مقدمة
في فبراير من عام ٢٠٢١ نُشرت في الإعلام مسودة مشروع قانون للأحوال الشخصية كانت لجنة حكومية قد أعدته وأحالته للبرلمان لمناقشته على أمل إصداره كقانون موحد ينظم الأحوال الشخصية للمسلمين. وكانت تلك اللجنة قد عكفت على إعداد تلك المسودة على مدار شهور عديدة، وجاءت المسودة بعد جدل حامٍ استمر أكثر من عامين احتدم بين البرلمان بتشكيله السابق والأزهر الذي كان قد أعد مشروع قانون مستقل ينظم الأحوال الشخصية للمسلمين. وقتها اعترض بعض نواب البرلمان على عمل الأزهر، إذ أن الأزهر في نظرهم جهة استطلاع رأي في المسائل الدينية، وليس له سلطة اقتراح مشروعات القوانين. فرد شيخ الأزهر، أحمد الطيب، على النواب قائلا “الأزهر ليس جهة تشريع ولا دخل له بالتشريعات، لكن حين يتعلق الأمر بقوانين مصدرها الشريعة الإسلامية فلا يترك الأمر لغير العلماء.”1
كانت اللجنة الحكومية التي صاغت مشروع قانون ٢٠٢١ تظن أنها جاءت بمسودة تلبي حاجة المجتمع بعد أن استشارت في إعدادها للمسودة “ممثلين عن 23 جهة، منها المجلس القومي للمرأة والمجلس القومي لحقوق الإنسان ووزارات الأوقاف والتضامن والتعليم، والتعليم العالي” وجهات حكومية أخرى. على أن رد فعل منظمات المجتمع المدني وخاصة الجمعية الحقوقية والنسوية جاء مخيبا لآمال الحكومة. فما أن نُشرت المسودة في الصحف حتى اندلعت عاصفة من الرفض والجدل المجتمعي. وكان من بين المعترضين المجلس القومي للطفولة والأمومة، والمجلس القومي للمرأة، والمركز المصري لحقوق المرأة.2 وقامت ست منظمات (هي مركز القاهرة لدراسات حقوق الإنسان، والشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان، ومركز النديم، والجبهة المصرية لمعلومات حقوق الإنسان، ومبادرة الحرية، ومؤسسة حرية الفكر والتعبير) بالتوقيع على بيان استنكاري اعتبر “أن التعديلات المقترحة [التي جاءت بمسودة مشروع القانون] تعصف بنضال امتد لـ 100 عامًا للحركة النسوية المصرية، حققت خلالها الحركة مكاسب نسبية، يعصف هذا القانون الجديد بجميعها، رغم إعداده في عهد نظام سياسي يدعي الدفاع عن قضايا النساء، ويزعم حرصه على تجديد الخطاب الديني.”3
كانت هذه الجمعيات الحقوقية والنسوية تعمل منذ سنوات على صياغة قانون شامل للأحوال الشخصية يحقق المساواة بين الرجال والنساء ويعالج بشكل جذري مشاكل رأتها تلك الجمعيات تعتور القوانين الحالية المنظمة للأسرة. وكانت تلك الجمعيات تسعى لاستصدار قانون يحقق بعض المطالب الأساسية للنساء، مثل حق الأم التي تعرضت لاغتصاب في نسب الطفل لأبيه، وإعطاء المرأة حق الطلاق وعدم قصر هذا الحق على الرجل الذي تعطيه القوانين الحالية هذا الحق بإرادة منفردة؛ والسماح للأم بحضانة أطفالها خاصة في حالة الأم المسيحية المتزوجة من مسلم؛ ورفع سن الزواج بحيث يُمنع زواج القاصرات؛ والسماح بوضع شروط في عقد الزواج تسمح بتقسيم الثروة عند الطلاق؛ وغيرها من المطالب التي رأت تلك الجمعيات أن عدم تلبيتها ينتقص من حقوق النساء. إلا أن مسودة القانون لم تخلُ من هذه المطالب فحسب، بل جاءت بمادة أجازت للولي طلب فسخ عقد زواج المرأة من غير الكفء، وهو ما حدا بإحدى هذه الجمعيات، وهي مؤسسة المرأة والذاكرة، لأن تشن حملة إعلامية مؤثرة بعنوان “الولاية حقي” تعترض بها على هذه المادة تحديدا وعلى مسودة القانون برمتها.4 كما قامت مؤسسة أخرى، هي مركز قضايا المرأة المصرية، بصياغة مشروع قانون مغاير بشكل جذري، وأسمته “قانون أسرة أكثر عدالة.”5
هذا الجدل المجتمعي الذي أعقب نشر مسودة مشروع القانون في فبراير ٢٠٢١ يمكن اعتباره تعبيرا عن الذكورية المتفشية في المجتمع، كما عبرت عن ذلك رنا ممدوح في عنوان مقال لها في “مدى مصر” في مارس ٢٠٢١.6 كما يمكن النظر لهذا الجدل المجتمعي كانعكاس لما أسمته نوران سيد أحمد دليلا على أن “النظام المصري يتخبط في قانون الأحوال الشخصية.” فحسب نوران سيد أحمد:
يكشف مشروع القانون عن طبيعة الانتقال الذي يشهده نظام ٢٠١٣ وجهاز الدولة الذي لايزال في طور التشكل. يمثل قانون الأحوال الشخصية الاختبار الأول من نوعه لنظام السيسي. على عكس قانون الجمعيات الذي امتلك النظام فيه هدفا واضحا وهو التقييد، وعلى عكس المجالات التي تتطلب خبرات تقنية وفنية حديثة كالاقتصاد والإدارة العامة والتخطيط العمراني وخبرات العمل في المنظمات الدولية والتي سهُلَ على النظام إيجاد تكنوقراط وخبرات غير مسيسة للعمل بها، يقع قانون الأسرة في مساحة قيمية تتطلب أكثر من الخبرة الفنية ومن التوسع في الجوانب الإجرائية والعقابية.7
ولكن هذا الجدل المجتمعي المحتدم حول مشروع قانون الأحوال الشخصية للمسلمين ليس فريدا، ولا هو وليد اللحظة؛ فكل المحاولات السابقة لتعديل قوانين الأحوال الشخصية التي شهدتها مصر طوال عقود طويلة، إن لم يكن طوال القرن المنصرم برمته، أثارت نقاشات وجدالات مجتمعية حامية.1 وفي صلب تلك النقاشات تكمن مشكلة كيفية التفاعل مع نصوص الشريعة الإسلامية، فكما قالت نوران سيد أحمد في مقالها السابق الإشارة إليه، إن “التحدي الأساسي لقانون الأسرة يكمن في القدرة على التعامل مع نصوص الشريعة والاختيار منها وتقنينها في نصوص تستوعب التوازنات الدينية والاجتماعية المختلفة.”2
فالشريعة الإسلامية، كما عبرت جوديث تاكر ببلاغة ووضوح فريدين، تنظر لأفراد المجتمع الإسلامي “كذكور وإناث متمايزون بشدة، ليس فقط بيولوجيا، ولكن اجتماعيا وسياسيا واقتصاديا أيضا. هذه فرضية أساسية حكمت منطق الفقهاء والمفتين. فنظرتهم للزواج ارتكزت بشكل أساسي على الفروق الجندرية… الزواج لم يكن علاقة تَماثُل [بين الرجل والمرأة].”3 هنا تحديدا يكمن لب الجدال المجتمعي على قوانين الأحوال الشخصية، ففي حين يرى الأزهر وأشياعه أن هناك فروقا واضحة بين الرجل والمرأة وأن الزوج والزوجة ليسا متساويين في الحقوق ولا الواجبات وأن التشريعات المستقاة من الشريعة يجب أن تعكس هذه الفروق وتوضحها، ترى الحركة النسوية المصرية وكذا الحركة الحقوقية ومعهما قطاع لا يستهان به من المجتمع أن الرجل والمرأة يجب أن تحكمهما قواعد المواطنة التي لا تفرق بين المواطنين، وأن الزوج والزوجة يجب أن يكونا متساويين في الحقوق والواجبات، وأن على قوانين الدولة أن تحافظ على هذه المساواة وتحميها.
ولكن، وكما تسارع جوديث تاكر بالتوضيح، هذا التمايز الجندري الذي أملى على الفقهاء رؤيتهم لمؤسسة الزواج لم يترجم في الواقع إلى “هيمنة الذكر وخضوع الأنثى.”4 وبعبارة أخرى، فإن نصوص الفقهاء، من متون وشروح وحواشي وفتاوى، لم تعنِ في الواقع أن المرأة كانت مستضعفة لا حول لها ولا قوة، أو أن المنطق الجندري للفقه وضعها في محل لا تستطيع معه التمسك بحقوقها حتى وإن لم تكن تلك الحقوق مساوية لحقوق الرجل.
هذا المقال معني بتوضيح هذا الفرق المحوري بين نصوص الفقه والواقع المعاش، ويتناول تحديدا هذا الفرق في موضوعين يتعلقان بمؤسسة الزواج وهما: النفقة التي “تجب للزوجة المطيقة للوطء المُمَكِّنة من نفسها،“5 والضرب الذي يحق للزوج أن يباشره على زوجته الناشز. يعرض المقال لهذين الموضوعين من خلال دراسة قضية نظر فيها قاضي الإسكندرية عام ١٠١٨ هجرية الموافق لعام ١٦١٠ ميلادية. في هذه القضية ادعت امرأة اسمها تَوزُّر على زوجها تطالبه بصداقها ونفقتها وأجرة عملها بمنزل الزوجية طوال خمس وعشرين سنة من الزواج إضافة، لـ“تأديبه” نظير ضربه لها وكسره ذراعها، هذه القضية مسجلة ضمن سجلات محكمة الإسكندرية الشرعية التي تقتنيها دار الوثائق القومية بالقاهرة مع المئات، بل الآلاف، من سجلات المحاكم الشرعية في طول البلاد وعرضها.
يبدأ المقال بعرض لطبيعة هذه السجلات وتوضيح لأهميتها كونها مصدرًا لدراسة ليس التاريخ الاجتماعي أو الاقتصادي فحسب، بل لدراسة تاريخ الفقه أيضا، ولكن ليس الفقه كما سطره الفقهاء أو وضحه المفتون أو علق عليه الشراح وأصحاب الحواشي، ولكن الفقه الذي مورس على أرض الواقع وطُبق في المحكمة الشرعية. ويعرض المقال لبعض الدراسات الحديثة التي تناولت تاريخ مؤسسة الزواج اعتمادا على سجلات المحاكم الشرعية. وينتقل المقال بعد ذلك لعرض قضية تَوزُّر بنصها، ويحللها بالتفصيل، مقابلا ما تحتويه القضية من تفاصيل مع المبادئ الفقهية الحاكمة. أما الخاتمة فتشمل بعض النقاط التي تشير إلى أهمية دراسة تاريخ المجتمعات الإسلامية وتطبيقها للفقه في مواضيع مثل: النكاح والنفقة والنشوز والخلع والطلاق، وعدم الاكتفاء بدراسة كتب الفقه التي تناولت هذه المواضيع تنظيرا وتجريدا فقط.
تحتوي دور الوثائق في الكثير من الحواضر الإسلامية على أعداد هائلة من سجلات المحاكم الشرعية، فدار الوثائق القومية بالقاهرة، والأرشيف العثماني في إسطنبول، والمكتبة الوطنية البلغارية في صوفيا، على سبيل المثال لا الحصر، تمتلك آلافا مؤلفة من القضايا والإشهادات والمبايعات وغيرها من المكاتبات التي تحتويها سجلات المحاكم الشرعية. وعلى مدار السبعين سنة المنصرمة أقبل المؤرخون على هذه السجلات ينهلون منها معلومات غنية ودقيقة عن المجتمعات الإسلامية طوال فترة الحكم العثماني التي امتدت لحوالي ستة قرون.
وقبل التعرض لنوعية هذه المعلومات وتحديدا لتلك المتعلقة بمؤسسة الأسرة، يجب الإجابة على سؤال مهم: إذا كانت هذه محاكم شرعية إسلامية، لماذا إذن لا توجد لدينا سجلات تعود لما قبل الحكم العثماني؟ الإجابة طرحها وائل حلاق في مقال له نشره عام ١٩٩٨.1 في هذا المقال يؤكد وائل حلاق على أن احتفاظ القاضي بسجل يدوِّن فيه تفاصيل القضايا التي نظرها، أو ما يُعرف بـ“ديوان القاضي“، لم يكن بدعة عثمانية، بل كان تقليدًا قديمًا يعود لصدر الإسلام. أما السبب في عدم العثور إلا على نماذج قليلة جدًا من هذه “الدواوين” قبل العصر العثماني فيرجع إلى أنه يبدو أن العثمانيين استحدثوا ممارستين بيروقراطيتين ضمنتا حفظ هذه المكاتبات؛ الممارسة الأولى كانت تدوين “الديوان” في سجلات أو دفاتر لا في أوراق مفردة، ففي السابق كان القاضي يدون ديوانه في أوراق مفردة ويحفظها في قِمَطْر (بكسر القاف وفتح الميم وسكون الطاء)، أي كيس، ويسلمه للقاضي الذي يحل بعده بعد انتهاء ولايته، وبما أن هذه الأوراق المفردة أكثر عرضة للتلف بمكان من تلك المحفوظة بين دفتي كتاب فقد انتهى بها الحال بالفعل للتلف والضياع، أما الممارسة الثانية التي استحدثها العثمانيون فكانت تخصيص مكان محدد لحفظ هذه السجلات، وهذا المكان كان مقر المحكمة، أو “مجلس الحكم” الذي كان بدوره يقع في أحد الجوامع الكبيرة في المدينة. كانت هاتان الممارستان العثمانيتان هما السبب في حفظ سجلات المحاكم الشرعية بدءًا من القرن السادس عشر.
بدأ إقبال المؤرخون على هذه المصادر التاريخية الغنية في أوائل الخمسينيات من القرن العشرين،2 وتعد دراسة أندريه ريمون الصادرة عام ١٩٧٣ عن التجار والحرفيين في مصر في القرن الثامن عشر فتحًا في الدراسات التاريخية المعنية بمصر والمعتمدة على سجلات المحكمة الشرعية.3 اعتمد أندريه ريمون في دراساته الرائدة على نوع محدد من المحاكم الشرعية وسجلاتها، ألا وهو محاكم القسمة، وهي المحاكم المعنية بتقسيم التركات. وأخذ يتتبع بدأب وعناية منقطعي النظير تركات كبار التجار، وخاصة تجار القهوة، لكي يحدد مقدار ثرواتهم، ونوعية تجارتهم، وخطط استثماراتهم، وأماكن سكنهم، وشركائهم في التجارة، وأصولهم الثابتة والمنقولة، إلخ. وكانت النتيجة أن أصبح للقاهرة العثمانية لأول مرة تاريخ اقتصادي واجتماعي موثق ودقيق.
وحذت نيللي حنا في كتابها، ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية (ق ١٦ – ق ١٨)، حذو أندريه ريمون، فأقبلت على سجلات محكمة القسمة، ولكنها في لم تسعَ لتتبع تركات كبار التجار، بل تركات أواسط الناس، أي من تسميهم أعضاء الطبقة الوسطى؛ وأخذت ترصد تركاتهم، وتركز على تلك التركات التي تشمل كتبا، وبعناية فائقة أخذت تحدد عناوين هذه الكتب، ثم عملت على رصدها وتتبعها وقراءتها أينما وُجدت في المكتبات الجامعية لتتعرف على “ثقافة الطبقة الوسطى“.4
وتعددت الدراسات المعتمدة على سجلات المحاكم الشرعية والتي تناولت نواحي مختلفة من التاريخ الاجتماعي والاقتصادي والسياسي لمجتمعات وحواضر إسلامية عديدة. وسرعان ما أدرك المؤرخون أن هذه السجلات الغنية، بحكم صدورها عن المحاكم الشرعية، يمكن أيضًا أن تلقي الضوء على تاريخ القضاء في الإسلام،5 بل يمكن أيضًا أن تبصرنا بجانب هام ومحوري عن تاريخ القضاء أغفلت عنه كتب الفقه التقليدية (مثل كتب آداب القاضي التي توضح للقضاة كيفية أداء عملهم في مجلس الحكم،6 وكتب الشروط التي تقدم لهم نماذج للعقود يملؤونها7)، وأعني به إقبال الناس العاديين على هذه المحاكم وتفاعلهم اليومي مع الفقه ليس كما سطره الفقهاء في كتبهم بل كما طبقه القاضي في محكمته.
فنرى مثلا في كتاب بوغاتش إرجينِه Boğaç Ergene عن المحكمة الشرعية في بلدتين صغيرتين في الأناضول في القرنين السابع عشر والثامن عشر المتقاضين وهم على دراية تامة بإجراءات التقاضي، بل كان فيهم من استطاع التحايل على تلك الإجراءات للحصول على حكم في صالحه.8 أما لزلي بيرس Leslie Peirce فدرست سجلين اثنين فقط من سجلات محكمة عينتاب الشرعية يعودان لعامي ١٥٤٠ و١٥٤١ م وأثبتت بقراءة عميقة لهذين السجلين أن المحكمة الشرعية حظيت بقبول مجتمعي عميق وبإقبال عامة الناس عليها، رجالا ونساء، من جميع شرائح المجتمع. لم تكن المرأة بالطبع تتمتع بنفس حقوق الرجل، فشهادتها لم تكن تساوي شهادة الرجل، وبالتالي لم تستطع أن تقدم شاهدات يشهدن لها ويرجحن دعواها. ولكن كل الناس، رجالا ونساء، سُمح لهم بإعلان مواقفهم في المحكمة، وبتبرير أفعالهم، وبعرض روايتهم عن الأحداث محل التخاصم. وبالتالي، وكما تؤكد لزلي بيرس، النساء أقبلن على المحكمة ليس بالضرورة للحصول على حكم في صالحهن، ولكن للتدليل على شرفهن، ولإشهار تقواهن، وللدفاع عن سمعتهن وحسن سيرتهن.9
أما نيللي حنا، ففي دراسة أخرى لها صدرت عام ١٩٩٦ أوضحت، اعتمادًا على سجلات المحاكم الشرعية في القاهرة (كانت القاهرة وحدها بها خمس عشرة محكمة)، أن الزوجة، بكرا كانت أو ثيبا، كان باستطاعتها، بالاشتراك مع وأوليائها، أن تضع ما يعن لها من شروط في عقد النكاح. كما أوضحت سمة من سمات عمل المحاكم الشرعية أكد عليها كل من درس سجلاتها، وهي حق الناس في الاختيار بين المذاهب الأربعة داخل نفس المحكمة، واعتياد الناس، رجالًا ونساءً، على اختيار المذهب الذي يرون أنه الأفضل لقضيتهم. وذهبت نيللي حنا أيضًا إلى أن المحكمة كثيرا ما أخذت بالعرف الشائع بين الناس، وأن القاضي كثيرا ما بنى أحكامه عليه. وقدمت لهاتين الخاصتين، أي الخيار بين المذاهب وشيوع العرف، مثالا غاية في الأهمية وهو اشتراط الزوجة في عقد نكاحها على منع زوجها من أن يأخذ لنفسه زوجة ثانية. وتوضح نيللي حنا شيوع هذا الشرط في سجلات القرن السابع عشر التي درستها بالقول إن لا المذهب الحنفي، الذي اتخذته الدولة العثمانية مذهبًا رسميًا لها، ولا المذهب المالكي يفضلان وضع شروط في عقد النكاح يحد من حق الرجل في أن يأخذ لنفسه زوجة ثانية وثالثة ورابعة، عملا بالآية القرآنية “فَانكِحُوا مَا طَابَ لَكُم مِّنَ النِّسَاءِ مَثْنَىٰ وَثُلَاثَ وَرُبَاعَ” (النساء: ٣). إلا أن الحنابلة سمحوا بوضع شروط في عقد النكاح طالما الطرفان قبلا بذلك. وتلاحظ نيللي حنا أن القضاة الحنفيين والشافعيين والمالكيين في مصر القرن السابع عشر احتذوا حذو الحنابلة بالسماح بوضع شروط تمنع تعدد الزوجات في عقد النكاح، وتفسر ذلك بالقول إن النساء استخدمن حقهن في تفضيل المذهب الحنبلي حتى أمسى هذا التفضيل عرفا أخذ به قضاة المذاهب الثلاثة الأخرى.10
وأخيرا يذهب كِنِث كونو Kenneth Cuno، إلى أن عملية الإصلاح القانوني التي شهدتها مصر في القرن التاسع عشر أضرت بالنساء وقلّصت من حقوقهن التي كن تتمتعن بها في المحاكم الشرعية. فباسم توحيد الأحكام وتنميط المحاكم قررت الدولة المصرية الأخذ بالمذهب الحنفي وحده ومنعت المتقاضين من الاختيار بين المذاهب الأربعة. كما أدخلت الدولة المركزية الناشئة الكثير من الإصلاحات الإدارية في عمل المحاكم قضى على المرونة والتعددية اللتين كانتا من سمات عمل المحاكم الشرعية، وتُوّجت هذه الإصلاحات بإصدار قانون الأحوال الشخصية رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠ الذي عصف بالكثير من الحقوق التي كانت المرأة المصريات تتمتعن بها على مدار قرون طويلة.11
بعد هذا العرض القصير لبعض الدراسات التاريخية التي اعتمدت على سجلات المحاكم الشرعية نعرض في الصفحات القليلة التالية لدعوى الحرمة تَوزُّر على زوجها الحاج عبد الدايم بن فريج المسْرَاتي والتي حكم فيها قاضي الإسكندرية في ثالث عشر من ذي القعدة من سنة ١٠١٨ هجرية، الموافق السادس من فبراير ١٦١٠ ميلادية. هذه القضية مدونة في صفحة ٧٩، من سجل رقم ٤٣ من سجلات محكمة الإسكندرية الشرعية، والذي يحمل الكود الأرشيفي رقم: 1029-001261-0210-0001. فيما يلي نص الوثيقة سطرًا سطرًا كما جاء في سجل المحكمة، ثم تحليل لأجزاء الدعوى جزءًا جزءًا. وقد آثرت الإبقاء على لغة الوثيقة ورسمها كما جاءا في السجل.
-
ادعت الحرمة توزر المراة ابنه المرحوم موسي الكريوني على زوجها الحاج عبد الدايم بن المرحوم فريج المغربي الـمسراتي بانها تستحق بذمته مبلغا قدره من الفضة
-
الأحمديه معاملة تاريخه بالديار المصريه اربعة الاف نصف وثلثمايه نصف على ما يبين فيه ما هو مقدم صداقها عليه ألف نصف واحد ومايتا نصف ثلثان
-
وما تَجمَّد لها عليه من حقوقها الزوجيه وكسوتها الشرعيه في مدة خمسة وعشرين سنة تقدمت على تاريخه ثلاثه آلاف نصف ما هو مُنَجَّمُ صداقها عليه في المدة
-
المذكورة ألف نصف واحد وباقي ذلك وقدره ألفا نصف اثنان في نظير كسوتها الشرعيه في المدة المعينة أعلاه وباقي المبلغ المدعى به أعلاه وقدره ماية نصف
-
واحد في نظير اجرتها في ثمان كسيان صوف اشتغلتها لزوجها المدعى عليه المذكور اعلاه وأنه تعدى عليها أمس تاريخه وضربها بمثقل على قصبت ذراعها
-
الأيسر كسرت العظم وتطالبه بالمبلغ المدعى به أعلاه وبما يترتب عليه بسبب ضربه لها وسألت سؤاله عن ذلك فسُئل الحاج عبد الدايم المدعى عليه المذكور عن ذلك، فأجاب بالاعتراف
-
لذلك جميعه وانه دفع لوالدها المذكور اعلاه مقدم صداقها المعين اعلاه ودفع لخالها ابو شعاعه اربعه دنانير ودفع لابن عمها محمد ثلاث دنانير ولوالدها
-
ديناران اثنان وانه في كل سنه يكسوها تارة بسبع دنانير وتارة بثمان دنانير فلم تصدقه المدعيه المذكوره على ذلك ولا على شي منه وطُلب من المدعى عليه المذكور
-
اعلاه بينةٌ تشهد له بانه وفا لها مقدم صداقها عليه ومُنَجَّمَهُ وانه دفع لها كسوتها المعينه اعلاه فذكر ان لا بينه له تشهد بذلك والتمس يمينها على ذلك. فوُجِّهت [أي اليمين]
-
عليها فحلفت بالله العظيم الذي لا اله إلا هو الرحمن الرحيم انها لم يكن وصل اليها مقدم صداقها عليه ولا منجمه ولم يكن دفع لها من كسوتها المعينة أعلاه شي قل أو جل
-
وانها تستحق جميع المبلغ المدعى به اعلاه إلى تاريخه حلفت على ذلك كما اسْتُحْلِفت بطلب من زوجها المدعى عليه اليمين الشرعيه الموجهة عليها شرعا وثبت
-
مضمون الدعوى والسؤال والجواب والاعتراف وجريان الحلف لدى مولانا افندي المشار إليه أعلاه دام علاه بشهادة شهوده وصدوره لديه ثبوتا شرعيا وحَكَمَ
-
أعز الله تعالى أحكامه بموجب ذلك حُكما صحيحا شرعيا تامًّا محررا مرعيا مسيولا فيه مستوفيا شرايطه الشرعيه وواجباته المحرره المرعيه واشهد على نفسه الكريمة
-
وامر مولانا افندي المشار إليه المدعى عليه المذكور بدفع المبلغ المدعى به أعلاه فلم يدفع واختارت المدعيه المذكوره اعلاه اعتقاله بحال ذلك بسجن الشرع الشريف فاعتقل
-
عليه [أي على المبلغ] بطلب من زوجته المدعيه المذكوره اعلاه فرَّج الله عنه وعن المسلمين ثم بعد ذلك وجه عليه مولانا افندي المشار اليه اعلاه الادب بسبب تعديه وضربه لزوجته
-
المذكوره أعلاه وأُدِّب على ذلك التأديب الشرعي بعد أن كَشَف على ذراع المدعيه المذكوره اعلاه الشيخ شهاب الدين الدمن تلك هوري شيخ طايفة الجراحين بالثغر المذكور
-
واخباره بذلك بأن جريدة ذراع المدعية منكسرة الاخبار المرعي وبه شهد في ثاني عشر القعدة الحرام سنه ثماني عشره وألف.
ويلي هذه القضية في نفس الصفحة قضية أخرى من خمسة عشر سطرًا، ثم يلي تلك القضية ثلاثة أسطر تعتبر تكملة لقضية تَوزُّر، وفيما يلي نص هذه الأسطر الثلاثة (وقد آثرت استكمال ترقيم الأسطر لارتباط القضيتين بعضهما ببعض):
-
أُشْهِد عليه الحاج عبد الدائم بن فريج المسراتي شهوده الشرعي أنه قرر على نفسه برضاه لزوجته الحرمة توزر المرأة ابنة موسى الكريوني بمفردها في كل يوم من تاريخه
-
نصفان اثنان حسابا عن كل شهر ستون نصفا وذلك في نظير نفقتها عليه تقريرًا شرعيًّا ورضيت منه بذلك زوجته المذكورة الرضى الشرعي حُرِّر ذلك في ثاني عشر
-
القعدة الحرام سنة ثماني عشرة وألف.
هذه القضية توضح بجلاء النقطة التي طرحتها جوديث تاكر السابق الإشارة إليها، أي أن التمايز الجندري الذي أملى على الفقهاء رؤيتهم لمؤسسة الزواج لم يترجم في الواقع إلى “هيمنة الذكر وخضوع الأنثى“1، فما نراه هنا هو قدرة المرأة صاحبة الدعوة، الحرمة تَوزُّر، ليس فقط على إثبات حقوقها على زوجها، ولكن أيضًا على حبسه ليدفع ما في ذمته لها، و“تأديبه” نظير ضربه لها. وللوقوف على تفاصيل هذا التداعي أشرح فيما يلي أجزاء القضية المختلفة مع الإشارة لأرقام الأسطر المتضمنة الجزء المشروح.
الجزء الأول: تحديد هوية المتقاضين (سطر ١): تبدأ القضية بذكر اسم طرفي الدعوى اكتفاء بالإحالة إلى اسم أبويهما إضافة إلى ذكر نسب المدعى عليه، الزوج، بالإحالة إلى بلده. فالمدعية اسمها توزُّر ابنة المرحوم موسى الكريوني، أما زوجها يشار إليه بأن اسمه الحاج عبد الدايم بن المرحوم فريج المغربي الـمسراتي، إشارة إلى بلدة “مُصراته” في ليبيا الحالية، وهو ما يؤكده لفظ “المغربي” الذي كان يستخدم للإشارة لكل من كان أصله بلاد شمال أفريقيا غربي مصر، أي دول ليبيا وتونس والجزائر والمغرب الحالية. ولا نرى هنا دليلًا على استخدام القاضي الأساليب الدقيقة للتحقق من هوية المتقاضين والمتمثلة في الإحالة لشهود عدول يؤكدون هوية المتقاضين ويشهدون على “عدلهم“، أي استقامتهم وحسن سيرتهم.2
الجزء الثاني: موضوع الدعوى (الأسطر ١–٦): هنا تدعى توزُّر أن دعواها لها شقان، الشق الأول مالي يتعلق بصداقها ونفقتها، والشق الثاني مادي يتعلق بضربها على يد زوجها. وفي ختام ادعائها طلبت استجواب زوجها عن حقيقة ادعائها عليه.
أما الجزء المالي، فتقول توزُّر إن لها بذمة زوجها مبلغ ٤٣٠٠ نصف فضة. و“النصف فضة” كانت العملة الدارجة في مصر العثمانية، وكان يُشار إليها أيضًا بالـ“بارة“، ويعود أصلها إلى عملة فضية مملوكية كان يُقال لها المؤيدي. وللوقوف على قيمة تقريبية للنصف فضة في هذه الفترة، كان سعر قنطار السمن ٣٢٢ نصف فضة عام ١٦٦٤ (أي بعد نصف قرن من تاريخ قضيتنا)، وكان سعر قنطار زيت السمسم (السيرج) ٢٤١ نصف فضة في نفس العام، وكان سعر قنطار السكر ٥٨٩ نصف فضة عام ١٦٧٨.1 ومن هنا يتضح أن المبلغ الذي تدعي به توزُّر ليس مبلغًا هيِّنًا قياسًا بأسعار ذلك العصر.
أما تفاصيل هذا المبلغ فهي كالتالي: ١٢٠٠ نصف فضة قيمة مقدم صداقها؛ أي مهرها، وهو ما يعني أنها لم تستلم مهرها بالرغم من مضي خمس وعشرين سنة على زواجها. في هذا مخالفة صريحة لواحد من أهم المبادئ الفقهية الحاكمة للزواج، فالآية الكريمة تقول “وَآتُوا النِّسَاءَ صَدُقَاتِهِنَّ نِحْلَةً” (النساء: ٤)، وفي آية أخرى “فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ” (النساء: ٢٥). وفي بداية المجتهد يقول ابن رشد “اتفق العلماء على أن الصداق يجب كله بالدخول…”2
كما تطالب توزُّر زوجَها بأن يدفع لها مُنَجَّم صداقها وقدره ١٠٠٠ نصف فضة. والمُنَجَّم هو المُفرَّق، فنقول إن القرآن نزل على النبي مفرقًا أي ليس دفعة واحدة. وفي الحاوي الكبير للماوردي “يجوز الصداق عينًا حاضرة، ودَيْنًا في الذمة، حالًا ومؤجلًا ومُنجَّمًا“3. ويبدو أن الزوجين، أو الزوج وولي الزوجة، كانا قد اتفقا عند عقد النكاح على أن يدفع الزوج جزءًا من المهر مفرّقًا، ولكنه لم يفعل.
وإضافة لصداقها، المؤجل والمنجم، الذي لم تستلمه، تطالب توزُّر زوجها بنفقتها المتمثلة في قيمة كسوتها طوال خمس وعشرين سنة من الزواج التي قدرتها بـ ٢٠٠٠ نصف فضة. والنفقة كما عرفها العلماء تشمل “الطعام والكسوة والسُكنى“4 وقد فصل الغزالي في الوجيز أن النفقة تشمل الطعام والأُدْم ونفقة الخادمة والكسوة وآلة التنظيف (كالمشط) والسكنى، وزاد موضحًا أن الكسوة “هي في الصيف خمار وقميص وسراويل ومكعّب [أي ثوب مزين منقوش]، وفي الشتاء يزيد الجُبة.”5
كما تطالب توزُّر زوجها بملغ ١٠٠ نصف فضة قيمة أجرتها نظير اشتغالها ثمانية كسيان صوف لزوجها (وأغلب الظن أن “كسيان” جمع كسوة، والمقصود أثواب). ولم تطالب توزُّر هنا إلا بما قرره لها الشرع، فالمالكية يقرُّون للزوجة أجرة نسجها وغزلها. فخليل بن إسحق يقول في مختصره “ولها الغزل إلا أن يثبت أن الكتان له، فشريكان؛ وإن نسجت، وإلا كُلِّفت بيان أن الغزل لها.”6 ويشرح الدسوقي في حاشيته على الشرح الكبير للدردير ما يقصده خليل فيقول “ولها الغزل إن تنازعا فيه، إلا أن يثبت الرجل بالبينة أو بإقرارها أن الكتان له فشريكان، هو بقيمة كتانه، وهي بقيمة غزلها، وإن نسجت المرأة بيدها شقة وكانت صنعتها النسج فقط دون الغزل فادعت أن غزل الشقة لها وادعى هو أن الغزل له وإنما نسجتها له فالقول له، وكُلّفت هي بيان أن الغزل لها واختصت بها. فإن لم تقم البينة فالشقة له ودفع لها أجرة نسجها.”7
وبعد أن انتهت توزُّر من تحديد مطالباتها المالية انتقلت للجزء المادي من دعواها فقالت إن زوجها ضربها بمثقل على ذراعها اليسرى كسرت العظم. ومرة أخرى تبدي توزُّر دراية بالفقه، إذ أن كتب الجنايات والأروش (التعويضات المالية للجراح) تشترط توضيح نوع الإصابة الجسدية، ومن هنا تنبع ضرورة توضيح أن الضرب أفضى لكسر العظم.
وبعد أن أنهت توزُّر تلاوة دعواها، طلبت من القاضي سؤال زوجها، أي استجوابه، عما جاء بالدعوى.
الجزء الثالث: استجواب الزوج ورده (الأسطر ٦–٨): هنا سأل القاضي الزوج، عبد الدايم، فاعترف بما جاء في دعوى زوجته، ولكنه زعم بأنه دفع لوالدها مقدم صداقها ولها نفقة كسوتها. وأضاف أنه دفع أيضًا لخالها وابن عمها ووالدها مبالغ حددها.
الجزء الرابع: عدم تصديق الزوجة لكلام زوجها (السطر ٨).
الجزء الخامس: القاضي يطالب المدعى عليه بإثبات زعمه (السطر ٨–٩): عندها طلب القاضي من الزوج الإتيان ببينة تثبت زعمه، وهو ما كان يعني شاهدين عدلين شهدا واقعة إعطائه الصداق المؤجل لحميه، والصداق المنجّم والنفقة لزوجته، والدنانير لأصهاره.
الجزء السادس: رد الزوج (السطر ٩): عجز الزوج عن الإتيان ببينة.
الجزء السابع: (السطر ٩): عندها طالب الزوج بأن تحلف زوجته اليمين الشرعية على دعواها. هنا، يبدو أن عبد الدايم كان مُلِّمًا بإجراءات التخاصم عند الاختلاف في النفقة. فالمالكية يقولون “إذا اختلفت المرأة وزوجها في نفقة مدة مضت لها، فادعى الزوج أنه قد أنفق عليها، وأنكرت المرأة ذلك… فإنه قد اختلف قول مالك رحمه الله في هذه المسألة، فذُكر عنه روايتان، إحداهما أن القول قول الزوج مع يمينه، والأخرى أن القول قول المرأة مع يمينها.”8
الجزء الثامن: أداء الزوجة اليمين الشرعي (السطر ١٠–١١): هنا لم تتردد الزوجة في حلف يمين تنفي به أنها استلمت المبالغ المدعية بها من زوجها. والملاحظ هنا أن صيغة اليمين، “فحلفت بالله العظيم الذي لا إله إلا هو الرحمن الرحيم“، جاءت مطابقة لما يقوله مالك في شروط اليمين، فابن القاص يقول في أدب القاضي “قال مالك والأوزاعي ليحلفه [أي الحلف، بأن يقول] والله الذي لا إله إلا هو. وقال الشافعي والكوفي ليحلفه [بأن يقول] والله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة الرحمن الرحيم الذي يعلم من السر ما يعلم من العلن…. وقال الليث بن سعد: يحلف بالله لا يزاد عليه.”9
الجزء التاسع: اقتناع القاضي بثبوت مضمون الدعوى، واستيفائه إجراءات السؤال والجواب، وصحة الاعتراف واليمين (السطر ١٢).
الجزء العاشر: الحكم (السطر ١٣–١٤): لما تأكد القاضي من صحة ادعاء توزُّر أمر زوجها، عبد الدايم، بأن يدفع لها صداقها المقدم والمنجم ونفقتها وأجرة نسجها لكسيان زوجها.
الجزء الحادي عشر: الزوج يمتنع عن الدفع (السطر ١٤).
الجزء الثاني عشر: توزُّر تختار حبس زوجها حتى يدفع (السطر ١٤): هنا يبدو أن القاضي سأل توزُّر إن كانت تريد أن تباشر حقها في المطالبة بحبس زوجها حتى يدفع لها مستحقاتها. كما يبدو أن القاضي أيقن أن عبد الدايم ليس معسرًا، وأنه ميسر، ولكنه يمتنع عن الدفع، فابن القاص، مرة أخرى، يخبرنا بأن “اتفق الشافعي والكوفي وصاحباه أن من وجب عليه مال وأقر أنه موسِر أو قامت عليه بينة باليسار، فامتنع عن الأداء وكتم مالَه حيث لا يقدر القاضي عليه، حبسه.”10
الجزء الثالث عشر: تنفيذ حكم الحبس (السطر ١٤–١٥).
الجزء الرابع عشر: “تأديب” الزوج نظير ضربه لزوجته (السطر ١٥–١٧): أما وقد انتهى القاضي من الشق المالي من دعوى توزُّر، انتقل للشق المادي المتمثل في قصبة ذراعها المكسورة. فاستدعى القاضي شيخ طائفة الجراحين في الإسكندرية، الشيخ شهاب الدين الدمنهوري، الذي كشف على ذراع توزُّر ورأى أنها بالفعل مكسورة، وأخبر القاضي بذلك إخبارا شرعيا. فلما تأكد القاضي من ذلك كان له معاقبة الزوج، إذ أن عبد الدايم لم يقل مثلا إنه ضرب زوجته لأنها ناشز بأن امتنعت عن المساكنة (أي الخروج من مسكن الزوجية بدون إذن زوجها) أو الاستمتاع (أي مباشرة الجنس معه)،11 وبالتالي فما قام به الزوج هنا لم يكن ضربًا شرعيًا، بل تعدٍ على زوجته ولذا وجب عقابه. وبما أن الذراع لم تقطع أو يبطُل منفعتها فلا مجال للحكم بالدية أو الأرش (وهو اللفظ الشرعي للتعويض المالي المحدد والمستحق في هذه الحالة).12 ما كان متاحا للقاضي كوسيلة عقاب في هذه الحالة هو إما تقدير مقدار مالي كتعويض يسمى في هذه الحالة “حكومة عدل“، أو “تأديب” الزوج بالضرب تنفيذًا لحق القاضي في التعزير، أي تقدير عقوبة بدنية لا تبلغ الحد. وهو ما قام به القاضي بالفعل، وأغلب الظن أن الضرب تم في مجلس الحكم نفسه.
الجزء السادس عشر: إقرار الزوج على نفسه بالدفع (السطر ١٨–١٩): ومن الطريف أن نجد في نفس صفحة السجل تسجيلا لما تم بعد صدور الحكم وتنفيذ حكم الحبس والضرب. فيبدو أن عبد الدايم لم يطق الحبس ولا ليوم واحد، إذ نراه يقر على نفسه وباختياره أن يدفع لزوجته مبلغ ستين نصف فضة شهريا، بواقع نصفي فضة يوميا نظير نفقتها. إلا أنه لم يذكر إذا كان مستعدًا لدفع قيمة الصداق، مقدمة ومنجمة، المستحق عليه.
الجزء السابع عشر: رضا الزوجة (السطر ١٩): يبدو أن توزُّر رضيت بأن تستلم من زوجها نفقتها، واستكفت بالضرب الذي ناله في المحكمة عقابًا له على ضربه لها وكسره لذراعها. وبرضاها لم يعد هناك سبب لبقائه في الحبس.
لا تعد هذه بأي حال من الأحوال دراسة وافية لموضوع نفقة الزوجة أو ضربها، ولكنها بعض ملاحظات مرتبطة بقضية واحدة نُظرت في المحكمة الشرعية في القرن الحادي عشر الهجري. أسوق هذه الملاحظات للتأكيد على أهمية الاشتباك مع الفقه ودراسته تاريخيًا عند مناقشة قوانين الأحوال الشخصية، فعن طريق هذه القراءة يمكن لنا الوقوف على كيفية تفاعل المجتمعات الإسلامية السابقة مع الفقه وأحكامه. الفقه هنا لا يُفهم فقط بقراءة المتون ولا الشروح ولا الحواشي، ولكن يُفهم أيضًا بقراءة سجلات المحاكم الشرعية.
هذه السجلات تُظهر لنا المرأة لا كمفعول به، بل كفاعل واعٍ متحقق في التاريخ، كما توضح هذه السجلات أن المرأة وإن لم تكن متساوية مع الرجل في الحقوق والواجبات، إلا أنها كانت متمسكة بحقها، مدركة لحقوقها الشرعية، كما كانت لها القدرة على الظهور في مجلس الحكم، أي المحكمة الشرعية، وأن تُجبر القاضي على الاستماع لها وهي تعرض لقضيتها وتقيم البينة على دعاواها. كما توضح هذه السجلات كيف استمع القاضي لدعواها وأخذ بكلامها وحكم لها.
هذه القدرة على إثبات الحقوق والتعامل مع الفقه والتفضيل بين المذاهب قُلصت في القرن التاسع عشر عندما انتزعت الدولة المركزية الناشئة المرونة الكامنة في الفقه، وعندما طورت المحاكم الشرعية ونمَّطتها، أي وضعتها على نمط واحد لا مكان فيه للتمايز أو المرونة؛ لذا يجب علينا عندما نبحث في الأصول الفقهية لمؤسسة الزواج ألا نكتفي بالاشتباك النقدي مع مواد قانون الأحوال الشخصية رقم ٢٥ لسنة ١٩٢٠، ولا بالقراءة المتعمقة لكتب الفقه، بل بقراءة تاريخ المجتمعات الإسلامية كما عكسته سجلات المحاكم الشرعية.
*خالد فهمي
خالد فهمي، أستاذ تاريخ الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بجامعة تافتس بالولايات المتحدة. تشمل اهتماماته: التاريخ الاجتماعي والثقافي لمصر في القرنين التاسع عشر والعشرين، وله أبحاث عن تاريخ الجيش والشرطة والطب والصحة العامة لمصر في القرن التاسع عشر. ومن ضمن مؤلفاته: “كل رجال الباشا: محمد علي جيشه تأسيس مصر الحديثة” (٢٠٠١) و“السعي للعدالة: الفقه والطب والسياسة في مصر الحديثة” (٢٠٢٢). وهو يعمل الآن على كتاب يتناول التاريخ الاجتماعي والعسكري والسياسي لحرب يونيو ١٩٦٧.
1 رنا ممدوح، ” أزمة تعديلات «الأحوال الشخصية»: مشروعات النواب معطلة والأزهر يتحدى بمشروعه و«العدل» و«القومي للمرأة» في الطريق،” مدى مصر، ١٧ يناير ٢٠١٩. https://tinyurl.com/3em5e55x
2 آية عامر، “منظمات نسوية ترفضن مسودة قانون الأحوال الشخصية،” الشروق، ١ مارس ٢٠٢١.
3 “منظمات حقوقية مصرية مستقلة: نرفض قانون القرون الوسطي للأحوال الشخصية لعصفه بحقوق النساء في مصر“، صفحة مركز النديم على فيسبوك، ٤ مارس ٢٠٢١، https://tinyurl.com/233udkvv
4 https://tinyurl.com/ycy8kmjv
5 https://manshurat.org/node/65464
6 رنا ممدوح، ” مشروع الحكومة لـ«الأحوال الشخصية»: الوﻻية للذكورية،” مدى مصر، ٢١ مارس ٢٠٢١. https://tinyurl.com/35w8jekj
7 نوران سيد أحمد، ” النظام المصري يتخبط في قانون الأحوال الشخصية،” موقع مؤسسة كارنيجي، ٢ أغسطس ٢٠٢١، https://carnegieendowment.org/sada/85065
8انظر على سبيل المثال لا الحصر: شريف كمال عزب، الخلع والزواج العرفي: بين الشريعة والقانون وآراء بعض علماء الدين ورجال القانون (القاهرة: دار التقوى، ٢٠٠٠)؛ Hanan Kholoussy, For Better, for Worse : the Marriage Crisis That Made Modern Egypt, (Stanford, Calif.: Stanford University Press, 2000); Kenneth M. Cuno, Modernizing Marriage: Family, Ideology, and Law in Nineteenth- and Early Twentieth-Century Egypt, (Syracuse, New York: Syracuse University Press, 2015);
Mulki Al-Sharmani, Gender Justice and Legal Reform in Egypt: Negotiating Muslim Family Law (Cairo: American University in Cairo Press, 2017); Nathalie Bernard-Maugiron and Baudouin Dupret “Breaking Up the Family: Divorce in Egyptian Law and Practice.” Hawwa (Leiden) 6 (1): 52–74.
9 نوران سيد أحمد، ” النظام المصري.” (هامش ٧ عاليه).
10 Judith E. Tucker, In the House of the Law: Gender and Islamic Law in Ottoman Syria and Palestine (Berkeley: University of California Press, 1998), p. 40.
11 Tucker, In the House of the Law, p. 40.
12 أبو عبد الله محمد الخرشي، شرح الخرشي على مختصر خليل (القاهرة: المطبعة الأميرية الكبرى، ١٣١٧ هـ / ١٨٩٩ م)، ج ٤، ص ١٨٣.
13 Wael B. Hallaq, “The “qāḍī’s dīwān (sijill)” before the Ottomans,” Bulletin of the School of Oriental and African Studies, Vol. 61, No. 3 (1998), pp. 415-436.
14 دراسة جون ماندافيل عن سجلات المحاكم الشرعية المتعلقة بالشام والأردن والتي تحوي عرضا تأريخيا للدراسات المعتمدة على هذه المصادر: Jon E. Mandaville, “The Ottoman Court Records of Syria and Jordan Journal of the American Oriental Society,” Journal of the American Oriental Society, Vol. 86, No. 3 (Jul. – Sep., 1966), pp. 311-319.
15 أندريه ريمون، الحرفيون والتجار في القاهرة في القرن الثامن عشر، ترجمة ناصر إبراهيم وباتسي جمال الدين (القاهرة: المجلس الأعلى للثقافة، ٢٠٠٥).
16 نيللي حنا، ثقافة الطبقة الوسطى في مصر العثمانية (ق ١٦ – ق ١٨)، ترجمة رؤوف عباس (القاهرة: الدار المصرية اللبنانية، ٢٠٠٣).
17 وخير مثال على كتب تاريخ القضاء هو كتاب أبو بكر محمد بن خلف بن حيان بن صدقة، الملقب بـ“وكيع“، أخبار القضاة (القاهرة: المكتبة التجارية الكبرى، ١٩٤٧)، ٣ أجزاء.
18 انظر مثلا أحمد بن أبي أحمد الطبري المعروف بابن القاص، أدب القاضي، تحقيق حسين خلف الجبوري (الطائف: مكتبة الصديق، ١٩٨٩)، جزءان.
19 وخير مثال هو كتاب إبراهيم أبو الفضل ابن الشِّحْنَة (ت ٨٨٢هـ)، لسان الحكام في معرفة الأحكام (القاهرة: مصطفى البابلي، ١٣٩٣ هـ / ١٩٧٣ م).
20 Boğaç Ergene, Local Court, Provincial Society, and Justice in the Ottoman Empire: Legal Practice and Dispute Resolution in Çankırı and Kastamonu (1652-1744). Leiden: Brill, 2003).
21 Leslie Peirce, Morality Tales: Law and Gender in the Ottoman Court of Aintab (Berkeley: University of California Press, 2003).
22 Nelly Hanna, “Marriage among Merchant Families in Seventeenth-Century Cairo,” in Amira Sonbol, ed., Women, the Family, and Divorce Laws in Islamic History (Syracuse: Syracuse Univ. Press, 2007), pp. 143-154, at p. 147.
23 Kenneth Cuno, Modernizing Marriage: Family, Ideology, and Law in Nineteenth- and Early Twentieth-Century Egypt (Syracuse: Syracuse University Press, 2015).
24 Tucker, In the House of the Law, p. 40.
25 انظر خالد فهمي، السعي للعدالة: الطب والفقه والسياسة في مصر الحديثة، ترجمة حسام فخر (القاهرة: دار الشروق، ٢٠٢٢)، ص ١٧٢–١٧٤.
26 ريمون، الحرفيون والتجار، ج ١، ص ١٦٥.
27 ابن رشد الحفيد، بداية المجتهد ونهاية المقتصد (القاهرة: دار السلام، ١٩٩٥)، ج ٣، ص ١٢٧٩.
28 الماوردي، الحاوي الكبير في فقه الإمام الشافعي (بيروت: دار الكتب العلمية، ١٩٩٩)، ج ٩، ص ٤٠١.
29 ابن عابدين، در المحتار على الدر المختار (القاهرة: مصطفى البابلي الحلبي، ١٩٦٦)، ج ٣، ص ٥٧٢.
30 أبو حامد الغزالي، الوجيز في فقه الإمام الشافعي، تحقيق علي معوض وعادل عبد الموجود (بيروت: دار الأرقم، ١٩٩٧)، ج ٢، ص ١١٤–١٢٠.
31 خليل بن اسحق المالكي، مختصر خليل (القاهرة: دار الحديث، ٢٠٠٥)، ص ١١٠.
32 محمد عرفة الدسوقي، حاشية الدسوقي على الشرح الكبير لأبي البركات سيدي أحمد الدردير (القاهرة: دار إحياء الكتب العربية، د. ت.)، ج ٢، ص ٣٣٦. التشديد من عندي.
33 الحسين بن الحسن بن الجلاب، التفريع في فقه الإمام مالك بن أنس، تحقيق سيد كسروي حسن (بيروت: دار الكتب العلمية، ٢٠٠٧)، ج ١، ص ٤٠٦–٤٠٧.
34 ابن القاص، أدب القاضي، ج ١، ص ٢٣٨–٢٣٩.
35 ابن القاص، أدب القاضي، ج ١، ص ٤١٨.
36 عن النشوز، انظر الغزالي، الوجيز، ج ٢، ص ٤٥.
37 لملخص دقيق لهذه الديات، انظر الغزالي، الوجيز، ج ٢، ص ١٤٣–١٤٩.