لقد كانت نوال السعداوي, ككاتبة وناشطة نسوية، في بداية مرحلة انتباهي للواقع المحيط بي, محط اهتمام الكثيرات من بنات جيلي سواء أولئك اللاتي بدأن يتمردنَ على أوضاعٍ مجتمعية وبدأن في تبني كثير من الأفكار التي تطرحها أو على النقيض مهاجمة هذه الأفكار بل وامتد هذا الجدل ليطول شخص الكاتبة ذاتها.
وفي هذه المرحلة، لم آخذ موقفًا بالسلب أو بالإيجاب من أفكار نوال السعداوي، فقد كانت أفكارها خارج نطاق الأفكار التي نشأت عليها، فلقد نشأت في أسرة مسيحية وتلقيت تربية وتعليمًا محافظين في مدرسة راهبات تضع تنشئة الفتيات – أمهات المستقبل وفقًا للمصطلح الذي كانت تستخدمه المدرسة لوصفنا – دينيًا وأخلاقيًا على رأس أولوياتها. فلطالما رددت مُديرة المدرسة مقولة حُفرت في ذاكرتي:” مهما كان مستقبلكن ومهما كانت إنجازاتكن ومهما كانت المناصب التي ستصلن إليها، فالإنجاز الأهم الذي ستقُمن به أنكن ستصبحن أمهات, وأنا واجبي ودوري هو تنشئة وإعداد أمهات المستقبل“.
والمفارقة هنا أن مديرة المدرسة كانت راهبة, أي أنها قد كرست حياتها بالكامل لخدمة الرب، ولن تُقدم على الزواج وبالتبعية لن تصبح أما أبدًا.
كانت المدرسة والكنيسة من أهم محطات تشكل وعيي، فقد كانت الخطيئة هي محور الحديث دائمًا، فلقد أصبحنا جميعًا مخطئين عندما أخطأ آدم وحواء، وقد كانت خطيئتهما هي التمرد وعدم الطاعة، فلقد كسرا وصية الإله وأكلا من الشجرة المحرمة.
وبعد الخطيئة كان العُري.
فعندما “سَمِعَا صَوْتَ الرَّبِّ الإِلهِ مَاشِيًا فِي الْجَنَّةِ عِنْدَ هُبُوبِ رِيحِ النَّهَارِ، فَاخْتَبَأَ آدَمُ وَامْرَأَتُهُ مِنْ وَجْهِ الرَّبِّ الإلهِ فِي وَسَطِ شَجَرِ الْجَنَّةِ. فَنَادَى الرَّبُّ الإِلهُ آدَمَ وَقَالَ لَهُ: “أَيْنَ أَنْتَ“. فَقَالَ: “سَمِعْتُ صَوْتَكَ فِي الْجَنَّةِ فَخَشِيتُ، لأنّي عُرْيَانٌ فَاخْتَبَأْت” . فَقَالَ: “مَنْ أَعْلَمَكَ أَنَّكَ عُرْيَانٌ؟ هَلْ أَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ أَنْ لا تَأْكُلَ مِنْهَا؟” فَقَالَ آدَمُ: “الْمَرْأَةُ الَّتِي جَعَلْتَهَا مَعِي هِيَ أَعْطَتْنِي مِنَ الشَّجَرَةِ فَأَكَلْتُ“.
وبعد العُري كان العقاب.
فلقد عاقبهما الله بطردهما من الجنة بعد أن قام بتحديد دور كل منهما في الأرض وَقَالَ لِلْمَرْأَةِ: “كْثِيرًا أَكَثْرُ أَتْعَابَ حَبَلِكِ، بِالْوَجَع تَلِدِينَ أَوْلاَدًا. وَإِلَى رَجُلِكِ يَكُونُ اشْتِيَاقُكِ وَهُوَ يَسُودُ عَلَيْكِ“. وَقَالَ لآدَمَ: “لأَنَّكَ سَمِعْتَ لِقَوْلِ امْرَأَتِكَ وَأَكَلْتَ مِنَ الشَّجَرَةِ الَّتِي أَوْصَيْتُكَ قَائِلاً: لَا تَأْكُلْ مِنْهَا، مَلْعُونَةٌ الأَرْضُ بِسَبَبِكَ. بِالتَّعَبِ تَأْكُلُ مِنْهَا كُلَّ أَيَّامٍ حَيَاتِكَ. وَشَوْكًا وَحَسَكًا تُنْبِتُ لَكَ، وَتَأْكُلُ عُشْبَ الْحَقْلِ. بِعَرَقِ وَجْهِكَ تَأْكُلُ خُبْزًا حَتَّى تَعُودَ إِلَى الأَرْضِ الَّتِي أُخِذْتَ مِنْهَا. لأَنَّكَ تُرَابٌ، وَإِلَى تُرَابٍ تَعُودُ“.
ومن هنا بدأت العلاقة بين خطيئة الروح والجسد، ففور تمرد آدم على الوصية، بدأ يخجل من جسده، وبدأت قوانين الحياة الجديدة, حياة الأرض التي جعلت من آدم رجُلًا يشقى ويتعب وجعلت من حواء مرأة دورها الرئيسي هو الإنجاب.
ولكن كان حب الإله للبشرية قويًا بقدر حزنه على ما آلت إليه صنيعة يداه، فكانت خطة الإله هي أن يبذل نفسه من أجل البشرية فداءً لها، حتى يُتمم عملية الخلاص، الخلاص من الخطيئة. “لأَنَّهُ هكَذَا أَحَبَّ اللهُ الْعَالَمَ حَتَّى بَذَلَ ابْنَهُ الْوَحِيدَ، لِكَيْ لاَ يَهْلِكَ كُلُّ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ، بَلْ تَكُونُ لَهُ الْحَيَاةُ الأَبَدِيَّةُ.” (إنجيل يوحنا الإصحاح الثالث، الآية ١٦)
ولكن موت الإله وقيامته لم تعني أننا تخلصنا إلى الأبد من نير تلك الخطيئة، ففي النهاية نحن مازلنا بشرًا، ولكن الخلاص كان معناه أنه هناك فرصة أخرى, تلك الفرصة تتاح فقط لمن يؤمن بخلاص المسيح ومن يعيش في توبة دائمة عن خطاياه التي يرتكبها “بمعرفة وبغير معرفة“.
ولذلك كان المطلوب منا دائمًا التطهر من كل فعل أو قول أو فكر قد يُعتبر خطيئة.
وعلى الرغم من أن العهد الجديد في المسيحية لم يأت بتعريف واضح للخطيئة، إلا أن اجتهادات ما كانت تهدينا الدرب الذي يجب أن نسير عليه ولا نحيد عنه أبدًا.
وكان من أُسس ذلك الدرب “تجنب خطيئة الجسد“، وخطيئة الجسد كان يُقصد بها معظم الوقت “الشهوة“.
كان الجسد بمثابة مسكن الشيطان الذي علينا دائمًا أن نتجنبه ونتجاهل ما يشعر به، وكان الإله هو صورة الأب الذي يقوم دائمًا بتربية وتقويم الأبناء الضالين, وكان كل من يهتم أو يعبر عن ما يختبره جسده أثناء فترة بلوغه هو بمثابة ابن ضال. هذا ما تعلمته، وهذا ما كنت مؤمنة به.
أتذكر جيدًا أنه في إحدى العظات في الكنيسة التي كنت أرتادها كانت إحدى نقاط العظة عن كيفية ضبط النفس, وبعد الانتهاء طرح أحد الأصدقاء سؤالًا لم يرد ببالي قط حينها، “لماذا خلقنا الله برغباتنا الجنسية، والآن يطلب منا أن نتجاهلها وأن لا نستجيب لها؟“
إذن فقد كانت نوال السعداوي بالنسبة لي هي “التمرد الكبير“، حيث كانت كتاباتها ثورة على سلطة تضع قواعد تُقيد الجسد. فلقد هدمت كل تلك البنية التي كنت أعيش فيها. ولم يكن من السهل عليَّ أن أتبنى تلك الأفكار إلا أن نقاشات صديقات المدرسة هي ما حفزت لدي الرغبة في التفكير خارج هذا الصندوق من الضوابط المتعلقة بالجسد, الذي أوصلني لكره جسدي وكل ما يمليه عليَّ من احتياجات ومشاعر.
لم تكن صديقات المدرسة نسويات، ولكنهن كن متطلعات لاكتشاف آفاق جديدة للحياة. ولم تكن القراءة شئ يستهويني في نهايات المرحلة الإعدادية وبداية المرحلة الثانوية، ولكن كانت النقاشات والجدالات حول الموضوعات التي تُثار هي أكثر ما يمتعني في الحياة. وكُلما فُتح موضوع للمناقشة، استمر أنا في طرح الأسئلة التي ترد على بالي وأتذكر جيدًا مدى الصدمة التي كانت تتسبب فيها أسئلتي. وكأي فتيات في مرحلة مراهقتهن كان “الجنس” يردُ كثيرًا في أحاديثنا وهمهمتنا.
وكانت نوال السعداوي تُذكر في تلك الأحاديث ككاتبة تتحدث بجرأة ودون خجل عن احتياجات النساء الجنسية وعن أجسادهن، مما كان يثير انبهاري وشغفي لقراءة كتاباتها.
تطورت أفكاري جراء المناقشات وبعض القراءات التي لم تكن كثيرة، وبدأت أتساءل عن تلك القواعد المقيدة للجسد، ومدى أهميتها. ومع مرور الوقت تطورت تساؤلاتي.
وبدأت أدرك أن التمرد على السلطة هي جزء أساسي من رفضي لكل ما هو مُقيد لي ولحريتي. ولكنني أدركتُ أيضًا أن الصراع ضد الأبوية لا يقتصر فقط على التمرد على الدين والرجال؛ فلقد علمت أن الذكور هم أيضًا ضحايا لنفس المنظومة الأبوية التي تزرع بداخلهم أنماط سلوكية معينة حتى يصبحوا “رجالاً” ملائمين لدورهم الاجتماعي المفروض عليهم، وهذا لا ينفي أن لديهم امتيازات في ظل تلك المنظومة.
طبيعة حياتي كفتاة مسيحية مصرية, من الطبقة الوسطى هي ما شكلت وعيي, ومحطات حياتي بكل ما احتوته من مواقف وأشخاص وقراءات, هي ما جعلتني أعي وأدرك جزءً من النظام المعقد التي يتحكم في حياتي وحياتنا ومصائرنا.
لا أشعر بالتمييز ضدي فقط لأنني “أنثى” – كما يصنفونني –، ولكني لطالما شعرت بالتمييز بسبب انتمائي للأقلية الدينية في مصر، كمان أنني تنبهت للتمييز والاضطهاد الذي كنت سأتعرض له إذا كنت من طبقة اجتماعية أقل أو من عرق مختلف.
هذا ما لم تتحدث عنه نوال السعداوي في كتاباتها، أننا لسنا مضطهدات / مضطهدين بسبب أنواعنا الاجتماعية فقط، ولكن أيضًا قد نضطهد بسبب معتقاداتنا, لوننا، ميولنا الجنسية, طبقتنا الاجتماعية, بعدنا عن المركز الخ.
ولهذا أدركُ الآن أن النضال ضد الأبوية لابد أن يشمل نضالاً ضد الطبقية والعنصرية والطائفية… الخ، فكل تلك الأشكال متقاطعة تتسبب جميعها في قهر الإنسان، وهذا ما فتح ذهني لفهم مدى تعقيد هذه المنظومة التي نحيا بها، وهو ما دفعني لمحاولة فهم أعمق لما قد يبدو متعلقًا بالمجال العام ولكنه في الواقع يؤثر ويتفاعل مع حياتي الشخصية.
في النهاية، على الرغم من اختلافي الآن مع الكثير من كتابات وآراء نوال السعداوي، إلا أنني أدرك أنها كانت من أهم محطات تشكل وعيي, ووعي الكثير من بنات وأبناء جيلي، وكل ذلك بسبب كتابتها وتوثيقها لكثير من تجاربها الحياتية وتحليلاتها.