هكذا ببساطة

تاريخ النشر:

2011

هكذا ببساطة

سحر الموجى*

أدخل إلى بيتي وساقاي تئنان من وقفة اليوم الطويل. صوتي مبحوح وفي ظهري ألم. لكنن لا أشعر بالتعب. أندفع إلى شاشة التليفزيون. ماذا حدث اليوم دون علمي؟ عمر سليمان يجتمع بتيارات المعارضة، سبحان العاطي، والإخوان، أرزاق! فجأة أصبح هؤلاء نجومًا يتم التحاور معهم «من أجل مستقبل مصر». يؤكد عمر سليمان ومن يتحدث باسمه أن «كله هيبقى تمام»… (احنا سايبنكم تتسلوا وبنلعب معكم حوار، وسوف نرى ما يمكننا فعله لإسكات هؤلاء السفلة المرابضين في الشوارع). يغمرني القرف من كذباتهم ووجوههم الكالحة.

شاردة أفرد ساقي على منضدة حجرة المعيشة وأنا أشرب الشاي الأخضر الساخن عله يغسل الهم. أنتبه على صوت الشيخ إمام يأتي من شاشة «الجزيرة» «يا مصر قومي وشدي الحيل.. كل اللي تتمنيه عندي. لا القهر يطويني ولا الليل.. أمان أمان بيرم أفندي.. يا مصر». تتدافع دموع قديمة إلى عيني. فهذا بيت جدتي في الأزهر. خارج النافذة مآذن القاهرة الفاطمية أصابع تشير إلى السماء ومن حولها تحوم أسراب الحمام الأبيض. في الداخل هذه أنا طفلة تتعثر في أقدام هؤلاء الذين يتحلقون في غرفة الصالون حول إمام ونجم ومحمد علي ونجيب شهاب الدين الذي كتب تلك القصيدة من أيام، وها هم يغنوها للمرة الأولى. جوقة كاملة ترد على الشيخ إمام. صوت نجم سيء للغاية، لكنني أنصت مأخوذة، ولم يكن هناك لا العود في يد الشيخ الضرير ورق صغير في يد عمي جمال يُدخل إلى الأغنية شقاوة مصرية. أي هناك بالطبع. وجهه متورد وعيناه تلتمعان بنشوة عشق.

رافعين جباه حرة شريفة

باسطين أيادي تؤدي الفرض

ناقصين مؤذن وخليفة

ونور ما بين السما والأرض

على سرير العناية المركزة كان أبي لا يزال في رقدته الطويلة وأنبوب الأكسجين يخترق حنجرته كي يدخل إلى الرئة المحتضرة بعض حياة. كانت عيناه دامعتين. قبلت جبينه وأنا أتساءل مأخوذة «فيه إيه يابابا؟». مد يده إلى الكراس الراقد فوق بطنه وكتب «هتوحشوني قوي. أنا باحبك. باحبكم. ومطمن عليكم». داهمني ألم حاد في القلب فلم أستطع أن أدخل سكة المزاح هذه المرة. سالت دموعي دون استئذان وأنا أؤكد «أنا باحبك قوي». لا أعرف إن كان يعاني الوحشة الآن. أشك في ذلك، فها أنا ذا في هذا العالم المؤقت لا أعاني وحشة توقعتها وخفت منها وسألت نفسي عنها وأنا واقفة بجانب سرير العناية المركزة في ديسمبر 2006. في 28 يناير. لم نكن قد بدأنا الهتاف. كنا فقط نركض بعيدًا عن قنابل الغاز ورصاص الجنود. وكان هناك يداري بابتسامته القلق. لكن مع نهايات اليوم، عندما وصلنا أمام المتحف المصري في السابعة مساء، كان يهتف وهو يبكي فرحًا «يا مصر عودي زي زمان/ ندهة من الأزهر وآدان». لم يكن وحده هناك. كان معه أباه الشيخ الأزهري الذي خرج في مظاهرات 1919 من قلب الجامع الأزهر يهتف بملئ حنجرته «يحيا الاستقلال. لتسقط الحماية. يحيا الاستقلال. لتسقط الحماية». في ميدان التحرير كنا خمسة – جدي وأبي وأناومعنا ولدي، ريم ومروان، وقفنا مخطوفي الأنفاس نشهد هذا النور الواصل بين السماء والأرض. كان النور يغمر ميدان التحرير رغم حلول الليل ودخان القنابل. وكانت السماء قريبة جدًا، قريبة بما يكفي أن تردد أصوات الغضب وزغاريد العودة إلى الديار.

كان صوت الشيخ إمام يأتي من شاشة «الجزيرة»، يعبر الزمن، يدوس فوق رقاب الطغاة ويتقاطع مع الصور المتتالية أمامي: شباب يقفون بأجسادهم أمام مدرعات الطغاة فترتعش المدرعة. هكذا ببساطة. وشاب يفتح صدره للعسكر في دعوة مفتوحة للموت والرصاص الغبي يعرف طريقه جيدًا إلى القلب الغض. هكذا ببساطة. كانت النساء هناك والشيوخ هناك وبالفقراء والأغنياء. كانت مصر هناك يا أبي. أنت تعرف هذا بالطبع فقد كنت أنت أيضًا هناك. هل تعتقد أن الآخرون سيعتبرونني مجنونة تمامًا إذ أصرح أنني قد شعرت بأنفاسك تمر بجانب وجهي وتتركني مبتسمة بدل المرة الواحدة مرات؟

الدم يجري في ماء النيل

والنيل بيفتح على سجني

والسجن يطرح غلة وتين

نجوع ونتعرى ونبني

لمة بيت الأزهر تُردد وراء إمام الذي سجن طويلاً ولم يتأدب. لا شك أن النيل كان يفتح على سجن القلعة في الزمن القديم وربما إلى الآن. وكذلك نجم سجن ولم يتأدب، ظل يطاردهم بالكلمات، يقض مضاجعهم الوثيرة، وينكد عليهم عيشتهم الهنية. يصحبني أبي في مهمة سرية. قال «مش هنقول لحد إننا رايحين لنجم لأنه هربان من السجن». هكذا ببساطة سنزور هاربًا من السجن يسكن في شقة بمصر الجديدة لا ينقصه فيها أصحاب ولا حشيش. استمتعت كثيرًا بالمغامرة أكثر من استمتاعي برؤية المخبر الذي احترف الوقوف على الناصية المواجهة لبيتنا. لا أعرف كيف عرفت أمي عن تلك الزيارة، لكنها كانت إحدى المرات القليلة التي رأيتها تعبر لأبي عن غضبها أمامنا «طَّلع الولاد من الموضوع ده يا سعد». أما سعد فقد ابتسم ابتسامته الساحرة وضحك عاليًا وهو يهون من خوفها. قبَّل جبينها ثم شدها إلى حضنه وأخذ يدور بها راقصًا في أرجاء الصالة وهو يدندن «يا مصر ملو قلوبنا الخير وحلمنا ورد مندي». وضحكت أمي.

على شاشة «الجزيرة» يعود الشيخ إمام مرة أخرى إلى الحياة. يسمع رنين صوته هؤلاء الذين ولدوا بعد أن مات. ويسمع ندهته المصريون الذين أفاقوا فشدت مصر حيلها. صحيح يا شيخ إمام «عددنا كتير» بالفعل. صحيح أن الدم يجري في ماء النيل. لقد رأيته بعيني. أن الناس مثلك ومثل أبي لم يفقدوا للحظة واحدة الأمل في ثورة تعيد إلينا الحياة فنفتح الزنازين ونخرج إلى الشوارع ونبيت في الميادين ونحرق الطغاة واحدًا تلو الآخر. هكذا ببساطة.

في تلك الليلة نمت فرأيت في منامي الشيخ إمام في بيت جدتي. كان يغني. ورأيت أبي وهو يرقص مبتهجًا وسط الحشود في الميدان. وفي الصباح ارتديت ملابسي وحملت العلم وذهبت مسرعة إلى هناك. كنت أنا وأبي على موعد. هكذا ببساطة.

 

*كاتبة وروائية، مدرسة بقسم اللغة الإنجليزية،جامعة القاهرة.

 

الكلمات المفتاحية: قصة قصيرة
شارك:

اصدارات متعلقة

استفحال المنظومة الأبوية المصرية في انتهاك أجساد القاصرات / القصر
دور قطاع الاتصالات وتكنولوجيا المعلومات في تمكين المرأة في مصر
ملك حفنى ناصف
غياب السلام في “دار السلام”.. نحو واقع جديد للعلاقات الزوجية
مطبوعات
نبوية موسى
من قضايا العمل والتعليم
قائمة المصطلحات Glossary
مطبوعات
مطبوعات