أشعر بها, في هذا العزل الذي فرضته على نفسي بسبب جائحة كورونا.