خطاب مفتوح إلى جمال عبد الناصر
“الحرية هي الرئة الوحيدة التي يتنفس بها الشعب، إنك في حاجة إلى الخلاف، تمامًا كحاجتك إلى الاتحاد“.
كتبت السيدة “فاطمة اليوسف“هذا الخطاب المفتوح الى الرئيس جمال عبد الناصر في العدد رقم 1300 عام 1953 من مجلة “روزاليوسف” وعندما فكرنا في أن يكون وجه هذا العدد هو السيدة فاطمة اليوسف لم نجد أبلغ من هذا المقال للتعبير عنها كامرأة قوية منحازة للحرية وفي هذه الرسالة التي مر عليها أكثر من نصف قرن أبلغ رد على خفافيش الظلام الذين أرادوا بجهلهم إغراقنا في ظلام التخلف وكان آخرهم باحث قدم رسالة لنيل الدكتوراة هي فضيحة علمية قدمها طالب بجامعة الأزهر وقضت بتكفير السيدة العظيمة وإهالة ركام الجهل على تاريخها المضئ.
تحية أزكي بها شبابك الذي عرضته للخطر وجهدك الذي تنفقه من أجل هذا الوطن. تحية من سيدة عاصرت الحوادث واعتصرتها التجربة أنفقت عمرها تتأمل الوجوه القديمة حتى كفرت بكل وجه يحمل ملامح القدم فلا يسعدها اليوم شيء كما يسعدها أن ترى الوجوه الجديدة تزحف، وتنال فرصتها الكافية لتحاول أن تسير بهذا الوطن بأسرع مما كان يسير.
إننى أعرف الكثير عن ساعاتك التي تنفقها عملاً بغير راحة، ولياليك التي تقطعها سهرًا بلا نوم وتدقيقك البالغ في كل أمر بغية أن تصل فيه إلى وجه الصواب ولكنك – وحدك – لن تستطيع كل شيء ولا بالمعونة الخالصة من إخوانك وكل الذين تعرفهم أيضًا وتثق بهم فلا بد لك من معونة الذين لا تعرفهم أيضًا، الذين يعيشون في جو غير جوك، ويتأثرون بعوامل غير التي تؤثر في أصدقائك ويمرون بتجارب كثيرة متنوعة لا يمكن أن يمر بها واحد من الناس، ولا عشرة ولا ألف!
إنك – باختصار– في حاجة إلى الخلاف تمامًا كحاجتك إلى الاتحاد، إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معًا ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر، الاتحاد للغايات البعيدة والمعاني الكبيرة والخلاف للوسائل والتفاصيل: انظر إلى الأسرة الواحدة في البيت الواحد قد تراها متماسكة متحابة متضامنة ولكن كل فرد فيها يفضل نوعًا من الطعام ويتجه إلى طراز من العمل، ويروق له لون من الثياب، ثم انظر إلى أسرة الوطن الكبيرة – أي وطن كبير – نجد هذا التباين والخلاف موجودًا بينهم في أدق دقائق الحياة في طريقة تذوق الحياة ذاتها، هذا الخلاف ليس شيئًا تمليه الطبيعة وحدها، بل والمفضلة، أيضًا فكل إنسان يعيش حياة خاصة به تكيفها ظروفه الاقتصادية والاجتماعية والثقافية ومن حق كل إنسان أن يعبر دائمًا عن تجربته التي يستخلصها من هذه الحياة، وأن يوضح مطالبه ويشرح أحلامه. ومن اختلاف المطالب واحتكاك التجارب يتبين اتجاهًا عامًا أو رأيًا عامًا يتفق عليه أكثر الناس، شيء كضغط الهواء تحسه ولكن لن تراه، يوجه دفة السياسة كما تنفخ الريح في الشراع!
فمالك الأرض الزراعية لا ينظر إلى الأمور كما ينظر إليها صاحب المصنع وإحساس الموظف ليس كإحساس العامل الزراعي أو العامل الصناعي أو التاجر، وما دام الناس طبقات كل طبقة لها وضعها وظروفها فلابد من تعارض، لابد من تعداد في كل شيء في الأحزاب، وفي الآراء، وفي الأحلام.
تعدد يصبح وحدة متماسكة إذا داهم خطر خارجي أو نزلت بوطن الجميع نازلة ولكنه لا يموت أبدًا لأنه شيء تمليه الطبيعة وتمليه المصلحة وأنت تؤمن بهذا كله لا شك في ذلك وقد قرأت لك غير بعيد حديثًا تطالب فيه بالنقد وبالآراء الحرة النزيهة ولو خالفتك. ولكن أتعتقد أن الرأى يمكن أن يكون حرًا حقًا وعلى الفكر القيود؟ وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس واستبدلت حديدها بحرير فكيف يتخلص صاحب الرأى من تأثيرها المعنوي؟ يكفي أن توجد القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه يكفي أن يشم المفكر رائحة الرقابة، وأن يرى بعض الموضوعات مصونة لا تمس، ليتكبل فكره، وتتردد يده، ويصبح أسيرًا بلا قضبان. وقد قرأت لك أيضًا – أو لبعض زملائك – أنكم تبحثون عن كفايات، وإنكم تريدون طرازًا غير المنافقين الموافقين، ولكن كيف يبرز صاحب الكفاية كفايته؟ إلى ذلك من يعبر عن نفسه يعبر عنها بصراحة ودون تحوير إن مجرد شعور صاحب الكفاية – مخطئًا مصيبًا – بأن هناك شيئًا مطلوبًا وشيئًا غير مطلوب يجعله إما إن يبعد نفسه خشية ألا يوافق المطلوب وإما أن يقترب بما تهيئ له نفسه ليتلاءم مع ما يعتقد أنه مطلوب فتضيع الفائدة منه في كلتا الحالتين، أترى إلى أي حد تفسد هذه القيود الجو؟ أترى هذا الستار الكثيف الذي تقيمه بين الحاكم وبين ضمائر الناس؟ إن الناس لابد وأن يختلفوا لأنهم مختلفون خلقًا وطبعًا، وقد دعت الظروف إلى إلغاء الأحزاب وإلى تعطيل الكثير من وسائل إبداء الرأي وقد أصبح العهد الجديد شعارًا واحدًا وألوانًا واحدة فلم يبق شيء يمكن أن يتنفس فيه النقد وتتجاوب فيه وجهات النظر غير الصحف، وأسنة الأقلام، وتفكير المواطنين. على أنى أعرف الدوافع لإبقاء هذه القيود أنت تخاف أنياب الأفاعي وفيران كل سفينة، أنت تخاف من إباحة الحريات وأن يستفيد منها الملوثون المغرضون ولكن صدقني إن هذا النوع من الناس لا يكون لهم خطر إلا في ظل الرقابة وتقييد الحريات، إن الحرية لا يفيد منها أبدًا إلا الأحرار والنور لا يفزع إلا الخفافيش. أما الهمسات في الظلام والسمات التي يبطنها النفاق والمدائح التي يمتزج بها السم الزعاف فلا شيء يبطل مفعولها إلا النور والهواء الطلق والرأي العام النابه الحريص. وأعرف أيضًا أنك تتهيأ لمعركة فاصلة مع الإنجليز وكلمتك الباهرة التي أعلنت بها توقف المباحثات لا تدع مجالاً للشك في صلابة موقفك وأنت تخاف على هذا الموقف الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك، وصدقني إن هذا لن يكون، فهؤلاء الانهزاميون لم يحدثوا تأثيرهم في الماضي إلا لأن جهات قوية كانت تحميهم ولو أنهم تركوا بغير حماية لما عاشوا طويلاً فالحرية الصحيحة دائمًا كفيلة بقتل أعدائها كما يقتل نور الشمس ديدان الأرض.
بل إن استعدادك للمعركة الفاصلة مع الإنجليز وحده لسبب كاف لإلغاء القيود على الحريات فمن مصلحة هذه المعركة أن يكون جنودها أحرارًا، والقيود ستار للضعيف وعذر للمتردد، ولكنها عقبة في سبيل الأقوياء المؤمنين. ولا تصدق ما يقال من أن الحرية شيء يباح في وقت ولا يباح في وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع ويعيش، والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر، إنه يتنفس حين يأكل وحين ينام وحين يحارب أيضًا.. إنك بكل تأكيد تضيق ذرعًا بصحف الصباح حين تطالعها فتجد أنها تكاد تكون طبعة واحدة لا تختلف إلا في العناوين حتى بعض الحوادث في الأقاليم المحلية يصدر بها أحيانًا بلاغ رسمي واحد والناس كلهم يحسون ذلك ولا يرتاحون إليه. وقد قلت مرة أنك ترحب بأن تتصل بك آية جريدة إذا أحسست الضيق ولكن أليس في هذا ظلم لك وللصحف وللقضايا الكبرى التي تسهر عليها؟ ألم أقل أنك إن تستطيع الباكر –على ما أقدمت – في شبابك الباكر – على تجارب هائلة.. خضت بعضها ورأسك على كفك لا تبالي مصيرًا، وليس كثيرًا أن نجرب إطلاق الحريات.. إن التجربة كلها لا تحتاج إلا إلى الثقة في المصريين. وأنت أول من يجب عليه الثقة في مواطنيه.