النسوية بين الوعي القائم والوعي الممكن

التصنيفات: النظرية النسوية

تاريخ النشر:

2004

كتابة:

النسوية بين الوعى القائم والوعى الممكن

الناس هنا يعرفون لغة الممكن،

لغة الشاذ والخيالي التي تحررنا من العبودية،

التي نقاسيها في الوجوه الأخرى من الحياة

البرتو بيفيلاكو

(ایروس)

هذا المقال يضئ ما يمكن أن تمتلكه ما بعد النسوية من سلطة، باعتبارها حركة راديكالية ترفض التبنى أو أي التزام أيديولوجي أو مؤسساتي.كذلك تطرح نفسها بوصفها تمثل سلطات مواقع مشتتة فيها، سلطة الهامش، وسلطة التخوم أو الحدود، وسلطة التشرد، هذه المواقع لها القدرة على تهديد أية أيديولوجيا تنصب نفسها مطلقا، وتدعى حق التمثيل وتزعم امتلاك اليقين.

ويمكن – بالطبع – للقارئ/ ئة أن ترفض هذه الأفكار كلية أو يستقى شيئًا منها، أو يعدل فيها للنقاش والممارسة .

الناس في صحراء كلهاري يطلقون على أنفسهم اسم San (سان) وهي كلمة خواسانية Khoi-san إحدى لغات البانتو Bantu، و(San) تعنى يلتقط أو يجمع.والجمع هو عمل النساء بامتياز في مقابل الصيد الذي يقوم به الرجال.وعلى عمل النساء تعتمد الحياة هناك بشكل أساسي.من بين هذه الجماعات جماعة تسمى كونج السان Kung San ! وهي لفظة خواسانية تعنى ناس الجمع، وتظهر في الكتابات الأنثروبولوجية الأوربية باسم Kung Bushmen ! أي كونج البوشمن.هذه الجماعة يوجد في ثقافتها معتقد يتركز حول المطر؛ فهم ينظرون إلى المطر على أنه قوة فوق طبيعية، غير مشخصة يسمونها N!ow (ناو).وهذه القوة هي المسؤولة عن الظروف المناخية القاسية والمتقلبة التي يعيشونها، ويخلعون صفات الذكورة والأنوثة على هذا الناو“.. فإذا كان المطر عنيفًا ومدمرًا يصاحبه البرق والرعد، أو إذا كان فقيرًا وشحيحًا يطلقون عليه في الحالتين اسم المطر – الذكر أو مطر – الرجل أو مطر الثور Male-& He- rain & Bull – rain rain هذا المطر يحمل معه الرعب والخوف للناس؛ فهو مدمر للنباتات والأعشاب ويحمل الحيوانات على الهرب، ويعاني الناس بعده المجاعة والقحط .

أما إذا كان المطر ناعمًا ورقيقًا بما يسمح بنمو طبيعي للنبات والأعشاب، ويحمل الثمار على التفتح والنضج، فيسمى بالمطر الأنثى أو مطر – المرأة أو مطرالبقرةFemale- Rain & She- Rain & Cow -Rain هذا المطر يعد الناس بالاستقرار وبالرخاء (1) .

وبذلك يتأسس نوعان متناقضان من الناو N!ow، واحد جيد ومانح للحياة Life- Giving وهو ناو أنثوى، والآخر ردئ ومانح للموت Death – Giving وهو ناو ذكرى. ويمكن وضع الثنائيات السابقة في مخطط كالتالي:

Bad N!ow / Good N!ow

He- rain She-rain

Male – raun Female- rain

Bull-rain Cow – rain

Death- giving Life-giving

وعلى هذه الثنائيات تقوم صفات متناقضة تحمل ملامح هذا التأسيس، فنجد صفات مثل الرقة والنعومة، وهي صفات ترتبط بالمطر الأنثوي أو She- rain، نجدها صفات إيجابية وحسنة، بعكس صفات مثل الشدة والقسوة فهي سالبة ورديئة، وترتبط بالمطر الذكرى أو He – rain .. هذا الأمر يؤكد أن مفاهيم مثل الذكورة والأنوثة لا يمكن أن تفهم إلا في سياقاتها الثقافية المحددة، وينفى عنها التحديد المطلق والثابت والجوهري.فالذكورة والأنوثة يتحددان وفق قواعد اجتماعية وثقافية محددة .

وإذا انتقلنا إلى جماعة أخرى، وهي جماعة Thanau في تنزانيا، سنجد أن صفات مثل البلل أو رطب هي صفات إيجابية، وأرفع منزلة من صفات مثل جاف أو قاحل وهي صفات سالبة وغير محببة، وهي ترتبط بالرجل عند الجماعة، لذلك يقولون إن النساء هن صانعات المطر، أو عندما يرقصن عاريات في شعيرة المطر وفي هذه الاحتفالات لا يقترب من حلقاتهن الرجال والأولاد، وهذا بعكس ما وجده بورديو عند قبائل البربر.بالإضافة إلى ذلك فالناو عند جماعات السان يوجد عند كل الناس رجالاً ونساءً، أيضًا عند بعض الحيوانات الكبيرة ذكورًا وإناث ولكن يوجد عند البعض جيدًا، وعند الآخر رديئًا، ولا يتحدد هذا الناو حسب جنس.. بل يتموضع بهذا الشكل أو ذاك، جيدًا أو رديئًا تبعًا لإجراءات ثقافية وطقوسية وسحرية، ووفقًا للشروط الروحية التي ترافق الكائن منذ لحظة الحمل والميلاد حتى الموت .

فربما يمتلك المرء/ المرأة ناوا جيدًا إيجابيًا لحظة الحمل والميلاد..إلا أنه يمكن فقد هذا الناو أثناء الحياة نتيجة اقترابه / اقترابها من تابو معين، عندئذ يتحول الناو الجيد إلى ناو ردیء سالب .

ومن هنا يمكن القول بأنه إذا كانت الصفات والأفعال المرتبطة بالنوع أدائية، أي الطرق المختلفة التي يبين بها الجسد تعريفه الثقافي أو يصنع هذا التعريف، فلا توجد هوية سابقة الوجود يمكن على أساسها قياس الفعل أو الصفة؛ أي لا توجد أفعال مرتبطة بالنوع يمكن وصفها بالصواب أو الخطأ.. بالحقيقة أو التشوه، ومن هنا فإن التصورات بوجود هوية حقيقة مبنية على النوع تغدو نوعًا من الخيال التنظيمي، ومن ثم يبدو أن النوع لا يمثل باعتباره واقعًا، ولكنه يأتى بوصفه حدوداً تنتظم سياسيًا .

الأكثر أهمية في ظني وهو ما يتعلق بالمطر الأنثوي(*) أو الناو الأنثوى من مفاهيم يصف بها السان طبيعته .. فيقولون عنه إنه مطر احتمالي هذا من جهة أولى، ومن جهة ثانية مطر هامشي أو حدودي .

فالناو الأنثوى يتوقع مجيئه في فصل الخريف فقط، وهو أفضل فصول السنة عند السان….أما الفصول الأخرى فهي تنذر دائمًا بالناو الذكرى.

لذلك يرتبط ما هو أنثوى بما هو احتمالي أي بما هو كامن أو موجود بالقوة، أي إن ما يمنح الحياة ويجددها يتعلق بما هو محتمل.لكن ما هو قائم، والذي يمثله المطر الذكوري فعادة ما يهب الموت، فهو إما مدمر عصبي أو فقير ومهلك .

فالأنثوى ينبثق إلى الوجود بوصفه احتمالاً، عندما تضيق الحياة بما هو ذكوري، ويخنق الناس تحت قهر الأبوى واستبداد نظامه.ولأن الأنثوى احتمال.. فإنه يعمل ضد أية بنية وأية أيديولوجيا (استعمل هنا معنى ينبثق عن مفهوم مارتن هيدجر، والذي يعنى إمكانية الظهور أو التجلي في الوجود).

فكل أيدلوجيا تضمر امتثالاً لصور ومؤسسات، وتحمل إيمانًا بنظام علاقات شرعتها البني الأبوية لتضفى سيطرة وسلطة لممارسات اجتماعية قائمة .

الأنثوى بوصفه احتمالا لا يتكلم لغة اليقين والتعالي Transcendence (بلغة هيجل أي المفارق أو الذي يرتبط بالمطلق)، بل لغة تضئ ما هو متشكك وحذر.. لغة السوقي والمتقطع.

إن لغة القائم المسيطر تثبت العالم وتعمل على تغييبه أو إيقافه، تهيمن على تقطعاته وانفصالاته ليبدو لنا تاريخه محددًا سلفًا، وفق خطة نقية ومقدسة .

لغة القائم هي لغة مستقيمة وواضحة ومعيارية، أما لغة المحتمل الأنثوى فهي تحتفى بما هو متقطع ومخلخل؛ لتقلب نمطية هذا العالم وتفكك الثابت والمنسجم.فالهوية التي يراها النظام القائم بأنها ثابتة ومحصنة ومبنية بانسجام تمزقها لغة الأنثوى، وتجعلها في إنتاج مستمر، ولا تبنى على نوع أو عرق أو تصور مسبق، بل تتشكل عبر ارتحالات لا نهائية من الطبقة واللغة والعرق والنوع .

فالهوية هي ما يؤسسه المرء/ المرأة في الممارسات والخطابات المتنوعة والمتناقضة، هو ما يخلفه الكائن من علامات خلفه هي أثر لقدم تمضى وتعبر ويدركها الزوال، وليس ما يتبعه من تعليمات ومقررات كهنوتية .

هذا الاحتمال ينسحب أيضًا على مفاهيم الجسد باعتباره علامة، ففي حين ينشئ النظام الأبوى القائم جسدًا خاصًا به، مطبوعًا عليه علامات سيطرته واستغلاله، جسدًا مكونًا لخدمة نزواته ورغباته، مستجيبًا لتاريخه وانتظامه.. لقد تم تشكيل جسد المرأة وفقًا لتصورات ذكورية قامعة واستهلاكية .

ومن هنا احتفى بالمرأة المثيرة والشهوانية أو البضة والناعمة، لقد خلق النظام صورة الجسد السليم النقى المعافى، واستبعد ما هو سائل وبرازى وكريه إلخ. لقد احتفى بالجسد المغلق، الكلاسیکی، جسد متناسق ومكتف بذاته، واحتقر الشائه والناتيء، وغير المنتظم (أي ما يرتبط بالتحول).يبحث المحتمل الأنثوى عن رمزية جديدة للجسد تقاوم التعريف الأبوى، يبحث عن ميوعة الحجم، عن الحاوية المفتوحة أو الحجم الذي لا حدود له، أو المنسكب.. تقول هيلين تشادويك: “كنت من قبل مقيدة، أما الآن فبدأ يتسرب مني ما يتسرب ما الذي يحدث لو انسكبت السوائل الخطرة لتزيح المنطق وتفند السردية المتسقة، وتتدفق إلى أرض على حافة لأنا، في هذه العملية الإخراجية التي لا تشبع تتلاشى الحدود بين الذات والآخر وبين الحي والميت“(2) .

هذا الوعى الاحتمالي هو ما ترتبط به ما بعد النسوية، وتحاول أن تتشبث به، وترفض التبنين (أي التحول إلى بناء ثابت)، لتبسط هيمنتها على اللامتوقع والمفاجئ اللذان يهربان دائمًا سلطة القائم، ولا يستطيع السائد أن يقبض عليهما لأنهما في ارتحالات دائمة ومستمرة ونزقة، ولا يحلان إلا في الهامش .. ومن هنا يمكن وصف النسوية بأنها هامشية وفقًا لمفهوم السان عن المطر – الهامشي .

ولا نعني بالهامش هنا Marginal الذي لا يفعل إلا تثبيت المركز أو رسم حدود له, في ثنائية معهودة هامش مقابل مرکز، بل نعنى بالهامش القدرة على الانبثاق أو الحضور المفاجئ من منطقة تبدو قائمة أو منطقة متخيلة، هي منطقة حدودية أو تخومية.هذه المنطقة التي لا تطالها يد المركز أو ما هو سلطوي، وفي الوقت نفسه لها القدرة على تدميره، فكما تقول ماري دوجلاس كل الهوامش خطيرة.فإذا سحبت بهذه الطريقة أو تلك يتغير شكل الخبرة الإنسانية …. إن أية بنية من بني الأفكار قابلة للعطب في كافة هوامشها“(3).

هذا الهامش أو الحد الذي يمتلك قدرة على المراوغة، الكر والفر، الهجوم والتراجع المستمرين، ويحوز فاعلية الترحل والتحول.. يجعل من بعد النسوية كما وصفتها Braidotti Rosi “ذات في حالة انتقالمما يضاعف فاعليتها بامتلاكها سلطة التخوم أو الحدود، هذه المنطقة تصبح هي الجانب السيموطيقي عند جوليا كريستيفا، واللغة الأنثوية عند هيلين سيسو. ولكن البعض ينظر إلى هذه المنطقة بتشكك مثل ايلين شوالتر، فتقول: “إذا كانت العناصر اليوتوبية في كتابات المرأة محاولة لتخيل منطقة التخوم.. فإن هذه المنطقة ليست مكانًا، يمكن بلوغه إلا على جناح الخيال“(4) .

والنقد الآخر يأتي من جيرمن جرير، التي ترى أن ما بعد النسوية اليوم تتحرك في سياق وضع لا تحكمه حكومات، بل كيانات عملاقة من شركات متعددة الجنسيات، ترى في المرأة أنها مجال اختصاصها.فالمرأة في هذا الوضع تريد أن تحصل على كل شيء الوظيفة والأمومة والجمال والحياة الجنسية الممتعة، ولكن هذا الوضع لا يجعلها أكثر من مستهلكة للأقراص والمساحيق والمركبات والجراحة التجميلية والأزياء والواجبات السريعة، وتقول إن تبنى ما بعد النسوية ترف لا يقدر عليه إلا أثرياء العالم الغربي .

لذلك لا يكفى أن تكون ما بعد النسوية احتمالاً أو تطرح نفسها بوصفها منطقة حدودية أو هامش مراوغ، بل عليها أن تنصب نفسها شركًا أو فخًا لكي يتم اصطياد النظام القائم في مناطق ضعفة وفي لحظة من لحظات تناقضاته المستمرة.إن الانهيارات في المكانة والسلطة السياسية والاقتصادية وتوزيع الثروات ومعدلات الدخول والفقر والتهميش لمعظم النساء والرجال في العالم، تجرى على قدم وساق وبوتيرة متصاعدة لذلك تدرك ما بعد النسوية، أو عليها ذلك. إن ما يقوم به النظام القائم من تحسينات في وضع النساء القانوني والتعليمي وأحيانًا الصحي لا يغدو أكثر من مطالب تعزز هذا النظام وتنشط بنيته البليدة. فما بعد النسوية التي تتحرك كفخ، لا تندفع وراء أوهام النظام الأبوى أو مقولاته التي لا تتحرك أبعد من الدور التقليدي لأنثى تقليدية مذكرة (أي تحيا وفق أيدولوجية ذكورية)، ولذلك تقليدي مدجن (أي يحيا ويمثل دوره المحدد سلفًا کرجل).

إن النظام الأبوى الحالي يقدم صناعة نسوية خاصة بمركزيته وعقليته المحافظة، ولا يستطيع الفكاك منها.فما يقوم به سواء بنية حسنة أو مسايرة للأوضاع العالمية هو مجرد توزيع أدوار النظام على حفنة من النساء المنتفعات من وجوده، لا يتجاوز وعيهن النسوى حدود الرجعي والذكوري.هذه الإصلاحات، والإجراءات التحسينية تشدد من قبضة التسلط وتطيل أمد هذا النظام الذي لابد له أن ينهار؛ فأسلوب الحياة بشكل مذكر آخذ في الانهيار لفرط الهرم والترهل والعجز (ربما تكون حركات مثل سياتل وجنوة والاحتجاجات العالمية المتشعبة والمختلفة وتيارات ما بعد الحداثة شكلاً من أشكال الوجود والأخذ في الظهور).إن أنظمة القائم، برجوازي رأسمالی ذکوري، على استعداد إدماج النسويات داخل منظوماتها، وبما أن هؤلاء النساء سيتحولن إلى رجال.. فالمحصلة النهائية المزيد من الرجال ومن الاقتصاد الذكوري.وفي هذا الصدد تقول كارول داريلتش إن النسوية لا تعنى المظهر الذي يحقق النجاح ؛ ولا يعني أن تصبح المرأة مديرة تنفيذية لشركة كبرى، أو اكتساب منصب ما بالانتخاب، أو بالتعيين، كما أن النسوية لا تعنى القدرة على المشاركة في زواج مزدوج المهام، ثم أخذ أجازات للتزحلق على الجليد وقضاء وقت كبير بصحبة الزوج وطفلين جميلين بفضل وجود خادمة تحقق لك ذلك بينما تعجز عن توفير الوقت والمال الكافي لتحقق الأشياء ذاتها لنفسها.ليس مجرد إقامة – بنك للنساءأو قضاء يومين في ورشة عمل مكلفة.إن النسوية لا تعنى بحال من الأحوال أن تصبح المرأة مخبرة شرطية أو عميلة للمباحث أو قائدة برتبة جنرال في قوات البحرية“(5) .

وبذلك عندما تنصب ما بعد النسوية نفسها فخًا لا يمكن اقتناصها أو تدجينها تحت أي أو فخ آخر، فهي بوصفها فخًا لا تقبل التمثيل ولا الإحالة ولكنها تحيل إلى ذاتها وترتد إلى ذاتها.إن النظام الأبوى القائم والمسيطر يعيد إنتاج الصور والعلامات، والثقافية بشكل مطرد؛ لكي يقنعنا ويضغط على إحساسنا بفعل هذه الصور وتلك العلامات، وأن ما نراه ونحسه هو العالم الذي نصنعه ونتوهم إننا إزاء عالمنا الفعلى والحقيقي، ونحن صنعناه بأنفسنا لكن النسوية / الفخ تستطيع أن تفرق بين الواقع الذي يروج هذا النظام والواقع خارج هذا النظام، في التخوم، المناطق الحدية الأكثر مراوغة وقاتمة .. حيث تقف ما بعد النسوية هناك في العراء، متشردة بلا خيمة وترفض الأوتاد التي تثبتها في أي موقع، أي نموذج، قالب، هناك، في عزلتها المضيئة تكون أكثر قدرة على التهديد وأقدر على ابتكار المعنى، ومهيأة لاختبار دلالات القهر والمقاومة واكتشاف لغة الحياة – الأنثى أو صانعة للمطر – الأنثوى .

لقد ظلت المرأة لقرون طويلة جزءاً من الخيمة، مقترنة بها، تتحرك معها أينما ترحل، تقبع بالداخل، محصورة في بنية حددتها شروط الخارج، وتطورت الخيمة إلى بيت…. ولكن لم تتغير سمات البنية التي تحدد دور الداخل، وتضفى عليه سمات العاطفية والسلبية والحساسية المفرطة، وصار الرجل منشئ البيت ومؤسس دعائمه مثلما كان يقبض على أوتاد الخيمة في الإقامة والترحل.ومع التحديث والاستعمار يتسع مفهوم الخيمة ليعادل الوطن، فراح الرجل / النظام يقيم ميادينه وينصب تماثيله ونصبه التذكاري، ويطبع الساحات بعلاماته، ويزين الكتب وبصوره ورموزه ليدخل الكلتحت سيطرته وتوهيماته ونزوعه المطلق، وينطوى أسفل شعاراته كل مستبعد أو مهمش أو مستتر لتمجيد التأسيس والتشريع والبناء والواحد، ولكن سريعًا ما ينجلي الوهم ويضرب الوهن النصب الواقفة الشامخة، وتترنح تماثيل الدمج والمجد الزائف المنتصبة في الميادين وتترهل الصور, ويتشكك الهامش والمستبعد في القدرة على تمثيله، فيتحرك لينشئ لغته الخاصة ويكتب سيرته بخطوطة المتعرجة، غير الواثقة، لغة حذرة ومغتربة ومنفية .. لغة تجيدها فرجينيا وولف وتمتلك زمام جموحها والتباستها المتكررة وجنونها وعزلتها، فها هي تعلن بما أنني أمرأة فليس لي بلد، وبما أنني امرأة فأنا لا أريد أن يكون لي بلد»(6) .

لقد تم خلخلة أوتاد الخيمة (لم تنزع تمامًا)، وبدأت تتصدع قوائم البيت، لذلك تسعى ما بعد النسوية للهيمنة على لغة المتشرد في فضاءات لا حدود لها.لغة لا تخضع لحدود القائم (العائلة، الوطن، الأيديولوجيا، الألفة، البداهة ….) لا تخضع إلا لذاتها، ذاتها التي لا حدود لها، ولا هوية ثابتة.ما بعد النسوية – في ظني – هي حالة معرفية نشطة / ممارسات يومية للقبض على ما هو محتمل مستقبلي.للهيمنة على الهامش والمستتر والمنبوذ، هذا الحيز الذي تسعى ما بعد النسوية للسيطرة عليه جدير بأن يغير شكل الخبرة الإنسانية.. فهو ليس مجرد حيز تجريدي أو استيهامي، إنه حيز متجسد في ممارسات يومية وطقوسية واحتفالات دينية أو كرنفالات بلغة القرون الوسطى، وربما جلسات للثرثرة والدردشة التي لا تخلو من مقاومة أو تحريض.لقد اعتبرت أماكن مثل الحانة والفندق والمقهى وحلقات السمر في الريف أماكن تحريضية وهدامة بالنسبة للسلطات، ويؤكد جيمس سكوت في كتابه المقاومة بالحيلةالتنافس القائم بين الحانة والكنيسة في أوروبا خلال القرن الـ 19، فيرى أن أنماط الخطاب تنتظم عبر أشكال التجمعات المنغلقة التي تنتج من داخلها كل مكان من أماكن التجمع هذه حانة، مقهی، سوق، …. إلخ، يتبدى كموقع مختلف لاستشراء الخطاب المتبادل .

فما نراه في ما بعد النسوية بوصفها خطابًا محتملاً / هامش محاولة للسيطرة على موقع / ساحة له القدرة على تهديد مواقع النظام الأبوى القائم، وتكسير أرضيته المستوية والمنتظمة؛ ليواصل من الداخل – انهياراته .

 

(1) Lom Marshall: Now, Africa Vol.xxxvii 1969, pp. 232 – 2.35

(*) ربما يقابل المطر الأنثوي ما تحمله لفظة (المطرة) في اللغة المصرية العامية، أما المطر الذكر فهو ما يطلق عليه كلمة سيل .

(2) سارة جامبل: النسوية وما بعد النسوية، (ت: أحمد الشامي) المجلس الأعلى للثقافة، مشروع الترجمة، القاهرة، ص 178 .

(3) ماری دوجلاس: الطهر والخطر، (ت: عدنان حسن)، منشورات الجمل، 1995،ص 210.

(4) المرجع السابق، ص 87.

(5) هدي الصدة (تحرير) و ت (هالة كمال): أصوات بديلة، المجلس الأعلى للثقافة المشروع القومى للترجمة، القاهرة، 2002،ص 40 .

(6) سارة جاميل، مرجع سابق، ص 522 .

اصدارات متعلقة

وسائل التواصل الاجتماعي ترسخ العنف ضد النساء
نصائح للمصورة الصحفية بشأن الوقاية من "كوفيد" 19" أثناء التصوير الصحفي
نصائح بشأن السلامة النفسية للنساء في أوقات الأزمات
ورقة قانونية بشأن مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد
كيف تحررين محضر تحرش
عيد الأم ما بين الاحتفاء بقيمة الأمومة و ترسيخ الدور النمطي للنساء
خدمات الصحة الجنسية فيما بعد سن الإنجاب ضرورة لتمكين النساء
ختان الإناث في مصر... جريمة تعذيب ضد الإنسانية
حقوق النساء من اجل العدالة والتنمية
الإيدز خطر صامت يهدد حياة النساء في ظل جائحة كورونا