الصعيد يصبغ وجه أبنائه بلون ترابه وأصالته
كيف لقلب العاشق أن يتوقف؟
كتب أمل دنقل قصيدته “وجه“، إحدى أوراق الغرفة (٨)، وهو يعاني من مرض السرطان في معهد الأورام، وظننا أنه كان يرثي نفسه، ولكن بمرور الأيام نكتشف أنه يرثى جيله کاملاً فكم من هذا الجيل من مات فجأة، وكم منهم من شعرنا أنه هنا.. مازال موجودًا رغم موته، فقد.. استطاع أن يتخلص من مرارة أيامنا استطاع أن يرتفع
فجأة مات لم يحتمل قلبه سريان المخدر وانسحبت من على وجهه سنوات العذابات عاد كما كان طفلاً… يشاركني في سريري وفي كسرة الخبز، والتبغ، لكنه لا يشاركني… في المرارة!
قالت الأخبار “مات رضوان الكاشف إثر سكتة قلبية“! كيف يسكت قلب حوى الصعيد بكل من فيه وما فيه من نخيل ووجوه وعادات وتراث غنائي، واستطاع أن يخرج أصالته وحضارته ورموزه في أعمال كفيلمه “الجنوبية” وفيلم “عرق البلح“؟ كيف استطاع قلب أحب الفقراء وعاش معهم وتعاطف وساند أن يتوقف، قلب كان دائمًا مع من يحتاج فساعد الجمعيات الأهلية التي كان يؤمن بدورها بشدة فجاءت أفلامه التسجيلية (نساء من الزمن الصعب، بائعي الأطعمة) لترصد هموم بعض فئات المجتمع، وعندما تعرض نصر حامد أبو زيد لمأساة تكفيره وتفريقه عن زوجته صنع (حوارات مع نصر حامد أبو زيد..) وكلها توضح كم ارتبط رضوان بمواجهة الظلم، والقهر والصعاب، فقد اختار طريقًا صعبًا ليمشى فيه ويمسك شمعة – تشتعل الآن بجوار صورة تراثيه.. ليضئ طريقًا طويلاً مظلمًا هو طريق الخروج من متاهة لم نخترها، ولكنها فرضت علينا.
هل تركنا في العراء أم ترك لنا ميراثًا من الأحلام!!
عاش منتصبًا، بينما ينحنى القلب يبحث عما فقد
وانتقل من سياق موته إلى تساؤل أصعب، نسأل: لماذا الآن؟ ونحن ننتظر ونتوقع الكثير، لماذا الموت فجأة؟ هل لأنه من جيل رفض وعيه التخدير، ولم يحتمل التعطيل الإجباري عن الثورة، فلم يستطع قلبه الركون للسلام وتساقط كل رموز هذا الجيل أوراق شجر لم تحتمل خريف الأيام الحزينة، فخسرنا سريعًا صلاح عبد الصبور، وأروى صالح، وأمل دنقل، ورضوان الكاشف. أتي رضوان الكاشف من الصعيد من “كوم اشقاو” بسوهاج. كان ابنًا لمدرس لغة عربية، وقد تعلم الفلسفة في كلية الآداب لكنه قرر أن يكون أحد عمال بناء السينما المصرية فبنى فيها صرحًا كبيرًا كتب عليه اسمه واسم أفلامه الروائية (الجنوبية، عرق البلح، وليه يا بنفسج، والساحر) بالإضافة إلى أفلامه التسجيلية، وكأن رضوان الكاشف يعرض نفسه وقلبه على العالم عندما يعرض أفلامه فكانت الأفلام الثلاثة تكشف ثلاثة أركان في حياته فعرق البلح يكشف أعمق ما في الصعيد، فالصعيد لا يصبغ فقط وجه أبنائه بلون ترابه بل يصبغه أيضًا بأصالته بإصراره وبحزنه الدفين حتى أنى عندما أرى عيونًا حزينة فقط يحضرني الجنوب، وأما فيلم “ليه يا بنفسج” فقد جاء اقتباس الاسم من مقطع لأغنية تتساءل (ليه يا بنفسج بتبهج… وانت زهر حزين؟) ونسال لماذا عاش رضوان الكاشف يبهج أرواحنا رغم أن أعماله كانت تقطر حزنًا؟، وفيلم “الساحر” هو آخر أفلامه وترى من كان الساحر من كان يحاول إرسال البهجة إلى قلوب الناس بأعماله السحرية وهو ملئ بالقلق والانتظار لما لن يأتي
من أقاصي الجنوب أتى عامل للبناء كان يصعد سقالة ويغني لهذا الفضاء كنت أجلس خارج مقهي قريب. وبالأعين الشاردة.. كنت أقرأ نصف الصحيفة، والنصف أخفى به وسخ المائدة لم أجد غير عينين لا تبصران وخيط الدماء وانحنيت عليه.. أجس يده قال آخر: لا فائدة صار نصف الجريدة كل الغطاء وأنا في العراء
مات رضوان الكاشف وتركنا نحن في العراء وترك ميراثاً كبيراً من الأحلام بالتأكيد سيحمله تلاميذه ومحبوه ربما أضافوا إليه ربما عدلوا لكنه سيظل حلماً بالعدل حلمًا بالأمان حلمًا بالحرية والجمال. أحلامَ رضوان الكاشف التي لم تكتمل مسئوليتنا جميعًا فهي أحلامنا، وهي وجوده المستمر رغم الموت الجسدي.
ليت أسماء تعرف أن أباها صعد لم يمت هل يموت الذي يحيا كأن الحياة أبد! وكأن الطعام نفد! وكانت البنات الجميلات يمشين فوق الزبد! عاش منتصبًا، بينما ينحنى القلب يبحث عما فقد.