نفيسة المرادية
دائمًا ما يرتبط ذكر النساء في العصر العثماني، بل وحتى في القرن التاسع عشر بالحرملك والحياة وراء حجب والانعزالية التامة لمجتمع النساء عن الحياة الاجتماعية والاقتصادية.
ولا أدرى السبب الحقيقي وراء هذا الربط الذي لا تؤيده الأسانيد العلمية، ومرددو ذلك يعتمدون على أقوال بعض الرحالة أو غيرهم ممن لم يتعمقوا في حياة المصري, في الوقت الذي تزخر فيه سجلات المحاكم الشرعية بالوثائق التي تثبت دون أدنى شك أن النساء في مصر طوال العصر العثمانى لم يكن سجينات الحرملك, بل كن يمارس حياتهن الخاصة دون أن يكون ذلك حائلاً عن إدارة أموالهن بأنفسهن وممارسة كل التصرفات الشرعية من بيع, وشراء واستبدال ووقف وهبه وغيرها, ويحضرن إلى المحكمة لإثبات ذلك أمام القاضي. وحتى في حالة قضاء الأب أو الزوج بعض الأعمال أو المطالبة ببعض الحقوق لابنته ( ما دامت بالغًا ) أو لزوجته لم يكن ذلك بصفته وليًا أو زوجًا لها، بل بموجب توكيلها أو إذنها الرسمي له في ذلك حتى ولو كان الأمر متعلقًا بزواجها وقد ضمن المشرع عدم قهرها في حق من حقوقها تلك.
وبعد، فإن كان هذا فيما يرتبط بشئونها الخاصة وشئون أسرتها، وهى موضوعات اهتمت بها أميرة سنبل، عفاف لطفى السيد, نيللي حنا، وغيرهن وما زالت في حاجه إلى العديد من الدراسات، فإن استطعن أن يلعبن دورًا شديد الأهمية على مستوى المجتمع المحيط بهن، وعلى المستوى السياسي أيضًا – وهو ما سأحاول الإشارة إليه – من خلال إلقاء الضوء على حياة السيدة نفيسة المرادية، والتي أستطاعت أن تصنع لنفسها مكانة كبيرة بين الأمراء والعلماء والرعية, ليس لأنها زوجة على بك الكبير ومن بعده مراد بك فحسب، بل لأنها أيضًا كانت على جانب كبير من قوة الشخصية والتثقيف والتهذيب، فتعلمت اللغة العربية قراءة وكتابة، وأقبلت على الكتب تطالعها وتدرسها, فاتسعت مداركها، واستحقت احترام العلماء، وكذا قد أسرت قلوب الناس حولها بما اشتهرت به من العطاء والمساعدة، فيذكر عنها “الجبرتي” أن لها على الفقراء برًا وإحسانًا، ولها من المآثر الخان الجديد والصهريج داخل باب زويلة.
وكذلك استطاعت السيدة نفيسة المرادية بواسع ثقافتها وعظيم فطنتها – وهى السيدة التى أصقلتها تجربة على بك الكبير الإدارية والتجارية، ويبدوا أنها مرستها على التعامل مع الأجانب، وربما أيضًا القدرة على التحاور معهم بلغتهم – أن تدرك مقدار الخطر الذي يهدد اقتصاد البلاد من جراء الإجراءات والإتاوات التعسفية التي فرضها مراد بك وإبراهيم بك، ذوى العقلية العسكرية، ضد التجار وخاصة الأجانب منهم, فعملت من خلال شبكة علاقاتها الاجتماعية مع التجار الأجانب والقناصل أمثال “ماجلون” وزوجته على التخفيف من حدة الخلاف بينهم وبين زوجها مراد بك. فعقب إحدى هذه الأزمات عام ١٧٧٥م نجد القنصل الفرنسى ماجلون يكتب إلى غرفة التجارة بمرسيليا فى أكتوبر من نفس العام يذكر أن العلاقات بين مدام ماجلون والسيدة نفيسة المرادية قد عالجت الموقف.
وعندما احتل الفرنسيون مصر عام ۱۷۹۸, وفر مراد بك إلى الصعيد, بقيت هي وغيرها من نساء الأمراء في القاهرة. ولما كان بونابرت مضطرًا إلى ابتزاز الأموال بكل السبل, فقد أذن لنساء البكوات المماليك أن يفتدين أنفسهن بالمال ليسكن في بيوتهن, وإن كان عندهن شيء من متاع أزواجهن يبذلنه، فإن لم يكن عندهن شيء منه يصالحن عن أنفسهن، ويأمن في دورهن, يذكر لنا “ريبو” Reybaud في كتاب “التاريخ العلمي والحربي للحملة الفرنسية على مصر” Histoire scientifique et militaire de l’Expedition Francaise en Egypte الأمر الذى أصدره بونابرت في أول أغسطس ۱۷۹۸م بشأن الغرامة على السيدة نفيسة المرادية، حيث يقضي أن تقدفع هي وحدها ٦٠٠ ألف فرنك, وحتى في هذه اللحظات القاسية لم تتخل السيدة نفسية المرادية عن دورها تجاه غيرها من نساء الأمراء والكشاف, حيث يذكر الجبرتي أنها صالحت عن نفسها وأتباعها من نساء الأمراء والكشاف بمبلغ 120 ألف ريال، وإن ذكر “لاجونكيير” La Jonquiere أن ما تم تحصيله منها عن نفسها ٤٩٢٨٥٧ فرنكًا وما أخذ عن باقى نساء المماليك ٣٢٤٧١٧ فرنكًا وذلك إلى ۲۱ ديسمبر ۱۷۹۸م وهي بلا شك مبالغ ضخمة, حتى أنها اضطرت – والكلام لمصدر فرنسي وهو كتاب “التاريخ العلمي والحربي الفرنسية على مصر” – لدفع حصتها الغرامة الحربية أن تتنازل عن حليها ومجوهراتها ومنها ساعة مرصعة بالجواهر كان أهداها لها القنصل الفرنسي “مجالون” باسم الجمهورية الفرنسية تقديرًا لخدماتها ورعايتها للتجار الفرنسيين،” فكان اضطرارها للنزول عن هذه الهدية احتجاجًا شريفًا منها“.
وقد أدرك الفرنسيون ما لهذه السيدة من نفاذ الكلمة وصواب الرأى وصدق المشورة، فكان لابد من الرجوع إليها عندما أراد كليبر أن يعقد اتفاقًا مع مراد بك وقد استطاعت أن تلعب دورًا مهمًا فى إتمام هذه الاتفاقية، فحفظ لها الفرنسيون هذا المعروف, فيذكر الجبرتي “أنها حصل لها منهم غاية الإكرام، ورتبوا لها من ديوانهم فى كل شهر ۱۰۰ ألف نصف فضة, وشفاعتها عندهم لا ترد” وتؤكد الوثائق الفرنسية قول الجبرتي أن شفاعتها عندهم لا ترد حتى عندما يتعلق
الأمر بكبار المشايخ وكبار أعضاء الديوان فعقب ثورة القاهرة الثانية حجز الفرنسيون زوجة الشيخ السادات ونساء أحمد المحروقي فتدخلت السيدة نفيس المرادية وتشفعت فيهن، وعندما اضطر بليار إلى عقد اتفاق مع العثمانيين لخروج الحملة الفرنسية من القاهرة في منتصف عام ۱۸۰۱ نجده يكتب رسالة إلى الصدر الأعظم بشأنها يذكر له:
“لي عظيم الشرف أن أتقدم لسموكم بأن الحكومة الفرنسية قد منحت السيدة نفيسة المرادية عدة قرى لذا أتوسل إلى سموكم بإعطاء أوامر من أجلها بالمحافظة على ضياعها ووضعها الحالي، وأن لا يلحق بها ضرر, فإن تلك السيدة تستحق كل مراعاة من أجل شخصيتها”.
هكذا خرجت السيدة نفيسة المرادية من تجربة الاحتلال الفرنسي لمصر أو بتعبير آخر تجربة الاصطدام بثقافة الآخر فاقدة زوجها مراد بك وكثيرًا من ثروتها لكنها استطاعت أن تكسب حينًا وتجبر أحيانًا أخرى قادة الحملة الفرنسية على احترامها وتقديرها حق قدرها ودون أن تفقد شيئًا من احترام وتقدير المصريين لها سواء عامة الرعية أو كبار العلماء، ودون أن يطالها شئ من سخط العثمانيين الجارف الذى أودى برقاب كثيرات ممن تعاملن مع الفرنسيين حتى ولو كانت ابنة نقيب الأشراف خليل البكري.
وظلت السيدة نفيسة المرادية تحتفظ بشخصيتها المتميزة ولا تخشى سطوة أو تجبر حاكم حتى نعد أن زال عنها عزها وقل أن نجد من يصمد أمام صاحب سلطان فى فترة الاضطرابات التي أعقبت خروج الحملة من مصر وعدم استقرار الأمور فلم تخش سطوة خورشيد باشا ولم يرهبها سلطانه، فلما استدعاها إلى القلعة ولامها أن جاريتها “منور” تسعى فى تحريض المماليك العصاة على التمرد – ولنترك الجبرتي يكمل لنا جانبًا من الرواية فأجابته: “إن ثبت أن جاريتي قالت ذلك فأنا المأخوذة به دونها ، فأخرج من جيبه ورقة وقال لها وهذه، وأشار إلى الورقة فقالت وما هذه الورقة أرينها فإني أعرف أن أقرأ لأنظر ما هى فأدخلها ثانيا في جيبه“. ولما أمر بإلزامها بيت الشيخ السحيمي وشاع الخبر فى اليوم التالي تكدرت خواطر الناس وركب نقيب الأشراف والشيخ السادات والشيخ الأمير وطلعوا إلى الباشا وكلموه في أمرها، وسألوه بيان ذنبها، وذهب إليها الشيخ الفيومى والشيخ المهدى وخاطباها فيما ذكر فقالت “هذا كلام لا أصل له ، وليس لى فى المصرلية زوج حتى أخاطر بسببه، فإن كان قصده مصادرتي فلم يبق عندى شئ وعلى ديون كثيرة“، فعاد المشايخ إلى خورشيد باشا واحتجوا حتى أطلق سراحها.
وبعد فإن كانت هذه بعض جوانب من سيرة السيدة نفيسة المرادية وبعض صور من قدرتها على امتلاك الحجة والدفاع ليس عن حقها ومصالحها هي وشريحتها الاجتماعية التي تمثلها فحسب بل امتلاكها حسًا جماعيًا حتى في فترات فقرها وعوزها، فالذى لا جدال فيه أنه لا يمكن التعامل معها على أنها حالة نادرة أو استثناء, فالبحث عن أوضاع النساء في تلك الفترة من خلال الأرشيف ومن خلال المصادر الأصلية إنما يثبت دون شك أنهن تمتعن بقدر كبير من الحقوق – وخاصة الشخصية – ومارسنها في ضوء التقنين الشرعي، ومن ثم لم تكن غريبة عن ثقافة العصر الذى تحيينه، ففكر وثقافة هذا المجتمع في تلك الفترة التي ينظر إليها علـى أنها فترة تخلف وظلام في المجتمع المصري، هي نفس ثقافة وفكر العصر الذى سمح لزوجة أحد كبار المشايخ أن تمارس استثمار أموالها وأموال زوجها الشيخ المهدي في مجال العقارات, ويعلق الجبرني على ذلك أنه لابد أن ذلك العمل كان يدر دخلاً كبيرًا على الشيخ المهدى كل شهر. والسؤال الذي قد يكون جديرًا بالطرح الآن, هو كيف يمكن تبنى فكرة العمل على إعداد العديد من الدراسات والأطروحات العلمية التي تساعد على إبراز هذه الحقوق والممارسات لها – سواء على مستوى الأحوال الشخصية أو الحقوق السياسية – لتعيد تشكيل ثقافة وفكر المجتمع بالنسبة لموضوع حقوق النساء ؟
أيضًا ضرورة العمل على دراسة الأسباب وراء حرمان النساء من هذه الحقوق أثناء القرن التاسع عشر ليعدن في نهايته مطالبات ببعضها لكن من منطلقات الارتباط بالأفكار الغربية، وليس من منطلق الارتباط مع المرجعية التشريعية أو التراث الفكري للمجتمع الإسلامي.
رمضان الخولى باحث ماجستير جامعة عين شمس قسم تاريخ.