نبوية موسى

بسم الله الرحمن الرحيم.

السادة الحضور يشرفني ويسعدني بصفتي أحد أفراد أسرة السيدة نبوية موسى فهي عمة والدي المرحوم اللواء عبد المنعم موسى – أن أشارك في الندوة المخصصة لها، وإنه لشئ يدعو إلى الغبطة والانشراح أن يقيم ملتقى المرأة والذاكرة ندوة لتكريم السيدة نبوية موسى. وذلك بالرغم من مرور ما يقرب من 50 عاما أي نصف قرن على وفاتها. وأن دل ذلك على شئ فإنما يدل على أن مصر مازالت بخيـر وأن بها إناس شـرفـاء يـتـمـيـزون بالإخلاص والوفاء والتقدير لكل من خدم بلده وأسهم في تطورها وتقدمها.

نظراً لأن البرنامج الموضوع عنها يشمل العديد من المقالات التي تناولت حياة هذه السيدة العظيمة، فإنني سأكتفي هنا بالحديث في عدة نقاط تعتبر من السمات البارزة في شخصياتها وحياتها، السيدة نبوية موسى كانت أول فتاة تحصل على شهادة البكالوريا في عام ١٩٠٧، بينما كانت الثانية التي حصلت عليها بعد حوالي عشرين عاماً في سنة ١٩٢٨. السيدة نبوية موسى كانت أول ناظرة وكانت أول مفتشة وتعتبر أستاذاً للرعيل الأول من المربيات المصريات، وقد عملت ناظرة لمدرسة المحـمـودية الابتدائية للبنات في الفيوم سنة 1909، وعملت ناظرة لمعلمات المنصورة سنة 1910، وكانت تتميز بقوة العزيمة والإصرار مع الصلابة في الرأي وقوة الحجة والمنطق.

السيدة نبوية موسى علمت نفسها بنفسها وجاهدت جهاداً عسيراً لكي تلتحق بالمدرسة السنية في سنة 1901، وعلى الرغم من أن تعليم البنات في هذا الوقت كان ينظر له على أنه خروج على قواعد الأدب والحياء ومروق على التربية والدين، فإنها كانت تعتقد اعتقاداً راسخاً بأن التعليم بالنسبة للفتاة لا غنى عنه لتحقيق تقدمها واستقلالها، وإتاحة الفرصة لها لكي تعمل وتكون عنصراً نافعاً ومنتجاً في المجتمع. هذا الاعتقاد الراسخ مع حبها الشديد للعلم هو الذي جعلها قبل نهاية حياتها تتبرع بمدرستها وهي معظم ما تملك، وتوقفها لصالح وزارة المعارف بدون أي مقابل أو شروط، بالرغم من معارضة أفراد أسرتها لها، وبالرغم من أن الوزير المسئول حينذاك لم يشجعها بل أخبرها بما معناه أن الوزارة ليست في حاجة إلى مدرستها. ولكنها لم تيأس ولم ترضخ لأية عقبات، وأصرت على استكمال الإجراءات القانونية للتبرع بمدرستها لوزارة المعارف لكي تستمر هذه المدرسة في تأدية واستكمال رسالتها بعد وفاتها، وهذا هو ما حدث فعلاً. ويهمني أن أشير إلى أن إنشاءها لمدارس بنات الأشراف في الإسكندرية والقاهرة لم يكن بغرض الربح أو الاستثمار كما يحدث من البعض في وقتنا هذا، ولكن لقوة إيمانها بأهمية وضرورة العلم والتعليم للفتاة من ناحية، ولأن وزارة المعارف من ناحية أخـرى قـامت بإعطائها إجازة مـفـتـوحـة، وذلك لمعارضتها الدائمة ونقدها اللاذع لسياسات وزارة المعارف، وبالتالي منعت من العمل في الوزارة، فلم تجد أمامها وسيلة لاستكمال رسالتها لخدمة العلم وتعليم الفتاة إلا عن طريق القيام بافتتاح مدارس خاصة بها. ومن ثم أنشأت مدارس بنات الأشراف في كل من القاهرة والإسكندرية. والدليل على أنه لم يكن هناك فائض أو ربح من إنشائها لهذه المدارس هو أنها عندما توفيت لم تترك إلا مدرستها في الإسكندرية التي تبرعت بها للوزارة، ومنزل متواضع بحي الشاطبي بالإسكندرية، وسيارتها الخاصة فقط، وأورد فيما يلى دليلا آخر على أنها لم تكن تهدف إلى الربح، بل كانت كل جهودها خالصة للعلم والتعليم، هذا الدليل جاء بمجلة الرائد، وهي مجلة تصدرها نقابة المعلمين في مصر، في العدد الثاني لسنة 1997، ففي مقالة للأستاذ محمود فوزي يتكلم عن موقف حدث بينها وبين عالمة الذرة الشهيرة الدكتورة سميرة موسى التي توفيت بالخارج في حادث قيل إن المخابرات الإسرائلية هي التي دبرته، جاء المقال كالآتي بالنص:

كان لقاء الناظرة الرائدة الأستاذة نبوية بالتلميذة النجيبة العالمة سميرة موسى هو لقاء نادر في تاريخ المرأة العربية، وحين حصلت سميرة موسى على شهادة الكفاءة كان ترتيبها الأول، أرادت أن تغير المدرسة بسبب عدم وجود معمل في مدرسة الأشراف، وهذا في حد ذاته يؤكد حرص سميرة موسى على البحث العلمي منذ نعومة أظفارها، وتم تحويلها بالفعل إلى مدرسة الأميرة فورية، ولكن هذا أغضب المربية الفاضلة، فأرسلت لوالد سميرة تلومه على تصرفه المفاجئ، فذهب إليها يبرر تصرفه، وقال لها المعذرة، فالمدرسة ليس بها معمل وسميرة تريد معملاً للدراسة وإجراء الأبحاث، وكان رد نبوية موسى عظيماً قالت للأب شرف للمدرسة أن سميرة طالبة بها ولذلك فقد قررت المدرسة إنشاء معمل من أجل عيـون سـمـيـرة، ولهذا فقد عادت سـمـيـرة إلى مدرستها الأصلية من جديد، ولقد أفاد سميرة كثيراً هذا المعمل الذي جهزته نبوية موسى بأحدث الأجهزة العلمية وقتها، ولقد أجرت فيه بعض الأبحاث الأولية التي كانت لها كبير الأثر في أن تواصل رحلتها مع البحث العلمي.

ومن المصادقات الغربية أنني قرأت في جريدة الأهرام الصادرة يوم السبت الماضي فقط أي في 19/6/1999، مقالاً للأستاذ عادل حمودة تحت عنوان سهرة في بيت سميرة موسىيعقب ويعلق فيه على هذه الواقعة جاء فيه بالنص:

الأب لم يكن وحده هو الذي تولى رعاية موهبة ابنتهيقصد أب الدكتورة سميرة موسىلقد دخلت سميرة موسى مدرسة تديرها المربية الشهيرة نبوية موسى، ولكنها سرعان ما فكرت في تركها لأنها تريد معملاً والمدرسة ليس فيها معمل، فكان أن بنت لها نبوية موسى معملاً ووظفت أفضل مدرسي العلوم من أجلها. ولست في حاجة إلى المقارنة بعد كل هذا العمر في التعليم، لست في حاجة إلى الحديث عن سماسرة الدروس الخصوصية وتوكيلات المدارس والجامعات الخاصة التي لا تفرق في معظم الأحوال بين العلم وتجارة السلع الفاسدة التي انتهت مدة صلاحيتها“.

وإلى هنا ينتهي تعقيب الأستاذ عادل حمودة، ولم يقتصر نشاط السيدة نبوية موسى على أعمال التدريس والنظارة والتفتيش فقط، بل كانت تقوم وبصفة منتظمة بإعطاء محاضرات في القسم النسائي للجامعة الأهلية عن تاريخ مصر القديم وتاريخها الحديث. وكانت تسهم بدور فعال وملحوظ في مناقشة قضايا ومشاكل مجتمعها، سواء كانت هذه المشاكل اجتماعية أو اقتصادية أو سياسية، وذلك عن طريق مقالات كانت تنشرها في مجلتها الإسبوعية التي أنشأتها وأسمتها مجلة الفتاة، أو عن طريق إصدار كتب خاصة مثل كتاب الرد على الكتاب الأسود“. وكانت تتميز بالجرأة والصراحة والرأي الحر المستنير والنقد اللاذع البناء وعدم السكوت على الحق، لدرجة أنها تعرضت للاعـتـقـال في سجن الأجانب مع إغلاق مدارسها وهي في سن تقرب الستين، وذلك بسبب معتقداتها وآرائها السياسية ومواقفها الوطنية. وأخيراً أود أن أتقدم بخالص الشكر وخالص التقدير إلى القائمين على أسرة ملتقى المرأة والذاكرة على ما قمن به من مجهود كبير في سبيل غرض شريف ونبيل، ألا وهو إحياء ذكرى رائدة من أهم رائدات الحركة النسائية والتعليمية في مصر وهي السيدة نبوية موسى، وأخص بالشكر الأستاذة الفاضلة دكتورة هدى الصـدة التي قامت بمجهود كبير في سبيل جمع المعلومات الخاصة بهذه السيدة العظيمة، وأتمنى لهم التوفيق والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .

 

محمد أبو الإسعاد

أدى الاحتكاك الحضاري الذي حدث بين مصر وأوروبا منذ الحملة الفرنسية في أخريات القرن الثامن عشر إلى ظهور تيار سیاسی واجتماعی نادي بالأخذ عن أوروبا والاقتباس من الحضارة الغربية. وقد تنامي هذا التيار خلال القرن التاسع عشر من خلال تنامي النخبة أو الطليعة (الإنتلجنسيا) التي تعلمت وفقاً لنظم التعليم الأوروبية وأرسلت في بعثات إلى أوروبا وأتقنت اللغات الأوروبية ونهلت من منابع الثقافة الغربية واحتكت بالأوساط الأجنبية في مصر وأوروبا. ومن ثم تولت هذه النخبة نقل مظاهر الحضارة الأوروبية الحديثة إلى المجتمع المصرى.

وقد تبلور هذا التيار منذ بداية القرن العشرين في أحزاب سياسية تمثلت في حزب الأمة الذي تأسس ١٩٠٧، وحزب الأحرار الدستوريين الذي حل محله بعد عام ١٩٢٢، وتمثلت أهدافه وسياساته في خمسة مبادئ رئيسية:

المبدأ الأول: هو فصل الدين عن السياسة واعتناق الفكر الأوروبي العلماني الخاص بالدولة القومية بدلاً من الدولة الدينية.

المبدأ الثاني: هو رفض فكرة السلطة الأوتوقراطية المطلقة للحاكم الشرقي والدعوة للأخذ بالنظم الديمقراطية بمعنى سيادة الإدارة العـامـة للأمة كي يمثلها النظام البرلماني ويعبر عنها النظام النيابي.

المبدأ الثالث: هو الأخـذ بالليبرالية الاقتصادية القائمة على حرية النشاط الاقتصادي وسياسة الباب المفتوح للمشروع الخاص.

المبدأ الرابع: هو تحقيق قدر من الديمقراطية الاجتماعية يتحقق من خلالها احترام الحقوق الأساسية للإنسان.

المبدأ الخامس: هو الأخذ عن الحضارة الغربية والتعاون مع الوجود البريطاني توصلا إلى تقدم البلاد الحضاري.

وكانت نبوية موسى أحد روافد هذا التيار بالرغم من عدم انتمائها بشكل رسمي إلى الأحزاب السياسية المعبرة عن هذا التيار، لكنها في واقع الأمر كانت على علاقة وثيقة بحزب الأمة ثم حزب الأحرار الدستوريين، ووظفت مجلتها (الفتاة) لخدمة حزب الأحرار الدستوريين ورئيسه محمد محمود. ولذلك فسوف نحاول تتبع فكر نبوية موسى من خلال أدبياتها وأخصها مقالاتها في مجلة الفتاةومذكراتها بعنوان حياتي بقلميوكتابيها عن المرأة والعمل ثم المطالعة العربية لمدارس البنات.

علمانية الدولة: فبالنسبة لمبدأ فصل الدين عن السياسة وفقاً للمفهوم الأوروبي العلماني الخاص بالدولة القومية بديلاً عن الدولة الدينية، تبدي نبوية موسى التزاماً ظاهرياً بهذا المبدأ عندما تذهب إلى أن الدين لله وليس لنا أن نتدخل في عقيدة شخص فيما بينه وبين الله يرجو منه الخير في الآخرة ويخشى عقابه، ولكل شخص أن يتحيز لمستقبله ما يشاء فهو المسئول عنه وعبثه واقع عليه وحده فهو الذي سيتعذب بنار الجحيم أو يتمتع بجنه النعيم، وليس لأحد أن يتدخل معه في اختياره لنفسه من متعة أو عذاب.

وتؤكد نبوية موسى أن هذا كان هو اعتقادها ولهذا لم تتدخل مطلقاً في مناقشة دينية، وأنها آلت على نفسها ألا تناقش في الأديان لأنها ليست نبياً يرشد الناس إلى سواء السبيل، ذلك أن عصرنا الآن عصر علم وعرفان يجب ألا تناقش فيه الأمور الدينية بل يحسن لكل إنسان اتباع دينه دون مـعـارضـة فـيـه أو مقارنة بين الأديان الأخرى، فإن الدين لله وليس لنا أن نتداخل في اعتقاد غيرنا ويكفينا أن ننتقد أعمال الناس الظاهرية حسنة كانت أو رديئة.

لكن المتابعة التفصيلية لحياة نبوية موسى وفكرها تفصح عن عجزها من التخلص من آثار الطائفية والفكر الديني وذلك من خلال موقفها من قضية الوحدة الوطنية بين عنصري الأمة المسلمين والأقباط، الأمر الذي يمكن أن ينم عن تورطها في المخطط السياسي الذي رسمه القصر الملكي منذ عام ١٩٣٧ بالتعاون بين رئيس الديوان الملكي ومشيخة الأزهر، لضرب شعبية حزب الوفد تحت دعوى خضوعه لسيطرة الأقباط وتحكم مكرم عبيد، الأمر الذي من شأنه إثارة العداء المستتر بين المسلمين والأقباط وتحقيق الأغراض السياسية المرجوة من وراء ذلك.

ولذلك نجد أن نبوية موسى تثير في مقالاتها على صفحات مجلة الفتاة المسألة الطائفية فتذهب إلى القول بأن قلة عدد الطلاب المسلمين في الجامعة المصرية أصبحت قلة مروعة مخيفة، وترى أن السبب في نكبة المسلمين في مصر هو النشاط القبطي المتزايد والتعاون مع بعضهم بعضاً بمساعدة البطركخانة.

وتثير نبوية موسى مسألة الإعانات المالية للمدارس الحرة الأهلية وتتخذها مجالاً لإثارة الطائفية وتقول إن الحكومة تصرف إعانة كبيرة للتعليم الحر تؤخذ أموالها من الضرائب التي يدفعها 16 مليون مسلم مقابل مليون مسيحي فقط، ومع ذلك فإن معظم هذه الأموال تصرف على المدارس المسيحية دون المدارس الإسلامية.

وتحذر نبوية موسى من أن استمرار هذه الأوضاع يهدد مستقبل المسلمين في مصر، فلن يمضي زمن حتى تتسع المسافة بين المسلمين وغيرهم في درجات الرقى والثقافة. وتستفز نبوية موسي الشعور الديني للمسلمين مدعية أن وزارة المعارف تفرق بين المدارس القبطية وتميزها على المدارس الإسلامية في الإعانة ثم تتساءلما رأی شيخ الأزهر؟ وهل يلومنا فضيلته بعد هذا إذا نحن هربنا من ذلك الذل بالاستنصار ليكون الشعب المصري على دين واحد ويستريح من كل تلك الفروق القاتلة المميتة؟!

كما تشن نبوية موسى حملة هجوم ضارية ضد مكرم عبيد سكرتير حزب الوفد ووزير المالية، وتتهمه بالتعصب الديني وبأنه حريص على تمييز مدارس الأقباط بالإعانات المالية على عكس المدارس الأهلية الإسلامية التي لم تستفد من الإعانة، وتدعي أن مكرم عبيد أخرج مدارسها المعروفة بمدارس بنات الأشراف من الإعانة وحرمها منها مساعدة لكلية البنات القبطية التي تجاورها في حي العباسية بالقاهرة.

وتستفز نبوية موسى مشاعر المسلمين مدعيـة وجـود مخطط لغلق المدارس الإسلامية الأهلية، وأنه لم يعـد أمام المسلمين من أصحاب هذه المدارس الأهلية الإسلامية إزاء هذا المخطط إلا أن يوقفوا مدارسهم على إحدى الكنائس أو الهيئات القبطية حتى يضمنوا صرف الإعانة المالية لها من وزارة المعارف.

ومن ناحية أخرى نجد أن نبوية موسى سرعان ما تخلت عن فكرة الدولة المدنية وتبنت فكرة الدولة الدينية من خلال دعمها لخطاب الملك فاروق ومخططه السياسي الرامي إلى رسمه خليفة للمسلمين، فتارت في مجلتها بتعيينه خليفة للمسلمين ودعت إلى خطة لتحقيق ذلك والاستفادة من النزاع الدولي وتقوية أواصر العلاقة مع إيران بعد المصاهرة بين العرشين المصري والفارسي.

ومن ثم يخلص الباحث إلى أنه في الوقت الذي تحدثت فـيـه نـبـويـة مـوسى عن العلمانية مؤكدة أن الدين لله والوطن للجميع وأن الدين لاعلاقة له بجوانب الحياة السياسية والاقتصادية، نجدها تتناقض مع نفسها بشدة عندما ترفع شعار الدولة الدينية وتدعو إلى ترسيم الملك فاروق خليفة للمسلمين، ويزداد تناقضها حدة عندما تصبح المسألة الطائفية إحدى أدواتها في المعركة السياسية ضد حزب الوفد وسكرتيره مكرم عبيد القبطي.

الديمقراطية السياسية: أما بالنسبة للمبدأ الثاني الخاص برفض فكرة السلطة الأوتوقراطية المطلقة للحاكم الشرقي، والدعوة للأخذ بالنظم الديمقراطية بمعنى سيادة الإدارة العامة للأمة كما يمثلها النظام البرلماني ويعبر عنها النظام النيابي، فقد أعلنت نبوية موسى رفضها لهذا المبدأ صراحة وهاجمت الحكم الدستوري في مصر ودعت إلى الحكم الديكتاتوري.

وأعلنت نبوية موسى رفضها لنظام الانتخابات المباشرة بوصفه أساسًا لليبرالية السياسية النيابية، لأن هذه الانتخابات تعطى 85 % من الأميين حق البت في مسائل ومشكلات عويصة على فهمهم، ودعت إلى تعديل نظام الانتخابات ليصبح على درجتين بدعوى أن الحالة في مصر لا تشجع بأن تكون الانتخابات من درجة واحدة، لأن معنى هذا أن يسيطر العامة على انتخابات النواب ما دام عدد المتعلمين لم يصل في مصر إلا إلى 10 %، ومن ثم فليس من الحكمة أن يعطى أمر النيابة لجهلاء الأمة، وخير لمصر أن تحكم بوزارة مستبدة قوية على أن تحكمها وزارات برلمانية ضعيفة لا تستطيع أن تضع الحق في نصابه.

وهاجمت نبوية موسى الحكم الدستوري في مصر موضحة أن الحكومات الدستورية في البلاد العريقة في أصول الدستور قد تفيد البلاد كثيراً، لأن أعضاء البرلمان يعرفون كيف يقفون حائلا بين الوزراء وشهواتهم الحزبية، أما في مصر التي لم يسبق لها عهد بالدستور، فإن الحكم الدكتاتوري خير من الحكم النيابي لأن الوزارات البرلمانية ضعيفة، ولذلك فهي ترحب بأية حكومة قوية لأننا في حاجة إلى رجل قوى فعلا وكفى الأمة عاراً أن يديرها الدهماء من الناس طول هذه المدة.

واستخدمت نبوية موسى مجلة الفتاة التي أنشأتها منذ أكتوبر ۱۹۳۷ واستمرت حتى يونيه 1943 لخدمة حزب الأحرار الدستوريين ورئيسه محمد محمود فدبجت المقالات الأسبوعية من رجل الساعة والدولة محمد محمود وأشادت بأثاره العظيمة على النهضة المصرية ونزاهته وثقة الناس به. وكانت حريصة على أن تزين غـلاف المجلة في كثير من المناسبات بصورة محمد محمود وتصفه بأنه عنوان النزاهة والحزم في مصر، وتدعوه برجل العدل والشهامة والإخلاص، وتنعت حكومته بأنها حكومة رشیده تعتمد على برلمان قـوى وأنه الأمل في إصلاح البلاد. وعندما ترك حزب الأحرار الدستوريين السلطة وتنحى رئيس الوزراء عن منصبه في أغسطس ۱۹۳۹ ظلت نبوية موسى ومجلتها في الدفاع عن حكومات الأقليات على ماهر وحسن صبرى وحسين سری، فقد كان هذا الخط السياسي هو خط نبوية موسى ومجلتها الفتاة.

وتناقضت نبوية موسى مع المبدأ الديمقراطي تناقضا صريحا عندما انحازت إلى القصر في صراعه على السلطة واستئثاره بها في مواجهة حزب الوفد صاحب الأغلبية الديمقراطية، فاتخذت مجلتها خطا سياسيا إلى جانب القصر، وشنت هجوما شديد اللهجه ضد الوفد وزعيمه مصطفى النحاس وسكرتيره مكرم عبيد.

واتخذت مجلة الفتاة الدعوة إلى الاتحاد والولاء للمليكشعاراً لها، وهاجمت بيئة الوفد في الدعوة للولاء للنحاس لا لصاحب العرش، واعتبرت هذه السياسة سياسة خاطئة من شأنها أن تؤدي إلى فتنة تهدد البلاد، ووصفت هذه السياسة بأنها خيانه عظمى. ولم تجد نبويه موسى أمام شعبية حزب الوفد الكاسحه إلا أن تدعو الشعب إلى نبذ الحزبية لأن مـصـر ظلت ۱۸ سنه وهي لا عمل لأحـزابها إلا مناورة بعضهم بعضاً، مما أدى إلى إهمـال مـصـالـح البـلاد وشـيـوع الخراب والانحطاط وانتشار المحسوبية.

وحملت نبـوية موسى حملة شعواء على حزب الوفد ورئيسه مصطفى النحاس وسكرتيره مكرم عبيد، واتهمت وزارة الوفد بالاعتداء على الحريات العامة، وبأنها ضحت بمصلحة البلاد. واتهمت النحاس بأن زعامته أصبحت مصدر السلطات، وأنه أصبح مع مكرم عبيد ألد أعداء الدستور، وفتحت مجلة الفتاة صفحاتها لنقد النحاس واتهامه بالفساد والمحسوبية، ووصفته بأنه طرطور، ولذلك لم يكن غريبا عندما وصل الوفد إلى السلطة في فبراير ١٩٤٢ أن يبادر إلى حرمان مجلة الفتاة من حصتها في ورق الطباعة حتى احتجبت عن الصدور، كما لم يكن غريبا أن تقوم حكومة الوفد بغلق مدارس بنات الأشراف التي تمتلكها وتديرها نبوية موسى، كما تعرضت نبوية موسى للقبض والتفتيش وقدمت للمحاكمة العسكرية، فلما قضى براءتها قامت حكومة الوفد بإغلاق مطبعتها، ثم اعتقلتها بتهمة القدح في ذمة النحاس المالية ووضعت في السجن لفترة ثم أفرج عنها.

وهكذا يخلص الباحث إلى أن نبـوية موسى رفضت الليبرالية السياسية بشدة، واستهجنت حركة الأحزاب المصرية وأعلنت عدم صلاحية الحكم الدستوري لمصر. وكان من رأيها أن نظام الانتخابات المباشرة لم يقد إلا إلى حكم طبقة الأوباش والرعاع، وأن الأغلبية الشعبية الديمقراطية هي خـداع وتدليس، وأنه لابد من أن تكون الانتخابات على درجتين، وأنه لا حل لمصر إلا بالحكم الدكتاتوري.

الليبرالية الاقتصادية: وبالنسبة للمبدأ الخاص بالليبرالية الاقتصادية القائمة على حرية النشاط الاقتصادي وسياسة الباب المفتوح للمشروع الخاص فقد كانت نبوية موسى من أشد أنصار هذا المبـدأ، ولذلك ذهبت إلى أن تركيز الأعـمـال فـي يـد الحكومات فـيـه خطر على مـال الدولة وسعادة الشعب، وانتـقـدت بشدة أسلوب الحكومات في التدخل في الأمور الاقـتـصادية وإدارة دفة المشروعات الإنتاجية، وقصورها عن أن تؤدي ذلك بنفس المستوى الذي يؤديه أفراد الشعب وجماعاته في أعمالهم الخاصة. وكشفت نبوية موسى عن إهمال الموظفين للمال العام، وما يترتب عليه من ارتفاع تكلفة المشروعات التي تتولاها الحكومات، وضربت مثلا لذلك بمباني المدارس التي تقوم بها المعارف وكيف أنها تتكلف أضعاف أضعاف، وانتهت من ذلك إلى أن أي حكومة مصرية مهما كان الحزب الذي تنتمي إليه، إذا ما تدخلت في الأمور الاقتصادية وسيطرت على إدارة الأعمال، كان ذلك خطراً جسيما على تقدم البلاد. وأعلنت نبوية موسى معارضتها لأي تدخل حكومي في مجالات الاقتصاد، لأن ذلك يؤدى إلى وضع الأعمال تحت سيطرة موظفي الحكومة ويخرجها من حيز الأعمال الحرة. وأرجعت نبوية موسى شيوع البطالة إلى مغالاة الحكومة في احتكارها للأعمال العامة. ولم تحبذ نبوية موسى تجميع القوى العامة داخل تنظيمات نقابية وفقا للأطر الرأسمالية، وشنت هجوما شديد الضراوة ضد جماعة دار العلوم التي تأسست عام ١٩٣٢ للدفاع عن مصالح المدرسين من خريجي دار العلوم في مواجهة أصحاب المدارس الحرة، واتهمت هذه الجماعة بأنهم قد تشبعوا بالحقد والحسد على أصحاب المدارس لما أحسوا أنهم ينالون من المال أكثر مما ينالون، ولذلك فهم يثيرون الكثير من المشاكل على حساب مستقبل التعليم.

الديمقراطية الاجتماعية: أما بالنسبة للمبدأ الرابع الخاص بتحقيق قدر من الديمقراطية الاجتماعية يتحقق من خلالها احترام الحقوق الأساسية للإنسان. فقد كان لنبوية موسى موقف صريح في شدة انحيازها ضد الطبقات الفقيرة.

وليس أدل على ذلك من موقفها من المشكلات الاجتماعية الخاصة بالأطفال المشردين، فقد عارضت جهود الحركة النسائية الرامية لإنشاء ملاجئ للأطفال اليتامى والمشردين، واستنكرت على المصريات التصدي لمشروعات إنشاء ملاجئ للأطفال اليتامي والمشردين، ورأت ذلك تقليدا أعمى لأوروبا يكلف مبالغ مالية طائلة وعاتبت عليهن جمع الإعانات المالية الضخمة لمثل هذه الملاجئ وبررت ذلك تبريراً متخلفاً. إذ قالت إنه في بلدنا الخصيب ليس ثمة حاجة إلى ملاجئ للغلمان لإنقاذهم من الموت جوعاً، فإن كل رجل من متوسطى الحال في مصر يود لو رضي هؤلاء المتشردين البقاء في منزله لقضاء حاجاته، فيأكل ويلبس ويأخذ أجراً على ذلك ولكن هؤلاء الغلمان المتشردين يفضلون التجول في الشوارع على البقاء في المنازل، وربما وجدوه أكسب لهم لسخاء المصريين الفطري.

كذلك فقد عارضت نبوية موسى بشدة مشروعات التعليم الأولى الإلزامي المخصص لتعليم الفقراء ومحو أميتهم، ورأت أنه من الأصوب والأفيد توجيه الجهود إلى تعليم النخبة تعليما مثمراً، فلم تكن نبوية موسى من المؤمنين بتعليم الشعب أو الداعين لنشر التعليم الأول الإلزامي، بل كانت ترى في ذلك عبثا خير منه تعليم أبناء الأغنياء تعليما عاليًا، ولذلك تقول نبوية موسى إن الأمة كجسم واحد لابد له من أعضاء كثيرة تقوم بالحركة والعمل ورأس مفكر يدير هذه الأعضاء وينظم حركتها، والأعضاء العاملة في جسم الأمة هـم السـوقـة وهم سوادها الأعظم، أما الرأس فـقـادة الأمة من علمائها ونبغائها وحكامها المتعلمين، ومتى صلح الرأس وأحسن التفكير توجهت كل أعـمال الإنسان إلى الخير وصلحت بذلك أحواله. فإذا أوصينا بأمتنا خيرا وجب علينا أن نسعى في تعليم قادتها ونبغائها تعليماً صحيحا عاليا يستطيعون معه إرشاد الأمة إلى ما فيه الخير والمنفعة. أما التعليم الأول وحده فلا فائدة منه إذا اقتصرنا عليه، وإنما هو أساس بنى عليه دعائم التعليم العالي، فإذا ظهرت كفاءة الطفل في التعليم الأول تخطينا به إلى ما هو أهل لمواهبه السامية، أما إنفاق ما لدينا من المال في التعليم الأولى وعدم تقديرنا التعليم العالي فهو خطأ، لأن التعليم الأولى من دون التعليم العالي لا تأتي منه فائدة تذكر والمعرفة القليلة أضر من الجهل.

وليس هناك فرق بين فلاح فقير يعرف القراءة وآخر أمي لا يعرفها ما دام الثاني يقوم بعمل في حرث الأرض وزرعها كما يقوم الأول. وما فائدة معرفة القراءة للفلاح الفقير طالما أنه والفلاح الأمي في المنفعة سـواء، ولا يخشى من تقهقر الأمه لجهل فلاحيها ما دام في الأمة نبغاء يستطيعون إرشاد الفلاحين إلى ما فيه النفع. والفلاح الذي يستطيع أن يزرع الفول أفضل من ذلك الذي يستطيع كتابة هذه الكلمة. ومن الخطأ أن يقاس رقي الأمة بعدد من يعرفون الحروف الهجائية فيها، وإنما يعرف رقي الأمة بعدد نبغائها وسداد رأی قادتها، فالأمة التي تفوز في ميدان الحرب لا تجني ذلك الفوز لمعرفة جميع جنودها مبادئ القراءة والكتابة، وإنما تحرزه بما يبديه قوادها من الرأى السديد والحكمة في تنظيم الجيوش.

ولهذا كان من العيب أن نترك التعليم العالي ونهتم بالتعليم الأولى فقط، ولقـد تغـالينـا في ذلك حتى أصبح الناس ينادون بتعليم أولاد البـاعة والخدم ومـسـاحي الأحذية، مع أن أبناء هؤلاء المصلحين الذي ينادون بتعليم أبناء السوقه لم يوفقوا إلى نيل ما يليق بهم من التعليم، ولو أنصف هؤلاء المصلحون لتركوا السوقة للبيع والخدمة، وساعدوا أنفسهم وأبناءهم بفتح الكليات العالية وإرسال الإرساليات إلى أوروبا لنقل أفكار الأمم الراقية.

لا يضير أمتنا أن يكون ابن الخادم خادما مثله، ولكن يعـوزها وجود رجال أكفاء يسيرون بها في مراقي الفلاح. ومن العبث أن نحاول أن يكون لخادمنا من المعرفة ما للخادم الغربي، ما لم نسع أن تتساوى معلومات أغنيائنا بمعلومات أمثالهم من الغربيين، فإن هذا الخلط في الرأي قد يؤدي إلى أن يكون الخادم أعلم من سيده وهو ما لم ير في أمة من الأمم.

ولقد قلد النساء الرجال في تلك الفكرة، فما اجتمعت منهن جمعية إلا كان غرضها إنشاء مدرسة للصغيرات، كانهن قد سرهن كثرة مدارس البنات اللائقة لتعليم الفتيات منا، فلم يعد يعوزنا إلا شئ واحد وهو تعليم الصغيرات والخـادمـات، مع أن جميع المدارس الموجودة الآن في مصر ليس فيها ما يصلح لتعليم أبناء الأغنياء المصريين.

وتخلص نبوية موسى إلى أن نظام التعليم الإلزامي نظام غير مجد ولا ينفع، ولذلك تدعوا صراحة إلى إلغاء التعليم الإلزامي محبذة إبطال الحكومة لهذا النوع من التعليم، وصرف ما ينفق عليه في شئون الدفاع الوطني.

وتكشف نبوية موسى عن انتمائها الطبقي المنحاز للأغنياء ضد الفقراء في تغييرها لاسم مدرسة ترقية الفتاة إلى اسم مدرسة بنات الأشراف، فلم تكن هذه التسمية تحمل معنى أخلاقي كما ذهبت الدكتورة إجلال خليفـة بل كانت تحمل بعداً طبقيا برجوازيا.

ولعل فيما أوردته نبوية موسى في كتابها المدرسي للمطالعة ما يكشف عن أسلوب البرجوازية في تزييف الوعي الاجتماعي والانتماء الطبقي المنحاز ضد الفقراء. فقد جاء في هذا الكتاب في وصف حالة الفلاح المصري ما نصه أما فقراء الفلاحين فلا يعرفون من العسر إلا اسمه، لأنهم يشتغلون أيام الزرع والحصاد عند أصحاب الأراضي ويأخذون أجوراً كافية لسد عوزهم طول السنة، زيادة عن أكلهم وأخذ مـا أرادوا من الخضر وغيرها من الأشياء التي لا قيمة لها عند الفلاح لكثرتها. وعند الفراغ من الأعمال لا يحرمهم الأغنياء من أخذ ما يتيسر من الخضر والبقول للطبخ، ولا يمنعهم أحد من تسريح ماشيتهم التي يتعيشون منها على الجسور ورعيها؟.. وبالجمله فإن فلاحي المصريين في رغد عيش وظل ظليل ما أحسنوا التصرف واجتنبوا تقليد المدنيين التقليد الأعمى، وهم مع ذلك في تمتع مطلق ليس لأحد عليهم سيطرة في جميع أحوالهم المباحة، وفيهم من مكارم الأخلاق وحب المساواة بين الناس غنيهم وفقيرهم وترك التملق“.

الحضارة الغـربية: أما موقف نبوية موسى من الحضارة الغربية فقد كان موقفا انـتـقـائياً مـتـرددًا، ففي الوقت الذي تشـيـد فيه بموقف الحضارة الغربية من المرأة وتحريرها ومنحها حقوقها المدنية والسياسية والنهوض بتعليمها وما ترتب على رقى المرأة من تقدم الأمة الغربية، ومن ثم فإن ما يقال من أننا لو اقتدينا بالحضارة الغربية في ذلك انحل نظامنا وفسدت حياتنا ليس صحيحا لأن تقدم المرأة هو سر تقدم الأمة. فأنها تقر بأن خلوة مراقب تعليم البنات بناظرات المدارس في حجراتهم هو أمر خطر بالإسلام، وتتحفظ تجاه مسألة الاختلاط بين الجنسين ولا ترى السماح به، إلا إذا كان هناك داع قهري للاختلاط، كما تتمسك بألا يظهر من المرأة سوى وجهها وكفيها، وتعتبر بذلك نفسها من أنصار السفور لأنه ليس معنى التربية الحديثة أن تقلد فتياتنا الغربيات في الزي، بل يجب أن يكون لباس الفتاة المسلمة موافقا لما جاء في القرآن الكريم من ستر الزينة حتى يكن أبعد عن مطامع الرجال.

ومن هذا المنطلق تشن نبوية موسى هجوما على مداس البنات الأجنبية، وترى فيها خطراً على تعليم البنات المصريات لأن هذا التعليم يؤدى إلى اسـتحسان كل عـادة أوروبية واتباعها حسنة كانت أو قبيحة، الأمر الذي يهدد بإقصاء فتياتنا عن عاداتنا الاجتماعية والخروج على تقاليدنا الإسلامية.

هذا على الصعيد الاجتماعي، أما على الصعيد السياسي فقد كانت نبوية موسى منحازة إلى الغرب ومحبذة لارتباط مصر ببريطانيا سياسياً وعسكرياً، فأعلنت على صفحات مجلتها أن مصر بحالتها الحاضرة لا تستطيع الوقوف أمام أطماع الدول العظمي المسلحة بأحدث الأسلحة كإيطاليا، وبالتالي فهي في أشد الحاجة إلى حليفة تناصرها وتساعدها استعداداً للطوارىء الدولية، وقد تطوعت إنجلترا لهذا الدفاع وعقدت مع مصر معاهدة دولية. وأعلنت نبوية موسى أن إنجلترا أفضل الدول الأجنبية استعماراً، فهي أقلها طمعا وأعدلها حكما. كما أكدت أن الإنجليز هم خير أمة يجب على مصر أن تصادقها وأن تتحالف معها، ويجب على الأمة الشرقية أن تؤازر إنجلترا وأن تناصرها لأن فشل إنجلترا استعباد دائم لتلك الشعوب، وكذلك مصلحة مصر مرتبطة بمصالح حليفتها العظمى وفوز الحليفة فوز باهر لمصر.

وهكذا فإن فكر نبوية موسى قد جاء خليطا مشوها ومزيجا متنافراً أشبه ما يكون بالموزايكو المتعدد الألوان دون تناسق أو انسجام، فكانت بذلك تعبيرا عن أزمة النخبة (الإنتلجنسيا) المصرية وموقفها الانتقائي من الحضارة الأوروبية وعجزها عن تقبل وهضم قيم ومفاهيم الحضارة الحديثة.

 

رانيا عبد الرحمن

إذا كان إدوارد سعيد في كتابه الثقافة والإمبريالية أثبت أهمية تحليل وقراءة الكتابات والأعمال الأدبية الأوروبية التي تزامنت مع عملية التوسع الاستعماري في العالم في ضوء الخطاب الاستعماري، كذلك فإن سبيلنا إلى فهم أعمق لما كتبه المستعمرون أنفسهم يكمن في تحليل الآليات والقـوى المحـركـة لهـذا الخطاب. فالاستعمار كان مكوناً أساسياً لأوروبا وللمناطق التي أتت تحت سيطرتها. ولذلك فهذا البحث لا يتناول موضوع الأخلاق في كتابات نبوية موسى من حيث كونها سيدة في مجتمع أبوى فقط ولكن أيضا من حيث كونها مصرية في مجتمع واقع تحت سيطرة المستعمر الإنجليزي.

وبما أن الاستعمار لم يكن فقط عملية توسع رأسمالي أو سيطرة سياسية بل كان قبل هذا وذاك مشروعاً ثقافياً يشكل ويصدر تصورات عن المجتمعات المستعمرة، فيهمني هنا في البحث تناول العلاقات بين كل من: مفهوم الاختلاف والتنميط والقولبة وعملية تشكيل التصورات عن الآخر. هل كانت التصورات الثقافية التي شكلها الغرب عن الشرق هي السبب وراء هذه القسمة الصارمة المتحجرة بين الشرق والغرب؟ هل كانت التصورات الثقافية التي شكلها الإنجليز عن مصر إبان الاستعمار وعلى مدى القرن التاسع عشر وراء تقسيم العالم إلى عالمين متناقضين شدیدی الاختلاف عن بعضهما؟

ترجع التصورات الثقافية عن الشرق إلى العصور الوسطى. وكان من أبرز سماتها التركيز على الاختلاف: فتجد الغرب في هذه الكتابات يرمز للاستقرار الاجتماعي بينما يرمز الشرق للذة والمتعة التي لا تحدها قيود اجتماعية. فمن أبرز الصور التي تم التأكيد عليها في هذه التصورات هي: أولا، أن الشرق مكان يتسم بالعنف الفطري. ثانيا، أن الشرق هو مكان الانغماس في الشهوات الحسية.(1)

تقوم التصورات بإرساء هذا الاختلاف مع الوقت، فيتجمد في الذاكرة الغربية في شكل صور نمطية متقولبة من الصعب محوها من الذاكرة الجماعية. إن هذه الصور النمطية التي تؤكد على اختلاف الآخر عن الذات بالغة الأهمية، فقد كانت ذريعة الخطاب الاستعماري للتحكم والسيطرة على الشعوب الأخرى. فالعلاقة بين الثقافة والسياسة علاقة وطيدة، وهذه التصورات كانت الوسيلة التي برر بها الاستعمار لشعوبه الأوروبية الاحتلال، كما أنها شكلت جزءاً كبيراً من الوعي الجماعي لدى الشرقيين أنفسهم أقصد هنا المثقفين من الطبقات التي احتكت بالأوروبيين في التعليم والعمل واطلعت على هذا التراث من الكتابة عن الشرق. إن خطورة هذه التصورات عنالآخرسواء كانت لرحالة أو علماءلا تتمثل فقط في علاقتها الوطيدة بالسياسة ولكن في أدعائها الآتي: الحياد والموضوعية، أنها متخصصة وجامعة شاملة في آن واحد، وصفية وليست تقييمية، واقعية غير خيالية، علمية لا تخطئ، بعيدة كل البعد عن المشاعر، في حين أن هذه الروايات كانت انتقائية، مبنية على أفكار مسبقة عن الشرق، شديدة الانحياز، تنأي كثيرا عن موضع الوصف، لدرجة تقديم صورة تكاد تكون خيالية للعالم الذي تصفه: هو شرق ثمرة أحلام وخيال الرحالة أو العالم المستشرق، هي صورة لا يزعزعها واقع المجتمع موضع الوصف وتتفق مع صورة الشرق لدى الوعي الجماعي الغربي.

ما هي الصورة التي رسمها الأوروبيون عن الشرق وما هو موقع المرأة فيها؟ لقد انجذب الأوروبيون إلى سحر الشرق، فتكاد تكون المرأة والشرق شيئاً واحداً مترادفان، فقد صورت المرأة على أنها تجسيد لسحر الشرق. كانت المرأة والشرق موضعاً للانجذاب والنفور في آن واحد. يصف إدوارد لين – والذي كانت كتبه عن مصر من أكثر الكتب انتشاراً في إنجلترا – إحساسه عندما وقع بصره لأول مرة على مصر:

عندما اقتربت من الشاطئ، أحسست کأنني عريس شرقي، يوشك على رفع الحجاب من على وجه عروسه، ويرى، لأول مرة الملامح التي قد تسحر وقد تحبط وقد تنفر…”(۲)

كانت المرأة الشرقية لمئات السنين – في الشرق الأوسط والهند والشرق الأقصى – موضعاً لأحلام الرجل الغربي الذي خلق في خياله صورة لامرأة جميلة، حسية متحررة، ومثيرة. وقد كان لاختلاف الجمال الشرقي عن الغربي وغرابة هذا الجمال بالنسبة للمستشرق الرجل الغربي، أن ارتبط، جمال المرأة الشرقية بحسية فائضة ورغبة متقدة ومشبوية(۳).

وقد وردت في كتاب إدوارد لين وكثير من كتب المستشرقين صورة لعـالمة مصرية، لتبين للقارئ الأوروبي صورة للجمال الشرقي كفيلة للبرهنة على الاختلاف الشديد بين أجناس الشرق والغـرب مـن خـلال اخـتـلاف الشكل والملامح، وغرابة أساليب الزينة وطرق التزين من وجهة نظر الغرب (انظر صورة رقم 1).

ويعتبر كتاب إدوارد لين عن مصر عادات وتقاليد المصريين المحدثين (١٨٣٦)، مرجعاً له وزن، لادعائه اتباع المنهج العلمي وبعده عن الانفعالية. ويتفق محتوى الكتاب مع التوقعات المسبقة لدى القارئ الأوروبي عن مصر، فالصورة التي يعطيها الكتاب عن المصريين هي الصورة الموروثة عن الشرق في الوعي الجماعي الأوروبي منذ قديم الأزل. فتجد مواضيع الكتاب تتلخص في السحر، الراقصات، الخزعبلات، الحاوي، ملاعب الحيات السامة، الكيمياء القديمة، الحشيش، الأفيون. وتتلخص صفات المصريين في: العمل الجهل، الانغماس في اللذات التطرف الديني، الاعتقاد في الخزعبلات.

صور لين المرأة المصرية على أنها خبيثة وتلجأ إلى الحيل والكذب للحفاظ على زوجها، كما صورها على أنها ذات غريزة جنسية مشتعلة وجامعة، وأن تحررها تحرر فطری متأصل(4). فيقول عنها في كتابه عادات وتقاليد المصريين المحدثين:

إن نساء مصر أكثر نساء الأمم انحلالاً وتحرراً. إذا أعطين الحرية أسأن استغلالها، ولا يمكن استئمان معظمهن إلا إذا حبسن في المنازل…. ويعتقد أنهن خبيثات وماكرات في تدبير مؤامراتهن والتي لا يستطيع حتى أكثر الأزواج حرصاً الوقاية منها …. وتمثل مكائد النساء في بعض حكايات ألف ليلة وليلة صورة صادقة لحوادث ليست بنادرة في عاصمة مصر الحديثة…”(٥).

ولا أدري من أين أتى إدوارد لين بهـده المعلومات عن المرأة المصرية؟ فكيف يصل رجل أجنبي في الثلاثينيات من القرن التاسع عشر إلى المرأة المصرية وهي محجوبة في بيتها ومن المحال الوصـول إليها؟ وإذا كانت الفئة الوحيدة من السيدات اللاتي كان يمكن الوصول إليها في ذلك الزمن في فئة العوالم والغوازي فهل من العلمي والموضوعي أن يعمم لين ما راه فيهن من صفات على كل المصريات؟ (انظر صورة 2 لجــيـروم عام ١٨٦٣ وعنوانهـا رقـصـة العـالمة، وصـورة 3 لإدوارد لين عام ۱٨٣٦ بعنوان راقـصــات محترفات“).

 

والسؤال الذي يطرح نفسه هو: إلى أي مدى شكلت هذه التـصـورات الأوروبيـة /الإنجليزية عن المرأة المصرية وعى المثقفين المصريين؟ إن العلاقة وطيدة بين التصورات الثقافية والمعرفة والسلطة. إن التصورات الثقافية عموماً هي صورة من صور الإنتاج المعرفي: وإنتاج المعرفة يعطى سلطة ثقافية لمنتجيها(6). إن تصورات الإنجليز عن المرأة المصرية لا تؤكد فقط اختلاف المرأة المصرية عن الأوروبية وبالتالي دونيتها، بل إن هذه التصورات كانت قادرة على ترسيخ هذه الدونية والصور السلبية داخل المصريين أنفسهم عن طريق عملية تذويت internalisation” : فيرون أنفسهم ويشعرون بتجاربهم بعيون أوروبية، فالتصورات إذن لا تتمثل فقط في محاولة فرض إرادة وسيطرة معرفية على الآخر من الخارج، بل هي معرفة قد تصبح داخلية أيضاً، أي أن التصورات قد تدفع موضع التصورات (الآخر/ المثقف المصرى) للاتفاق معها بقوة دفع الاضطرار الداخلي، وذلك للانسجام مع وجهة النظر السائدة (أي المستعمر).

ويعد قاسم أمين مثلاً على عملية التطابق والانسجام مع وجهة النظر السائدة، والمتمثلة في التصورات الإنجليزية عن المرأة المصرية. فهو يرى نفسه وشعبه وبلده بعيون مستعمره. وإذا لم يع القارئ أن هذه كلمات قاسم أمين المفكر المصري عن المرأة المصرية في كتابه تحرير المرأة، لظن أنها كلمات إدوارد لين العالم الإنجليزي الذي مهد كتابه لاستعمار مصر:

ولما لم يبق للعقل ولا للأعمال النافعة قيمة لديها، وإنما بضاعتها أن تسلى الرجل وتمتعه من اللذة بجسمها بما شاء، وجهت جميع قواها إلى التفنن في طرق استمالته إليها والاستيلاء على أهوائه وخواطر نفسه…. مضت تلك الأزمان الطويلة على المرأة ولم يمس عقلها شئ من التربية الصحيحة، فضعفت منها القوة العاقلة والمفكرة وانفرد الحس بالتصرف في إرادتها، فحسها هو المميز عندها بين الخير والشر. وهو الرائد لها في الاختيار بين النفع والضرر …. أضلت المرأة عقلها في ظلمات الأجيال الماضية ففقدت رشدها وادركها العجز عن تناول ما تشتهي من الطرق المسنونة، فاضطرت إلى استعمال الحيلة…. ونمت فيها ملكة المكر إلى غاية ليس وراءها منزع. فأصبحت ممثلة ماهرة ومشخصة قادرة تظهر في المظاهر المتضادة الألوان المختلفة في كل حال بحسبها. ذلك لا عن عقل وحكمة وإنما هي حيل الثعالبة“(7).

وكما يقع لين في فخ التعميم عن المرأة المصرية يقع فيه قاسم أمين، ويكشف عن انحياز شديد ضد المرأة المصرية. فرؤيته تكاد تكون شخصية تغيب عنها الموضوعية. يتفق قاسم أمين مع لين في وصف المرأة بالشيطانية والمكر والشهوانية. كما يكشف كلامه عن احتقار للمرأة وخوف منها يكاد يكون مرضياً. فهو مثله مثل المستعمر تجاه المستعمر والقاهر تجاه المقهور، يتقلب ويتأرجح بين مشاعر متناقضة تجاه المرأة. فهو أحياناً يراها ضحية مجتمع لم يعلمها / يثقفها فيعطف عليها ويشعر بواجب انتشالها من تخلفها مدفوعاً بإحساسه بالإنسانية المشتركة التي تجمعهما، واعتقاده في المساواة على المستوى الإنساني. وأحياناً أخرى يحتقرها لدونيتها من وجهة نظره طبعاً بينما هو يحتفظ بتفوقه وتميزه. وبذلك تتفق نظرته للمرأة المصرية مع آليات الخطاب الاستعماري.

وبينما يرتقي قاسم أمين بذاته ويقويها ويدعمها عن طريق تأكيد دونية المصريين والمصريات والتقليل من شأنهم، وبذلك تتطابق وجهة نظره مع القوة المسيطرة، ترتقى نبوية موسى بذاتها عن طريق المقاومة. مقاومة القوى التي تنتج التصورات الثقافية التي تنتج المعرفة عن المصريين عامة وعن مثيلاتها من المصريات، وذلك عن طريق استراتيجيات أخلاقية تحقق لها هذه الندية المرجوة مع القوة المتمثلة وقتها في الإنجليز وبعض المثقفين المصريين. وهذا النوع من المقاومة يذكرنا باستراتيجيات الحركات التحررية التي تؤكد على المساواة، ثم تبدأ عملية اكتساب لفكر وأدوات القوة المهيمنة حتى تحل محل هذه القوة في السلطة، وأيضاً حركات تحرير المرأة في القرن التاسع عشر في أوروبا والتي بدأت بالتأكيد على الندية ثم أخذت في محاكاة الرجل.

فمن استراتيجيات مقاومة الهيمنة عموماً سواء كانت متمثلة في هيمنة طبقية أو جنسية أو نوعية: أولا، التأكيد على المساواة والندية. ثانياً، إنكار ورفض الاختلاف، أي وجود اختلافات جذرية بين الطبقات والأجناس والنوعين. ثالثاً، التأكيد على وجود إنسانية مشتركة تجمع البشر(٨). ونبوية تسعى وتحقق هذه الندية على مستويين: على مستوى الجنس وعلى مستوى النوع.

لقد كانت نبوية متشددة في الناحية الأخلاقية وقد كان لحرصها على العفة، أن كانت حريصة كل الحرص ومتزمتة غاية التزمت في تعاملها مع الرجال. فحدث في شبابها وهي مازالت في المدرسة أن أعجب بها شاب ريفي، كانت أخته أمضت فترة مع نبوية وكان قد عرف عنها من أخته، فأرسل لها مع الأخت خطاباً يقول فيه أنه أحبها دون أن يراها فمزقت الخطاب وقالت لها: “أرجوك أن تذهبي الآن وأن تخبريه بأني لا أعرف شيئاً عن الحب وأني أحتقر كل من يعرفه، كما أرجو ألا تعودي إلى دارنا مرة أخرى“(9).

وإذا دخل عليها في مكتبها وهي ناظرة مدرسة رجل يضع وردة في جاكتته استرابت في نواياه وعاملته بخشونة. وكانت لا تستقبل زواراً من الرجال أبداً إلا في أوقات العمل، وكانت تحرص على أن يمكث معها في الغرفة خادم طوال فترة العمل وأثناء وجود أي زائر معها، حتى إنها رفضت مرة مقابلة مدير المديرية لأنه جاءها بعد وقت العمل، وكانت إذا أعطت أي جواب للخادم كي يسلمه إلى رجل تبقى الظرف مفتوحاً وتقرأ له مضمون الجواب حتى لا يظن أن مضمونه خاصاً(١٠). وفي سياق دفاعها عن أهمية خروج المرأة للتعلم والعمل تعتذر بقولها :

وحاشا أن أقصـد بخروج المرأة جلوسها على قارعة الطريق أو تجولها في الشوارع ومعاملة الرجال بلا سبب جوهري، فإني أشد الناس معارضة لذلك ولكني أقول بوجوب تعلمها العمل والقدرة عليه، فهي إن خرجت تخرج له لا للهو(١١).

كما كانت ترى أن النساء الفقيرات يجب أن يعطين الفرصة لتعلم حرفة حتى لا يضطرون إلى الخدمة، وكان أساس خوفها أن ذلك قد يدفعهن إلى الفجور“. وحدث أن وقع في يدها مرة جواب غرامي لإحدى المدرسات في مدرستها، فقراته وأحست أن كاتبه ليس صادقاً في مشاعره وإنما يريد أن يغرر بها، فتدخلت في الأمر وكتبت هي له تأمره بالتوقف عن كتابة الجوابات لهذه المدرسة وأن يحضر لمقابلتها حتى تتأكد بنفسها من نواياه(١٢). وكانت تعتقد أن رجال المدن الفاسدين إذا امتنعت إجابة مطالبهم يدبرون لها: “كل وسائل الكيد ويدفعهم الغيظ إلى تسوئ سمعتها ووصفها بما هي بريئة منه لا لسبب سوى حقدهم عليها لتمسكها بالفضيلة والعصمة“(١٣).

إن هذا التأكيد على الشرف والفضيلة والعفة في كتابات تبوية يبين كيف كانت أفكار نبـوية بمثابة رد فعل ومـقـاومـة للصـورة النقيـضـة التي وردت في الخطاب الاستشراقي الاستعماري، والتي صورت المرأة المصرية حسية متحررة من كل قواعد السلوك. إن مفهوم العفة والعفاف في الثقافة الشرقية يوازي مفهوم الطهر في المجتمع الفيكتوري، وقد كان الطهر من السمات الأساسية للمرأة الإنجليزية في هذا المجتمع، كما ظهرت في التصورات الغربية عنها، فكان من المتوقع منها كبت مشاعرها وكأنها لا جنس لها(١٤). لذا فعلى النقيض من استراتيجيات الخطاب الاستشراقي الذي أكد على الاختلاف المصرى ووسع الفجوات بين الثقافتين / المجتمعين، فإن سياسات نبوية الأخلاقية تعتمد على إيجاد نقاط مشتركة ونقاط تلاقى واتفاق وتواز بين الثقافتين المحلية والأجنبية. وبذلك فهي تضيق الفجوات بينهما.

أما الفكرة الثانية عند نبوية فهي الاهتمام بالتحشم والنفور من عدمه ومن التبرج ومن الزينة، وهذه أيضاً رد فعل للتصورات الغربية عن النساء المصريات والشرقيات واللاتي كن يصورن دائماً في لوحات المستشرقين إما نائمات أو يتزينن أو يرقصن ولكننا أبداً لا نراهن يعملن أي عمل مفيد(١٥).

وفي مقارنتها بين امرأة الريف والمدينة يتضح أن تمسكها بالتحشم والتحفظ ليس فقط رد فعل ومقاومة للتصورات الغربية عن المرأة المصرية عن طريق اكتساب ومحاكاة نمودج عربي متحفظولكنه أيضا اتباع لنموذج مصرى متمثل في المرأة الريفية. فنبوية كانت تكره التبرج سواء كان غربياً أو شرقياً، وقد كان التزين مرتبطا بالصورة النمطية للمرأة الشرقية والتي كانت تصور على أنها تمضى وقتها كله في التزين، وقد كان التزين مرتبطاً بالكسل الذي كان صورة نمطية للمصريين عموما:

لست استطيع ان اسمي الفلاحة سافرة لأنها لا تلبس ذلك النقاب الشفاف المعروف عندنا نحن المدنياتمع أنها تسير في طريقها متحشمة لا يكاد يرى الإنسان منها إلا جزءاً يسيطاً من وجهها، يراها الرجال دون أن يعيرها أحد منهم نظرة أو التفاتة أو يتبعها خطوة ليتمتع بجمالها الطبيعي، كما أني لا أسمى بعض المدنيات محتجبات فإنهن يكثرن الخروج متبرجات وعليهن من الزينة والحلي ما يلفت انظار المارة، وعلى وجوههن نقاب لا يستر إلا الحياء، ليتهن مع ذلك لم يظهـرن مد وردي وسواعدهن وسيقانهن، هذا فضلا عن المشية المتصنعة التي تبرأ منها الآداب براءة تامة. . .

(انظر الصورة رقم4 وهي غلاف مجلة الاثنين عام ١٩٣٤ بعنوان:”حلاوة اليـوم وحلاوة زمان” . وتظهر فيها بنت البلد التي تصف نبوية لبسها ومشيتها ومن وراءها المرأة المستغربة تنتقد نبوية النمـوذجين: سـواء التـراثي أو المحاكي للغـرب لبـعدهما عن الحشمة) (١٦).

أن أفكار نبوية الأخلاقية تعد جزءاً لا يتـجـزأ من الصورة التي خلقتها وشكلتها نبوية لنفسها. فقد خلقت نبـوية عن قصد صورة لنفسها وعن نفسها روجتها في المجتمع، وكان ذلك بهدف تحقيق المساواة المرجوة مع الرجل. فقد كانت نبوية تشيع عن نفسها القبح، حتى إن سمعتها ارتبطت في أذهان الناس بالقبح، فكثيرا ما كان يعلق الناس عندما يقابلوها انهـا ليست بالقـبـح الذي تصوروه(۱۷). وهذا ضمن سياساتها الأخلاقية التي كانت تهدف منها إلى الندية على مستوى النوع في مجتمع أبوى لم يعتد وجود المرأة في ساحة العلم والعمل والتعامل معها باحترام معاملة الند للند. وقد كان لتشددها الأخلاقي وبعدها عن الزينة أن تعامل معها حتى أكثر الرجال المتشددين أخلاقيا أي من كانوا يتجنبون المرأة و يتحرجون من التعامل مع الناظرات، لارتباط المرأة في أذهانهم بالخلاعة والإغراء.

وقد كانت نبوية تلون وتطوع هذه الصورة التي خلفتها عن نفسها، مما يكشف عن وعيها القوى بديناميكيات المجتمع المصرى وبالخطاب السائد آنذاك. فحدث يوماً أن زارت أحمد لطفي السيد، وقد كانت تكن له احتراماً شديداً وتحرص على علاقتها به فقابلتها زوجته وخافت هي أن تثير غيرة الزوجة فطلبت التوضؤ،حتى إذا هم أحمد لطفي السيد ليسلم عليها أعتذرت لكونها متوضئة. يوضح هذا الموقف كيف كانت نبوية موسى تشکل و تلون صورتها وهويتها، فكان النوع أي صورتها كامرأة أو كرجل قابلة للتبادل. فعند وصولها بيت لطفي السيد وبمجرد رؤيتها لزوجته استبدلت صورتها كرجل بصورتها كامرأة لا تسلم على الرجال، حتى يتسنى لها الحفاظ على معرفة لطفى السيد، ومواصلة التعامل معه بعد ذلك تعامل الند للند : تعامل رجل مع رجل(۱۸).

وتتضح هذه القابلية لتبديل صورتها ونوعها في ردها على أحد المديرين الذي كان يتوعدها بتلفيق تهمة أخلاقية لها إذا لم تتوقف عن الكتابة في الصحف عن مخالفات رجال الوزارة الأخلاقية، وقد استغل المدير حرص المرأة العاملة الشديد على سمعتها آنذاك:

إذا قلتم عنى بأننى امــــرأة فاسدة فثق أني سأطالب بحقى وسأعرض نفسي على قومسيون طبـي قـد يقـرر بأني لست بامـرأة كما أنكم إذا وصفتموني بصفة رجل فاسد فسيقرر القومسيون أيضا بأني لست برجل وهنا أستطيع أن أطالب برد شرقي بصفة قصوية لا تحتمل شكا ….(۱۹).

عبر زي نبـوية عن سياساتها الأخلاقية والصورة التي خلقتها لذاتيتها. تعكس صورتها في شبابها (انظر صورة رقم5 ) تأثرها بمفهوم الطهر الفيكتوري أي طهر النساء في العصر الفيكتوري. كما تعطى صورتها إحساساً بالروحانية : تموجات الطـرحـة تذكـر بـصـور العـذراء مريم، و تقـوى الجلابية هذا الإحساس: كما يعطى خلو وجهها من الزينة ومن أي انفعال إحساساً بهدوء روحاني.

ونرى هنا (وفي الصـورة رقم 6) أنهـا لا تلبس الحـلـي عـلـى عكس ملك حفني ناصف مثلا، والتي كانت تلبس أقراطاً طويلة واضحة وأساور كثيرة: كما كان يزين العقال البدوى رأسها، وبينما كانت ترتدى ملك ملابس ذات ألوان فاتحة نلاحظ هنا قتامة ألوان لبس نبوية: وبينما كانت تبتسم ملك بابتهاج في صورتها الشهيرة يغيب أي انفعال عن وجه نبوية)، ومن الجدير بالذكر أن نبـوية تذكـر فـي كـتـابهـا تاريخي بقلمي أنها قاطعت الحلى وهي في الثالثة عشرة عند دخولها المدرسة السنيـة، فـوضـمـتـه كله في علبة ولم تلمسه طوال حياتها.

لم ترتد نبـوية ما ترتديه امرأة الطبقة الوسطى: البرقع والحبرة، فلم تضع حجاب الوجه لأنها كانت ترى أن حجاب الوجه الأبيض الشفاف لا يستر شيئاً وأنه يبيض لون الوجه ويجمل الملامح وهو ما لم ترده، فانا اعتقد أنها أرادت عن قصد أن تبدو أقبح لا أجمل. كما أن نبوية لم تقتد بالمدرسات الإنجليزيات فلم ترفع الحجاب عن رأسها اقتداء بهن. يختلف لبسها عن هدى شعراوي (التي خلعت الحجاب عن وجهها فقط) كما يختلف عن صفية زغلول (والتي خلعت الحجاب عن رأسها ووجهها) (انظر الصورة 6و٧).

ولكننا نجد أن نبـوية قد جمعت بين هذا وذاك: بين الشرقي والغربي، فاستبقت حجاب الرأس وكانت ترى أنها بذلك تتبع الدين الإسلامي والتقاليد الشرقية. وفي نفس الوقت كانت ترتدي البذلة المكونة من قميص وكرافتة وجاكتة وجونلة طويلة بليسيه: وهي بذلة من العصر الفيكتوري فيها تشبه بالرجال، وقد كانت ترتديها كثيرات من نساء العصر الفيكتوري في إنجلترا (انظر الصورة رقم 8 وهي صورة لـ المرأة المترجلة من مجلتي العـروسـة والبلاغ الأسبوعي). وقد كان خروج المرأة الإنجليزية للعمل وكفاحها للخروج من النطاق الخاص للنطاق العام يتطلب التشبه بالرجل، والذي كـان مـحتكراً للنطاق الـعـام حـتى تلاقي بالقبول واتحـاد نبوية هذا الزى الملبس فيه تأكيد على مبدأ المساواة من خلال محاكاة الرجل.

يوحي وضع نيوية في الصورة (رقم6)، وهي واقفة تحمل أوراقاً في يدها، بالمسئولية والحرص على العلم. كما يوحي وجهها الذي يغيب عنه الانفعال بالجدية، وتعطى الطريقة الرجولية التي تضع بها يدها الأخرى في جيبها بالعملية والبعد عن الهزل وعن خجل المرأة وعن الاهتمام بظهور المرأة بمظهر الرقة والجاذبية.

تمکنت نبوية موسى من اختراق جبهة القوة. تمكنت من أن تصبح جزءاً من السلطة وليست مهمشة خارجها. ومن الدلائل على ذلك صمودها في العمل في مجال التعليم فترة طويلة رغم اختلافها وخلافاتها مع معظم رجال الوزارة سواء كانوا إنجليزاً أو مصريين، وتقرير كتابها المطالعة العربية على جميع مدارس الوزارة على مستوى الجمهورية. وفي نفس الوقت الذي أصبحت فيه جزءا من السلطة احتفظت نبوية موسى بهويتها واختلافها. ولا أقصد هنا هوية نقية لا تدخل فيها أي عناصر مختلفة، بل أقصد هذا المزيج بين الشرق والغرب: الأصالة ومحاكاة الغرب.

يجب توخي الحذر في تحليل شخصيات من ماضينا وألا نطبق عليها ما طبقه علينا وعلى الشرق وأهل الشرق وأجناس الشرق الخطاب الاستعماري من آليات جعلتنا نبدو شديدي الاختلاف والغرابة عن الغرب: النقيض في كل شئ من عادات، لتـقـاليـد لأخلاق، لملبس. إن التأكيد على اختلاف الهوية وبعدها عن هوية الذات “(أي الغرب) إنما فيه تبسيط للثقافة المركبة التي نتجت عن لقـاء وتقابل الثقافتين الإنجليزية والمصرية. فـالمزيج الذي نتج عن هذا التقابل له خصوصية لا يجب تجـاوزها في قراءتنا للتـاريخ أملا وبحثا عن نقاء ثقافي لا وجود له. كما أن وصم هذا المزيج بالتنافر وتحميله عبء أزمتنا الثقافية إنمـا هـو إعادة لآليات الخطاب الاستعماري الذي ربط الثقافة بـالـجـنـس ووصـم الأجـنـاس المهجنة “(مثل المصريين) بالدونيـة: دونيـة الجنس وبالتالي دونية الثقافة، بالمقارنة بوصف الإنجليز بالنقاء الجنسي وبالتالي التفوق الثقافي.

 

(1)التحليل الأشمل لهذا الموضوع يوجد في

Rana Kabbani, Europe’s Myths of Orient, (London: Macmillan, 1986), Introd, p. 6.

(2)ورد في:

Leila Ahmed, Edward William Lane (London 1978)p 1

(3) Glenn Jordan and Chris Weedon, Cultural Politics (Oxford& Cambridge USA Black- Well, 1995 pp 262-264.

(4) Edward Lane, Manners and Customs of the Modern Egyptians, London East-West, Publications, (1836-1989) pp. 295-296.

(5) Lane, Modern Egyptians, p. 296.

(6) Jordan And Weedon, Cultural Politics, pp, 3-22.

(۷) “تحرير المرأةضمن قاسم أمين، مؤلفات قاسم أمين، (القاهرة مطبعة الجريدة ، ١٩٠٨ ص 28-29)

(8) Jordan and Weedon, Cultural Politics,pp. 3-22.

(9) نبوية موسي، تاريخي بقلمي (القاهرة: ملتقى المرأة والذاكرة، ۱۹۹۹) ص. 44-46.

(۱۰) نبوية موسی، تاریخی بقلمی، ص. ۱۳۳۱۳۷ وص. 146.

(۱۱) نبوية موسى، المرأة والعمل، (الإسكندرية: المطبعة الوطنية، ١٩٢٠) ص.36.

(۱۲) نبوية موسي، تاريخي بقلمي، ص. ۱56-۱5۸.

(۱۳) نبوية موسي، تاريخي بقلمي، ص.45.

(14) Reina Lewis, Gendering Orientalism, (London: Routledge, 1996) pp. 53-54.

(15) Lewis, Gendering Orientalism, p. 109-121.

(16) نبوية موسى، المرأة والعمل، ص.4-5.

(۱۷) “يوم المحكمةفي ذكرياتي، الفتاة، العدد 63.

(۱۸) نبوية موسي، تاريخي بقلمی، ص١٤٣ – ١٤٤.

(۱۹) “کیف کانوا يسوئون سمعتی بالفتريات!” في ذكرياتي، الفتاة، العدد36

 

هـدى الصـدة

عندما نتحدث عن نبوية موسى، تتحدث عن أمـرأة وهبت حياتها بمعنى الكلمة دفاعاً عن قضية تعليم البنات في أوائل القرن. والتعليم لنبوية موسى كان قضيتها الوطنية، بل كان القضية الوطنية الأولى على قائمة أولويات قضايا الوطن في تلك الحقبة من تاريخ مصر، حيث اعتبرت أن الاستقلال الوطني مرتبط ارتباطاً وثيقاً باستقلال المواطنين والمواطنات على مستوى السلوك الشخصي والعلاقات الاجتماعية والعلاقات المؤسسية، وهو استقلال يكتسب ويصبح حقاً بالعلم والمعرفة، بالتفكير الحر المستقل، بالقدرة على النقد والتحليل، بعزة النفس، برفض الرضوخ لأوامر او تعليمات سلطوية غير مفهومة. تبينت نبوية موسى علاقة وثيقة بين التعليم والحرية والكرامة، وسلكت منهجاً للدفاع عن كرامة الإنسان المصري من خلال تسليحه بسلاح العلم والمعرفة. الحرية بالنسبة لنبوية موسى حرية غير مجزأة وتشمل جميع أفراد المجتمع، حيث تبينت أيضاً العلاقة بين حرية الوطن وحرية المرأة، ومن ثم تبنت قضية التعليم بوصفها مدخلاً أساسياً لتناول موضوع الاستقلال الوطني واستقلال المرأة.

ولإعطاء نبوية موسى حقها في عرض آرائها في التعليم ودورها في النهوض بتعليم البنات على وجه الخصوص، نحتاج إلى دراسة نستوفي فيها استعراض آرائها في موضوع التعليم وفلسفته، كما نعرض فيها لمساهماتها العديدة في هذا المجال. علينا أيضاً أن نأخذ في الاعتبار السياق الثقافي والسياسي والاجتماعي الذي طرحت فيه قضية التعليم الحديث، لنفهم أبعاد تفاعلها واشتباكها مع مفكري ومفكرات عصرها الذين تناولوا هذا الموضوع. ولكن في حدود هذه الورقة، نتوقف عند بعض النقاط الأساسية.

كان لنبوية موسى مساهمات في صياغة المناهج ونقد السياسات، فقد كتبت كتابا عنوانه المرأة والعمل سنة ۱۹٢٠ تطرقت فيه للعلاقة بين تعليم المرأة وعملها في المجال العام والخاص. كتبت أيضاً كتابين للمطالعة العربية لمدراس البنات ( ١٩٢٤) تضمنا موضوعات تحتاج إلى بحث وتحليل. ولها أيضاً رواية تاريخية اسمها توب حتب وديوان شعر مفقودين. تطرقت إلى مشكلة تعدد النظم التعليمية الموجودة فهاجمت مثلاً المدارس الأجنبية.عارضت في بادئ الأمر المدارس الأهلية ثم أصبحت من أكـبـر المؤيدين لها. كان لها مواقف حامية مع مسئولي وزارة المعراف وصلت إلى ذروتها سنة ١٩٢٦ حيث صدر قرار بفصلها من الخدمة، وقد تفرغت نبوية موسى لإدارة مدارسها بنات الأشراف. وفي سنة 1937 أنشأت مجلة أسبوعية نسائية الفتاةتوقفت سنة ١٩٤٣. وكان لها معارك كثيرة ضد الوفد ولصالح الأحرار الدستوريين، وعندما تولى الحكم وزارة وفدية أغلقت مدارسها ومجلتها كما تم اعتقالها.

ومن الأمور التي تثار كثيراً عند الإشارة إلى دورها الاجتماعي والسياسي، أنها لم تدعُ في كتاباتها إلى جلاء الإنجليز، ولم تتخذ موقفاً معادياً من القصر المهادن للوجود البريطاني، بل إنها اتخذت موقفاً معادياً من بعض أقطاب الحركة الوطنية وخاصة في حكومة الوفد التي جاءت إلى الحكم سنة 1936 ودرج على تسميتها حكومة الشعب. أما فيما يتعلق بقضايا المرأة، فلها فيها آراء قد يختلف معها القارئ المعاصر لما قد يجده فيها من صرامة مبالغ فيها(1). ولكن، هل كانت صرامتها مبالغ فيها؟ هل تجاهلت قضايا المرأة؟ لقد اختارت نبـويـة مـوسى ألا تشير إلى دورها في الحركة النسائية المصرية في كتابها تاريخي بقلمي، وآثرت أن تركز على مشوارها في نشر وتشجيع تعليم البنات. ما هي دلالات هذا الاختيار؟ وهل تدل على تبنيهـا فكرة كانت سائدة ومازالت، وهي أن قضية المرأة قضية ثانوية وأنه واجب علينا جميعاً تكثيف الجهد نحو القضايا الأكثر أهمية مثل الاستقلال، أو الفقر إلى آخره؟ وعلى الصعيد السياسي، هل كانت مع الاحتلال البريطاني لمصر؟ لقد كتبت مقالة ضمن سلسلة ذكرياتي المنشورة في مجلة الفتاة عنوانها: “الحرية في عهد دانلوب والاستعباد في عهد الاستقلال“(۲) تهاجم فيها سياسة حكومة الوفد التعليمية. هل يعني هذا أنها كانت تفضل السياسات الاستعمارية في توجيه التعليم؟

ولكي نفهم فكر نبوية موسى علينا أن نضع أمامنا الاعتبارات التالية:

أولاً: نحن نتحدث عن امرأة ناضلت بمفردها من أجل تحقيق هدفها في غيبة شبه تامة للمؤسسات المجتمعية المساندة. فعلى مستوى العائلة بوصفها مؤسسة أولى مساندة للفرد، كانت تنتمي إلى أسرة من الطبقة المتوسطة لم تملك من المال إلا قليلاً.

وقد عارضت أمها التحاقها بمدرسة السنية ثم وافقت مرغمة بسياسة الأمر الواقع، وأنفقت نبوية مالها على تعليمها واعتمدت في حياتها على معاشها من وزارة المعارف خاصة وأنها رفضت الزواج وقررت أن تكرس حياتها لخدمة التعليم. وعلى مستوى المؤسسة التعليمية، أو وزارة المعارف، لم تجد نبـويـة مـوسى الدعم المادي أو المعنوي للقيام بعملها في جو من الاستقرار والطمأنينة. فعلى الرغم من كونها موظفة في وزارة التعليم، مدرسة ثم ناظرة ثم مفتشة، وعلى الرغم من نجاحها المتواصل في إدارة مدارسها وفي تخريج دفعات متفوقة من الطالبات، فإنها كانت دائمة الاشتباك مع المسئولين والمفتشين في الوزارة حـول مسائل متعلقة بالمناهج والسياسات والنظم التعليمية المتبعة. وبالرجوع إلى مذكراتها، تاريخي بقلمی(۳)، يمكننا القول إنها بصدد ملحمة درامية من المعارك والصـراعـات المتواصلة بين نبوية موسى والمسئولين في الوزارة. أما على مستوى المجتمع والتقاليد بوصفها مؤسسة موجهة ومؤثرة على مجرى الحياة، فكانت نبوية موسى تسبح ضد التيار المناهض لتعليم البنات. وكان عليها في حيـاتهـا اليومية التعامل مع الآباء والمفتشين والمدرسين وما يحملونه من انحيازات وافتراءات وأفكار مسبقة عن المرأة ودورها في المجتمع. أقول هذا للتأكيد على أنها خاضت معاركها، لا على المستوى الفكرى فقط مثل الكثيرين من معاصريها بل على المستوى الشخصي، وحرمت من الأطر المساندة التي توفر هامشاً من الأمان في العمل العام.

ثانيـاً: إن نقطة البداية بالنسبة لنبوية موسى هي دائماً الممارسة والفعل، ثم تأتي الدعوة والتنظير. فنجد أن من أهم المقـومـات التي تميزها بالفعل عن الكثير من معاصـريهـا أنها في العديد من القضايا التي تبنتها، لم تسلك مسلك الدعوة إلى أفكارها بل مارست وفعلت في حياتها العملية ثم كتبت عن تجربتها وخبرتها. وباعتبار هذا، نفهم كماً كبيراً من أخطائها أو عدولها عن رأى أو موقف. نفهم أيضاً بصيرتها وقدرتها على اكتشاف وفضح التناقضات الصارخة في الخطاب السائد في تلك الفترة. إن للتجربة العملية أهمية خاصة في بلورة جدوى النظريات والأفكار بشكل عام. وفي هذا الصدد، قد يكون من المفيد تتبع تطور فكر نبوية موسى من خلال تتبع مواقف من حياتها المدونة في مذكراتها وفي مقالاتها المنشورة في مجلات مختلفة.

ثالثاً: مثل نساء رائدات أخريات، تأثرت نبوية موسى بالخطاب الوطني الليبرالي الموالي لفكرة تحديث المجتمع بواسطة تبني الأشكال المؤسسية والمعطيات الفكرية للمجتمعات الغربية الحديثة، باعتبارها نموذجاً يحتذى به وطريقاً يتبع من أجل نهضة المجتمعات العربية. ومن هذا المنطلق، كانت نبوية موسى من أشد المدافعين عن تحديث التعليم وإعطاء المرأة فرصة الالتحاق بالمدارس الحديثة، وذلك لتأهيل النساء لدخول المجال العام وتقلد الوظائف التي يشترط فيها الحصول على شهادات من المدارس المنشأة حديثاً. أيضاً، ومثل الكثيرين من أقطاب الخطاب الوطني، انتقدت نبوية موسى أثر الاستعمار البريطاني على سياسات التعليم في مصر، ولها مواقف كثيرة تشهد على مشاكلها ومعاركها مع ممثلي الاستعمار. لكنها مثل الكثيرات من النساء اللاتي شاركن في الحياة الفكرية والعملية في تلك الفترة – من أمثال ملك حفنى ناصف استطاعت أن تضع يدها على بعض الالتباسات والتناقضات في تناول خطاب النهضة لمسألة المرأة وعلاقتها بنهضة المجتمع. بالإضافة إلى ذلك، فهي تلمس التناقضات وتواجهها مثلما فعلت ملك. لقد بينت نبـويـة مـوسـى كـيف تأثر الخطاب الوطني الليبرالي ببعض المنطلقات الفكرية أو المقولات التي روج لها الاستعمار لإحكام سيطرته على البلاد، وكيف أعاد إنتاجها في تناوله لمسألة المرأة. وعلى هذا الأساس، وبالرغم من تبنى نبوية موسى العديد من منطلقات وأطروحات الخطاب الوطني الليبرالي، فإنه من المجـدى دائماً التدقيق في هذا الخطاب بشكل عام، خصوصاً تلك التنويعات التي اسقطت من السرد التاريخي والتي عبرت عنها النساء.

في هذه الورقة سوف أعرض بعض النقاط حول مفهوم نبوية موسى عن التعليم بوصفه وسيلة للتحرر، حيث أبدأ بإلقاء الضوء على مواقفها ضد الاستعمار وأثره على العملية التعليمية في مصر ثم أتطرق لنقدها لبعض الاتجاهات في الخطاب الوطني الليبرالي في تناولها لمسألة المرأة وتعليمها.

في العدد ٨٢ من مجلة الفتاة تقول نبوية موسى: “لقد كان حب مصر في الماضي جريمة يعاقب كل من يرتكبها أشد العقاب، حيث تمثلى ذكريات نبوية موسى بحكايات عن مشاكلها مع ممثلي الوجود البريطاني في مصر، ومع الناظرات الإنجليزيات وهي ما زالت طالبة في المدرسة، ثم مع مفتشى وزارة المعارف والمسئولين فيها، وكيف حاولوا الكيد لها عندما ظهرت عليها بوادر الاستقلال والقدرة على التفوق، وعدم رضوخها للتعليمات الاستعمارية السقيمة، وعدم سكوتها على الإهانة بسبب مصريتها، ثم إصرارها على نقد السياسات التعليمية في الوزارة، خاصة فيما يتعلق بالدور الذي يقوم به المسئولون الأجانب في توجيه السياسات وتخصيص الميزانية. فقد كتبت نبوية موسی مقالات كثيرة في المجلات النسائية، وأيضاً مجلات مثل السـيـاسـة والبـلاغ الإسبوعيتهاجم فيها أثر الاستعمار على التعليم بصفة عامة وتعليم البنات بصفة خاصة، مستندة في ذلك إلى تجـريتها العملية وآرائها الشخصية في هدف التعليم وجدواه. فنجد لها مقالة في البلاغ الأسبوعي تهاجم فيها أثر الاستعمار على التعليم العالي للمصريات وتروى تجربة ذكرتها في ذكرياتها عن حصولها على شهادة البكالوريا سنة ١٩٠٧. فبعد أن أتمت دراستها سنة 1906 في مدرسة المعلمات السنية وعملت مدرسة في مدرسة عباس الابتدائية للبنات بالقاهرة، اكتشفت أن مرتب خريجات مدرسة السنية أقل من مرتب خريجين مدرسة المعلمين العليا من الرجال (ستة جنيهات للمعلمات واثنا عشر جنيها للمعلمين) وذلك بحجة أن خريجي مدرسة المعلمين العليا حاصلون على شهادة البكالوريا، وبالتالي فهم يتمتعون بثقافة عامة لا توجد عند خريجات مدرسة السنية، حيث لم تكن هناك مدرسة ثانوية للبنات في ذلك الوقت، فاستعدت نبوية موسى للامتحان بمفردها وتقدمت له مما أثار ضجة ورد فعل في الأوساط التعليمية، ورفض طلبها في بداية الأمر، ونصحها دانلوب – مستشار وزارة المعارف – بسحب استمارة الامتحان، لكنها أصرت ونجحت فعلا في الامتحان. ولكن – كما تعلق هي على ما حدث في البلاغ الأسبوعي كان لنجاحها هذا أثره في نفوس المستعمرين، وكانت نتيجة ذلك الأثر أن اضطهدت الناجحة اضطهاداً عظيماً، وأن سد الطريق في وجوه غيرها من الفتيات (6)، ولم يسمح للفتيات بدخول هذا الامتحان حتى سنة ١٩٢٨. وفي مقالة أخرى في البلاغ عنوانها التعليم في مصر ومن يجب أن يتولى إدارتهتقول: “ليس من المعقول أن نقول إن أمة حاكمة تريد أن تصل بأمة محكومة إلى درجة من العلم تجعلها في مصافها من الأمم الراقيةفما سمعنا بأمة جلبت لنفسها أسـيـاداً يديرونها كيفما يشاءونينادي بعضهم الآن بإسناد إدارات التعليم إلى الأجانب ليصلحوها كأنها لم تكن في أيديهم منذ أربعين سنة كانت نتيجتها انحطاط قيمة ذلك التعليم (۷).

لكننا لكي نفهم موقف نبوية موسى من الاستعمار وأثره على التعليم المصري يتعين علينا أن نتوقف عند مفهومها للاستقلال على المستوى الفردي وعند ممارستها وتطبيقاً لهذا المفهوم. كانت نبوية موسى تركز اهتمامها على مقاصد التعليم في بناء الشخصية الحرة المستقلة وفي صيانة الكرامة وعزة النفس، وهي كلها أمور وجدت أنها لا يمكن أن تنمي أو تشجع في ظل وجود استعماری طاغي. فقد كتبت كثيراً عن تأثير الاستعمار على الأخلاق باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من التربية، حيث تذهب إلى أن الأخلاق لا تدرس في دروس تحفظ أو تلقن، ولكنها تؤخذ من النظم المتبعة في المدارس، ولهذا اعتادت المدارس التي تديرها أيد وطنية يهمها أمر البلاد، أن تأخذ من ذمم التلاميذ وأمانتهم وقوة إرادتهم رقيباً عليهم، فهي لا تحكم بالعصا والسوط، ولكنها تحكمهم بالعدل وغرس الفضائل في نفوسهم، فيتعالى التلاميذ عن أن يكذبوا أو يخالفوا القانون المتبع ما دام من أنفسهم على أنفسهم رقيب لا يغفل، وهذا مما يعلمهم الاستقلال في الرأي والاعتماد على النفس ويغرس في نفوسهم الصغيرة عزة النفس والشمم والإباء (٨). وتنتهى إلى أن هذه الأخلاق لا يمكن أن تتوفر في ظل الإدارة الإنجليزية للمعارف.

وكان الإصرار على زرع هذه الأخلاق وممارستها في مدارسها من أهم إنجازات نبوية موسي في العملية التعليمية. وقد دعت نبوية موسى إلى الاستقلال وعزة النفس في كتاباتها بواسطة سلوكها وتصرفاتها، حيث كانت تهزأ من المفتشين الضعفاء أمام رؤسائهم، وكانت شديدة الحرص على كرامة المدرسين أمام الطالبات، فلا تسمح لمفتشي الوزارة بإهدار كرامة المعلم أو المعلمة أمام التلاميذ، فإن النفس المستعبدة لا تخرج من التلاميذ إلا نفوساً ضعيفة لا تصلح للعمل ولا تفيد الأمة في شيء” (9).

وقد كتبت نبوية موسى مقالات كثيرة تنتقد فيها من ينقص من فضائل المصريين أمام الأجانب، أو من يفضل كل ما هو أجنبي على كل ما هو مصری، ای عقدة الخـواجـة(١٠). كما أشارت كثيراً إلى الإنجليزيات وكيف يداومن الحديث عن وطنهم بفخر واعتزاز، بل يذهب بعضهن إلى المبالغة في تمييز الشعب الإنجليزي عن بقية الشعوب، حيث تقص واقعة مع امرأة إنجليزية أفاضت في مدح أبناء وبنات شعبها ونفي الإجرام عنهم، وكذلك أي رديلة أخرى مقارنة بالشعب المصري. فلم تسكت نبوية موسى وسألتها ساخرة إن كان يوجد سجون في إنجلترا؟ كما انتقدت أيضاً النغمة السائدة في كتابات الكثيرين جداً من الكتاب حيث ينتقدون كل ما هو شرقي ويتبنون كل ما هو غربي. وفي مقالة عنوانها الإيحاء في التربية والسياسة” (١١). تـعـلـق علـى مقالة كتبها طه حسين يصف فيها معلم مصرى بالكسل والكذب، وتفسر هذه النزعة بضعف الشرقي تجـاه مـسـتـعـمـر قـوى. فالأمم القـوية الحاكمة توحي بما تريده إلى الشعوب المحكومة فلا تلبث تلك الشعوب أن تتغنى وتبالغ فيما أوحي به إليهم: (١٢). وتتبع عادات الأمم الحاكمة والتشبه بها.

وهي لم تنبذ كل ما هو غربي، ولكنهـا حـاولت أن تفرق بين تصـرفـات الغـربي والقواعد التي يتبعها في بلده، وتصرفاته وقواعده في البلاد التي يستعمرها. فقد كانت تتصدى للممارسات والقواعد الإنجليزية المطبقة على القطاع التعليمي من منطلق أنها ضد المقاصد السامية للتعليم، وبوعي منها بأن بعض هذه الممارسات تخص بها الشعوب المستعمرة. فالاستعمار لا يشجع التربية الاستقلالية في البلاد المحكومة بل يعمل على زرع بذور التبعية والهوان في نفوس الطلبة والطالبات. وفي مقالة عنوانها التربية الاستقلالية وأثرها في تكوين الشعب” (۱۳) تحكي نبوية موسى حادثة وقعت لها حين كانت هي ناظرة مدرسة معلمات الورديان، حيث زارها السيد دانلوب مستشار المعارف وأثناء مروره على الفصول لم تؤد الطالبات التحية العسكرية المتبعة في جميع المدارس الحكومية، فـأنيـهـا وطلب منها الاقتداء بالناظرات الإنجليزيات في تعويد التلميذات على أداء التحية. فقالت له: “إني اجتهدت في الاقتداء بهن اقتداء صحيحاً، فأنا بصفتي مصرية أرأس مدرسة مصرية أعمل ما تعمله الناظرة الإنجليزية في مدرسة إنجليزية، حتى إذا انتصرت مصر وحكمت الهند مثلاً وقمت برئاسة مدرسة فيها عاملت الطالبات هناك كما تعامل الإنجليزيات طالباتنا هنا، لأني أكون حينئذ مستعمرة ولا تنكرون جنابكم أن طالبات إنجلترا لا يؤدين التحية لزائر بل ولا يقفن له“.

اعتبرت نبوية موسى السكوت على محاولات ممثلي الاستعمار في الحط من شأن المصريين والمصريات جريمة في حق الوطن، فكانت لا تسكت، واستخدمت قلمها ولسانها واحياناً حيلها للتصدي لهذا النوع من الافتراءات. تقول نبوية موسى: كنت وكيلة لمدرسة معلمات بولاق مع ناظرة إنجليزية، فكانت كلما رأت من معلمة هفوة قالت لى (ألم أقل لك إن المصريات لا يصلحن للعمل؟) فكنت أظهـر التـألم من هذا القول واعتبره حطاً من كرامتي. فتقول لي، لتهدئ ثورة غضبي وتحملني على الدعاية ضد مصر، (إنك مستثناة)، فكنت أنفر من ذلك القول أيضاً لما أعلمه من أن مصريتي لا يشوبها أي شبهة من جنس آخر(١٤). وقد كانت تتصدى لهذه الأقاويل إما بالمنطق، أو بفضح تصرفات المعلمات الإنجليزيات وكشف أساليب التلاعب التي تمارسها الناظرات في تمييز الإنجليزيات على المصريات. وعلى الرغم من ابتعادها كما تقول – عن السياسة، فإن دفاعها هذا عن أبناء وبنات وطنها تسبب في أن يكون لها سمعة بأنها عدوة الإنجليز، وهي السمعة التي استخدمت ضدها في وزارة المعارف وكانت من أسباب فصلها، وتقول نبوية موسى في هذا: “ما أردت إلا شرح حقيقة اعتقدها بإظهار أن الرذائل صفات مشتركة بين جميع الشعوب لا يخلو منها شعب مهما كانت مكانته، ولكن الإنجليز يعلمون أن ذلك يعرقل سير دعـايتهم ضد المصريين، وهي أمـضـي الأسلحة التي يحاربوننا بها، وسكوتنا عليها مضيعة لحقوق وطننا المفدى، فيودي بمصالحنا الاقـتـصـادية ويوصـد الأبواب في وجـوه أفراد أمـتنـا وكـفى بذلك مـوتاً أدبيا (١٥).

فقد تصدت لأعتى الحيل الاستعمارية الممثلة في زعزعة الثقة بالنفس، وإقناع المستعمر بضعفه وهوانه على المستوى الثقافي والأخلاقي. وعلى صعيد آخر، كان لها الحنكة السياسية في تفويت الفرصة على ممثلي الاحتلال في إقصائهـا أو هدم مشاريعها. ومن أدل الأمثلة على هذه النقطة عدم اشتراك مدرستها في الإضرابات التي عمت البلاد خلال ثورة 1919. حيث اجتمعت مع المعلمين والمعلمات وقالت لهم: لست ممن يعتقدون أن الإضراب في المدارس مما يفيد البلاد، بل أنا أعلم أن البلاد في حاجة شديدة إلى التعليم، وأن المعلمين يجب أن يكونوا بعيدين عن الحركة الوطنية لأنهم يقومون بعمل وطني مجيد يجب أن لا ينصرفوا عنه لأي عمل آخر مهما جل، وذلك العمل هو تثقيف أمة أمية قد انتشر فيها الجهل إلى أقصى حدوده، فنحن في كفاحنا ذلك الجهل الشديد يجب أن تتفرغ له وأن لا ننظر إلى عمل غيـره. هذا ويهمنى أن لا تكون قدوة سيئة للطلبـة فنظهـر أمـام طالباتنا بمظهر الجبن والغش والكذب، لأني أعلم أن المعلمين هم الذين يحرضون الطلبة ثم يعاقب الطلبة وحدهم، وهذا جبن من المعلم وكذب ورياء يجب أن لا يعلمه عنه تلاميذه. فانتم الآن بين أمرين: إما أن تقرروا أني على حق في تجنبي الإضراب وتتبعوني عليه وإما أن تقرروا أني مخطئة وأن نقرر الإضراب، وفي تلك الحالة يجب أن نضرب نحن – أي الناظرة والمعلمين علنا دون خوف أو موارية، ولست أخرج عن إجماعكم الذي تجمعون عليه، فإذا اخترتم الأولى وهي العمل فيجب أن لا تكونوا ضعفاء لأن المعلم الضعيف لا يصلح للتدريس (١٦).

وقد يختلف الكثيرون معها حول موقفها هذا، وقد يستشهد به البعض للتدليل على ولائها للإنجليز والقصر، ولكن من المهم أن نفهم منطلقاتها والأسباب العملية وراء اختياراتها، حيث نكتشف من قراءتنا لذكرياتها أن لها مفهومها الخاص عن الوطنية والعمل الوطني، كما نلمس أيضاً السياق المعادي لعملها، ومحاولاتها تجنب ارتكاب أخطاء أو القيام بتصرفات تستفز المسئولين وتسمح لهم بإبعادها.

في مقالة لها منشورة في البلاغ الأسـبـوعي(۱۷)، تضع نبـويـة مـوسى يدها على خاصية مهمة جداً من خصائص الخطاب الليبرالي عن المرأة. حيث تقول:

لطالما ادعى الرجال في الماضي أن المرأة لا تصلح للأعمال العقلية لأنها أقل ذكاء من الرجال، مستشهدين على ذلك بأدلة أقاموها بفضل سلطانهم وقوتهم. كما يدعى الآن الغربيون عدم كفاية الشرقيين طمعاً في امتلاكهم والسيطرة عليهم، وهكذا كل قوى له أن يتجنى على الضعيف ما شاء، وأن يدعم تجنيه هذا بحجج قوامها القوة لا المنطق، حتى إذا اشتد ساعد ذلك الضعيف وتولى إدارة الأمور التي كانت تزعم القوة عدم صلاحيتها لها، ظهر في ضوء الحق بطلان ما كانت تدعيه القوة من الأوهام“.

فنبوية موسى تلمس بوضوح شديد العلاقة الوثيقة بين خطاب استعماری سلطوی مبنى على التمييز الحضاري والعرقي، وخطاب بطريركی سلطوی مبنى على التمييز النوعي بين النساء والرجال، ففي كلتا الحالتين، يسعى طرف قوى إلى فرض سيطرته على طرف أضعف في لحظة تاريخية معينة، مستخدماً في ذلك قوته واحتكاره لمنابر الثقافة والمؤسسات الاجتماعية التي تشكل الوعي وتوجه المجتمع. وهي بذلك الوعى تشترك مع نساء أخريات كتبن عن هذه العلاقة وسلطن الضوء على خطورة استيعاب المنطلقات الفكرية للاستعمار وتطبيقها على الفئات الأضعف في المجتمع. أشير هنا إلى كـتـابات ملك حفني ناصف في هذا الصدد وتحليلهـا العـمـيـق لأثر الخطاب الاستعماري على خطاب النهضة(١٨).

وقد أدى هذا الاستيعاب لمنطق الاستعمار في التعامل مع مسألة المرأة إلى اقتناع الرواد بالعلاقة بين تأخر المجتمع، وما رأوه من تدنى وضع المرأة في المجتمع. ولقد ركز معظم الكتاب على المرأة من الطبقة المتوسطة العليا أو الوسطى، وكـتـبـوا عن الهـوة الشاسعة بينها وبين الرجل من حيث المستوى التعليمي والثقافي، واعتبروا جهلها وتخلفها السبب الأساسي وراء مصائب المجتمع. ومما لا شك فيه أن هذا المنطق أدى إلى اهتمام جميع الرواد والرائدات بالتعليم وتشجيعه للبنات. لكنه من ناحية أخرى، أدى إلى اتجاه شائع أخذ على عاتقه توبيخ النساء لجهلهن وتمسكهن بالعادات السيئة ومظهرهن غير اللائق مقارنة بأزواجهن، ومن ثم تحميلهن مسئولية تخلف المجتمع بأسره، حيث نجد هذا الاتجاه في كتابات قاسم أمين وسلامة موسى بل نجده مضمراً في كتابات أحمد لطفي السيد أحياناً. وعلى نفس المنوال، اقتنع هؤلاء الرواد بفكرة استعمارية أخرى تربط بين حجاب النساء وتخلف المجتمعات العربية الإسلامية(١٩). ولأسباب عديدة، تحول الحجاب إلى رمز للهوية العربية الإسلامية وتبناه واقتنع به جميع الأطراف، المؤيدون له والمعارضون، وتحول الدفاع عن الحجاب أو الهجوم عليه إلى إعلان للانتماءات الفكرية والسياسية. وهنا أشير إلى صدور مجلة عنوانها السفور، وإلى استخدام صفة سفوريوحجابيلتصنيف المفكرين والكتاب، بل إلى استخدام بعضهم لكلمة سفوري أو حجابي في إمضاء المقالات في البلاغ الأسبوعي مثلاً.

تصدت نبوية موسي إلى ما رأته من تناقضات في الخطاب الوطني الليبرالي عن المرأة مثل تحميل النساء مسئولية التخلف، واستخدام الحجاب معياراً للتحرر، وموقف الكثيرين منهم من قضية تعليم البنات أية موضوعات وبأي هدف، وقضية عمل المرأة وعلاقة العام بالخاص.

أما بالنسبة للاتجاه الأول، أي لوم النساء لتخلفهن، فقد ارتبط هذا الاتجاه بإلحاح صريح على مقارنة النساء المصريات بالنساء الإنجليزيات، حيث تنتهى دائماً في صالح الإنجليزيات. وحياة نبوية موسى مليئة بمواقفها مع الناظرات والمعلمات الإنجليزيات وحرصها على دحض الافتراءات التي تروج عن المرأة المصرية وإثبات قدراتها. من أمثلة تصديها لنغمة لوم النساء، تتعرض لموضوع كتب فيه الكثيرون، وهو أن النساء المصريات يعيشون في عالم ملئ بالخرافات، وأن قصهن للحكايات الخرافية لأطفالهن له أثر سيئ على النشأ، ويزرع الخوف في قلوب الأولاد الذين هم رجال المستقبل، وينتهى الموضوع عادة بمقارنة هذا الأسلوب بالأسلوب العصري الحديث الذي تنتهجه المرأة الإنجليزية في التربية. وقد كتبت نبوية موسى عن الخرافات التي تعتنقها تلك المرأة الإنجليزية وأشارت إلى الحكايات الخرافية التي يربي عليها الأطفال الإنجليز، ثم تقول: “إن الأم المصرية لم تسئ بتلك الحكايات الخـرافـيـة إلى طفلها، ولم تعلمه بذلك الجبن، وإنما علمه الجبن والعجز ذلك الاستعمار الذي تغلغل في بلاده وسيطر عليها فاضطره إلى الخضوع للغاصب (۲۰).

أما عن الحجاب والسفور، فترفض نبوية موسى مثلما فعلت ملك حفنى ناصف استخـدامـه رمـزاً لتحرر المرأة، بل تضفي معناً جديداً على الكلمة وتفكك الأسس الفكرية لهذا الرمـز، حيث تقول: “عولت على أن أدعو إلى السفور بالعمل لا بالقـول“(٢١). لم تتطرق لموضوع الحجاب ولم تشر إليه إلا في كتاباتها الأخيرة. وقد كانت سافرة الوجه ومع هذا درج على تسميتها حجابية متطرفة، بعبارة أخرى، كانت عملياً ضمن مؤيدي السفور لكنها درجت في التقسيمات الأيديولوجية السائدة ضمن المعسكر المحافظ. وهي تحكي في ذكرياتها عن موقف طريف حدث في حفلة أقامتها بمناسبة افتتاح مدرسة ترقية الفتاة، فقد قام أحد المدعويين وألقى خطبة امتدح فيها قاسم أمين، وقد تعجبت نبوية موسى من مقالة في جريدة محافظة يتعجب فيها كاتبها من نبوية موسى تلك الحجابية المتطرفةلأنها سمحت لهذا الكاتب المجوني بالكلام في حفلتها“. وتعلق نبوية موسى على هذه المقالة وتشير إلى واقع السفور واستقبالها الضيوف في تلك الحفلة، وتستنتج أن كاتب هذا المقال الذي رآها في الحفلة في ملبس كـمـال ووقار فاستنكر أن يكون ذلك الكمال والوقـار سـفـورية (٢٢)، وتعتبر هذا دليلاً قاطعاً على وهمية الرمز وبعده عن الحقائق الملموسة لواقع النساء المصريات. وتشير نبوية موسى إلى أمر تم إغفاله في مناقشة الحجاب باعتباره رمزاً للهوية، وهو أن مناقشة هذا الموضوع تنحصر في نساء الطبقة المتوسطة والارستقراطية، فتقول:

إنك يا صاحبي ممن يسكنون القرى، فأختك وابنة عمك ووالدتك يقابلن الرجال بلبس لا يختلف عن لبسى أنا، أي أنهن لا يسـتـرن وجوههن، والقرويات ولا شك أربع أخماس المسلمات الموجودات في مصر، وإذا كنت تسمح لأربعة أخماس المصريات المسلمات بالسفور فلم تكتب عن الخمس الباقي وهو المدنيات وتقضي عليهم بالحجاب الوهمي الذي لا أثر له في الوجـود “(٢٣). ومـوضـوع الحجاب وطرحه بوصفه رمزاً تم استخدامه في المعارك الفكرية والسياسية موضوع يطول فيه الكلام، ويطرح تساؤلات عن العلاقة بين الرمز والمضمون، وعن توظيف مسألة المرأة لخدمة أغراض سياسية عن عملية إنتاج الرمـز وأهمية الوقوف عند أسباب إنتاجه ونشره. وفي مقام آخر، تعرف نبوية موسى الحجاب على أنه الحشمة. وهذا هو المفهوم الذي تبنته وطبقته في حياتها عملياً.

وتعد تعرية مناطق الضعف والالتباس في الخطابات السائدة من أهم مساهمات النساء، حيث تنتقد نبـويـة مـوسى اتجاهاً آخر في الخطاب الليبرالي الوطني، وتراه امتداداً للفكر الاستعماري حول قضية تعليم البنات والمناهج المختلفة في مدارس البنات والوظائف التي على المدارس تأهيل البنات لها. أي أنها تتصدى لوظيفة التعليم والهدف منه، هل الهدف من تعليم البنات الارتقاء بهم إلى درجة معينة تجعلهم زوجات أكثر قدرة على إدارة منازلهن وخـدمـة أسـرهـن؟ وقد كان هناك اتجاه يزكى فكرة التعليم المتوسط للمرأة أو التعليم الذي يؤهلها للقيام بوظيفتها المفضلة اجتماعياً كأم وزوجة. ومن هذا المنطلق، ظهرت فكرة إنشاء مدارس التدبير المنزلي، أو اعتبار التدبير المنزلي ضمن المواد الأساسية في تعليم البنات. وعلى نفس المنوال، برز اتجاه ينادي بإنشاء مدارس للخادمات(٢٤) والممرضات والمعلمات، وعارض مؤيدو هذا الاتجاه إتاحة فرص التعليم العالي للبنات، ودخولهن كليات الطب والحقوق والهندسة. وعارضت نبوية موسى بشدة فكرة التمييز بين مناهج البنات والأولاد، وعارضت دراسة البنات للتدبير المنزلي في بداية دراستهن، واعتبرت هذا شكلاً من أشكال الإعاقة لنمو فكر البنت وصقل موهبتها. لماذا؟ لأن نبوية موسي اعتبرت التعليم وسيلة لرقى المرأة وتحسين وضعها في المجتمع وذلك من خلال فتح مجالات جديدة أمامها، فيصبح التعليم أداة مهمة لتحقيق التغيير الاجتماعي. فمدارس التدبير المنزلى سوف توجه البنات مند البداية إلى الاستمرار في قبول أدوارهم الاجتماعية التقليدية، ولن تسمح لهن باكتشاف قدراتهن وتنمية مواهبهن التي قد تفتح لهن أبواباً من الخبرة والمعرفة المحرمة. وتتصدى نبوية موسى في نقدها لاتجاهات تقليص فرص البنات في التعليم، وتعرى التناقضات المتأصلة في الفكر الوطني الليبرالي تجاه قضية المرأة. فهي تهاجم بشدة القائلين بخطورة مخالطة النساء بالرجال في كليات الطب، إما بحجة عدم ثبوت كفاءة النساء في تلك المهنة، أو بحجة عدم تشجيع الاختلاط طبقاً للعادات أو الشرع، أو بحجة أن وظيفة النساء الأولى محصورة في البيت والأسرة. ونبوية موسى تلفت النظر إلى ازدواجية المعايير في هذا الخطاب، والانتقائية الفكرية التي يمارسها. حيث تقول: “لقد سمحت العادات الشرقية منذ زمن للفتاة المصرية بأن تكون ممرضة أو قابلة فتخالط الأطباء، وليتها تخالطهم مخالطة النظير لنظيره فتحفظ كرامتها وعفتهارضي الرجال للفتاة أن تكون مرؤوسةوإن طلبنا أن تكون الفتاة طبيبة تخالط الأطباء ولكن بصفة نظير أو رئيسقالوا إننا خرجنا عن العادات والدين، فأي دين قضي بذل النساء وامتهانهن وديننا دين عدل ومساواة“(٢٥). فهي تواجه هنا نغمة سائدة في خطاب مجموعة كبيرة من رواد الخطاب الوطني الليبرالي يشتركون فيها مع ممثلي الاتجاهات المحافظة تجاه قضية المرأة، وهو اتجاه يزكي تعليم المرأة والنهوض بها إلى حد معين، متمسكين بالحجج والأقاويل التي تؤسس للتمييز بين الجنسين.

تلتقط نبوية هذا الخيط بين اتجاهات سائدة وتعرى منطلقاته وتبين آليات استيعابه للسياسات الاستعمارية التي طبقها الاحتلال البريطاني في مصر. فقد كتبت نبـوية موسى كثيراً عن أثر الاسـتـعـمـار في عرقلة التوسع في تعليم البنات، خـاصـة في التحاقهن بمؤسسات التعليم العالي، واعتبرت السياسات الإنجليزية في التعليم دليلاً قاطعاً على محاولات فرض السيطرة والتبعية على المصريين.

ومن الجدير بالذكر أن السياسات التعليمية البريطانية كانت موضعاً للمناقشة والتحليل من قبل مفكري هذا العصر. وكان للتعليم الأهلي دور يتمثل في موقفه من هذه القضايا الخلافية وأهميته ووظيفته في النضال الوطني. وفي خطبة ألقيت في الاحتفال الأول بمدارس الجمعية الخيرية الإسلامية، يتحدث الشيخ محمد عبده عن أهداف المدارس الأهليـة ويوضح أنها لا تسعى إلى إعداد الموظفين لشغل الوظائف الحكومية وإنما تهدف إلى مساعدة التلاميذ على إتقان أعمالهم أياً كانت(٢٦). لقد كان من الواضح للكثيرين أن السياسة التعليمية البريطانية ركزت على تشجيع التعليم المتوسط، أو التعليم الذي يخرج رجالا ونساء يحتلون الوظائف الوسطى لا الوظائف القيادية أو المهن المتخصصة، مع بعض الاستثناءات بطبيعة الحال. ونبوية موسى تلمس هذه الخاصية في سياسة المستعمر وتهاجمها بضراوة عندما يطبقها مصريون. بالإضافة إلى ذلك وكما ذكرت من قبل تكشف نبـويـة مـوسى عن أثر الفكر الاستعماري على الخطاب الوطني: فكما يحاول الإنجليز، بدعوى الاهتمام بمساعدة المصريين على التقدم، توجيههم نحو نظم تعليمية لتخريج الموظفين الذين يحتاجونهم في تيسير إدارة الشئون المصرية مع الاحتفاظ بالمهام القيادية ذات السيادة، يحاول بعض ممثلي الخطاب الوطني تشجيع تعليم البنات إلى درجة معينة تسمح بتحسين أداءهم في المهام المتعارف على ارتباطها بالنساء، مع الحفاظ على تقسيم الأدوار الاجتماعية وعلاقات القوة غير المتوازنة بين الجنسين.

وقد حاولت أن أتعرض لبعض أفكار نبوية موسى عن التعليم في سياق عصرها المهموم بقضايا الوطن، المرأة، الاستقلال. فهي مثل معظم أبناء وبنات جيلها، كان عليها إيجاد معان جديدة، وكان عليها تشكيل حياتها في جو ملئ بالصراعات ومشحون بالثنائيات الصارمة الأصالة / المعاصرة. المجتمع الحديث / المجتمع التقليدي، الأنا المصرية / الأنا الغربية. وقد حاولت في هذه الورقة تقصي محاولاتها لاستكشاف طريقها وسط التصنيفات السائدة. فقد تبنت نبـويـة مـوسى كثيراً جداً منطلقات الحداثة في التعليم، مثل العلاقة بين العام والخاص، لكنها سعت جاهدة إلى صياغة تعريفات دقيقة للكلمات والمفاهيم، وحاولت إضفاء معان جديدة على كلمات مستخدمة ومفاهيم سائدة، أو تشكيل معان مغايرة لما هو شائع في سياق ثقافي واجتماعي محمل بالدلالات والإيحاءات. لقد أدت محاولتها لكسر الثنائيات المفروضة وعدم إقرار الولاء لأى من أطرافها إلى تهميشها في التاريخ بل إلى إدانتها في بعض الأحيان. فلكي نفهم نبوية موسى، ونساء أخريات معاصرات لها، يجب علينا التحرر من الفكر الثنائي الذي كان وما زال يسيطر علينا.

(1) انظر مقالة رانيا عبد الرحمن في هذا الكتاب.

(2) في مجلة الفتاة، العدد ٧٤، من، ۲۲۰۲۳

(3) نبوية موسي، تاريخي بقلمي، طبعة أولى د. ت. القاهرة، ملتقى المرأة والذاكرة، ١٩٩٩.

(4) “جناية وطنية في الفتاة، العدد ۸۲، ص ۱۹.

(5) نبوية موسى المصريات والتعليم العالي، البلاغ الأسبوعي، الجمعة 2 مارس، ۱۹۲۸، ص ۲۰.

(6) المرجع السابق.

(۷) نبوية موسى التعليم في مصر ومن يجب أن يتولى إدارته، البلاغ الأسبوعي، الجمعة 18 مارس ۱۹۲۷ ص ۳۲.

(۸) نبوية موسى تأثير الاستعمار في التعليم والأخلاق، البلاغ الأسبوعي، الجمعة ٢٧ يوليو ۱۹۲٨ص. ۲۹

(9) نبوية موسى كيف تهان كرامة رجال التعليم، الفتاة، العدد 58 .

(۱۰) البلاغ الأسبوعي، الجمعة ٢١ بنابر ۱۹۲۷، ص. ٢٤.

(۱۱) في البلاغ الأسبوعي، الجمعة 10 فبراير ۱۹۲۸، ص. ۰۲۱

(۱۲) في البلاغ الأسبوعي، الجمعة 17 فبراير ۱۹۲۸، ص. ۲۰.

(۱۳) في البلاغ الأسبوعي، الجمعة 18 فبراير ۱۹۲۷، ص. ۰۳۱

(١٤) في البلاغ الأسبوعي، الجمعة 4 مارس ۱۹۲۷، ص ۳۲.

(١٥) المرجع السابق،

(١٦) في تاريخي بقلمی، ص. ٢٣٥ – ٢٣٦.

(۱۷) في البلاغ الأسبوعي، ۱۱ مایو ۱۹۲۸، ص، ۰۲۸

(۱۸) انظر باحثة البادية، لهدى الصده، في النسائيات ملتقى المرأة والذاكرة، 1998. (۱۹) انظر ما كتبته ليلى أحمد عن الدور الذي لعبه اللورد كرومر في توجيه التصورات عن المرأة الشرقية، في المرأة والجنوسة والإسلام، ترجمة هالة كمال ومنى إبراهيم، المجلس الأعلى للثقافة، 1999.

(۲۰) تنمية خيال الأطفال بالحكايات الخرافية، في البلاغ الأسبوعي، 6أبريل ۱۹۲۸، ص.20.

(۲۱) تاریخی بقلمی، ص، ۰۸۲

(۲۲) في مجلة الفتاة، العدد 111

(۲۳) المرجع السابق.

(٢٤) سید قطب، توحيد برامج التعليم للجنسين، البلاغ الأسبوعي، ۲۰ مارس ۱۹۲۹، ص. ۲۸ .

(٢٥) “المرأة والعمل، المطبعة الوطنية الإسكندرية، ١٩٢٠،ص. 69.

(٢٦) انظر كتاب سعيد إسماعيل على، دور التعليم المصري في النضال الوطني: زمن الاحتلال البريطاني، في سلسلة تاريخ المصريين، الهيئة العامة للكتاب، 1995، ص. ٤٨.

 

منی نجیب میخائیل

المرأة والعملوامرأتنا في الشريعة والمجتمعمن أندر وأهم ما كتب في أوائل القرن العشرين حول وضع المرأة العربية.

نبوية موسى رائدة مصرية، والطاهر الحداد مجاهد تونسي، نجحا في تقديم البراهين للتدليل على تعليم وتثقيف المرأة وتحريرها من القيود البالية لكي تؤدي دورها وحقها في بناء مجتمع سوى والنهوض به.

إن ما جاء على لسان الكاتب والمفكر د. نصر حامد أبو زيد في كتابه المرأة في خطاب الأزمـة (1) ليعطينا إطاراً يفيدنا في إعادة قراءة أعمال هذين الكاتبين الرائدين وتقييم نظرتهما المستقبلية. إن خطاب الطاهر الحداد عن المرأة – بعد قاسم أمين بحوالي ثلاثين سنة – استطاع أن يـتـجـاوز إلى حد ما مسألة التأويل المضاد أو القراءة الأخرى.. ويطرح مفهوم النسبية والتاريخيةفي تفسيره للأحكام الخاصة بالمرأة.

إن وضع المرأة في الشريعة والمجتمع مـا زال وسيبقى مسألة محورية يتناولها مفكرون وكتاب من مختلف الخلفيات وشرائح المجتمع. فعلى سبيل المثال من الكتاب الذين تنشر أفكارهم في صورة كُتيبات رخيصة تباع على أرصفة، فتصبح في متناول الجميع، وتفشى فكراً وآراء مختلفة كلية عن الفكر التقدمي الواعي لأمثال نبوية موسى والطاهر الحداد، يجئ على سبيل المثال كتاب أنور الجندي، المرأة المسلمة في وجه التحدياتحيث يقول: في نهاية القرن العشرين إن كل الإحصائيات التي قامت بها الدوائر المختصة قد كشفت عن عجز المرأة، وأن عملها في مُجمله لا يحقق للأمة أي نتيجة. فالمرأة ذات الكيان الخاص والطبيعة الخاصة يجب أن تكون لها مناهجها الدراسية المختلفة عن مناهج الرجال، والتي يجب أن تعمل على إعدادها لمهمتها الأساسية والخاصة التي هي أكبر من العمل، تلك هي الأسرة والأمومـة وتنشئة الطفل وإعداد المنزل (۲). هذا بالطبع يتطلب منا وقفة نابهة لما يحيط بنا من أفكار ومواقف غاية في الأهمية والخطورة.

إذًا أود أن أعرض في سياق هذا البحث قراءة متقاطعة إن جاز التعبير، لثلاثة من مفكري القرن العشرين الذين تناولوا مسألة المرأة، وهم نبوية موسى والطاهر الحداد والكاتب أنور الجندي كمثال لفكر ينتشر شعبياً من خلال ثلاثة محاور المرأة والعمل، المرأة والحجاب . المرأة والعلم. وسأحاول إقامة حوار افتراضی “a virtual conversation” بين نبوية موسى/ الطاهر الحداد وأنور الجندي!

الطاهر الحداد ولد بتونس في عام 1899 وكان قد التحق بجامع الزيتونة سنة ١٩١٢، وتخـرج بشهادة التطويع سنة ١٩٢٠، وقـد كـان شـاعـراً امـتـاز شـعـره الوطني والاجتماعي بالتدفق ومتانة السبك. كما أسهم في الحركة النقابية الوطنية واتخذ من الدفاع عن المرأة والعمال منطلقاً للكفاح في سبيل تحرير وطنه تونس، وقد ألف كتابين: “العمال التونسيونوامرأتنا في الشريعة والمجتمع، مما أثار ضده ضجة كبيرة من قبل المحافظين حتى إنهم جردوه من شهادته، وأغلقوا في وجهه سبل العيش، فاضطر إلى العزلة حتى وفاته سنة ١٩٣٥.

إن مواقف ومقولات الحداد التقدمية التي جاءت في أوائل القرن العشرين تضع كلمات أنور الجندي السابق ذكرها حول طبيعة المرأة الخاصة التي يجب أن تكون لها مناهج دراسية مختلفة عن مناهج الرجال في موقف حرج.

حيث يأتي الطاهر الحداد وكأنه يرد بالحرف الواحد على موقف أنور الجندي ويقول له: “يجب أن تتعلم المرأة العلوم الرياضية والطبيعة حتى يتثقف عقلها بالمنطق ومعرفة الأشياء على حقيقتها، فإذا أنارت المعرفة قلبها واهتمت نفسها بأهم الأشياء، فلا تعود تنظر إلى ما دون ذلك عرضاً. وأنها تزدريه بتاتاً حيث يزول من عـقـلـهـا أن المطـر يـنـزل من عين تحت العرش وأن الرعـد ملك أبكم، وأن السـحـر وحساب الرمالين وأخبار الدراويش بالقبب لهم وقدرتهم على النفع، وغير ذلك من الأوهام التي يظن أنها حقائق مسلمة يجب الإيمان بها. فإذا ما وصلت المرأة إلى هنا عكست من هذا النور على أطفالها بين يديها، وكانت عوناً لهم على النهوض العقلي والنفسي الذي يتم بالتعليم“(3)

وتنضم نبوية موسى للفكر التقدمي للطاهر الحداد، وتأتي علينا مبكرة نصف القرن قبل أنور الجندي، فهي أيضاً تحث المجتمع ككل على التقدم وبخاصة المرأة. ففي كتابها الشهير المرأة والعملتقول بكل ثقة لا يكفي أن ننصح للفتاة بفتح الشبابيك ما لم تتعلم شيئاً مفيداً عن الطبيعة والكيمياء وتركيب الهواء وخواصه وتأثيره في الجسم، وهي لا تفهم ذلك حق الفهم إلا إذا تربت مـداركـهـا بالعلوم الابتدائية، كما أنها لا يضرها أن تنصح بتنظيف الأواني والاحتراس من ترك بعض الحوامض في الأواني النحاسية والابتعاد عن ترك نور الغاز في غرفة النوم لما يخرج من الكربون أو غير ذلك، فإن كل هذا النصح لا موقع له من قلبها ما لم يكن لها من عقلها مرشد وحاث على مثل هذه الأمور“(4)

وهنا الكلام في غني عن التعليق، حيث يبدو كأن نبوية موسى والطاهر الحداد كانا يتنبئان بالمخاطر التي تحيط بالمرأة اليوم من فكر متجمد، فأسرعا بإعطاء دلائل علمية بتفاصيل قد تبدو اليوم ساذجة بعض الشئ، لكنها بالنسبة لما يأتي في كُتيبات الأرصفة غاية في التنور!

وهكذا ساهمت نبوية موسى كبيرة المفتشات بوزارة المعارف منذ انطلاقها مع بداية القرن العشـرين في إثارة جـدل واسع بين المحافظين والمتعنتين، مطالبـة بالمساواة للمرأة في التعليم والعمل، والتخلص من آفات الوضع المتخلف الذي يهمش مكانتها الاجتماعية.

لقد دفعت نبوية موسى الثمن غالياً لمواقفها التقدمية، ففي عام ١٩٢٦ فصلت من وظيفتها، ولم تكن المرة الأولى التي يتعرض لها فيها الاستعمار الإنجليزي، فقد سبق أن نقلوها من الإسكندرية إلى القاهرة في قطار خاص بحجة خطورتها على المصالح الاستعمارية إبان اندلاع الحركة الوطنية عام 1919، خاصة وأنها كانت معروفة لمواقفها، وقد رفعت دعوة تعويض ضد وزارة المعارف أمام محكمة مصر الأهلية، وكشف محاميها خيوط المؤامرة الواسعة التي دبرها بعض كبار رجال الوزارة بالتعاون مع الإنجليز لإبعاد نبوية موسى نهائياً عن مجال التعليم عقاباً لها على مواقفها الوطنية(٥).

وتكاد تكون متنبئة تلقي الضوء على تفاصيل وخصوصية العمل المضر بالفتاة وهي سابقة لعصرها حين طالبت بتفادي المهن التي تسخر النساء للعمل في مجالات غالباً ما تُسئ لصحتهن، كما نرصد في هذه الأيام حملات تُشن في الغرب ضد الشركات متعددة الجنسيات التي تستعين بأطفال ونساء في بلدان آسيا في صناعات تتطلب أنامل ناعمة لإنتاج متطلبات الرياضة مثل كرة القدم لشركات مثل – Aalidas . Nike

فتأتي نبوية موسى قبل عصرها، سابقة لزمنها بأكثر من نصف قرن وتقول: “ماذا تستفيد الطفلة من التطريز وهو مضر بصحتها، مضر ببصرها، مؤثر في نموها الطبيعي، فإن صغر الغرز وإتقانها يضطر الفتاة إلى الانحناء على العمل واقتراب نظرها فيه، وهذا يعقبه تشوه في شكل الظهر، وضرر عظيم بالعينين لتدقيق النظر في هذه الغرز الصغيرة والألوان المختلفة، من أصفر، وأحمر، وأزرق، فضلاً عن أن القماش على تلك الآلة المسماة بالمنسج يجعل خيوط نسيجه صلبة، فلا تتمكن الإبرة أن تنفذ من بين المسام كما هو الحال في الخياطة مثلاً، بل تخترق الخيط نفسه فيخرج من ذلك أتربة رفيعة، حتى إذا وصلت إلى الرئتين أضر بها ضرراً بليغاً(6).

وحبذا لو اليوم اهتمت الجمعيات الخيرية التي توظف آلاف من الفتيات والنساء والأطفال بصحة هؤلاء مثل ما أوصت هذه الرائدة النابهة.

إن الاهتمام والتدقيق بصحة الفتاة وكيانها هو دليل آخر عن صـدق وعمق انتمائها لمسألة المرأة، وإخلاصها ووعيها في الوقت نفسه، حيث تلفت نظرنا إلى عدم جدوى التطريز بالذات، الذي طالما كان ولا يزال في كثير من البلدان العربية يحوز اهتماماً خاصاً للجمعيات الخيرية، فهي تؤكد أن هذا العمل لا ينمي عقل الفتاة بل يميت مواهبها ويعلمها الكسل، فالفتاة أثناء العمل تحصر نظرها وفكرها في دائرة صغيرة لا تتجاوز نصف المتر المربع (۷).

أما الطاهر الحداد الذي اضطر إلى العزلة حتى وفاته عام ١٩٣٥، فقد تحدى الآراء المتعفنة المحيطة به وطالب بالخروج إلى النور: “يجب أن لا تبقى هكذا في الظلام، ولا يكون هذا إلا إذا حاسبنا هذا الماضي الطويل العريض وقدرنا حقيقة موقفنا الحاضر باعتبارنا أمة تريد أن تحمي وتفوز، ولا فوز لأمة يبقى نصفها عاطلا عاجزاً، ولا يمكن الخروج من هذا الحال إلا بتعلم المرأة، مع تقدير أهمية مركزها العمراني والاجتماعي في الأمة عندما نضع منهاج هذا التعلم (8). ويواصل الحداد مناشداً مواطنيه وموبخاً المتطرفين منهم المنغلقين على أنفسهم: أيها التونسيون، ما أكبر فضيحتنا بين أمم العالم التي تسعى للحياة والعزة من طريقهما الموصل. فنحن مازلنا حتى الساعة معجبين بما تركه لنا تاريخنا من عقائد وميول ننسبها للإسلام زوراً لنتقى بذلك صدمة الحق الغلاب(9).

وكأنه يرد عبر العصور في مجادلة افتراضية مع أنور الجندي الذي يعيد ويكرر دعوته لرجوع المرأة وراء أسوار البيت في نهاية القرن العشرين.

وهو يبرر ذلك ببعض القراءات المغلوطة لما يأتي على بعض ألسنة أناس متطرفة في الغرب، كما لو كان علينا دائماً أن نبرر مواقفنا مهما كانت اتجاهاتنا بما حمله علينا هذا الغرب!

منذ وقت طويل والصيحات تتعالى في الغرب تطالب فيها المرأة بالعودة إلى البيت، المرأة هي التي تطلب العودة بالرغم من كل وسائل المواصلات المتاحة وأجور التفرغ وغيره من الامتيازات، وقد جاء ذلك نتيجة إحساس داخلي بالضياع وفقدان الهوية” (١٠).

وتأتي نبوية موسى لتفرض نفسها على هذا الحوار وترد، ليس فقط على أنور الجندي ولكن على كل من تصدى لهذه المسائل، حيث يأتي في الصدارة موقفها الواضح في المطالبة بحق المرأة في العمل ليس فقط لتعول عائلتها ولكن بالأخص بوصفه وسيلة لتحقيق الذات وتثبيت الهوية، وتؤكد كل هذا بسخرية لاذعة مع خفة دم مصرية صميمة:

إننا لا نضمن لكل امرأة وجود من يعولها من الرجال، كما يقول بعض الناس إن المرأة يمولها والدها، فزوجها، فولدها… (ثم تضيف) هل أخذنا على الموت عهداً بذلك فضمن لنا الميثاق أنه لا يختطف روح مسلم إذا تزوجت ابنته؟! ثم أمَّنا الدهر بعد ذلك فعلمنا أنه لا يغدر بفتاة مطلقة بعد الزواج وتصبح لا عائل لها أو يموت الزوج وأولادها أطفال صغار يحتاجون إلى من يعولهم…” (۱۱)

وهنا يحضرنا الضجة المثارة في السنوات الأخيرة للقرن العشرين حول قوانين الأحوال الشخصية، وعمل المرأة والحجاب، ومعظمها صوبت هجومها على حركات تحرير المرأة في عصر التنوير والنهضة وبالذات على رموزها من النساء والرجال. فتستروا وراء الأزمات الاقتصادية والمصاعب والضغوط التي تحاصر المجتمعات وبالذات الرجال الذين يعانون من البطالة، وصوبوا اتهاماتهم للمرأة بوصفها المسئولة الأولى عن هذه الآفات.

إن السبعينيات والثمانينيات والتسعينيات شاهدت حملات شرسة تشبه الحملات التي واجهتها نبوية موسى والطاهر الحداد في أوائل القرن.

إن أهم ركائز الهـجـوم على انطلاق المرأة هو الادعاء بأن قادة النهضة اتهـمـوا باستسلامهم للتأثير الغربي ثقافياً وفكرياً وحضرياً، وكأن نبـويـة مـوسى تتنبأا مـرة أخرى بتلك الهجمات، كما اشتبكت في جدال مع نظيرها فريد أفندي وجدي، الذي أكد آنذاك أن المرأة كائن شريف جعل لإكثار النوع الإنساني، ولا يستطيع الرجل أن يباريها في ذلك، فترد مرة أخرى ساخرة فهل المرأة وحدها تستطيع إكثار النوع الإنساني؟ وإن كان هذا التعريف يشمل الرجل لمشاركته لها في هذا الإكثار، فهل يصح أن نقول إن الإنسان كائن شريف جُعل لإكثار نوعه؟ وهل يكون هذا تعريفاً للإنسان أم هو يشمل كل حيوان آخر، إذن فما الفائدة من هذا التعريف؟” (۱۲).

وهذا يبدو صـدى لما جاء على لسان أنور الجندي حينما يقـول: “الإسلام لا يقر عمل المرأة إلا في حدود ضيقة هي الإعالة لنفسها أو لأهلها، ويشترط أنواعاً معينة من العمل، هو وضع مختلف تماماً عن ظاهرة تشغيل النساء القائمة حالياً“.

وكأن نبـويـة موسى كانت مستعدة بالإجابة لمثل هذه المواقف حينما قالت: “إن المصريات ليست ممنوعات من جميع الأعمال الساقطة الشاقة وهذا ما يدل على أن المرأة مدفوعة بحكم الضرورة إلى العمل. ولما لم نعلمها عملاً مريحاً، فقد قامت بتلك الأعمال الشاقة المتعبة التي لا تحتاج إلى تعليم، فهن (وعاملات أمريكا التي تباكى عليهم فريد أفندي وجدى) في ذلك الشقاء سواء، ولم تمنع النساء عندنا إلا من الأعمال الراقية فقط التي تحتاج إلى خبرة ودراية كتحرير (الجرائد) وإدارة المحال التجارية والمعاهد العلمية والطب الراقي والتوظف في مـراكـز الحكومة السامية والاشتغال بالمحاماة. وتحريمنا العمل عليهن دفعهن إلى العمل الشاق المتعب الذي لا كسب فـيـه إلا الكفاف، فهل هذا عدل؟ وهل يدعو إلى ذلك من يدعي أنه يهتم براحة النساء؟ (۱۳).

إن نبوية موسى كانت تحبذ استقلالية المرأة بصرف النظر عن كونها متزوجة أم لا، فمن حقها العمل لكي تستقل اقتصادياً، فهي ممكن أن نقول عنها إنها نصيرة الsingle woman ، وأن العمل بوصفه قيمة في حد ذاته كفيل بأن يزود المرأة بكيان مستقل، واعتزاز بالنفس.

أما رياء فريد أفندي وجـدي وأسلافه الذين يـتـبـاكـون على النساء في أمريكا اللاتي يكافحن النار، فيتناسون المرأة المصرية التي تئن تحت عبء ثقيل من الفاكهة والخضراوات وتتقاذفها الطرقات ويتناولها سفهاء الرجال بأنظارهم وأيديهم“.

أما عن مسألة الحجاب فقد تناولها الطاهر الحداد بإمعان في فصل كامل في كتابه الشهير امراتنا في الشريعة والمجتمع وظهر جلياً أن الحجاب بشكله الحاضر ليس إلا إغراء للأنظار وبرقع للص يحميه في غدوه ورواحه من معرفة عينه ليقع أمام القضاء العادل، فما الذي بقي أن تضع به بعد الآن” (١٤).

ويضيف ما أقبح ما نوحي به إلى قلب الفتاة وضميرها إذ نعلن اتهامها وعدم الثقة إلا في الحواجز المادية التي تقيمها عليها” (١٥).

على أن الطاهر الحداد يؤكد أهمية إلمام المرأة بتعاليم دينها قائلاً يجب أن تعرف المرأة أصول دينها وتاريخه ولغة قومها وتاريخ بلادها وجنسها، على الوجه الذي يبث فيها الحياة ويبعثها على استعادة مجدها الغابر والتمسك به كتمسكها بحب الحياة” . أما نبوية موسى فقد قالت عن قصة الحجاب:

ذلك الزي المصطنع والنقاب التمام الذي يدل على الكذب والغش أكثر من دلالته على الستر واتباع الدين، فـزى الفلاحة الفطري ومـشـيـتـهـا الطبيعية أدعى إلى احترامها منه إلى استمالة الناس إليها” (١٦).

على أن نبوية موسى كانت لها آراء متضاربة حول الحجاب فتقول: “نصحتها بلبس الحجاب الشرعي فكانت النتيجة أن تفننت في هذا الحجاب حتى أصبح أشد ضرراً على الآداب من سابقه، لهذا لا أرى من الحزم أن أنصح للفتاة به، ولكن أقول لكم علموها العلم الراقي لتنصرف إليه عن الزخرف والزينة وتترفع على أن تكون العوبة في نظر المارة فتظهر بمظهر الحشمة والوقار…”(۱۷).

وفي الفصل الرابع من كتابه المرأة المسلمة في وجه التحديات الصادر عن دار الاعتصام (۱۹۷۹). يشير أنور الجندي على المرأة

بألا تكشف عن زينتها ومفاتنها أمام الغرباء إلا ما يظهر منها بطبيعة الحال، وكل ما عدا الوجه والكفين في المرأة عورة، إذا أمنت الفتنة، وشرط ألا تكون في حالة تثير الفتنة كأن تكون بارزة الجـمـال أو تظهـر أمـام فساق يغلب على الظن أن يتأملوها بشهوة” (۱۸).

ثم يضيف ولما كانت مسئولية كل مسلم في المحافظة على أخلاق المجتمع كله فقد وضع الإسلام ضوابط للزي:

أن لا يكون كاشفاً للعورة أو جزء منها، وعورة المرأة الحرة جميع بدنها، وعلى ذلك فإن أي لباس يكشف معه شعر المرأة أو ساعدها أو ساقها يعتبر لباساً ممنوعاً محرماً لما فيه من دعـوة ضـمنيـة إلى الرذيلة والتحلل الخلقي الذي لا يستطيع الآخرون معه الحفاظ على أخلاقهم وعلى أخلاق أسرهم وأبناء مجتمعهم” (۱۹).

وهذا الموقف يلخص رأى شريحة كبيرة من المواقف الأصـوليـة التي انتشرت وترسخت في المجتمعات في العقود الأخيرة للقرن العشرين.

مجاهد تونسي، ورائدة مصرية، أمام تحديات الانغلاق والتعتيم. أمضيا حياتهما في الدفاع عن قضية آمنوا بها، وقدما تضحيات جمة من أجل تثبيت مواقفهما التي نرى أنها مازالت تحاصر المجتمع بالرغم من مرور حوالي قرن عليها.

فقد قدما البراهين للتدليل على أهمية تثقيف المرأة وتحريرها لتؤدي دورها في بناء مجتمع صحى وسوی.

إن خطاب الطاهر الحداد نجح في تفسير جوهر النصوص الدينية الخاصة بالمرأة، وحدد طبيعة الإطار الاجتماعي الثقافي الدنيوي والديني.

وكذا نبوية موسى في خطابها عن أهمية عمل المرأة ورفعه إلى أسمى درجات حقوقها بما هي إنسانة لها مكانتها في المجتمع، ولتحقيق ذاتها قبل وفوق كل شئ. وهنا نرى كيف نجحا في تجاوز مسألة التأويل المضاد والقراءة الأخـرى كـمـا وصفها نصر أبو زيد.

(1) د. نصر حامد أبو زيد، المرأة في خطاب الأزمة، القاهرة، دار نصوص للنشر، ١٩٩٤. (۲) أنور الجندي، المرأة المسلمة في وجه التحديات، القاهرة، دار الاعتصام، سلسلة المرأة المسلمة ۱۹۷۹، ص٧٤.

(3) الطاهر حداد، امرأتنا في الشريعة والمجتمع، ص٣٠٥.

(4) نبوية موسى، المرأة والعمل، الإسكندرية، المطبعة الوطنية، ۱۹2۰، ص۸۰۰۸۱

(5) شكري القاضي، خمسون شخصية مصرية، القاهرة، الهيئة العامة للكتاب، ۱۹۸۱، ص۱۲.

(٦) نبوية موسى: س۰۸۰

(۷) المرجع السابق، ص۸۷.

(8) الطاهر حداد، ص2۳۰ .

(9)المرجع السابق، ص۰۲۱۸

(۱۰) انور الجندي، ۱۹۷۹

(۱۱) نبوية موسى، ص۸۲.

(۱۲) نبوية موسى، ص۰۲۸

(۱۳) نبوية موسى، ص۳۰

(١٤) الطاهر حداد، ص۱۸۷

(١٥) المرجع السابق، ص۱۸۲

(١٦) نبوية موسى، ص٦٨.

(۱۷) المرجع السابق، ص۲۰

(۱۸) أنور الجندي، ص٦١.

(۱۹) المرجع السابق، ص٦٢.

شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات