نساء العراق: هل من نهاية لهذا الغسق
اعداد بواسطة:
في “إذا الأيام أغسقت” إحدى الروايات التي صدرت لمقاومة سرطان سياسي واجتماعي ينتهي في الجسد العراقي، يعبر عنه لغويًا بنظام البعث وصدام حسين معًا، تطرح حياة شرارة مؤلفة الرواية صياغات مختلفة لصرخة الاحتجاج، والتي ما تلبث إلا أن تنزل على أرض الواقع، فتنتهي بانتحار الكاتبة نفسها في ۱۹۹۷، صدرت إذا الأيام أغسقت من عام ٢٠٠٠ وبعد ثلاث سنوات أخرى كان العالم يشاهد حربًا شاملة ضد العراق، انفعل الجميع من أجلها مؤيدًا أو رافضًا، ولكن يومًا تاريخيًا ثقيلاً مر على الجميع في 9 أبريل.. إنه يوم سقوط نظام الطاغية (عند البعض) أو يوم احتلال عاصمة عربية مثل بغداد وهي أهم العواصم العربية التي ذكرت في كتابات مؤرخي الحضارة العربية والإسلامية، ويمثل هذا السقوط أيضًا من ناحية أخرى بداية مسيرة جديدة لمعاناة المرأة العراقية.
بدأت هذه المسيرة المميزة منذ الحصار الاقتصادي عام 1991، كانت المطالب واحدة هي تأمين أكبر قدر ممكن من مقومات الحياة في ظل حصار اقتصادي وندرة في الموارد الطبية، كان على المرأة العراقية أن تنحو منحى آخر في ممارسة دورها يعتمد على السرعة والدقة وكذللك التضحية. ولم يغير الأمر زمن الحرب على العراق، فبعد أن كان سيناريو المرأة العراقية تتمثل في مجهوداتها من أجل تأمين الحياة أيام الحصار وخلق جميع السبل: لإبقاء الأطفال على قيد الحياة وإن كانت محاولات كثيرة من هذه المجهودات باءت بالفشل على مستوى محدد… رأيناها جميعًا في صور يحفظها التاريخ عن أطفال يحتضرون بين أيدي أمهاتهم.
جاءت مرحلة جديدة بدأت بعد السقوط، وبعد أن كان هناك انتشار للجنود الأمريكيين في كل مناطق العراق، وهي مرحلة ترتبط بخيال المرأة من خلال ما بعد مرحلة الفقد، فزمن الحرب هو زمن تعقد فيه المرأة الزوج والابن والابنة والجيران والعشيرة والتي هي زمن الحرب أحد مقومات دعم ومساندة المرأة، وتصبح المحصلة أن ترى المرأة نفسها تصارع أقدارًا جديدة مثل كونها لاجئة ومشردة وأرملة. وفي ظل هذه الأقدار قد يتوقف خيال المرأة عن إنتاج الأفكار وسياسات الإبقاء على قيد الحياة، ولكنه توقف لفترة قصيرة، سرعان ما يعيد عمله مرة أخرى، فهناك خبرة واضحة بزمن الحرب، فلمدة ثماني سنوات متصلة كانت حرب النظامين العراقي والإيراني، والتي عكست في أبسط مفرداتها وحشية كل منهما، رأينا المرأة العراقية تشارك في نشاط اجتماعي واسع في الدوائر المحلية والسياسية وإدارة الشركات والتدريس والتطبيب.
كانت المرأة العراقية تجري وتجري ويقف لها نظام البعث بالمرصاد، قرار مثلاً صدر سنة ١٩٨٤ لتقليل نسب قبول المرأة بالدراسات العليا حتى تتفرغ لأسرتها، والدلالة أن تحرير قدرة أي المرأة يرتبط بالأساس بنضال أعم لتحرير قدرات المجتمع السياسية وإقامة نظام سياسي أكثر عدالة وديمقراطية، والشيء نفسه، نجده مع الغزو الأمريكي للعراق، المرأة تريد أن تطلق لخيالها العنان ولكن عوائق جديدة تظهر بعد أن تأزمت الحالة الاقتصادية بشدة والمطلوب إنتاج بدائل لضمان الحياة، حيث ترافق مع هذا التأزم انهيار الحالة الأمنية فلم تعد هناك قوات أمن عراقية والقوى الأمريكية في تخطيط مستمر من أجل تثبيت سلطتها، وقوى جديدة بدأت تظهر، رجال دين ترافق مع يصدرون فتاوى بقتل المرأة الخاطئة بمعنى إعادة إنتاج فتاوى ذات طابع فئوي وللحصول على مكاسب محددة، في ظل غياب سلطة قانونية مشروعة.
لقد رصد تقرير فريد من نوعه، وذلك للظروف التي أجري فيها هذا البحث وهي ظروف بداية الاحتلال الأمريكي للعراق وما صاحب ذلك من توتر واضح للإجراءات الأمريكية من جهة ومن جهة مقابلة المقاومة العراقية، صدر هذا التقرير عن منظمة مراقبة حقوق الإنسان Homan Rights watch جاء في التقرير حاملاً عنوان مناخ الخوف: العنف الجنسي والاختطاف للنساء والفتيات في بغداد.
Climate of Fear: Sexual Violence and and Girls in Bghdad إن الاتجاه العام السائد يوضح سوء إدارة قوات التحالف الأمريكي – البريطاني لأشكال التنظيم الاجتماعي والسياسي في العراق والذي عمل من الناحية الأمنية على إضعاف الشرطة العسكرية العراقية التي تنتمي إلى النظام السابق، مع عدم الاهتمام بخلق بديل أمني جديد، وحتى البديل الذي تم استحداثه لاحقًا أوضح عجزًا واضحًا ليس في مجال توفير مظلة أمنية للمواطنين العراقيين ومنهم نساء العراق، بل إنه يتعدى ذلك لعجزه عن إجراء أحداث تحقيقات جادة في اختطاف النساء أو التعرض للعنف الجنسي.
ولا يقتصر الأمر على مجرد وجود قوة اجتماعية، لها توصيف سياسي وتحظي بمشروعية قانونية للقيام بأعمال الأمن، ولكن تكمن أبعاد أخرى الصورة المأساوية التي تعيشها المرأة العراقية فمع الهزال الواضح في توثيق جرائم الاختطاف والعجز الجنسي. تظهر حالات لا نهاية لها من المتعرضات لهذين النوعين من الجرائم، والتي لم تحظ بتوثيق قانوني ولكن هذا يتم تحت رغبة طوعية من ضحايا هذه الجرائم بعدم توثيقها : خوفًا من القتل بدافع الشرف ويصبح هنا وجها العملة الكئيبة فمن جهة.
1 – لا توجد آليات قانونية منصفة، لدعم ضحايا هذه الجرائم وتعويضهن عن الأذى الذي لحق بهن.
٢ – التعرض للعزلة والنبذ الاجتماعي من قبل الأسرة أو العشيرة والتي ترى في ضحية هذه الجرائم أنها أخلت بالشرف وجلبت العار لمحيطها الاجتماعي.
وفي ظل هذا المناخ يظهر المنزل كملجأ أساسي، ليس لاستئناف النشاط الاجتماعي والإنساني للمرأة ولكن كمكان أساسي للاحتماء به من المجتمع الخارجي، والذي يصبح في هذا السياق كمرادف للعدو المتربص بالمرأة وبالتالي تتشكل القيود الخاصة بخيال المرأة الاجتماعي، وينحصر في مجمله في كيفية المكوث أطول زمن ممكن داخل المنازل.
وبالطبع.. فإن هذا السلوك والذي يجسد انعدام معنى المشاركة المجتمعية للمرأة. وفقدان الثقة في المجتمع المحيط، يمثل ركيزة مناخ الخوف الموجود بالعراق وللمتأملين أكثر في العنوان قد لا يجدون فرقًا بينه، وبين عنوان آخر لكتاب سمير خليل “جمهورية الخوف“، حيث يوضح فيه كيفية تمحور كل ردود الأفعال العراقية تجاه نظام صدام حول الخوف أولاً وأخيرًا، وكأن الأمر لم يتغير مع سقوط نظام صدام ليستمر الخوف قائمًا في عراق ما بعد الخوف. يرصد تقرير منظمة العفو حوالي ٢٥ حالة اغتصاب وخطف في بغداد في فترة قصيرة تتراوح ما بين ٢٧ مايو إلى ٢٠ يونيو ٢٠٠٣، وقدم التقرير عبر مقابلات مع أربع ضحايا للاغتصاب والخطف منهن حالتان لفتاتين أصغر من 16 سنة، ويوضح التقرير أن البلاغات على رغم قلتها بالمقارنة لما يحدث تمثل حالة شبه يومية عن أجواء العنف الجنسي التي تخيم على عراق ما بعد الحرب، كسلوك من قبل مجموعات كاملة من العصابات، والتي تقوم بعمليات تخريب متعمدة، دون أن تلقي أي مواجهة من قبل سلطات الاحتلال.
وثمة إحصائية أخرى تقدمها منظمة حرية المرأة في العراق حيث رصدت هذه المنظمة أن هناك حوالي 400 حالة على الأقل لسيدات وفتيات عراقيات تم خطفهن واغتصابهن منذ بدء الاحتلال الأمريكي في أبريل ٢٠٠٣ حتى أغسطس ٢٠٠٣: أي فترة لا تتجاوز الـ (5) أشهر، وفي تصريح لـ “ينار محمد” مديرة منظمة تحرير المرأة العراقية لوكالة الأنباء الفرنسية قالت إنه خلال الأشهر الأربعة الماضية برزت موجة عنف غير مسبوقة ضد المرأة في العراق، وأضافت قائلة: إن العنف ضد المرأة أصبح حادثًا يوميًا خاصة في شوارع بغداد وأمام أعين جنود الاحتلال الأمريكي.
تقرير ثالث أصدرته السلطات الصحية ونشر في الصحف المحلية في العراق بأنه في نهاية شهر مايو/ أيار ۲۰۰۳ ، وجد أن هناك (١٦) فتاة تراوحت أعمارهن من 10 سنوات إلى 14 سنة، قتلن بسبب الاختطاف والاغتصاب في بغداد وحولها ما بين ٢٠ أبريل إلى ٢٠ مايو ٢٠٠٣.
هذه الإحصائيات والتقارير معًا، رغم اختلاف الفترات الزمنية حول شهر أو أكثر أو اختلاف الشريحة المستهدفة من النساء أو فتيات أقل من 16 سنة، توضح بجلاء انتشار جرائم العنف الجنسي بشكل ضخم للغاية، وتحتل الفتيات الصغيرات جزءًا لا بأس به من الأعداد التي تعرضت لهذه الجرائم.
ورغم هذا فكل سياسات الاحتلال الأمريكي – البريطاني لا تزال بعيدة عن اتخاذ أي إجراءات ملائمة للتقليل من هذه الحوادث عن طريق آليات قانونية ومؤسسية تدعم الضحايا وتلاحق من خلال تسرب الفتيات الصغيرات من المنازل إلى المجتمع للبحث عن للغذاء عن أي طريق في ظل سوء الحالة المعيشية في العراق يقدم فرصًا سهلة للحياة للممارسة هذه النوعية من الجرائم، وأسبابًا أخرى طويلة مثل ارتفاع الإيجارات وعدم توفر موارد تعيش عليها المرأة جعل من المعسكرات المهجورة للجيش العراقي مكانًا للعيش فيه ولكن في ظل ظروف ينعدم فيها الأمن وكل هذه الأمور بعيدة تمامًا عن سياسات الفصائل العراقية، والتي تهدف يوميًا الحصول على مكاسب ذاتية، دونما النظر إلى الاهتمام بجدية إلى حالة العراق ما بعد الحرب.
لقد رصد تقرير لهيئة الإذاعة البريطانية عن حفلة فنية لفرقة عراقية نسائية (مكونة من ٢٢ عازفة) تسمى عشتار أن هذه الحفلة تؤكد أن المرأة العراقية موجودة وتتسم بالشجاعة، وأنه على الرغم من تردي البعد الأمنى إلا أن المحاولات المتناثرة هنا وهناك من عقد المؤتمرات النسائية، ومنظمات أهلية وصحفية خاصة بالمرأة صادرة عن أعضاء اللجنة النسائية بالحزب الشيوعي العراقي تسمى “المساواة” فإن سمة سياسات مقاومة تقوم بها المرأة العراقية وإن كان قد طال زمن الغسق فلا بد في النهاية أن يتفتح على نور جديد، يستمد قوته من تلك النشاطات المتناثرة هنا وهناك، والتي ستتجمع يومًا لبناء عراق حر جديد.