نحو وعي نسوي : أربع سنوات من التنظيم والتعليم السياسي النسوي
تاريخ النشر:
2021
ديسمبر2021
تمر اليوم ذكرى مرور أربع سنوات على إنشاء مشروع نحو وعي نسوي كمشروع نسوي وكويري عابر للحدود. رغم صعوبة الظروف التي قام فيها هذا المشروع خصوصاً مع واقع الحصار السياسي الاستعماري (في الصحراء الغربية) والعسكري (في موريتانيا) وغياب المساحات السياسية التي تُمكن من التنظيم النسوي، إلا أن المُمكن الثوري لا يمكن أن يُختصر أو يُحدد في إطار معين طالما أن الإرادة الثورية موجودة.
كان الشعار الذي أقيم على ضوئه هذا المشروع هو “انضم لتنظيم ثوري وإن لم تجده انشأ واحداً”، وفي السياق الصحراوي على الأقل لم نجد أمامنا تنظيم أو تجمع نسوي يمكن أن ننضم له أو نبني على أساسه فكان لازماً علينا أن نأخذ زمام الالتزام الثوري، وأن نبدأ بإنشاء تنظيم يضم رؤيتنا السياسية لمشروع التحرير كمشروع شامل للجميع تحرير أرضنا وامتلاك مواردنا وتقرير مصير أجسادنا وجنسانيتنا، والعيش تحت الرعاية والعدالة والحرية.
ليس من السهل التنظيم دون وجود أرضية تاريخية تمهد لذلك ودون وجود خبرة ميدانية تساعد في تشبيك الجهود لتسهيل قيامه. لكن المُمكن الثوري يعلمنا دائماً أن المجموعات المُضطهدة يمكن أن تصنع المستحيل إن تواجدت لديها الإرادة السياسية لذلك، وهذا ماقمنا به، تصورنا العمل النسوي كفعل ثوري تضامني عابر للحدود الوطنية، فكانت نتيجة ذلك تأسيس لمجموعة نسوية رقمية تجمع بين النسويات والكويريات من موريتانيا والصحراء الغربية ، تحت اسم “نحو وعي نسوي”، التسمية هي شأن سياسي كما تعلمنا من ميثاق المبادئ النسوية للنسويات الأفارقة، ونحو وعي نسوي هو رغبة في نزع الاستعمار والأبوي عن وعينا واستبدالها بالوعي النسوي التحرري كعملية تاريخية لمواجهة القمع.
بنيت هذه المجموعة على أساسين: التنظيم والتعليم السياسي، والتضامن النسوي. تمكنا عبر هاذين الأساسين من استخدام المجموعة والأدوات الرقمية التي استخدمت بعد ذلك لاستكمال هدفها (مدونة، حسابات تواصل اجتماعي) كمكان للتنظيم وجمع الأفراد من مناطق مختلفة (المناطق المحتلة من الصحراء الغربية، مخيمات اللاجئين الصحراويين، الشتات الصحراوي في المهجر، وموريتانيا)، وخلال هذه السنوات استطاعت هذه الاستراتيجيات التنظيمية على بداهتها وعفويتها أن تجمع المئات من الأفواج المتعاقبة في هذه المجموعة وتبدأ حركة نسوية اقليمية قادرة على استخدام العمل الجماعي لتفكيك أنواع السلط والقمع المختلفة وإنشاء مساحة آمنة تسمح بالفعل السياسي النسوي. ثم تفكيك الحدود الاستعمارية التي تقوض هذا الفعل، باعتبار أن الحركة النسوية والكويرية التي ننتمي لها هي حركة عابرة للحدود وتراها كمنتوج استعماري وكسجون تتقوى بها الأنظمة الأبوية، ولا يمكن أن تحرر المجموعات المضطهدة دون أن تنخرط في عملية تحرير جماعية تكسر هذه الحدود وتنخرط في الفعل الثوري في كل مكان.
إن العمل النسوي في سياقات الاستعمار والعسكرة هو أن نقوم كل يوم ونحن ندرك فظاعة العالم وقدرته على صدنا واقبارنا، ورغم ذلك نحاول أن نصنع مكان يحتوينا مكان نخطط فيه لقلب هذا العالم وتفكيكه وتبديله. اكتسبنا بعضنا كأشخاص من الهامش وأماكن مهمشة في الدوائر النسوية، عرفنا قدراتنا، وامكانياتنا الضخمة إن توحدت جهودنا وقاومنا بشكل جماعي. وفي مكان لم تكن للنسوية أو الكويرية كنظريات وممارسات ثورية أي تواجد أصبحنا اليوم نرى حركات وتيارات ومجموعات مختلفة.
لم تكن الرؤية واضحة في البداية وقد نقول بثقة أن هذه السنوات لم تكن سوى مرحلة زرع البذور وأننا لازلنا نأمل في أن نصل لمرحلة الخضرة والنمو. لكننا نرى أنها مسيرة طُبعت بالمقاومة والمحاولة والإرادة الثورية في صنع المستحيل، وأننا تحدينا جدران الاستعمار ورصاصه وزنازينه والعسكر وقمعه لكي يكون لصوتنا مكان في عالم ظل يخنقه باستمرار، ويحاول باستمرار أن يجعلنا لا مرئيات ويرسم عنا صور تناسب هرميات الاقصاء والاسكات.
لم تسير أيضًا كل خططنا بهذه المثالية، لقد خسرنا العديدات في هذه الرحلة، الكثير من صحتنا وآماننا، تعرضنا للخيبات والخذلان، تعرضنا للتهديد والعنف، توقفنا في منتصف الكثير من المشاريع، احترقنا، ضعفنا، ولم نستطع المقاومة.
كل هذا يأخذنا نحو المبادئ التي نشتغل وفقها، ندرك أن الثورة هي سيرورة تاريخية مستمرة وتحتاج للنظرية والممارسة الثورية لكي تحصل، وتحتاج للجهود والتضحيات، وتحتاج للإيمان بمسلمة تاريخية وهي أن الثورة سيرورة فقد، الفقد موجع لكن النصر حتمي.
إن العمل النسوي يحتاج دائما لمبادئ ثابتة توجهه وللممارسات ثورية تجذره، ولعناية راديكالية تساعده على الصمود، لذلك اخترنا هذه المبادئ الثلاث كمحرك لرؤيتنا وممارستنا السياسية في هذا المشروع:
التنظيم والتعليم السياسي النسوي
لا يمكن أن يحدث تغيير ثوري دون تنظيم ثوري، وهذا الأخير لابد أن ينطلق من القاعدة ويتأسس عليها، لذلك تصورنا هذا المشروع كتنظيم قاعدي تنشط داخله بشكل تطوعي كل المجموعات المضطهدة التي تتعرض للقمع والاضطهاد الطبقي والجنساني والعنصري والاستعماري والعسكري. وعليه نرى التنظيم لابد أن يكون ثورياً أي ينبع من القاعدة المضطهدة ويدور حول رؤيتها للتحرر الكلي، وأن الإطاحة بالأنظمة القمعية والعنيفة لايمكن أن تكون سوى على يد هذه المجموعات، ومهمة الاطارات الثورية هنا هي الانخراط في التنظيمات الثورية وإن لم تجدها عليها أن تخلقها.
يُمكننا التنظيم الثوري من ممارسة أهم قاعدة نحو الحرية وهي أن أي شيء ذو نتيجة نفعله بشكل جماعي مع الآخرين الذين نشترك معهم في نفس التجارب والرؤى، ولا يمكن أن نتحرر مالم نشكل الحلقات الجماعية القاعدية لمواجهة هذه الأنظمة واستبدالها.
يمكن للتنظيم الثوري أن يأخذ أشكالًا عدة لكن الأهم هو أن ينبع من القاعدة لكي يستطيع التغيير وأن يستخدم كل الأدوات الممكنة لكي يستطيع الاستمرار. نؤمن أن التنظيم الثوري يحتوي على امكانيات ضخمة لم نكتشفها بعد ونؤمن أيضًا أننا نتعلم باستمرار حول هذه الأدوات ونستكشفها ونحاول أن نخلق منها مُمكناً ثوري.
من ناحية أخرى لا يمكن أن تكتمل الممارسة الثورية دون نظرية ثورية توجهها، وهذا يعني أن أي تنظيم نسوي يحتاج بالضرورة للتعليم السياسي لكي يوضح الأهداف والمبادئ وايديولوجيا التنظيم، وانشاء استراتيجيات سياسية لكي تُسهل وتوضح عملية التحرر والثورة للمجموعات المُضطهدة. فالتعليم السياسي هو تمارين نظري يطور قدراتنا على تحليل واقعنا الاجتماعي والسياسي واستخدام هذا التحليل في انشاء استراتيجيات ثورية لتغيير هذا الواقع.
عندما نستخدم التعليم السياسي في عملنا النسوي نستطيع أن نفهم ماهية معاركنا ولماذا نقاتل، ويُمكننا أيضاً من التعلم من أخطاء الحركة تاريخيًا ، واستخدام النقد والنقد الذاتي لتمحيص ممارستنا النسوية وخلق نوع من المحاسبة الثورية داخل الحركة وتمحيص الخطابات والممارسات الاقصائية ومواجهتها.
خلال هذه السنوات استخدمنا التعليم السياسي كحجر أساس لمشروع نحو وعي نسوي من خلال خلق مساحات نقاشية تشتبك مع واقعنا الاجتماعي والسياسي، وتجاربنا مع العنف والاضطهاد، وكيف نقرأ وضعيتنا داخل هذه الأنظمة من خارج الوعي الأبوي والاستعماري، ثم تمحيص دور الأنظمة في تشكيل وعينا وتحدي قيمها وتفكيكها والاشتباك مع مصادرها.
استخدمنا أيضًا التعليم السياسي الشعبي عبر تقديم أفكار ومفاهيم جديدة بلهجتنا وسياقنا واعطاء كلمات وأفكار تشرح مانختبره يومياً تحت الاستعمار والأبوية والرأسمالية، عبر استخدام النقاشات حول مواضيع مختلفة، واستخدام مواقع التواصل الاجتماعي والأفلام وتمحيص المحتوى الرقمي حول النساء والمجموعات الكويرية لتسهيل الاشتباك مع الأفكار الذكورية وشرح مصادرها وكيف تعمل وتحديها. ومن خلال انشاء مجموعات دراسة سواءً من خلال نادي الكتاب أو من خلال الكتابة والأرشفة وتوثيق التجارب تحت النظام الأبوي.
التعليم السياسي مكننا من الاشتباك مع النظريات الثورية وتحويلها نحو ممارسة يومية، ووضح لنا كيف أننا مالم نكن قادرات على شرح وتوضيح اضطهاداتنا لن نحصل على دعم الأشخاص المعنيات بها. لذلك يخدم التعليم السياسي هدفين الالتحام بالقاعدة وتحدي الأيديولوجيا القمعية.
التضامن العابر للحدود
إن أول ممارسة نسوية تأسست عليها نحو وعي نسوي هي التضامن النسوي العابر للحدود من خلال انشاء مجموعة تضم النسويات والكويريات من الصحراء الغربية وموريتانيا، ثم استخدام المدونة والمنصة بعد ذلك كمكان يكسر الحدود الانعزالية التي وضعتنا تحتها الأنظمة الأبوية والاستعمارية واستخدامها كمساحة تجمع أصواتنا كما جهودنا لتحدي هذه الأنظمة في المنطقة الناطقة بالعربية والافريقية، وتقريبنا عبر ممارسة التضامن كفعل ثوري تراكمي ومستمر ينبع من أسس مشتركة ترى التحرر في مجموعه كعملية تعنينا جميعًا، وتلزمنا جميعاً بكسر الإنعزالية والممارسات الفوقية مثل التهميش والتنظير والتكلم من مواقع مركزية.
إن التضامن النسوي كما نراه ونمارسه لا يعني مساعدة الآخرين أو دعمهمن أو عزل أنفسنا عن من نتضامن معهمن، بل هو كسر للإنعزالية والهرميات والمراكز التي تنمو حتى داخل الحركات التحررية، وهو مايعني أن كل قضية وكل مجموعة مضطهدة هي قضيتنا وهي مصيرنا، لأن مصيرنا كأشخاص من الهوامش هي مصائر مشتركة وكل قضية تخصنا وكل فعل ثوري يحررنا. نحن نتضامن لأننا نرى التحرر ينبع من الأسس المشتركة والمصير المشترك.
العناية النسوية الراديكالية
خلال هذه الأربع سنوات أنشأنا مساحة سياسية تعترف بهشاشتنا وضعفنا وخوفنا كنساء وكويرز نعيش تحت أنظمة عنيفة تسحقنا كل يوم. عبر النقاشات اليومية والكتابات والتجارب كنا نعري آثار سياط الأبوية على أجسادنا وأرواحنا، كنا نكشف التشوهات التي طبعتنا بها، وندوب العنف وحرارة الدموع التي تلسعنا كلما تذكرنا تجربة عنف أو مررنا بواحدة.
لقد طوعنا المساحات قسراً ورغمًا عن الحصار لكي تحتضن غضبنا النسوي ولكن لكي تعترف بألمنا وضعفنا البشري أيضًا. أن كل يوم هو معركة في حياة كل منا حتى ولو لم تعرف ذلك يكفي أن نقوم نحو حياة نختبر عبرها الألم والخوف والعنف ورغم ذلك نواصل بل ونتحدى ونصنع المستحيل لكي نكون.
لم يكن الاشتباك مع تجاربنا الشخصية والسياسية بالشيء السهل، لم تكن مشاركتها في سياق كان يخنق أصواتنا ويكذبها ولا يزال بالشيء الذي يمكن أن نصفه بالقوة، لقد كان مؤلم لكنه ألم يشفي، ألم مثل كي الجرح بالنار لكي يندمل، وهذا مانفعله نحاول أن نعتني ببعضنا في عالم لم يعطنا فرصة تعلم كيف نفعل ذلك، قد نفعلها بطرق مؤلمة، قد نُخفق، نَخذِل، ونُخذل، نتخلى، ويتخلى عنا، لكن الأكيد أننا نحاول، نحاول أن نعتني ببعضنا بطرق جذرية، نحاول أن نتحدى جذور هذه الجروح المتقرحة وأن نبحث عن طرق جماعية لنضمدها رغم أننا قد نفشل.
لقد أخذت هذه السنوات الكثير من صحتنا النفسية، وجدنا أننا نحترق ذاتياً نتيجة للعمل المتواصل واليوم، دون أن نرى مساحة للراحة والعناية والتوقف في وسط المعركة لأننا تعبنا. ربما كان الدرس الذي تعلمناه في وقت متأخر أننا في حرب غير متعادلة الكفة، في حرب يحوز فيها القامع كل سبل الراحة لاستنزافنا، ويقف الكثير منا أمام سهام القامع، ومصادرة الحق في الراحة في العناية الجماعية ببعضنا، والتي تتضمن أن ندعم حقنا جميعًا في التوقف والراحة وحماية الحدود الشخصية بما في ذلك فهم أن نشاطنا الثوري هو لرفاهنا جميعًا لكنه لا يكون على حساب بعضنا.
قامعينا لا يتعبون لأنهم يسيطرون على الموارد ومصائرنا، لكننا نتعب لأننا نخوض المعارك في الوقت الذي كان يجب أن نعيش حيواتنا ونشعر بالأمان.
العناية النسوية الراديكالية التي نتعلمها اليوم هو أن نصنع المساحات التي نشتبك فيها بمشاعرنا المركبة دون محاسبة أو اقصاء، أن نجد المساحات التي تحتضن غضبنا وحماسنا، لكن تعترف بخوفنا وتعبنا وهشاشتنا وانهاكنا وجروحنا أيضاً. أن نتعلم عملية مستمرة وهي أن نتحدى قيم الأنظمة العنيفة داخلنا وهو مايعني أن ندعم ونعتني ببعضنا دون أن نحاسبنا على أخذ قسط من الراحة أو لسقوطنا منهكات من المعارك، أو لاختفائنا لأننا تعبنا، أو كما تصفها يارا سالم “حتى أقوى المقاتلات ياعزيزتي ينهكن”.
نتمنى أن تخلق لنا المزيد من المساحات التي تمركز مبادئنا الجذرية وتحتضننا رغماً عن الحدود، وتعتني بنا بشكل جذري. أن نكسر قيم عنف الأنظمة داخلنا ونتوقف عن تقطيع بعضنا لكي نصل.
وعسى أن تبقى نحو وعي نسوي هي بيت لنا جميعاً. وعسى أن تبقى أصواتنا جميعًا عالية، وعسى أن تصل كل منا لنصرها الشخصي ونصل جميعًا لنصرنا الجماعي.