تصدير
قامت مؤسسة المرأة والذاكرة بإعادة إصدار كتاب ملك حفني ناصف “النسائيات” ضمن باكورة مشروع إعادة إحياء تراث الرائدات المصريات. و كان كتاب “النسائيات” قد صدر غير مكتمل في طبعته الأولى عام 1910, ثم صدرت طبعته الثانية حوالي عام 1925 من جزأين, وهي الطبعة التي اعتمدنا عليها في مؤسسة المرأة والذاكرة عند إعادة طبع الكتاب عام 1998.
وإننا إذ نعيد إصدار الكتاب في طبعة جديدة فإنما نفعل ذلك مع نفاذ طبعة 1998, كما ننطلق مرة أخرى من سعينا لتوفير ذلك التراث النسائي المهم في أيدي الباحثات والباحثين المهتمين بدراسة تاريخ الفكر النسوي منذ بدايات القرن العشرين.
طبعة أولى (النسائيات الجزء الأول) ۱۹۱۰
طبعة ثانية (النسائيات الجزء الأول والثاني) 1925
ملتقى المرأة والذاكرة (الجزء الأول والثاني) 1998
مؤسسة المرأة الذاكرة(الجزء الأول والثاني)2012
مؤسسة المرأة والذاكرة
يناير 2012
بقلم: هدى الصدة
في رسالة من ملك حفني ناصف، أو باحثة البادية، إلى مي زيادة، كتبتها بعد مرض أقعدها عن الكتابة، تقول ملك:
كنت اعتزلت الكتابة، لا لنضوب مادتها عندي ولا اكتفاء بالقليل الذي كتبت من قبل، ولكني كنت مللت المناداة بإصلاح المرأة المصرية، وثبط عزمي ما أراه من انصراف فئة المتعلمين والمتعلمات الجدد عن العمل لتكوين القومية المصرية المطلوبة، وما حركتهم التي ملأوا بها القطر صراخًا إلا عنوان لنهضة كاذبة.(النسائيات ص۲۰۱)(۱).
هذه الكلمات القوية تعبر عن موقف امرأة مصرية عاشت في بدايات هذا القرن، وعاصرت فترة حيوية في تاريخنا الحديث: فترة النهضة، أو فترة التحديث، كما درج على تسميتها، فكان لها وجهة نظر مستقلة من الأحداث والاتجاهات السائدة في ذاك الحين، عبرت عنها في كتاباتها. نقرأ لها فتتزاحم الأسئلة المطروحة في عصرها وتتشابك مع أسئلة الحاضر. ماذا تعنى بالنهضة الكاذبة؟ وما أوجه الكذب فيها؟ كيف قدمت مسألة المرأة في سياق خطاب النهضة؟ وهل هناك علاقة بين مشاكل الحاضر في المجتمعات العربية وبدايات صياغة الأسئلة والهموم؟ وكيف يساعد هذا الكتاب على الإجابة عن بعض هذه الأسئلة؟
لماذا نعيد إصدار هذا الكتاب في ۱۹۹۸؟
يصدر هذا الكتاب لتكريم ذكرى ملك حفنى ناصف (١٨٨٦–۱۹۱۸) بمناسبة مرور ثمانين عامًا على وفاتها في سن مبكرة. ويعد الكتاب الأول في سلسلة إصدارات تذكيرية بالنساء يشرف عليها ملتقى المرأة والذاكرة من أجل إحياء الذاكرة الجماعية وتوثيق علاقتها بالإسهامات الغزيرة للنساء العربيات في القرن العشرين. يهدف الملتقى من إعادة نشر هذه الكتابات إلى إبراز كتابات النساء في هذا العصر الحديث، وتأكيد حضورها بعد أن طواها النسيان. كما يهدف إلى إتاحة مادة غنية للقراء وللباحثين يصعب الحصول عليها لغير المتخصصين، أما الهدف الأساسي من هذا المشروع فهو التفاعل النقدي مع هذه الكتابات وقراءتها منظور هذا العصر واحتياجاته وربما تؤدی هذه القراءة إلى مراجعة مواقفنا، أو رؤيتنا لبعض القضايا التي تشغلنا في الحاضر .
ونستهل هذه السلسلة بكتاب ملك حفني ناصف: النسائيات، وهو عبارة عن مجموعة من المقالات التي نشرتها ملك في مجلة الجريدة في أوائل هذا القرن تحت عنوان النسائيات. ولقد طبع هذا الكتاب للمرة الأولى سنة 1910 في مطبعة الجريدة، وقدم له أحمد لطفي السيد، وتضمن بعض التقاريظ لشخصيات عامة طلب منهم التعليق على الكتاب. وفي سنة ١٩٢٥ أعادت المكتبة التجارية طبع الكتاب في مكتبة التقدم، وأضافت إليه رسائل متبادلة بين ملك و مي زيادة ومقالة عن ملك بقلم أخيها مجد الدين ناصف، كان قد قدم بها لكتابه ” تحرير المرأة في الإسلام” مع عدد من الخطب والقصائد التي ألقيت في تأبينها. وسميت هذه الطبعة “النسائيات الجزء الأول والثاني“(٢). وفي سنة ١٩٦٢ أعاد مجد الدين ناصف نشر أعمال ملك في كتاب عنوانه: “آثار باحثة البادية” (3). وتضمن: مقدمة لسهير القلماوي، وسيرة لملك بقلم مجد الدين، وكتاب النسائيات مع إضافة بعض المقالات والمراسلات والتعليقات على كتابة ملك. ولقد اخترنا إعادة طبع نسخة النسائيات الصادرة في ١٩٢٥. لأنها تحتفظ بالترتيب الأصلي للنسائيات كما صدرت سنة 1910 في حياة ملك .
ولكن، لماذا نستهل هذه السلسلة بملك حفني ناصف؟ هناك أربعة أسباب تؤيد هذا الاختيار؛ أولها، مكانة ملك المتميزة وسط رواد ورائدات النهضة المصرية، التي قامت وعمت الواقع العربي في النصف الثاني من القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين. فلقد كان لها آراء ومواقف مهمة تجاه مشروع النهضة وإرهاصاته، كما كان لها خلافات وجدالات عديدة وحامية مع أقطاب التنوير من أمثال قاسم أمين وأحمد لطفي السيد. ومن أشهر الأمثلة على هذه الاختلافات،معارضتها لدعوى قاسم أمين لنزع حجاب النساء وتبنيها لمنهج مغاير في سبيل تحقيق نهضة المرأة المصرية. بالإضافة إلى ذلك، تعرضت ملك في مقالاتها وخطبها لقضايا اجتماعية كثيرة ومتنوعة تمس حياة المرأة ووضعها في المجتمع، وفعلت ذلك بإسلوب يختلف قليلاً وأحيانا كثيرًا عن غيرها من المتحمسين لهذه المسألة، الأمر الذي جعل لها صوتًا متميزًا ضمن الأصوات المسموعة شد انتباه القراء والكتاب على اختلاف توجهاتهم وأفكارهم .
والسبب الثاني؛ يرجع إلى أهمية هذا الكتاب في تاريخ نشأة وشيوع دخول النساء مجال النشر والكتابة، وترسيخ دورهن ومساهمتهن في المجال العام. ونحن إذ نحتفي بملك نحتفي أيضًا بكل النساء اللاتي كتبن وشاركن بخبراتهن وآرائهن للنهوض بوضع المرأة في مصر. وكما فعلت نساء كثيرات في هذا العصر، نشرت ملك مقالاتها في مجلة يديرها قطب من أقطاب التنوير في مصر هو أحمد لطفي السيد، كما نشرت أيضًا مقالات في مجلات تديرها نساء، فساهمت بشكل مباشر في تطور الصحافة النسائية والتأصيل لظهور وعي نسوى قوى في الساحة العربية.
أما السبب الثالث ؛ فهو مرتبط بالأدبيات الموجودة والمتعارف عليها الخاصة بالتأريخ لبدايات الوعي النسوي في مصر والعالم العربي، وتحول مسألة المرأة، والمناقشات التي دارت في بدايات القرن عن وضع المرأة في المجتمع وسبل النهوض بها، إلى قضية أساسية ضمن القضايا الملحة المطروحة على الساحة العربية والمصرية. جرت العادة على إرجاع فضل تفجير موضوع المرأة إلى قاسم أمين والتيار الليبرالي القومي، وتم تأطير قضية المرأة في سياق الرواد من الرجال، وإغفال الدور الحيوي الذي لعبته النساء الرائدات في الدفاع عن قضيتهن، وفي عرضها من وجهة نظرهن. فنجد أن موقف المؤرخين لهذه الفترة يميل إلى التركيز على الموضوعات التي طرحها قاسم أمين، كما يميل إلى الاحتفاء به باعتباره الأكثر جرأة أو الأكثر ليبرالية في الدفاع عن قضية المرأة. وفي هذا الإطار أيضًا، يتم تقييم مواقف النساء من أمثال ملك حفني ناصف على أنها مواقف أقل شجاعة وأكثر محافظة على التقاليد والأعراف(٤). والهدف من إثارة هذا الموضوع لا ينم عن محاولة التقليل من شأن طرف أو الإعلاء من شأن آخر، فمكانة الرواد محفوظة دائمًا في التاريخ، وإنما الهدف هو إعادة النظر في رؤيتنا وعلاقتنا بتلك الفترة المهمة في تاريخنا، وهي فترة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بواقعنا المعاصر وبالكثير من القضايا التي تشغلنا. ولكي نتمكن من الوصول إلى قراءة جديدة، يتعين علينا إلقاء الضوء على قضايا وشخصيات رائدة أغفلها التاريخ، ولم يعطها حقها في سياق الرؤية السائدة لنشأة الوعي النسائي.
والسبب الرابع؛ نابع من اللحظة التاريخية الراهنة التي تمر بها المجتمعات العربية بوجه عام، ومصر على وجه الخصوص. فلقد كثر الحديث عن التراجع الذي تشهده بعض البلدان العربية، وعن تعثر مسيرة النهضة التي نشطت وبلغت أوجها في بدايات هذا القرن، وعن مظاهر الأزمة التي تعاني منها الثقافة العربية. ويسود حديث الأزمة هذا بسبب التردي الواضح على الصعيد السياسي والاقتصادي والاجتماعي، وتخاذل المجتمعات العربية بشكل عام في علاقاتها مع المجتمع الدولي. إلا أن التراجع والتعثر يعني، في معظم الأحيان، التخلي عن معطيات ومظاهر الحداثة التي تعد من مكاسب النهضة في مصر مثلاً. ففي كتاب صدر مؤخرًا للمحلل السياسي اللبناني فؤاد عجمی، يشير الكاتب إلى حادثة محاولة اغتيال نجيب محفوظ من قبل متطرف ديني بوصفها رمزًا للحصار والتراجع الذي تعاني منه الحداثة المصرية الممثلة في رجالها ونسائها من العلمانيين(5). وهو يحاول في كتابه توصيف وفهم لماذا وكيف حدث هذا التراجع. والسؤال الذي يشغل بال فؤاد عجمي هو السؤال نفسه الذي يحاول كثير من المثقفين العرب الإجابة عنه، فهو سؤال مبنى على افتراض أن التمسك بالحداثة ومعطياتها ومظاهرها هو السبيل الأوحد لتطور المجتمعات العربية، وهو اقتراض مبنى على فكرة عن الحداثة تطابق المثال الأوروبي، ويؤدي هذا الافتراض إلى أن الاستسلام الحاصل للنزعات التقليدية المتمثل في سيادة الاتجاهات الدينية من شأنه إضعاف المجتمع وجره إلى الوراء .
وبالعودة إلى موضوعنا؛ وهو المغزى وراء إعادة نشر كتاب ملك ناصف في هذه اللحظة التاريخية، يمكننا القول بأن إعادة قراءة أعمالها من شأنه مساعدتنا على صياغة أسئلة جديدة لا تضع الحداثة والتراث في مواجهة بعضهما بعضًا، ولا تفترض بداية أن ما درج على تسميته بالحداثة هو السبيل الأوحد للتقدم. نقرأ أعمال ملك ونستمع لصوت لم يتمكن التاريخ من تصنيفه وفقًا للتصنيفات الجاهزة، فاحتار الناس في أمره. فتارة نجدها ضمن زمرة التنويريين أو الحداثيين، وتارة أخرى نجدها رمزًا للمرأة المسلمة المحافظة التي عارضت دعوى قاسم أمين لنزع الحجاب. ولكن، وقبل الخوض في غمار آرائها ومعاركها الفكرية نتوقف قليلاً للإجابة عن سؤال: من هي ملك؟
ملك والحياة العامة
كان لملك شرف الريادة في مجالات كثيرة في الحياة. فلقد نشرت في المجلات المصرية وهي في سن الثالثة عشرة، وكانت أول فتاة تنال الشهادة الابتدائية من مدرسة حكومية، وهي مدرسة السنية سنة 1900. وفي 1903 كانت أولى الناجحات في أول امتحان عقد لتخريج المعلمات. في سنة 1910 تقدمت ملك إلى البرلمان المصري بقائمة من المطالب لتحسين وضع المرأة تضمنت عشر نقاط. وفي 1911 ألقت محاضرة عامة في مقر مجلة الجريدة لتحيى تراثًا كاد أن يفقد للخطيبات العربيات في عصور قديمة.
استهلت ملك حفني ناصف مشاركتها في الحياة الثقافية بكتابة مقالات في مجلة الجريدة، التي كان يرأس تحريرها أحمد لطفي السيد، وأصبح لها عامودًا منتظمًا عنوانه: “نسائيات ” ومع مرور الوقت أصبح لملك قاعدة عريضة من القراء، الذين باتوا ينتظرون مقالاتها، التي تميزت بالتعليق على حال النساء والرجال، واقتراح سبل الإصلاح والتقدم لأفراد المجتمع كافة. أثارت مقالاتها جدلاً واسعًا بين عديد من المهتمين بأمور الثقافة والنهوض بالمجتمع، وتحمس الكثيرون للمساهمة في التعليق على ما تكتبه، الأمر الذي أدى إلى توسيع دائرة تأثيرها في الحياة العامة. وبعد أن ذاع صيت نسائياتها،بدأت ملك في إلقاء المحاضرات العامة. فألقت أولى محاضراتها في دار الجريدة، وألقت الثانية في الجامعة المصرية. ثم توالت الخطب الأخرى في الجمعيات النسائية المختلفة.
ومن الجدير بالذكر أيضًا أن الفضل يرجع لملك في تأسيس العديد من الجمعيات المختصة بالنهوض بالمرأة. نذكر منها، على سبيل المثال لا الحصر، اتحاد النساء التهذيبي،وجمعية التمريض على غرار الصليب الأحمر (وكان ذلك قبل تأسيس الهلال الأحمر بقليل). ويتذكر مجد الدين (كما يقول في سيرة ملك المنشورة في كتابه آثار باحثة البادية) حالة النشاط التي عمت هذه الجمعية بهدف إرسال مساعدات للمحاربين العرب في طرابلس لمواجهة القوات الإيطالية، وخاطت ملك بيديها مائة بذلة، وجمعت لهم البطاطين وإمدادات أخرى.
نشأتها وأسرتها
نشأت ملك في أسرة تعطى أولوية قصوى للتعليم. فكان أبوها، حفني ناصف ( 1855-1919) محبًا للعلم بمعنى الكلمة ومقدرًا لأهميته في رقي الإنسان والأمم، ويمكننا أن نعتبر أن “حب المعرفة” مفتاح شخصيته(6). عمل في مجالات متعددة، فبعد أن تخرج من الأزهر، عمل مدرسًا في مدرسة للعميان والخرس، ثم انتدب للتدريس في مدرسة الحقوق، ثم عين قاضيًا، ثم مفتشًا للتعليم. شارك في تأسيس الكثير من الهيئات العلمية، وكان من مؤسسي الجامعة المصرية. كان أيضًا متعدد الاهتمامات،فكان يكتب الشعر ويهتم بالرياضة البدنية ومن المعروف أنه كان له أثر بالغ على بناته وأبنائه، خصوصًا ملك. كانت ملك أول العنقود فأولاها اهتمامًا خاصًا، واهتم بتعليمها، ومن المعروف أنه كان شديد الفخر بها وبتفوقها. كانت هي أيضًا تحبه حبًا كبيرًا مما جعلها، مثلاً، تخفى عنه تعاستها الزوجية فلم تشتك إليه ولم تحاول أبدًا الإثقال عليه بمشاكلها.
أما أم ملك، سنية عبد الكريم جلال (1869-١٩٤٢), فكانت أيضًا متعلمة ومهتمة بتعليم أبنائها وبناتها. لم تتلق تعليمًا رسميًا في المدارس، ولكنها تعلمت في البيت وأشبعت حبها للمعرفة بالقراءة. وتتذكر أخت ملك، الدكتورة كوكب حفني ناصف اهتمام أمها بمعرفة أخبار الناس والمجتمع والسياسة، وبراعتها في حل المسائل الحسابية المعقدة دون أن تلجأ إلى الورقة والقلم(7).
كانت ملك الابنة الكبيرة في أسرة مكونة من تسعة أفراد، الأب والأم وسبعة بنات وأبناء. كانوا ثلاث بنات، أكبرهن ملك ثم حنيفة (١٨٩٨ – ۱۹۷۳) وكوكب (1905) وأربعة أولاد، جلال الدين (۱۸۸۹– 1960)، ومجد الدين (۱۸۹۱–۱۹۷۸) وعصام الدین (۱۹۰۰– ۱۹۷۰) وصلاح الدین (۱۹۰۲–۱۹۷۷). تعلم الجميع وتقلدوا أعلى المناصب: عمل جلال الدين محاميًا ثم قاضيًا، وكان مجد الدين أستاذًا بكلية الآداب, جامعة فؤاد الأول، وعمل أيضًا في المجلس الأعلى للآداب والفنون، وله الفضل في الاحتفاظ بكتابات ملك ومتابعة نشر أعمالها وتقديمها للقراء. عملت حنيفة بالتدريس وتدرجت في الوظائف إلى أن أصبحت مفتشة في وزارة التعليم. أما عصام الدين، فدرس الزراعة في ألمانيا، وعمل مدرسًا، وله مؤلفات في تاريخ الأديان، وعمل صلاح الدين وكيلاً لوزارة الصحة. وأخيرًا وليس آخرًا، سافرت كوكب سنة ١٩٢٢ في أول بعثة للبنات الدراسة الطب في إنجلترا لتعود بعد عشر سنوات وتعمل في مستشفى كيتشنر ثم تصبح مديرة للمستشفى.
كان جميع أفراد هذه العائلة مهمومين بالشأن العام، مناهضين للوجود الإنجليزي في مصر ومعتزين بوطنيتهم، وكان لبعضهم نشاط سياسي مما أدى إلى أشكال كثيرة من المصادمات مع البوليس وقوات الاحتلال. فمثلاً، مثل مجد الدين أمام محكمة عسكرية بسبب اتهامه بمحاولة تهريب ضابط تركي من السجن، وكاد يواجه عقوبة الإعدام. وتكرر دخول الأخوة السجن والقبض عليهم بتهم سياسية مختلفة. أما كوكب فمنذ أن كانت تلميذة في المدرسة، كانت معروفة بميولها الوطنية، ورفضها للاحتلال، لدرجة أنها كادت أن تفقد ترشيحها للبعثة إلى إنجلترا بسبب هذه السمعة. وكان حفني ناصف معروفًا بوطنيته وباهتمامه بتنمية المؤسسات المصرية وكان، كما ذكرت من قبل، من مؤسسي الجامعة المصرية ومن أوائل المحاضرين فيها. أما الأم، سنية، فكانت تشجع أبناءها على العمل السياسي، وكانت تتعامل مع المضايقات التي تتعرض لها الأسرة من قبل قوات الاحتلال والبوليس بقوة وتحد. وتحكي كوكب ناصف عن أمها فتقول إن أمها اعتادت على مداهمة البوليس لبيتهم وتفتيشه بحثًا عن أخواتها، أو عن منشورات،فكانت تدعو الجنود للدخول وتصر على إظهار عدم المبالاة في مواجهة تصرفاتهم وعبثهم بالمنزل وتدعوهم بسخرية للغذاء.
ولقد عبرت ملك عن انشغالها بالقضايا العامة المثارة في عصرها، واختارت أن تعطى أولوية لقضية النهوض بوضع المرأة، واتسمت آراؤها بالشجاعة والاستقلالية، وعدم الخضوع للسائد أو المتفق عليه. ونجدها أيضًا تكتب في سنة 1909 قصيدة ثورية ضد إحياء قانون للرقابة على المطبوعات كان الهدف منه التضييق على الصحف فيما تنشره ضد الإنجليز والقصر، قالت فيها:
يا أمة نثرت منظومها الغير…… حتام صبر ونار الشر تستعر
ماذا تقولون في ضيم يراد بكم…… حتى كأنكم الأوتاد والحجر
ستسلبون غدًا أغلى نفائسكم ……حرية ضاع في تحصيلها العمر
وفي هذه البيئة نشأت ملك واستمدت القوة من أبيها وأمها. فإلى جانب ما نعرفه عن حفني ناصف وتألقه في المجال العام، وتشجيعه أولاده وبناته، نكتشف أيضًا أنه كان للأم دور أساسي في الشد من عزيمة البنات والأبناء، وتشجعيهم على المضي في الطريق الذي اختاروه، فكانت سنية امرأة قوية كما تتذكر الدكتورة كوكب؛ قوية في شخصيتها وفي تلقيها الصدمات التي واجهتها في حياتها، كما كانت قوية في القرارات التي اتخذتها والمتعلقة بمستقبل أولادها. ومن أهم هذه القرارات كان قرار الموافقة على سفر كوكب في بعثة إلى إنجلترا سنة ١٩٢٢ وسط ذهول المعارف والأصدقاء ورغم معارضة الكثيرين.
نشأت ملك في بيئة تزخر بالحب والتشجيع، فتشبعت بالأفكار الحرة واستفادت وأفادت. فباعتبارها الأخت الكبرى، كانت تهتم بأخواتها وبتعليمهم أيضًا، وكانت تجمعهم من حولها لتقرأ عليهم الشعر، وتراجع دروسهم، وتنقل لهم المعلومات التي تتلقاها. كما كان لها تأثير على محيط المعارف والأصدقاء، فكانت تذهب إلى بيوتهم وتقنع الأهل بتعليم البنات في مدرسة السنية. وعندما انتقلت إلى الفيوم، قامت بدور المعلمة والراعية نفسه فكانت توليهم اهتمامها، وكانت ترعى شؤونهم حتى في زياراتها إلى القاهرة. ومن أهم الأدلة على ارتباط ملك بأسرتها، وحنوها عليهم الحادثة التي يرويها أخوها وأختها عن مجيئها إلى القاهرة لتكون بجوار أسرتها على الرغم من مرضها بالحمى الإسبانيولية, فلقد كان مجد الدين يحاكم أمام محكمة عسكرية بتهمة تهريب ضابط تركي من السجن، وكان يواجه حكم الإعدام، كما سبق، فخافت ملك على أبيها وأسرتها من وقع الصدمة عليهم، وآثرت الحضور إلى بيت أسرتها وتوفيت نتيجة لاشتداد المرض, وعن ارتباطها بأسرتها ومكانتها فيها تتحدث الدكتورة كوكب بحب شديد عن أختها التي كانت مثلها الأعلى طوال حياتها، والتي ألهمتها الرغبة في التميز والتفوق على الصعاب(۸)
ملك في عيون الآخرين
كان لملك مكانة عالية بين معاصريها والأجيال اللاحقة التي اهتمت بتحسين وضع المرأة في المجتمع. واجتمع الجميع على أهمية أفكارها وعلى تميزها وسط بنات جيلها. ونظرة سريعة على آراء بعض المعلقين والمعلقات على كتابات ملك تساعدنا على فهم أفضل لآرائها، ولوقع هذه الآراء على سامعيها، ومن ثم على تحديد موقع تلك الآراء في سياق خطاب النهضة السائد. وسوف نجد أن ملك حازت استحسان الكثيرين، ونجحت في الفوز باحترام وتقدير معاصريها والأجيال اللاحقة، كما تعامل معها الجميع باعتبارها رائدة من الرائدات، وقرأوا لها باهتمام وجدية لما كان لها من بصيرة واتزان في التعامل مع القضايا الشائكة. ويتركز التعليق على ملك في الثناء على الموضوعات التي تطرقت إليها، خاصة موضوع تعليم المرأة وأهميته، ويشتمل على إشارات إلى بلاغة ملك وأسلوبها المتميز في الكتابة, ثم يتطرق في أغلب الأحيان إلى التعليق على موقفها من الحجاب، ويؤوَّل هذا الموقف وفق الانتماء الإيديولوجي للمعلق؛ فتارة يقابل باستحسان، وتارة أخرى يقابل بالنقد. وعمومًا، يتجه أغلب المعلقين والمعلقات إلى عقد مقارنة بين ملك ومواقعها إزاء قضية تحرر المرأة وقاسم أمين باعتباره المرجع الرئيسي في هذه المسألة، وهي مقارنة تكون في أغلب الأحيان معلنة وصريحة، وفي أحيان قليلة أخرى نجدها مضمرة، ولكن من السهل استنتاجها. أما بالنسبة إلى تعليقات النساء من أمثال مي زيادة وسهير القلماوي، فنجدها تقيم المقارنات نفسها وتتبنى أحيانًا الافتراضات ذاتها في المقارنة بين ملك وقاسم أمين، ولكنها عادة ما تضيف بعدًا جديدًا عن علاقة ملك بكاتبة التعليق وفضلها أو تأثيرها عليها، أو، كما تقول مي، عن فضل كاتبة على كاتبة.
ونبدأ من سنة 1910، وهو تاريخ نشر مجموعة المقالات التي كتبتها في مجلة الجريدة في كتاب تحت عنوان “نسائيات “. ويتضمن هذا الكتاب مقالاتها ومقدمة بقلم أحمد لطفي السيد وتعليقات على مقالاتها لشخصيات عامة. ومن الجدير بالذكر أن هذه التعليقات الأولى التي يشملها الكتاب الصادر سنة 1910 تعد مؤشرًا جيدًا لموقف النقاد والمؤرخين من ملك وآرائها. وفي مقدمته للنسائيات، يثني أحمد لطفي السيد على ملك، ويحدد ما يراه مهمًا في كتاباتها، ويقرر أنها “أجادت كل الإجادة في أن جعلت أساس بحثها تقرير المساواة لا على جهة الإطلاق بل في حدود الاعتدال والدين ” (ص٤٥). ويسترسل الكاتب في أهمية الاعتدال ويختلف مع “النسائيين” الذين يطالبون بالمساواة المطلقة، ويؤكد مبدأ التدرج والتمهل، لأن هذه المساواة المنشورة “لم توجد ولم تجرب في أعلى الأمم حضارة” (ص43). أما فضيلة الشيخ عبد الكريم سلمان، رئيس تفتيش المحاكم الشرعية, فهو يكتب تعليقًا يعبر فيه عن إعجابه بكتابات ملك، وينتقد ما يراه “حدة في بعض الموضوعات وكأنها معذورة في حدتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها فكتبت فيه وهي ممتلئة حنقًا” (ص 173). ثم يعلق على معارضتها دعوى نزع الحجاب، ويفسرها على أنها دليل خوفها من الخروج على تقاليد المجتمع و “ستظهر الأيام أن رأيها في الحجاب رأى لم تقدر على تخميره ولم تملك حرية القول فيه ” (ص۱۷۳). ويقارن شبلي شميل فضل ملك في المطالبة بتحرير عقل المرأة وتقويم أخلاقها بفضل قاسم أمين في المطالبة بتحرير المرأة،” وإن كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب” (ص ۱۹۱). ويتحمس كثيرًا لآرائها ويذهب إلى أن موقفها هذا لا يتنافى مع رأى الطالبين بالسفور المطلق، ثم يستطرد ليبين مزايا السفور وارتباطه بنهضة النساء.
ويعلق صاحب السعادة إسماعيل صبري باشا، وكيل نظارة الحقانية سابقًا ويوافقها على رأيها في الحجاب، وعلى أن “تربية بنات مصر لهو العلاج الأكبر” (ص 175). أما الشيخ عبد العزيز جاويش، فيوافق على نصائحها للمرأة الشرقية، ويعضد موقفها ضد قاسم أمين ويقول: “لقد كاد قلم قاسم أمين يجلب البلاء على المسلمين والمسلمات بما وضعه من الكتب في موضوع المرأة، لولا أن تنبهت لما يريده النابتة الإسلامية فجعلت تطارد تعاليمه وتحارب إرشاداته” (ص ۱۷۷). ويناقش الشيخ حسين والى، الأستاذ بالأزهر ومدرسة القضاء الشرعي، آراء ملك من موقع المعلم والمرشد، فيبدأ بالثناء عليها وتشبيهها بشخصيات نسائية تبوأت مكانة عالية في التاريخ الإسلامي: ” أراني كتابك علم عائشة بنت الصديق وأدب سكينة بنت الحسين” (ص ۱۸۱) ثم يستطرد ليفند مقالاتها فيعدل عليها ويصوبها من وجهة نظره. ومثلاً، يختلف معها فيما ذهبت إليه عن تساوي ملكات الرجل والمرأة ويقول: “إن الرجل… يتعلم. . فترى الرجل يخترع الأشياء وترى المرأة لا تخترع” ويتخذ هذا المثل ذريعة للتدليل على اختلاف طبيعة الرجل والمرأة بحيث يكون للرجل حق القوامة. ويختم الشيخ تعليقه ببيان للأخطاء اللغوية التي ارتكبتها ملك ويصححها .
ويلفت أسلوب ملك وفصاحتها اهتمام المعلقين فيقول عنها أحمد لطفي السيد في مقدمته إنها: “أكتب سيدة قرأنا كتاباتها في عصرنا الحاضر، بل هي تعطينا في كتاباتها صورة الكاتبات الغربيات اللاتي تفوقن على كثير من الكتاب” (ص ٤٥). كما يرى أحمد زكي، السكرتير الثاني لمجلس النظار، أنها أعادت الخطابة إلى فريق من النساء بعد أن انطمست معالم هذه السنة” (ص ۱۸۰) .
وفي سنة ١٩٢٥ أعيد نشر النسائيات، وألحق بها جزء ثان احتوى على بعض المقالات والمراسلات والخطب والقصائد التي ألقيت في حفل تأبين ملك، الذي اشتركت فيه هدى شعراوي ونبوية موسى ومي زيادة وأخريات. وتميز هذا التأبين بأنه كان مظاهرة للمطالبة بحقوق النساء، فلم يقتصر الحاضرون والحاضرات على الثناء على ملك، وإنما اعتبروا ذكراها مناسبة جيدة لدفع الحركة النسائية إلى الأمام. وجاءت قصيدة نبوية موسى حماسية وقوية لتؤكد إنجازات ملك، ونصرتها لحقوق النساء. ثم تكلمت مي زيادة فلمست جانبًا مهمًا من آثار ملك وهو علاقتها وتفاعلها مع نساء عصرها. فتقول مي إنه كان لملك أثر عميق عليها كقارئة لأنها كانت أول كاتبة عربية تقرأ لها موضوعات كانت غريبة عنها مثل “الزواج والطلاق وتعدد الزوجات والنقد الاجتماعي والإصلاح” (ص٢٢٩) وكان هذا سنة 1907. ثم تشير إلى فضل آخر وهو فضل ” كاتبة على كاتبة” لأنها بسبب حزنها على ملك، وإعجابها بها كتبت كتابها “باحثة البادية” الذي صدر سنة ١٩٢٠. وتصفه بأنه “كان فاتحة تأليفي باللغة العربية، ومنشأ اهتمامي بدرس شخصية المرأة عمومًا والشرقية خصوصًا“. (ص۲۲۹) وتبادلت می وملك المراسلات والآراء, والأهم من ذلك أنهما منحا بعضهما بعضًا الثقة والمؤازرة على المضي في طريق الإصلاح والدفاع عن حقوق النساء. فلقد كان هذا الجيل من الرائدات في حاجة ماسة إلى تراث نسائي يدل على رفعة المرأة ونبوغها متى سنحت لها الظروف، ولقد وجدت ملك ضالتها في بيتها، وأيضًا في كتاب: “الدر المنثور في طبقات ربات الخدور ” الذي كتبته زينب فواز سنة ١٨٩٤ خصيصًا لتشجيع النساء، وحثهم على النهوض بوضعهن من خلال تقديم نماذج مشرفة لنساء شرقيات وغربيات(9). ولتأكيد أهمية هذا التراث النسائي، كتبت مي ثلاث سير عن ثلاث شخصيات شرقية للاحتفاظ بذكراهم للأجيال المقبلة. فإلى جانب كتابها عن ملك،كتبت كتابين آخرين عن عائشة التيمورية ووردة اليازجي (10).
وفي سنة ١٩٦٢ كتبت سهير القلماوي مقدمة لكتاب آثار باحثة البادية الذي جمعه وأشرف عليه مجد الدين ناصف. وفي تقديمها، تحاول الكاتبة الإجابة عن سؤال: “هل غيرت ملك من أحوال عصرها، هل أثمرت دعوتها؟” (۱۱). وترصد سهير القلماوي حال المرأة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر لتقيم جهد المصلحين الأوائل، وتضع ملك في مصاف قاسم أمين أي في صدر قائمة الرواد. وتهتم الكاتبة بالدور الذي لعبته النساء في تبنى دعوى الإصلاح من أمثال؛ زينب فواز وعائشة التيمورية، ولكنها تجد أن “ظهور ملك، باحثة البادية كاتبة وداعية ومصلحة من صميم البيئة المصرية حدثًا مهمًا، في تاريخ المرأة” (١٢). وتركز الكاتبة على البيئة التي نشأت فيها ملك، وعلى أبيها حفني ناصف وتأثيره على ابنته وتعقد مقارنة بين ملك وعائشة التيمورية، ثم تتطرق إلى زواجها، وتستند في تحليلها إلى ما كتبه مجد الدين عن تعاسة ملك، والمعاناة التي عانتها بعد أن اكتشفت زواج زوجها عبد الستار الباسل بابنة عمه. وتتخذ سهير القلماوي هذه الواقعة مدخلاً لتحليل وتفسير ما أسمته مي زيادة ” بالنار المقدسة” التي تحرق ملك، وتجلب لها العذاب المعنوي، الذي يجعلها تتألم لعذاب الآخرين، وتهتم بإصلاح ما لا يعجبها من حال مجتمعها. وتذهب سهير إلى أن السبب وراء تلك النار هو عذابها بسبب ظروف زواجها، وأنها تكتب من واقع تجربتها الشخصية فتقول: “إن تجربة الزواج في هذه الظروف التي عانتها ملك عمقت إحساسها بالظلم الذي تعانيه المرأة المصرية “المرأة مسلوبة الحق مظلومة في كل أدوار حياتها” (۱۳). ثم تذكر سهير القلماوي ما تسميه مأساة ملك الثانية، وهي أنها لم يكن لها أولاد وبنات، وكيف استغل زوجها هذا الوضع فراح يهددها بزواج من أخرى، لتكتشف في نهاية المطاف (حسب رواية شقيقها مجد الدين) أن زوجها أصابه العقم بعد أن ولد ابنته الأولى، وأنه كان على علم بذلك ومع هذا رفض الإفصاح عن علته واختار أن تتعذب ملك.
وبالرغم من تأكيد الكاتبة أهمية دور ملك بالمقارنة بينها وبين قاسم أمين وهو الرائد المتوج للحركة النسائية المصرية، إلا أنها تحد من ذلك الدور في إطار وجهة النظر السائدة عن الرائدات،وهي وجهة النظر التي تضع مساهتمهن في حركة الإصلاح في مرتبة ثانية بالمقارنة بإسهامات الرواد. فعد أن بدأت فأقرت مكانة ملك جنبًا إلى جنب قاسم أمين، تستطرد تقول إن غايات ملك كانت “أقرب وأبسط ولكنها على كل حال كانت في مستوى غايات قاسم شرفا ونبلاً، وإن لم ترتفع إليها شمولاً واتساعًا، ولم تنزل إلى أغوارها عمقًا ودقة (14).
وتردد هنا الكاتبة مقولة شائعة عن شجاعة قاسم أمين وبعد نظره، وعن الحدود التي التزمت بها سلك بحكم انتمائها للجنس الأضعف، ومن ثم حرصها على مراعاة التقاليد ومبادئ الدين. ثم نجد أن الكاتبة تولى حياة ملك الشخصية عناية فائقة، وتربط بين معاناتها وكتاباتها، لتصبح الكتابة هنا تعبيراً عن مأساتها الشخصية. هذا على الرغم من أن ملك لم تقم علاقة مباشرة بين عذابها المعنوي وحياتها الشخصية، وإنما حرصت كل الحرص على تغليب العام على الخاص، وركزت على القضايا التي تؤرقها في الشأن العام. ومن اللافت للنظر أن موضوع زواج ملك وشقائها قد أثير للمرة الأولى في كتاب آثار باحثة البادية، الذي أشرف عليه أخوها مجد الدين، والذي تضمن سيرة ملك بقلم مجد الدين يحكي فيها عن هذا الزواج. ولقد التقطت سهير القلماوي هذا الخيط وجعلته في صدارة مقدمتها، وركزت عليه باعتباره بعداً جديداً للكتابة عن ملك. وقد نختلف أو نتفق مع تحليلها للنار المقدسة، وقد نعتبر أن حصر التفسير لعذاب ملك المعنوي في حدود حياتها الخاصة فيه قدر عال من المبالغة لما نعرفه عن اهتمام ملك بالشأن العام والقضايا المطروحة في عصرها، إلا أن تسليط الضوء على حياتها الخاصة ومزج العام والخاص من الأمور التي تفرد مساحات جديدة لفهم وتطور وأفكار الكثير من الشخصيات والأحداث التي ارتبطت بهم.
إلى جانب هذه الإشارات المحددة لبعض ما كتب عن ملك، توالت المقالات وعدد قليل من الكتب. مثلاً في سنة 1958، أي في الذكرى الأربعين لوفاتها، أصدرت إدارة الشئون العامة بوزارة التربية والتعليم كتاباً عن ملك،كتبه عبد السلام العشري، وقدم له الدكتور مهدي علام، عضو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب (١٥). يشيد الكتاب بإنجازات ملك، ويركز على ريادتها في مجال تعليم النساء، ويتخذ الذكرى فرصة للاحتفاء بما تم تحقيقه على هذا الصعيد. أما الكتاب الثاني، فهو بقلم عبد المتعال محمد الجبري، وصدر عام 1976، وفيه يحتفى بملك باعتبارها رمز المرأة المسلمة التي وقفت ضد دعاوى التغريب وعارضتها(١٦). والكتاب يعد امتداداً للتيار المحافظ في أوائل القرن، الذي اعتبر ملك من أنصاره، واكتفى بتصويب أخطائها كما بدت له ولا أنوى الاسترسال في عرض ما كتب عن ملك، واكتفى بتأكيد فكرة وجود اتجاهين للتعامل مع كتاباتها، تحددا في بداية القرن، واستمرا إلى يومنا هذا.
وقد يبدو مما سبق أن ملك نالت حقها من التقدير، أو أنها دخلت التاريخ العربي باعتبارها من أهم رائدات القرن العشرين .(17). إلا أنه بالرغم من بعض الكتابات القيمة عن ملك، والعديد من المقالات المنشورة في الصحف والمجلات، فهي تعتبر من الشخصيات اللاتي فقدن في متاهات التاريخ الرسمي، ولم تنل الاعتراف الذي يليق بالدور الذي لعبته في أوائل هذا القرن. ونكتشف أن سقوط ملك من الذاكرة الجماعية لا يرجع إلى عدم توفر المعلومات عنها، أو عدم وجود اهتمام من الكتاب والكاتبات بها وبأعمالها، وإنما يرجع إلى مواقفها واتجاهاتها التي يجدها الكثيرون محيرة وصعبة التصنيف. وقد حان الوقت لإلقاء نظرة سريعة على أفكارها .
أفكارها وآراؤها
كانت ملك صاحبة رسالة تختلف قليلاً، أو كثيراً وأحيانا عن بعض الاتجاهات التي سادت الفكر المصرى الحديث. فكانت مثل أغلبية رواد الإصلاح تعي أهمية دور المرأة في المجتمع المصرى للخروج من ظلمات الجهل والتبعية، فسارت تبحث عن أفضل الحلول لتحقيق هذا الهدف. وأيضاً مثل بقية مفكرى هذا العصر؛ مثل رفاعة الطهطاري والشيخ محمد عبده وقاسم أمين وأحمد لطفي السيد وطه حسين وآخرين، تعاملت ملك مع السؤال الذي ألح على معظم الرواد والخاص بكيفية الأخذ بمظاهر ومعطيات الحداثة، مع الإبقاء على خصوصية الثقافة العربية والإسلامية .
وقد عبرت ملك عن موقعها إزاء معادلة التراث والمعاصرة في كتاباتها. فكانت تتفق أحيانًا مع آراء بعض معاصريها، وكانت في أحيان أخرى تختلف معهم وتحاور أفكارهم. فعلى سبيل المثال؛ عارضت ملك دعوى قاسم أمين لسفور المرأة المصرية مما عده الكثيرون ضربًا من ضروب المحافظة والرجعية، إذ كان سفور المرأة آنذاك محك التحرر والتقدم. وفي الوقت ذاته تعرضت ملك في كثير من مقالاتها للآثار السيئة الناجمة عن عادة تعدد الزوجات، مما قلب عليها المعسكر المحافظ واتهمت في دينها. وبهذا، نجد أنه استعصى على الكثيرين تصنيفها ضمن التصنيفات الجاهزة، فشكك البعض في تمسكها بتراثها، وشكك البعض الآخر في مصداقية تفتحها. ولكن، لم تتأثر ملك بتلك الهجمات، واستمرت في الإدلاء برأيها الحر في شتى القضايا، ورفضت رفضًا باتًا تبنى فكر جاهز، أو عدم الإفصاح عن رأي أو موقف في سبيل الحوز على رضا فريق دون الآخر.
ولتوضيح مواقف ملك المختلفة قد يكون من المجدى التوقف قليلاً عند معنى الحداثة والتحديث، وعلاقتهما بمسألة المرأة في بدايات هذا القرن. فمن المعروف أنه تم طرح موضوع تحرير المرأة والنهوض بمستواها في مرحلة تاريخية انشغل فيها الجميع بكيفية بناء مجتمع مصری حدیث، يأخذ بسبل التقدم ويتخلى عن مظاهر الجهل والتخلف. وارتبط مفهوم المجتمع الحديث بشكل المجتمعات الغربية الموجودة في ذلك الوقت، واستمر هذا المفهوم ليحمل في طياته الكثير جدًا من معطيات وتجليات تلك المجتمعات، مما يمكن تحديده على هذا النحو المبدأى: تبنى النموذج الغربي للتقدم وتنمية المجتمعات، الإيمان بالتطور الخطى للحضارة بحيث نقرأ التاريخ باعتباره رحلة الإنسان للخروج من الظلام إلى نور المعرفة والحضارة، افتراض أن المجتمعات غير الغربية متخلفة عن المجتمعات الغربية، لأنها مازالت تمر بمراحل أولية من التطور، تبنى منظومة فكرية تشجع على خلق تضاد ثنائي بين الغرب والشرق، الحداثة والتراث، وبين الأنا والآخر بحيث يحافظ الغرب على تميزه واختلافه وتعرفه على المجتمعات الأخرى. ولقد بين نقاد الحداثة ارتباط مفهوم الحداثة والمجتمع الحديث بالتوسع الاستعماري الذي حدث في القرن التاسع عشر، حيث كان على المجتمعات الغربية الاستعمارية اللجوء إلى خلق كيان آخر يتناقض ويتصارع مع الذات الغربية، وذلك بهدف تعزيز مكانة الذات وتحديد ملامحها ودعم قوتها.
ولقد تبنى رواد الإصلاح الأوائل المنتمون إلى التيارات الفكرية كافة، الممثلة في ذلك الوقت (ليبرالية كانت أو إسلامية) الاقتراضات الأولية للحداثة. كما نشرها ودعمها الوجود الاستعماري في مصر، أي أنهم تشربوا فكرة التفوق الثقافي الغربي،وتبنوا مفهومًا للتطور يرى التقدم يسير في خط مستقيم، وصل فيه الغرب إلى أرقى المستويات بينما تحاول المجتمعات الأخرى اللحاق به، كما قبلوا المنظومة الثنائية التي تضع الحداثة في مواجهة التراث، وعلى هذا الأساس نرى وفقا لقواعد هذه المنظومة تيارات فكرية تبرز وتختلف رغم اتفاقها على المنطلقات الأساسية. بعبارة أخرى برز في أوائل القرن خطاب إصلاحي، تنویری قومي رأي أن يحاكى المجتمعات الغربية الحديثة،ويأخذ بظواهرها مع مراعاة اعتبارات خاصة بالهوية والخصوصية الثقافية، كما برز تيار آخر محافظ،ديني يرفض النموذج الغربي ويمجد القيم التقليدية الموجودة في المجتمع باعتبارها قيمًا تراثية وجب التمسك بها في مواجهة الهجمة التحديثية السائدة. ومن الملاحظ أن كلا الطرفين قبلا ورضيا بالتعارض الحتمي بين التراث والحداثة، وانحصر الخلاف في طبيعة مواقف الرفض أو القبول.
وفي ظل هذا الجو الثقافي والسياسي، تعرضت النساء لضغوط شديدة لتبنى مظاهر المجتمع الحديث. وأصبحت مسألة المرأة من القضايا المحورية في الجدالات الاجتماعية والسياسية الدائرة حول بناء المجتمع الحديث. وعلى سبيل المثال؛ رأى قاسم أمين أن قضية تحسين وضع المرأة في المجتمع هي المدخل الأساسي لحل المشاكل الاجتماعية السائدة. ومثل الكثيرين من أقطاب التنوير، اقتنع قاسم أمين بفكرة أن الواقع المتخلف للنساء المصريات المتمثل في قلة فرص التعليم الحديث وانعزالهم داخل بيوتهن يعد من أهم الأسباب وراء تخلف المجتمع المصري ككل، وأن نهضة مصر مرهونة بتحسين وضع نسائها. وانطلاقًا من هذه الفكرة، كتب التنويريون معبرين عن اهتمامهم بمسألة المرأة مقالات لا حصر لها لتوبيخ النساء لكسلهن أو جهلهن أو مظهرهن غير اللائق مقارنة بأزواجهن. واعتبر تخلف النساء السبب الرئيسي وراء فشل الزيجات، وكثير من الأمراض الاجتماعية المتفشية في المجتمع. وعمومًا، تحملت النساء عبء وذنب تخلف مجتمعاتهن.
وفي هذا السياق كتبت ملك مقالاتها وحاورت الكتاب والكاتبات متطرقة إلى سبل تحسين وضع المرأة، وكيفية التعامل مع الحداثة. كما حاورتهم في منطلقاتهم الفكرية وبعض الافتراضات الأولية التي بنوا عليها حججهم (۱۸). وأبدأ بالإشارة هنا إلى مقالة مهمة كتبتها ملك للرد على مقالة كتبها أحمد لطفي السيد تتناول فيها بالتحديد افتراضًا أساسيًا لدى الكتاب التنويريين يحمل المرأة مسئولية التخلف،ليحثها على الأخذ بمظاهر الحداثة. ولأحمد لطفي السيد مكانة خاصة في حياة ملك الثقافية، فلقد نشرت نسائياتها في مجلة الجريدة التي كان يرأس تحريرها، كما كان من أكبر المشجعين لملك، والمتحمسين لأفكارها وقام بكتابة مقدمة لكتابها النسائيات في۱۹۱۰.
وإذا اطلعنا على مقالات أحمد لطفي السيد المنشورة في “الجريدة“، والتي تحث على أهمية تعليم الفتيات، نجده يتحمس كثيرًا لنصرة المرأة مؤكدًا ضرورة فك الحصار المفروض عليها من قبل المجتمع والرجال الأوصياء عليها. وله في هذا مقالات عديدة وأقوال مأثورة نستمتع باسترجاعها، فمثلاً في مقالته: “لا تضيقوا عليهن” يستنكر موقف من ينادون بتعليم المرأة وتربيتها تربية صحيحة ثم يثقلون عليها بالمحاذير والتحفظات لكي يحجروا عليها ويمنعوها من “التوغل في تعلم العلوم التي يتعلمها الشبان “. ويعلق أحمد لطفى السيد فيقول: “أليس هذا ضمنًا دعوة إلى عدم تربية المرأة التي يقرونها في أصلها؟“. وهو في موقفه هذا يختلف مع دعاة قصر تعليم المرأة على المرحلة الابتدائية وعلى المواد الملائمة لإتقان ما كان يتفق على أنه أدوارها الطبيعية. المهم أن أحمد لطفي السيد تميز بمواقف إيجابية كثيرة تجاه نهضة المرأة المصرية في مجابهة التيارات الرجعية التي حاولت جاهدة إبقاء المرأة في سجنها وجهلها.
وعلى هذا تجد أن ملك حفني ناصف تكتب مقالاً في الجريدة ترد فيه على مقالة كتبها أحمد لطفي السيد عنوانها “بناتنا وأبناؤنا” (١٩). وإذا قرأنا هذه المقالة قراءة عابرة قد لا نفهم للوهلة الأولى لماذا شعرت ملك بضرورة الرد عليها أو مناقشة ما فيها. فالمقالة تتحدث عن أهمية تعليم المرأة المصرية، وتحذر من عواقب إهمال تعليم نصف المجتمع خاصة في السنوات اللاحقة. وإلى هذا الحد لا توجد أية مشكلة، ولكن إذا تفحصنا بعض الافتراضات التي يبنى عليها أحمد لطفي السيد مقالته نضع يدنا على خيوط المشكلة، كما ندرك أيضا أن هذه الافتراضات لم تجئ من قبيل السهو أو المصادفة، وإنما نجدها تعبر عن اتجاه شائع بين المفكرين في هذا الوقت.
يستهل أحمد لطفي السيد مقالته بمقارنة بين العائلة المصرية بالأمس والعائلة اليوم (أي في ذلك الوقت) ويقرر أن عائلة الأمس كانت عائلة سعيدة بسبب توافق الزوجين في مستوى العلم، وبالتالي في فهمهما للسعادة الزوجية. وكان الرجال يتزوجون أكثر من واحدة، وكانت الزوجة تتقبل هذا الوضع وترضى أن يعدل الزوج بينهما في المعاملة والكسوة. ثم يبدي أحمد لطفي السيد, دهشته إزاء هذا الرفاق في العائلة المصرية, بالرغم من تفشى عادة تعدد الزوجات، وقلة الوفاق في عائلة اليوم مع اندثار تلك العادة، أو على الأقل انحسارها في بعض الأسر. ثم ينتقل الكاتب إلى تحليل وضع العائلة المصرية المعاصرة، ويحاول تلمس أسباب كثرة الخلافات الزوجية وكثرة الشكوى من الزواج بين شباب هذا الجيل، فيرسم صورة رائعة للشاب المصري العصري، فهو متعلم، يفهم السعادة الزوجية على آخر نمط قال به ” الحكماء العصريون“، ويعجب بالمرأة الرشيقة، الرقيقة البسيطة في لبسها، يحب الألوان الباهتة ويرى أن الزينة الطبيعية أجمل من الزينة المصطنعة، ويشعر أن الحب الحقيقي يكمن في تبادل الثقة بين الطرفين، فيتوقع من زوجته أن تصدقه حين يؤكد لها أنه لن يتزوج بغيرها لأن – كما يستطرد لطفي السيد – ” الزوجية متى صفت, تقتضى البقاء إلى آخر الحياة“. ويصطدم هذا الشاب العصري المتحضر المتذوق للفن والجمال بزوجة جاهلة تعتقد أن الجمال يكمن في السمنة والبياض و” أن حسن الزي ينحصر في الأطالس والجنافس، فمئزر على مئزر، وجلباب على جلباب، تحمل جسمها ما لا يطيق وتنسى ذراعيها من غير قفاز“. وأخيرًا فهي لا تصدقه حين يؤكد لها وفاءه والتزامه تجاه الزواج. وكما فعل قاسم أمين, يضع أحمد لطفي السيد الرجل المصري في مرتبة عالية جدًا من التحضر والرقي الاجتماعي والثقافي الأخلاقي، فهو فوق الشبهات، لا يساهم بتاتًا في تخلف وطنه، فهو مظلوم يحيا حياة تعيسة بسبب قدرته على تحمل مظاهر التخلف والتردي التي تحيط به من كل جانب, خصوصًا تلك المظاهر التي يجدها مجسدة تجسيدًا فجًا في زوجته المصرية. وكما هو متبع في خطاب النهضة تتحمل المرأة مسئولية التخلف كاملة, كما تتحمل مسئولية مقاومة هذا التخلف والتغلب عليه، مما يؤدى إلى إغفال أو السكوت عن عوامل أخرى ساهمت في هذا التخلف.
وتتصدى ملك لهذه الفكرة، لا لتنقى عن المرأة مسئوليتها تجاه المجتمع، بل لتجبر الرجل على تحمل المسئولية التي تقع على عاتقه، فهو، كما تصر ملك، المسئول الأساسي، لأنه يملك زمام الأمور، وهو المتصرف في شئون المرأة بحكم الوضع غير المتساوي بين الجنسين، فإذا صلح صلحت أسرته، وإذا فسد أدى بأسرته إلى التهلكة.
وتستطرد ملك مقالتها التي ترد فيها على أحمد لطفي السيد، وتحاول أن تعرض وجهة نظر المرأة وراء شكواها من الزواج العصري. فتقول إن السبب وراء شكوى النساء من الزواج يرجع إلى سوء خلق الرجل العصري، وعدم التزامه بالأخلاق الشرقية الحميدة. فهو، وإن كان قد قلل من عادة تعدد الزوجات، قد تمادي في تقليد الرجل الغربي، وأصبح يتباهى بخليلاته ويشرب الخمر والسهر، وكأن التمدن يجب أن تصحبه تلك العادات الذميمة التي ينقلها الرجل من الغرب ويتخيل أن هذه التصرفات ضرورية أو مكملة لهيئته العصرية. وكما تفعل وتفعل دائمًا، تركز ملك على إحدى نقاط الضعف في خطاب النهضة كما أشرنا من قبل– وتتحدى المقولة الشائعة بأن تخلف المرأة مسئول عن تخلف المجتمع، وتلفت النظر للدور الذي لعبه الرجل في تدهور حال الأمة، وفي إتاحة الفرصة للاستعمار الأجنبي لإحكام سيطرته على البلاد فتقول: “اسلكوا سبيل الجد في الحياة، فقد كفاكم هزلاً أن استعبدنا الغير ونحن لاهون، واجعلوا من أنفسكم صراطًا تتبعه زوجاتكم، فإن كنت أيها الرجل عاقلاً فلتكن زوجتك مثلك وإن كنت خليعًا فامرأتك خليعة. . فأصلحوا أحوالكم تصلح حال نسائكم، وتقوا ورد بيوتكم من الشوك والهم، وسنوا سنًة صالحة لأبنائكم وبناتكم من بعدكم يكن لكم أجرها إلى يوم الدين، ولله عاقبة الأمور” (ص 60).
وجاء دفاع ملك عن المرأة المصرية مبنيًا على معرفتها ببواطن الأمور وبتفاصيل الحياة اليومية التي أحاطت المرأة بكم هائل من الخرافات وقلة الإدراك، الذي كان يترجم إلى أفعال وتصرفات تنمُّ عن التخلف. وفي خطبة ألقيت في الجامعة المصرية عنوانها: (في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية) توجه ملك انتقادًا لاذعًا إلى المرأة المصرية, وتعيب عليها اتكالها وكسلها وإهمال شؤون بيتها، وما إلى ذلك من عيوب تراها متفشية في مجتمعها. فهي لا تعفى المرأة من مسئولية النهوض بأحوالها. ولكنها، حين تقارنها بالمرأة الغربية مشيرة إلى مزايا المرأة الغربية وتقدمها الملحوظ على المرأة المصرية، لا تفعل ذلك بأسلوب المنبهر الذي يمجد المرأة الغربية في كل شيء، ويحتقر المرأة المصرية في كل ما تفعله، فتحاول ملك تحطيم أسطورة المرأة الغربية الباهرة التي أسرت خيال كثير من رواد الفكر المصريين، وهي لا تفعل ذلك بالدم الرخيص للمرأة الغربية، وإنما فقط بلفت النظر لبعض مساوئها التي كثيرًا ما يتناساها المتحمسون في غمرة حماسهم. فإذا كانت المرأة المصرية تؤمن بالخرافات، وتعيش في عالم غير عقلاني، نجد أن ” للخرافات سلطانًا كبيرًا على المرأة الغربية” (ص ١٦٣) فهي ليست معصومة من الخطأ كما يروج البعض. وتستطرد ملك أنه إذا كانت المرأة العربية قد سبقتنا بمراحل في العلم والعمل إلا أننا لا نقل ذكاء. ثم تنبه إلى خطورة الانبهار لأن كما تقول “الضعيف إذا لم يرزق قوة تمييز خيل له أن كل ما يأتيه من القوة حسن” (ص 166).
وكما أشرنا من قبل، لا يأتي هذا الحماس لإنصاف المرأة المصرية أمام المرأة الغربية من فراغ، وإنما هو نتيجة تراكم الهجمات الحادة على المرأة المصرية في خطاب النهضة. ولا تكتفي ملك بالاستماتة في إنصاف المرأة والتنويه بأخطاء الرجل، وإنما تنجح في الوصول إلى لب المشكلة في خطاب النهضة الرجولي، وهو ازدواج المعايير عند الرجل المصري في تقييمه المرأة الغربية والمصرية فتقول ملك: ” زار أغلب رجالنا أوروبا والبلاد المتمدنة، ورأوا بأعينهم كيف يحترم الرجل الأوروبي امرأته، حتى أنها مقدمة عليه في كل مجتمع، فعادوا ينادون بوجوب تعليم المرأة ويصرحون في كلامهم بأنهم من أنصارها وأنها واجبة الاحترام. ولكن كلامهم لا يلبث أن يذهب مع الهواء. إلا أنهم إذا اجتمعوا بسائحة إفرنجية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرًا فساعدوها في النزول من عربتها، وامسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش إجلالاً لها، في حين أن أحدهم يستنكف أن يركب مع امرأته في مركبة واحدة ” (ص ١٠٥).
فكما تلاحظ ملك, نستطيع أن نلمس تناقضًا صارخًا وازدواجية في شخصية الرجل المصري المتعلم الذي يصفه أحمد لطفي السيد، فهو يتطلع إلى المدنية الحديثة لما فيها من مزايا وسبل للتقدم والرقي، ولكنه بدلاً من مواجهة ذاته، بدلاً من نقدها نقدًا بناء يهدف إلى تعرية أماكن الضعف فيها، يتنصل من هذه المواجهة مع موروثه الحضاري المخزون داخل ذاته، ويسلك ما يبدو أنه الطريق الأسهل في الوصول إلى المدنية. وهذا هو مربط الفرس، وهذا هو ما يميز ملك عن أغلبية رواد النهضة، فهي لم تستعجل في خطاها بل أصرت على التأني والأخذ بالتدرج للوصول إلى الهدف، أو إلى النهوض بالمرأة والأمة المصرية.
أما النقطة الثانية التي تميز كتابات ملك؛ أنها أدركت منذ الوهلة الأولى أهمية التعبير عن وجهة نظر المرأة في شتى أمور الدنيا، وهي وجهة نظر تستند إلى الواقع الذي تعيشه وتشعر به، هذا الواقع الذي قد يصعب على الرجل تلمسه أو تعرف خباياه. ففی مقالة عنوانها: (ما ذنبنا) ترد فيها على اقتراح نشر في “الجريدة” بشأن تبادل النشء من البنين والبنات مع تركيا، تستهل حديثها وتقول إنه بالرغم من أن الكثيرين قد تناولوا هذا الاقتراح إما بالرفض أو بالقبول إلا ” أنهم لم يحيطوا بالموضوع من جميع أطرافه، وعذرهم في ذلك أنهم رجال، وقد لا يعود عليهم بالذات ضرر ما من تنفيذ ذلك المشروع. ولا يهتم بدرس اقتراح كهذا خطير إلا من قد تقع عليه أضراره فيما لو نفذ. ونحن معشر النساء المصريات أكثر الناس تعرضًا لمثل ذلك الخطر” (ص 65) فبالرغم من تبنى رواد النهضة لقضية المرأة فإنهم صاغوها في صيغة مشبعة بأفكارهم ومنطلقاتهم، وجاءت ملك لتركز على أهمية إتاحة الفرصة للمرأة لتقرير مصيرها، والبت في شؤونها، والتعبير عن وجهة نظرها في الأمور كافة. والسبيل الأوحد لتمكين المرأة من تكوين وجهة نظر خاصة بها هو التركيز على التعليم، فدون تعليم لا تتحرر المرأة ولا تخرج من شرنقتها.
وفي أول خطبة تلقيها ملك، تتصدى لمؤيدي فكرة اقتصار تعليم الفتيات على المرحلة الابتدائية فقط، بحجة أنها لن تحتاج إلى قدر أكبر من التعليم في إدارة شؤون منزلها وتربية أولادها، فترفض ملك هذا المنظور النفعي السلطوي الذي يكرس فكرة وجود المرأة لخدمة الرجل؛ فإذا كان من مصلحة الرجل مثلاً أن تتعلم المرأة الحياكة فقط،فهذا ما يجب أن تفعله, فهي في النهاية لا يحق لها التطلع إلى ما هو أفضل. وتطرح ملك قضية تعليم المرأة في صيغة مختلفة؛ فهي لا تتجاهل الناحية العملية البحتة، فتطالب مثلاً بتعليم البنات مهنة الطب بالذات لكي تصبح المرأة طبيبة نفسها، ولكنها أيضًا تتحدث عن العلم كقيمة تطلب لذاتها فتقول: “العلم نور للعقل على أية حال سواء عمل به أو لم يعمل. . ولو لم يكن للعلم لذة في ذاته لما اشتغل بتحصيله الملوك، وهم واثقون من أنهم لن يكونوا مهندسين ولا بحارة ولا سائقی قطارات” (ص۱۳۷).
أما النقطة الثالثة التي تميز كتاباتها فجاءت نتيجة لإعمال عقلها والتعبير عن وجهة نظرها دون التقيد بالمسلمات. فلقد وثقت في قدرتها على التفكير فلم تقبل مقولات تحد من دور المرأة أو تحط من شأنها بالمقارنة بالرجل. ولقد أدى بها هذا الأسلوب في مناقشة الأفكار والنظريات إلى التحرر من سطوة النظريات التي تبدو وكأنها حقائق أبدية وهي في واقع الأمر آراء إنسانية. وتناقش فكرة تقسيم الأدوار لتؤكد أنها ظاهرة تاريخية وليست ظاهرة طبيعية: “يقول لنا الرجال ويجزمون: إنكن خلفتن للبيت ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعری: أی فرمان صدر بذلك من عند الله،ومن أين لهم معرفة ذلك والجزم به ولم يصدر به کتاب” (ص ١٣٤).
فتبين ملك أن وضع المرأة الحالي المرتبط بالمنزل وشؤون الأولاد ليس مرهونا بطبيعة المرأة الأزلية، وإنما بفترة تاريخية محددة تم فيها استبعاد المرأة من الحياة العامة وحصر دورها في نطاق الحياة الخاصة. وتستكمل تحليلها لمقولة إن المرأة أضعف من الرجل، وإنها لا تستطيع تحمل المسئوليات التي يتحملها فتقول: “وما ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال، وإلا فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأسا. أليست المرأة القروية كأختها المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحة والقوة؟ وهل ترتبن في أن امرأة من المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟” (ص١٣٤).
ثم ترد أيضًا على المقولة الشائعة التي يتفوه بها كل من يريد أن يقلل من شأن المرأة فيسوق حجة قلة إنجازاتها أو اكتشافاتها عبر التاريخ مقارنة بالرجل؛ فتعلن ملك: “لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كلومب لما تعذر علىّ أنا أيضًا أن استكشف أمريكا. وحقيقة أن النساء لم يخترعن اختراعات عظيمة، ولكن كان منهن نابغات في العلوم والسياسة والفنون الجميلة، أي فيما سمح لهن بممارسته ” (ص 135).
ويكتشف القارئ مدى وعي ملك بالبعد التاريخي في حكمها وتقييمها لأنماط السلوك والأشكال الاجتماعية كافة. وبسبب هذا الوعي تتحرر من سطوة النمط السائد على تفكيرها، ولا تصبح سجينة للمنطق الذي يصنف الاختلافات في الأدوار التي يمارسها الرجل والمرأة، وبهذا المنطق نصل إلى نتيجة حتمية الوضع القائم، أي أنه لا يوجد ملاًذ ولا أمل في تغيير النمط الحالي لشكل العلاقة بين الرجل والمرأة، فهو موجود لأنه طبيعي ولأنه أزلى. وتتخطى ملك ناصف هذا العائق الهائل، لأنها تستند إلى تجربتها وواقع حياتها وعملها في تحليلها الأمور فلم تتقيد بالآراء المتداولة، تلك الآراء التي غالبًا ما تعبر عن وجهة نظر الرجل عن العالم. وبسبب هذه الحرية الحقيقية, تعارض ملك دعوى قاسم أمين لسفور المرأة ولا تعبأ أن تتهم بالرجعية والمحافظة. وهذا يرجع إلى سببين: أولهما؛ أنها، كما أشرنا من قبل، أدركت أهمية استقلال المرأة برأيها، والعمل على النهوض بوضعها من واقع تجربتها واحتياجاتها هي، لا من واقع احتياجات ورغبات الرجل؛ فكانت مثلاً عندما تسأل عن رأيها في السفور والحجاب تجيب: “علموا البنت ثم اتركوا لها الاختيار” (ص 64).
أي أنه من المهم جدًا أن تنبع القرارات الخاصة بوضع المرأة من منطلق احتياجاتها هي بالذات. والسبب الثاني؛ تؤكده ملك في جوابها هذا أيضًا؛ فهي تركز على أهمية تبنى قضية التعليم لا قضية السفور والحجاب. وهذه نقطة غاية في الأهمية، فقد كانت ملك تخشى التعجل في تقليد المظاهر الخارجية للمدنية الغربية على حساب الاستفادة الواعية من أسس التقدم .
وقد يكون من المفيد التوقف قليلاً عند رأيها في الحجاب، خاصة وأن موقفها المعارض لقاسم أمين في هذا الشأن يشار إليه في كل مرة يجرى الحديث فيها عن ملك، أو تجرى أية محاولة لتقييم موقفها واتجاهاتها. بالإضافة إلى ذلك، فلقد أصبح السفور أو نزع الحجاب في خطاب النهضة رمزًا للتحرر والمدنية في مواجهة التيار المحافظ، الذي اعتبر الحجاب رمزًا للتمسك بالهوية العربية. ولقد خالفت ملك هذين الفريقين. فلا المغالاة في التحجب دليل على المحافظة، ولا المغالاة في التبرج أو إتباع آخر موضة علامة على التمدن أو التحرر، وإنما العبرة بالوعي السليم والمعرفة والعلم. ولهذا رفضت ملك إضفاء أية أهمية على حجاب وسفور المرأة، وعدته شيئًا ثانويًا لا يجدر الحديث فيه قبل الخوض في أمور أكثر جدية وأكثر إلحاحًا.
وفي رسالة موجهة إلى مي زيادة نشرت في (المحروسة) و (الجريدة) تلخص موقفها من سفور المرأة فتؤكد لى أنها لا ترى أن المجتمع على استعداد لتقبل هذا التغيير المفاجئ بطريقة صحية: فالرجال مازالوا يتحرشون بالمرأة، ويتعاملون معها على أنها سلعة تباع وتشترى، كما أنهم يناقشون مشكلتها من موقف متعال متجاهلين سلوكهم غير المتحضر، وتصل إلى نتيجة تعبر عنها ببلاغة ووضوح فتقول: “فليدعنا الرجل نمحص آراءه ونختار أرشدها، ولا يستبد في تحريرنا كما استبد في استعبادنا. إننا سئمنا استبداده. إننا لا نخاف من الهواء ولا من الشمس وإنما نخاف عينيه ولسانه، فإن وعدنا أن يغض بصره كما يأمره دينه، وأن يكن لسانه كما يوصيه الأدب، نظرنا في أمرنا وأمره” (ص ۲۰۲).
ويظهر لنا أن هذا التحفظ الشديد إزاء نقل مظاهر المدنية الغربية يعد سمة من السمات المميزة لموقف ملك من النهضة، بل إنه موقف يضعها في كثير من الأحيان في موضع الصراع مع بعض مفكري العصر، نظرًا للمغالاة الملحوظة عند بعض الرواد في الانحياز للنموذج الغربي. فإذا قارنا مثلاً بين رأى سلامة موسى في موضوع الأزياء أو أي زي ترتدي ورأى ملك في هذا الشأن؛ يتضح لنا مدى وعي ملك بالمشاكل المترتبة عن التقليد غير الواعي. ففي مقالة لسلامة موسى عن “فلسفة اللباس“، يتحمس بشدة لتعميم الزي الإفرنجي ويهاجم محاولات بعض الشباب المصري لاختراع زی مصری خاص بنا, ويستند في حديثه إلى حجة أن هذه الحضارة الغربية غمرتنا واكتسحت تقاليدنا القديمة، ولهذا فهي الأجدر بالبقاء والاستمرار, ثم يختتم قائلاً: “أرى لغرامي بالحضارة الأوروبية، وهي حضارة العالم أجمع الآن، أن أحث بني وطني على أن يلبسوا القبعة دون الطربوش، لا لأنها تقينا من الشمس والمطر وهو لا يقينا، بل لأنها تبعث فينا العقلية الأوربية” (٢٠) وبهذه الكلمات يحث سلامة موسى بني وطنه على التشبه غير المشروط بمظاهر الحياة الغربية، ويتبنى مبدأ أن الملابس الغربية من متطلبات التقدم، وأنها ضرورية لنا أيضا إذا أردنا المضي في طريق التحديث. وعلى القياس،تصبح الملابس الشرقية شعارًا ودليلاً للتخلف، ويصبح حجاب النساء أكبر عائق في سبيل تحررهن من القيود المفروضة عليهن .
ولقد أشار عديد من الباحثين والباحثات من أمثال ليلى أحمد إلى دور المستعمر الإنجليزي في الربط بين حجاب النساء وتخلف المجتمعات العربية والإسلامية(٢١). ولأسباب عديدة، استقر حجاب النساء بوصفه رمزًا للهوية الإسلامية، وتبناه واقتنع به جميع الأطراف، وتحول الدفاع عنه أو الهجوم عليه إلى تعبير جيد عن الاتجاهات الفكرية السائدة، وتم تجميده والإصرار عليه.
وفي المقابل، ترفض ملك هذه الأنماط الجاهزة والصور المفروضة على مجتمعاتنا وتحاول التدقيق في مسألة الملابس والحجاب دون التقيد بالآراء السائدة حول هذا الموضوع. ففي مسألة اللباس؛ ترفض رفضًا باتًا محاكاة الأزياء الإفرنجية، لا بسبب تعصب أو تعنت حضاري، وإنما بسبب عدم ملائمتها لبيئتنا وجونا. فتقول: “الملابس الشرقية أخف مئونة وأيسر كلفة وأشد ملاءمة لجونا الحار وصيفنا المحرق من الملابس الإفرنجية، فهي جلباب يلبس مرة واحدة فوق الملابس الدنيا وعند الخروج تلبس فوقه الملاءة، أما الملابس الإفرنجية، فإنها متعددة القطع مضاعفة التركيب عسرة اللبس والنزع. فمن مشد يخنق الخاصرة، ويعتصر الكبد والطحال، ويضغط على الأحشاء ويمنع الجلد من التنفس الطبيعي اللازم له, ومن بنيقة (ياقة) منشاء كالورق لا تستطيع المرأة فيها لف رقبتها ولا الانثناء لقضاء أي عمل” (ص١٥٥).
وتقوم ملك بتعرية أكذوبة أن الملابس الغربية أكثر تحررًا أو أكثر ملاءمة لمتطلبات العصر الحديث بنقدها اللاذع لما تلبسه المرأة الغربية في أوائل القرن. هذا اللباس الذي أراد البعض إقناع المرأة المصرية أنه سبيلها إلى التحرر من عبودية الملابس الشرقية. المهم أن هذين الاستشهادين ليسا في حاجة إلى تعليق، وإنما نكتفي بالإشارة إلى قدرة ملك الفائقة على وضع النقاط فوق الحروف، أو على اكتشاف الاتجاهات التي تؤدي في نهاية المطاف إلى التبعية. وفي مقالة أخرى لها عن طلاء الوجوه تنتقد ملك محاولة بعض النساء التشبه بالغربيات في استخدام طلاء الوجوه، بل في محاولة إضفاء اللون الأبيض على وجوههن فتقول: “اعلمن أننا مصريات، فإن لم يكن في أجدادنا أصل العجمة، فمن أين لنا هذا البياض الناصع والاحمرار الشديد، وما أحلى السمرة الجاذبة لو تفهمين معناها، إنها جميلة لأنها جميلة ولأنها مصرية، ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفي، وكل طبيعي جميل ” (ص 85).
ولكي نفهم تمسكها هذا بمعايير جمال مصرية، ورفض استيراد معايير جمال غربية، علينا أن نتذكر افتتان الرجال في أوائل القرن بكل ما يتعلق بالمرأة الغربية، ونقدهم المتواصل للمرأة المصرية. وربما نتيجة لهذا أيضًا، لاحظت ملك خاصية أخرى من خصائص خطاب النهضة الموجه للمرأة. فقد دأب رواد النهضة على مخاطبة المرأة على أنها المسئولة الأولى عن انحطاط الأمة وتخلفها، فأينما يرد الحديث عن أسباب تأخر الأمة المصرية نجد المرأة دائمًا تتصدر قائمة الأسباب، وتحمل وزر التخلف والتبعية، وكأن الرجل برئ من أية مسئولية لما حل بالأمة فتقول: “قطع رجال الإصلاح في مصر شوطًا بعيدًا للتنقيب عما يجعل الأمة المصرية في مصاف الأمم الراقية، فلم يظفروا بضالتهم، وبعد لأي ألقوا الذنب في تأخير الأمة المصرية على المرأة المسكينة، وقالوا: لو كانت المرأة المصرية راقية لأخرجت للعالم أبناء ناشطين، وأزواجا حكماء، وأسرًا منظمة، ووقفوا عند هذا الحد ينتظرون ما يقضيه لهم الدهر من ارتفاع شأن المرأة ورقيها، ويهيؤه لهم الاتفاق لصلاحها. كأن المرأة تلهم الإصلاح إلهامًا ولا تتعلمه تعليمًا، ثم تقول لهم بما عجزوا عنه (۲۲).
ولهذا نخلص إلى أن ملك تنتقد السفور، لا حبًا في الحجاب، وإنما لأنه جاء نتيجة تقليد عادات الغرب، ولأنه جاء قبل أن تتسلح المرأة بالعلم فتختار لنفسها الزي الذي ترضاه لا الزي الذي يفترض أنه أفضل لها. ففى حجابها وسفورها تظل المرأة رهن إرادة الرجل ورهن أهوائه المتغيرة. وعلى هذا الأساس، نكتشف أن رأيها في الحجاب لا يمكن أن يؤخذ دليلاً على تمسكها بالتقاليد، وخوفها من كسر تلك التقاليد بسبب ضعف مكانتها. إن رأيها في الحجاب دليل قاطع على سمات مهمة في كتابات ملك: أولاً؛ رفضها قبول التناقض المفتعل بين الحداثة والتراث، ثانياً: عدم قبولها فكرة أن نزع الحجاب رمز للتحرر. وهي الفكرة التي تبناها نفر كبير من رواد النهضة، ثالثًا، إصرارها على أهمية أن تتولى النساء شئون نهضتهن وأن لا ينسقن وفق أهواء آخرين يخططن لهن طريق تقدمهن، رابعًا، حذرها من تبنى مظاهر الحضارة الأوربية، خاصة فيما يتبدى كالقشور، رابعًا، وقوة الملاحظة المستندة إلى الخبرة الحياتية.
وليس الهدف من هذه المقارنة بين ملك حفني ناصف وبعض رواد النهضة التشكيك في تمسكهم بهويتهم أو محاكمتهم أو الطعن في إخلاصهم؛ فقد بذلوا من الجهد ما لا يمكن إنكاره، كما أنهم ساهموا مساهمة فعالة في دفع عجلة التقدم. وإنما الهدف وراء هذه المقارنة هو محاولة فهم العوامل الخفية التي ربما قد ساهمت في إجهاض مشروع النهضة، وقد كانت ملك من أوائل من تنبهوا إلى خطورة بعض الاتجاهات التي سادت في بدايات هذا القرن.
وفي الختام، نعيد نشر كتاب النسائيات لأهمية ما يحتويه من أفكار، ولنقرأه من منطلق الأسئلة التي تلح علينا في الحاضر على أمل أن تساعدنا كتاباتها على صياغة أسئلة جديدة تصل بنا إلى حلول ممكنة.
(۱) جميع الاستشهادات من النسائيات مأخوذة من هذه النسخة.
(۲) هناك صعوبة في تحديد التاريخ الذي أعيد فيه نشر النسائيات الجزء الأول والثاني. يقول مجد الدين في آثار باحثة البادية إن تاريخ النشر هو سنة ١٩٢٠ أي بعد سنتين فقط من وفاة ملك. إلا أن النسخة المقصودة تحتوى على مقالة كتبت بعد سبع سنوات من وفاة ملك بقلم فريدة فوزي، المشرفة على القسم النسائي بـ ” مجلة الحسان” تعرض فيها لوقائع تأبين ملك الذي شاركت فيه جمهرة من النساء، مما يرجح أن الكتاب أعيد نشره سنة ١925
(۳) آثار باحثة البادية (ملك حفني ناصف ١٨٨٦ –۱۹۱۸)، جمع وتبويب مجد الدين حفني ناصف، تقديم الدكتورة سهير القلماوي. وزارة الثقافة والإرشاد القومي، المؤسسة المصرية العامة، ١٩٦٢.
(4) انظر كتاب جوزيف زيدان (Josef Zeidan arab Wmen Novelists: the Formative Years, Sunny Press, 1995) واخترت الإشارة إلى كتاب منشور حديثًا لتأكيد فكرة استمرارية هذه الآراء وانتشارها إلى يومنا هذا.
(5) انظر Fouad Ajami, The Dream Palace of the Arabs: A Gener Ation’s Odyssey, (New York, Pantheon, 1998), p.15.
(6) محمود غنيم، حفنی ناصف: بطولة في مختلف الميادين، سلسلة أعلام العرب 47، المؤسسة المصرية العامة للتأليف، 1965، ص8
(۷) مقابلة مع الدكتورة كوكب حفني ناصف يوم ۲۱ يولیو ۱۹۹۸.
(۸) مقابلة مع الدكتورة كوكب حفني ناصف يوم ٢١ يوليو ١٩٩٨.
(۹) زينب فواز، كتاب الدر المنثور في طبقات ربات الخدور، 1894 .
(۱۰) مي زيادة، باحثة البادية: بحث انتقادي، القاهرة، مطبعة المقتطف؛ ووردة اليازجي، القاهرة، مطبعة البلاغ، دون تاريخ؛ وعائشة تيمور: شاعرة الطليعة،القاهرة مطبعة المقتطف، ١٩٢٦ ؟
(۱۱) سهير القلماوي، مقدمة في آثار باحثة البادية،ص 33.
(۱۲) المرجع السابق ص ۱۰.
(۱۳) المرجع السابق ص16 .
(١٤) المرجع السابق ص۱۱ .
(15) عبد السلام العشري، باحثة البادية (ملك حفني ناصف). إدارة الشئون العامة في وزارة التربية والتعليم، 1958.
(16) عبد المتعال محمد الجبرى، المسلمة العصرية عند باحثة البادية ملك حفني ناصف، القاهرة، مطبعة دار البيان، 1976 .
(۱۷) انظر سيرة ملك بقلم مجد الدين ناصف في كتاب آثار باحثة البادية، وتتضمن قائمة ببعض المقالات والكتب التي تذكر ملك.
(۱۸) نشرت مقاطع من هذا الجزء في مقالة سابقة لي في كتاب هاجر۲ عنوانها “ملك حفنی ناصف: حلقة مفقودة في تاريخ النهضة” (القاهرة، دار سينا للنشر، ١٩٩٤).
(۱۹) انظر أحمد لطفي السيد، المنتخبات، دار النشر الحديث، ۱۹۳۷ .
(۲۰) سلامة مرسى، “فلسفة اللباس” في اليوم والغد، المطبعة العصرية،١٩٢٧
(۲۱) انظر Leila Ahmed, Women and Gender in Islam, New Haven and London, Yale University Press, 1992.
(۲۲) آثار باحثة البادية،ص١١٤.
ملك حفني ناصف
تسلسل زمني معاصر
أعدته: نادية واصف
1832- إنشاء مدرسة المولدات/ الحكيمات .
1840- مولد عائشة التيمورية.
1848- انتهاء حكم محمد على
1850- مولد زينب فراز (هناك اختلاف بين المراجع حول تاريخ ميلادها، حيث يشير البعض إلى أنه في ١٨٦٠).
1856- مولد مريم النحاس.
1860- مولد هند نوفل .
1873- دخول عائشة التيمورية مدرسة حكومية.
1875- قيام الأخوين اللبنانيين تقلا بتأسيس جريدة الأهرام يوم ديسمبر27 في الإسكندرية.
1876- صدور العدد الأول من جريدة الأهرام في أغسطس.
1877- قيام ميخائيل عبد السيد بتأسيس جريدة الوطن (تذكر بعض المصادر أن تاريخ التأسيس هو ١٨٧٨).
– قيام يعقوب صنوع بتأسيس جريدة أبو نظارة وهي أول صحيفة ساخرة تصدر بالعامية المصرية.
1879- إصدار كتاب مريم النحاس: معرض الحسناء في تراجم مشاهير النساء.
– مولد هدى شعراوي.
1881- تطبيق قانون الصحافة، الذي يمنح وزير الداخلية الحق في وقف أية صحيفة دون محاكمة وتطبيق عقوبات النفي على العاملين بها لقيامهم بأنشطة سياسية غير مرغوب فيها في ٢٦ نوفمبر.
1882- ثورة عرابي.
– بدء الاحتلال البريطاني المصر.
1886- مولد ملك حفني ناصف. ويشير أخوها إلى أن اسم ملك أطلق عليها نسبة إلى السلطانة ملك التي كانت قد تزوجت من السلطان حسين كامل يوم مولد ملك.
– مولد نبوية موسى يوم 17 ديسمبر (تشير بعض المصادر إلى أن تاريخ ميلادها هو عام ١٨٩٠).
1887- إصدار كتاب عائشة التيمورية: نتائج الأحوال في الأقوال والأفعال .
1889- إنشاء مدرسة السنية للفتيات.
– تأسيس صحيفة المؤيد من قبل الشيخ على يوسف .
– تأسيس صحيفة المقطم من قبل فارس نمر ويعقوب صروف (لا يوجد تاريخ دقيق وإنما تشير المصادر إلى أن إصدار المقطم توافق مع إصدار المؤيد).
1891- بدأت زينب فواز كتابة الدر المنثور في 7 أكتوبر .
1892 – شهد شهر نوفمبر إصدار أول صحيفة نائية: الفتاة (شهرية). كانت تصدر في الإسكندرية ورأست تحريرها هند نوفل .
– صدور الهلال لصاحبها جورجي زيدان في سبتمبر.
1893- صدور قصة حٌسن العواقب بقلم زينب فواز.
– صور كتاب مصر والمصريين للدوق داركور الذي استثار قاسم أمين للرد عليه في كتابه المصريين: ردًا على الدوق داركور (١٨٩٤).
– وفاة على مبارك.
1894- صدور كتاب الدر المنثور في طبقات ربات الخدور لزينب فواز.
– صدور مسرحية المرأة في الشرق لمرقس فهمي.
1895- تأسيس مجلة مصر من قبل تادرس المنقبادي.
1896- تأسيس المجلة النسائية الثانية: الفردوس للويز حبالين في شهر يونيو.
– صدور مجلة مرآة الحسناء من قبل سليم سركيس (١٨٦٢–١٩٢٦) بالاسم المستعار مريم مظهر في شهر نوفمبر في القاهرة .
1898 – تأسيس مجلة أنيس الجليس في الإسكندرية لصاحبتها ألكسندرا أفيرنيو.
1899 –قيام إستر أزهري مويال(1873-1948) بتأسيس العائلة.
– صدور كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين.
– تعيين محمد عبده مفتيًا لمصر.
۱۹۰۰ – حصول ملك على الشهادة الابتدائية وتخرجها من مدرسة السنية.
– سفر ألكسندرا أفيرنيو إلى باريس لتمثيل المرأة المصرية في مؤتمر الاتحاد النسائي العالمي للسلام .
– صدور كتاب المرأة الجديدة لقاسم أمين .
– تأسيس جريدة اللواء من قبل مصطفى كامل للتعبير عن آراء الحزب الوطني.
1901 – تأسيس مجلة المرأة ورأست تحريرها أنيسة عطا الله.
– تأسيس مجلة شجرة الدر ورأست تحريرها سعدية سعد الدين زاده.
– إنشاء جمعية تعليم البنات الإسلاميات لتوفير تعليم مجاني للبنات.
– بدء إرسال الدولة بعثات تدريب المعلمات إلى الخارج (بعد بعثات الرجال بقرن من الزمن).
1902- وفاة عائشة التميورية.
– تأسيس مجلة الزهرة لمريم سعد.
– تأسيس مجلة السعادة لرجينا عوض .
– نقشي وباء الكوليرا.
1903- حصول ملك على دبلوم المعلمات.
– اجتياز نبوية موسى امتحان الابتدائية في مدرسة عباس الابتدائية.
– صدور مجلة السيدات والبنات لروزا أنطون في الإسكندرية.
1904- صدور رواية قلب الرجل للبيبة هاشم.
1905- تعيين ملك مدرسة بمدرسة السنية.
– وفاة محمد عبده.
1906 – تخرج نبوية موسى من مدرسة السنية ويتم توظيفها مُدرسة في قسم البنات بمدرسة عباس الابتدائية.
– تأسيس مجلة فتاة الشرق لصاحبتها لبيبة هاشم.
– صدور كتاب الرسائل الزينبية لزينب فواز الذي أعيد نشره في 1910 (تذكر مصادر أخرى أنه نشر في 1879 وأعيد نشره في 1915).
1907-استقالة ملك من وظيفتها كمدرسة وزواجها من عبد الستار الباسل ثم انتقالها للفيوم واتخاذها لنفسها الاسم المستعار: باحثة البادية.
– تأسيس الريحانة في حلوان لصاحبتها جميلة حافظ .
– تأسيس مجلة الجريدة للتعبير عن آراء حزب الأمة ورأس تحريرها أحمد لطفي السيد.
– قيام مصطفى كامل بإنشاء الحزب الوطني في الإسكندرية في 22 أكتوبر.
– استقالة اللورد كرومر من منصبه بوصفه القنصل العام البريطاني.
1908 – حصول نبوية موسى على الشهادة الثانوية بالرغم من محاولة المستشار التعليمي البريطاني (دوجلاس دانلوب) منعها من ذلك .
– قيام لبيبة هاشم بإرسال خطاب مفتوح إلى البرلمان العثماني مطالبة فيه بتعليم البنات.
– إنشاء جمعية ترقى المرأة من قبل فاطمة راشد وآخرين .
– مولد درية شفيق .
– وفاة مصطفى كامل في فبراير .
– افتتاح الجامعة المصرية في ديسمبر.
– بدء التدريس في الفرع النسائي بالجامعة المصرية.
1909 – إلقاء ملك محاضرة على مئات من السيدات في نادي حزب الأمة.
– صدور مرشد الأطفال وهي مجلة أسبوعية لأنجلينا أبو شعير.
– صدور العائلة القبطية وهي مجلة شهيرة صدرت بالعامية في الإسكندرية،المحررون غير معروفين.
– صدور الأعمال اليدوية للسيدات وهي جريدة عربية – فرنسية، وقد أصدرتها في القاهرة الآنسة فاسيلا وشقيقتها (وتقول المصادر إنهما قد تكونان من أصل يوناني، ولكن لا يعرف عنهما إلا القليل).
– صدور مجلة البرنسيسة لفتنة هانم .
– تكوين مبرّات محمد على.
– إعادة العمل بقانون الصحافة لعام ۱۸۸۱ في ٢٥ مارس.
1910- صدور كتاب النسائيات لملك، مع مقدمة بقلم أحمد لطفي السيد.
– إلقاء نبوية موسى محاضرات بعنوان: “مواضيع عصرية” في الفرع النسائي بالجامعة المصرية.
– صدور صحيفة العفاف لسليمان السالمي وكانت العاملات بها من النساء .
1911- كتابة ملك خطاب عن “التقدم للمرأة المصرية المسلمة” تم تقديمه للتجمع الوطني في هليوبوليس وقراءة أحمد مصطفى له في غيابها في أبريل.
– كتابة نبوية موسى لكتاب المطالعة العربية لأنها أرادت نصًا يخاطب الفتيات.
– قيام نبوية موسى بإلقاء محاضرات حول “تاريخ مصر القديم والمعاصر مع ذكر خاص لمشاهير النساء” في الفرع النسائي في الجامعة المصرية.
– نشر مجموعة محاضرات لبيبة هاشم في ” كتاب في التربية“.
1912- صدور مجلة الجميلة لفاطمة توفيق.
– صدور دراسة عن العائلة المصرية لأوليفيا عبد الشهيد.
– إغلاق الفرع النسائي في الجامعة المصرية في الفترة ما بين ۱۹۱۲ و ۱۹۱۳ بعد تزايد اعتراض الطلاب.
1913- صدور مجلة فتاة النيل لسارة الميهية.
– قبول تدریس کتاب هند آمون عن التاريخ الأوروبي في مدارس الدولة مع رفض وزارة التربية وضع اسم المؤلفة على الغلاف.
– نشر مجلة الجريدة لرواية زينب لمحمد حسنين هيكل.
1914– تكوين كل من ملك وهدى شعراوي ونبوية موسى الاتحاد النسائي التهذيبي.
– وفاة زينب فواز.
– إعلان فرض الحماية البريطانية على مصر في ۱۸ ديسمبر.
– بدء الحرب العالمية الأولى.
1915- صدور كتاب ربة الدار لملكة سعد، الذي تم الاستعانة به فيما بعد في مدارس الدولة.
– قيام المجموعة المشرفة على مجلة الجريدة بإصدار مجلة قاهرية أسبوعية بعنوان السفور ومحررها عبد الحميد حمدي في مايو.
1916 – تأسيس جمعية النهضة النسائية برئاسة فاطمة عاصم .
1918 – وفاة ملك في 17 أكتوبر.
– تأبين ملك وقيام هدى شعراوي بإلقاء أول خطبة لها في هذه المناسبة.
– نفي سعد زغلول وعضوين آخرين من حزب الوفد إلى مالطا.
1919- إنشاء جمعية المرأة الجديدة.
– القبض على سعد زغلول وإسماعيل صدقي وحمد باسل ونفيهم إلى مالطا يوم 8 مارس.
– قيام الثورة، وخروج النساء والرجال إلى الشوارع للمطالبة بالاستقلال.
1920- صدور كتاب المرأة والعمل لنبوية موسى.
– بدء مفاوضات سعد زغلول مع بعثة ملنر في يونيو.
1921- تشكيل عدلي يكن حكومة جديدة في مارس.
1922- سفر كوكب حفني ناصف إلى إنجلترا لدراسة الطب.
– صدور مجلة النهضة النسائية للبيبة أحمد.
– صدور تصريح من الحكومة البريطانية بخصوص مصر، تعترف فيه بريطانيا بمصر دولة مستقلة لها سيادتها، على أن يتم فرض التحفظات الأربعة التي وضعها الإنجليز في ۲۲ فبراير.
– تشكيل عبد الخالق ثروت حكومة وذلك لوضع دستور الدولة الجديدة في أول مارس.
1923 – تأسيس الاتحاد النسائي المصري .
– سفر كل من هدى شعراوي وسيزا نبراوي ونبوية موسى إلى روما لحضور المؤتمر النسائي الدولي.
– إعلان الدستور المصري وحرمان النساء من حق التصويت في 19 أبريل.
19٢٤ – إقامة احتفال في ذكرى ملك حفني ناصف للمرة الأولى منذ وفاتها.
– تعيين نبوية موسى موجهة أولى لتعليم البنات في وزارة التعليم.
– القبض على ألكسندرا أفيرنو بتهمة التورط في محاولة اغتيال سعد زغلول في يوليو.
– وفاة وردة اليازجي وهي شاعرة سورية كانت تربطها علاقة قوية بالنسويات.
– صدور کتاب شهیرات النساء في العالم الإسلامي لقدرية حسين .
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله. (وبعد) فإني فكرت في جمع مقالاتي (النسائيات) وطبعها كتابًا أقدمه للأمة المصرية الكريمة راجية أن تغفر لي زلة القلم فيه فإني مبتدئة ولا يعدم المبتدئ أغلاطًا. وعسى أن تقرأه الفتيات والسيدات المصريات فهو مذكر للائي غنين منهن بأصالة رأيهن وحسن تربيتهن عن استجداء النصيحة ومرشد للائی يسترشدنه.
لا أدعى فيه ابتداعًا ولا إبداعًا، فما هو إلا سلسلة مشاهدات وتجارب أثرت فيَّ فدونتها ليتعظ بها غيري ممن لم تعركه الحوادث ولم تتيسر له التجارب، وما قصدت إلا النفع العام والدفاع عن المرأة المصرية المهيضة الجناح، ولعل الله يحقق هذا القصد ويشد أزرنا لما فيه إعلاء شأننا وتقوية الفضائل في أخلاق هذه الأمة بحسن القيام على تربية أبنائها. والله الهادي إلى الطريق القويم.
ملك حفني ناصف
مقدمة
بقلم: أحمد لطفي السيد
كان في الشتاء الأسبق أن نظارة المعارف أحالت ناظرة مدرسة السنية على مجلس التأديب لشذوذها عن حدود قانون النظارة, فكتبت وقتئذ كلمة في الجريدة استعطفت بها مجلس التأديب على تلك السيدة وكان بعض ما استشفعت به لها إنها من الجنس اللطيف. شق هذا القول على سيدة فرنساوية سائحة في مصر، وقتئذ، فأقبلت علىَّ تعاتبني على قلة الحيطة التي اتخذتها في كلامي، وانبرت تقرر أن المرأة والرجل سيان في الحقوق والواجبات فيجب أن يكونا كذلك في المسئولية أيضًا، وأن الذي يستشفع للمرأة بجنسها ليسيء إليها من حيث يريد الإحسان.
لم أكن قبل هذا الإلفات مترددًا فيما للمرأة من الحقوق، ولا جاهلاً بما يستتبع للحقوق من الواجبات. ولم أك ظنينًا في دفاعي عن هذا الجنس مهضوم الحقوق في كل زمان وفي كل مكان حيث القوة غالبة على الحق. ولكني مع ذلك، في تلك الحادثة, كانت كلمتي تشف عن رأيي في أن المساواة بين الرجل وبين المرأة لا يصح أن تقرر على إطلاقها، بل يجب أن تكون تلك المساواة محدودة في مصر بالحدود الطبيعية والشرعية معًا. وشتان ما بين هذه الحدود الواسعة المدى، وبين الحدود الحاضرة التي وقفت عندها المرأة من زمن طويل بحكم قوة الرجل، لا بحكم قوة ضعفها الطبيعي، ولا بحكم الشريعة السمحاء.
لم تجرب إلى الآن المساواة المطلقة في جميع الحقوق والواجبات بين الرجل والمرأة، ولكن المساواة قد جربت في التربية المنزلية، وفي التربية المدرسية، وفي كثير من الحقوق الاجتماعية فأتت بأعظم الفوائد والبركات على العائلة والجمعية الإنسانية معًا. وأما التفريط في حق المرأة وعدم استخدام مكانتها على أنماط معلومة لمنفعة النوع الإنساني فقد أتى بالنتائج المحزنة المحسوسة.
إن المساواة المطلقة التي كانت ترمي إليها عاذلتي، ويوافق عليها كثير من النسائيين، إن جاز أن تكون غرض الأغراض ومنتهى الآمال في ترقية المرأة، فإنه لا يجوز الابتداء بها وتقريرها عندنا من اليوم مع أنها لم توجد ولم ترب في أعلى الأمم حضارة. فإذا كنت قد استعظمت مجلس التأديب على ناظرة المدرسة، وجعلت جنسها اللطيف شفيعًا لها في تخفيف المسئولية، فلم أخرج بذلك عن أن أكون مستقيم الإنتاج، ولم أنحرف عن أصول قوانيننا، ولا عن طبائع العمران.
إن قوانيننا الإنسانية لا تزال نصوصها تنم على فروق بين الجنسين. وإن المرأة طول عمرها الجنسي كانت ولا تزال مثال الجمال الإنساني. وموضوع تغنى الشعراء ومباراة الرسامين والمصورين. كانت ولا تزال مناط سعادة الرجال. إليها ينتهي الأمل عند بعضهم، وفيها تودع الثقة وترجى المواساة عند الآخرين. فهي بجمالها محل للعطف، وهي بضعفها الخلقي أولى بالعطف، وهي بتواضع مركزها الاجتماعي وقلة مكافأتها على القيام بواجباتها أهل للعطف. فمن أي ناحية نظرت إليها وجدتها تستحق الحنان والعطف. فإذا كنت استشفعت لها مجلس التأديب فإنما جريت في ذلك على سنن بني آدم الماضية والحالية، وأخذت ما قلت من المشاهدة لا من الخيال. وإذا كانت السيدات النسائيات (اللائي يرين تقرير المساواة بين الرجل والمرأة) لا يرضين بالتفريق بينهن وبين الرجال في درجات المسئولية أمام المحاكم والمجالس فإني متفق معهن على الأقل في عدم محاباتهن في انتقاد ما يكتبن من الرسائل وما يهدين إليه من الآراء.
ومهما يكن من وجوه الخلاف في المساواة بين الرجل وبين المرأة في درجات المسئولية، وفي الحقوق والواجبات العامة، فإن من المحقق أن المرأة لم تسترد إلى اليوم شيئًا كبيرًا من المساواة المنشودة على أقل أقدارها في نظر القائلين بها. بل هي عندنا على الخصوص لا تزال مظلومة في حقوقها في العائلة وفي حقوقها في الجمعية المصرية. مظلومة في تقدير واجباتها الخاصة والعامة، لا من حيث ثقل تلك الواجبات في ذاتها، ولكن من حيث كونها أغلبها واجبات تحكمية صرفة، يضعها ولى أمرها لا بالتطبيق للشرع، ولا لقاعدة عامة معروفة، ولكن بالتطبيق لدواعي أهواء وعوامل غيرته.
فإذا كانت حقوق المرأة الطبيعية وحقوقها الشرعية يغمطها الرجال؛ فلا يراعون فيها تقاليد الأسلاف، ولا يراقبون فيها أوامر الدين، فإن النتيجة اللازمة عن ذلك هي تعطيل نصف الإنسانية عن كثير من الخدم المطلوبة منه. وهذا مع الأسف هو الذي كان.
لم تكن هذه النتيجة المحزنة كلها من ظلم الرجل، ولكن قعود المرأة الشرقية عن الأخذ بأسباب رقيها الثاني، ورضاها بالحظ الذي قسمته لها القوة في هذه القرون الأخيرة، وعدم محاولتها تلطيف أحكام القوة القاهرة، كل ذلك يجعل لها شركة بوجه ما في الضرر الذي حاق بها وبالمجموع من إهمال تربيتها.
غير أن مهضوم الحق مهما سها عن السعي في استرداده لا يعدم من نصراء الإنسانية مدافعًا خالي الغرض ينصره من حيث لا يحتسب. فإن النساء عندنا لم يكن ليدور في خلدهن أن المرحوم قاسم بك أمين يقوم بالدفاع عنهن دفاعا أغضب منه كثيرًا من الناس، بل أغضب منه بعض النساء اللواتي لا يردن الخروج من الحظيرة الصناعية التي احتظرها لهن رجال البأس لا رجال العلم .
قام المرحوم قاسم بك بالدعوة إلى تربية المرأة على أصول التربية النافعة بشجاعة عديمة المثال، واقتفى أثره في ذلك بعض الكتاب، حتى انتبه هذا الجنس اللطيف وتولى بعض أعضائه الدفاع عن ذاته. وأول من سارت منهن في هذا الطريق هي باحثة البادية. نعم أولهن؛ لأنها أخذت تبحث في نسائياتها بحث الجاد الذي يعلق على بحثه نتائج كبرى لصلاح المرأة، بل لصلاح الجمعية الإنسانية. أخذت تكتب في الدفاع عن حقوق المرأة وتخطب فيما يجب لإصلاح المرأة، فكان مجموع رسائلها وخطبها هذه المجموعة التي تضع لها هذه المقدمة.
ولو صح نظري لكانت قاعدة بحثها في تحرير المرأة قاعدة الاعتدال، ورائدها في ذلك هو الشرع الإسلامي.
لقد أجادت باحثة البادية في جعل بحثها مرتبًا على هذا النمط المعين. فإن الاعتدال في تعليم المرأة وتربيتها، وتقرير الحد اللازم أن تقف عنده في المساواة بينها وبين الرجل، الاعتدال في ذلك كله أمان من الزلل والوقوع في نتائج سيئة قد لا تكون أقل في سوء الأثر من نتائج خمول المرأة وقعودها عن السعى إلى كمالها الخاص. وإنا نكرر دائمًا أن المساواة المطلقة لم تجرب بعد فأبصر بالباحثة إذ رأت تقرير المساواة المعتدلة والبعد عن الإطلاق الذي هو يخالف الدين من ناحية ويخالف الحيطة من ناحية أخرى.
أما الدين فإنه ملاك أخلاق المرأة ومناط آدابها وطريق كمالها وموجب الثقة بها. إن تقوى المرأة أكبر الأدلة على صونها ومعرفتها بالواجب وحسن قيامها به. إن شهود المرأة صلاة الجماعة في المسجد الجامع مرة واحدة أصلح لقلبها من سماع واعظ أخلاقي في الدار أو في المدرسة سنة كاملة.
وإن تقليد المرأة الشرقية لأختها الغربية نافع، ولكن هذا التقليد إلى اليوم ليس بحسنة جديدة مادام أنه خلا من النوع الخاص بالدين. فإن الغربية تذهب إلى معبدها مرة في الأسبوع على الأقل، والمسلمة الشرقية لا تذهب إليه في مصر أبدًا. كان دخول بيت الله أثقل كلفة عليها وأبعد عن رضي وليها من دخولها في بيوتات التجارة وشهودها مراسح اللهو. إلا أن حضور النساء صلاة الجماعة على صورة لائقة ومن غير إسراف هو أول عمل حسى تأتيه المرأة لتقرب به مسافة الفرق بينها وبين الرجل ولتقرر به المساواة المنشودة.
إن رابطة الزوجية عندنا رابطة دينية محضة. ولا نعلم امرأة تحترم نفسها تستطيع أن ترتبط برجل إلا بهذه الرابطة الشريفة المقدسة. ومما نعجب له أن المرأة تعمل أعمالاً كثيرة شاقة في سبيل توثيق هذه الرابطة، ولكنها لا تعمل الشيء الوحيد الذي يوثقها حقيقة، وهو القيام بفرائض الدين الذي عليه عقد الزواج، والذي هو المنظم الوحيد لعلاقات الزوجية، فمراعاته أساسي لدوامها ومخالفته سبب لفصم عراها ونقض عقدة الزواج. ولو فطنت المرأة لأدركت أن تقوى الله والقيام بطاعته تكفي وحدها لثقة الزوج بها، وتمنع كل الشقاق الزوجي الذي يتولد عن الظنة والغيرة.
وقصارى القول أن باحثة البادية قد أجادت كل الإجادة في أن جعلت أساس بحثها تقرير المساواة، لا على جهة الإطلاق، بل في حدود الاعتدال والدين.
فأما انتقاد رسائلها من جهة صناعة الكتابة فحسبي أن أقرر من غير محاباة أنها أكتب سيدة قرأنا كتاباتها في عصرنا الحاضر، بل هي تعطينا في كتاباتها صورة الكاتبات الغربيات اللاتي تفوقن على كثير من الكتاب. وليس نبوغ السيدة ملك حفني عملاً من أعمال الصدفة، بل هو قضية علمية مقررة. لأن هذه الكاتبة من بيت علم وأدب. انتقل إليها من أبيها حفني بك ناصف بحكم الوراثة الطبيعية ذوق الكتابة وملكة الانتقاد الصحيح،فنما استعدادها بالتربية المدرسية والاجتهاد بعد المدرسة حتى وصل هذا الحد المتقدم.
ورجاؤنا أن تكون مجموعة الباحثة أول أبحاث السيدات في هذا العصر وليس آخرها، وأن تكون السيدة “ملك حفني ناصف ” القدوة الحسنة للسيدات المصريات.
آمین.
الإسكندرية في 18 يوليه سنة 1910
باحثة البادية
بقلم: مجد الدين ناصف
ولدت بالقاهرة سنة 1886.
نالت الشهادة الابتدائية سنة 1900.
نالت الدبلوم سنة 1903
تزوجت سنة 1907.
توفیت ۱۲ اکتوبر سنة 1918.
(أول من نالت الشهادات، وأول من عليت، وأول من كتبت، وأول من خطبت).
يعلم الكل ما للمرحوم حفني بلك ناصف من السبق في العلوم والآداب والعربية, ومن العدل العمري في القضاء, ومن السهر في تربية النشء من متكلمي العربية. ومن كان هذا شانه، وكانت تلك صفاته، لا عجب أن يهدي مصر والشرق بمثل كريمته ملك.
بدأت باحثة البادية دراستها في المدارس الفرنسوية، ثم دخلت المدرسة السنية (وكانت إذ ذاك بالسيوفية) في عهد كان فيه الآباء لا “يخاطرون” بإدخال بناتهم إلى تلك المدرسة ما لم يكونوا مضطرين بحكم الحاجة المادية. فكانت ملك أول فتاة دخلت المدرسة بمصروفات. وصارت تتنقل من فرقة إلى أخرى حتى بلغت السنة الرابعة. وكان من حظها أن وزارة المعارف بدأت تجرب نظام مدارس الفتيان لتلك المدرسة. فصرحت الوزارة لمن تريد من البنات أن تتقدم لنفس امتحان الفتيان. فتقدمت الباحثة ونجحت فكانت أول فتاة نالت شهادة في مصر. وكان منها إذ ذاك 13 سنة فكتبت إلى جريدة “المؤيد” قصيدة من نظمها تفتخر لمصر بأن فتياتها ساوين الرجال في التعليم. وكانت هذه الشهادة فاتحة لالتفاتها إلى المسائل العامة.
إنا لنروي حكاية لطيفة بهذه المناسبة؛ كانت ملك “عفريتة” في المكتب، فذهب والدها ليسأل بها المدرسين فأجابه بهذا المعنى كل مدرسيها إلا مصطفى بك صبري الذي كان أستاذ الجغرافيا. فقال والدها للأستاذ ألعلها هادئة في دروسك فإنك الوحيد الذي لم يشك لي منها، فقال الأستاذ “لا ولكن لم أشأ أن أكدرك “.
كانت الباحثة على صغر سنها تجيد الفرنسية. على أن وزارة المعارف أنشأت بنفس المدرسة قسمًا عاليًا للمعلمات يضارع قسم الرجال، وجعلت التعليم في كل فروعه باللغة الإنجليزية. وكان من مدرساتها “مس ويلد” التي أصبحت فيما بعد “مسز بريدي“. ومن حسن الحظ أن هذه السيدة كانت تجيد الفرنسية فلم تمض سنة على الباحثة حتى أجادت الإنجليزية. ولذلك بقيت ملك مدينة لها تكاتبها وتهاديها إلى قبل وفاتها. فلما مضى سنين ثلاث تقدمت الباحثة لامتحان الدبلوم فنجحت ونجحت معها الآنسة “فكتوريا عوض” ولم تنجح رفيقتها الثالثة الآنسة “الجرة بلاتنر“. على أن المعارف كانت شديدة جدًا في نظاماتها؛ فقررت أن لا يتسلم الدبلوم إلا من مضى في التمرين على التدريس سنتين كاملتين، فبقيت ملك تزاول هذه المهنة وكان من نبوغها في بعض المواد أن قررت المعارف أن تدرس ملك لقريناتها اللائي كن معها ففعلت. وكان من الصعب جدًا على مثلها وفي سنها (16 سنة) أن تسيطر عليهن، ولكن من الناس من اختصه الله بمواهب يعجز الفهم عن إدراكها. بقيت الباحثة سنتين وسنة أخرى لحبها مهنة تعليم البنات والأطفال .
ومما يذكر لها، أنها كانت تزور السيدات وترجوهن أن يسمحن بإدخال بناتهن المدرسة على أن تلتفت لهن التفاتًا خاصًا، وهكذا حتى امتلأت ببنات الذوات والأعيان بعد أن كانت المدرسة خالية إلا من بنات الفقراء والمعوزين. فإليها يرجع الفضل في إكثار عدد المتعلمات. وكانت في الإجازات المدرسية تذهب لبيت أبيها فتشعر بعبء عليها في حسن إدارة هذا البيت، لأن والدتها كانت مريضة في أغلب الأوقات، فكانت تجمع إخوتها وكلهم أصغر منها، (وكانوا ستة) وتلقى عليهم في شكل حكايات كل ما يدور حولها في المدرسة فوسعت مداركهم. وكانوا يحبونها كصديقة فكان أصحابهم يرونهم يبكون طويلاً عقب فراقها ويتهللون عند حضورها. ومن أحسن صفاتها الحنان. فإنها كانت تحب والدها إلى درجة التضحية. فإذا مرض مرضته، وإذا سافر قامت مقامه. وكانت تعمل بيديها كل ما يلزم للمنزل عن حياكة وترتيب حتى توفر على أبيها لأنها كانت تشعر أنها مدينة له بحياتها.
نقول وقد شجع البنات إلى مزايلة التلميذة أنها كانت تنشر في “المؤيد” من وقت لآخر قصيدة أو مقالاً. وبذلك تكون ملك أول من تعلمت وعلمت وكتبت. ولإحقاق الحق نقول إن عائشة هانم التيمورية سبقتها إلى صناعة الشعر فكانت ملك تحفظ شعرها عن ظهر قلب وتعجب بها. ومن الأسف أن عائشة هانم لم يظهر لها إلا مجموعة من الشعر. ولكن لعل لها عذرًا فإن الرجال لم يكن نظرهن إلى تعليم البنات نظرًا يوجب الاستحسان.
وقد صارت ملك موضع إعجاب النظارة، وكانت تريد أن تعينها وكيلة للمدرسة، ولكنها خرجت للتزوج .
خرجت في احتفال مهيب من أخواتها المعلمات والتلميذات، وقد خرجن وراءها يبكين وهي تبكي لأجلهن، وقد تقاطرن في الأيام التالية إلى بيت أبيها فوعدتهن أن تلتفت إليهن ما استطاعت، ولكن تقرر هنا أن كثيرًاً من التلميذات خرجن عقب خروجها. مثل ذلك كمثل المشروعات السياسية التي تقبر مع صاحب المشروع في البرلمانات العامة. ولولا متاعب الباحثة في سبيل التعليم عقب خروجها لكانت الصدمة كبيرة بخروجها لأن الثقة بالمدرسة لم تكن على أتمها في ذلك الوقت.
ومما يعرفه أصدقاء العائلة أنها رفضت أثناء التلمذة كثيرًا من ذوى المكانة العلمية والمادية لأنها لم تشأ أن تفضل الزواج على إتمام التعليم. وكان أعز صاحب لوالدها هو المرحوم الشيخ عبد الكريم سلمان، رئيس المحكمة الشرعية العليا، وأحد المحررين السابقين للوقائع المصرية. وكان الأستاذ وحده موضع ثقة حفني بك إلى درجة لا تقف عند حد. أخبر الشيخ عبد الكريم أباها أنه تعرف بعربي صميم، من ذوى النخوة والكرم، ومن الأدباء والمطلعين على اللغات الأجنبية، ومن أحسن الرجال خلقًا ألا وهو شيخ العرب عبد الستار الباسل وجيه قبيلة الرماح بالفيوم. أخبر الأستاذ البك أن شيخ العرب طلب إليه أن يدله على أكثر البنات تعلمًا في القطر المصري على شرط أن يكون نسبها مما يبعث على الشرف وأحوالها الكمال كله. فأخبره الأستاذ على الفور أنه أكرم من تجمع بين تلك الصفات هي الآنسة ملك كريمة صديقه حفني بك، وأنه بما له عليه من حق الأخوة يضمن إقناع والدها بهذا. ولم تكن إلا أيام قلائل حتى رضي أبوها ورضيت هي مختارة لأن ما سمعته إذ ذاك عن آداب الرجل وأخلاقه كانت أكثر مما يبعث على الرضي. ولم يتشدد أبوها في مهر لعلمه أن الأخلاق والرجولة هما خير كنز للفتاة. وتعارف أقرباء العائلتين في أيام قلائل. وهكذا عقد الشيخ عبد الكريم سلمان عقد القران في بيت أبيها بالعباسية، وكانت ليلة العرس بعد عهد قصير من يوم العقد.
تذكر أن الفرح كان في غاية الفخامة والبساطة معًا، اتفق الطرفان على أن تقام ليلة واحدة وقد زين السرادق بالكهرباء والثريات الملونة وكذلك بجريدات النخل وعقود الزهر. وقد جاء إلى مكان الاحتفال عشرات من العقايل الإنجليزيات والفرنسيات والأمريكيات وأخذت الصور الخارجية. ومما يذكر أنه تجمع لدى العروس كنوز من النفائس التي أهدتها إليها الأميرات والذوات من صواحبها أو منازل أصدقاء والدها وتلاميذه العديدين.
وبعد قليل سافرت ملك إلى أملاك زوجها في سفح جبال بالفيوم فسمت نفسها باحثة البادية.
وكان أول ما كتبت مقالاً في “الجريدة” تقترح فيه أن ينشأ في مصر (مقابر العظماء) على نمط (الوستمنستر) في لندن أو (البانتيون) في باريز. فانبرى لها كتاب منهم الشيخ رشيد رضا الذي استنتج أن الكاتب إنما هو (باحث بالحاضرة) وليس (باحثة بالبادية) وكان أبوها في قنا ففهم من التوقيع أن ابنته هي الكاتبة. وظل الاسم مخفيًا إلى ما قبل أول خطبة خطبتها على السيدات في القاهرة.
استمرت الباحثة تكتب فألمت بكل أنواع (النسائيات). ولم تكتب في السياسة إلا قليلاً. وأهم ما ورد في ذلك قصيدة على إعلان قانون المطبوعات نذكر منها ما يأتي:
يا أمة نثرت منظومها الغير…… حتام صبر ونار الشر تستعر
ماذا تقولون في ضيم يراد بكم…… حتى كأنكم الأوتاد والحمر
ستسلبون غدًا أغلى نفائسكم…… حرية ضاع في تحصيلها العمر
حرية طالما منوا بها كذبًا……على بني النيل في الآفاق وافتخروا
وهكذا حتى استطردت إلى ما ربما لا يسمح بنشره الرقيب اليوم. ومن ذلك أنها في حرب طرابلس خطبت في نساء الفيوم فجمعت منهن مئات الجنيهات. وفي الحرب الكبرى حاكت بيدها مائة قميص ومائة رداء أعطتها (للهلال الأحمر). وقد أشيع في الدوائر الرسمية أنه يقصد نفى الباحثة، ولكن خشي في آخر الأمر أن يغضب لها أبناء جلدتها فعدل عن المسألة على أن تلزم دارها.
كتبت كثيرًا، جمع منه جزء في (النسائيات) الذي طبعته الجريدة، وأما الباقي فهو مبعثر. ولكنا علمنا أن بعض محبي العلم كان قد ذهب إلى (الكتبخانه الخديوية) وجمع كل ما عثر عليه من مقالاتها التي لم تطبع وأودعها منزل زوجها، كذلك لها رسائل في جريدة (الجون ترك) في اسطانبول وفي جرائد ألمانية وفرنسية، ولها مكاتبات إفرنجية بينها وبين عظيمات المشتغلات بالمسائل النسائية في أوروبا.
كانت الباحثة عظيمة في ذاتها فشهد بذلك لها الفرنج أنفسهم. وإنا لنقرأ عاطر الثناء في كتاب (شتاء امرأة في إفريقيا) للكاتبة الإنجليزية (شرلوت كمرون)، العضوة بالجمعية الجغرافية الملوكية، وفيه وصف المنزل لمرحومة وخلقها وحياتها العائلية مما لم يكتب بمثله كاتب.
كذلك أهدت الكاتبة الأمريكية (إيليزابث كوبر) كتابها (المرأة المصرية) للباحثة. وكانت هذه السيدة متعصبة في آرائها عن مصر والمرأة المصرية، ولكنها عدلت كثيرًا من آرائها عقب مناقشات شخصية استمرت بالمكاتبة إلى ما بعد سفرها.
وقد سافرت الباحثة للرياضة في آسيا الصغرى والآستانة فاستفادت وأفادت.
أما الباحثة فخطبت مرة في دار “الجريدة” بمصر على العقيلات، ومرة بإدارة الجامعة المصرية. وكان لها مشروعات في هذا الصدد نأسف على أنها لم تتم.
ولما عقد المؤتمر المصري في هليوبوليس دوى المكان بالتصفيق والهتاف عندما أرسلت الباحثة اقتراحاتها اشتراكًا في المؤتمر وتشجيعًا للحركة النسائية فاقترحت بنوًاً آخرها (على الرجال تنفيذ مشروعنا هذا) فكان ذلك أبدع من الاقتراحات نفسها.
ومن آثارها (جمعية النساء التهذيبي) جمعت بين أعضائها أوانس المصريات والفرنج، لأن وجود هؤلاء يشجع المصريات على الثقة بها، ويدعو الحكومة إلى عدم التداخل في أعمالها.
كذلك وضعت برنامجًا لمشغل للفتيات الفقيرات، ولملجأ للنساء، وكانت تنوى أن تهب هذين المعهدين كل ما لها من ميراث. وقد عملت الباحثة في منزلها بالمنيرة شبه مدرسة لتعليم التمريض، واستحضرت لذلك معلمات عارفات، وكان معها كثير من التلميذات التي كانت هي إحداهن في تعلم هذا الفن الجليل.
وهكذا كان لا يهدأ لها بال من أجل رقى المرأة الشرقية على العموم والمصرية على الخصوص فلم تجد بابًا إلا طرقته.
ومما يذكر بالفخر أنها كانت في كل تلك الجمعيات تعطى الرئاسة لإحدى الفضليات كحرم على باشا شعراوي حتى لا تتلف نتيجة أعمالها بما عساه أن يقال من حبها لنفسها، ولأنها تعرف العقلية الشرقية، وفضلاً عن هذا وذاك، لأنها كانت آية في التواضع.
وكانت ملك فوق ما ذكرنا كريمة الأخلاق لم تعرف عن غيرها ما عرفنا عنها؛ فكان لها إيراد صغير تنفقه كله في عمل الخير. فكم رتبت لفقيرات معاشًا شهريًا، وكم علمت فتيات على حسابها، وكم تبرعت دون ذكر اسمها في أمور خيرية لنساء وأطفال. حتى أن صاحباتها، غير الغنيات، كان لهن عندها جعل سنوي من السمن والأرز والدقيق بصفته هدية حتى لا تجرح لهن إحساسًا.
وكانت كلما علمت أو قرأت عن سيدة مهتمة بالأدب أو التربية ساعدتها وتعرفت هكذا بكثير من الأوانس. وفي كتاب الآنسة (مي) ما يشهد بمثل ذلك.
وكان لديها كثير من الحلي المكدس فباعته أكثره واشترت به أرضًا كان ريعها كما ذكرنا في سبيل الخير.
وكان لديها من الملابس المطرزة الشيء الكثير، ولكنا قلما رأيناها تلبسها، بل كانت تكتفي بجلاليب الشيت والباتيسته حبًا في البساطة، وقلة في الاهتمام بالمظاهر الخارجية.
وكانت تكره التبذل والتبهرج. ومما يذكر في هذا المقام أنها كانت تستحم في (سان ستفانو) فرأت سيدة متبهرجة، كاشفة الصدر محلاة بأجمل الأصياغ، كلمتها، كما كانت تكلم غيرها. وبينما هي تنصرف إذ عرفت السيدة أن هذه هي الباحثة فعادت إليها واعتذرت عن تبرجها، ووعدت أن لا تعود لمثل ذلك، فضحكت الباحثة على قصر عقل السيدة، ولكنها فرحت أن كتاباتها كان لها تأثير يذكر في إصلاح حال المرأة.
وكانت الباحثة تقبل الأطفال وتكلمهم وترسل لهم الهدايا, وقد كان بودها أن يكون لها طفل تكيفه بالكيفية التي تراها حتى يكون المثل الأعلى في التربية، ولكن – وهي الصحيحة السليمة لم يكن في مقدورها أن تغالب أحكام الطبيعة الظالمة. وهنا تنصح للرجال أن لا يخفوا عن خطيباتهم نقصًا سلبتهم الطبيعة إياه فإن ذلك ليس في مقدورهم ولا يعيبهم ولكن عليهم أن لا يكونوا ذوى إثرة حتى يتطلعوا إلى اقتناء المرأة اقتناء يقضى على آمالها ويتعس عيشها. فانه كما يوجد بين النساء من ينظرن إلى الثروة، يوحد بينهن من ينظرن إلى أرقى من ذلك. ولكن الباحثة حينما توصلت إلى العلم بأن لا حيلة لها في الحصول على طفل فتحت مواعين حبها إلى الأطفال عامة – فكأن الطبيعة حرمتها طفلاً واحدا ليتورع حنان قلبها على الأطفال المساكين.
أما داخل منزلها فقد كانت آية في الترتيب والاستعداد، وكان لها تأثير عظيم في تحضير البادية، كما قال حافظ بك إبراهيم في رثائها:
(سادت على أهل القصور وسودت أهل الوبر). وحقيقة فمن يذهب اليوم إلى تلك الجهة يتعرف الفرق بين الحالة الأولى وبين ما هم عليه من حب الترتيب والاعتناء بالصحة والتعليم، وكان بعض ذلك من حبهم أن لا يفوقهم غيرهم ولتطلعهم للأحسن ولكن أكثره نتيجة مباشرة لتأثيرها الشخصي، فإنا لنكاد نرى كل أبنائهم وبناتهم يتلقون العلم في المدرسة بعد أن كانت الفتاة تتعلم في المنزل إلى العاشرة من عمرها ثم تحجب حجابًا عن الدنيا بأجمعها.
وقد ساعدها على اشتغالها، بل انقطاعها للتهذيب، أنها كانت لا تجد رفيقًا ولا من تبث إليه شكواها. وإنا لنشعر أنه كان في قلبها كمية من الحب الطاهر لو وجدت حرزًا تستودعه إياه لكان كافيا لخلق السعادة كلها، ولكنه لا يزال في البلاد الشرقية أثر تغطرس الرجال وأثرتهم بتضييع مالهم ووقتهم ولهوهم بعيدًا عن منازلهم، ولا يزال في الجهات البعيدة للأجنبي مقام منعزل كما كانت الحال منذ قرن في البلاد الأوربية. وقد يجد القارئ بعض ذلك في كتاب (شرلوت) ولكن يقرأه من بين السطور في كل مقالاتها. نتساءل لماذا كان لكلام الباحثة تأثير أكثر مما كان للكاتبات الأخريات؟ سؤال نجيب عليه بكل وضوح، وهو أن أهم سبب هو إحساسها بما تكتب حتى أن كل موضوع أرسلت به للجرائد كان كأنه واقعة حال فهي تكتب عن تجارب وخفوق قلب, بل وإخلاص ضائع بخلاف غيرها ممن يكتب بالصناعة وليس بالشعور.
السبب الثاني؛ هو أنها توخت الاعتدال فلم تنسى أن تراعي في طلباتها العادة والدين حتى لا يجد القارئ صدمة تصرفه عن الخير كله. أما قاسم بك أمين فقد استعمل شجاعته أكثر مما كان يجب فإنه صدم الجمهور بما لم يتعود عليه. كانت الباحثة تقول في السفور (علموا المرأة وهذبوها ودعوها تختار لنفسها) وفي الخطيئة ذهب البعض إلى التشبه بالإفرنج ولكنها كانت تقول:
أما السفور فحكمه ……في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيه بين …… محرم ومحلل
ويجوز بالإجماع منهم…… عند قصد تأهل
وهكذا من دواعي الحكمة والاعتدال.
وقد صادفها غضب فريق عليها لأنها كانت تكتب في الجرائد، وكانت تحب السفر إلى الخارج، وقد كاد ذلك يؤدي إلى ما لا تحمد عقباه مع المتمسكين بالعادة والمحافظين من أخوات زوجها وأقربائهم. ولولا حكمتها وأدبها لما استطاعت أن تواصل السير في وسط لا يفهمها كثيرًا، في وسط كان يحلل ضرب المرأة، ويعدها سلعة تقتنى، ولكنها ضحت بنفسها مع الاحترام التام، وخدمت مبدأ يستحيل أن يتلاشى بعد ما ثبتت أساسه ثبات الطود.
وكانت، كما تقول الآنسة (مي)، تغير نفسها لبسًا وكلامًا عند كل وسط،وليس هذا باليسير، سيما على من عاشت عيشة حرية الرأي والتصرف، ولم تختلط إلا بكل متعلمة متمدينة.
من هذا نعرف كيف كانت الباحثة فاضلة. فإن العلم في الكتب يغترف منه من يشاء ولكن المهم تطبيقه بحيث ينفع.
على أنها كانت تحفظ من الشعر آلافًا– وقد قرأت كثيرًا من كتب الفلسفة والاجتماع وجمعت إلى عفتها الشرقية الأفكار الحديثة وحدة العارضة وسعة الجعبة – وقد قالت (شرلوت كمرون) أنها لتناقشك في فلسفة (دارون) و(سبنسر) بشكل يدعو إلى الفتنة والإعجاب.
وكانت تحب الفنون الجميلة فتجمع من المصورات الأثرية وإسطوانات الغناء وآداب الإفرنج ورواياتهم ما زاد شعورها رقة حتى أنها كانت قريبة التأثر والبكاء عند كل ما يؤثر، ولعل لواعج صدرها كانت تختلط بما تراه أو تسمعه من عذاب الغير وشقائه فتترقرق عينها بالدمع من ظلم الإنسان للإنسان .
وفي وقت ما مرض والدها ووالدتها فكانت تدير بيت أبيها بالتلفون من (الفيوم) خير إدارة. وكانت عند مرض والدها تقوم بكل ما كان يقوم به. كما أنها في غياب زوجها سنة كاملة أيام الحرب في طرابلس الغرب كانت تحل محله فكان ذلك آية في الحكمة وقوة الإرادة.
وحدث أن أخاها كان قد قبض عليه في حادثة سياسية بالقاهرة، وشاع إذ ذاك أنه سينال الإعدام من المجلس العسكري، وكان أبوه مريضًا، فحضرت لتراه للمرة الأخيرة حضرت رغم إرادة الطبيب، لأنها كانت مصابة بالحمى الإسبانيولية فتضاعفت عليها الحمى ولم تستقر بضعة أيام حتى ازدادت الحمى فكانت أول يوم تتكلم كثيرًا بغير انقطاع، ثم بدأت في اليوم الثاني تخرج مقاطيع لا اتصال بينها، وفي ١٢ أكتوبر فاضت روحها الطاهرة، وهي في الثالثة والثلاثين من عمرها، في ريعان النضرة والفتوة والشباب. وكان مشهدها رهيبًا. ودفنت بالإمام الشافعي بقرافة العائلة فقبرت معها مشاريع وإصلاحات كادت أن تملأ البلاد، ولكنها أحبت مبدأها، وسنت لخلفائها، وأصلحت التعليم، ولا غرو فإن كل إصلاحات المدارس النسائية ترجع لاقتراحاتها ومسعاها المتواصل، فكان بذلك كل متعلمة في مصر من تلميذاتها.
وقد كان أبوها مريضًا، فبكى على القبر بكاء المسكين، وقد هون عليه أصحابه فلم تكد تعتدل صحته حتى ذهب ليحضر حفلة الأربعين للتأبين في الجامعة (في نفس الغرفة التي كانت تحاصر فيها) قد قيل هناك ما يؤثر حتى أن قصيدة حافظ فطرت قلب السامعين فأطرق أبوها وهو شيخ لا يكاد يستقيم في السير، ثم ذهب مذهولاً، فانتكست قواه العقلية، ولم يكد يعي، ومات على الأثر.
وقد كانت السيدات تذهبن زرافات فتلقين باقات الزهر على قبرها مما يفتت أكباد الرائين.
وقد اجتمع في مثل يوم وفاتها من العام التالي فريق من صاحباتها وتلميذاتها والمعجبات بها ورثينها، ثم تبرعت صاحبة العصمة حرم شعراوی باشا بثمن صورة مكبرة للفقيدة توضع في غرفة خاصة بالجامعة يطلق عليها (غرفة باحثة البادية) اعترافًا بفضلها وإحياء لذكرها.
وأنه ليسرنا أنه عقب ذلك الاجتماع اجتماعات أخرى نجم منها جمعيات متعددة للفتيات وأنشئت بمصر مجلتان نسائيتان، وسوف يظهر فضلها بعد حين شأن العظماء عندنا في الشرق.
رحمها الله، وعوضها في آخرتها خيراً، ورحم والدها المسكين، وأنزل على ذويها الصبر والسلوان، وأتاح للنهضة من يخطو بها خطوها، ويتم بناء ما شيدت، فإنه على قدر فضل المرأة يكون رقي المجتمع.
رأى في الزواج
(وشكوى النساء منه)
رد على ما كتبه حضرة مدير الجريدة في العدد 383 بعنوان: ” بناتنا وأبناؤنا “
1
كتبتم حضرتكم في العدد (383) من الجريدة مقالة بعنوان «بناتنا وأبناؤنا“. تستغربون فيها كثرة تشكي النساء من الزواج في هذا العصر مع قلة تزوج الرجل باثنتين. وقلتم فيها أقوالاً صائبة حقيقية، ولكنكم عجبتم من أن المرأة كان يرضيها من زوجها أن يعدل بينها وبين ضرائرها في الكسوة والمعاملة، وأنها إذا تزوج عليها كان يمنعها الوقار غالبًا من أن تفتح قلبها بالشكوى إليه أو إلى ذوى قرابة منها بما تجده من الألم. نعم ذلك صحيح لا ريب فيه، ولكن له أسبابًا أنتجت تلك النتائج. أولها أن الفتاة كانت إذا شبت وجدت والدتها تعيش مع ضرة أو أكثر، ورأت خالتها وعمتها على تلك الحال، وكذلك صويحباتها ومعارفها، فلم يكن ذلك بالشيء الغريب. فإذا جاء دورها، وتزوجت من رجل له زوجة أخرى، وجدت أنه لم يخرج عن المألوف، وأنه تابع لعادة أهل عصره ومصره. فلم يكن يحسن بها، إذن، أن تبدى شكواها من أمر عادي يأتيه كثير غير زوجها، ولو أنه يؤلمها في قلبها ويجرح عواطفها. وكذلك كانت التربية غير ما نراها اليوم؛ فبنات العصر الحالي، حتى الجاهلات منهن، يفهمن الحياة أكثر من أمثالهن الغابرات فأصبحن لا ترضيهن الكسوة والطعام فقط كأحد خدم المنزل، ولكنهن يقدرن اليوم السعادة الزوجية أكثر من ذي قبل، ويعلمن أنه إذا لم يكن الحب أساس المعاشرة بين الزوجين فلا معنى للجمع بينهما يتنافران ويتشاحنان كأمثال الديكة الخرفاء. ومن اختلاف التربيتين القديمة والحديثة صفاء النية والمجاهرة بالقول والحرية فيه الآن، والخوف وشدة التكتم حتى على مضض العيش وذله قبل، حتى أن المرأة في زمن جداتنا كانت إذا أصابها ألم أو مرض تبالغ في كتمانه وتعد المرض، أيًا كان نوعه، عيبًا تجب مداراته. ولكن المرأة الجديدة على عكس ذلك تمامًا، إذ ترى أن كل شيء من هذا القبيل عادي، وأن ما يصيبها قد يصيب غيرها، فلا معنى لإخفاء أمر يصح أن يقع فيه الجميع. ولا يزال أثر هذا التباين في الحذر مشاهدًا للآن ويكاد يكون محسوسًا بين طبقة (بنات البلد) إذ تعد الواحدة منهن من النقص أن تخبر زوجها بصداع قد يصيبها، أو تتوهم أنه يأنف منها ويعافها إذا وجدها راقدة في سرير الألم والانحراف. لا يزال التباين بين هؤلاء وبين الطبقة الجديدة (الألفرنكة) محسوسًا, وهؤلاء لا يكتمن إلا ما يجب كتمانه على الوجه الصحيح. هذا كله راجع إلى تربية الوجدان واختلاف تلك التربية باختلاف الوسط والزمان. هذا من جهة المرأة وحدها، وهناك سبب لكثرة الخلاف والتذمر الآن يرجع إلى الرجل وحده وإليك البيان: رجال الأمس على جمعهم بين زوجات متعددات كانوا أتقى منهم اليوم، فرجل العصر (الشاب والكهل) تراه يتبجح بأن له خليلات، وأنه بجماله ورشاقة قده واهتزاز أعطافه يسبي ربات الحجال، بما فيهن المحصنات، وقد يتقول حكايات لا أصل لها في هذا الموضوع مما تندى له الجباه. ولعمري أن الجمع بين زوجتين، على ما فيه، لأحسن من التهتك وانتهاك حرمة الدين وإيلام نفس المرأة وتنغيص حياتها. يا لله أليس لها قلب يتأثر، وشعور يحس، وعواطف تثور. وقد أصبح رجالنا بفضل هذا التفرنج يعدون من لا يشرب الخمر جهارًا، ومن لا خليلة له، يترامي على قدميها، أو ترامي على قدميه (أنتيكه) في عرفهم فلله درهم .
والأغرب من ذلك؛ أنك إذا ذكرت للشاب أو أبيه شيئا مما يأتيه أجابك هذه هي الحرية الشخصية (على كيفي)، أو قال: أنا رجل وليس على عار في هذا. فلله أنت ولله أبوك. ائتني بآية من القرآن، أو إن كان القرآن عندك أيضًا (أنتيكه)، فائتني بمادة من القانون الفرنسي الذي تقاليد واضعيه وأهله تحرم التهتك على النساء دون الرجال، وتجيز للآخرين الرذيلة وتمنعه الأول. إذا صح عندك إباحة السفاح لأنفسكم فأسهل منه، وحقكم أن نجيز لكم السرقة بأنواعها والقتل والسلب والتزوير إلى آخر ما يحرمه الشرع والقانون وإلا فلماذا تختارون أكبر الرذائل وتعدونها سهلة لا إثم فيها وتأنفون إذا قلنا لكم سرقتم .
لا أخالكم تتشدقون بقولكم عند النصح (إنا رجال) إلا لأنه لا تظهر عليكم عوارض الخيانة بخلاف المرأة والفتاة فلهما من أحوالهما الطبيعية المختصة بهما ما لا يأمنان معه شر الفصيحة والعار. فإن زعمتم أن التقوى هي خوف النتيجة المحسوسة وأن الذمة والضمير لا يردعان ولا يمنعان المرء من إتيان المعاصي فبعدًا لما تزعمون وساء ما توهمون .
وليت هذا السلوك القاصم لروابط الألفة بين الزوجين يقف عند هذا الحد، بل له عواقب أوخم من التذمر، وأسوأ من البغض، وهي شطط المرأة بباعث الانفعال والحزن أو الانتقام والخبث وخروجها متبرجة في الطرقات أو وقوعها في مهواة الرذيلة وسقوطها السقوط الأبدي والعياذ بالله. وفي تلك الحال يلام الرجل لأنه شجعها على ما أتته بما يأتيه هو، وهي تعتقد أنها بشر مثله ويحق لها من الحرية الشخصية بقدر ما يحق له فضلاً عن اعتقادها بأنه قدوتها. يبعث ظلم الرجال وسوء سيرتهم النساء إلى السقوط في الرذيلة فيسقطن، إلا من عصم ربك، وهؤلاء تمنعهن تربيتهن الصحيحة، وشرف مبادئهن، عن الإخلال بالدين والآداب، ولكن يصبن في الغالب بحمى الدماغ أو الهستريا والجنون أحيانًا وتكثر همومهن ويعدمن لذة العيش فيا للظلم. لماذا يشقى عضو من المجتمع الإنساني خلقه الله ليكون سعيدًا. يشقى لاستبداد الرجل، ويضحى حياته ليتنعم الرجل، فإذا أردتم أيها الرجال أن ترفرف السعادة على بيوتكم فاختاروا الزوجة الملائمة، كل بحسب ما يرى، إذ (لكل امرئ فيما يحاول مذهب) ولا تقيدوا أنفسكم بأفكار العجائز والمشيرين، ثم اسلكوا سبيل الجد في الحياة، فقد كفاكم هزلاً أن استعبدنا للغير ونحن لاهون. واجعلوا من أنفسكم صراطًا تتبعه زوجاتكم. فإن كنت أيها الرجل عاقلاً فلتكن زوجتك مثلك، وإن كنت خليعًا فامرأتك خليعة، وإن أسرفت أسرفت،وإن فترت فترت، وهذا بحكم تأثير المعاشرة في الخلق، والعادة بالطبع ولإرضاء الزوج من جهة أخرى، لأن كلنا يعلم أن الملاءمة هي أس الاتفاق، فإذا اجتمع عاقل بمجنون شقي، والعكس بالعكس، فترى العقلاء معًا فرحين والمجانين معًا على أتم ما يكون من الجدل، وكذلك الحال في العلماء والجهال، وكل شيء له نقيض فإن الثعالب لا تتفق مع الدجاج، والجرذ لا يتوقع أن يكون أليفه الهر.
وفي المرأة صفة غريزية هي تقليدها الرجل، لأنها تعتقده مرشدها ومعينها أبًا وزوجًا، وقد ذكرني ذلك بمحادثة دارت بيني وبين سيدة إنكليزية، من صواحب اللادي كرومر أيام إقامتها بمصر، فسألت تلك السيدة “أنى ألاحظ أن اللادي تسترك التأنق في ملبسها شيئًا فشيئًا فهل تعرفين سببًا لذلك” فأجابت “إنها تتعمده لتكون هيئتها أقرب إلى التقدم في السن منها إلى هيئة الشباب لأن زوجها شيخ وتحب أن لا تسوءه بفكرة أنه مسن وأنها أصغر منه سنًا بكثير” ألا فلينتبه الرجال لذلك، وليتقوا الله في نسائهم وأعراضهم، وليعلموا أن التقوى مطلوبة في السر والعلن وأن الله يرى. يا قوم تداركوا الأمر، قبل فواته، فإن كنتم ترضون لنظام بيوتكم بالاختلال، وللثقة بينكم وبين أزواجكم بالضياع، ولأمنكم بالتأخر، فاستمروا على فسادكم. وإن كانت فيكم بقية غيرة وحمية وتحبون وطنكم، كما تدعون، فأصلحوا أحوالكم تصلح حال نسائكم،ونقوا ورد بيوتكم من شوك الهم، وسنوا سنة صالحة لأبنائكم وبناتكم من بعدكم يكن لكم أجرها إلى يوم الدين، ولله عاقبة الأمور.
الحجاب أم السفور
رد على خطبة ألقاها حضرة عبد الحميد أفندي حمدي بشأن الحجاب .
2
تتبعت خطبة الأديب عبد الحميد أفندي حمدي عددًا عددًا في الجريدة، فشكرت له اهتمامه بترقية المرأة، وأثنيت على اجتهاده وشجاعته الأدبية. وقد وجدت خطبته صحيحة المقدمات, متينة المبنى، إلا أن لي رأيًا أبديه فيها. وقد يمر بخلد أحد القارئين أننا ننتقد الخطيب حبًا في النقد أو تمسكًا بحب القديم وجمودًا منا عليه, لكن الحقيقة لا هذا ولا ذاك، وكل امرئ حر في فكره، حر في قبول فكرة غيره أو رفضها، حسبما يشاء، بشرط أن لا يضر ذلك الرفض أو القبول بالغير.
أما ما يرجوه الكاتب من تعليم المرأة تعليمًا صحيحًا فإني أوافقه فيه تمام الموافقة ويجب أن نحث غيرنا عليه بما نستطيع. وقد أصبح هذا القول بديهيا لا يحتاج لأن أطيل فيه الكلام لاسيما وقد وفاه الخطيب حقه في خطبته. فجزاه الله عنا خير الجزاء. بقيت مسألة الحجاب، وهي تلك المسألة العويصة التي قامت من أجلها منذ سنين حرب قلمية عنيفة وضعت أوزارها على غير جدوى فلم يفر فيها (المحافظون) على القديم ولا (الأحرار).
ولست أنتقد اقتراح السفور من الوجهة الدينية لأني أعلم أن الدين لم يحرجنا في هذه المسألة، كما بين ذلك حضرة الخطيب، ولا من الوجهة الاقتصادية فإن باقتراحه أن نلبس لباسًا يضارع ما ترتديه الراهبات المسيحيات لتوفير كبير لما كنا عسانا نصرفه في تأنيق اللباس الخارجي كما يفعل نساء الفرنجة مثلاً. كذلك لست أنتقده من الوجهة الأدبية فإن ذلك اللباس وبساطته لأليق بتأزرنا به من تلك الخبر المهلهلة، كما سماها الخطيب، ولأدل على حشمة صاحبته، وإن كانت سافرة، مما تلبسه الآن مبرقعة، وشتان بين هذا البرقع الوهمي والبرقع الصحيح.
إذن، لم يبق للموضوع إلا وجهة واحدة وهي الوجهة الاجتماعية. وإذا انتقدته من تلك الجهة فإني لا أقلد فيه ولا أتبع عادة رأى غيري، بل أصرح بما أشاهده عيانًا، وبما أعرفه من أحوال شتى جربت فيها النساء المختلفات، والتجارب يجب أن تقدم أوامرها على أوامر البحث والتخيل، إذ هي لم تعدم بعد أن تترك أثرًا في النفس لا يزول،أما التخيل فقد لا يطابق الحقيقة، وإن طابقها فقد لا يعلق كثيرًا بالذهن، لأنه لا أثر له إلا في المخيلة بعكس التجارب فأثرها يبقى على الحواس والذاكرة. فإذا نصحت طفلاً أن لا يلمس النار لئلا تحرقه فإن ولعه بالحركة والاستكشاف لا يزال يغريه بلمسها حتى يفعل ولا تنفع نصيحتك له، أما إذا لمسها مرة وأحرقت أصابعه فإنه يبتعد عنها كلما رآها ولو أمر بلمسها. وعليه فلسنا متبعات رأى من يأمرنا بالحجاب ولا رأى من يقول بخلعه لمجرد أن هذا تعب وكتب. وذاك نقب وخطب. إلا إذا تبينا الرشد من الغي، وعلمنا من التجارب أولى الخطتين بالإتباع. وأمامنا الطبقات المختلفة والأجناس العديدة يجب أن يبحث كلاً منها على حدته, ونجمع منها كلها حكمًا واحدًا تحكم به على أنفسنا إما بالحجاب أو بالسفور، أو غير ذلك مما سنوضحه بعد. وطبقات النساء (كالرجال) في كل أمة ثلاث: العامة والخاصة والوسط، وأصحها آدابًا فيها كلها على الإطلاق الوسط. ولابد لذلك من سبب. نعم، السبب راجع إلى التربية، فالخاصة أو طبقة الغنيات يرخين لأنفسهن العنان في الملاهي والملاذ والجدة مفسدة في الغالب، خصوصًا إذا اقترنت بالفراغ، وهؤلاء عندهن من الخدم من يقوم بشؤون بيوتهن وأمور أولادهن، وقد يعودن عيش الكسل والراحة.
والطبقة الدنيا تجد من حاجتها باعثًا لها على طرق الطرق المختلفة لتجلب ما تسد به الرمق، ويختلط نساؤها برجالها في المصانع والمزارع وغيرها، وهذه الطبقة شر على الآداب في كل أمة حتى في الإفرنج، وهم ليسوا مقيدين بحجاب ولا عادة يقال معها إنهم لما خالفوها وقعوا في شر منها كما يجوز تطبيق ذلك علينا.
وطبقة الوسط، وهذه دائمًا أحسن الطبقات آدابًا وأكثرهن حشمة ووقارًا، ولرب معترض يقول ما لنا وللطبقات وآدابها وما نسبة ذلك للحجاب وقد أدخلت في حكمك هذا الامم حتى التي لا حجاب عندها. فأقول متى عرفنا ذلك التقسيم وقارننا بين درجة اختلاط النساء في كل طبقة برجالها علمنا تمامًا أن الأكثر اختلاطًا هن الأشد فسادًا.
وإنك استقصيت حوادث النساء في مصر وجدت أكثرها في الطبقة الدنيا منها بما فيها الفلاحات اللاتي وصفهن الخطيب الفاضل بالنزاهة والحشمة. وقد رأيت القرويات كثيرًا وحادثتهن واستخلصت من أحوالهن أن ظاهرهن الجد دائما وذلك لعدم رؤيتهن من يقتدين به في أسباب الخلاعة. وقد سمعت أن كثيرات منهن يهمن برجال ممن يختلطن بهم، فلو كانت القرى كالمدن فيها متنزهات بعيدات عن أعين الرقباء، أو كانت الفتاة يستغنى أهلها عن شغلها وتعبها قليلاً لأفنت ولساوت طبقة المدنيات السفلي (وأعني بهن بائعات البرتقال ومثيلاتهن) في الفساد والوقاحة. فهؤلاء فسادهن من سوء التربية لا محالة ولكن الاختلاط بالرجال زادهن فجورًا.
وإذا رجعت لغنيات مصر وهن (الذوات)، ويقلدهن بعض نساء الوسط، فهؤلاء يتفنن في الملابس ويكثرن من الخروج تحككا لأن يسمح لهن برفع الحجاب، ولكن على طريقة بعيدة من الأدب، فإنهن لو كن يطلبن ذلك رغبة في الحرية الشريفة مثلاً أو إنهن يشعرن أن الحجاب يمنعهن من الاستفادة من العلماء، أو غير ذلك من الأسباب الجائزة لوجب إعطائهن ما يطلبن بغير تكلف البحث والعناء. أما ونساء مصر على هذا الجهل المطبق ورجالها, إلا القليل، على هذا الفساد المستحكم فلا يجوز مطلقًا إباحة الاختلاط. على أن الإفرنج، وهم المتعلمون نساء ورجالاً، يشكون من فساد مجتمعهم وقلة وفاء أزواجهم. وإذن، تعلم أن الطبيعة البهيمية في الإنسان تجتاز عقبات التربية وتخترق سياجها إلا الشاذة والشاذة لا حكم لها.
بقيت مسألة واحدة أجملها إجمالاً وهي المثل القائل (في الطفرة محال) فنساء مصر متعودات الحجاب فلو أمرتهن مرة واحدة بخلعه وترك البرقع لرأيت ما يجلبنه على أنفسهن من الخزي وما يقعن فيه بحكم الطبيعة والتغير الفجائي من أسباب البلاء وتكون النتيجة شًاً على الوطن والدين. وإذا أردت هدم بناء أفلا تهدمه قليلاً قليلاً إلى أن يتم الهدم فتبنى على أنقاضه أحسن منه. فإذا فرضنا محاولة هدم البناء دفعة واحدة (مستعملين الطرق والآلات التي نستعملها الآن) تصورنا كيف يستحيل ذلك مع بقاء المارة والبنائين سالمين، فضلاً عن الأنقاض كزجاج الشبابيك والخشب وما أشبه ذلك،فهذه الباقيات الصالحات في المرأة هي العفة والحياء والمنزل البالي حجابها الآن والسابلة الوطن والدين والفضائل.
فناشدتك الله أيها الأديب كيف تأمرنا الآن بالسفور ونحن إذا مشت إحدانا في طريق لا تزال تنصب عليها عبارات الوقاحة، ويرشقها هذا بنظرة فاجرة، وذاك ينضح عليها من ماء سفالته حتى يتصبب عرقها حياء. فمجموع رجال مثل مجموعنا الحالي لا يصح بحال ما أن يوكل إليه أمر امرأة وتترك عرضة لسبابه وقلة حيائه. ومجموع نساء كنسائنا الآن، لا يفهمن إلا ما يفهمه الرضيع، يصبح سفورهن واختلاطهن بالرجل بدعة لا انتهاء لشرها. ثم أفدني أيها القارئ بالله ماذا تقول امرأة جاهلة أو متعلمة تعلمًا ناقصًا لشاب تجتمع به؟ أتباحثه في العلوم وهي لا تدرك أهميتها أو تعلم منها قشورًا لا يعتد بها، أم تناضله في السياسة وهي لا تعلم أين انكلترا من جزائر الأرخبيل، ولا يمكنها أن تفسر لفظة دستور أو استعمار مثلاً. أم ماذا تفعل اللهم أنها لا تجد شيئا تقوله إلا ما قد تستحسنه من هيئته وحسن بزته وهناك الضلال الكبير.
والمتعلمات في مصر الآن يزددن عددًا وفيهن من يصح أن تلقى إليهن قيادة أخواتهن. وسيجئ زمن ينشأ فيه جيل من النساء غير جيل (السحر والزار والرقي) وهؤلاء يثمر فيهن البذر. فإذا أتعب الباحث نفسه في نصح النساء الآن قد يجد من تسمع, ولكنه لا يجد من تسمع وتعقل. ولا يبعد أن يكون من بين سامعات خطبة عبد الحميد أفندي من قد تقلدت وتزيت بزى الإفرنج وسارت في الشوارع تفاخر بأنها من ذوات الفكر الحر ومن صاحبات التمدين الحديث.
والخلاصة، أن خروجنا بغير حجاب لا يضر من نفسه إذا كانت أخلاقنا وأخلاق رجالنا على غاية الكمال. وأظن هذا مستحيلاً، أو بعيد الحصول، فإذا حصل التمازج وكان على هذا الشرط فلا اعتراض لي عليه.
وهناك قوم يشددون في تقدير الحجاب، فيحبسون المرأة مؤبدًا ويمنعونها من زيارة جاراتها، ويضيقون عليها بحيث لا تستنشق إلا هواء بيتها الضيق الدائرة فتفد صحتها وتكسل عن الحركة. ومنهم من يفتخر بأن امرأته لم تبرح بيتها طول عمرها. وهؤلاء أيضًا متطرفون، لأن المرأة لها رجلان يجب أن تتحركا, وعينان يجب أن تبصرا، فإذا صاحبها أبوها أو أخوها أو زوجها مثلاً في نزهة وأراها محاسن الطبيعة ودقائق الموجودات وجدد قواها بالحركة واستنشاق الهواء الجيد، وهي بمئزرها محتشمة، فلا يخرج ذلك عن معنى الحجاب (وهنا استسمح الخطيب الأديب في استعمال لفظة حجاب على غير ما مر لأننا لو رددنا كل المجازات إلى الحقيقة لصارت اللغة أضيق من سم الخياط).
على أن هذه المسألة واختلاف الآراء فيها قاضيها العادل الزمن والمستقبل، فكم من مسألة أبي قوم إلا اتباعها وآخرون نبذوها نبذ النواة فاختلفوا وجاء الزمن مؤيدًا فيها لفريق دون فريق، فصارت له القوة ورجع له الحول فاتحدوا فيها. ورأيي أن الوقت لم يأن لرفع الحجاب، فعلموا المرأة تعليمًا حقًا وربوها تربية صحيحة وهذبوا النشء وأصلحوا أخلاقكم بحيث يصير مجموع الأمة مهذبًا ثم اتركوا لها شأنها تختار ما يوافق مصلحتها ومصلحة الأمة. وإن هذا الموضوع وأمثاله لما يدعونا إلى التفكر والتبصر فإننا بدأنا أن نجارى الإفرنج في كل شيء، والمجاراة ليست ضارة في حد ذاتها ماديًا، ولكن ضررها اجتماعي محض، فضلاً عن كل ما بينت في مقالي هذا فإننا لو سلمنا بما يقترحه الكاتب من ضرورة تقليد الغربيين في أمور معاشنا ولباسنا وزى بلادنا، مما قد لا يوافق روح الشرق، فإننا نندمج فيهم ونفقد قوميتنا بمرور الزمن، وهذا هو ناموس الكون إذ يفنى الضعيف في القوى، وإنه لمن العار أن نهمل هذا الأمر يجرى مجراه، فأدعو الكتاب والباحثين للتفكير فيه، وفي إيجاد مدنية خاصة بالشرق تلائم غرائزه وطبائع بلاده ولا تعوقنا عن اجتناء التمدين الحديث.
ما ذنبنا
رد على ما كتبه حضرة (الخانقاه) في الجريدة بشأن تبادل إرسال النشء والمصاهرة بين الترك والمصريين.
3
كتب حضرة الأديب (الخانقاه) يقترح على الأمة المصرية أن تتبادل مع تركيا إرسال النشء من بنين وبنات. وقد رد عليه كثيرون مصوبين فكرته ومخطئين لها على أنهم لم يحيطوا بالموضوع من جميع أطرافه، وعذرهم في ذلك أنهم رجال وقد لا يعود عليهم بالذات ضرر ما من تنفيذ ذلك المشروع. ولا يهتم بدرس اقتراح كهذا خطير إلا من قد تقع عليه أضراره فيما لو تفذ. ونحن معشر النساء المصريات أكثر الناس تعرضًا لمثل ذلك الخطر.
أنا لا أعترض على الموضوع في ذاته، ولكني أعترض على بعض لوازمه المربوطة به. على أني أوافق حضرات الكتاب الذين أبانوا أن بيوتنا لا تصلح لأن يقتبس منها التركي أو التركية شيئًا يزيده معرفة أو علمًا، ولكن بصرف النظر عن هذه الحقيقة المؤلمة فإن الاختلاط الشديد بين الأمتين، بهذه النسبة التي يتمناها (الخانقاه)، لابد وأن ينتج عنها المصاهرة بين أفرادهما، وإن كانت النساء التركيات أغلبهن متعلمات بعكس أخواتهن المصريات، فيكون للأول الرواج في سوق الزواج الآن، أما الآخر فعليهن العفاء، ولهن الكساد.
وإن من يتصفح تاريخ المرأة المصرية الحديثة يرى أنها كانت دائمًا مظلومة مهضومة الحقوق؛ ففي عصر إسماعيل هجم علينا جيش الشركسيات، انهرمنا أمامه، وخرج ظافرًا منا بأحسن رجالنا. فلم يكن شريف أو نابه بمصر إلا وأم ولده جارية شركسية من شراء إسماعيل.
ثم ابتدأ رجالنا فيما بعد ذلك الزمن يتزوجون بالأوربيات، وليتهن من ذوات الشرف، ولكن كان أكثرهن، إن لم نقل كلهن، من فريق الراقصات والخادمات وأضرابهن. كل ذلك يجرى ونحن ساكنات. ننظر ولا نتكلم خيفة الريب. ولكن نساء ذلك العهد كن جاهلات لا يفقهن شيئًا وربما كان ذلك خير قصاص منهن على الجهل (على أن هذا لم يكن من جنايتهن على أنفسهن ولكن جناه الوالدون عليهن). أما وقد صار بمصر الآن من المتعلمات من يصلحن للزواج بأبناء جلدتهن أفليس من العار أن تقدر على أن تجعل ابنك شريفًا من أم ذات حسب فتختار أن يكون ابن جارية شركسية أو راقصة أوربية؟؟ ثم أليس من العار أن تشرئب دائمًا لما في يد غيرك وعندك أحسن منه؟
ألا رب معترض يقول إن الرق قد بطل الآن. وإن من يصاهر الترك يصاهر أكفاء. هذا صحيح، ولكن الأم تغذي الطفل بأميالها وطباعها كما تغذيه بلبنها فإذا ما حنت التركية لوطنها (وكل يحن بالطبع لوطنه) نشأ متشبعًا بأميالها يحب تركيا ويميل عن مصر وهو معدود من رجالهاا.
وسبب فضل المصريين وعدم ميلهم الفطري للاتحاد هو على ما أرى ناشئ عن تشعب أجناس أمهاتهم؛ فابن الفرنسية يحب فرنسا، وابن الزنجية يذكر خصب السودان، وابن العربية يفتخر بمحتده، وولد المغربية لا يفتأ يذكر بلده. وهكذا أضعنا وطنيتنا المصرية عن طريق المصاهرة بالأجانب.
ثم أجدني محقة إذا قلت إن الدم يحن لنوعه؛ فإذا تكافأ الرجل والمرأة في العلم والتربية، وكانا مصريين مثلاً، فإن الحب بينهما يكون أصدق وأمتن منه لو كانا مختلفي الجنس والمذهب. فإذا أراد الأديب (الخانقاه) أن يختار لنفسه حليلة غير مصرية فليكن. ولكل امرئ ما يرى. ولكن ليتذكر أخته وابنته وبنات عمه وقريباته فسيكون نصيبهن من غيرهن نصيب غيرهن منه والسلام.
مدارسنا وفتياتنا
رد على من ذكرت أسماؤهم في هذه المقالة.
4
لم يكن يدور بخلدي، ساعة كتبت موضوع (ما ذنبنا)، أن يخطئ فهمه أحد لأنه من السهولة ووضوح الغاية بحيث لا يتعذر تفسيره. ولكن ظهر لي من كتابة الكاتب في جريدة (لابورص إجبسيان)، ومن كتابة التركية (على الهامش)، أنهما ذهبا في واد وأنا في واد.
– أما جواب السيدة التركية فإنه يكفي لأن يقرظ نفسه، ولا أقول فيه أكثر من ذلك، لأنه دل على مبلغ أخلاقها ودرجة ألمها. على أني أشكر لها حميتها ودفاعها عن نساء جنسها وألتمس لها بعض العذر على حدتها لأن المسيو (أودولف) أهاج كامن عواطفها. ولكني لا أرى له هو رأيًا أن يجرح عواطف إخواننا (أولاد الذوات)، ولا أجيز له أن يؤول مقالتي تأويلاً لم أرده. فقد ذكر أني قلت “إن الغربيات لا يصلحن لإدارة البيوت” وهو يعلم أن هذه العبارة لم ترد البتة فيما كتبت، وإن ظني بأن الكاتب لا يعرف العربية أو أن الذي ترجم له كلامي لم يحسن له الترجمة يجعلني أحمل تهكمه وخروجه عن الموضوع على محمل حسن.
أما الفاضل (المتحرج من الزواج) فقد صدق في كثير مما قاله عمن يدعون أنفسهن بالمتعلمات ولسن من العلم ولا من التهذيب في شيء، وأضر ما يكون هؤلاء إذا تزوجن، لأن المتزوجة عليها واجبات شتى، وعلى قدر الواجب تكون المسئولية وهؤلاء لا يدرين حقوقهن إزاء الزوج ولا فن تربية الأولاد ولا كيفية معاملة الخدم وو. .. إلخ. مما يجب معرفته ويراهن على جهلهن هذا شامخات بأنفهن نحو السماء ويحسبن الاشتغال بلوازم البيت حطة لمقامهن، فيقضين وقتهن بين حديث خرافة وخروج في الشوارع. وهن على العموم أكثر النساء إسرافًا وتبذيرًا فضلاً عن البهرجة وقلة الحياء فلا علمًا أتقن حتى تتهذب نفوسهن، ولا على تربية منزلية محضة درجن حتى يعلمن على الأقل طبخ عشاء بسيط إذا تركتهن الطاهية يومًا ما.
وهذه الفئة الجاهلة الدعية في العلم هي ولا شك فئة خريجات مدارس الراهبات وكثير من المدارس الأهلية الأخرى. وقد خبرت مدارس البنات بأنواعها (ولا ينبئك مثل خبير) وحسبك وقوفًا على مبلغ علم هؤلاء أن تسألهن سؤالاً بسيطًا عن بعض ما يلقينه على مسامعك مثل الببغاء فلا يحرن جوابا. أما التدريس في تلك المدارس فهو على النظام الذي أخنى عليه الدهر أو محفوظ عن ظهر قلب، وليس فيه للتعقل أو المحاورة نصيب يذكر، ثم أن إحداهن لتسمعك تاريخ فرنسا ولا تكاد تأخذ نفسها من سرعة الإلقاء. وإذا سألتها عن عمر بن الخطاب أو صلاح الدين الأيوبي أو محمد الفاتح، وأضرابهم من حماية الإسلام، قالت لك: لا أدرى.
ومدارس البنات في مصر كلها، خلا مدارس الحكومة الثلاث, لا أثر فيها إلا تظاهر بالعلم ورياء. وهي في اعتقادي لا تصلح مطلقًا لتربية البنات المصريات لأنها فضلاً عن قلة بضاعة العلم فيها تجعل تلميذاتها على خلق غير ملائم لنا.
ومما يؤسف له أن القوم عندنا لا يفرقون بين الصالح وغير الصالح؛ فإذا أدخلوا ابنة لهم في مدرسة للحكومة، وأمرتها ناظرة المدرسة أن تلبس جلبابًا، مغطى الصدر والكمين مثلاً، أو تخلع حليها وقت الدرس، عدوا ذلك إساءة لابنتهم المدللة، وقطعوها عن المدرسة كما شاهدت مرارًا.
نحن المصريين نحب الظهور والفخفخة بغير نظر إلى النفس وفضائلها. وهذا نقص في التربية يجب محاربته وإزالته. وأكثر الآباء وجميع الأمهات عندنا لا يقدرون من تعلم البنات إلا العزف على “البيانو” والرطانة لأنهما ظاهران.
وبالجملة، أقول إن أحسن مدارس البنات في مصر هي مدارس الحكومة أخلاقًا وعلمًا على أنها لا تزال تقبل الإصلاح والرقي.
ولى كلمة أخرى في هذا الموضوع تتعلق بالبيت والمدرسة أرجئها لفرصة أخرى.
تربية البنات
(في البيت والمدرسة)
5
كلنا يعلم ما تعودنا على سماعه من أمهاتنا في سن الطفولة الأولى. كان يغرينا النشاط وحب العمل بمداومة الحركة واستكناه كل شيء مما تقع عليه حواسنا، ولو أدى ذلك إلى كسر الشيء أو تلفه. حينذاك كنا نسمع والدتنا تقول “خذوها للمدرسة ” مخيلتنا عفريتًا يهول منظره، لأننا كنا نعد غضب الوالدة أكبر قصاص لنا، وهي لم تفه بلفظة “المدرسة” إلا في ساعة الغضب. هذه أول فكرة تلقى علينا من جهة المدرسة، فإذا شببنا قليلاً وأتي بنا إليها، ملأنا أرضها صراخًا وعويلاً وطال أمد الوحشة بيننا وبينها.
تبذل معلمات المدارس جهد الطاقة في تثقيف عقول التلميذات وتعويدهن الفضائل، ولكن تلك الدروس إذا لم تدعمها الممارسة والمشاهدة لا تلبث أن تزول.
ترى إحدى المعلمات تنصح لفتياتها بأن لا يرتدين في المدرسة الأثواب المزركشة أو الرقيقة فتأتمر الفتاة بأمرها، وما هو إلا يوم حتى ترى والدتها أحضرت لها من تلك الثياب أقلها حشمة وأكثرها بهرجة. وإذا عارضت الفتاة وقالت قد نهينا عن لبس مثل تلك الثياب أمس، أجابتها والدتها لا تكترثي بكلام المدرسة فهو موجه للفقيرات لا لبنات الأغنياء مثيلاتك. إذًا، ضاع النصح هباء، وتشجعت الفتاة على العصيان وعدم الاكتراث. كذلك المدرسة تدرب التلميذات على النظام وبيوتنا بفضل الجهل لا نظام بها، وقصارى القول أن ما تبرمه المدرسة لنفع التلميذات ينقض في البيت ولا سيما مسألة الأخلاق.
وأسطع برهان على أن البيت يفسد ما تصلح به المدرسة. الفرق الظاهر بين التلميذات الداخلية والخارجية، فإن الأوائل كلهن أكثر نظامًا وترتيباً من الآخر، وأغلبهن أشد تمسكًا بالفضيلة لأنهن ينشأن على البساطة والحشمة، وقد رسخ ذلك في أذهانهن فلو كانت تلك الأم متعلمة أو جاهلة تقدر العلم قدرة لذاكرت لابنتها وأفهمتها ما تعسر عليها فهمه في الحالة الأولى، أو أعدت لها مكانًا بعيدًا عن لغط الزائرات في الثانية.
أعرف أختين كانتا معي في المدرسة وقد قصتا علينا يوما الحديث الآتي:
وقد كانت إحداهما في السنة الأولى الابتدائية والثانية في السنة الثانية، ومعلوم أن تلاميذ وتلميذات هاتين الفرقتين في المدارس المصرية لا يمكنهم التكلم بلغة أجنبية. قالتا: “سألتنا يومًا والدتنا إذا كان يمكننا التكلم بالإنكليزية فأجبنا إيجابًا ولما لم تكن تعرف هي منها شيئًا لم نجد ما نوهمها به سوى بعض أبيات إنكليزية كنا حفظناها في السنة الأولى؛ وهي حكاية عن طفلين ضاعا في غابة إلخ. فأخذنا نتناوب شطور الأشعار أقول أنا الأولى وأختي تقول الثانية إلى أن فرغنا منها ففرحت والدتنا بذلك وشهدت لنا بأننا “بارعتان في لغة الإنكليز! “.
ذلك مثال من كثير يبين أن جهل هؤلاء الأمهات لا يقتصر على تأثير بناتهن في العلم ولكنه يشجعهن على الكذب والفساد أيضًا وإن كن لا يدرين.
وأدهى من ذلك وأمر أن الفتاة إذا شبت وكعبت فإن الأم لا تفتأ تذكر لزوجها وابنتهما تسمع– أن ابنتها كبرت وأنها يجب أن تترك المدرسة لتتزوج، وأن فلانًا وفلانًا أرسل والدته أو أخته تخطبها. فلا تلبث الفتاة أن تلتفت إلى أمر الزواج وتهمل المدرسة لأن والدتها تغريها بذلك وتهتم به كثيرًا. فإذا أمطرت السماء يومًا ولو رذاذًا قالت لها لا تذهبي إلى المدرسة، وإذا اشتد البرد منعتها عنها، وإذا زادت الحرارة قليلاً صدتها. وإذا ذهبت لعرس إحدى جاراتها أخرتها يومين أو ثلاثة وهلم جرا. والفتاة مظلومة إذا لم تستفد من المدرسة بعد هذا، ولكن المدرسة مظلومة أكثر منها إذا نسب تأخر الفتاة كله إليها.
ولا تكمل تربية الفتيات بحيث تصير المدرسة مسئولة عنهن بالمعنى الصحيح إلا إذا كن لا يرحنها كالداخلية مثلاً، أو إذا كانت أمهاتهن متعلمات يساعدن المدرسة على القيام بأعبائها وهذا يظهر في الجيل القادم من بناتنا إن شاء الله.
لأنهن يمارسنه بالفعل ولا يجدن أمامهن ما يفسد ذلك الدرس المفيد.
فيا ليت شعري هل يخفف المنتقدون قليلاً من حدتهم عند انتقاد مدارس البنات، لأن بيوتهم ونظامها أدعى إلى الانتقاد منها، والأمهات الجاهلات أكبر عثرة في سبيل نجاح المدارس، ولا سيما إذا كانت بناتهن من القسم الخارجي. وليس من الإنصاف أن تكلف المدرسة بملاحظة الفتيات في مغيبهن عنها؛ إذ إن أعضاءها لم يكن يومًا من الشرطة (البوليس) ويكفى ملاحظة التربية والتعليم في المدارس. وليس ذلك بالأمر السهل على القائمات به.
المدرسة تأمر التلميذات بالنظافة وترتيب الهندام، والبيت لا يعني بذلك كثيراً؛ فإذا غسلت الفتاة شعرها يومًا تنتظر بعده أسبوعًا بغير تمشيط حتى تجيئها الماشطة وتمشطه لها في الأسبوع التالي، ويظل رأسها بين الأسبوعين معقدًا قذرًا، فترجعها المدرسة إلى البيت مرة أخرى وتكون النتيجة تأخر الفتاة عن تلقى الدرس, وربما استشاطت والدتها غضبًا من تكرر رجوعها من المدرسة وهي لو مشطت بنتها كل يوم لما استغرق ذلك أكثر من ثلاث دقائق ولكن هو الجهل والكسل.
حادثتني مرة ناظرة مدرسة للبنات في شأن التلميذات الخارجيات اللاتي يعدن إلى البيت كل يوم لقذارتهن. قالت “إني أعجب لأمهاتهن كيف يرضين لأنفسهن أن تشتمهن المدرسة كل يوم ولا يخجلن“. قلت لها: وكيف تشتمهن المدرسة؟ قالت “أليس إرجاع البنت إلى أمها بسبب الوساخة يعادل قولك لها إنك أيتها السيدة قذرة ولا تصلحين لإدارة بيتك؟ وأكبر دليل على ذلك إهمالك ابنتك وهي فلذة كبدك وأعز عليك بالطبع من المنزل وأثاثه ورياشه. ولو رجعت تلك التلميذة في إنكلترا (وهي بلدها) إلى أمها بسبب القذارة لفكرت تلك الأم أن الانتحار أولى لها من أن تسب علنًا بأنها “قذرة“. هذا حقيقي لأن الأم الإنكليزية متعلمة وتعرف حقوق التربية وشتان بينها وبين الأخت المصرية.
هذا في الأخلاق وقل مثله في التعلم. فإن الفتاة ربما احتاجت إلى مذاكرة دروسها فتشغلها زيارة النساء لأمها، ما بين (دلالة وماشطة “وكدية” زار)، وتملأن قلبها الصغير النقي أوهامًا وخزعبلات فيهدم ركنًا من فضيلتها، ويبنين مكانه نقصًا ورذيلة، فضلاً عن إنهن يعقنها عن مذاكرة الدرس والاستفادة منه.
الزواج
(يا للنساء من الرجال ويا للرجال منهن)
6
بينما أنا أفكر في موضوع أكتبه للجريدة إذ قرأت ما جاء بها بقلم (أحد الناس) وحديثه مع فتاة، فتأثرت به أيما تأثر، وقلت في نفسي إذا كان الرجال يخوضون في مثل هذه الموضوعات فنحن أحق بها منهم لأنها بنا أمس. وأجدر منهم بالشكوى لوقوع حيفها علينا. وسأتكلم هذه المرة على طريقة الزواج عندنا، لأنها مقدمة لموضوع تعدد الزوجات، الذي سأكتب عنه في المرة القادمة إن شاء الله.
طريقة الزواج في مصر طريقة معوجة عقيمة نتيجتها في الغالب عدم الوفاق بين الزوجين. يقيم الرجل معالم العرس أيامًا وليالي، ويتكبد مصاريف جمة لعروس لم يرها عمره، ولم يتأكد من حسن أخلاقها أو جمال نفسها، إنما سمع عن بياضها وسمنها أو مالها من الخاطبة التي تصف حسب نصيبها من نوال العروس وأهلها. فإذا أجزلوا لها العطاء صورت ابنتهم للشبان الخاطبين في صورة “بلقيس بمالها أو شيرين بجمالها” وما هي إلا أحبولة يقع الفتى فيها فلا يلبث أن يصير بعلاً للفتاة إما على الحب منه أو الكره .
فإذا سعد طالعهما اتفقا قلبًا وقالبًا ورضي كل بالآخر رفيقا له وصفت لهما الأيام. هذه حال قل أن يصل إليها زوجان، ومن تمت لهما كان ذلك أحدوثة في بني قرابتهما، وعند الجيران!
أما البائس الذي قدر له أن يعاشر حمقاء أو جاهلة أو مسرفة أو ما شابه مما يعرفه اغلب رجالنا بالتجربة فيا ويحه.
كذلك الفتاة إن فوجئت ببعل مدمن أو خليع أو فاسد السيرة فيا طول ما تقاسي من عناء. فمسألة الزواج عندنا هي ككل أمورنا نحن الشرقيين نكلها للقضاء والقدر والحظوظ وما شئت من المترادفات.
ومما جعل مسألة الزواج عندنا (أي المسلمين) هينة لينة إباحة الدين الحنيف الطلاق وتعدد الزوجات. ولكن حاشا أن يكون قصد الشارع ما نراه الآن من الفوضى في أدق الروابط الاجتماعية، ومن نقض عهود الأسر وقلب نظاماتها، فإن الأديان لم تخلق لجلب البؤس وإنما خلقت لإسعاد البشر ولتقريبهم من الإنسانية، أو لإبلاغهم حدها الأقصى إذا تيسر ذلك.
وطريقة العرب على عهد النبي، صلى الله عليه وسلم، وما بعده في أمور الخطبة والزواج طريقة شريفة معقولة إذ لم يكن الحجاب حينذاك كما هو الآن. وإني أجاهر بأن حجابنا مقلوب ونظام اجتماعنا فاسد أشد الفساد، لا يصلح ولن يصلح لأن تتبعه أمة متمدينة.
أليس عجبًا أن نرى نساءنا وفتياتنا يتهتكن كل يوم في عرض الشوارع، ويملأن حوانيت الباعة. ويذهبن في الخلاعة كل مذهب؛ فيكلمن سائق (الترام). ويقفن ماثلات عاريات الصدور متبرجات أمام المصور (فوتوغراف)، وإذا طلب خاطب مستنير من أبي الفتاة أن يسمح له برؤيتها والتكلم معها وأبوها يراقبهما عد ذلك أمرًا أدًا. هذا رجل وذاك مثله، والأول تكلمه بلا مراقبة وإنما بعلم من أهلها وترخيص، والآخر يريد أن يكلمها أيضًا، ولكن مع مراقبة أبيها، وغرضه شريف وهو معرفة كنه التي سيتزوج بها ويجعلها شريكة حياته ومربية ولده. فما السبب في منح الأول ومنع الثاني؟ اللهم إن هو إلا الجهل والعادة وحب القديم حتى ولو كان مضرًا.
إذا اعترض أحدهم وقال: إن الفتيان أغلبهم فاسدو الأخلاق، قلت: إن المصور والبائع أفسد خلقًا من الفتى المتعلم. على أن المراقبة مانعة للفساد على كل حال. ثم إن خوف الفتنة أكثر الحالة الأولى منه في الثانية، لأن المقام الأول مقام هزل؛ فتضحك فيه الفتاة بلا مبالاة، وتكشف عن ذراعيها أو صدرها عند التصوير مثلاً وتكون في الغالب متبرجة. أما المقام الثاني فهو مقام جد, لا تتعدى فيه الواحدة حد الحشمة، فمن أين تأتي الفتنة إذن؟
وعندي أنه لو اتبع هذا السبيل في الخطبة لكان خيرًا ولقلت حوادث الشحناء بين الزوجين فيما بعد، وهي بلا شك نتيجة الزواج (العمياني) الذي تتبعه في أعز شيء لدينا وهو أبناؤنا وبناتنا. ولا يقتصر الخاطب على رؤية العروس فقط فإن ذلك لا يكفي، بل يجب أن يستفهم عنها جيدًا ممن يعرفون أخلاقها، ويبحث عن سيرتها وأهلها فيتزوج منها على هدى بعد البحث والاستقصاء. وهذه الشروط بعينها يجب أن يتبعها والد العروس قبل أن يسمح للرجال برؤية ابنته، فما كل راء خاطب وما كل خاطب جاد، ورب فتى هازل يريد اللهو أو فاسد يحب الاطلاع على الفتيات بغير قصد الزواج! فهؤلاء يخرجون من موضوعنا لأننا لا نعنيهم وإنما نعني الشريفي النفس الحسني السيرة. والأب مكلف بالبحث عن حقيقة سائليه كما بينا قبل.
وهنا يعترضني فكر يجب أن أبسطه، وإن آلم بعضهم. فإن شباننا لم يتعودوا احترام النساء، وذلك نقص في التربية الاجتماعية يجب أن يتداركو. لا أريد أن يسجدوا لنا, بل أن يفسحوا لنا الطريق إن ازدحمت، ولينظروا إلينا كما ننظر إليهم اناسًا مثلهم وليتركوا إشارات التعريض وألفاظه التي أصمت آذاننا، ولولا خوف مفاجأة العجلات والدواب لسددنا مسامعنا عند كل سير في الطريق تخلصا من تلك البذاءة المحرجة. فهؤلاء وأمثالهم لا أصاهرهم لو كنت أبًا. ولكن بين شباننا كثيرين بحمد الله يتبعون الصراط السوي.
وقد سمعت كثيرًا عن قوم طلب منهم أن يروا خاطبًا ابنتهم فأروه أخرى جميلة وزوجوه من التي لا يرغب فيها غشًا منهم وترويجًا لبائرة عندهم. ولعل أحدهم يجعل ذلك من جملة اعتراضاته على الموضوع، ولكني سبقت فقلت: إن هؤلاء قوم لا شرف عندهم. والشريف وغيره يظهر من معاملاته وطباعه وسيرته، والبحث يفرق بين الضدين فلا يعقل أن يستمر الرجل شريفًا في كل أمر يأتيه مع إخوانه ومعامليه ثم تتغير ذمته فجأة عند زواج ابنته! إن هذا يكاد يكون مستحيلاً. ثم إن هناك قومًا يعجبون بالخاطب وبأخلاقه ولكنهم يردونه خائبًا لأن المهر الذي عرضه عليهم قليل. فياليت شعري أيشترى العاقل الراحة بالمال أم يشتري المال بالراحة؟ وماذا عليهم لو كانت ابنتهم سعيدة غير غنية؟ إن أكثرهم يطلبونها غنية قبل كل شيء، ويحسبون السعادة تابعة للغنى. ألا ساء ما يحسبون.
ومن أكبر الأسباب المنتجة لشقاء الزوجين عندنا عدم ائتلافهما؛ أن يكون أحدهما راغبًا في زواج آخر يعرفه أو يحبه فيجبره أهله على التزوج ممن لا يريد. والمثل الفرنسي يقول Vouloir C’est pouvoir أي الإرادة هي المقدرة. فإذا تزوج فتى من غير من يحب فإنه بالطبع يريد أن لا يهنأ معها، وأن يعذبها من غير ذنب، فيقدر ولا شك على ذلك. والمثل بالمثل مع الفتاة وذلك ظلم بين من الأهل لا يغتفر.
وهذه العادة كثيرة الشيوع بين أفراد الأسرة الواحدة أو بين الأصحاب، يكون لأحدهم ابن فبمجرد ما تولد ابنة أخيه أو ابنة صاحبه يتفقون على أن المولودة الجديدة هذه من نصيب الصبي فلان عندما يكبر ويأخذون العهود والمواثيق على ذلك. وربما ربي الصبي تربية غير التي نشأت عليها الفتاة أو رأى أخرى أعجبته وهنالك الطامة الكبرى. أنت لا تأكل مكرهًا ولا تنام مكرهًا فلم تزوج ابنك أو ابنتك بالقصر والإجبار؟ ربما كان من يختاره الأهل أجمل وأغنى ولكنه في حال البغض يكون كأنه أقبح خلق الله وأفقرهم. على أن الجمال والغني ليسا من شروط الوفاق بخلاف الرغبة فهي داعية له.
فنتيجة شقاء الزوجين وعدم الوفاق بينهما مقدماتها الأسباب التي شرحت قبل وهي:
(1) جهل أحد الزوجين بالآخر.
(۲) زواج مختلفي الطباع كعالم وجاهلة وبالعكس، أو غنى وفقيرة، ومختلفي الدين والبلد.
(3) الطمع في الغني بغير نظر إلى الأخلاق.
(4) الزواج القسرى.
(5) تأويل الدين الحنيف على غير ما أريد منه في أحكام الزواج والطلاق.
وهذه الأسباب كلها شعب لأصل واحد هو عدم الحكمة. فإذا روعيت شروط الحكمة والتحري قبل الزواج فقل أن نرى هذا الشقاء المخيم على البيوت المصرية الهادم لمعنى الزوجية. وخير للفتاة والفتى أن يعيشا أعزبين من أن يتزوجا بثالث أيضًا هو البؤس والعذاب.
تعدد الزوجات
(أو الضرائر)
7
إنه لاسم فظيع تكاد أناملي تقف بالقلم عند كتابته. فهو عدو النساء الألد. وشيطانهن الفرد. كم قد كسر قلبًا، وشوش لبًا، وهدم أسرًا وجلب شرًا. وكم من برئ ذهب ضحيته وسجين كان أصل بليته. وإخوة لولاه ما تنافروا ولا تناثروا ففرقهم أيدي سبا وأصبحوا تأكل الحزازات صدورهم، ويضمرون السوء بعضهم لبعض، يثأرون ولا ثأر بني وائل وكانوا لولاه متفقين.
إنه لاسم فظيع ممتلئ وحشية وأنانية. كم أحرج رجلاً وعلمه الكذب فأفسد عليه خلقه. وكم بذر مالاً كان يعده لبعض رزقه. وكم أحفظ قلب والد على ولد. وكم علم الوشاية والحسد. فإذا ما لهوت أيها الرجل بعرسك الجديد فتذكر وراءك بائسة تصعد الزفرات، يتساقط من مآقيها أمثال لؤلؤ عروسك، ولكنه صهرته نار الحزن فظهر سائلا. واخش الله في صغار يبكون لبكائها، علمتهم الحزن فاستعاروا يواقيت عرسك أعينًا. أنت تقرع سمعك الطبول والمزامير، وهم لا يسمعون إلا دق الحزن في طبول آذانهم وكانوا من قبل ذلك جذلين.
وهذه البادية التي أقطن الآن لا أبالغ إن قلت إن جميع نسائها جربن الضرائر لشيوع عادة الجمع بين زوجتين في رجالهن، ولي من مخالطتهن ما يجعلني على ثقة من هذا الموضوع.
طالما سألت امرأة من الحي هذا السؤال:” ترى هل تحبين زوجك الآن كما كنت تحبينه قبل زواجه من غيرك؟” فكان جواب كل من سألت سلبًا.
وقد حقق لي ذلك بعضهن. وسمعت عن أخريات أنهن في الحقيقة كن يفضلن أن یرین نعش أزواجهن محمولاً على الأعناق على أن يرينهم متزوجين بأخريات. فيا لله أإلى هذا الحد يبلغ بغض المرأة للضرة؟ فليتأمل الرجال. أرى “القديمة” حزينة و “الجديدة” كذلك. فإذا قلت للأولى ماذا يحزنك أجابت: يحزنی ذلی وانكسار قلبی وأنا على ما ترين لست أنقص عن الجديدة جمالاً ولا أدباً وكنت أبذل جهدي في مرضاة زوجي، أما الآن فلا. على أنه لا يزال يسترضيني فيقول لي أنت أحب إلىَّ من الأخرى، وأنت أول من ملك قلبي وأنت جميلة وأنت وأنت …. الخ. وأنا لم أتزوج عليك لنقص فيك وإنما كان ذلك مقدورًا. وإذا ما سألت الجديدة عن سبب انقباضها قالت: يحزنني أن أرى لي شركة ومنافسة على أن زوجي يحقق لي أنه لا يعبأ بها، وأنه لو كان مقتنعًا بها لما تزوج عليها، وأنه يريد طلاقها ولكنه يبقيها رحمة منه لتربي أولاده فقط. فما أقدر زوج الضرتين على التفنن! ولو انصفوا لعينوا زوج كل اثنتين سياسيًا أو ناظرًا للمستعمرات! (ولكن الذي يؤسف له أنه ليس لنا مستعمرات).
المرأة إذا ابتليت بالضرة انطفأ سراج بهجتها، والتهبت مكانه نار حقدها وذوى غصن قدها وزرعت محله بذور شرورها. فإن لم تك تقية وإلا وسوس لها الشيطان وعلمها أساليب الانتقام والكيد. وكثيرًا ما دست امرأة السم لزوجها أو لضرتها أو لابن ضرتها فكان القضاء عليهم جميعا، وكثيرًا ما عمدت للوشاية بها عند زوجها أو ثلم صيتها عند الناس، وأغلبهن يبذلن مالهن ويبعن مصوغاتهن للسحرة ليكيدوا للزوج ولامرأته على زعمهن .
فزوج الثنتين غير سعيد كما قد يخيل له. إذا تغيب لبعض شغله اتهمته إحدى المرأتين بأنه كان عند الأخرى. وباليت التهمة تقتصر على هذا فإن هناك التغير والتدلل والكراهية والبذاءة أحيانًا. وإذا نسى واشترى لواحدة منديلاً ولم يشتر للأخرى صب عليه سوط العذاب وألزم بأضعاف أضعافه. فما كان أحوجه للراحة وما أشد اشتغال باله. الإكثار من الزواج داء إذا تأصل صعب استئصاله.
ولا أعذر الرجل يتزوج مرتين إلا إذا تعذر عيشه هنيًئا مع زوجته الأولى، لسبب ما شرعيًا كان أو غير شرعي. فيضطر للزواج اضطرارًا، ولكن الحازم لا تنسيه أفراحه أولاده ولا امرأته الأولى إن كانت لا ذنب لها. أما إذا كان يعد بقاءها معه منغصًا لحياته، أو كان كارها لها، فليطلقها بتاتًا فربما يجد مع غيرها راحة وتجد هي كذلك مع غيره “وفى الأرض عن دار القلى متحول“.
والطلاق، على مذهبي، أسهل وقعًا وأخف ألمًا من الضر. فالأول شقاء وحرية والثاني شقاء وتقييد. فإذا كان الشقاء واقعًا على كل حال فلماذا تلتزم المرأة الصبر على الشدة وترى بعينيها ما يلهب قلبها ويدمي محجريها؟ ألا أن حزينًا حرًا خير من حزين أسير، وبعضهم يخادع المرأة الأولى بأن يجعلها حاكمة على البيت معها مفاتيح خزائنه، ولكن ماذا تفيد مفاتيح الخزائن والحكم على السمن والعسل وأين هذه من مفاتيح القلوب وحب الزوج؟
تعدد الزوجات مفسدة للرجل، مفسدة للصحة، مفسدة للمال، مفسدة للأخلاق، مفسدة للأولاد، مفسدة لقلوب النساء. والعاقل من تمكن من اكتساب قلوب الغير فكيف بقلوب الأهل والعشراء؟
مفسدة للمال؛ لأن الرجل فضلاً عن تحمله أعباء أسرتين وقيامه بلوازمهما يرى كل زوجة من الاثنتين تجتهد في التبذير لتعجزه عن الإنفاق على الأخرى، أو لتمنعه من الزواج بأخرى. ولا تلام إحدى الزوجتين على تبذيرها فذلك طبيعي إذ تقول ما الفائدة من اقتصادي؟ أنا أحرم نفسي مما ربما أشتهيه وزوجي ينفق ذلك المتوفر على امرأته الثانية؟ فخير لي أن أمتع نفسي بمطالبها كما تفعل ضرتي. أما الأولاد فإنهم بدلاً من أن يكونوا من امرأة واحدة يولدون من امرأتين فيتضاعف عددهم. فإذا أخرجنا الأغنياء من حكمنا كانت معيشة الأب المتوسط أو الفقير ضنكًا وعوزًا لأن زماننا هذا غير الزمان الأول. فغلاء المعيشة ونفقة أسرتين وتعليم أولادهما ليس بالأمر السهل.
مفسدة للأخلاق؛ لأن زوج الضرائر دائمًا يحتال ليطمع كل واحدة في حبه، وهذا تكفي فيه المداهنة والتطبع. على أن زواج الضرائر في ذاته طمع وشره.
مفسدة للأولاد لأني رأيت بنفسي أن كل ضرة تطبع كراهتها لضرتها في نفوس أولادها. فيشب الطفل وقد أشرب كره إخوته لأبيه وأمهم بلا مسوغ سوى ما زرعته أمه في عقله من مبادئها. فمهما فعلت امرأة الأب لترضى ابن زوجها ومهما أحسنت معاملته فإنه لا يفتأ يتهمها بكراهتها له، وبأن ما تعمله معه من خير ومعروف فإنما هو لخوفها من أبيه أو مداراة لما في قلبها منه! وإنك لترى أبناء الرجل الواحد يغارون ويحسدون بعضهم البعض كما علمتهم أمهاتهم. وفي كلام العامة وأمثالهم الجارية ما يؤيد صحة هذا المبدأ.
مفسدة لقلوب النساء؛ لأن الأولى تكرهه بلا شك لإغضابه إياها وجرحه لعواطفها والثانية لا تصافيه مطلقًا مادام متعلقًا بغيرها فهو “المنبت لا أرضا قطع ولا ظهراً أبقى“.
ويسرني أن عادة الجمع بين زوجتين كادت تتقلص الآن من بين الطبقات المتنورة والعالية. لأن التدين والاستنارة يحرمانها وإن ادعوا أن الشرع يحللها. ولأن العيش أصبح سعيًا وتناحرًا فإذا كان أجدادنا يكفي أحدهم أن يمتلك عشرة أفدنة لينام مستريحًا في بيته ويتزوج اثنتين أو ثلاثًا فإن رجل اليوم لا يكفيه مائتا فدان مع تعبه واجتهاده للإنفاق على بيت واحد صرف التمدين الحديث محب الظهور.
سن الزواج
8
بينت في مقالي الأسبق ما يجب مراعاته في الخطبة والزواج من حيث اتحاد مشارب الزوجين في الدين والأخلاق والمعارف على قدر الإمكان، ومعادلة البيئات. واليوم أفرد موضوعي هذا لشرط آخر لا يقل عن هذا أهمية وهو السن الملائمة للزواج.
“الشرق” كما قال لورد كرومر في أحد تقاريره عن مصر “يتم فيه بلوغ كل شيء متقدمًا. وهذه حقيقة جغرافية لا ريب فيها. إذ بنسية حرارة البلاد يكون نضج النبات والثمار ونمو الإنسان والحيوان. هذا ناموس الطبيعة الثابت، بغير نظر إلى تفاوت درجة العلم والعناية، وما يتخذ من التدابير لإنماء ذلك الشيء أو لتحسين الآخر، مما يكون له أثر في البطء والإسراع؟ فبلوغ الفتيات في مصر يكون عادة في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة لجيدات الصحة بعكس فتيات أوربا والبلاد الباردة الأخرى فإنهن ربما جزن السادسة عشرة أو الثامنة عشرة ولم يبلغن. وعليه فلا نقيس سن الزواج عندنا به عندهن، لأننا كما نسبقهن في البلوغ يجب أن نسبقهن أيضًا في الزواج، فضلاً عن أن فتياتنا أقرب إلى السكينة، وأبعد عن الطيش من أخواتهن الغربيات. وإني لا أوافق بعض الأطباء الذي كتب في الجرائد مرة ينص على أن سن البلوغ يجب أن يكون هو بعينه سن الزواج. إذ بالله ماذا تفهم فتاة في الثانية عشرة من معنى الزواج، وماذا تعلم من أمور البيت، وماذا تعمل لو رزقت بأولاد؟ إني أكاد أتصورها تموت هي وإياهم إن لم يكن في النفاس ففي التربية، وقد ثبت بالتجربة أن أكثر اللاتي يتزوجن صغيرات جدًا يصبن بأمراض الأعصاب (الهستيريا) وهذا هو السر في وجود (الزار) كثيرًا عندنا.
إن الزواج ليس بالشيء الهين ولا هو بالهزل. تظن الفتيات الصغيرات والراشدات أيضًا أن الزواج معناه ضرب الموسيقى ونصب السرادق ليلة العرس ولبس الحرير والماس والمباهاة بالأثاث والأواني الفضية، وغير ذلك من ضروب الفخر الكاذب والطنطنة الفارغة. ليس هذا هو الزواج يا سيدتي الصغيرة، بل هو إرضاء الزوج وحسن القيام على ماله وتدبير بيته ومؤاساة أهله وتربية أولاده ورئاسة خدمه. فهل تستطيعين كل ذلك؟ لا أخالك تستطيعين.
تقص علينا جداتنا وأمهاتنا في بعض سمرهن أنهن تزوجن ولم تزل عليهن التمائم فكن يهربن في (الحارة) ويبكين عند الجيران ويأتين من المضحكات ما يبكي. فهل نريد أن نرجع القهقرى إلى زمن أجدادنا؟ حرام عليكم أيها الآباء ظلم بناتكم وتكليفهن ما لا يطقن ولا يكلف الله نفسًا إلا وسعها. حرام عليكم أيها الآباء الإصغاء إلى أماني النساء الجاهلات وزج بناتكم الصغيرات في سجون الزوجية الضيقة. حرام والله أن تتزوج البنية اليوم وترجع لبيت أبيها غدًا. حرام على الأم أن تقول “أريد أن أفرح ببنتي” فتزوجها طفلة ولا تنتقى لها كفؤًا، بل تعطيها لأول طالب لها. ولعمري أن الزواج ليتطلب الروية والتأني والأم ملومة أكثر من الأب لأنها جربت الزوجية بنفسها، وسبرت غور مصاعبها وأتعابها، إلا أن حب الظهور متأصل فينا لدرجة أننا نرمي ببناتنا في المأزق الحرج كي يقال عنا عرس فلانة كان فخمًا وما أبهى العروس، وغير ذلك من الترهات.
والزوج قد يسر أولاً. عروسه الطفلة، لكنه لا يلبث أن يستاء، وهي مظلومة لا جريرة عليها لأنها بالطبع لا تفهم ولا تستطيع القيام بحاجات منزلها من نظافة وحسن ذوق في وضع الأشياء في مواضعها. وهي لا تفهم معنى المسئولية لكنها مع الأسف مسئولة عن جميع لوازم البيت من طعام ولباس وغيرهما. وهي تنام مستغرقة من الغروب إلى الضحى فإذا بكى وليدها لم تسمعه فيقتله البكاء إن لم تقتله هي بالتقلب عليه في النوم. والطفل يحتاج لسهر الليل وللرضاعة، أفتقدر الصغيرة على حمله طول الليل، وإرضاعه، ومعرفة أمراضه وأوجاعه وحسن العناية به؟ يا قوم هذه إحصائيات الصحة ترينا كل يوم بأجلي ما يرى كثرة موت الأطفال في مصر، أو أصابتهم بما يعسر شفاؤه نتيجة جهل الأمهات بلا شك، والجهل في الصغر أكثر منه في الكبر، فإذا قرن بما يستلزم الصغر من الضعف وعدم القدرة على تحمل مصاعب التربية كان أدهى.
ومن نكد الدنيا على الفتاة، قاصرة كانت أو رشيدة، أن تتزوج من فتى صغير تابع لأبيه وتكتفي من الزوج بأنه ابن فلان الغنى. فطالما سمعنا بأن اختلاف الكنات أو سوء سير الفتى أدى إلى طرده هو وزوجه من بيت أبيه. فماذا يفعل إن لم يكن تعلم علمًا أو صنعة تساعده على المعيشة؟ لا جرم أن يذوقا وبالاً، أو ينتجعا بيت أهلها وتبقى هي وهو وأولادهما عالة عليهم إلى أن يشاء الله.
ومما يشقى الزوجين أيضا مختصًا بالسن أن يتزوج هرم شابت مفارقه بشابة في مقتبل العمر، أو بالعكس فتى بعجوز. فإن مشرب الشباب يختلف عن مشرب الهرم، فضلاً عن أن النسل الناتج من أبوين بعيدي فرجة السن الواحد عن الآخر يأتي في الغالب ضعيفًا أو لا يأتي بتاتًا. وإنك إذا نظرت هرمًا وشابة، أو شابًا وعجوزًا ممسكًا أحدهما بذراع الآخر، كما قد ترى الفرنجة في طريقك أحيانًا، فإنك لأول وهلة تستنكر هذا المنظر، وتحكم إنا حقًا وإن كذبًا، بأنها ابنته في الأول أو أمه في الثاني. وما يمجه النظر فهو ليس طبيعيًا. وإذا كان الله سبحانه أحكم أمر الملاءمة في الطبيعة؛ فلم يخلق الجبل الوعر في السماء الرقيقة الصافية، ولم يبرأ النجوم الجميلة المتألقة في الأرض الخشنة القاتمة، فلم تجمع نحن بين الأضداد ونخالف ذوق الطبيعة الصادق؟
الشابة تفكر في زينتها وحسن هندامها والتأنس بجمال الاجتماع بصديقاتها، والهرم يفكر في علبة السعوط والثريد ودواء السعال فيا:
أيها المنكح الثريا سهيلا……عمرك الله كيف يلتقيان
كذلك الشاب لا يلذ سمعه الشينات الكثيرة والياآات في موضع السين والراء، ولا زيادة مصروفاته في تركيب الأسنان المستعارة، وصبغ الشعر، وطلاء الوجه، وغيره من لوازم سيدتنا أو (أمنا العجوز) كما كنا نقول في قصص الطفولة. أحب فتى مرة امرأة أعجبه شكلها فخطبها إلى نفسها، فقالت له: أنت فتى وأنا عجوز لا أصلح لك، فلم يقبل قولها وظنها مازحة وألح عليها في قبوله بعلاً، فلم تر بدأ من إجابته إلى طلبه. فلما دخل عليها ليلة العرس جلس يكلمها وإذا بها خلعت أسنانها ووضعتها على منضدة أمامها فهلع قلبه إلا أنه بقي صامتًا ينظر إليها ريثما تتم عملها، ثم خلعت إحدى عينيها، وكانت صناعية من الزجاج، ثم جردت رأسها من شعرها المستعار فظهر أصلع مخيفًا، وبينما هي تنزع القطن من صدرها هرول الشاب نحو الباب مسرعًا فنادته: لماذا تهرب وقد كنت تدعي أني فتنتك بجمالي؟ فأجابها: یا سیدتی “نعم أهرب ويحق لي لأني رأيت أغلب أعضائك من الدكان وأخاف أن تكون حواسك كذلك أيضا” فهل يغبط الرجل على زوجة مثل هذه ؟! وإذا لم يغبط فلماذا تكره الشابة على تزوج الهرم؟ اللهم أنت خالق الخلق ومحدد الأعمار، تزعم الجاهلات أن زواج الهرم دلال في حياته وغنى بعد موته فهل ضمنت المرأة الطماعة أن المنية ستعدو عليه أول؟ وهل تطيب الحياة الزوجية إذا كان الواحد يترقب الموت لرفيقه؟ وهل تصح معاشرة هذه التي تعد موت القرين ربحًا؟ إن هذا إلا ضلال كبير.
فعلى ملاءمة سن الزوجين يتوقف شيء كثير من الوفاق والمحبة والواجب أن لا تتزوج الفتاة إلا متى صارت أهلاً للزواج كفؤًا لتحمل مصاعبه، ولا يكون ذلك قبل السادسة عشرة. وتزوج الصغار لعب فيه شقاء للأمة من عدة وجوه؛ عناء في الزوجية نتيجته دائمًا الشقاق أو الانفصال، كثرة وفيات الأطفال، ضعف النسل، إصابة النساء بالأمراض العصبية والأمراض النسائية الأخرى.
وزواج مختلفي السن إضعاف للنسل وشقاء للزوجين وقلب لنظام الطبيعة الدقيق. فمتى يلتفت لهذا الآباء والأمهات؟ ومتى تنقشع سحابة هذا الشقاء عن سماء بيوتنا؟ ومتى ننظر للزواج بعين الجد والاهتمام؟ اللهم أرني ذلك اليوم فهو أمنية النفس وسبيل سعادة الأمة وترقيها.
طلاء الوجوه
9
أول ما يلفت نظر باحثة مثلى عند زيارتها القاهرة كثرة وجود الخود البيض في شوارعها وطرقاتها ومنازلها. فيا ليت لي علم الغيب كلنا من جنس واحد؛ إما من سلالة العرب الفاتحين، أو من الفراعنة، والأولون والآخرون لم تؤثر عنهم الشقرة، ولم يأت في أوصافهم الصحيحة وتواريخهم ذكر لاشتداد حمرة الخدود وزيادة بياض الوجوه إلا ما كان مبالغة خيالاً في حبيبة أو حقيقة نادرة. فلماذا نجد نساء القاهرة كلهن شقرًا ونساء المدن الأخرى أقل بياضًا؟ أو لماذا نجد الدم ضاربًا في وجوه الحضريات قليلاً عند الفلاحات والبدويات مع إنهن دائمًا معرضات للشمس، تنقى الدم وتجدد الصحة. إن في الأمر لسرًا. نعم إن المسحوقات والمراهم وضروب الأصبغة تفعل بالوجوه فعالها “وهل يصلح العطار ما أفسد الدهر“؟
تزعم عاشقة الطلاء أن البياض حلية، ولكن هل تعتقد أن هذا الأبيض، الذي خيل لها أنه أبيض، يبقى إذا فرض أن خيالها صحيح. كلا إن هذا الأبيض الذي تتعمده وتجتهد في تنميقه لا يلبث أن يزرق فيصير وجهها بنفسجيًا. فهل سمعت في أشعار المتغزلين والمشببين أن الوجه البنفسجي من أمهات الجمال؟ وهل إذا لفح الحر الوجه المدهون فسال عليه العرق يخطط جداول وغدرانًا، وينقل من كحل المحاجر إلى صفحات الخدود، فيختلط الأسود والأحمر، هل يرى ذلك الوجه مشرقًا جذابًا؟ ولماذا تعد الشقرة خيرًا من السمرة، ألا تتساوى في ذاتها الألوان؟ إن مسألة اللون اعتيادية صرفة لا أثر لها من الصحة، فأنا أحب اللون الأخضر وجارتي تحب الأحمر. فهل تفضل إحدانا الأخرى من هذه الوجهة؟
إن هؤلاء السيدات يقلدن، ولكن تنقصهن ملكة الذوق في كثير مما يعملن، فإن الوجوه الشديدة البياض والحمرة يكون فيها دائمًا عينان زرقاوان وحاجبان أخطبان ويكسو رأسها شعر أشقر فتلائم بعضها بعضًا. أما نساؤنا فإنهن بينما يصبغن حواجبهن بالسواد الفاحم إلى نصف الأنف وأعينهن يكاد كحلها يخلق لها حاجبين آخرين تراهن بعد ذلك يصبغن وجوههن بالشقرة. فأين الذوق الحسن من هذا الترقيع الشائن؟
الوجه المدهون يضيع كثيرًا من معاني الجمال؛ فإن تأثرات النفس وطبائعها تنعكس على مرآة الوجه فتكسبه أثرهما فيما لا يمكن وصفه؛ في العينين وفي الفم وفي الابتسام وفي أسارير الوجه الصغيرة وفي الجلد نفسه أيضًا. ولكن الطلاء يظهر الوجه كأنه ليس فيه حياة، ويغطى جلده المملوء معنى وينزع بصاحبته إلى تصنع الحركات والسكنات، والتصنع يذهب بهجة الجمال. ولست مبالغة إن قلت إني أعد كل طالية وجهها تمثالاً من الرخام فإذا كان حافظ يعجب لصمت تماثيل الطليان فأنا أعجب لتكلم تماثيل المصريات.
لتقف سيدة من هؤلاء اللاتي يستعملن الطلاء بجانب تمثال من عرائس (ستين وكموان) ولتنظر في المرآة فتتحقق من حكمي عليها.
ضمني مجلس بصديقتين من المتعلمات المهدبات، وكنا ننتظر سيدة فرنسية أتت مصر لأول مرة لتسيح في الشرق وتخبر عادات أهله، فحضرت السيدة السائحة وأخذت تسألنا عن عاداتنا وأخلاقنا، وأظنها سرت بحديثنا، وإذ دخلت علينا زائرتان مصريتان (من قسم التماثيل) فبهتت السائحة وخجلنا نحن الثلاث لهذا المنظر غير الجميل، وبينما كانتا تتحدثان مع صاحبة المنزل بالعربية، والسائحة لا تفهمهما، كنت أسارقها النظر فأرادها تكاد تجهر بضحكة عالية احتقارًا واستهزاء من هاتين المرأتين. فيا ويحنا أما يكفينا أن يحكم علينا الغربيون بالجهل والتأخر حتى يروا ما يسجل علينا العار؟ وبعد أن خرجتا قامت السائحة وطفقت تقلد لنا حركاتهما، وتشمئز لذكر وجهيهما، ولم يسعن إلا موافقتها.
هذا الطلاء مضيع للجمال الحقيقي المعنوي والحسي أيضًا، فإنه يسمم الجلد ويسد مسامه ويجهد عضلات الوجه. فإذا استعملته سيدة وانقطعت عنه يومًا ظهر وجهها شاحبًا أصفر متغضنًا وتغور عيناها وتسود ولا حور. وعملية الطلاء هذه وبما تعذرت حينًا؛ فقد تمرض المرأة أو تتأخر فتفاجئها الزائرات. فماذا تعمل؟ أتقابلهن طبيعية أم تجبرهن ساعة على الانتظار ريثما تتم عملها الشاق؟
السيدة التي تغش زوجها يجب أن تحتقر، لأنها تزدري بصنع الخالق سبحانه، وتعمد إلى تغييره، ومن يزدرى بصنع الله كافر. لأنها تخدع الرائين والرائيات والخادع يجب أن يمتهن. لأنها تجنى على صحتها وتعجل الهرم لنفسها. فهي، إذن، لا تدرى النافع من الضار. ومن لا يعرف نفع نفسه من أذاها أبله لا يحترم. لأنها تجنى على الآداب فتجعل من نفسها قدوة فاسدة لبناتها.
وإذا كان الوجه الذي هو أظهر أعضاء البدن يعمد لغش الناس فيه فكيف بالضمير الخفي؟ إن الطالية وجهها ساقطة في رأيي. فلتغضب من هذا القول من كانت غاضبة فإنه لا يهمني رضا التماثيل.
ولولا تشجيع الرجال النساء في غرورهن لما تمادين فيه، فإن بعض الرجال يشترون بأنفسهم علب المسحوقات وأنواع المحسنات لنسائهم وبعضهم يتكدر عندما يرى امرأته في وجهها الأصلي وهيئتها البسيطة.
ألا يا نساءنا اتركن هذه العادة الذميمة. وإن كان لا يسليكن غير صناعة النقش بالألوان فأمامكن الورق، ليس أكثر منه،انقشن فيه صورًا ورسومًا تحلى جدران المنازل، واشكرن الله على نعمه الجزيلة، واعلمن أننا مصريات، فإن لم يكن في أجدادنا أصل العجمة فمن أين لنا هذا البياض الناصع والاحمرار الشديد؟ وما أحلى السمرة الجاذبة لو تفهمين معناها. إنها جميلة لأنها جميلة، ولأنها مصرية، ولو لم يكن فيها غير المصرية والطبيعة لكفي. وكل طبيعي جميل.
مبادئ النساء
المبدأ الأول: عدم الثقة بالزوج أو الغيرة العمياء.
۱۰
أول مبدأ تحفظه المرأة الجاهلة عند زواجها هو عدم الثقة بزوجها، مهما أكد لها براءته من تهمة الخيانة، ومهما كان الباعث له على تغيبه عن منزله، فتراها إذا ذهب زوجها لديوانه ودعاه صاحب له إلى الغداء معه فلم يؤب لمنزله إلا بعد، تراها تتكدر وتثور زوابع غضبها وتتهمه إما بزواج جديد أو بمصاحبة غير شرعية. تراها إذا دع للسهر مع إخوانه فتأخر قليلاً بالليل تسأله: أين كنت ولا تصدقه إذا قال الحقيقة. تراها إذا كان ممن ينتدب في تحقيق قضية أو البحث عن جناية وتغيب يومين أو ثلاثة تتهمه بالتغيب عند زوجته الثانية. فمبدأ عدم الثقة هذا بسبب ما تخافه المرأة، ويصير الخيال حقيقة، فيلتفت الزوج إلى ما تقول امرأته، ولا يلبث أن يتزوج أو يخال، لأنها علمته أن هذا الأمر مستطاع له، وسهلته على أذنيه وروحه بكثرة ذكره له، وشدة الضغط تحدث الانفجار.
إذا ركز هذا الأساس في رأس الزوجة نغصت عيشها وعيش قرينها، لأن السعادة والشقاء وهميان، فإذا تخيلت أني سعيدة أنبسط أمامي الكون، ووجدت مخرجًا من المضايق التي تعترضني، ووجدت من ثقتي بنفسي واعتدادی بسعادتي سعادة حقيقية, وصرفت الأمور على قاعدة أن أكون دائمًا جذلة، وإذا انقلب الأمر رأيت كل حادث هين جالبًا للشقاء. وهذا مشاهد في النساء، لاسيما الجاهلات، لأن اعتقادهن في أي شيء لا يتزعزع حتى ولو سطع أمامهن برهان يكذب ما يعتقدن، ولأن أعصابهن أسرع تأثرًا وأنفسهن أكثر انفعالاً منها عند الرجال .
وقد يتفق أن يرى الإنسان سيدة دائمة الحزن مقطبة الجبين بلا مسوغ، وأخرى دائمًا جذلة وكل ما حولها مثبط للهمة مزعج، فأي الأسباب عكس كل قضية إلى ضدها؟ إنه هر الاعتقاد والنفس.
وإذا فقدت المرأة الثقة في قرينها فقد يفقدها هو أيضًا منها، فيالهول تلك العيشة المنكرة. مرتبطان اسمًا منفصلان معنى، والنساء الملتفات حول الزوجة يزدنها كرهًا له بأن يزعمن أنهن رأين خليلته أو زوجته الأخرى، وينهبن الزوجة الساذجة ويطمعنها في أن ما يأخذنه منها هو لنكاية عدوتها، وسلاحهن الوحيد هو السحر. فياضعف السلاح والمقاتل. لماذا تعتقد المرأة دائمًا أن الرجل ليس مخلصًا لها الود كما هي مخلصة له؟ إنها ولا شك مخطئة في ذلك التقدير إلا إذا رأت بعينها ما يثبته. وما يجسم لها خيالها لسانها الذي لا يفتأ يقلب للزوج مواضيع لم تكن لتخطر له، فهي تعيدها صباح مساء، وتقوم معها وتنام، تحلم بها وتأكل، وهي من جوارشها (أي مشهياتها للطعام) فيتضايق الزوج لأن الموضوع في ذاته ثقيل، ثم هو مكرر ومعاد مرارًا، والشيء حتى الجميل إذا کرر مرارًا ضاعت طلاوته، وذهب رونقه، فما بالك بهذه التهمة الشنيعة وفقدان الثقة. إذا تضايق الزوج من هذا الحديث، وبلغت روحه التراقي، ولم يفلح في إثبات براءته وإخلاصه لزوجته، لم يجد أمامه إلا أحد طريقين؛ إما أن يكثر من مجالستها ويستغنى عن رأسه وأذنيه، وإما أن يهيم حيث لا مضايق وحيث يبجل مع إخوانه ويتبادل معهم أطايب الحديث، ولكن يستعد لسماع قوارص الكلام كلها ليلاً عند أوبته لمنزله. فبحق الألفة والسعادة هل يعد ذلك عيشًا؟
هل علمت سبب تلك الوساوس؟ نعم هي الغيرة العمياء.
الغيرة القليلة ممدوحة، لأنها تدل على حب الشخص للآخر وعلى اهتمامه به، فإذا رأت سيدة بعلها غير مستقيم السيرة وتأكدت ذلك من طريق الصدق لا من شياطينها وأعوانها ولم تغر عليه، فإنها لا إحساس لها والحجر أقرب للتأثر عنها. وأما إذا استعملت الغيرة في غير موضعها فإنها تشقي نفسها وتشقى زوجها وتشقى أهله وأهلها.
هل يجسر بعل يومًا أن يكلم عجوزًا أو يضاحك طفلة أمام زوجته الجاهلة؟ وهل إذا قصدته أرملة في إنجاز عمل لها، لم تجد أكفا منه في القيام به، هل تغفر له زوجته هذا الخطأ العظيم في مكالمة الأجنبية عنه؟
يجب أن لا يجعل محل للريب، إذا رؤيت الريبة رأي العين. قد تحمل الرجل سلامة نيته على أن يبوح لامرأته ببعض ما رآه في صباه، أو أن يصف لها ملاهي باريس وغيرها من البلاد، التي ربما كان ساح بها قبل زواجه، فيلاحظ وهو يقص الحديث أنها تتغير، أو تسأله عدم تكملته، ولكن هل تغارين أيضًا من الماضي أيتها السيدة وقد ابتدأ وانتهي قبل تعرفك بهذا الزوج الشقي؟
والسيدات يملن دائمًا لفتح مثل هذا الحديث، وليس عندهن أرقى منه طبعًا، فتجتهد كل واحدة في إظهار المساوئ التي تسمع بها أو تخترعها عن زوج صديقتها،وتظن ذلك خدمة لها، لأنها توقفها على مبلغ إخلاص زوجها لها، فإذا فرض وكانت هذه المساوئ حقيقية، فإن تلك الصديقة الجاهلة تضر صديقتها من حيث تريد لها النفع، وتسبب شقاء أسرة بأكملها، وإذا كانت اختراعًا وافتراء على رجل بريء فما كان أجدر هذه الصديقة بضبط لسانها، وهو لا يكلفها أكثر من إطباق فكيها.
وقد شوهد كثيرًا أن اختلافات وخصومات جناها أرباب الأسر المتفقة المتحابة من أمثال هؤلاء الواشيات، فإذا علم الزوج أن امرأة صاحبه، أو أمه، أو قريبته، هي التي غيرت عليه زوجته، واكفهر من غيم حديثها جو سعادته ووفاقها، لا يسعه، وهو مصيب، إلا أن يأمر ذلك الصاحب بحجز تلك المنتمية إليه عن الإيقاع به، وعن الدخول إلى منزله فتؤلم هذه الإهانة صاحبه وتوجعه، وربما بتت بينهما حبل الوداد.
الثقة ما أحلاها بين الزوجين، حتى وإن كانت على غير أساس، لأن الزوجة إذا تحققت انحراف زوجها عن الصراط السوي فلتنبهه أولاً باللطف والمحاسنة، فإذا لم تفلح ملاينتها فماذا تعمل؟ إما أن تبقى معه إن كانت ترجو عيشه وتؤمل تحسنه، وإما أن تنفصل عنه وهذه إحدى الكبر. فإذا فضلت معاشرته بسبب حبها له، أو لارتباطهما بأولاد، أو لانقطاعها من الأهل والأخوة، فأولى لها وقد تحتم عيشها معه أن تفرض أنه مخلص لها، وأنه لا يتغيب إلا لأشغال نافعة لمستقبلها ومستقبل أولادها، وأنا على يقين أن هذا الفرض متيسر وسهل جدًا لمن تبغيه وجالب لطمأنينة وهدوء بال لا يفرقان كثيرًا عن مثلهما الصحيحين.
مبادئ النساء
بغض أقارب الزوج أو الأثرة.
المبدأ الثاني
۱۱
مما يطرب له النساء أن يكون أزواجهن لا أهل لهم. فترى الخاطبة أول ما تذكر حسنة للشاب الراغب في الزواج، سيان صدقت أو كذبت، أنه لا أهل له، وتبالغ بقولها “إنه مقطوع من شجرة“. معاذ الله أيجب أن تفنى أسرة بأكملها ليتزوج منها فردًا والإنسان مدني بالطبع فالاجتماع بالغير لا مندوحة عنه والاحتياج المخالطة ضربة لازب. والمرأة تميل للاستئناس كما يميل الرجل، وتعتز بالأهل كما يعتز هو، وتدرك معنى القرابة والصلة. إذن، فماذا يجعل المرأة تحترم هذا المبدأ فتاة وتتجاهله زوجة؟! أو لماذا هي تحب أقارب نفسها وتبغض أقارب الزوج وتحمله أيضًا على مجاراتها؟! إن هي إلا الأثرة أو التنازع على السلطة. الزوجة تريد أن تكون حاكمة بأمرها، مطلقة التصرف في شيئين عزيزين عليها؛ قلب الرجل والبيت. فإذا كانت وحدها لا يعيش معها من أهل زوجها أحد ظنت أنها نالتهما، أما إذا عاشرتها حماة أو أخت لزوجها أو ابنة له من غيرها فهناك تنازع البقاء والبغض الذي لا نهاية له. كل تريد أن تتأثر بالسلطة على المملكتين، وتجتهد في الفوز بقلب الرجل أولاً، فإذا ما وفقت له نالت الأخرى بغير كبير عناء. ولا تخلو إحدى المتنازعتين من خطأ وصواب، إذ لا يمكن أن تكون الواحدة على خطأ محض، والأخرى على صواب صراح، ولو علمنا لرضيت كل منهما بقسمها من حب الرجل. فالحب البنوي غير الحب الزوجي، وإذا ابتغت امرأة أن تغير على الاثنين كانت مخطئة وتعدت ما وراء حدها.
إذا أرادت الزوجة أن لا يحب زوجها أمه ولا يحترمها ولا يتكفل بلوازمها وهي محتاجة إليه فقد أثمت. وكذلك أمه إذا حدث زوجة ابنها على ابتسامة ألقاها عليها زوجها، أو تغشمرت، وأرادت أن تجعلها كالصنم لا رأي لها بينهما، فهي أيضا قد تناهت في الظلم والقسوة.
نساء اليوم غير نساء الأمس، وأذواقهن تختلف باختلاف الزمن، ولكن إذا تحتم أن تعيش فتاة الجيل الجديد مع حماتها ذات الفكر القديم فما العمل؟ المخاصمة والمعاندة لا تجديان نفعًا، فضلاً عن أنهما من صفات الطبقة الدنيا. أما النساء المهذبات فلا يبعد أن يختلفن في الرأي، ولكنهن يصرفن الخلاف حالاً، ولم تسمع واحدة من الأخرى ما يغيرها عليها.
التساهل أول ما تجب مراعاته في الأسرة، واللطف أجمل صفات المرأة. ترى الزوجة وضع هذا الشيء على اليمين وترى حماتها وضعه على الشمال، فلتتساهل الزوجة، فإنها أصغر سنًا، ولتبين آراءها فيما تختار بلطف وتواضع، واللين كفيل بتسوية الخلاف. أما إذا تشبثت وأظهرت كبرياء المتمدنات وأصغرت حنكة حماتها وتجاربها بجانب تمدينها الحديث، فربما وصل الأمر إلى أوخم العواقب. وأصعب قضية يحكم فيها الرجل هي التي بين أمه وزوجه، لأنه إذا أرضي أحد الخصمين أغضب الآخر، وأمامه أم واحدة، أما النساء فغير زوجته كثيرات، فتدور الدائرة في الغالب على الزوجة، ولو كان رأيها صوابًا.
الزوجة التي أول ما تدخل البيت تفرق بين أعضائه المتحابين المربوطين بصلة الأمومة والأخوة شيطان رجيم. يجب عليها أن تتذكر أنها لم تأت إلا من قريب أما هؤلاء الذين معه فمنهم من ربته وتعبت فيه إلى أن صيرته رجلاً، ومنهم من يفضله على نفسه ويفديه بما يعز وأحدث واحد فيهم أقدم منها حبًا له وارتباطًا به. والغريب أن كل امرأة من هؤلاء العجائز كانت تكره حماتها وتريد أن تحبها امرأة ابنها، ولكن الجزاء الحق من جنس العمل.
وإذا سألت الأولاد وجدت أغلبهم يحبون أبناء أخوالهم أشد مما يحبون أولاد عمهم، وهذا ناشيء، ولا شك، عن حب أمهم لأقاربها وبغضها لأقارب زوجها، على أنهم بعيدون عنها ولا ينازعونها السلطة التي تخاف عليها، ولكن كره واحدة سرى في جميع من ينتمون إليها، فالزوجة تكرههم بحق أو بغير حق. فضلاً عن أن أهل الزوج يحبون الرقابة على امرأة قريبهم، وقد ذكرنا أنها عدوة الرقابة والتقييد ومبادئها استقلالية مطلقة. على أني لا أفهم كيف تزعم المرأة أنها تحب زوجها ثم هي تبعض أقاربه؟! إن هذا تناقض غريب. فإذا كان ادعاؤها هذا حقيقة وجب أن نحبهم وتحتمل من أجله كل صعب مهما كلفها ذلك الاحتمال.
تنازع الرئاسة على البيت أحد سببي البغض، والسبب الآخر تنازع الرئاسة أيضًا ولكن على قلب الرجل. إلا فلتطب نفسًا كل امرأة غيور فإن حب الزوجة المكتسب الظاهر غير حب الأهل الغريزي الدفين. كل له صفة خاصة به تجعله لا يقل أهمية عن الآخر، وهما مختلفان لا تدل كثيرة أحدهما على قلة الآخر، فهما منفصلان تمام الانفصال.
فالزوجات المتخمدينات يجب أن يخفضن قليلاً من غلوائهن ولا يبخلن على الحاكمة القديمة في البيت بشيء من السلطة، لأن من تعود الحكم صعب عليه أن ينزع منه، وأمهات الأزواج أولى لهن أن لا يتشبثن كثيرًا بآرائهن العتيقة، فكل زمن يقتضى إصلاحًا مغايرًا لما قبله، والصلاة والصيام خير لهن من إلقاء مسؤولية البيت وتربية الأولاد على عواتقهن، لأنهما مريحان في الدنيا مكسبان أجرًا في الآخرة والسلام.
مبادئ النساء
المباراة والإسراف
المبدأ الثالث
۱۲
يمتاز الجيل السابق على أخيه الحالي بقلة اللزوميات، ورخص أسباب المعيشة،كذلك له ميزة أخرى، لا أعرف ألاحظها الجمهور أم لم يلاحظها، وهي لزوم كل طبقة عن الناس حدها من جهة الغني والفقر، فلم يكن الفقير ليستنكف من خصاصته، ولم يكن المتوسط يقلد الأوسع رزقًا، والأعظم جاهًا، كما نفعل نحن الآن. ولعل السبب الأصلي في ذلك هو نقص الحرية من أخلاقهم وتأثير شدة الضغط عليهم.
نفقات الأسرة اليوم كثيرة في ذاتها لتعدد الحاجات وغلائها، كثيرة جدًا لأننا نتأنق في الكماليات الزائدة، ونحاكي الغير فيها ممن هم أوسع ثروة وأفخم مظهرًا، ولا مبرر لنا في ذلك إلا الحرية الشخصية وحب التقليد. أما الحرية فنعمة من الله ورحمة، وأما التقليد إلى هذه الدرجة: درجة التلف، فليس من العقل في شيء اللهم إلا إذا ابتغينا به تأیید مذهب دارون في النشوء والارتقاء، ولا أخالنا نبغي التسجيل على أنفسنا بأننا وحدنا من سلالة القرود.
إذا استثنينا الطبقة السفلي من النساء، فإننا نكاد نرى الباقي من الوسط والثريات شبيهات في الملبس والزينة، تضارع الواحدة الأخرى في عدد الخدم وكمية الأثاث ونوعه. فهل يمكن أن نكون كلنا في درجة متساوية من الغني؟ هذا يستحيل. وإذا لم نكن متساويات في ماليتنا فمن أين نسد هذا العجز في النفقة عن الإيراد؟ جواب صغير: مفهوم: من الرجل أبًا وزوجًا.
إذا تزوجت الواحدة منا كلفت أباها مالا طاقة له به كي لا ينقص جهازها عن فلانة جارتها أو قريبتها، فإذا قدر فنعم القادر لا انتقاد عليه، ولكن إذا عجز فمن خرق الرأي أن يستدين ليكسب فخرًا كاذبًا أطول مدته يومان. وإذا تزوجت لم تشأ أن ترى صاحبتها تشترى عشرة أثواب وهي لا تشترى إلا أربعة مثلاً، وكيف تجد عند جارتها خمس خادمات فيهن الأوربيات وليس في بيتها إلا واحدة مصرية وهي تكفيه. فهي دائمًا تزن نفسها بميزان الغير، لا تفتأ تقلده مهما فعل، فإذا لم يكن لها ميراث رفيع خاص بها يصرف في مآربها فإن هذا يحمله الزوج المسكين ولا راحم له. يصرف دخله كله، وفي الغالب لا يكون له إلا جعالته الشهرية دخلاً، ويحمد الله إذا لم يستدن على حساب الشهر التالي، فإذا فصل من الوظيفة أو لحقه ما يستلزم النفقة كالهرم أو المرض لم يجد شيئا يعتمد عليه إلا رحمة رب العالمين.
علة المباراة الحقيقية هي الحسد، يأكل القلب ويكثر الهم، فلا تطيق صاحبته أن ترى أجمل منها هيئة أو أغنى مظهرًا، ويهتم في أن تكون هي المشار إليها بالبنان في المجالس، ويسكرها الطرب إذا ذكر غناها واقتدارها على اقتناء العربات الجميلة والخدم الكثير، وبعضهن تبيع حليها أو شيئًا من أملاكها لتشتري سيارة ( أوتوموبيلاً) أو لتسافر إلى أوربا, لا لأنها تحب السياحة أو تستفيد من الأسفار، ولكن لأن غيرها فعلت ذلك. ولو تأملنا لرأينا أن الإنسان مهما حاول أن يجعل نفسه الأول في صفة ما فإنه لا يلبث أن يرى أعلى منه وأمكن في تلك الصفة بعينها. تبذل سيدة كثيرًا من مالها ووقتها للتفتيش عن أجمل عقد في القاهرة فتجده، ولكن لا تدوم أوليتها به أكثر من أن ترى أخرى عليها عقد أنفس أتت به من الآستانة أو باريس مثلا، وإذا تطلع المرء لغيره لم يقتنع قط بما عنده.
أرى أنه لا يجمل بالسيدة العاقلة أن يستحكم منها داء التقليد، لأنه يدل على صغر النفس والإحساس بصغرها (وإذا ذممت المحاكاة هنا فإني لا أقصد المعتدلة منها، فقد تكون لازمة أحيانا، وإنما أذم المتطرفة ولذلك وصفتها بلفظة داء).
وإذا كنت بارعة رشيدة فلماذا لا أبتكر في ملبسي ومنزلى ما جعل غيرى من النساء يقلدنني فيه بدل أن أجرى دائمًا وراء ما يفعلون؟
يقول الحديث الشريف: “الناس بخير ما تباينوا” وهي حكمة بالغة، أو هي كل نواميس العمران ولباب نظامات الاجتماع، وإذا كد الاقتصاديون أذهانهم وألهب الاجتماعيون أدمغتهم يستبطون القوانين ويسنون النظامات لصالح بني البشر فلن يأتوا بأجمع للحكمة، ولا أدعى لسير هذا العالم سيرًا آليا منتظمًا (ميكانيكيًا) أحسن من هذا الحديث على إيجازه. وعليه فلا يمكن أن يتساوى البشر، ولا يمكن، مع الأسف، أن نكون كلنا غنيات. نحن نريد أن نظهر كلنا بمظهر الموسرات ” وهل بالفقر من عاب” ؟
الفقر وحده لا ينزل الإنسان من رفعته، فالاعتبار بالنفس والفضائل لا باليسر وعدمه. ماذا يضر المجتمع الإنساني إذا كنت أفقر من صاحبتي أو كانت هي أفقر منی؟ بل ماذا تفيد محاكاتي لها إذا كنت لا أستطيعها بمعناها الصحيح؟ هي تقدر أن تتجمل بالثياب الحريرية والماس الكثير من مالها وفضل الغنى عليها، ولكني قصيرة اليد عن الإتيان بمثل ما عندها. أفليست القناعة، إذن، خير ذخيرة للقاصرات ؟
وقد تكون امرأة مثرية جميلة الملبس يعجبك منزلها ويبهرك أثاثها، وتكون مع ذلك شحيحة لا ينال العاجزين نفعها، أو تكون فظة سيئة العشرة. وتكون أخرى غير جمة المال، ولكنها جمة الفضائل محسنة على المعوزين. فأي الثنتين أنفع للإنسانية وأولى بالدعاء؟ أعجب لنا لماذا نتبارى فيما لا يفيد ونترك النافع من الأمور؟!
المباراة تستدعي الإسراف. والإسراف يعجز مالية الزوج ويثقل كاهله بالديون, والمرأة التي تضطر زوجها ليصرف عليها أكثر مما يستطيع لا تخلو من أحد باعثين؛ إما أن تكون تفعل ما تفعل غير عالمة بعواقب التبذير، فهي، إذن، كثيرة الشطط جاهلة لا تصح أن تكون مديرة للبيت وللأسرة. وإما أن تكون عاملة بمصير مالية الزوج وتفعل ذلك مختارة، كما يفعل كثيرات كي لا يوفرن للرجل ما يمكن أن يتخذه في يوم من الأيام مهراً لحليلة جديدة أو خليلة عنيدة. فهي مزعزعة اليقين كثيرة الشك تقدر البلاء قبل نزوله ولا بلاء إلا التزوج بمثلها.
وأكثر ما تنزع المرأة للإسراف في مال الزوج إذا كان لها ضرة تقتسم معها فؤاد الزوج وماله، فإنها تصرف بحساب وبغير حساب كي لا يجد ما يقوم بمصروفات ضرتها، أو كي تنتقم منه لنفسها ليعجز عن الجمع بين اثنتين، ويندم، وتحسب أن عجزه وندمه يجعلانه يكتفى بها وحدها، ولكن ما أدراها أنه إذا أراد حذف إحدى الثنتين من جدول نسائه لعلها هي تكون المحذوفة الخاسرة.
وعلى ذكر التصرف بمال الزوج أصرح باستهجان عادة التوفير السري الذي يأتيه كثير من النساء ويحسبن ذلك محمدة؛ فيشترين بما يوفرن حليًا ولباسًا ويزعمن أن أهلهن آتو به لهن، أو يصرفنه في السحر والخراف. وفي ذلك منقصتان؛ نقيصة الكذب ونقيصة السرقة، وأسميها سرقة لأنها لا تفرق عن سرقة اللصوص البتة, وربما كانت الأخيرة أخف من الأولى لأن اللصوص فضلاً عن كونهم غرباء عن المسروق منه فإنه قد يعثر بهم فيعاقبهم، أو على الأقل لا يهتدي إليهم، ولكن يدري أنه فقد شيئا، أما السرقة الأخرى فإنها من أقرب الناس إليه وألصقهم به ثم هو جاهل بالمرة قد لا يهجس بها. فإذا وفرت المرأة شيئًا فإن ذلك يعد مهارة لها واقتدارًا، ولكن لتريه لزوجها فيعطيها إياه عن طيب خاطر وسماح، فذلك أهنا لها وأشرف .
والخلاصة. أن الغنى ليس متيسرًا لكل فرد فأولى أن يلزم كل حده لئلا يكون مثلنا كمثل الضفدع التي أحبت أن تبلغ كبر الثور فاستعانت بالماء فانفجر جوفها فماتت. ولتعلم المرأة أنها وكيلة الزوج في ماله وبيته، والوكيل يجب أن يكون أمينًا تقيًا، وأن التكالب على المباراة صفة مصغرة للنفس، وإني لأزعم أن رجالنا وأبناءنا يقل فيهم الباحث ويندر المخترع، أو لا يكاد يوجد، لأننا متشبعات بحب التقليد لا تتجدد همتنا بالبحث والاستنباط فيكون لهم من زوجيتنا وأمومتنا محك لأفكارهم أو أسوة ومثال حسن.
مبادئ النساء
سرعة الغضب والتهديد بالفراق .
المبدأ الرابع
13
اتحاد الزوجين وارتباطهما بالحب الصادق هما السعادة الكبرى، التي تفتقدها، والتي لا غنى لأحد المتزوجين عنها، ولو رأى سعادة أخرى في غير ذلك. فالممول الذي يحسب نفسه سعيدًا إذا أحرز الملايين، والعالم الذي يغبط نفسه إذا اشتهرت تعاليمه، والسيدة التي ترى هناءها في اقتناء النفائس، كل هؤلاء مع فرحهم بما وفقوا إليه لا يستغنون عن تلك المحبة الزوجية، ولا يستكملون سعادتهم وهي ناقصة، لأن الإنسان مهما قويت إرادته لا يستطيع أن يتفرغ لأعماله ويفكر وعنده شاغل يزعجه. ولشد ما يقاسى أحد الزوجين من تنغيص الآخر له.
ومن أكبر دواعي الكدر والتنغيص أن تنفعل الزوجة لأقل كلمة وترجع إلى قومها غضبي آسفة.
عادة التهديد بالفراق شائعة عندنا شيوعًا هائلاً مستهان بها كثيرًا. فكما ترى الرجل يحلف بالطلاق لغير داع كذلك ترى المرأة تنهزم من بيت زوجها لأوهى الأسباب. يهدد بعضهما البعض بالانفصال في عرض كلامهما, يريد أحدهما بذلك بث خوف الفراق في نفس الآخر ليخشاه. وما من زوجين مرتبطين برابطة ما إلا ويخشيانه، ولكن فاتهما أن ذكره ساعة الغضب مما يثير العواطف ويعلو بالنفس إلى سماء عزتها. وكيف يرضى إباء المهدد وغيظه محتدم أن لا يطلب ما يهدد به ويستخف بالعقاب، وإن عظم، فينسى الحقيقة والصالح، ويدوس العقبى، تفاديًا من ضيم نفسه المثارة الهائجة. ولا يشجع النفس الجائشة أكثر من تذكيرها بالخوف، كالجند إذا صح عزمها على القتال، وكانت على حق منه، تراها أكثر ما ترمي بنفسها في حلق الموت حينما ترى نار الحرب مستعرة متأججة. فشدة الموقف تذهب الخوف وتبعث على الإقدام. والغضب كذلك إذا أرخى له العنان ملك صاحبه، ورمى به إلى حيث لم يقدر وهو حليم، والمرأة التي تتغنى دائمًا بذكر الفراق لأقل خلاف يحدث بينها وبين حليلها، أو بينها وبين أهله، قد لا تأمن أن يصدر عليها حكم الفراق المؤبد من زوجها ساعة الغضب، وهي لم تكن لتعضده بالجد وإنما كان هزلاً وعادة مستقبحة. سمعت أن إحدى السيدات كانت تطلب الفراق من قرينها كلما شجر بينهما خلاف بسيط، أو كلما كدرتها حماتها، وقد تشبثت بذلك الطلب مرة وألحت فيه وألحفت, فسألها الزوج هل تبغي الطلاق حقيقة، فأجابت نعم، فلم يسعه إلا أن أخذها إلى القاضي ليترافعا إليه ويتخاصما، وبعد أسئلة وأجوبة رأى القاضي أنها مصرة على تنفيذ رغبتها فأصدر حكمة بالطلاق، ولم يكد يتم كلمته حتى صرخت وأعولت وندمت على ما جنت، ثم طلبت أن ترد إلى زوجها ثانية. فما هذا التناقض واللعب؟! إن هذه المرأة مثلها كثيرات يجنين على أنفسهن وأولادهن، ويبعثرن أسرًا كانت ملتئمة لولا الحمق واللين. إذا تعسر عيش المرأة مع زوجها صافيًا تعذر إذا طلبت الفراق، وأما إذا كان ذلك تجنيًا ومزاحا فالزوجة أحكم من أن تفصم عراها في التجني والمزاح .
الوالدان أو الأهل لا يزوجون بنتهم إلا وهم راسمون لها خطة سعادتها المستقبلة, ومقتنعون بها ومقررون هدوء بالهم من جهتها، فما أحراها أن تحقق ما يرجون، وهي بزواجها قد انتقلت بالطبع إلى دار غير دارهم، وعش لم تدرج فيه من قبل، فكان الواجب بطبيعة الحال أن تخفف مسئوليتها كثيرًا عن عاتقهم، أما وهي تشكو لهم مما لا يوجب الشكوى فإنها تبدل صفاءهم كدرًا وتأتي بعكس ما كانوا ينتظرون.
يجب أن نقرن رقة شعورنا وسرعة تأثرنا بفضيلتي الصبر والحلم، لأننا في منازلنا بين استقبال الزائرات وزيارتهن وترتيب الأواني وجلائها، ولعب الأطفال والذهاب من اليمين إلى الشمال، والاضطجاع على الفراش الوثير، من مزركش وحرير، لا ندري ما يكابده الرجل من الآلام من تعنت الرؤساء, وما يقاسيه من العذاب في غلاء المأكل والشراب. ربما كد فكره وأنهك قواه ولم يصادفه التوفيق واخطأه الرزق وهو لو لم يكن له إلا نفسه فقط لرضى باليسير، ولكن ماذا يفعل ووراءه أم وأولاد, أو قلب وأكباد, أيتركهم يتضورون جوعًا وهم لم يألفوا إلا الرخاء؟ أفمن كانت هذه حاله يشتغل ليحفظنا ويتعب ليريحنا يصح أن نقابله بالعبوس والغضب إذا ما بدا متأففًا يومًا من طول إعمال الفكرة أو من شدة النصب ؟!
كل شريكين قد يختلفان اختلافات بسيطة ولكنهما لا يذيعانها. ومن أحق بكتمان السر من شريكي الحياة؛ أعنى الزوجين. والحازم من لا يجعل للاختلاف الصغير محلاً من اهتمامه، بل يزيله بمجرد الفراغ من التكلم فيه، فإذا ما اختلف زوجان أديبان في تقدير حسنات الشاعر الفلاني، أو تفضيل هذا المذهب على ذاك، واحتدم بينهما الجدال وبدرت من أحدهما كلمة شديدة للآخر، أفيغضبان ويسببان الفراق لأجل ذاك الشاعر، او ذلك الحكيم صاحب المذهب، وهما لا يدريان كما قال أبو الطيب المتنبي:
أنام ملء جفوني عن شواردها…… ويسهر الخلق جراها ويختصم
بقيت لي كلمة عن هؤلاء اللاتي يغضبن ليقبضن ما يبقى لهن من الصداق عند أزواجهن، وهي عبارة شائعة كثيرًا عند بعض الطبقات. أما قبحها فجلي لأن المرأة بذلك تبرهن على أنها تقدر النقود أكثر من الحياة والسعادة، وهذا جشع لا يليق إلا بالمرابين ومهووسي المال، والمرأة يجب أن تكون ملك اللطف ومثال الرقة والنزاهة. وبعضهن يتذرعن بالغضب والاحتماء بالأهل ليصالحن الرجل، والعادة أن يصالح الرجل زوجه بقطعة حلى وثياب كثيرة. فما أسخف هذه العقول تفدى المرأة راحتها وهناءها وسعادة أولادها بذلك المتاع الفاني.
وقد تغضب المرأة أيضًا لتجرب محبة زوجها لها، وترى من آيات الود شيئًا جديدًا، ولكنها في غنى عن هذه المخاطرة والتجربة الصعبة، لأنها تعلم مبلغ حبه لها من أحواله معها.
المنزل لا بهاء له إلا بالمرأة، كما أن قوامه الرجل، فترك المرأة بيتها يمسخ ذلك الهناء المرفرف عليه، ويسبب حزن الأولاد وانقباضهم، كما أنه يتلف وتعبث به أيدي الخدم فيخسر الرجل خسارة مضاعفة.
طريق الكذب والتمويه هذه وعرة المسالك، غير مأمونة دائما، فإما أن تقرر المرأة أنها تعيش مع زوجها وتشاركه السراء والضراء فتحتمله ولا تحنق عليه لصغير الهفوات، فلا يلبث أن يندم إذا كان أساءها، ويعتذر لها، ويغفر أحدهما غلط الآخر، ويزيلان أثر كل خلاف بينهما، فيعيشان سعيدين، ويتحتم على الزوجة، إذن، أن لا تسرع الخطو نحو منزل أهلها، بل تظل في منزلها تديره. وإما أن تغضب وترجع لأهلها حين ترى أن لا خير في البقاء مع رجل فظ سيء الأخلاق فتفارقه إلى الأبد، ولا تعود ترى وجهه البتة. أما الذهاب والإياب فأعده طيشًا لا يليق بعاقلة مهذبة تعلم عواقب الأمور.
مساوىء الرجال
الطمع
14
أريد مما كتبت، وما أكتب في الجريدة بعنوان النسائيات، تخفيف ويلات الزواج على قدر الإمكان. وقد بينت في مقالاتي السابقة ما يرجع منها إلى المرأة، واليوم أراني مضطرة لأن أكتب عن الرجل لأنه أحد طرفي الزواج، لأنه كثيرًا ما يظلم ويطغى. ولست أقصد كل رجل على الإطلاق، كما أني لم أكن أقصد كل امرأة، وإنما الكلام على من فسدت أخلاقهم (وهم مع الأسف كثيرون) فسببوا شقاء النساء وهدموا بناء الزوجية.
انقلبت الحال وصارت الفتاة بائرة في سوق الزواج إلا إذا شفع لها غناها. عكست آية الإسلام واستبدلت بها عادة لم تأت في شرائع النصارى ولا اليهود وإنما اتبعوها بدعة وضلالاً.
ازداد طمع الرجل فملك عليه حواسه، فصار ينام يحلم بالمال، ويقوم يشتغل له، ولا عيب عليه في ذلك، وإنما الذي يعيبه إنه زادت خميرة جشعه فحمض ذوقه واستحكم منه الطمع في كل شيء حتى في عروسه!
” ماذا عندها “؟ كلمتان ألفناهما وهما أول ما يفتح به للخاطب، وقد لا يسأل غير هذا السؤال. فأبو العروس الذهب وأمها الفضة وأخلاقها النحاس وسمعتها الطين ومعارفها العقار. متى وجد المال صحت المصاهرة ولزم الزواج، وإلا فتبقى الفتاة إلى أن تسن وتدفن معها طيبة قلبها وحسن عشرتها وقدرتها على تربية أولاد بررة ربما كانوا، لو ظهروا في العالم، نافعين.
يلبث إعجاب الرجل بزوجه وغناها قليلاً، ثم يتحول إلى استبداد واغتصاب، فيجبرها على أن توكله على مالها توكيلاً شرعيًا ليتصرف فيه على هواه، فيبدده على ملاهيه وخليلاته، أو يتذرع به للظهور في مظهر الموسرين. ورب معترض يقول لماذا تستحل المرأة مال الرجل وتحرم مالها عليه؟ فهل فاته أن الرجل مكلف شرعًا بالإنفاق على زوجته وعياله أما المرأة فلا ؟اللهم إن كان محتاجًا وعند المرأة فضل، فليس من المروءة ولا الحنان أن تتركه يقترض من غيره ولا تعطيه هي مما عندها وتعتبره شريكًا لها في كل شيء على أن ذلك تكرم منها لا تجبر عليه، فإذا سمحت أعطت وإن شاءت منعت. كذلك إذا تزوجت المرأة من رجل كان يكفي بيته ثم عضه الدهر فأعسر فلا أدبيًا ولا اجتماعيًا أن تتخلى عنه وقت عسره أو تبخل عليه بمالها، إذ هما شريكان في السراء والضراء، فضلاً عن أنها لو لم تكن ذات مال لوجب عليها أن تساعده بما تستطيع فيما لا يتعدى الشرف. فمساعدة المرأة للرجل بالمال واجبة إذا أعسر بعد يسر اشتركت فيه معه، بشرط أن تكون تلك المساعدة في غير ضرر عليها أو إفساد له. أما إذا كان ممن يلعبون الميسر، أو ممن يقضون حياتهم بين القناني والقيان، فأحر بزوجته أن لا تقرضه فلسًا واحدًا.
وهناك آخرون تحل له أخلاقهم أن يجازوا الإحسان بالإساءة، فبعد أن يبددوا ثروة نسائهم ويلحق أصفرها أبيضها يكافئونها بضرة جديدة وبئس الجزاء!
مال المرأة يجب أن يبقى لها ولكمالياتها وترفها، وهو على أي حال يوفر على الرجل بعض النفقة. وإذا اتحدا ولم يتفارقا فالمال باق لأولادهما فأي ضرر عليه في ذلك؟ وهل الأنفع له أن يبدده ويحتاج لغيره أو أن يوفره فيجده كنزًا لم يتعب في الحصول عليه؟ وهي إذا وفي لها وأيقنت بحسن نيته لا تضن عليه بروحها فضلاً عن بعض مال سيفنى وتأتي عليه الغير.
لا أعد الرجل ذا مروءة ونخوة وهو يبيع حلى امرأته ويجردها حتى في حال عسره. لأنه لا معنى لرجوليته ووصفه نفسه بالقوة والنشاط مع اعتكافه على الكسل. ولماذا لا ينقب له عن عمل يرتزق منه، وهو لا يمنعه عن الارتزاق مانع إلا أنه وكل؟ لا يعذر الرجل على مد يده لمال زوجه إلا إذا كان له من ضعفه وعدم اقتداره على العمل مبرر.
على أن هذه المسألة من التعقيد بحيث يسهل عندها ذنب الضب. فإن بعض النساء يهددن بالفراق إذا لم يعطين أزواجهن ما يطلبون ويذكر لهن الزواج إرهابًا، فأي الأمرين تختار المرأة البائسة. لاشك أن إعطاءها المال أهون الشرين، ولكن أتأمن غدره بعد أن أظهر لها أنه قادر على إتيانه في أي لحظة وهي لا تعلم؟ اللهم أن رجلاً هذه أخلاقه مع زوجه وهذا مبلغ جشعه لخليق بأن يفارق. ولكن المداراة مما أوصى به النبي صلى الله عليه وسلم. فلتداره ما أمكن فذلك خير لهما من الخلاف وأولى للمرأة التي تشك في أمانة زوجها الطماع أن توكله توكيلاً مدنيًا فقط، لا شرعيًا كما يريد، فتكون وسطًا بين الطرفين تحفظ العين من الضياع وتتساهل قليلاً في الريع. المرأة مظلومة دائمًا؛ إذا كانت فقيرة لا يرغب فيها، وإن كانت وارثة يطمع في مالها. والوارثة مظلومة أيضا؛ فإما أن لا تتزوج لتأمن الطمع والطماعين، وإما أن تتزوج على غير بصيرة كعادتنا. ولو كان للخطبة والزواج عندنا نظام آخر لأمكن التحقق من أخلاق الخاطب، وتمييز الرجل ذي المروءة من الشره الزنيم.
مساوىء الرجل
الظلم
15
الأنباء ما يترك في أعماق النفس أثرًا لا يزول، ومن تلك الأنباء ما أثر فيَّ تأثيرًا خاصًا وسأقصه فيما يلي:
كنت يومًا عند صاحبة لي، فسألتها عن سيدة، كان لي بها معرفة قديمة، ولم أرها منذ زمن بعيد، فتنهدت، وأجابت بلهجة المحزون أن تلك السيدة في أشد ما يكون من الأسى، وأنها لفرط حزنها وكثرة بكائها قد حل بها السقم، وذلك لأن زوجها عقد على امرأة أخرى، وستزف إليه قريبًا. فأخذ منى العجب مأخذه، ورأت صاحبتی دهشتی، فقالت لم تعجبين من ذلك الخبر؟ أليس كثير الحدوث عندنا مألوفًا؟ قلت: نعم. ولست أعجب من حدوثه في ذاته وإنما العجب في أنه حدث لتلك السيدة، وهي على ما تعلمين على أحسن ما يكون عليه النساء من الخلق، وعلى جانب غير قليل من الجمال والعلم، وقد كنت أسمع منها أنها في راحة مع قرينها، وقد رأيتها بعينى تشتغل في بيتها، ولم يكن ينقصه شيء من النظافة والترتيب، ولها منه أطفال صغار، فماذا يريد الرجل فوق ذلك تربية وعقل وملاحة وإنجاب؟ فقالت محدثتي إن ولدي تلك السيدة توفيا في شهر واحد وهذا ما حدا بالزوج إلى البحث عن أخرى، وقد خطب في نفس الشهر الذي فقد فيه ولديه، وامرأته الأولى أم جنين لم تكمل مدته بعد. فيالقساوة الرجل! أكل ذنبها أن ولديها توفيا؟ وهل لم يكفها حزنها على فقدهما فيسدد إلى فؤادها المكلوم سهمًا آخر مسمومًا؟ وهل ضبط منها رسالة لعزريل تستزيره بها وتحثه على خطف فلذتي كبدها؟ وهل كان هذان المفقودان ولديها ولم يكونا كذلك له؟ نعم إن الرجل أقوى عزيمة من المرأة، وأشد احتمالاً للمصائب، ولكن هب أنه جلد، أفينسيه الجلد الشفقة، ويخطيء به الصبر مواضع الرحمة؟ اللهم إن هذا منكر لا يرضيك.
إذا احتاجت المرأة للمواساة والعطف في زمن ما فأشد ما يكون ذلك في أيامها السود، وهل أحلك من يوم تفقد فيه ولدين معًا؟ فإذا ما اشتد حزنها وشاركها فيه القريب والغريب أيصح أن يتنصل عنها زوجها ويتركها هدفًا لسهام الأرزاء والأشجان والحزينة زوجه والذاهبان ولداه؟ إنها إذا حزنت على أخ لها أو قريب كان من الواجب عليه أن يشاطرها الحزن، حتى ولو ظاهرًا، أما وهي محتسبة ابنها وابنه فمن أحق بتخفيف آلامها إذا خلا هو من مثلها؟ إنه إذا لم يحزن ولم يواسها فلم يكن أقل من أن يتركها ونفسها كما قال الشاعر:
تخذتكم حصنًا منيعًا لتمنعوا…… سهام العدا عنى فكنتم نصالها
إذا كنتم لا تدفعون ملمة…… عن النفس كونوا لا عليها ولا لها
ولكنه هو يتزوج عليها يكلم قلبها الكسير فضلاً عن أنه أقدم على أمر لا يضمنه. أفلا يجوز أن تكون امرأته الجديدة عاقرًا فلا تلد، أو ولودًا ويموت أبناؤها كالأولى؟ إن القدر لا يعاكس ولا يستطاع تحويله عند أمر كهذا. فالولادة والحياة والموت بيد الله لا ندري متى هو مانحها ومتى يقبضها. إن جوف تلك السيدة لا يسع شيئين في آن واحد: الجنين والشجن. ألا يكون زوجها جانيًا عليها وعلى ولده الجديد إذا ما زاحمه البث فلفظه ميتًا. إلا أن ذلك الزوج القاسي لجان في عرف القانون. جان في عرف المروءة جان في عرف الإنسانية والحنان.
تذكرني تلك الحادثة المؤلمة بحادثة أخرى تشبهها. ذلك أن رجلاً من ذوى الرتب عاف زوجته لأن أولادها منه كلهم بنات، فطلقها واقترن بأخرى على أمل إنجاب الذكور. فاتت له بأنثى ثم بأخرى، وهكذا أبى الله إلا أن يتم ما أراد. فكأنه استبدل بنات بغيرهن، ولكنه خسر ود امرأة صالحة كانت تحبه، وغير عليه قلوب بناته الشابات، وظن أنه كسب ود أخرى وما هو إلا واهم فيما زعم.
ليت شعري إذا فرضنا أن ولادة البنات عيب كما يرى بعضنا فهل للمرأة يد في ذلك ولماذا لا يعيب الرجل كما يعيبها؟لماذا لا تعافه المرأة وتطلب إليه أن ينفصل عنها وتتزوج غيره لتلد ذكورًا؟ إذا صح أن يتشبث أحد الزوجين بهذه الخرافة صح للثاني أيضًا. إذ هما في حقها وبطلانها سيان.
إن لنا من شؤوننا البيتية الأخرى ما يكفي لشغلنا، ولنا من عاداتنا القديمة المستهجنة ما يبح في طلب إصلاحه صوتنا، فجدير بالرجال أن لا يشغلوا وقتنا وفكرنا بالشكوى من أعمالهم، وأظنهم يقع عليهم ظلم الحكومة مرة وضيق العيش أخرى، فلا يجدون من ينتقمون منه لأنفسهم سوانا، وما أخال محروبًا أضعف منا سلاحًا وأقل طلبًا للثأر. فيارب ألهم رجال حكومتنا السداد، فإن ظلمهم الأمة له أثر مضاعف فينا، ولعلنا لم نزد عن الرجل في شيء البتة إلا فيما يؤلم. إذن، لقد عكسوا آية القرآن القائلة “للذكر حظ الأنثيين” .
مساوىء الرجال
الازدراء بالمرأة
16
لعل عدوى التشاؤم من النساء سرت إلينا وانتقلت إلى بعضنا بالوراثة من عرب الجاهلية الأولى، أولئك الذين كانوا يئدون بناتهم خشية الإملاق أو العار، كما كانوا يزعمون. وقد نسخ النبي – صلى الله عليه وسلم – تلك العادة المنكرة، إلا أن أثرها لم يزل باقيًا فينا إلى اليوم، إذ نحفل لولادة الصبي ونستاء لظهور البنية في هذا الوجود. وقد يعذر المتقدمون على اعتقادهم هذا لحاجتهم إلى الرجال لكثرة حروبهم وغاراتهم أما نحن فلا عذر لنا إلا قليلاً. وهي ما عدا حفظ لقب الأسرة ومالها من الضياع يتساوى الصبي والصبية في نظري، لأن عدد جنودنا محدود ونحن قوم مسالمون مجتنب الحرب ما أمكن وترانا نقلد العرب ولا نحكيهم فهم يهبون الصبي من يوم ظهوره للحرب، ويفتخرون بدخوله في غمارها، أما نحن فإذا دخل أحد أبنائنا الجندية يكاد يقتلنا الحزن، وأعرف أمهات فقدن أبصارهن من شدة البكاء على أبنائهن المجندين.
ذلك كان زمان الكثرة والشجاعة أما اليوم فزمن السياسة والصناعة. ها هي دولة الإنكليز يربو عدد نسائها على رجالها، وقد سادت أممًا كثيرة رجالها ضعف الإناث فيها، وها نحن بحمد الله يزيد رجالنا عنا عددًا، فأي خير جلبنا وأي شر دفعنا عن بلدنا المفدى وحنكة وزير واحد أطيب أثرًا من مائة ألف مقاتل، ويقظة من قليل خير من نوم الكثيرين.
هذا بيان لابد منه لتنفيذ رأي القائلين بعدم الاعتداد كثيرًا بالبنات.
المرأة المصرية الحق مسلوبة مظلومة في كل أدوار حياتها. نراها يتشاءم منها حتى وهي جنين، فإذا ظهرت مولودة تستقبلها الجباه مقطبة والصدور منقبضة والثغور صامتة. ترى القابلة وهي تحملها منكمشة لا تبدى ولا تعيد، كأنما كان لها بعض الذنب في ولادتها أنثى. نرى أقارب النفساء وصديقاتها يكثرون لها الهدايا إذا كان مولودها ذكرًا ويقللون منها عددًا وقيمة إذا أتت بأنثى. نرى كل من نقل الخبر يطفح اليأس من عينيه ولسان حاله يقول ناقل الكفر ليس بكافر، فإذا انقضت ستة أيام كان سابع أيام الصبي عيدًا نوقد فيه الشموع نهارًا وتجب أنواع الحلوى وتعزف الطبول وآلات الطرب، أما الصبية فيكتفي لها ببعض النقل ويحسب تفضلاً.
كذلك حالهما في التربية والتعليم، فإن نصيب البنت قليل عندنا حتى أن من كعبت وهي في المدرسة تعد شاذة، ولست أعجب من جهل الأمهات أكثر مما أعجب لقوم متنورين تربوا تربية عالية ينادون بقصر البنت على تعليم القراءة والكتابة والطبخ والغسل، كأنما العلم خلق لهم وحدهم في حين أن الله سبحانه وتعالى لم يكلف به طائفة دون أخرى، فكأنهم يجرحون عواطفنا علنًا بقولهم لنا نريدكم خادمات منازل فقط لا سيدات مهذبات. وكيف يأبون علينا حقنا الطبيعي في مشاركتهم الحياة ويطلبون الدستور؟!
وليس حالنا في من الشباب بأدعى للطمأنينة منه في الطفولة، فإننا لا نزيد عن المساجين شيئًا إلا بالاسم فقط فبينما تجد الفتى حرًا في كل شيء ترانا يحجر علينا حتى في استنشاق الهواء النقي، حتى في اختيار لون الثوب الذي نلبسه، وإذا سمح لنا ببعض المشي أو التنزه رمانا المارة بكل معيبة وأخجلونا ببذاءتهم، وهم أحق بالخجل من وقاحتهم وفحشهم.
وإذا تزوجنا لم نزدد إلا ضغطًا فيقوى الرجل ويستبد. تكتم حرية الزوجة إلى درجة تميت نفسها وتعدمها الإحساس والحياة. أرأيت أطغى من ذلك الرجل الذي يمنع زوجه من رؤية أمها وأهلها لغير جناية حدثت منهم؟ أرأيت أطغى من ذلك الذي يمنع الزائرات من دخول بيته، ويحجب امرأته عنهن خوفًا من أن يفسدنها عليه أو يعلمنها شيئًا جديدًا يأباه جموده واعتسافه؟ يتحكم فيها وفي صحتها وفي مالها وفي وقتها وفي حريتها وفي كل شيء ويأبى عليها أن تسأله سؤالاً بسيطًا عن شغله، بحجة أنها لا تفهمه! أو عن نفقاته معتذرًا بأنه لا مدخل لها في شؤونه! وهل يحتقر الرجل المرأة أكثر من أن يجلس لطعامه وحده، ولا يدعوها لمشاركته فيه، فإذا فرغ منه تأخذ لقمة من هنا وأخرى من هناك كما يفعل الخدم؟ تظل واقفة، وإذا غاب ليلاً يتحتم عليها السهر إلى أن يحضر، ثم إذا مرضت يأنف أن يناولها جرعة من الدواء، ويستنكف البقاء معها قليلاً، فيترك لها المنزل بما فيه، وليس أصعب على المريض من أن يرى نفسه مهملاً متروكًا.
يظهر احتقار الرجل للمرأة جليًا في أفعاله وتصرفاته. إذا حزن يومًا لا يكاشفها بما يؤلمه، وإذا نوى الشروع في عمل يعدها غريبة عنه، فلا يخبرها، يخرج من البيت ولا يعود إليه إلا لأمر ضروري، فمؤانسته وأسراره نهب للخلان. أما زوجه فلا يعدها إلا طاهية أو خادمة، وأظن أن الرجل لولا بقية حياة فيه لما هوى منزله، ولولا أن أكله في الفنادق يكلفه كثيرًا لما ذاق طعام بيته.
أی ازدراء للمرأة وعبث بحقوقها أشد من أن تخرج كلمة من فم الزوج ساعة غضبه فتفرق بينهما وتشتت ملتئمهما؟ وأي أمل لها في مستقبل مظلم لا تدري متى ينهار بنيانه؟ إن الدين لم يسمح بتعدد الزوجات وبالطلاق هكذا من غير شرط كما يفعل الآن رجالنا، وإنما جعل لهما شروطًا وقيودًا لو اتبعت لما أَنَّ منها النساء البائسات.
زار أغلب رجالنا أوربا والبلاد المتمدينة، ورأوا بأعينهم كيف يحترم الرجل الأوربي امرأته، حتى أنها مقدمة عليه في كل مجتمع،فعادوا ينادون بوجوب تعليم المرأة، ويصرحون في كلامهم بأنهم من أنصارها، وأنها واجبة الاحترام، ولكن لا يلبث كلامهم أن يذهب مع الهواء. إلا أنهم إذا اجتمعوا بسائحة إفرنكية أو امرأة غربية تلطفوا لها كثيرًا، فساعدوها في النزول من عربتها، وأمسكوا لها حقيبتها، ورفعوا الطرابيش إجلالاً لها، في حين أن أحدهم يستنكف أن يركب مع امرأته في عربة واحدة، وإذا سافرت أو انتقلت إلى محل آخر تركها ونفسها، كأنه لم يكن هو صاحب الأفكار الحديثة القائل بمساعدة المرأة، وإذا ازدحمت الطرقات في مولد أو مركب مثلاً رأيت الرجال يدوسون النساء، يضربونهن بالمناكب، كأنه زحام الحشر، فهل هذا مبلغ احترام النساء عندنا؟!
أي سبة للمرأة العفيفة أنكى أو أشد إيلامًا من أن يحوطها زوجها بالرقباء والحشم كلما انتقدت خطوة، كأنها غير أمينة على نفسها، أو كأن العفة ملاكها الرهبة لا الرغبة؟
وهل يزدرى الرجل عواطف المرأة بأكثر من أن يجالس خليلته أمامها، كأن شعورها ميت، ويريدها أن لا تغضب. فهل قد فؤادها من حجر صلد؟
لا أنكر أن لنا عيوبًا يجب إصلاحها، وأن بعضنا لا يستحق كثير احترام، ولكن أيؤخذ البرىء بذنب المجرم؟ وهل يصح تطبيق القانون إلا على من ثبت إدانته؟ وفي اعتقادي أن الرجل لو خفف قليلاً من كبريائه، وعلم أن امرأته مساوية له في جميع الحقوق المشتركة، وعاملها معاملة الند للند، أو على الأقل معاملة الوصي لليتيم لا معاملة السيد للعبد، لما رأى منها هذا العناد الذي يشكوه، ولأطاعته حبا فيه لا خوفًا منه،ولا يجهل أن الاستبداد يأتي بعكس المراد.
ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه. فكيف ورجالنا على هذا الاستبداد يأملون صلاح الأمة وتربية أبنائها على حب الاستقلال والدستور! أما والله لو أرانا رجالنا عناية واحترامًا لكنا لهم كما يحبون، فما نحن إلا مرآة تنعكس علينا صورهم، ولنا قلوب تشعر كما يشعرون، فإن أرادوا إصلاحنا فليصلحوا من أنفسهم وإلا فلينظروا ماذا هم فاعلون .
احترام الآراء وآداب الانتقاد
۱۷
اللسان والقلم رسولا القلب إلى الناس، أو هما جدولان صافیان تنعكس عليهما صورة النفس وما حواليها من الصفات، وإن شئت فقل هما سلك الكهرباء بين ذهن المرء ومن يخاطبهم أو يكتب لهم، تنقل عنه رسالة أخلاقه حرفًا حرفًا بغير زيادة ولا نقصان. والفضائل والرزائل كامنة في الأشخاص, لا يوري زنادها إلا الأقوال والأفعال بالمتكلم والكاتب تظهر أخلاقهما جليًا فيما يقولانه أو يخطانه وإن حاولا إخفاءها لأن الطبع غالب، والتطبع سمل بال، قليل الستر، إن دارى شيئًا تظهر منه أشياء. والفكرة،وإن جانبتها، لا تزال تحوم حولك وترفرف إلى أن تجد لها مقرًا تستقر فيه من الجولان والاضطراب.
فإذا قرأت كتابة شخص لم تلحظه عيناك أمكنك بالتفرس فيها أن تحكم على أخلاقه بالإجمال. فالمتكلف تعرف من كتابته بأنه لا يزال ينتقى الألفاظ الوحشية، ويتقعر في أسلوب إنشائه، ليدل على علمه وبراعته. والرجل البسيط يتجنب الألفاظ ومعقد التراكيب، من غير تبذل ولا ركاكة في عبارته، كذلك من كرمت نفسه ترى أثر ذلك الكرم فائضًا على كلماته وفي ثنايا سطوره. واللئيم بالمثل تكاد تلمس لؤمه وضعة نفسه وأنت تقرأ أماليه على القرطاس. وأظهر صفات الكاتب على الورق الحكمة والحلم والحسد والجهل، لأن الغرائز كلها، حسنة أو قبيحة، هادئة لا يستفزها الشيء القليل، ولا يهيج لاعجها إلا إذا هيجت كالرائحة لا يبعثها إلا الهواء، أو كتراب الأرض لا يثور إلا مع الرياح. أما الحسد والجهل فهما أبدًا جائشان، يغلى صدر حاملهما ويكاد ينبثق من تلقاء نفسه من شدة الفوران كالبركان المضطرم يقذف الحمم لحر ما احتواه جوفه من النيران.
والكاتب أو المفكر يخطئ إذا لام معارضيه على وقاحتهم في الرد عليه، أو النظر إلى فكرته بغير العين التي تستحقها، لأنهم معذورون فيما أرى. معذورون لأنهم لا يمكنهم التجرد عن غرائزهم، ولا يستطيعون نزع نفوسهم أو تنزع أرواحهم من جسومهم. وما قلمهم إلا أنبوب تصب فيه تلك النفوس سائلها فيجري على القرطاس. فأقلامهم لا ذنب عليها، وأيديهم لم تأثم، وأذهانهم خفيف حرمها، إنما العيب كل العيب في نفوسهم فإنها مصدر الوحي للذهن واليد والقلم.
على عدد اختلاف أشكال البشر وألوانهم ومناهجهم تجد اختلافًا في آرائهم ومعتقداتهم. يخطئ الأبيض إذا لام الأسود على حلكة لونه. كذلك يخطىء ذو الفكرة إذا غاب غيره لعدم رضائه عنها. ورحم الله البارودي إذ قال:
أسير على نهج يرى الناس غيره …… لكل امرئ فيما يحاول مذهب
من العدل أن تترك الحركة لكل إنسان يعتقد في خلده ما يعتقد، لأن المصادرة لا تجوز في الأفكار، والاضطهاد، إذا ضيق دائرة العمل والكلام، فلن يبلغ التضييق على الهاجس والوجدان.
فالفكرة ما دامت في الخلد خفي أمرها، ومن التحامل أن يتكهن قوم بمعرفة أسرارها، والوقوف على حقيقتها. وإن العمل الذي يقصد به النفع هو بذاته ما يصح أن تقصد به الشهرة وحب الذكر. ألا ترى إلى المحسن كيف يتهمه أعداؤه وحساده بأنه لم يحسن ابتغاء وجه الله، ولكن سعيًا وراء المحمدة. ويقول أنصاره وعاضدوه إنما أتاه لحب الخير المحض، كذلك السياسي وصاحب الصحيفة فقد يناضل عن مبدأ يعتقده صوابًا، أو يرد على رأي مخالف، فيقول قوم ما أصدق وطنيته، ويقول آخرون إنه مأجور. ولم يخل عمل من الأعمال من العاضدين والمعترضين. ومذهبي أن العمل، مادام نافعًا، فسيان أن يعتبره قوم للمنفعة وحدها، أو للشهرة، فإن فائدة حاصلة على أي حال. وقد تكون الشهرة وحسن الصيت جزاء وفاقًا لصالح الأعمال، تأتي عفوًا بغير قصد صاحبها، فما حيلته؟ أيردها وقد لا تدفع، أم يترك عمله كي يبرهن لأعدائه أنه صادق، وأنه لم يقصد إلا الفائدة خالصة لوجه الله؟ أما الأفكار والكتابات أو الأعمال التي تظهر للملأ فيجب على من لا توافقه أن ينتقدها، وليس أحب للمنصف من أن ينتقده الناس بالحق فيصلح من خطئه ويقوم من معوجه. وإذ قد بينت أن الآراء تختلف بحسب الأشخاص والعقول، فما على المنتقد إلا تخطئة ما يرى فساده، على أن يقرع الدليل بالدليل، والحجة بالحجة، حتى يقتنع صاحبه ويفحم، فلا يجد مناصًا من الرجوع إلى الصواب، ويرى الناس صدق الأدلة أو كذبها، فيكونون حجة له أو عليه. أما من ينتقد بغير الدليل أو يشوب كلامه بالتهكم والسب القبيح فيخرج من عداوته لشخص عفريتًا يخيف به كل من يلوذ بذلك الشخص أو ينتمي إليه أو يذكر اسمه فأحر بكلامه أن يضرب به عرض الأفق، فهو هراء. وإذا كان الله، وهو يعلم صدق دينه، وفي قدرته أن يجبر البشر على أن يدينوا بما ينزله لهم، لم يرض أن يذكر مسألة القرآن إلا وهو مبين أدلة نفعها، وأوجه ضررها، وضارب لها الأمثال كي يقتنع من له عقل صلاحها أو فسادها. إذا كان الله، وهو القادر المتعالي، يفعل ذلك فهلا نفعله نحن عبيده الضعفاء؟
ومن أدب الكتابة أن لا يخلط الكاتب الشخصيات بالعموميات، إذ ما علاقة انتقاد مبدأ مثلاً بأم المنتقد أو زوجه أو فقره وغناه؟ وأين الشجاعة والشهامة في كيد الخصم من هذا الهذيان؟ لعلهم جعلوا مكان الأسنة الطوال ألسنة طوالاً وبدل خضاب الدماء صبغة من قلة الحياء.
کل ذی رأی يجب قدر رأيه واحترامه وتمحيصه، حتى إذا ظهر فساده يحاج بالدليل إلى أن يقتنع. ومن البلاهة أن يتشبث كل بفكرته وحدها، ويزعم أنه علمها ومفردها، فيأبي قبول البرهان، ويغمض عينيه على القذى.
الصياح والتحامل لا يجديان، بل قد يزيدان المتشبث عنادًا. واختلاف المبادئ والآراء لا يحمل على العداوة إلا من لا يفقهون. ثم إن العداوة لا تستلزم الهجر وفحش القول إلا من القوم السافلين. ومن لي بصلاح الدين الأيوبي يلقي على كل عدو درسًا مما أتاه مع خصمه ريتشارد قلب الأسد ملك الإنكليز؟ ومن لي بمن يعلم الجهلة ما ورد في القرآن والإنجيل والتواريخ من مقابلة الأنبياء أعداءهم بالصبر والصدر الرحب.
ومما يجمل ذكره من آداب الانتقاد أن لا ينتقد الكاتب أمرًا كان قد أتاه هو، أو أتى شرًا منه، لأنهم يقولون: من كان بيته زجاجًا فلا يقذف الناس بالحصى.
هذا رأيي في احترام الآداب، وآداب الانتقاد، أوجهه للفتيات والسيدات فقد ابتدأنا نعترض، ويعترض علينا، وإذا كنا ننقد الرجال في كثير من الأمور، لأنهم سبقونا في التعلم والبحث، وهؤلاء قد بلغ بعض كتابهم من الهوس وسقط المتاع إلى الخبط والخلط، وحشو عام المواضيع بالشخصيات، ومزج الانتقاد بالعداوات والمشاحنات، فأنبه أخواتي من النساء أن يجتنبن الهوة التي وقع فيها بعض إخوانهن، فالباطل أولى أن يجتنب، والحق أحق أن يتبع، والسلام .
لماذا يضيع الرجل تأثيره الحسن في أسرته
۱۸
يأخذ منى العجب مأخذه كلما دخلت بيت أحد العلماء ورأيت نساءه على جهل مطبق، وتنال منى الدهشة كلما سمعت أن ابنة فلان الغيور غاية في الخلاعة، وأن أخت ذاك المستنير تدعو أترابها لحفلة زار، وأن أطفال ذلك الأستاذ مثقلون بالتمائم. وأكاد أحزن إذا سألت امرأة الصحافي المشهور، وهي تعرف القراءة وتدعى العلم، عن مبدأ زوجها السياسي فتخبرني ببرود أنها لا تقرأ الجرائد، ولا تشتغل بمعرفة المبادئ!! يحزنني جهل هؤلاء أكثر مما آسف لجهل عامة النساء.
يعذر الفلاح على عدم تعليم ابنته العلوم، لأنه هو ذاته لا يفقهها، وربما لم يسمع إلا بقليل من أسمائها، فضلاً عن احتياجه لفتاته في مساعدته في الحقل ومساعدة أمها في البيت. ويعذر العامل الصغير إذا لم يدخل ابنته المدرسة، لأن ما يشتغل به قد لا يكفيه لسد الرمق، فضلاً عن تحمله أجرة تعليم أبنائه. يعذر هذا وأمثالهما جد العذار، ويعذر أيضًا صغار الناس، ممن لم يتعلموا إلا القليل، ليمكنهم من نيل وظيفة تكفيهم العيش، لأن نفوسهم لم تتشرب روح العلم، ولم يأخذوا به إلا وهم لا يجدون غيره وسيلة للارتزاق،ولكن ما عذر رجالنا المستنيرين المتفقهين في ترك بناتهم تنشئهن الطبيعة، كيف اتفق، وتربيهن الأمهات وسط الترهات، وهم إذا كلمك أحدهم أظهر لك واسع خبرته في العلم الذي يتقنه، وفهمت من مجمل حديثه أنه فيلسوف، وأنه ذو أفكار ومبادئ قويمة، وأنه يلتهب غيرة على أمته. مثل هؤلاء يصدق فيهم المثل العامي (باب النجار مخلع) أو هم كالرجل الذي إذا دهمه أمر ظل كالحديد يتجاذبه مغناطيس الحيرة من كل الجهات فلا يكاد يرى له مخرجًا من الضيق.
إذا رأيت ابنة شيخ الإسلام لا تقيم الصلاة، وإذا حادثت امرأة الطبيب فوجدتها لا تفرق بين فعل الأدوية الأكيد وبين تأثير الرقى والتعاويذ في شفاء الأمراض، فهمت من حالهما أحد أمرين: إما أن يكون رب الأسرة لم تمتزج روحه بالعلم الذي يشتغل به تمام الامتزاج، فهو لا يشعر به حقيقة، وإنما يظهر به ليتذرع إلى كسب معاش أو احترام، وإما أنه صادق في ادعائه، ولكنه لا يختلط كثيرًا بأفراد أسرته، ولا يوضح لهم آراءه ومذهبه، وهذا هو الغالب في رجالنا.
يقضى الواحد منهم نهاره في الديوان، أو محل شغله، ويتسلل من العصر إلى (القهوات والبارات) فيقتل الوقت فيما لا ينفع، ولا يعود لمنزله إلا وجفته مثقل بالكرى. وقد يمضى الأسبوع ولا يرى أولاده إلا يوم بطالة المدرسة، فيشبون لا يدرون شيئًا من أخلاق والدهم، ويقصر هو في مخالطتهم والتحدث معهم، كأنه يأنف أن يضيع وقاره في محادثة الصغار. وبعضهم يظل أمام زوجه صامتًا حتى إذا مل وملت أخذ صحيفة من صحف الأخبار يطالعها، ولكنه لا يفهمها ما بها، إن كانت جاهلة، ولا يقرأ ليطمعها، إن كانت تفهم القراءة، فكيف تعلم مبادئه وميوله وهو لا يتكلم؟ إنها ليست نبية فينزل عليها الوحي، ولا قدرة لها على كشف حجب الغيب. وكيف يبلغ أولاده التربية الكاملة التي بلغها هو ومن يرشدهم في الحوادث اليومية إلى مكارم الأخلاق ويخلص لهم النصيحة؟ إن المدرسة وحدها لا تفي لأن تكيف ملكة الشخص، والأم لا تجد من وقتها فراغًا لتجالس أولادها وتثبت فيهم أخلاقها، هذا إذا كانت مهذبة عاقلة لها أخلاق فاضلة. أما غيرها فعليها العفاء.
وإن الصبي لاعتناء والده به، ولكثرة اختلاطه بأخدانه خارج المنزل، تفيده التجارب ويعرك الحوادث، فيعرفها، أما الفتاة فحظها قليل من التربية النفسية، وهي ملاك الأخلاق. ولا عبرة بما يعلمه الإنسان من العلوم إذا لم يكن ذا إرادة قوية؛ معتمدًا على نفسه في كل أموره، ثابتًا حازمًا، لا يابسًا ولا طريًا، وفي اعتقادي أن الأب الرحيم العالم باجتماعه مع أولاده وبناته يعوض عليهم كثيرًا مما لم يدركوه بالتجربة.
لا أحب الأب يتكبر على أهله وأولاده؛ فيظهر لهم بمظهر الجبار العنيف ويظن أن ذلك استجلاب للهيبة، وهو لا يعلم بما يشعرون. إن الهيبة واجبة في حد الاعتدال, ولكنها إذا زادت تعدت إلى الخوف فيفقد الوالد الرحمة على أولاده، وينشدون هم كثيرًا من المحبة والثقة بوالدهم وتجد أغلب الأطفال يحبون والدتهم أكثر من آبائهم لهذا السبب عينه. وهذا التجبر من جانب الأب يضعف الأخلاق في الطفل ويفسدها إذ يربى فيه الجبن والذل، ثم الاستبداد متى كبر، وأولاد البخلاء أكثر الناس تبذيرًا متى كبروا. زرت مرة سيدة ممن ابتلين بمثل هذا الزوج القاسي، وكنا نتكلم وأولادها الصغار يلعبون قريبًا منا, وبناتها الشابات يضحكن، وإذا بهن سكتن فجأة، وارتبكت أمهن، وغارت أعينهن، وعلاهن الاصفرار، وقامت إحداهن تهرول إلى الصغار لتسكتهم، والثانية تتسمع على السلم، والأخرى ترى ماذا يمكنها ترتيبه في حجرة والدها، فعجبت من هذه الحركة الفجائية، وسالت عن الباعث لها، فأخبرتني السيدة والحزن باد عليها وتكاد لا تنطق إلا همسًا “إن البك ربما يكون قد حضر” فقلت في نفسي إذا كان كل هذا الاضطراب وفي حضوره شك، فماذا يفعل هؤلاء النسوة إذا قيل لهن “أنه قد والله حضر“؟! وأخذ البنات يشرحن لي أنهن لا يتكلمن أمام والدهن، وأنهن يجتهدن، دائمًا في البعد عن طريقه، لأنه غضوب، وأنه لا يسمح لهن بزيارة قريبة ولا صديقة، وأنه إذا أخطأت إحداهن في خدمته أو تأخرت قليلاً (وشدة الوجل تبعث على الخطأ والتأخير) كدرها وأهانها. وإذا تناول الطعام تظل أمهن وثلاثتهن واقفات كالإماء إلى أن يفرغ منه. فعجبت لذلك وأسفت على تأصل روح الاستبداد في بعض رجالنا إلى هذا الحد المعيب حتى وهم في منازلهم بين أهلهم وفلذات أكبادهم.
هذا مثل الأب القاسي الذي إذا اختلط بأسرته ليعلمها لم يستفد أفرادها من تعليمه، لأن شدة الخوف تذهب بالفكر. سألت عن هذا الرجل ومعاملته في الخارج فأكد لي أخي أنه غاية في اللطف والتواضع، وأنه يحب المزاح أحيانًا، فاستغفرت الله له. أيتفضل على الغرباء بالمؤانسة والمزاح أيضًا ويضن بابتسامة على أولاده وأهله؟ ولكن لله في خلقه شؤون.
ألا فليعلم الآباء والأزواج أن السلطة التي يطلبونها في منازلهم يكفى منها أن يقلدهم أبناؤهم، وتتشبه بهم فيها زوجاتهم وبناتهم، ويخشينهم على البعد والقرب. وإن الأسرة الواحدة يجب أن تكون تامة الامتزاج، مرتبطة بالحب الصحيح، فلماذا يضيعون ذلك الحب الطبيعي بقسوتهم وجفائهم؟ ولماذا لا يبثون روحهم فيمن حوليهم من بنات وأخوات؟ ولماذا لا يجعلون لهم تأثيرًا حسنًا في أسرهم؟ وكما يتوارث الأولاد اللون والخلقة عن والديهم يجب أن يتوارثوا عنهم أيضًا أخلاقهم الحسنة ومميزاتهم. وبودي لو يجتهد كل شاعر في أن يجعل أبناءه ذكورًا وإناثًا شعراء. وكل رياضي أن يعلم أسرته الرياضة. وكل سياسي أن يجعل زوجته وذويه يتباهون بمبدئه حتى يتم الامتزاج المطلوب، وتظهر فينا روح الحياة الطبيعية والسلام.
الكلفة بين الزوجين
۱۹
بين الزوجين الحضريين من أهل مصر تكلف لا يتفق مع ما يريده الله لهما من سكون الواحد إلى صاحبه، ويشذ عن شواهد الطبيعة وآثارها المرسلة إرسالاً من غير تعقيد ولا إبهام. فالسماء معقودة على الأفق في مصر، وهي كذلك معقودة على الأفق في اليابان وفي جرينلاند. لم يضع الله لها عمد المرمر في إيطاليا، ولا قوائم العاج في السودان، ولم يقرها على حوائط البلور في النمسا. تنيرها الشمس نهارًا (إلا في القطبين) والقمر ليلاً، وقد نثرت فيها النجوم نثرًا، إلا قليلها فهو منظوم. ولم يشأ الله، وهو قادر، أن يجعلها في شكل عقود وتيجان، أو يرسمها دوائر ومثلثات مرصوصة رص البلاط الملون، وهي مع ذلك يأخذ جمالها بلب المتأمل المتفكر. والأرض بسيطة أيضًا لا تحول لنظامها؛ فالصخر يفتته توالى الريح والمطر فيصير رملاً، والرمل تسقيه الريح ويعجنه المطر فيكون صخرًا، والبذر ينبت إذا لقي ريًا وأرضًا صالحة، وما أبسط سوق النبات تظل قائمة ولكنها تميل مع الريح، ويثقل عليها ثمرها فيتدلى، أو يسقط إلى الأرض.
زعموا أن ملكًا من ملوك الصين أمر أن يعرض أصحاب الحرف والملكات مخترعاتهم ومجهوداتهم على باب قصره ليكافئ المجيد منهم. وبينا هو ذات يوم يفحص تلك المعروضات استوقف نظره جمال لوحة مصورة، فأمر أن يمثل صاحبها بين يديه ليكافئه على مهارته في النقش، فلما أن حضر الرجل عرض الملك اللوحة على جمع من أهل النظر ليحكموا فيها، فاستحسنوها كلهم، وأشاروا بإجازة المصور، إلا رجلاً حاذقًا قال إن بالصورة عيبًا وتكلفًا لا ينطق على الطبيعة، فسئل عنه فقال: صور الرجل عصفورًا على إحدى سنابل القمح المرسومة في اللوحة، ولكنه رسم السنبلة قائمة، مع أنها ضئيلة، ولو اعتلاها عصفور لمالت كل الميل، فرأى الملك صدق وأيه، وأخرج المصور بخفي حنين. هذا مثل ضربته لقبح التكلف وحلاوة البساطة. ولكننا مع الأسف نسمع الزوجة عندنا تقول لزوجها يا سيدي، أو يا أفندي، وهو يناديها بقوله “يا هانم“، كأنهما غريبان بعضهما عن بعض، وما اثنان أحق بزوال الكلفة بينهما من الزوجين، المطلع أحدهما على سر الآخر، المشرف على نفس صاحبه. ولو اقتصر الأمر على النداء لقلنا بعض الشر أهون من بعض، ولكنك ترى الرجل يرائي في حديثه مع امرأته ويطريها بمحاسن ليست بها، فما أكذبه، وما أكذبها، إذ تغش نفسها، وإذ تتكلف له في كل شيء حتى لون وجهها فتصبغه، وتغيره، وعذرها أنها لو وثقت من رضاه عنها، وهي في صورتها الفطرية لما ظهرت له متكلفة.
أعرف نساء، وأسمع عن أخريات، تظل إحداهن واجمة أمام بعلها، تخطئها الكلمة إذا نطقت، وتتعثر إذا مشت، وتكسو وجهها الصفرة إذا سمعت صوته, “وتعروها لذكره رعدة” فيا سبحان الله! أي سعادة في تلك العيشة النكدة، عيشة الخوف والوجل؟ إن الزوجة مهما كان الرجل مهيبًا شجاعًا ليست موضعًا لإظهار بسالته وقدرته على سحق البشر! ويقول العامة في أمثالهم “السبع لا يأكل أنثاه” وهو مثل من الحكمة بمكان. وحبذا لو اقتدى به ساداتنا المتجبرون. وحسبهم شرفًا أن يقال إنهم كالليوث. وإلا يصدق فيهم قول الشاعر “أسد علىَّ وفي الحروب نعامة“. فعندهم مواطن عدة لإظهار شجاعتهم، فليتشجعوا لها وليتركونا.
تعجبني طريقة العرب والفلاحين والفرنجة في معاملة أزواجهم. ينادي الرجل زوجته باسمها وتناديه باسمه. تشاركه في الراحة والتعب وتقاسمه الطعام والشراب. إذا غضب عليها ظهرت له في مظهر الشمم والإباء، فإن حاسنها حاسنته، وإن التوى لم تقصر هي في كيل الصاع بالصاع .
أما طبقتنا، نحن نساء الحضر في مصر, فلا يمثلها في العالم طبقة جمعت بين الأضداد. فبينما نحتكم في الرجل من شأن حلينا وحللنا، حتى نجعل نهاره ليلاً أو يذعن لمطالبنا، ترانا نكسر شرة النفس ونحملها من الكلفة وضيمها فوق ما تحتمل، فكم من امرأة تقبل إهانة زوجها لها صاغرة، وكم من أخرى تلدغها أصابعه لدغ الأفعى فتجعل من دمعها المدرار ترياقًا لها، ثم لا تلبث أن تستغفره كأنها هي المذنبة، على حد قول الشاعر:
إذا مرضنا أتيناكم نعودكم…… وتذنبون فنأتيكم ونعتذر
إنها لو أظهرت له أنها مساوية لما استرضته مخطئًا، ولكن هل ظواهر الإنسان دائمًا بواطنه؟ إنك تحترم الأمير، ولكن لا تعتقد أنه أشرف منك مجدًا، ولا أعرق منك في الإنسانية، وتظهر هذه النزعة في كلامك عنه، خصوصًا إذا استفزتك إهانة منه فأثارت نفسك عليه.
فالزوجة بتحملها أذى زوجها لا تعتقد أنها أذل منه، ولكنها تخضع صاغرة لاحتياجها إلى إنفاقه عليها، أو تفاديًا من أن يقال طلقت وبانت، أو حبًا بأولادها،وخوفًا عليهم من أن يذلهم بعدها. وهذا الخضوع، وإن كان يعلمها مزية الصبر الجميل، تكلف منها وتصنع. فالحاجة والحياء يغطيان جراحها ظاهرًا فتظهر كأنها اندملت، ولكنها تنغر نغرًا ممتلئة صديدًا وصدودًا.
الكلفة رياء. والرياء سرطان يسطو على النفوس فيصدعها ويصرعها. والزوج القاسي أو المتكبر يفسد أخلاق زوجته بتكبره ويعلمها الصغار والكذب. ومن كانت هذه حالها كيف ينتظر أن تربي أولادها على الفضائل؟ كيف تقول لابنها لا تكذب وهي تكذب.
أظن أصل تأليه البعول سرى إلينا من ذلك الزمن الذي كانت فيه الجواري حظيات ! ولكن إذا جاز أن تقول الجارية لسيدها، المالك لها، الباني بها، يا سيدي، فكيف يجوز لحرة أن تدخل نفسها في الرق مختارة والرق أسر فضلاً عن أنه غير مباح الآن؟
وهناك أخرى تقول لزوجها حضرتك وسعادتك فما هذا التكلف البارد؟
إننا بتسميتنا فلانًا بصاحب العزة، وتلقيبنا أحد الملوك بصاحب الجلالة، لنكفر ونلحد. فما صاحب العزة وذو الجلالة إلا الله الواحد القهار. ولو أنصف كتابنا لحذفوا تلك الألفاظ الدالة على الشرك من كتاباتهم وأقوالهم.
يكلم الفرنسيون الغريب بلفظة الجمع (suov), ولكنهم يضحكون إذا قال الطفل لأمه أو الرجل لزوجته، Vousلفظة التعظيم, لم يقل Tu أي أنتِ، وكذلك الحال بين الأهل الأصحاب.
الزوجان بعقدهما عقد الزواج تعاهدا أمام الله أن يرتبطا بعضهما ببعض. فكيف يقف الإنسان حياته على من لا يوافق مشربه أو يتعالى عليه؟
سمعت أن المرأة اليابانية تسجد لزوجها, وعجبت من ذلك، وهي قد أخذت من التمدن الغربي حظًا وافرًا، ولكنها مشركة بالله، فلا غرو، إذن، أن صدق ما سمعته عنها في هذا الشأن. فعلى رجالنا المستكبرين، الذين ستغضبهم مقالتي هذه، أن يخطبوا منهن. فإننا مسلمات مؤمنات لا نشرك مع الله أحدًا. أو أولى لهم إذا قبلوا أن يتحملوا مسئولية المحاكمة أن يختطفوا الجواري من جبال القوقاز، أو من مجاهل أفريقية، ويدربوهن على عبادتهم من الصغر ولكن بأي لغة!!
لعل مصلحة منع الرق لا تعتبرني محرضة على العبث بقوانينها فتحاكمني قبلهم معتبرة الدال على الخير كفاعله.
زواج الأختين
۲۰
وصلني في بريد الخيال كتاب ذو بال آثار من النفس أشجانها، واعترض سرورها بأحزانها، وجعلها بين اليأس من الإصلاح والرجاء فيه، فتارة أنا متسنمة ذروة الأمل، وطورًا أراني في حضيض القنوط. ومعاذ الله أن أستسلم لليأس، وهو سم القلوب ومعول الحياة. ومعاذ الله أن تسترجعنى الصعوبات عن عهد أخذته على نفسي بيني وبين الله أن أصلح ما أستطيعه من فساد. وما كان لمثلى أن تنكث المواثيق أو تغدر بالوعد مهما كانت وعورة الطريق. وهذا هو الكتاب.
مصر في 3 شوال سنة ١٣٢٧ هجرية.
عزيزتي ملك:
شوق وسلام وبعد، فإني أهنئك بالعيد السعيد، كما يقولون، وإن كنت لم أشعر به، ولا حفلت له.
عيد بأية حال عدت يا عيد…… بما مضى أم لأمر فيك تجديد
أما ماضي فقد كان غير سعيد، اكتنفته الأحزان وأخذت عليه طريقه تقلبات الزمان. ومستقبلي لا أراه، أشد حلكة وأبعث على اليأس منه على الرجاء، فقد تولتني مصيبة دهماء ليس لها سلوان. واحدة لكنها متعددة إذا تعزيت بأولادي ألح على فراقهم لي على الرغم منى ومنهم. وإذا أنساني عزاء الصديقات بعض الأسى على بعدهم،ذکرنی غدر شقيقتي خيانة بعلى. ولولا الإيمان والثقة برحمة الله لفضلت الانتحار على حياة سئمت تكاليفها، ولكني لم أعش ثمانين حولاً كزهير عندما سئم، بل عمري لم يتجاوز الخامسة والعشرين.
عزیزتی، لقد أفرغ الدهر جعبة سهامه علىَّ فأصاب منی مقاتل شتى. طالما سمعتك ونحن نلعب تقولين لشقيقتي إنها غليظة القلب جافية الشعور، ولا أكتمك أن قولك هذا كان يؤلمني، وقد عاتبتك عليه مرارًا إلى حد التعنيف، ولكن ستأخذ منك الدهشة الآن إذا جاريتك على رأيك فيها، بل زدت عليه أن فؤادها قد من الجلمود.
أتدرين ماذا فعلت ؟ إنها كانت تكثر من زيارتي فانشرح لها، إذ كان يلذني شعوري بحبها الأخوي لأننا كما تعلمين فقدنا الأبوين منذ نعومة الأظفار، فكنت أستعيض بها عنهما. وكانت تجالس بعلي وتخاطبه وليس عندي شك في إخلاصها لي، وأمانتها نحوه، ثم تحولت المحادثة البسيطة إلى مضاحكة ومغازلة، فحملتها على أنهما كأخوين مرفوع بينهما التكلف، ثم زاد الشغف فكان يأخذها للفسحة معه خارج البيت ويتركني به، وهكذا تدرجا في الحب كما قيل:
نظرة فابتسامة فسلام…… فكلام فموعد فلقاء
ولم يداخلني ريب البتة في حسن نيتهما نحوى. وأخيرًا لم أدر إلا وقد فاتحني يومًا بأنه يريد التزوج من أختي لأنه كلف بها وهي كلفت به، وإذ كان الدين الإسلامي لا يسوغ الجمع بين الأختين فقد تحتم طلاقي منه وحم القضاء. وقد تركت له منزله فأقام فيه عرسًا بهجًا، واقترن بشقيقتي بنت أمي وأبي، وأخذ منى أفلاذ كبدي، وتركني أندب حظي، وأندب اجتماعي بأولادي، بل أندب الوفاء وأندب الإنسانية. أما والله لو كان تزوج غير أختي لهان الخطب، ولما أسفت على عيشة نكده.. قضيتها معه؛ تحملت سوء معاملته بالصبر الجميل، وعذرته في سكره وعربدته، فكنت أصفح ويسيء. كما قال معن بن أوس:
وإن سؤتني يومًا صفحت إلى غد ……ليعقب يومًا منك آخر مقبل
كأنك تشفى منك داء مساءتی.….. وسخطي وما في ريثتي ما تعجل
إني لأشك في أني وأختى رضعنا ثديًا واحدًا أو حملتنا أم واحدة.
لم يكف أختي سامحها الله ما فعلت، بل إني ذهبت بعد شهرين من زواجها لأرى أطفالي، الذين حرمني الدهر منهم على غير جريرة ارتكبت، فامتنعت عن أن تسلم علىّ، وتركت الطبقة (الدور) التي كنت بها إلى الطبقة العليا. وأرسلت لي خادمتها تأمرني بالانصراف حالاً عن منزلها خيفة أن أكون استصحبت لها سحرًا يقلل من محبة زوجها لها. خرافة والله، وما كان ليهمني زوجها وحبهما بعد أن حصل منهما ما قد حصل. على أني لا أعتقد في السحر إلا كاعتقادي في وجود العنقاء.
وأنا الآن في بيت خالي. وقد طالما نصح لأختي هو وجدتي. نصحا لها أن ترجع عن غيها وتنسى زوجي، والرجال كثير، وهدداها بأن يبرءا من نسبتها إليهما، فلم تحفل بما بذلاه لديها من النصح والتهديد، وصمت إلا عن هواها وأنانيتها.
إن هذه الحادثة يا عزيزتي جعلتني أمقت ذكر الزواج والرجال. وأعتقد أنه لا يزال بهم جزء وافر من البهيمية، وإن كانوا يدعون أنهم أرقى منا عقلاً وأصفى جوهرًا. نعم إن أختي عليها بعض الجرم، ولكن من أغواها وأضلها؟ أليس هو الرجل؟
هذه حكايتي قصصتها عليك، ولى في إخلاصك ما يخفف بعض لوعتي، والسلام .
صديقتك الوالهة سعاد.
کلمتي: تقع أمثال هذه الحادثة كثيرًا فيتفطر لها قلب الإنسانية، ولا أدرى هل عند حضرات العلماء والمجتهدين فتوى تحرم الزواج في مثل هذه الحادثة.
نعم إن الشرع نص على أنه لا يجوز الجمع بين أختين في آن واحد، ولكن ألم يضع الدين كل ما يكفل راحة البشر وسعادتهم؟ وإن في طلاق أخت لأجل زواج أختها من نفس بعل الأولى لشقاء لا يعادله شقاء، وقطيعة بين ذوى القربى، أو عصيانًا لأمر الله تعالى، فإنه نص على البر بهم نصًا صريحًا لا يحتاج لتأويل.
من الملوم في مثل هذه الواقعة؟ لا ريب أن اللوم لا يتخطى كلا الزوجين الجديدين، ولكني أعتقد أن المرأة أضبط للنفس من الرجل، متى أرادت. وليس ذلك بالفطرة، ولكن يفضل المبادئ والتقاليد، فلو كانت أخت سعاد أرجعت بعل أختها عنها لارتجع، أو لو ابتعدت عن طريقه لامتنع عن التمادي في الغواية، ولكنها كانت ميالة للغدر بأختها، فلا رعاها الله, ولا رعى كل امرأة لا تقوى على ضبط نفسها وامتلاكها.
المدن والقرى
۲۱
قل ما أنقى الهواء وأعذب الماء وأصفى السماء في القرى، وما أكذب الحياة وأقرب الوفاة في المدن. القرى جميلة لأنها على الفطرة. أما المدن فلا تعدم أثرًا للتكلف والرياء.
أین دوى الكهرباء من خرير الماء، والدخان المتعاقد فوق المداخن من جو لا تر فيه إلا تحليق الصقور وإلا رؤوس النخل الباسقات؟؟ وأين وحل الشوارع وعثيرها من أرض كسيت ببساط النبات؟؟ وأين الرائحة المنبعثة من مقاذير المنازل، وروث الدواب من شذي أزهار الحقول؟؟ بل ما أوصل البصر يريد الجولان فيرده من هنا جدار ومن هناك سور من نظر تسرحه حيث شئت فلا تجد إلا اللانهاية للفضاء؟؟ وأين كثرة التلفت والحذر من رسل عزريل، السيارات والمركبات، من اطمئنانك وسيرك على صراط سوى، لا يقتفى أثرك إلا ظلك، وهو على ما تعلم من التبعية والولاء؟؟ وبالاختصار قل إن جملة المدن فيها إجهاد للحواس وتشويش للفكر، وإن القرى فيها هدوء الكون والجسم والبال.
في القرى تجود الصحة لنقاوة الهواء وحسن الغذاء وإتباع سنن الطبيعة في النوم والراحة والاستيقاظ. أما في المدينة فغذاء مغشوش وماء آسن لا يكاد يصل إلى المنازل إلا بعد مروره ببطن الأرض فيتلوث بما فيها من المستنقعات والرواكد والأقذار. وجو مكتظ بأنفاس السكان من أقوياء وأعلاء، ومساكن اشتركت في عمرها الرطوبة، فضلاً عما بها من الضيق، وساكنها من حين لآخر ينتظر زائرًاً، أو يزور صاحبًا، أو يخرج ليرى منظرًاً، أو يلتقط خبرًا، فيضيع وقته سدى في أحاديث منمقة كاذبة. تراه يقول لزائره “أوحشتنا وآنستنا” وقد يؤثر زيارة الحمى على زيارته.
المدن باعثة على الفساد، من كان عنده ميل إليه، أو كان ضعيف الإرادة يجره أولو السوء إلى مساوئهم كما يجر الجزار الشاة، ويجذبه زخرف المدينة الباطل فلا يقوى على رد هجمته. لا تصلح المدن لتربية الأطفال على قواعد الصحة والاستقلال، وكذلك لا توافق المرأة كثيرًا. والمتصفح لكتاب التربية الاستقلالية، أو أميل القرن التاسع عشر – لا يسعه إلا التأمين على ما قاله مؤلفه من وجوب تربية الأطفال في القرى. وقد ضرب لذلك مثلاً أن الطفل في المدينة تجتهد أمه في تزويقه وتحسين بزته ليفتن كل من رآه، فإذا مشي يريد الفسحة حمله هذا وقبله وأطراه ذاك، وإذا أراد اللعب أو تتبع حشرة أو جرى تنشيطًا لرجليه، منعته مربيته لئلا يلوث ثيابه الجميلة، فينشأ الطفل ضعيف الجسم لأنه لم تترك له الحرية ليستعمل حواسه وأعضاءه كيف شاء. ولا غرو فإن استعمال الشيء يقويه ويصلحه ويشب ضعيف الإرادة مغلوبًا على أمره لأنه يجبر على الخضوع لمربيته خضوعًا مزريًا. حتى أنه ليستشيرها فيما يقول أو يفعل، ويشب كذلك مغرورًا بنفسه لتعوده سماع الثناء عليه والإطراء. ثم يظل جاهلاً لكثير من الأمور، لأنه في القرية يستغنى عن كثير من “دروس الأشياء” والجغرافية الأولية يتعلمها بنفسه، والعلم المكتسب من النفس والتجارب ثابت بخلاف ما يحشى به الرأس قسرًا فإنه سريع الزوال غير مؤثر، فبدلاً من تلقينه أن الشمس تبزغ من الشرق وتغيب في الغرب، وترديده تلك الألفاظ كالببغاء وقد لا يرى شروقها وغروبها لعلو المساكن الملتصق بعضها ببعض وحجبها الأفق. بدلاً من ذلك يمكنه في القرية أن يلاحظ الشروق والغروب بنفسه لسعة الفضاء حوله.
يضحكني في دروس الأشياء وكتبها أن يقال الجمل من ذوات الأربع،وله سنام،والقط له عينان وشاربان، والسمكة لها ذيل وحرافيش، فإن ذلك يجب أن يراه الطفل بنفسه، أما ذكره له فأراه حطًا من كرامته، وتضييعًا لوقته، وتعويدًا له أن يتكل على غيره. وعندي أن تركه يلعب ويمرح خير له من تلك الدروس العقيمة، ولكن قد لا يشبه أطفال المدن لتلك الحيوانات لقلتها عندهم، ولعدم تعودهم البحث وإجالة النظر من تلقاء أنفسهم، وهم لو تربوا في القرى لعلموا كل ما يتعلق بها أو جله، ولأمكنهم معرفة خصائص النباتات، ومتى وبأي وسيلة تنمو، وماذا يصنع بها في أدوار نموها، وبعد نضجها، وغير ذلك مما يفيدهم ويسليهم في آن واحد.
ترى الطفل في القرية يستيقظ مع الشمس وينام معها، ويأكل متى جاع، فلا ينتظر وليمة يأخذ عنها فطيرة قد تفسد معدته، ولا يجبر نفسه على السهر ليحضر الملاعب، وهو في كل أوقاته بعيد عن السكارى والمهوسين وصرعي العجلات (الترام) فتمتلئ نفسه ثقة وإيمانًا واطمئنانًا، ويكون أبعد انفعالاً وحمقًا من مثله في المدينة. يؤيد قولي هذا أن أعظم النوابغ في مصر وأشرف الرجال مبادئ أصلهم كلهم تقريبًا من أولاد أولئك القرويين الأصحاء البنية والعقول، أثرت فيهم تربيتهم الاستقلالية فنشأوا ذوى عزيمة صادقة وحب غريزي للعمل. أما أولاد (الذوات)، وهم العريقون في سكني المدن، فلا حاجة لوصفهم ويكفي القول بأنهم لا يصلحون لشيء ما، ولا ينبغ منهم إلا النزر القليل.
والمرأة ليست أقل سعادة من الطفل في سكني القرى، بأنها فضلاً عما تجد من جودة الصحة والراحة, تراها تتفرغ لبيتها أكثر وتزاول بعض الأعمال مما يشغل عضلاتها، أو على الأقل يستدعى انتباهها وملاحظتها. فبدلاً من أن تنام وتنتظر بائع الخبز يحضره لها، تراها في القرية تشتغل بتحضيره، أو تلاحظ خدمها عند اشتغالهم بالقمح وتجهيزه. كذلك تجد نفسها في المدينة كسولاً لأنها ببذل بعض الدراهم يمكنها استجلاب جميع لوازمها، فلا تخيط والخياطات كثيرات، ولا تلاحظ نظافة البيت وترتيبه، كما تفعل لو كانت في القرية، لأن خادمات المدن أرقى بالطبع من الفلاحات في مثل هذه الشؤون. فتتكل ربة البيت عليهن، ولكنهن لا يقمن بما عهد إليهن تمام القيام، أما سوق التنافس فرائجة جدا في المدن لكثرة الاختلاط، وقد يجر تنافس النساء إلى تحميل الرجال فوق طاقتهم ومضايقتهم إذا لم يكونوا في سعة من الغنى.
ماذا تعمل نساء المدن عندنا؟؟ لا شيء اللهم إلا كنس الشوارع بذيول حبراتهن، وإثارة ترابها وجراثيم الأمراض المنتشرة، ووقتهن ضائع بين استقبال الزائرات وزيارتهن، وبعضهن يحضرن التمثيل ولكنهن مع الأسف لا يخرجن منه بفائدة ما، ولا يتعلمن من مزاياه والتاريخ المنطوي تحته والمعاني السامية التي يحتويها إلا ألفاظ العشق والتهتك ووسائل الهرب والفجور. مثل هؤلاء تفسدهن المدن وتدعوهن للتبذير والابتذال.
قارن بين المرأتين المدنية والقروية تجد فرقًا هائلاً في الصحة والأخلاق؛ فبينا تنشأ الأولى خمولاً عليلة تجد الثانية مفتولة الذراعين طاهرة السيرة والسريرة. تمشي الأولى في الطريق محتجبة، ولكنها غير محتجبة عن أعين السفلة وألسنتهم فيغازلونها على قارعة الطريق، وهي تمشي الهوينا متبخترة، أما القروية فإنها تلوح عليها دائمًا ملامح الجد والنشاط, فإذا مشت خارج بيتها تجدها تسرع الخطى لا تلوى على شيء، وهي لا تغطى وجهها، ولكن هل يجسر أحد على “معاكستها“؟؟
رأيت سيدات كثيرات لا يستطعن العيش في القرى أسبوعًا واحدًا فعجبت من ذلك. هؤلاء من يسميهن الإنكليز Society Women أي نساء المجتمعات، وهن اللاتي لا يهمن إلا أن يظهرن في كل حفلة ويذكرن بالحسن والتأنق في الملبس ونفاسة المصوغات، ويطربهن أن يكن موضع الإعجاب، وأن يشار إليهن بالبنان، ولو فيما لا يستحق الذكر. مثاله أن إحداهن رهنت أملاكها واشترت سيارة وأوصت أن تدهن تلك السيارة بلون ليس له مثل في البلد، وأن يجعل لصفارتها صوت خصوصي تعرف به، فإذا مرت وسمعت قولهم هذه سيارة فلانة، هزها الفرح ونسيت أن أملاكها مرهونة، وأنها خير من السيارة وأبقى. فهذه السيدة ومثيلاتها، ممن يرصعن أحذيتهن بحجارة الماس الكريم ويتركن الفقراء يتضورون جوعًا، لو نشأن في القرى أو لو سكنها لوجدن أنفسهن بعيدات عن مثل هذا الترف الباذخ ولواسين الملتفات حولهن من الفلاحات البائسات.
السيدة الفاضلة هي التي ينال غيرها نفعها، لا التي ترفل في الدمقس وفي الحرير وفي القرى يمكن بث التعاليم المناسبة لأهلها فتستفيد منها كثير النساء الجاهلات، كتشويقهن للنظافة، وإلقاء بعض النصائح الصحية عليهن، وحثهن على إرسال بعض أولادهن للكتاب، وتعويدهن الاطمئنان لتحوطات الأطباء أيام الأوبئة، وتشجيعهن عند أخذ أولادهن للجندية، وغيره كثير. وقد جربت ذلك بنفسي ويسرني أنه ناجح والحمد لله. إلا أن هذه القلوب الطيبة والنفوس المطمئنة لتجعل الملتفات حولها تشعر كأنها ملكة في مملكة صغيرة ويلذها أن تنفعها وترقيها. فليتدبر ذلك نساؤنا اللاتي يكرهن زيارة القرى لا لذنب إلا لأنها بلد الفلاحين.
جمال السيدات
۲۲
البشاشة مفتاح ما أغلق من السعادة، ومعوان على قضاء الأشغال، يصل نورها إلى قلب صاحبها فيفعمه غبطة. كذلك يلقي شعاعه الكهربائي على من حوله فتنتعش به أرواحهم. وهي جميلة في الكهل، كما تجمل في الطفل، إلا أنها أبهى وأشد تأثيرًا في المرأة تلك التي تسيطر على القلوب ولا تدري.
خلقت المرأة لطيفة بالفطرة، والبشاشة من لوازم اللطف، كما هي من المؤثرات في الجمال. وإن لين صوتها ونعومة أديمها وتناسب أعضائها لتستدعى مراعاة النظير في رشاقة حركاتها وانفراط أسرة وجهها. كذلك صوت المرأة يدل على تربيتها، فالمرأة المهذبة لا ترفع الصوت ولا تكاد تسمعها عن بعد إلا كالهمس. هذا إذا لم يبعثها باعث شاد على إعلائه كأن تقف خطيبة على جمع حافل أو تلقي درسًا في حجرة واسعة. ولكنك إذا اجتزت أحد شوارع البلد الهادئة يذعرك كثرة ما تسمع من صياح النساء في غير طائل إلا شتم الخدم والدعاء على الأطفال أو محض قص القصص أحيانا. فإذا دخلت المنزل تجد صاحبته مقطبة الجبين، يكاد يطردك عبوسها عن أن تقابلها، ولا توشك أن تجلس حتى تبدى لك سبب صراخها، فتشكو من هذا وتتألم من تلك إلى أن تجعل الدنيا في عينيك كسم الخياط.
يلاحظ نساء الفرنجة ذلك، وكذلك السيدات التركيات، ويستدللن من صوت المرأة على مكانتها في الاجتماع، فالمهذبة تخفضه أما عاليته فيصمنها بفساد التربية أو ضعة المنبت، ولكننا نحن المصريات قلما نراعي ذلك فقد تجد أعرقنا أصلاً أقوانا نبرة، وأكثرنا حشمة أشدنا صراخًا.
ثم إذا أرادت إحدانا التنقل من حجرة لأخرى تراها تتعثر بأذيالها، أو يصدمها حائط أو تكسر زهرية قريبة منها. وهذا كله نتيجة تربيتها الأولى.
يجب أن تتعلم الفتاة كيف تمشى وكيف تتكلم. لا أريد بذلك أن تتدرب على التبختر أو غنة الصوت. كلا وإنما المراد تربيتها على ملاحظة ما حولها والانتباه له. فكثيرات عندنا وكثيرون أيضًا من يمشون غير حذرين فيقعون فيما لا تحمد عقباه، وإن كثرة صرعي (الترام) في مصر وتعدد السقوط من النوافذ لبرهان جلي على فساد التربية سواء كانت في الأطفال أو الكبار. وإن من العمى لمن هم أشد حذرًا في التلمس وأكثر تؤدة في المشي من هؤلاء المبصرين الذين (لا يستعملون أعينهم) كما يقول الإنكليز في اصطلاح لغتهم.
إذا كان الإنسان عاجزًا عن أن يحسن خلقته أو يغيرها تغيرًا ثابتًا، فإنه يستطيع على الأقل أن يحفظها كما هي زمنا طويلاً، وأن يحسن أخلاقه، وهذه الثلاث الخصال أي البشاشة والخفة وانخفاض الصوت من مجملات المرأة خلقًا وخُلقًا، ومن محسنات الصحة أيضًا. فقد ثبت أن تقطيب الوجه يدني إلى الشيخوخة بما يخلفه من الآثار والغضون، فيثنى الجلد ثنايات لا انفراط لها فيما بعد، وأظن هذا هو السبب الوحيد فيما يظهر على نسائنا من الكبر قبل الأوان.
أما خفة الحركة فكفى بها ما تستدعيه من نشاط الجسم، وتوفير الوقت، تسافر المرأة الإفرنجية الآن أو البدوية وحدها، فتركب القطار أو الجمل وتنزل وسرعان ما تحمل متاعها أو تحضر من يحمله لها بلا ضوضاء. أما المصرية فلا تسافر إلى محطة قريبة إلا ومعها من الخدم والأقارب من تعطلت أعمالهم من أجلها، ثم تجدها لا تكاد تحرك رجلاً لتنزل حتى يتحرك القطار وإذا ساعدها الله (والأولياء)!! ونزلت فما أكثر ما تفتقده ولا تجده. ضاعت حقيبة المصوغات، وانكسرت القلة فبللت حبرتها، واشتبك برقعها بمفتاح العربة فانقطع خيطه، وإذا لم يسرع حشمها في التقاط أطفالها فقد يقع أحدهم تحت العجلات صريعًا.
أما انخفاض الصوت، ففضلاً عن رقته ولطفه في ذاته، فإنه يريح الرئتين والزور من الإجهاد وكذلك يقع لينًا على آذان السامعين.
المرأة صاحبة البيت في الحقيقة لا الرجل، فإنها بما لها من القيام على ترتيبه وحفظ من فيه وما فيه تسرى سلطتها على من يسكنونه معها من زوج وأولاد وخدم. والرئيس له تأثير غريب على مرؤوسيه، يأتي طبيعيًا إن لم يكن بالتقليد لنيل الزلفى. فإذا دخل معلم على تلاميذه بحالة من الحالات النفسية تجد أن تلك الصورة بعينها قد انطبعت في التلاميذ إن فرحًا وإن غضبًا. والمرأة لها نفس التأثير الغريب في بيتها، فحرام أن تحزن معها رجلاً يتعب ويكد يومه ولا يغشى بيته إلا ليستريح، وأولادًا صغارًا لا يعرفون للهم معنى، وخدمًا تبعث فيهم كلمة طيبة منها روح النشاط وحب العمل. حرام أن تكدر صفو هؤلاء على غير جزيرة لأنها تشعر بملل من طول الكسل، أو بضيق صدر بسبب كان ذلك أو بلا سبب.
على أن بعضهن قد يفرطن في التبسم وانخفاض الصوت إلى درجة تخرجهن عن اللائق. فالمرأة الضاحكة بلا سبب والخفيفة إلى حد الطيش والواطئة الصوت إلى حد الهمس كلهن مفرطات فيما يجب، إنما أعنى أن تصحب البشاشة الوقار، والخفة الحزم، وهدوء الصوت البيان. هذا هو الجمال الممكن نيله، الممدوح أثره، لا الطلاء والتطرية الكاذبان.
جمال السيدات
يضيعه التبغ والخمر
۲۳
الله أكبر ما جمال المرأة المعنوي إلا في عفتها ووداعتها. والتبغ مذهب لتلك الوداعة مخل بصفاتها. صور قدماء الرومان واليونان آلهتهم برمور وتماثيل تدل عليها، وكذلك يصور المعاصرون من الفرنجة كثيرًا من المعاني في أشكال مجسمة تعينها. مثلوا الحنو الوالدي والشفقة والصبر والحب وغيرها في حجارة نحتوها وصور نقشوها، ولعلهم لم يفتهم تصوير الكسل، ولو أنصفوا لصوروه، امرأة تقضى وقتها بين السيجارة والقهوة. وأظننا لا نجهل مُثلاً حية كثيرة له.
وكما يذهب تعاطي التبغ بالجمال المعنوي، كذلك يسلب الجمال الحسي. يرمى الأسنان بالصفرة ويغير اللثة والشفتين، وأظنه يغير طعم الفم أيضًا، ولو عاش الشعراء الأقدمون إلى هذا الوقت لما رأينا في أشعارهم ذكر اللؤلؤ والبرد ووميض البرق, وغيرها مما كانوا يشبهون به أسنان النساء لشدة بريقها. فإذا كانت المعاصرات، وخصوصًا المتدينات منهن، يزعمن أنهن أرقى من مثيلاتهن الغابرات في كل شيء فقد أخطأن. وإذا كان دارون وأنصاره يدعون اطراد التحسن والارتقاء في التسلسل الذي قالوا به, فقد كان يتحتم عليهم أن يستثنوا جمال النساء لأنه راجع القهقرى. ولو اقتصرت على تعاطى التبغ لهان الأمر. إنهن، والأسف ملء فؤادي، يتعاطين الخمر سرًا وجهرًا. أعوذ بالله من شر المدنية الحديثة، ومن شر التقليد الأعمى.
الرجل أبشع ما يكون حين يسكر، والمرأة أبشع ما تكون حين تشرب الخمر. وقد سرى هذا الداء العياء بين الطبقات العالية من النساء، بدعوى أنه من كماليات التفرنج، ويقلدهن فيه الباقيات تشبهًا، ويتبجح بعض النساء الآن في الأعراس بطلب الكؤوس والأقداح وزجاجات الخمر، إذ يشربن بلا احتشام، ولا يلبثن أن يتمايلن ويهذين كسكان (السراى الصفراء) .
حدثتني سيدة ثقة من المتألمات لهذه الحال أنها دعيت إلى عرس أحد (الذوات)، ولما جن الليل قام من بين المخمورات اثنتان فهذتا ما شاء الجنون, وبعدها تشاجرنا وأمسكت كل واحدة منهما بتلابيب الأخرى فمزقتا أثوابهما المزركشة، وكانت النتيجة سخرية وفضيحة. وقد أكدت لي محدثتي أن ثوب إحداهما كلفها أربعين جنيهًا. فياللعار! إنها لبدعة وضلال كبير … ذهب الوقار وانتشر الفجور فبئس التمدين وبئس التقليد. ألمثل هاتين المرأتين توكل تربية الأولاد, ومن مثلهما يطلب تدبير الدور؟ إن السكرى لا تعي ما تقول ولا ما تفعل، وقد يجرها الخمر إلى شر أنكى من الهذيان. وإن المتتبع لسير نسائنا ليدهش من كثرة الفساد بين الطبقة العليا منهن وهي تعدى كالجرب غيرها من الطبقات. أين وازع الدين؟ أين زاجر العقل والآداب؟ يا قوم لا تغرنكم زخارف المدنية وربوا بناتكم تربية إسلامية. ولا بأس من اقتباس الحميد من المدنية الأخرى، وإن تدهوركم هذا لآخذ شيء بكم وبال طن إلى مهاوى الاضمحلال. وأي فساد أكبر من اندماج أمة في أخرى، وتلاشي عاداتها وآدابها في إتباع سنن لا تتفق مع دينها ولا مع مدنيتها؟؟
إن فساد كثير من النساء راجع إلى بعولتهن، فكثيرات من تعلمن منهم المسكر. وكثيرات من يسكرن معهم في البيت حرصًا عليهم أن يسكروا في الخارج فيرنوا إلى غيرهن، أو تسلب نقودهم، ويجعلن لأنفسهن عذرًا أن بعض الشر أهون من بعض. إلا أن المرأة الحكيمة هي التي إذ رأت في بعلها خصلة ذميمة أخذته بالحيلة وحسن السياسة والتأثير إلى أن يتركها، لا التي تحاكيه فيها فيتضاعف الفساد. وأجدني مضطرة إلى توجيه بعض اللوم إلى أطبائنا في هذه الحال، فأغلبهم يصفون أدوية فيها مزيج من النبيذ وغيره للسيدات بدعوى أنها تقوى الدم أو تجلب الدفء أو تمنع المغص وغير ذلك. نعم إنهم يصفونها بقصد حسن لأنهم يعرفون من خصائصها ما قد يشفى ما وصفت لأجله. ولكن في إمكانهم أن يستبدلوا بها عقاقير أخرى لها نفس تلك الصفات. ولا يبعد عليهم معرفتها أو التنقيب عنها في كتب الطب القديمة، لأن بعض النساء يتوكأن على أن الخمر داء، فيتعاطينه لذاته، ويزعمن أنه للشفاء. وقد تترك فيهن الكأس الأولى، وهي دواء، ما يجعلهن يعدن الكرة في غير ألم.
أما الضرر الصحي من التبغ والخمر فلا يقل عن مثله الاجتماعي. فقد أوضح الأطباء مفعوله وبينوا مقدار (النيكوتين) السام في كل لفافة (سيجارة)، وكيف أنه يضر الصدر والعيون ويفسد الشهية للطعام. أما الخمر فكفي أنها تقطع الكبد وتفسد العقل. وفي تقرير كتبه مدير مستشفى المجاذيب أن أكثر من نصف ضيوفه اللطاف أذهبت عقولهن المغيبات!
إن أثقل وقت تقضيه السيدة التي لا تدخن هو الذي تجتمع فيه بأخريات يدخن, فيرسلن سحب دخانهن فتستعير ويسد عليها الدخان منافسها. ولعل الله بفضله وكرمه يسمعنا عن حريق آخر في مخازن الخمور كما أحرق مخازن التبغ، فتجد المتوسطات والفقيرات من غلاء أسعارهما ما يمنعهن من تعاطيهما، ويكون عزاؤنا الوحيد لأصحاب الخسائر بيت المتنبي:
بذا قضت الأيام ما بين أهلها…… مصائب قوم عند قوم فوائد
جمال السيدات
والرياضة البدنية
٢٤
كثيرًا ما يكون ضعف البنية من مشوهات الجمال. وإن لجودة الصحة لدخلاً لا يستهان به في تحسين تقاسيم الوجه وتناسب الأعضاء. ولا تقوم تلك الجودة على حسن الغذاء فقط، كما يتوهم أغلب النساء، بل لها أساسات أخرى، أهمها الرياضة وخلو الفكر من الهم. والناظر لحالة نسائنا يدرك لأول وهلة احتياجهن الشديد إلى الرياضة البدنية، فإن فقر الدم المستحوذ على كثيرات منهن، والسمن المفرط المسببين عن طول مدة الجلوس، ليشهدان أن تلك الوجوه المصفرة لم ترها الشمس، وأن تلك الأجسام الضخمة لم تهذبها الحركة. ولو اقتصر الأمر على تشويه الجمال، وما ذلك بالهين على النساء، لما كان الخطب كما هو الآن جللاً. إن طول المكث في محل واحد وعدم تنوع المعيشة عندنا يذهبان بطلاوة الجديد ويجلبان الأمراض المختلفة والسأم، كالماء الراكد إن لم يتغير أسن.
للرياضة أنواع شتى تستعملها النساء العربيات، ولست أشير على نسائنا باقتباسها بأنواعها فقد لا تلائم مجتمعنا، فمنها الألعاب المختلفة والركض والسباحة وركوب الخيل وأقلها كلفة وأكثرها ملاءمة للشرقيات المشي. فهل ترانا نقوم به، وهو لا يكلفنا درهما، وليس هو مما قد نعده من علائم الطيش الإفرنجي، أو مما يذهب برزانة الشرقيين ووقارهم الطبيعيين ؟؟
إن عيشتنا كلها جلوس في جلوس، نظل أسرى البيوت الضيقة، ويمنعنا زهونا عن أن نشتغل بشيء فيها، فتجمد عضلاتنا عن الحركة. وإذا طلبنا فكاكًا من هذا الأمر الممل فلا نجد سوى بيوت الجارات نزورها ماشيات خطوات معدودة إن كانت قريبة وإن بعدت فما أرخص العجلات وأكبرها مما تجره الخيل أو الكهرباء.
يشكو أغلب نسائنا الصداع وضيق الصدر وعسر الهضم وغيرها مما تكفى الرياضة واجتلاء جميل المناظر لإزالته. وما الآلام العصبية و(الزار) إلا نتيجة ذلك الملل وبلادة الأعضاء. فإن المرأة المصرية لا تدرى بماذا تروح عن نفسها وتذهب سأمها ولا كيف تنوع معيشتها فتنزع إلى تلك الترهات لجهلها، ولكنها معذورة فيما أرى لأنها مضطرة،وقد يركب المضطر حد السيف.
إن آباءنا وأجدادنا كانوا أكثر منا مراعاة لترويض النساء من حيث لا يدرون، فإن المنازل القديمة كانت كلها مبنية على الطراز التركي، تحجبها أسوار عالية وداخلها الرحبات المتسعة والحدائق الغناء مما تمرح فيه نساء البيت ولا رقيب عليهن، وينعمن أنفسهن ببهيج منظر الحدائق وفوارات الماء، فمن لاذ للسمع وجميل للنظر وحلو للذوق ولطيف للمس وزكي للشم. طيور صادحة وغزلان سارحة وفاكهة جنية وزهور شهية وروائح عطرية. خضرة الزمرد وشفافية البلور في النبات والماء، وبهاء الياقوت وأريج المسك في الزهر والهواء، وسواق ناعرة تجلب النوم وتجعله هبيئًا، وبالجملة كان عيش تلك البيوت مريئًا ونساؤها كما قال شوقي بك:
يمرحن في مأمن …… مثل حمام الحرم
أما اليوم فقد قضى الاقتصاد أو بالأحرى البخل والتناهي في تقليد الغربيين، على أصحاب البيوت أن يضيفوها. وما ضاقت إلا على النساء المظلومات فليس بها إلا الحجر. وتجد السلم مبتدئة من عتبة الدار، ووجهة البيت مكشوفة، فلا تستطيع صاحبات البيت التحرك ولا فتح النوافذ أحيانًا. وهذا لعمري آخذ بالخناق. ولعله سبب انتشار كثيرات منا في الطرقات. ماذا يفعل الطير المحبوس في قفص من حديد؟ إنه لا يتأخر لحظة عن الفرار إذا وجد وسيلة له.
إلا أن الشوارع والطرقات بها ما يوقر الآذان من بذاءة المماحكين وانتشارهم كالجراد، وقد يراهم رجال شرطتنا ويسمعونهم يتعدون على الآداب ويضحكون. ولو جاز أن تجعل طرق للنساء خاصة، وأخرى للرجال خاصة، لما تأخرنا عن المشي في طريقنا، أما والطريق عامة فليس أمامنا إلا أن نتوسل إلى أولئك الطغام أن يكفوا عن مماحكتهم، وتعرضهم لنا، فيكفينا ضيق المساكن عن أن يضيقوا علينا السبيل.
إن المشي والنزهة ليكسبان علمًا وتجرية، فضلاً عما يؤثران به في الصحة وتنقية الدم وما يخلفانه من النشاط في الأعضاء لمساعدتهما الجسم على إخراج فضلاته المحترقة. فكم في الطريق من مثار للرحمة ومن نافع التعليم الأطفال. وليست الفضيلة دروسًا تلقى على الآذان وتحفظ باللسان. وإنما هي فواعل تؤثر في النفس فتكسبها صدق العزيمة على رد هجمات السوء، وتحبب إليها الحسن من الخصال. وكم في المتنزهات من دروس صامتة لجمال الكون، وتسبيح الخالق والإيمان بما أنزله، وكم فيها من شياطين للشعر والموسيقى النفسية توحي للنفس ما توحي من جمال وحكمة.
إننا في مصر ولكنا لا نعرفها. أرأيت أغرب من مبصر أعمى؟ إن الأهرام على قيد فلتة العيار من القاهرة، ولكن كثيرات منا لم يزرنها، والآثار تخبرنا عنها السائحات الأجنبيات فنبدی جهلاً مزريًا، ونعجب مما يقصص علينا، وتاريخنا مبعثر في الأرض من قديم وحديث ولا من تلم به حيًا من غير الكتب الجامدة الخالية من الروح. ألم يأن لنا أن نطلب الحرية قليلاً فقد طلبتها أرجلنا التي كاد يصيبها الكسح من طول الجلوس، وأعيننا لم تر من بدائع الكون شيئًا. خصصوا لنا متنزهات، إن شئتم، لا يدخلها غير النساء وخليق بالمحافظين والمديرين أن يجيبوا هذا الطلب كل في مديريته. ووفروا قليلاً ما تصرفونه على الزخارف الكاذبة لبناء أو استئجار بيوت فسيحة الأفنية ليتروض فيها نساؤكم وأطفالكم بالمشي ليس إلا. أما نصيحتي للسيدات فهي أن يتركن الزيارات جانبًا وينزهن أنفسهن في الخلوات القريبة مع آبائهن أو بعولتهن، ليستفدن صحة وعلمًا وجمالاً.
خطبة في نادي حزب الأمة
وبحضور مئات من السيدات
أيتها السيدات:
أحييكن تحية أخت شاعرة بما تشعرن. يؤلمها ما يؤلم مجموعكن، وتجذل بما به تجذلن. وأحيى فيكن كرم النفس لتفضلكن بتلبية الدعوة لسماع خطبتي، إن أطلب بها إلا الإصلاح ما استطعت فإن أصبت؛ كان ما أرجو، وإن أخطأت فما أنا إلا واحدة منكن. والإنسان يخطئ ويصيب، فمن رأت في خطبتي رأيًا مخالفًا لما تعتقد أو أحبت المناقشة في نقطة فلتتفضل بإبداء ما يعن لها بعد انتهاء كلامي.
أيتها السيدات: ليس اجتماعنا اليوم لمجرد التعارف، أو لعرض مختلف الأزياء ومتحسن الزينات، وإنما هو اجتماع جدي أقصد به تقرير رأى لنتبعه، ولا بحث فيه عن عيوبنا فنصلحها. فقد عمت الشكوى منا, وكثرت كذلك شكوانا من الرجال. فأي الفريقين محق في دعواه؟ وهل نكتفي من الإصلاح بمجرد التذمر والشكوى؟ لا أظن مريضًا طاوع أنينه فشفاه. ويقول المثل العربي: لا دخان بلا نار. ويقول الفيلسوف الإنكليزي هربرت سبنسر: إن الآراء التي يظهر لنا أنها خطأ لا يمكن أن تكون خطأ محضًا، بل لابد أن يكون فيها نصيب من الصحة والصواب. إذن، نحن والرجال متساوون في صحة الدعاوى وبطلانها. كلنا متظلمون، وكلنا على حق مما نقول، بيننا وبين الرجال الآن شبه خصومة، وما سببها إلا قلة الوفاق بيننا وبينهم. فهم يعزون هذه الحالة إلى نقص في تربيتنا وعوج في طريقة تعليمنا. ونحن نعزوها لغطرستهم وكبريائهم. وهذا الاختلاف في إلقاء المسئولية زادنا اختلافًا في العيش، وأوسع هوة الجفاء بين الرجال والنساء في مصر، وهو أمر لا ننظر فيه بعين الارتياح، وإنما نأسف له ونتوجس منه. لم يخلق الله الرجل والمرأة ليباغضا ويتنافرا، وإنما خلقهما الله ليسكن أحدهما إلى الآخر فيعمر الكون إذ في ائتلافهما بقاؤه. ولو الفرد الرجل في بقعة من الأرض وانعزلت النساء إلى أخرى لانقرض الحزبان وحقت عليهما كلمة الفناء.
تدركن معنى قولي هذا من صعوبة الرد على هذا السؤال: أي الحسين أصلح للبقاء في الدنيا: النساء أم الرجال؟ فإذا أجابت إحداكن: الرجال؛ لأنهم يقومون بشاق الأعمال من بناء واختراع وزرع وغيره، عارضتها بقولي ولأجل من نتجشم تلك الصعاب ولا نساء يتسلسل منهن النسل لعمار هذا الكون؟ وإذا قلنا: النساء؛ لأنهن مدبرات البيوت وأمهات النشء.. لقلت: ومن أين يأتي النشء ولا أب له؟ هذا قياس على نظام الطبيعة الحالي. ولن نتوسع في الافتراضات والمتوهمات، فقد كان الله قادرًا على خلق نظام آخر للتوالد، وهو قادر على خلق مثله، ولكنا للآن لم نسمع إلا بمثال واحد لهذا الشذوذ هو مثال سيدنا عيسى عليه السلام. فالمرأة والرجل للكون كالخبز والماء للجسم أو الشمس والماء للزرع. ولو استعاضت إحدانا باللبن عن الماء فإن اللبن بالتحليل يحتوى الماء. فالكتب السماوية كلها مجمعة على أن أصل البشر من آدم وحواء. والقائلون برأی دارون لم ينكروا ضرورة لزوم الذكر والأنثى للتوالد من الحيوانات الأولى التي زعموا أنها ارتقت بالتدرج إلى مصاف الإنسان. كذلك الحال في كل جسم حی نام. فإن النباتات كلها فيها الذكورة والأنوثة، والزهرة، على لطافتها وصغر حجمها، تحتوى شكلين مختلفين من العروق أحدهما لقاح للآخر. كذلك جعلهما الله لينتج منهما الحب الذي فيه بقاء النوع وسلط عليه الريح تسفيه إلى الأرض، فإذا ما جاده الغيث أو لقي ريًا نبت ونما وصار شجراً. فنظام التوالد مطرد في كل الأجسام الحية من حيوانات ونباتات، لا شك فيه البتة. وإذا راجعنا إحصائيات العالم كله وجدنا أن عدد الذكور والإناث فيه يكاد يكون واحًدًاً أو يفرق قليلاً جدًا. وهذا دليل على أن الله خلق رجلاً لكل امرأة. هذا بقطع النظر عن الحروب وغيرها، مما قد يخل بهذا التوازن الطبيعي الدقيق. إذن، فمحاولة الاعتزال بين الرجال والنساء مستحيلة، وعليه فلا فائدة من هذه الغارات القلمية الشعواء بيننا وبينهم. والأوفق أن نسعى للوفاق جهدنا، وتزيل سوء التفاهم والتحزب، لنحل بدلهما الثقة والإنصاف، ولنبحث أولاً في نقط الخلاف.
يقولون إننا بتعلمنا نزاحمهم في أشغالهم، ونترك أعمالنا التي خلقنا الله لها، فليت شعري ألم يكونوا هم البادئين بمزاحمتنا؟ كانت المرأة في العهد السابق تغزل الخيط وتنسج ثيابًا لها ولأولادها،فاخترعوا آلة الغزل فأبطلوا عملها من هذا القبيل. وكانت المرأة المتقدمة تغربل القمح وتهرسه وتطحنه على الرحا بيديها، ثم تنخله وتعجنه، فتهيئ منه خبزًا، فاستنبطوا ما سمونه (الطابونة)، واستخدموا فيها الرجال، فأراحونا من ذلك العمل الكثير ولكنهم عطلوا لنا عملاً، وكانت كل امرأة من السالفات تخيط لنفسها ولأفراد بيتها، فابتكروا لنا آلة للخياطة، يشتغل في استخراج حديدها وصناعتها الرجال، ثم جعلوا منهم خياطين يخيطون لرجالنا وأولادنا. وكنا نكنس حجرنا أو تكنسها الخادمات بمكانس من القش، فاستنبطوا آلة الكنس، التي يكفي أن يلاحظها خادم صغير فتنظف الرياش والأثاث. وكانت الفقيرات والخادمات يجلبن الماء لبيوتهن، أو لبيوت سادتهن، فاخترع الرجال القصب (المواسير) والحنفيات، تجلب الماء بلا تعب. فهل ترى عاقلة الماء يجرى عند جارتها في أعلى طبقات منزلها وأسفله، وتذهب لتملأ من النهر، وقد يكون بعيدًا؟؟ أو هل يعقل أن متمدينة ترى خبز (الطابونة) نظيفًا طريًا لا تتكلف له سوى ثمنه، تتركه لتغربل وتعجن، وقد تكون ضعيفة البنية لا تتحمل تعب تجهيز القمح وعجنه أو فقيرة لا تستطيع تأجير خدم له أو وحيدة لا مساعدة لها عليه. أظن الرجال لو كانوا محلنا لما فعلوا سوى ما فعلناه، وما من امرأة تقوم بهذه الأعمال كلها إلا القرويات اللاتي لم يدخل قراهن التمدين، بل إنهن يستعضن عن الرحا بوابور الطحين. وبعضهن عن الملء من البحر (بطلومبات) يضعنها داخل دورهن.
ولست أريد من قولي هذا أن أذم الاختراعات المفيدة التي اخترعها الرجال كثيرًا من أعمالنا، أو أقول إنها زائدة عن حاجتنا، وإنما كان هذا الشرح ضروريًا لبيان أن الرجال هم البادئون بالمزاحمة، فإذا ما زاحمناهم اليوم في بعض أشغالهم فإن الجزاء الحق من جنس العمل.
على أن مسألة المزاحمة هذه ترجع للحرية الشخصي. فزيد راقه أن يكون طبيبًا. وعمرو رأى أن يكون تأجرًا. فهل يصح أن نذهب للطبيب ونقول له لا تحترف هذه الصناعة بل كن تاجرًا؟ وهل يمكننا أن نجبر التاجر على أن يصير طبيبًا؟ كلا، فكل له حريته يفعل ما يشاء ولا ضرر ولا ضرار. وهل يجوز أن يمنع مهندس قديم من يحترفون هذه المهنة لأنه كان يكتسب ربح بلد بأكمله، فجاءه هؤلاء المهندسون الجدد يقتسمون أرباحه؟ على أن ذلك لو جاز قوة لما صح أن يجوز شرعًا وحرية، ولما قامت من أجله الشحناء بين الرئيس روزفلت وشركات الاحتكار، فإذا كان المخترعون والصناع أبطلوا جزءًا كبيرًا من أعمالنا فهل نقتل الوقت في الكسل أم نبحث عن عمل يشغلنا؟ لا غرو وأننا نفعل الثاني.
ولما كانت أشغال منزلنا قليلة، لا تشغل أكثر من نصف النهار، فقد تحتم أن نشغل النصف الآخر بما تميل له نفوسنا من طلب العلم، وهو ما يريد أن يمنعنا عنه الرجال بحجة أننا نشاركهم في أعمالهم. لا أريد بقولي هذا أن أحث السيدات على ترك الاشتغال بتدبير المنازل وتربية الأولاد إلى الانصراف لتعلم المحاماة والقضاء وإدارة القاطرات! كلا ولكن إذا وجدت منا من تريد الاشتغال بإحدى هذه المهن فإن الحرية الشخصية تقضي بأن لا يعارضها المعارضون. قد يقولون إن الحمل والولادة مما يجبرنا على ترك الشغل، وقد يجعلون ذلك حجة علينا. ولكن من النساء من لم تتزوج قط، ومنهن العقيمات اللاتي لا ينتابهن حمل ولا ولادة. ومنهن من مات زوجها أو طلقها ولم تجد عائلاً يقوم بأولادها، ومنهن من يحتاج زوجها لمعونتها. وقد لا يليق بهؤلاء أن يحترفن الحرف الدنيئة،بل ربما يملن إلى أن يكن معلمات أو طبيبات حائزات لما يحوزه الرجال من الشهادات. فهل من العدل أن يمنع مثل هؤلاء من القيام بما يرينه صالحًا لأنفسهن قائمًا بمعاشهن؟؟ على أن الحمل والولادة إذا كانا معطلين لنا عن العمل الخارجي فهما معطلان لنا عن الأعمال البيتية أيضًا. وأي رجل قوى لم يمرض ولم ينقطع عن عمله وقتًا ما؟
يقول الرجال ويجزمون إنكن خلقتن للبيت، ونحن خلقنا لجلب المعاش، فليت شعري أي فرمان صدر بذلك من عند الله، ومن أين لهم معرفة ذلك والجزم به ولم یصدر به كتاب؟ نعم إن الاقتصاد السياسي ليأمر بتوزيع الأعمال، ولكن اشتغال بعضنا بالعلوم لا يخل بذلك التوزيع. وما أظن أصل تقسيم العمل بين الرجال والنساء إلا اختياريًا. بمعنى أن آدم لو كان اختار الطبخ والغسل، وحواء السعي وراء القوت لكان ذلك نظامًا متبعًا الآن، ولما أمكن أن يحاجنا الرجال بأنا خلقنا لأعمال البيت فقط. وها نحن أولاء لا نزال نرى بعض الأقوام، كالبرابرة مثلاً، يخيط رجالهم الثياب لأنفسهم ولأفراد بيتهم ويتجشم نساؤهم مشقة الزرع والقلع حتى أنهن ليتسلقن النخل لجني ثمارها. وها نحن نرى نساء الفلاحين والصعايدة يساعدن الرجال في حرث الأرض وزرعها وبعضهن يقمن بأكثر أشغال الفلاحة كالتسميد والدراس وحمل المحاصيل ودق السنابل والبراعم (الكيزان) وسوق المواشي ورفع المياه بما يسمونه بالقطوة، وغير ذلك من الأعمال التي ربما شاهدها منكن من ذهبت إلى الضياع (العزب) ورأت أنهن يقدرن عليه تمام القدرة كأشد الرجال، ونرى مع ذلك أولادهن أشداء أصحاء.
فمسألة اختصاص كل فريق بشغل مسألة اصطلاحية لا إجبار فيها. وما ضعفنا الآن عن مزاولة الأعمال الشاقة إلا نتيجة قلة الممارسة لتلك الأعمال. وإلا فإن المرأة الأولى كانت تضارع الرجل شدة وبأسًا. أليست المرأة القروية كأختها المدنية؟ فلماذا تفوق الأولى الثانية في الصحة والقوة؟ هل ترتبن في أن المرأة من المنوفية تصرع أعظم رجل من رجال الغورية لو صارعته؟ فإذا قال لنا الرجال إننا خلقنا ضعيفات. قلنا لا. وإنما أنتم أضعفتمونا بالمنهج الذي اخترتم أن نسير فيه. حدثتني سيدة عالمة أنها في سياحتها بأمريكا رأت بعينها هنودها الحمر تتحرك آذانهم من تلقاء نفسها تجاه الصوت الذي يترقبونه كآذان الخيل والحمير. ذلك نتيجة استعمالهم لها، وقد توارثوه أيضًا وهم في حاجة إليه لتسمع زئير السباع وعواء الوحوش التي ربما تهاجمهم في فلواتهم. كذلك نجد حواس الوحشيين أقوى من حواسنا بكثير. فهم يشمون رائحة الوحوش من بعيد أما نحن فلا. ولم يكذب من قال إن الوظيفة تكون العضو. هؤلاء العميان يعتمدون كثيرًا على حاسة السمع، فتقوى فيهم بالتدريج تلك الحاسة إلى أن تبلغ غاية قد تعد من الخوارق عندنا. فهل بعد أن استعبدنا الرجال قرونًا طوالاً حتى خيم على عقولنا الصدأ وعلى أجسامنا الضعف يصح أن يتهمونا بأنا خلقنا أضعف منهم أجسامًا وعقولا؟ إنهم لو أنصفوا ولم يتحزبوا، لما عيرونا بأننا قليلات النبوغ وأنه لم يسمع بإحدانا غيرت قاعدة في الحساب والهندسة مثلاً. وليتفضل أحدهم بإخبارنا عما استنبطه من تلك القواعد. أو ليست قواعد الحساب هي بعينها من زمن اليونان الأول إلى الآن. ونظريات الهندسة لم تزل تلك التي كان يعرفها قدماء المصريين والرومان؟ نحن نعترف لرجال الاختراع والاكتشاف بعظيم أعمالهم، ولكني لو كنت ركبت المركب مع خريستوف كولمب لما تعذر على أنا أيضًا أن أكتشف أمريكا. وحقيقة أن النساء لم يخترعن اختراعات عظيمة. ولكن كان منهن النابغات في العلوم والسياسة والفنون الجميلة، أي فيما سمح لهن بممارسته. وبعضهن فقن الرجال في الفروسية والشجاعة، كخولة بنت الأزور الكندي، فقد عجب منها عمر بن الخطاب وأعجب باستقتالها في فتوح الشام حينما أرادت تخليص أخيها من أسر الروم. وجان دارك التي قادت جيش الفرنسيس, بعد هزيمته أمام الإنكليز، فشجعتهم على استمرار القتال وأصلت محاربي وطنها حربًا عوانًا. ولن أضرب مثلاً بالنساء اللاتي تولين الملك فأحسن سياسته، ككاترينا ملكة الروسيا، وإيزابيلا ملكة إسبانيا، وإليزابيث ملكة إنكلترا، وكليوباتره، وشجرة الدر امرأة الملك الصالح، وأم طوران شاه التي حكمت مصر. فقد يقول معارضونا إنه دبره لهن الوزراء وهم رجال !! على أنه لو صح هذا القول في عهد الدستوريين، كالملكة فيكتوريا مثلاً أو وولهمينا ملكة هولانده الحالية، فلا يصح تطبيقه على أيام الحكم المطلق.
إننا الآن في ابتداء القيام بتعليم البنات. فقول بعضهم بالاقتصار على هذا وذاك مثبط للهمة ورجوع للوراء. في حين أنه لا خوف من مزاحمتنا لهم الآن، لأننا لا نزال في الدور الأول من التعليم، ولا تزال عاداتنا الشرقية تثنينا عن الاستمرار على الدرس الكثير. فليهنأوا بوظائفهم، وما داموا يرون مقاعد مدرسة الحقوق والمهندسخانة والطب والجامعة خالية منا فليقروا عيونًا ولينعموا بالأمان، فما يتخوفون منه بعيد. وإذا فرض أن اشتاقت إحدانا لتكملة معلوماتها في إحدى تلك المدارس، فأنا واثقة أنها لن تقلد وظيفة أو تشتغل خارجًا، وإنما تفعله لإطفاء شوق النفس للعلم أو الشهرة ولما تفعله. فإذا كنا لم نشتغل بالمحاماة ولا بتقلد الوظائف الحكومية أفلا تشغلنا عن تربية النشء إلا قراءة كتاب أو خط جواب؟ أظن ذلك مستحيلاً. على أن الأم مهما تعلمت وبأي حرفة اشتغلت فلن ينسيها ذلك أطفالها، أو يفقدها عاطفة الشفقة والأمومة، بل بالعكس إنها كلما تنورت أدركت مسؤوليتها. ألم ترين الفلاحات والجاهلات يظل يبكى طفل الواحدة منهن ساعات وهي تسمعه ولا تتحرك؟؟ فهل يا ترى كان شغل هؤلاء أيضًا تحضير القضايا أو الاشتغال بالتحرير والقراءة؟
ولا يغيظني أكثر من أن يزعم الرجال أنهم يشفقون علينا. إننا لسنا محلاً لإشفاقهم، وإنما نحن أهل لاحترامهم، فليستبدلوا هذا بذاك، والإشفاق لا يتأتى إلا من سليم لعليل أو من جليل لحقير، فأي الصنفين يعتبروننا؟ تالله إنا لنأنف أن نكون أحد هذين.
قال قائلهم لا تعلموا البنات من الحساب إلا القواعد الأربع لأنهن لن يحتجن إلى أكثر منها. فمن أين له أننا نودع نقودنا في مصرف، أو تبيع وثيقة (كمبيالة)، أو يغالطنا وكيل في قياس قطعة أرض؟ إنه إذا ادعى بذلك تفضيل الرجال على النساء في علم التكهن والرجم بالغيب أيضًا قلنا لم تصح هذه الفراسة فقد أظهر الواقع غير ذلك. أما ما يذهب إليه من تفضيل لغة على لغة في التعلم، فذلك ما لا أفهمه لأني أعتبر اللغات كلها نافعة. ولو وجدت من يعلمني البربرية أو الصينية لتعلمتها. إذا كان لآداب اللغة فإن الفارسية والألمانية والإنكليزية وغيرها ملأى بذلك، أما تعليم تدبير المنزل وتربية الأطفال فيجب أن نشكر للدكتور عبد العزيز نظمي بك اهتمامه بهما وحثه عليهما.
أيتها السيدات: العلم منور للعقل على أي حال سواء عمل به أو لم يعمل. فماذا يضرنا أننا لا نشتغل بمسح الكرة الأرضية ولا بالسباحة ولكن نعلم مواقع البلاد وأبعادها؟ إن الطبيب يتعلم الجبر في تلمذته ولكنه لا يشتغل به في صناعته. كلنا نسمع بأخبار السياسة والرجال يشتغلون بها. ولكنهم لا يحدثون أنفسهم بأن يولوا مكان ذلك الملك المقتول أو السلطان المعزول. فهل نقول لهم إذا كنتم لن تتملكوا في تلك الأمم فلا يجوز لكم أن تعرفوا سياستها وأخبارها؟ نسمع في هذه الأيام أن جيش الدستور في تركيا زحف من سلانيك إلى الآستانة، وأن حصن اسكودار تأخر في التسليم. ألا يحسن بنا أن نعرف من (الجغرافيا) ما يهيئنا لفهم تلك الأخبار بعدما لاكتها أفواه الكبار والصغار. لو لم يكن للعلم لذة في ذاته لما اشتغل بتحصيله الملوك، وهم واثقون أنهم لن يكونوا مهندسين ولا بحارة ولا سائقى قاطرات. وهل تفضل السيدة التي تعرف أن تطبخ البطاطس وتنسق الأزهار فقط، أم التي تعرفهما أيضًا ولكنها تعلم متى يؤكل البطاطس، وهل يوافق زوجها المريض بالسكر, أو جسمها السمين الذي تريد تضميره؟ وهل وجود أصص (قصارى) الزرع في حجرتها ليلاً صالح لرئتيها الضعيفتين أم مضر بهما؟ فهذه تعرف تدبير المنزل وتلك تعرفه، ولكن تعلم واحدة علم النبات تحفظ لها صحتها وصحة عيالها من التلف، فضلاً عما تشعر به من السرور الناشئ عن العلم. نحن نعلم أن نقص تربيتنا الأولى وتربية أخواننا الشبان لا شك نتيجة جهل أمهاتنا. فهل نعرف الداء ولا نداويه، وقد قال الحديث الشريف لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين؟؟ إن المدارس مهما اجتهدت في تثقيف عقول النشء وتهذيبها فإن المنزل له تأثير خاص في الأطفال. وإذا شعر تلميذ أن أمه عالمة، أو لها نصيب من علم، فإنه يسعى جهده ليريها أنه أهل لحبها وتقديرها إياه، فيجتهد ليحفظ سلسلة العلم لتكون الصلة شديدة بينه وبينها. فتعلمنا الحالي ناقص يجب أن يزاد عليه لا أن ينقص منه.
أما ما أشكل على الرجال من علة فسادنا فهو ما ينسبونه خطأ للتعلم وحقهم أن ينسبوه للتربية. يرى كثيرون أن العلم يهذب، ولكني لا أعتقد ذلك، بل أصرح أن العلم والتربية منفصلان تمام الانفصال إلا في علوم الدين فقط. ودليلي على ذلك أن كثيرين من المبرزين والمبرزات في العلوم لا خلاق لهم، وأن الكتاب الواحد قد يدرسه معلمان مختلفان في فرقتين كل على حدة فتتعلم الفرقتان الكتاب ولكن نجد أثر الهمة وعلو النفس في واحدة ولا نراه في الثانية. فهذا ناشيء من تأثير روح المعلم في تلاميذه، لا من العلم, وإلا فلو كان من العلم لتساوت الفرقتان، لأن الكتاب واحد والعلم لا يختلف. يظن بعض الناس أن حسن التربية معناه تقبيل أيدي الزائرات وتكتيف اليدين خضوعًا. ولكن ما أبعد هذا عن الحقيقة، التربية الحسنة هي التي تؤهل الشخص لأن يدرك نفسه من سواه. وما أحزم من قال: ما هلك امرؤ عرف قدر نفسه. التربية الحسنة هي التي تعود الإنسان من صغره احترام الغير، إذا استحق الاحترام، حتى ولو كان عدوًا. فالتعليم لم يفسد أخلاق الفتيات، وإنما هي التربية الناقصة. تلك التربية في الحقيقة يجب أن تكون من أعمال البيت لا المدرسة. ولما كانت بيوتنا لم تبلغ الدرجة التي تؤهلها لإحسان تربية الأطفال فقد وجب علينا أن نضاعف مجهوداتنا لإصلاح شأن أنفسنا ثم إصلاح النشء. ولا يتم ذلك في لحظة كما قد يتوهم. ومن الظلم أن نلقى مسئولية الفساد كلها على المدارس، فإن المدارس لها تأثير في التربية، ولكن ليس عليها كل الذنب، بل العيب في الأسر.
من عيوبنا نحن النساء إننا لا نكترث كثيرًا بالنصح، فإذا قامت سيدة تريد تقرير مبدأ أو إظهار حقيقة قال أكثرنا مالها ولهذا، أو إن كانت تغار فلتعمل مثلنا، ومن غير ذلك من الألفاظ !!
ومن عيوبنا السخرية والتهكم. فكثير منا تنتقد من تصادفه وتعيب عليه، لا عيبًا حقيقيًا يستدعي الانتقاد، ولكن لولوع بالانتقاد في ذاته. فربما انتقدت في ساعة واحدة اثنين على خصلتين متضادتين. ولا يمكن أن يكون الشيء ونقيضه منتقدًا. فإذا رأت امرأة سمينة قالت إنها (كالبرميل) وكيف تستطيع الحركة؟ وإن أبصرت بأخرى رفيعة قالت إنها كعود الحديد تكسر يدها على ساقيها؟ وإذا وجدت سيدة قليلة الكلام قالت إنها متكبرة. وإن سمعت أخرى تتكلم كثيرًا عابت عليها وقالت إنها تتصنع الخفة!!
ومن عيوبنا الصلف والاغترار. كنت وأنا طفلة أحفظ قصيدة سمعتها، ولكنى كنت أخلط فيها وألحن كثيرًا غير عالمة بالطبع ما كنت واقعة فيه من الخطأ. وكانت زميلاتي الصغيرات لا يعرفن القصائد، ولم يسمعن بها، فكنت إذا قلتها أمامهن عددنها غريبة عليهن ووسمننىي بالذكاء! فما لبثت أن اغتررت بقصيدتي، وصرت أفخر بها، حتى إذا ألقيتها ذات يوم أمام والدي أراني خطئي، وبين لي أنها كانت مجموعة نتف من هنا ومن هناك، لا ارتباط لأجزائها ولا قافية لها، وأعطاني كتابًا فيه شعر. فأدهشني أكثر لأنني كنت أحسب أن لا شعر في الدنيا إلا تلك النتف التي كنت استظهرتها. فلو كان تركني ولم يبين لي خطئي فربما كنت استرسلت في الغرور. والإنسان مهما بلغ من العلم لا يزال يقبل الزيادة فيه، ومهما كبر فيما يعرف فإنه لا يزال طفلاً إزاء ما يجهل كالبحر تستعظم منه ما رأيت وما لم تره أعظم. وكيف أصلح خطئي إذا كنت لا أشعر به ولا أقبل نصيحة من يراه؟
يشكو الرجال من تبرجنا في الطرقات، وحق لهم لأننا خرجنا فيه عن المألوف والجائز. نحن نزعم أننا نحتجب ولكنا ما بلغنا حجابًا ولا بلغنا سفوراً. لا أريد أن نرجع لحجاب جداتنا، ذلك الذي يصح أن يسمى وأدًا لا حجاباً، فقد كانت السيدة تقضى عمرها بين حوائط منزلها لا تسير في الطريق إلا وهي محمولة على الأعناق. ولا أريد سفور الأوربيات واختلاطهن بالرجال فإنه مضر بنا. إن نصف إزارنا السفلي اليوم مرط (جونيلة) لا يتفق مع كلمة حجاب، ولا مع معناها، ولا مع الحكمة منه. أما نصفه العلوي فهو كالعمر كلما تقدم قصر. كان الحجاب الأول قطعة واحدة تلتف بها المرأة فلا يظهر من هيئتها شيء. ثم طرأ عليه تكمش بسيط ولكنه كان واسعًا يكفي لستر الجسم. ثم تفننا فيه فصرنا نضيق وسطه وتقصر رأسه. وأخيرًا فصل له كمان وصار يلتصق بالظهور ولا يلبس إلا مع المشد، ويربط من أطرافه إلى الوراء، حتى تظهر منه الآذان ونصف الرأس أو أكثره فتبين الورود والرياحين والأشرطة المزين بها الرأس. أما البرقع فأشف من قلب الطفل. ما الغرض من الإزار؟ الغرض منه ستر الجسم والملابس، والزينة اجتناب الزينة التي نهى الله عنها. فهل يتفق هذا المئزر الحالي وقد أصبح (فستانًا) يظهر النهدين والخصر والأعجاز، فضلاً عن أن بعض السيدات ابتدأن يلبسنه أزرق وبنيا وأحمر؟ الأولى أن لا نسميه مئزرًا بل (فستانًا بطرطور) فإنه في الحقيقة كذلك. وعندي أن الخروج بدونه أدل على الحشمة لأنه على الأقل لا يسترعي النظر. على أن مسألة الحجاب قد اختلف فيها الأئمة فإذا كان تفنن بعضنا هذا يراد به الاحتيال على الخروج بلا إزار فليس عليهن فيه من حرج إذا كشفن وجوههن بشرط ستر الشعر والجسم. وأرى أن أوفق لباس للخارج هو تغطية الرأس بخمار وسدل رداء أشبه (بالبالطو)،المسمى(cache poussiere) عند الفرنجة، على الجسم إلى الكعب، ويكون طويل الكمين إلى المعصمين. وهذا اللباس مستعمل في الآستانة، كما روت لي إحدى السيدات، للخروج إلى المحلات القريبة. ولكن من يضمن لنا أننا لا نقصره ونضيقه حتى نسخه (فستانًا) آخر؟ وحينئذ تضيق بنا حيل الإصلاح.
لو أننا متربيات من صغرنا على السفور، ولو أن رجالنا مستعدون له، لأقررت بالسفور لمن تهواه. ولكن مجموع الأمة غير مستعد له للآن. وإن كان بعض نسائنا العاقلات لا يخشى من اختلاطهن بالرجال، إلا أننا يجب أن نتحفظ على غير العاقلات أيضًا، لأننا سرعان ما نقلد وقل أن تبحث عن حقيقتنا فيه. ألا ترين أن تيجان الماس أصلها للملكات والأميرات فأصبحت الآن يلبسها المغنيات والراقصات؟ ولعل الشعراء يعدلون عن كنايتهم الملكات بياربة التاج فقد أصبحت تلك الكناية شاملة لسواهن !!
على أن تفننا في هذا المئزر الحالي هو في ذاته تقليد للأروبيات. ولكنا فقناهن في التبرج؛ فإن المرأة منهن تلبس أبسط ما عندها عندما تكون في الطريق، وتلبس ما شاءت في البيت أو في السهرات. ولكنهن بخلاف ذلك يظللن أمام أزواجهن بجلباب بسيط جدًا، ثم إذا خرجت إحداهن عمدت إلى أحسن ثيابها فلبسته، وأثقلت نفسها بالمصوغات وأفرغت عليها زجاجات العطر والطيب. وياليتها تقتصر على ذلك، بل تجعل من وجهها حائطًا تنقشه بالدهان وتصبغه بمختلف الألوان وتتكسر في مشيتها كأنها الخيزران. فتفتن المارة، أو على الأقل يتظاهرون لها بأنها تفتنهم. إني واثقة أن أغلب هؤلاء المتبرجات يفعلن ما يفعلن وهن خاليات الذهن من سوء القصد. ولكن من أين للرائي أن يتبين حسن نيتهن ومظهرهن لا يدل عليه؟
حجابنا يجب أن لا يحرمنا من استنشاق الهواء النقي. ولا من شراء ما يلزمنا إذا لم يقدر آخر على شرائه لنا… ويجب أن لا يمنعنا عن تلقى العلم، ولا أن يكون مساعدًا على فساد صحتنا أو سببًا في تلفها. فإذا لم أجد في بيتي حديقة واسعة أو رحبة طلقة الهواء وكنت فرغت من العمل وأحسست من نفسي بملل أو كسل فلم لا آخذ نصيبي من هواء الضواحي المنعش الذي خلقه الله للكل ولم يحبسه في صناديق مكتوب عليها “خصوصي للرجال” وإنما يجب أن نختار الاعتدال وأن لا نخرج للنزهة وحدنا اجتنابًا للقيل والقال وألا نمشى الهوينا وألا نلتفت يمنة ويسرة. وإذا لم يكن أبي أو زوجي يحسن اختيار ما أشتهيه من الملابس، غير الموجود لها عينة ولا يمكنه جلبها للمنزل، فلم لا يأخذني معه لاختيار ما يلزمني أو يدعني أشترى ما أريد؟ وإذا لم أجد من يحسن تعليمي إلا رجلاً فهل اختار الجهل أم السفور أمام ذلك الرجل مع أخواتي من المتعلمات؟ على أنه ليس هناك ما يجبرني على السفور، بل إنه يمكنني التقنع والاستفادة منه وهل نحن في إسلامنا أعرق أصلاً من السيدة نفيسة، والسيدة سكينة رضي الله عنهما، وقد كانتا تجتمعان بالعلماء والشعراء؟ وإذا اضطرني المرض لاستشارة طبيب، لا يمكن لإحدى النساء القيام بعمله، فهل أترك نفسي والمرض وقد يكون خفيفًا فيعضل بالإهمال، أم استشفيه فيشفيني؟
إن حبس المصرية السالفة تفريط. وحرية الغربيين الآن إفراط ولا أجد أصلح ما نقتبس منه إلا حالة المرأة التركية الحاضرة، فإنها وسط بين الطرفين، ولم تخرج عما يجيزه الإسلام، وهي مع ذلك مثال الجد والاحتشام.
بلغني أن بعض كبرائنا (أريد كبراء الوظائف) يعلمون بناتهم الرقص الإفرنجي والتمثيل، وهما أمران أحلاهما مر، وأعدهما تطرفًا ممقوتًا واستماتة في تقليد الغربيين، لأن العادة يجب أن لا تغير إلا إذا كانت مضرة، والأنماط الغربية لا يقيمها قوم بينهم إلا إذا رأوا ضرورتها وصلاحيتها. فأي صلاح لنا من مخاصرة الرجال والنساء ورقصهم معًا؟ أو ظهور بناتنا أمام الرائين (المتفرجين) بصدور عارية يمثلن أدوار الحب والخلاعة على (المرسح). إن ذلك مناف للدين الإسلامي، هادم للفضيلة، مدخل لضار العادة بيننا. فعلينا أن نحاربه ما استطعنا ونظهر احتقارنا لمن تفعله من المسلمات القليلات اللاتي إذا شجعناهن بسكوتنا فإنهن لا يلبث أن يعدين الغير منه.
وعلى ذكر العادات والحجاب أذكر كن بمسألة تئن منها السعادة، وتكاد تندثر في بيوتنا. تلك هي مسألة الخطبة والزواج، يرى أكثر عقلاء الأمة أن لابد للخطيبين من الاجتماع والتكلم قبل الزواج. وهو رأي سديد لم يكن النبي – صلى الله عليه وسلم – والصحابة يفعلون غيره. وهو متبع عند جميع الأمم بأسرها والأمة المصرية أيضًا إلا في طبقة واحدة هي طبقة أهل المدن. إذا ائتلف العروسان عندنا فهو من محاسن الاتفاق (الصدف). وكيف يمكن الجمع بين شخصين لم ير أحدهما الآخر ولم يختبره على أن يقضيا العمر معًا؟ إن إحدانا إذا اتفق أن رأت عرضًا في إحدى زياراتها سيدة استثقلت ريحها فإنها لا تصبر على مجالستها، فضلاً عن النظر إليها، وتسرع بالتملص منها. فكيف تصبر على مضض الحياة إذا استثقلت أيضًا بعلها، وهي لم يمكنها التصبر على ثقل الغريبة لحظة واحدة في غير بيتها؟ يشير قوم باتباع خطة الغربيين من وجوب معاشرة الخطيبين زمنًا ليتمكن كلاهما من استطلاع طبع صاحبه. ولكني أصرح باستهجان هذه العادة وأعتقد أنها مبنية على وهم لا على أساس متين؛ إذ من نتائج معاشرة المتشابهين الألفة ومن الألفة الحب. وإذا أحب الإنسان شخصًا لم ير عيوبه, ولم يمكنه فحص أخلاقه، فيتزوج العروسان حينذاك على حب باطل وعلى غير هدى، فلا يلبثان أن يتنازعا وتذهب ريحهما. إنما الطريقة التي أود عرضها على مسامعكن هي أن يتراءى العروسان ويتكلما بعد خطبة النساء المتبعة، وقبل العقد، ويجب أن لا تظهر العروس إلا مع أحد محارمها وتكون في أبسط لباسها. قد يعترض على هذا الاقتراح بأن اجتماعًا واحدًا أو اثنين أو أكثر لا يكفى لأن يقف الواحد على أخلاق الآخر، ولكنها على أي حال كافية لأن يشعر الواحد باجتذاب دم الآخر له أو لا. على أن من صدقت فراسته يمكنه تبين الأخلاق من العينين، ومن الحركات والسكنات، فيبين إن كان صاحبه متصنعًا أو طائشًا وغير ذلك. أما معرفة ماضي العروسين وبقية أحوالهما فيجب أن يسأل عنها المعارف والجيران والخدم وغيرهم. وخوفًا من أن يتخذ الشبان فاسدو الأخلاق تلك الطريقة ذريعة لرؤية بنات الناس من غير قصد الزواج يجب على الولى أن يتحرى سلوك الخاطب، ويتبين الجد من كلامه، قبل السماح له برؤية ابنته أو موكلته. ربما تستصعبن قبول هذه الفكرة والعمل بها، ولكن كل شيء يخيل لنا صعبًا عند الابتداء فيه، وإذا مارسناه سهل وهان. على أننا إذا كنا نعتقد فساد طريقتنا القديمة،ونتألم منها، ونحجم عن الإقدام على ما نراه مفيدًا لنا مقللاً لحوادث الشقاء في زواجنا، فما أشبه يومنا بالأمس، وما أشد إثمنا وما أبعدنا عن قول الشاعر:
تأخرت أستبقى الحياة فلم أجد…… حياة لنفسي مثل أن أتقدما
وما الفائدة من تعلمنا إذا كنا لا نستطيع تغيير عادة مضرة، لا هي من الدين، ولا من الحكمة؟ وقد رأينا رأى العين سعادتنا العائلية مزعزعة تكاد تقتلعها صرصر تلك العادة العائلية، وما مثلنا في ذلك إلا كمثل رجل غرق أو أشرف على التلف فلما بصر بقطعة خشب يمكنه النجاة بالتعلق بها أبى لئلا يكون بها مسمار فيجرح إصبعه فابتلعته اللجة. وقد كان يمكنه النجاة لو لم يقدر الخوف من المسمار، وما أدراه أن ظنه وتخوفه في محلهما. ولماذا نأبى أن يرانا خاطب بحجة أننا ربما لا نعجبه؟ أو ليست مضرة رغبتنا عنه أو رغبته عنا أخف بكثير من تعاقدنا على الزواج قبل الرؤية. والإنسان لا يفعله في شراء دابة فكيف يفعله في اختيار قرين؟؟
إن امتناعنا عن أن يرانا الخاطبون صرف كثير منهم إلى الأوربيات، فيتحمل أحدهم أن يتزوج من خادمة أو عاملة يعتقد أنه سيهنأ معها على أن يقترن ببنت الباشا أو البك المخبأة في (علبة البخت). وليعذرني صديقاتي العربيات على هذا القول، فإني لا أريد به إهانة لهن. فإنهن يعرفن قبلنا أن امرأة ذات حسب مرغوبة في شبان قومها لا تتركهم إلى فتى من غير دينها وجنسها. فضلاً عن أن كل بلاد لها مدنيتها الخاصة بها وتقرير أحوال مدنيتنا لا يقتضى أننا نعيب مدنية الآخرين، قسمًا بالله لو جاء البارون رتشيلد أو المستر كارينجي إلى ابنة كاتب عندنا مرتبه أربعة جنيهات شهريًا لما رد بغير الخيبة، فإذا لم نعمل على تدارك هذا الخلل في مجتمعنا لا نلبث أن يحتلنا نساء الغرب أيضًا، فنقع في احتلالين؛ احتلال الرجال، واحتلال النساء، وثانيهما شر من أولهما. لأن الأول إذا كان حصل على غير رضانا فإن الثاني جلبناه بأيدينا والنساء شديدات التعلق بالأقارب فلا يبعد أن تلم كل زوجة منهن أخاها وأباها وابن خالتها وصاحبها حولها فيسدون ما بقى لرجالنا من موارد الرزق، فنخرج وإياهم من بلدنا بخفي حنين. وإن يشأ يذهبكم ويأت بخلق جديد.
بعض رجالنا يفضلون عنا الأوربيات لتدبيرهن. حقيقة أن الفقيرة منهن ترتدي بلباس نظيف مرتب، ويرى بيتها على قلة أثاثه نظيفًا مرتبًا، وطعامها لذيذًا متنوعًا, وأولادها مؤدبين أصحاء، ومع ذلك نفقاتها قليلة. نرى كل يوم نساء ضباط الانكليز ماشيات في الطريق بلباسهن التيل الأبيض البسيط وأولادهن لابسين القبعات الجميلة والأحذية البيضاء ومنظرهم يأخذ باللب، لا يقاربهم في شكلهم عندنا إلا أولاد (الذوات) الذين تخدمهم المربيات (الدادات) أما سائر أطفالنا فهم في حالة يرثى لها من الإهمال. ولكن هل تدبر من تتزوج منهن مصريًا أمر زوجها كما كانت تفعل لو كان زوجها أوربيًا؟ كلا. والحس يؤيد ما أقول. فإن أغلب رجالنا الذين تزوجوا منهن يئنون ويصرخون من تبذيرهن وإتباعهن أهواءهن. فالمرأة الغربية تعتقد أنها من جنس أرقى من المصري، فإذا تزوجته ظلت رئيسة له يعمل بإشارتها وحسبت أنه ملزم بالإنفاق على ما تشتهي وجلبه لها حتى ولو كان في الصين. فهي مدبرة مع الغربي مسرفة مع المصري. وإذن، ضاعت أفضليتها من هذا القبيل. وبعضهم يدعى أنه يفضلها لأنه يمكنها الخروج معه في نزهه وروحاته وغدواته. ولا أظن الرجل يحب أن ترافقه زوجته وتلزمه لزوم الظل فإنه داعية للملل. ولا أجد للمرأة الغربية التي تقبل الزواج من مصري ما يفوقها علينا إلا أمرًا واحدًا، لا أرانا نحسنه لأننا لم نمارسه، ولا أريد أن نمارسه، ذلك أنها ماهرة في اجتذاب القلوب وفي نصب الشباك للرجال. فإذا صادت بحركاتها وغنة صوتها مصريًا فليعلم أنها دربت على ذلك في عشرين غربيًا قبله. فهل يقبل، وفيه غيرة الشرقيين وأنفتهم، أن تطعمه طبيخًا، حقيقة لذيذًا, ولكنها أنضجته على نار غيره، ثم انتبذه من قبله خلق كثير؟
وبفرض أن الزوجة الشرقية الراقية نقصت قليلاً عن أختها الغربية فلماذا لا يرشدها بعلها إلى مواضع خطئها بالرفق، ويريها ما يحب وما لا يحب، لاسيما وأن أحب شيء إلى الزوجين المتحدين أن يبذل أحدهما وسعه ليرضى الآخر. فانصراف شباننا لتلقي العلوم الحديثة في أوربا يجب أن يكون لخير البلاد لا لشرها. فكما يتعلمون لنفع أنفسهم يجب أن يقرنوا ذلك النفع بنفع مواطنيهم أيضًا. وإلا فلو اتبع كل واحد يرى عيبًا في صاحبه طريقة هؤلاء الشبان لما كان لأحد من أهل بلده خليل “ومن ذا الذي ترضی سجاياه كلها“؟ فواجبهم الوطني يقضى عليهم بأن يدخلوا كل ما يرونه صالحًا في بلادهم، مع الاستغناء عن الأجنبي على قدر الإمكان. فصانع الحرير الوطني إذا رأى معامل أوربا وسرعتها وجب أن يشترى لبلاده الآلات اللازمة لسرعة إنجاز العمل، لا أن يدخل تلك الصناعة بعينها، ويقضى على صناعته الجميلة، فيكون قد اقتبس شكلاً وأبطل آخر. فنحن إذا اتبعنا كل شيء غربي قضينا على مدنيتنا. والأمة التي لا مدنية لها ضعيفة هالكة لا محالة. فشباننا يدعون أنهم يأتون بنساء أوربا لأنهم رأوهن أرقى من نساء مصر. إذن، يجب أن يحضروا لنا تلاميذ أوربا لأنهم أرقى من تلاميذ مصر، وعمال أوربا لأنهم أرقى من عمال مصر، لأن النظرية واحدة فماذا تكون الحال لو تم ذلك؟ وهل إذا سافرت زوجة مصرية لأوربا ورأت الأطفال هناك أجمل بشرة وأحلى منظرًا من مثلهم في مصر أيصح أن تترك أولادها، وتأتى بغيرهم من الغربيين، أم أن تجتهد في تجميلهم وتقريبهم من الشكل الذي أعجبت به؟ وإذا كانت أحط فتاة غربية تتزوج مصريًا يتبرأ منها أهلها، أفنرضي نحن عنها وقد شغلت محل أشرف فتاة منا, وصار زوجها مثالاً لغيره من الشبان؟ أنا أول من يعجب بشاط المرأة الغربية وإقدامها. وأول من يحترم من تستحق الاحترام منهن. ولكن يجب أن لا ينسينا احترام الغير منفعة الوطن. والمصلحة العامة فوق الإعجاب. وإننا في كثير من أمورنا نسير وفق ما يراه الرجال، فليرونا ما يحبون وكلنا مستعدات للسير بمقتضاه بشرط أن لا يكون ظلمًا لنا ولا إجحافًا بحقوقنا.
يؤلمني أن درجة احترام الرجال لنا ليست بالدرجة التي نحب. وإذا بحثنا وجدنا أننا نحن اللاتي وضعنا أنفسنا في هذا الموضع غير المرضي. ذلك أن الإنسان ينزله الناس في المنزلة التي يختارها هو لنفسه ويسير عليها، كما قال زهير “ومن لم يكرم نفسه لا يكرم” لا يكرم المرء نفسه بأن يقول سعادتي وحضرتي أو البك والباشا في نفسه, كبعض الجهلاء الذين ينالون رتبًا جديدة، ولكن لا يستهين بذاته فيهينها ويشعر من نفسه بالضعة فيهينه الغير أيضًا. فهل نضع نحن أنفسنا عادة في الموضع اللائق بها؟ كلا. يحكى أن أحد الخلفاء بينما كان يروض نفسه في الطريق إذ سمع صوتًا في خربة فاتجه نحوه فوجد فيها زبالاً يقول:
وأكرم نفسي إنني إن أهنتها…… وحقك لم تكرم على أحد بعدي
فقال له: وأى إكرام لنفسك وأنت تحمل التراب والأقذار قال: نعم. أفعل ذلك لأكفى نفسي مهانة السؤال من مثلك. إن معتقداتنا وأفعالنا كانت سببًا عظيمًا في قلة احترام الرجل إيانا. أيعتبر رجل عاقل امرأة تعتقد في السحر والشعوذة وكرامة الأموات وتجعل من الدلالات والبلانات، بل ومن الشياطين عليها سلطانًا؟ أيحترم المرأة ولا حديث لها إلا (فساتين) جارتها ومصوغات صاحبتها وجهاز فلانة وأخبار علانة؟ هذا فضلاً عما انطبع في ذهنه من أن المرأة أضعف منه وأقل ذكاء. إن تهاوننا في هذه النقطة اعتراف بأن حالتنا مرضية فهل هي كذلك؟ وإذا لم تكن فماذا يرقينا في أعين الرجال؟ يرقينا حسن التربية والتعليم الصحيح. فإذا حسنت تربيتنا وتعلمنا علمًا حقًا لا قشور بعض اللغات الأجنبية و(دوری می فاسول) والعلم يشمل أيضًا تدبير المنزل والصحة والأطفال. وإذا تركنا الخلاعة في الطريق جانبًا، وإذا اثبتنا لأزواجنا، بحسن سلوكنا وقيامنا بواجباتنا حق القيام، أننا آدميات نشعر وأن لنا نفوسًا لا تقل عن نفوسهم فلا نسمح لهم بحال من الأحوال بإيلام شعورنا أو بالاستهانة بنا. إذا فعلنا كل ذلك فمن أين يجد الرجل العادل طريقًا لاحتقارنا؟ أما غير العادل فكان حريًا بنا أن لا نقبل الزواج منه.
يرقينا أن نطرح الكل أرضًا. فإن عمل أكثرنا في المنزل هو القعود على (الشلتة) كل النهار. أو الخروج للزيارات كأن رد فعل القعود أدار لولب أرجلنا ونفخ في شراع حبرنا فلم نقر على ضبط جماحنا. والتي تعرف القراءة منا ففيم تقضي أوقات فراغها؟ في قراءة الروايات فقط. فهلا قرأت قانون الصحة أو بعض الكتب المفيدة فتنتفع وتنفع؟ إن انغماسنا في الكسل أو الترف أدى إلى ضعف أجسامنا وشحوبنا. فيجب أن تبحث لنا عن عمل نزاوله في منازلنا. والمتأمل يرى لأول نظرة أن الطبقات العاملة هي الأسلم صحة والأكثر نشاطًا والأنجب نسلاً. ألا تنظرن إلى أولاد الطبقة الوسطى والسفلي فإنهم كلهم تقريبًا أصحاء الجسم أقوياء البنية؟ أما أولاد (الذوات) فأكثرهم مرضى أو نحفاء، يتأثرون بأقل العوارض، مع ما يبذله آباؤهم من الاعتناء بهم، بعكس أولاد الطبقة الدنيا مثلاً فإنهم في إهمال شديد من والديهم. العمل يخرج الفضلات الزائدة في الدم ويقوى العضل ويبعث على النشاط. والطبقة أو الأمة العاملة يزداد نسلها فتعتز بأبنائها وإن الأمة الألمانية لشاهد حسي على ما أقول. فإن التعداد يظهر أن النسل هناك يزداد بسرعة هائلة حتى ضاق رحب ألمانيا بأهلها فأخذوا يبحثون عن أراض يستعمرونها ليصرفوا فيها الزائد من السكان. والذين زاروا أوربا أخبروا أن أهل ذلك البلد مجدون نشيطون، رجالاً ونساًء، بعكس المرأة الفرنسية فإن ترفها الزائد كان سببًا في قلة نسلها فضلاً عن انصراف كثير من تلك الأمة عن الزواج. وقد بح صوت الاقتصاديين والاجتماعيين في نصح مواطنيهم بالاعتدال واتباع الطريق القويم فلم يفلحوا. لاحظت وأنا في البادية أن بين نساء البدو ورجالهم كثيرًا من العجائز ممن بلغوا الثمانين والمائة. وقد رأى معظمهم أربعة أعقاب من ذريته، مع أني لم أر في القاهرة ولا في المدن الأخرى ما يشبه ذلك. ولا شك أن هذا نتيجة عيشتهم الطبيعية واعتدالهم. فإنهم كلهم مبكرون في كل شيء مبكرون في الاستيقاظ وفي النوم وفي تناول الأغذية وفي الأخذ بأول كل شيء، وكلهم عاملون، ولم أر بينهم امرأة واحدة، حتى من نساء أغنيائهم، تقضى النهار في الكل كما نقضيه نحن. فإذا كان الفلاسفة والأطباء يبحثون عن أكسير الحياة فها أنذا قد اكتشفته. ذلك هو العمل والاعتدال في المعيشة أو العيش الطبيعي. ولعل في هذا القدر عن المرأة كفاية اليوم.
بقى علينا أن نبين الطريق العملي الذي يجب أن نسير عليه ولو كان لي حق التشريع لأصدرت اللائحة الآتية:
(المادة الأولى) تعليم البنات الدين الصحيح، أي تعاليم القرآن والسنة الصحيحة.
(المادة الثانية) تعليم البنات التعليم الابتدائي والثانوي وجعل التعليم الأولى إجباريًا في كل الطبقات.
(المادة الثالثة) تعليمهن التدبير المنزلي علمًا وعملاً وقانون الصحة وتربية الأطفال والإسعافات الوقتية في الطب.
(المادة الرابعة) تخصيص عدد من البنات لتعلم الطب بأكمله، وفن التعليم حتى يقمن بكفاية النساء في مصر.
(المادة الخامسة) إطلاق الحرية في تعلم غير ذلك من العلوم الراقية لمن تريد.
(المادة السادسة) تعويد البنات من صغرهن الصدق والجد في العمل والصبر وغير ذلك من الفضائل.
(المادة السابعة) اتباع الطريقة الشرعية في الخطبة فلا يتزوج اثنان قبل أن يجتمعا بحضور محرم.
(المادة الثامنة) اتباع عادة نساء الأتراك في الآستانة في الحجاب والخروج .
(المادة التاسعة) المحافظة على مصلحة الوطن والاستغناء عن الغريب من الأشياء والناس بقدر الإمكان.
(المادة العاشرة) على أخواننا الرجال تنفيذ مشروعنا هذا.
خطبة
في المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية
وعاداتهما واستخلاص زبدة المقارنة لنعمل بها
المولودة– دور الطفولة– المراهقة (الملابس والأزياء)- الخطبة والزواج – الاقتصاد المالي والمنزلي – العمل البيتي – الأخلاق والعادات– دور الأمومة.
(بسم الله الرحمن الرحيم)
أيتها السيدات:
إذا كان لفئة ما أن تجتمع وتبحث في شؤونها فلا أحق بذلك منا نساء مصر وفتياتها. فإننا على درجة من التأخر تؤلم نفس المتفكر فيها وترجع بالوطن خطوات واسعات عن سبيل التقدم. إن من دلائل تأخرنا أن أكثرنا أخذ يقلد المرأة الغربية بغير نظر إلى موافقة عاداتها للشرع الإسلامي والآداب الشرقية. وبعضنا الآخر ظل على تقاليده القديمة، سواء كانت صحيحة أو فاسدة، فما هذا الجمود بمستحسن ولا ذاك الاندفاع بممدوح. وإني شارحة الآن عادات المرأتين في كل أدوار حياتهما، مقارنة إحداهما بالأخرى، مستخلصة من زبدة ذلك ما عسى أن ينفعنا في مستقبل حياتنا.
إن رجالنا الآن عند تبشير إحدانا بالأنثى شديد المشابهة جدًا لحال الجاهلية الأولى. ولم أرنا خالفناهم في شيء ما كانوا يفعلون في ذلك إلا الوأد. قال الله تعالى (وإذا بشر أحدهم بالأنثى ظل وجهه مسودًا وهو كظيم، يتوارى من القوم من سوء ما بشر به، أيمسكه على هون أم يدسه في التراب، ألا ساء ما يحكمون).
إن الانقباض الذي تظهره عند مستهل الأنثى يحدث في الطفلة إذعانًا إلى الذلة ورؤمًا إلى الضعة. فتشب الفتاة آلفة الفرق العظيم بينها وبين أخيها، فتعقد في نفسها أنها أحط شأنًا وأدنى مرتبة، فلا تطلب من المعالي ما يطلبه أخوها، ولا تنبسط نفسها إلى ما يرفع من شأنها وشأن جنسها، وتضع نفسها حيث يضعها الظالمون من أهلها. وليت شعري لم تكره ولادة الأنثى وهي نصف الإنسان وأمه وزوجته وابنته؟ ألا يصح أن تكون الفتاة نافعة كالفتى؟ ألا يرجع الفضل في تدبير عيش الرجل لها؟ ألم تكن في كثير من الأحيان سبب سعادته وموضع أمله؟ وكيف نهمل تعاليم ديننا الحنيف في هذه المسألة ويتبعها أكثر الغربيين؟ فإن أممهم، خصوصًا الشمالية منها، يتساوى عندها الذكر والأنثى. وقد يملكون عليهم فتاة فيهم من يفضلها علمًا وتجربة وحذقًا. يبرر الظالمون للأنثى جورهم هذا بأن الذكر يحفظ اسم (العائلة) ويرث مالها ولقبها. ولكن كم من والد مات ذكره بموته. وكيف لا والعمل وحده عليه حياة الذكر أو فناؤه. هل رفع الله الأنبياء عليهم السلام درجات على الناس بأعمالهم أم بأبنائهم، ومنهم من لم يتزوج قط ومنهم من عقه أبناؤه؟ أم كان أبو العلاء المعرى أبا ذرية أحيت اسمه وهو الذي يعد الزواج والذرية جناية؟ وهل يغني الولد عن الأبوين شيئًا إذا كان لا يخفف حشرجة الموت؟ فالبنت والصبي سيان، قرة عين الوالد في حياته، ولا يدرى ماذا يفعلان بعد مماته. وهل إذا ورث الفتى ثروة وبددها يعد حافظًا غنى أسرته، أم إذا ولد لأحدهم ذكور ضمن لهم الحياة الخالدة؟
في هذا الدور نفضل الصبي عن البنت في أمور شتى، مع أن الغربيين لا يفرقون البتة بينهما، فضلاً عن أنهم يوفونهما حقهما من التربية والعناية. ونحن إذا فضلنا الذكر قليلاً فلا نزال مقصرين في العناية به، فما بالكن بالأنثى؟ ترضع المرأة الغربية طفلها وتنظفه بنفسها. اللهم إلا فئة العاملات اللاتي يضطرهن الفقر إلى الاشتغال في المصانع والحوانيت وترك أطفالهن في أيدي الأجراء من مربيات الأطفال ومراضعهم. أما نحن فنعد إرضاع أطفالنا عيبًا لا يغتفره لنا ادعاء الغنى أو الغنى نفسه! ونفوض أمر نظافتهم للخدم، ونكل ترويضهم وتربيتهم إليهم، وهن من تعلمن من فساد الذوق والجهل القبيح، فيشب أطفالنا أشد حبًا لهم أشبه أخلاقًا بهم، بينما نجد بيننا وبينهم جفاء وتقاطعًا. وكيف تعرف الأم طباع طفلها إذا هي لا تتعرفها بنفسها؟ ولو مرت الأمهات يومًا بالمراضع جالسات على حافة الطرق ليراقين حالتهن الأخلاقية لما تأخرن لحظة عن حماية أطفالهن من جيش المراضع الهازم لمكارم الأخلاق.
أما عنايتنا بصحة أطفالنا فلم تكن بأكثر من عنايتنا بأخلاقهم. فبينا المرأة الغربية تغذو طفلها غذاء خفيفًا سريع الهضم، وتحتفظ به من هجمات البرد والحر، تريننا نطعمه أثقل الغذاء ونبادر بإعطائه اللحم وما يتعسر هضمه. فتختل معدة الطفل ويصاب بالإسهال والنزلات المعوية. وقد يفضي به سوء الحالة إلى الموت أخيرًا. وكذلك لا نكترث بنظافته لئلا يحسد. ونتركه يلعب به النقيضان: القر والحر، فلا يلبث أن يمرض ولا علاج له عندنا إلا الرقى والتمائم نثقل بها حمائله. وإذا بكى متوجعًا نظن بكاءه جوعًا فنلقمه الغذاء فوق الغذاء إلى أن يلقى حتفه. هنالك تتهم أمه صاحبتها أو قريبتها بأنها حسدته، وأنفذت فيه سهمًا من عينيها، فتبغضها وتتشاءم من رؤيتها. وإذا ابتدأ الطفل يتكلم ويمشى فأول ما ينطق به عندنا لعنة الآباء والأجداد، ومن الغريب أننا نجعل ذلك منه موضوع ضحك واستحسان فيظن أنه مصيب في قوله فيتمادي في الإكثار منه. وإذا مشى فإننا نحجر عليه أن يمشي إلا وسط الحجر المزدحمة بالأثاث والأواني. فإذا لم يكسر منها شيئًا فإنه يتهشم بصدمة أو بوقوع. وإذا تأخر في الخطو قليلاً نساعده عليه بالممشاة (المشاية) وهي علة تشويه كبيرة لا نشعر بها. ذلك أن عظام الطفل اللينة، بإجهادها في المشي قبل قوتها، تلتوي فيشب الطفل أعوج الساقين منحني السلسلة الفقرية أو الصدر. كذلك لا نلتفت لموضع سرير الطفل وتأثير النور في عينيه، فيكثر فينا الحول والعمى. وما أعظم الفرق بين طفلنا الشاحب اللون البذئ اللسان وبين الطفل الغربي الصحيح البدن. فالاعتناء المهذب بالتربية. ما أجمله حين يذهب في الصباح والمساء ليقبل والديه وحين يستغفر غيره أيًا كان لأقل هفوة أو يشكر له جميلاً أسداه إياه. ذلك الطفل الذي إذا حرم تلك القبلة الوالدية لهفوة أتاها فلا تسلن عن حزنه وبكائه إلى أن يتوب. بمثل هذا تعلم المرأة الغربية طفلها أن رضاء الوالدين أعظم نعمة للأولاد، وتربى فيه الضمير الحي، والاعتراف بالشكر لمن وجب له، فلا تصغر نفسه بالضرب كما نعود نحن أطفالنا. ما المراد من ضرب الطفل؟ إذا المراد هو نهيه عن إتيان شيء لا نستحسنه لإيذاء جسمه بأنواع التعذيب البدني. فهلا نجد من طرق التأديب النفسية ما يوصل إلى تلك الغاية بغير الشتم والضرب اللذين يصغران همة الطفل ويخفضان من عزته صغيرًا ويزيدان تحكمه واستبداده كبيرًا.
وبقدر ما تعطى الطفل حرية في البذاءة والإتلاف نمنعها إياه في الرياضة المفيدة لنموه، فنمنعه الجرى والفسحة ومشاهدة المناظر الطبيعية الجميلة، مع أن الطفل الغربي يعد عضوًا مهمًا في البيت كسائر أعضائه من أب وأم؛ فيذهب به إلى بلاد بعيدة لاستنشاق الهواء واجتلاء المناظر ويفرد له أدوات خاصة لنومه ولعبة وسائر لوازمه ويعامل بالإكرام ويعود الاستقلال من نعومة أظفاره إلى أن يترعرع. وإذا لحن في كلامه بادرت آمه بتصحيح خطئه والنطق أمامه نطقًا صحيحًا حتى يحاكيها فيه. أما أطفالنا البائسون فإننا نلثغ لهم لنرضيهم ونكلمهم بلغتهم المشوشة بدل تعليمهم لغتنا العامية لا الفصحى!
نحن نبادر بإرسال أولادنا للمدارس وهم صغار لا يدركون ماهية العلم ولا يألفون حجر حريتهم. فيضايقهم المعلمون بتدريسهم الممل غير الجذاب، ويلزمون أعضاءهم المخلوقة للحركة بالسكون التام، فيتربي في الطفل نفور من المدرسة والدرس، فتجبره أمه على الذهاب إلى المدرسة، فيزيده الإجبار نفورًا، وقد يكون خطؤنا في إرسال أولادنا صغارًا جدًا للمدرسة ومضايقة المعلمين لهم بأساليبهم العقيمة ما ينقص من استعداد الطفل لتلقى العلم ويفسد ملكاته. أما الطفل الغربي فهو أسعد حظًا إذ تعلمه أمه في البيت طرق الملاحظة والمشاهدة وتلقنه فوائد الأشياء والأسرار القريبة الإدراك لما يحيط به من نبات وحيوان ومطر وغيره. وتعلمه الإحسان والشفقة بما تفعله أمامه من ضروبهما. وكذلك تعلمه القراءة والكتابة الأولية بأسلوب شائق ولا ترسله للمدرسة إلا وفيه ميل إليها واستعداد لما سيلقى عليه بها. وقد جربت ضرر إرسال الأولاد للمدرسة صغارًا في نفسي وفي إخوتي وفيمن شاهدته من التلميذات، فإني ظللت حوالي ثلاث سنين لا أفقه معنى للمدرسة، ولا أكاد أفهم الغرض من إرسالي إليها. وكذلك شاهدت أن النابغات من التلميذات من اللاتي أرسلن للمدرسة في سن الثامنة أو العاشرة، أما المرسلات صغيرات فأكثرهن لم يستفدن شيئًا غير ضعف البنية وخسارة ما أنفق عليهن. إذا لم يكن بد من إرسال الأطفال للمدرسة صغارًا فيجب أن تجعل لهم فرقة مخصوصة كفرقة بستان الأطفال (الكندر جارتن) التي تجعل فيها الدروس مزيجًا من التعلم والرياضة، ويراعي فيها مدارك الطفل، وتمرن حواسه وأعضاؤه بغير إجبار يخافه أو تكرار يمله. ولو كانت الأمهات معتنيات بأطفالهن تمام العناية فإن مثل تلك الفرقة كان يجب أن تكون في كل بيت أنعم الله عليه بنعمة الأولاد.
للتربية عندنا إحدى طريقتين: إما القسوة أو التدليل وكلاهما مضر. فالقسوة ترهق الطفل وتعلمه الذل. والتدليل يطرح به في مهواة الغرور. فمن دلائل القسوة تخويفنا الأطفال وتصوير صور مخيفة لهم من الظلمة وملء أذهانهم بترهات لا أصل لها (كالبعبع والمزيرة إلخ ). وضربهم عند مخالفتهم لنا. ومن تدليلنا إياهم أن نعلمهم الأنانية ونعطيهم ما يشتهون عند بكائهم، بعد منعهم إياه قبل البكاء، فيتعلمون من ذلك أن الصياح ميسر العسير ومقرب البعيد فلا يتأخرون عن البكاء عند أي شيء تمنعه عنهم. وقد رأيت كثيرًا أن طفلاً ينصح لأخيه أو أخته الأصغر منه سنًا بأن يبكى حتى يأخذ كيت وكيت مما كان منع عنه. أما الإفرنج فطريقتهم في تربية الأطفال خير من طريقتنا أضعافًا، فيعاقبون الطفل الذي يبكي لطلب شيء بالحرمان منه فيعلم أن البكاء لا يجدي. ويطلبه بالطرق المشروعة. وإن منع منه فلا يعود يتشبث به. ويستحضرون في المنزل ما تمس إليه حاجة الأولاد من الحلوى واللعب خوفًا عليهم من قذارة ما في الأسواق واقتصادًا للمال والزمن.
هذا هو الدور الذي تتجلى فيه صفات الفتاة، حسنة كانت أو سيئة، وإن كانت الأخيرة فمن الصعب تغييرها. في هذا الدور يهتم الأهلون بإرسال أولادهم الذكور للمدرسة وإن كانوا يدخلونهم قبل ذلك الكتاتيب. ولا يهتمون كثيرًا بتثقيف عقل الفتاة. على أنهم قد أخذوا يقلدون الغربيين أخيرًا في تعليم الفتاة، ولكن لم يكن التقليد نافعًا لنا ولا محكمًا في ذاته. فالفتاة الغربية تتعلم العلوم إلى أن تحصل منها على درجة عالية أو درجة محمودة. أما فتاتنا المصرية فلا تكاد تقرأ وتتعلم قشورًا بسيطة من العلم حتى تستغنى بها عن الاستمرار في الاستفادة. فهي لا تقلد الغربية في التعلم النافع وإنما تقلدها باستماتة في تعلم البيانو والرقص. ولا أدرى لماذا أخذت البيوت الشرقية تبطل العود والقانون وتتعلم (البيانو) مع أن الأولين، فضلاً عن كونهما شرقيين، ألطف صوتًا وأشجي نغمة وأقل جلبة وأرخص ثمنًا وأخف حملاً. إن (البيانو) لازم جدًا في الغرب لتحية الجموع في المراقص والكنائس، لأنه بنغماته العالية يسمع إلى مكان بعيد, أما في بيوت المسلمين حيث لا مراقص ولا كنائس، فلا أجده من الضرورة بالدرجة التي يتهافت عليها فتياتنا. نعم إن تعلم الموسيقى من الكماليات الممدوحة ويقولون إنها مهذبة للطبع مرققة للشعور ولكن ألم يكن الأولى تعلمها على الآلات الشرقية التي لا ضوضاء لها إذ هي بذلك أدعى للحشمة فلا يتعدى صوتها البيت الذي هي به؟
لو سلمنا بضرورة تقليد الغربية في تعليم (البيانو) لوجب محاكاتها أيضًا في تعلمه من حيث هو فن وإتقانه، لا أن تقتصر الفتاة على نقر لا تناسب بين نغماته حتى أن سليم الذوق مع عدم تلقيه دروسًا في (البيانو) يمكنه نقد ذلك الضرب الذي لا قانون له على صماخ الأذن لا على (البيانو) فإن أذنه تنبو عنه لسماجته!
ماذا تقرأ الفتيات في سن المراهقة؟ لا يقرأن إلا الروايات الغرامية وهن في ذلك الوقت موضع لسورة الانفعالات النفسية. فيتأثرن بحوادث العشق والهرب، وتنطبع في ذاكرتهن أشعار وجمل غرامية مما يقرأن، وتمر أمامهن صور تلك الحوادث كالصور المتحركة، فلا تعدم أن تلقى أثرًا في عقولهن اللينة. إلا أن الآباء ملومون في هذه الحالة لعدم اختيارهم كتبًا نافعة تقرأها فتياتهم. لماذا لا يختارون لهن مثل كتاب التربية الاستقلالية وفيه أمور نافعة جدًا في تربية الأطفال ومعاملة الأزواج؟ أو مثل كتاب كليلة ودمنة؟ أو كتب تراجم المشهورين من رجال ونساء؟ فإن في قراءة سير المشاهير ما يبعث القارئ على أن يقتدي بهم. أو مثل كتب آداب اللغة وغيرها مما يلذ ويفيد في آن واحد. هذا إذا وجدت الفتاة من كتب الفلسفة والعلم ما يستعصى عليها فهمه أو تتضجر من الاستمرار على قراءته لجده الخالص وجفافه. ماذا تفعل الفتاة في سن الرابعة عشرة أو السادسة عشرة وهي ممتلئة الذهن بحوادث “روميو وجوليت” وألفاظ “فاتنتي وحبيبتي” إلخ؟ إنها تتمنى أن تسمع مثلها وتكون مرموقة بنفس تلك العين لأن سنها كما بينت أخصب مراعي إبليس. هذا من جهة القراءة. أما الحرية فإن الفتاة المصرية الأولى كانت محجوراً عليها لدرجة الحبس، والفتاة الغربية لها مطلق الحرية أن تغدو وتروح وحدها وتسافر من بلد لآخر قاص بغير رقابة أهلها. وهذا من الخرق في الرأي، وأخاف أن تغرنا زخارفه فنعمل به، لأن كثيرات من فتياتنا المتعلمات يحسبن أن الدرجة التي وصلت إليها تكفي لإعطائهن مطلق الحرية يغدون ويرحن وحيدات. وإن حوادث الفتيات المحزنة كثيرة جدًا في أوربا، لأن الفتيات الطائشات يصدقن لصفاء نيتهن كل مدع لهن بالغرام وتساعدهن حريتهن المطلقة على مسايرة الفتيان، ثم لا يلبث الرجال أن ينفضوا من حولهن، ويتركوهن بين اليأس والعار وهما أمران أحلاهما مر.
من رأيي أن تمنع الفتاة في سن المراهقة هذه من الاختلاط بالشبان. وحاشا أن أمس بكلامي هذا شرف الفتيات. وإنما أحب أن أنبه إلى شيء طبيعي والعاقل من اتعظ بغيره. ويكفى تجنبًا لمثل هذا الاختلاط المعيب أن أهله أنفسهم هم أول العائبين له. والفتاة في هذه السن ككل إنسان تطلب الحرية ويجب أن تتروض وتخرج. وهذان لا أمنعهما عنها، وإنما أنصح للأمهات أن يرافقنهن وللآباء أن يراقبوهن مراقبة لا تتمكن بها من الوجود مع غير ذي رحم محرم.
ثم إذا ثبتت للوالدين مقدرتها على حسن السير وطهارة الذيل وقوة الإرادة فلا بأس من إباحة الحرية لها في زيارة صاحباتها. وأرى أن الحرية المطلقة والحجر المطلق كلاهما مضر؛ فكما أن الأولى تسهل سبل الفساد لمن تريدها، كذلك الثاني يخلق في الفتاة ميلاً لأن ترى كل شيء ويعلمها طرق الغش والكذب فيكون قد جنى أهلها جنايتين.
إن صلاح الفتاة مترتب دائمًا على تربيتها الأولى. فإن فسدت، فقد يكون قليل من الحرية أفضل من الحجر المطلق. لأنه لا ينفع ولا تعدم الفتاة منفذًا لأغراضها فتتعلم بذلك السرقة والخداع وقد تكون بعيدة عنهما من قبل.
أفضل طريقة لتربية البنات هي أن يرين قبل البلوغ كل شيء تصح مشاهدته. بمعنى أن البنت في نحو العاشرة يجب أن يريها والدها الصور المتحركة والتمثيل والألعاب المختلفة والحوانيت الكبيرة والمتنزهات والآثار ويركبها السيارة ويريها الحفلات وغير ذلك. حتى تلم على قدر الإمكان بكل شيء حسن أو عجيب، فتستنير من جهة ولا تظل بلهاء ككثير من فتياتنا من جهة أخرى، وحتى تكون امتلأت نفسها من الصغر فلا تجد فيها فراغًا فيما بعد لطلب المزيد من المشاهدات. فإذا عرضت لها الفسحة في حياتها المستقبلة فلا بأس بها وإن لم تعرض فلا تأسف كثيرًا عليها.
المدارس: تعجبني جدًا طريقة مدارس (الفرير) في نقل الفتيات صباحًا ومساء في عرباتها الخصوصية حتى لا يختلط بهن السابلة، وحتى يأمن عليهن أهلهن من مراقبة الخدام، الذين هم في أكثر الأحوال وسائل الفساد ووسطاء الغواية والضلال. وكذلك يوفرن وقت من سيعطل نفسه فيصحبهن إلى المدرسة ذهابًا وإيابًا، فحبذا لو اشترت نظارة المعارف أو استأجرت مثل تلك العربات لنقل التلميذات إلى مدارسها في الغدو والرواح. ويكون لكل قسم من أقسام البلد واحدة أو اثنتان طبقًا لحاجة التلميذات كثرة وقلة. فإن التعليم في مدارسها أرقى بكثير من التعليم في المدارس الأخرى، خصوصًا في اللغة العربية التي هي لغتنا ويجب أن نتعلمها جيدًا، وكذلك تراعى فيها آداب البلد وعوائده ودينه أفضل مما تراعي في تلك المدارس الأجنبية التي لم تفتح إلا لنشر مذهب من المذاهب الدينية أو لكسب أصحابها فقط.
بعض المستهجنين تعليم الفتيات يرون أن تظل الفتاة جاهلة خير لها من أن تتعلم، لأن التعليم يوسع عليها حيل الاختلاط الذي لا تبرره العادة ولا يسمح به أولياؤها. وهي نظرية فاسدة، لأن التربية الحقيقية تحول دون ذلك. فالفتاة الكاملة تجد من عفتها وقدوة أهلها وآداب نفسها ما يخيفها من سوء الأحدوثة، وتعلم أن سمعة الفتاة كالزجاج الصافي يتلوث من أقل الأشياء. وإذا انكسر فلا يجبر. أما الفاسدة فتميل للمروق متى وجدت مسربًا سواء كانت عالمة أو جاهلة. وغاية الأمر أن الجاهلة أسرع شططًا وأدنى إلى أن تشهر بنفسها. وقلما تعرف نتيجة تصرفها السيء إلا بعد وقوعها في سوء مغبته.
الملابس والأزياء: الملابس الشرقية أخف مؤنة وأيسر كلفة وأشد ملاءمة لجونا الحار وصيفنا المحرق من الملابس الإفرنجية. فهي جلباب يلبس مرة واحدة فوق الملابس الدنيا. وعند الخروج تلبس فوقه الملاءة. أما الملابس الإفرنجية فإنها متعددة القطع مضاعفة التركيب عسرة اللبس والنزع؛ فمن مشد يخنق الخاصرة ويعتصر الكبد والطحال ويضغط على الأحشاء ويمنع الجلد من التنفس الطبيعي اللازم له، ومن بنيقة (ياقة) منشاء كالورق المقوى، لا تستطيع المرأة فيها لفت رقبتها ولا الانثناء لقضاء أي عمل، فتظل مشرئبة العنق مشدودة لا عن وثاق، ومن صدار (chemsette) لاصق بالابطين ضاغط على الكتفين أو مقور الفتحةdecolts) ) معرض القفا والنحر, بل الصدر والظهر إلى الحر والقر واختلاف درجات الجو وجلب النزلات الصدرية ومن مرطةjuops) ) ضيق الأعلى غير محكم الإزرار واسع الأسفل طويل الذيل، كأن لابسته من ذوات الأذناب، تثير في مشيتها الجراثيم وتضايق الرئتين والخياشيم. ومن قبعة مترامية الأطراف مدججة بالدبابيس مثقلة بالطيور وريشها والغصون وأزهارها وثمارها مدبجة بالأربطة الحريرية. ومن أناشيط (ينابيع) في أجزاء (الفستان) يضيع في ربطها وحلها الزمن سدى. فضلاً عن تعدد الملابس لتعدد الأغراض؛ فحلة للصباح وأخرى للمساء وثالثة للخروج وأخرى للرقص وغيرها للاستقبال وهلم جرا. إن الزمن الذي يضيع كل يوم في اللبس والخلع لو صرف في عمل نافع لأتي بالفائدة وأراح من العناء. على أن لنساء الإفرنج حسنة واحدة في ملابسهن مفقودة عندنا، وهى البساطة عند الخروج للنزهة أو لقضاء شغل. فتلبس المرأة ثوبًا قصيرًا كي لا يعوقها عن المشي. أما نحن فنرتدي أحسن طرفنا في الخارج ونطيل في الذيول نجرها. على أن الأوربيات أحق منا بالافتتان في الأزياء وشدة التأنق فيها لأنهن بارزات. أما نحن فأكثر ما يرانا جدران المنازل وإن خرجنا فتحت الإزار أو في العربات. وإذن، فلا لزوم لاتباع (المودة) بشغف زائد لأنها تفقر وتضايق. وإن كان للغنيات حق التمتع بصرف مالهن، ولو فيما لا يجدي الإنسانية كالأزياء، فليس للمتوسطات حق إفقار بعولتهن أو آبائهن جريًا وراء المودة المتقلبة.
تخرج بعض نسائنا عن حدود الأدب والرع متفانيات في اتباع (المودة) ولكن هناك فرقًا كبيرًا بين (المودة) والخلاعة. فإن لبست المرأة آخر الأزياء في بيتها فما عليها في ذلك من حرج. ولكن إذا أظهرت زينتها للمارة وظلت تتلكأ وتتسكع وتداعب وتضحك فتلك هي الخلاعة الشائنة. ولم تجيء في مجلات الأزياء (كالبرنتان واللوفر) وغيرهما. ففي أي كتاب قرأتها ؟؟
لاحظت شيئًا غريبًا في الفتيات وهو أن الفتاة التي تتبرج وتتأنق مغالية في إظهار محاسنها وغناها تريد بذلك أن يعجب بها الخاطبون والخاطبات، هي التي تتأخر دائمًا في الزواج، وإن تزوجت فبرجل أقل مما كان ينتظر لمثلها وهو عقاب طبيعي للمتبرجات. لأن الرجل مهما أعجبه شكل الخليعة وكلامها فهو لا يود أن يقتنيها لنفسه اعتقادًا أن ما أعجبه منها ظاهر لغيره أيضًا. ولو فطنت الفتيات إلى أن أول شرط يشترطه الرجل في امرأته خاصة هو الحشمة والترفع عن التبرج لما تأخرن لخطة عن الإقلاع عما زعمنه يقربهن في أعين الراغبين في الزواج، وهو في الحقيقة يبعدهن وينفر الرجال منهن. لست بذلك أدعو النساء إلى التقشف أو البعد عن الزينة، فليس لي أن أحرم ما حلل الله، ولأن في الزينة للمرأة بعض السعادة ولزوجها كذلك، ولكن غرضي الاعتدال في الزينة إلى عدم الخروج عن المعروف.
تتعجل الفتيات كثيرًا في انتظار هذا الدور ولو علمن مصاعبه ومتاعبه لما تعجلنه. وأظن ما يشوقهن إليه هو الزخارف والحلي الجديدة وما يقام للعروس من معالم الزينة وما يتقاطر عليها من التهاني والهدايا. ولكنهن لا يدرين التبعة العظيمة التي تتحملها المرأة بزواجها، وما قد يصيبها من الآلام النفسية في عيشتها الجديدة. وشتان بين الفتاة تنام ملء عينيها ولا تسأل إلا عن نفسها ويسعى أبوها وأهلها في إرضائها وجلب ما تشتهيه من ملابس وغيرها، وبين الزوجة تنتظر بعلها إلى ما بعد نصف الليل وتبكر قبل بزوغ الشمس لتجهيز طعامه وتنظيم ملابسه وتظل يومها تشتغل في بيتها أو تلاحظ الخدم، وعليها أن ترضيه، وترضيهم وتخطب ود أهله وتقوم بتربية أولاده، وهي بين كثرة العمل وتنوع التبعة تحاسب حسابًا عسيرًا على أقل هفوة. وربما وجدت منه سكيرًا فظًا أحمق. وأدهى من ذلك أن يتحفها بضرة شرعية أو غير شرعية تأتي على ما بقي من رونق جمالها وسعادتها.
لا وسيلة للزواج عندنا إلا الخطبة، ولكن بأعين الأهل والجيران والخاطبات اللاتي قد تحسن في أعينهن من لا تحسن في عين الخاطب لاختلاف الأذواق والمشارب. فيتزوج الرجل على مجرد أوصاف رويت له، فيصور منها شكلاً في مخيلته قد لا يطابق العروس الحقيقية أصلاً لسوء تعبير الخاطبات وتحريفهن المقصود لغايات. وكذلك الفتاة لا تكاد تعلم عن خطيبها إلا اسمه وماله المبالغ في تقديره لترغيبها هي وأهلها. فإذا حان وقت المقابلة يكاد العروسان يصابان بالبكم والغشيان لفرط دهشة أحدهما من الآخر. وبعد المعاشرة قليلاً قد يتفقان وقد لا يتفقان. وهل هذه المخاطرة في الحقيقة إلا نتيجة اعتقادنا المقلوب في القضاء والقدر؟ نعم. إن القضاء والقدر لا تجدي مغالبتهما، ولكن لا يصح اتخاذهما وسيلة للإهمال في جلب المنفعة أو درء الضرر. فإن هذه المسألة مسألة اختيار محض، للعقل أن يحكم فيها وحده، فإذا أحسن الاختيار حسنت عاقبته وإن قصر أو أهمل ساءت العقبي. على أن إسفار النساء عن وجوههن لم تجمع الأئمة على تحريمه فضلاً عن أنهم كلهم يجوزونه عند الخطبة تحاشيًا من وقوع الاختلاف ودعوى الغش فيما بعد.
أما الإفرنج فخشية أن يصابوا بما أصيب به أغلب أهل الشرق من الخطبة العمياء وما يترتب عليها من الشقاء المستمر أجمعوا على وجوب أن يتراءى العروسان قبل الخطبة مرارًا ويتقابلا تكرارًا. ولكنهم أفرطوا في الأمر، كما فرطنا نحن فيه و “كلا طرفي كل الأمور ذميم“. لم يكتفوا بأن يرى الخطيب خطيبته عدة مرات، بل شرطوا أن يكون الزواج بعد الرضى أو الميل المتبادل بينهما. ولأجل أن يملكوا قلب الخاطب قبل أن يعرف من هو!! يحرضون بناتهم على غشيان المتنزهات والمراقص ومجتمعات الفتيان لعل الواحدة منهن تخلب فتى من الذين هناك بالاتفاق. وقد تذهب المقابلة بعد المقابلة سدى فتتعرض لغيره ويتعرض لغيرها إلى أن تجد بعد طول مدة التخير فتى يكاشفها بعزم الاقتران، فتظن أنها وجدت ضالتها المنشودة، فتعلن أهلها ويتردد الخطيب عليها في البيت وغير البيت وربما تمضى على ذلك الشهور والسنون، ثم يغض الفتي عن الفتاة بدعوى أن الاختبار لم يؤد إلى المرام وأن القلوب لم تأتلف. وإذا كان أصل الفكرة وجوب الاختبار الطويل فيما يتعلق بالأخلاق والتأكد من الحالة الصحية كان العدول بعد الاختبار أمرًا غير مستقبح. وإنما يكون الاستقباح بعد الإعلان القطعي وهو لبس الخاتم عندهم. ولا شك أن التساهل إلى هذا الحد فيه ما فيه من العيوب القبيحة مما لا يخفى على الناقد البصير.
والحق أن هذه المسألة من المعضلات الاجتماعية. فلا الاسترسال في الاختبار بمأمون العواقب ولا الاحتجاب المطلق عن الخاطب بمفيد. بل ربما كان مؤخرًا للفتاة عن الزواج في الأوان المناسب. وربما كان في الحي الواحد فتيان وفتيات كل منهم يبغى الزواج ولا يعلم الفتيان بوجود الفتيات لاحتجابهن الاحتجاب الشديد ولعدم التعارف بين البيوت،. ولا خلاص من هذه العقدة إلا باتباع سنة السلف من العرب في صدر الإسلام من مباشرة الفتاة خدمة الضيوف، ومقابلة زائري أهلها لاستطلاع قصدهم، والخروج في القرى إن كانت بها للمساعدة في بعض الأعمال. ويجب على الفتيان في مثل هذه الحال أن لا يظهروا غرضهم أمام الفتيات، أو يتعرضوا لهن بالخطبة، فإن ذلك مغاير للذوق والأدب ومؤد لخجل الفتيات وانزوائهن وراء الحجب. وينبغي أن تعود الفتيات هذا الأمر من صغرهن حتى لا يستغربنه عند الكبر ويحسسن بشذوذه. وهذه الطريقة متبعة في القرى والبوادي المصرية. فحبذا لو اقتدى بهم غيرهم متى أمنت الفتنة وسلمت الأعراض وصلحت مقاصد الرجال في رؤية النساء. أما في العصور والأماكن التي خبثت فيها مقاصد الرجال وانحطت أغراضهم وشاهت دابهم فإن الحجاب للمرأة ليس إلا حصنًا يصونها من عدوان الخبثاء المفسدين.
وفي الحالة التي لا بأس من الخروج فيها يشترط أن يكون خروج الفتاة مع أبيها أو أخيها أو أحد محارمها. وعلى كل حال فالشيء الذي لابد من منعه هو انفراد الفتى بالفتاة المحادثة في غير ضرورة لما في ذلك من مخالفة للشرع وإثارة التهم.
هذا ما يقال في الخطبة. أما الزواج فطريقتنا فيه مختلة أيضًا، فالمرأة الغربية في بعض البلاد تدفع الصداق (الدوت) وقد يكون من جراء ذلك بعض الظروف أن تصير الزوجة سيدة الرجل الآمرة الناهية. والمرأة الشرقية كانت لا تدفع شيئًا. وبذلك يعتبر الرجل سيدها لا حق لها في معارضته. وهاتان الطريقتان بغير نظر إلى صلاحيتهما أو تفضيل إحداهما على الأخرى واضحتان في أن دافع الصداق هو المنفرد بالسيادة في البيت. أما طريقتنا الآن فهي معتلة. ولذلك فالسيادة متنازع عليها بين الزوجين المصريين. يدفع الرجل الصداق فتأتي المرأة بما يساوي ضعفه أو ضعفيه أو أكثر، تعنت بذلك أباها أو أخاها، وإذا كانت موسرة وتزوجها الرجل لمالها كان التنازع بينهما على الرئاسة أمرًا مقضيًا لا محيص عنه، فهي بما منحه الله من الدرجة في الفضل، وبما أنفقه من ماله عليها، يرى نفسه سيد المنزل، وهنالك يقع التنازع.
مالنا ولهذا التكليف الثقيل والبيت باسم الرجل لا باسم زوجه، فإن أعجبه أن يفرش في بيته حصيرًا فليكن، وإن راقه أن يموه سقوفه وجدرانه بماء الذهب فليفعل، وإن أحب أن يجعله جنات عدد تجري من تحتها الأنهار فحبذا رأيه. وليس للزوج وأهله أن ينتظروا شيئًا من العروس فهي وشأنها في مالها. إن حوادث الطلاق فيها عظات كثيرة لو انتبهنا لها. فكثير ما يتنازع الزوجان على الأثاث كل يدعى أنه له. وإذا كان في الرجل مروءة وتركه لمطلقته فإنها تزحم به بيت أهلها ويظل مكدسًا يرتع فيه العث والجرذان فتجد مرعى خصيبًا. فإذا تزوجت المرأة ثانية وجدت أكثره تألفًا أو طال عليه القدم مع ما يستلزمه نقل الأثاث وترتيبه كل مرة من النفقات والتعب.
وإذا لمت الغنية مرة على هذا التبذير فإلى ألوم الفقيرة المدعية مرارًا. فكم من بيوت خربت وأرض بيعت أو رهنت لا لسبب سوى تجهيز عروس لا يلبث فرشها البهي أن يحول لونه أو يتمزق بعد سنين قلائل فتكلف زوجها بتجديده أو يبقى خرقًا. سمعت عن أب له ثلاث بنات جهزهن واحدة بعد أخرى جهارًا كان موضوع الحديث عند معارفهم، وكان له مائة فدان من أجود الأطيان يعيش بريعها عيش الرخاء، فباع ثلاثين لتجهيز الفتاة الأولى، ورهن ثلاثين للثانية،والباقي للأخيرة، ولما حان ميعاد السداد لم يف وإذا بالدائنين أتوا على ما ورثه، وهو كل ما يمتلك, وحجزوا على بيته أيضًا. فبالله ألا يعد هذا الرجل قصير النظر أخرق؟ وهل أغناه أثاث بناته وقد أصبح معدمًا ذليلاً؟ إنه لمن الجنون، بل ومن القساوة أن تجتهد الفتاة في تخريب بيت والديها لتزين بيت زوجها. ولماذا تقلد كل سيدة من هي أغنى منها؟ وهل يعد التوسط في الغني أو الفقر عيبًا؟
إن المرأة الأوربية لا ترمى مالها كما نفعل في أوان لا تستعملها وفي خرق تبلى بعد زمن قصير، بل تستثمر ذلك المال لتنميه وتحفظه للعوز أو تدخره لأولادها من بعدها أو تنفق منه على الجمعيات الخيرية والمدارس فيجيء البائسين وتحيا بحسناتها، فهي أبرع منا بمراحل في طرق الاقتصاد.
الاقتصاد المالي والمنزلي:
لا تكتفي المرأة الغربية بتنمية مالها، بل تضع (موازنة ميزانية) مضبوطة لإيراد بيتها ومصروفه فلا تحرج عن حد الاعتدال في النفقات ولا تنفق درهمًا في غير موضعه وتفحص مشتراها بنفسها كي تتأكد من جودتها واستحقاقها لما تباع به. وتعنى برفو الثياب وتصليحها وتعمل من كل قديم جديدًا. وقد تغير شكل الثوب الواحد وزينته مرارًا فيبين جديدًا. نعم. إن فينا تلقاء ذلك كرمًا، ولكن يجب أن لا يكون الكرم إهمالاً. فقد تقع بقعة صغيرة على جلباب من الحرير الغالى، فإذا أهملناه لم يصلح للبس، وإذا أعطيناه خادمة أو امرأة فقيرة فقد ينفعها ثوب من النسيج (القماش) البسيط (الشيت) أكثر من ذلك الثوب الجميل. وفي هذه الحالة يكون كرمنا غير مجد. فلو اجتهدنا في إزالة تلك البقعة أو مداراتها بشيء من الزينة (الكلفة) وجدنا على تلك الفقيرة بثوب بسيط لكان أنفع لنا ولها.
إن تربية الغربية مؤسسة على العناية والملاحظة. أما نحن فقلما نتنبه إليهما. تقتصد المرأة الغربية من مالها بما تظهره من براعتها وعملها؛ فهي تخيط لنفسها ولزوجها ولأولادها وتكوى ثيابهم. أما نحن فالبيوت المتوسطة كلها تكوى في السوق وتخيط كل شيء حتى التافه عند الخياطات. بعشرين قرشًا يمكن للمرأة الغربية أن تحضر طعامًا لبيتها وتجعله لذيذًا شهيًا بكثرة الجوارش (السلطة) والحلوى. أما العشرون قرشًا عندنا فتهئ بها المرأة طعامًا ولكن غير كاف ولا شهي .
إن الإفرنج رجالاً ونساء يعرفون كيف يجتذبون الأنظار، ويجعلون الشيء المتوسط في الحسن جميلاً. قد رأيتن من بضاعتهم ما هو أقل متانة من بضاعتنا الشرقية، ولكنهم يضعونها في حوانيت واسعة منارة بالكهرباء ويرصونها داخل ألواح من الزجاج فتجتذب المارة، ثم هم يختارون لتجارتهم محلاً من المدينة يكثر عليه الغادون والرائحون. أما تجارنا فهم بمعزل عن ذلك التفنن، إذ قد تكون حوانيتهم في نقطة غير مطروقة كثيرًا أو يهملون في عرض بضاعتهم وإعلانهم عنها فتبور. ومثل تجارنا في حوانيتهم كمثلنا في بيوتنا ففينا من الذكاء والمقدرة ما يمكننا من جعل بيوتنا جنة، ولكن قلة العناية هي التي تخل نظامها وتعطل ترتيبها.
العمل: أما العمل البيتي أو الخارجي فإننا يجب أن نعترف للمرأة الغربية بسبقها إيانا فيهما. وإن كانت غنياتنا وأغلب، غنياتهم لا يكترثن إلا بالملاهي والأزياء. ولكن المتوسطات هناك لا يأنفن مزاولة الطبخ والكي وترتيب أثاث البيت كما تأنفه متوسطاتنا. وفقيراتهن يعملن ما يقوم بحاجاتهن وحاجات من يعلنهم (عائلاتهن), أما فقيراتنا فإما أن يسألن وإما أن يشتغلن يعمل قليل الكسب. والشواهد كثيرة على ذلك وأقربها وهو ما نعرفه كلنا أن الخياطات المصريات لا نكاد نجد بينهن واحدة يمكنها تفصيل الثياب وخياطتها جيدًا. وهن لعدم إتقانهن العمل يكتفين باجرة قليلة مع ما يتكبدنه من التعب وإنفاق العافية فتأخذ الواحدة خمسة قروش أو عشرة أجرة الثوب في حين أن الإفرنجية تطلب جنيهين على الأقل مقابل تعبها فقط. وكذلك الطبيبات منا يكتفين بدروس قليلة في التمريض ولا ينظرن لمثيلاتهن الأجنبيات اللاتي برعن في الطب ونلن نفس شهادات الرجال. كذلك المربيات والخدم المصريون لا يفقهون معنى التربية وأغلب الخادمات لا يصلحن لمزاولة مهنتهن فنضطر أن نجلب هؤلاء من الإفرنج.
يقولون الحاجة أم العمل. فما بالنا نكسل ونقصر ونحن في شديد الحاجة لأمثال هؤلاء الخياطات والطبيبات والمتعلمات وغيرهن؟ إن من فروض الكفاية أن يكون كل هؤلاء مصريات في مصر حتى يمتنع بعض مالها من التسرب إلى جيوب الأجانب وهن ساكنات ينظرن. لقد أصبحت كلمة “مصرية” في أفواه الأجانب عنوانًا على الكسل وعدم المقدرة. فهلا يبعث فينا ذلك التعبير روح النشاط وحب العمل؟ هلا حاكيناهن فيما تفوقن فيه علينا من العلم والعمل؟ أم هل تكفى محاكاتنا لهن في الزي والتصنع لأن نصبح مثلهن؟ إنهن أسسن الجمعيات وأدرن المستشفيات والملاجيء وقمن يشتغلن بكل فن، حتى أنهن يطلبن مشاركة الرجال في الانتخاب لحكم بلادهن، وما ذلك إلا نتيجة العلم والتربية على حب العمل.
من حب العمل عندهن الرياضة في ساعة الفراغ، فترين أنهن يشتغلن حتى وهن يطلبن الراحة. أما نحن فنكسل ونطلب الراحة في ساعات العمل. ألم تسمعن بجمعية (الصليب الأحمر) وكيف تخاطر النساء فيها بحياتهن لمداواة الجرحى والتقاطهم ونار الحرب تستعر وأمطار القنابل تتساقط؟ وهل ينفى الهم ويضمد الجراح كالمرأة الآسية؟ إن النساء المنخرطات في سلك تلك الجمعية يعرضن أنفسهن للهلاك وتكبد مشاق السفر وتحمل البرد القارس بين سهول مثل منشوريا وحزونها والحر اللافح في الأقاليم الاستوائية التي يذيب حرها رأس الضب. وقد كانت نساء العرب يفعلن نفس هذا الفعل الشريف في الحرب ويزدن عليه تشجيع المجاهدين وتغذية الحياد. قال عمرو بن كلثوم من معلقته:
يقتن جيادنا ويقلن لستم…… بعولتنا إذا لم تمنعونا
وقد كانت مخاطرتهن هذه تثير الشجاعة في الرجال وتحملهم على الإقدام بدليل قوله:
إذا لم نحمهن فلا بقينا…… بخير بعدهن ولا حيينا
وفي قوله في موضع آخر من القصيدة:
وما منع الظعائن مثل ضرب…… ترى منه السواعد كالقلينا
الأخلاق: لا أدرى أنفضل المرأة الغربية في معرض الأخلاق أم تفضلنا؟ فهي أشجع منا في اقتحام الخطوب وإن كانت لا تقل عنا جزعًا عند المصائب. ونحن لا ينقصنا ذكاء كذكائها وإنما ينقصنا عزم وثبات معزمها وثباتها. هي تعمل لتعيش ونحن نتكل إما على آبائنا أو أرواجنا فلا نعمل شيئًا. وهذا الاتكال معيب في نفسه، فضلاً عما تخلقه تقلبات الأيام. فلو تعلمت كل فتاة شريفة مستقلة لما رأينا البائسات تموج بهن الطرقات والمهيضات بعد سابغ عز وسابق نعمة ينتظرن إحسان الأخ أو أحد الأقارب. وقد تكون المرأة سيئة الخلق فنمل عشرتها، أو يكون لها من الأولاد ما تنوء تربيتهم بذلك الأخ أو القريب. والمرأة الغربية تعتني بكل شيء حتى التافه،ونحن بما ركب في طبعنا من المسالمة تميل إلى الإهمال والكسل. وأرانا أسلم منها قلبًا وأقل خداعًا لعدم الاختلاط بالرجال أيضًا. فإنها لتجوالها في الخارج تتعلم كيف ترضى هذا وذاك لتظهر فاتنة جذابة وتعيش خداعة محتالة، إذ الحاجة تعلمها الاحتيال على العيش، فهي تطلبه بكل الوسائل الممكنة. وهي ولا شك أنشط منا وأثبت على العمل إلا أننا أكثر قناعة وأشد رضا بالقليل.
بقية العادات: للخرافات سلطان كبير على المرأة الغربية، وإن كان بعضنا يظن أنها معصومة من الخطأ، فنحن وهي سيان في التفاؤل والتشاؤم وتصديق العرافات والمنجمين والمشعوذين والاعتقاد بطلوع العفاريت في الظلمة. وعندنا الزار، وهو أبو الخرافات ومفسد البيوت، وهي لا تعتقد به وإن كانت تصاب بأعراضه العصبية. فلماذا اختارتنا العفاريت (يا ترى) مسكنًا لها دون أختنا الغربية؟ وإذا فرضنا المستحيل وصدقنا القائلين بتقمص الأرواح فلماذا لا تلجأ إلينا روح أرسطو وابن رشد وأبي العلاء وغيرهم من الفلاسفة والمصلحين؟ أم قضى علينا حتى في الكذب والترهات أن نكون دائمًا متأخرات فلا يلبسنا إلا (الشيخة رمانة وسفينة ويوسف مدلع ونحوهم ممن لا يطلبون إلا الخلاخيل والمصوغات والسيوف المذهبة)؟ ألا إننا لم نبرع في حيلة إلا هذه. تخاف المرأة أن تطلب ملابس وحليًا فيرفض زوجها الطلب فتعمد إلى ادعاء العفاريت والجن لتهديده. أعرف كثيرات ادعين (الزار) فرفض طلبهن وبعضهن ضربن بسببه فلم يعدن إليه. وليت شعري إذا كانت العفاريت جبناء إلى هذا الحد فلماذا لا يستعمل الرجال العصى وهي كثيرات وإن كنت لا أوافق على ضرب الرجل للمرأة بحال من الأحوال. إنها لتصر على دعوى أن العفريت هو الذي يتكلم بلسانها ويشعر بأعضائها وأنها أعارته ظاهرها، ولا أعلم إلى أين ذهبت هي! إذن، فليضرب العفريت فهو الذي في ظاهر زعمها يتألم دون أن يصيبها شيء من آثار الضرب !! ولعل المتحضرات الحديثات يدعين قريبًا أن الملائكة تقمصت أجسامهن، لأنهن أحكم تصرفًا واحسن اختيارًا كإنما عفاريت الأرض نفدت لكثرة الطلب فانصرفت هممهن إلى السماء, كما فعل مخترعو الطيارات, لما ضاقت بهم فجاج الأرض. وحينذاك يأنفن ركوب الضأن والإبل المستعملين حتى الآن في الزار فيمتطين المخترعات الحديثة وإن كانت لاتزال خطرة الاستعمال. فلا تتيهن علينا البارونة دى لارو فربما نبغ عندنا كثيرات مثلها، وإن كان باعثهن (مودة الزار) لا العلم. لا أعلم عند الإفرنجية عادة تساوي الزار في القبح إلا مخاصرة الرجال في الرقص، وما يتبع تلك العادة من التهتك والتصنع والميل عن جادة الصواب، وما ينشأ عن إباحتها المطلقة بلا قيد ولا وازع من الضرر البليغ والإخلال بالشرف. وأدهى من ذلك أن ينتشر بينهن مذهب حرية الاعتقاد، وهو مذهب من لا يصدق بالله ولا باليوم الآخر. فيزعمن أنهن يجتنين الرذائل بمحض إرادتهن وتربيتهن، ولكن هل إذا منعت الفضيلة امرأة عن إتيان ما لا يرضى فهل يصح أن تطبق هذه النظرية على كل امرأة؟ ألم يكن الإيمان بالله وترقب ثوابه وعقابه هما المانعان لكثير من الناس عن الانتحار والكفر وإتيان المناكير والفحشاء والخيانة؟ ألا ساء ما يحكمون.
إن النفس لأمارة بالسوء. ولقد تقدم على كثير من الموبقات لولا الضمير الحي وهو ثمرة الوازع الديني. أفلا يعقلون؟ أرانا لا نتمسك شديدًا بديننا الحنيف وهذا بدعة وعدوى أتتنا من الغرب. فهلا تفكرنا قليلاً فيما ينفعنا وما يضرنا قبل الإقدام على التقليد؟ أو كلما رأينا إنسانًا يفعل شيئًا حاكيناه وإن كان في ذلك هلاكنا وخسارة ديننا ودنيانا معًا؟
المأتم: بينا الإفرنجية ورجالنا أيضًا يجتهدون في التلهي والتعزى عن المصيبة،تجدنا بالعكس، نعقد الاجتماعات لنبكي، وتستأجر النائحات (المعددات) ليزيدن نار الأسى تأججًا في قلوبنا! وماذا يجدي الحزن وهو لا يرد ميتًا ولا يعيد مفقودًا؟ قال أبو العلاء:
غير مجد في ملتي واعتقادی …… نوح باك ولا ترنم شاد
وإن من تعاليم الإسلام أن يصبر المرء عند الملمات ويترك ما فات لما هو آت، والعاقل من يصرف همه إذ لا معنى للعيش مع البؤس. وإن العمر إلا أيام تنقضي فلماذا لا تجعلها سعيدة بقدر ما تستطيع؟
المسرات: إننا في جلب المسرات لمقصرات حيال أنفسنا ومن هم في ذمتنا من الأهل والأولاد. حبذا لو اتبعنا طريقة المرأة الغربية في ذلك؛ فإنها تعقد الاجتماعات وتوالى السمر، وتدعو أعضاء الأسرة الواحدة وأصدقاءها لتناول الشاي أو الطعام أو الفسحة معًا. فيتجاذبون أطراف الحديث، وهنالك يبدى كل منهم رأيًا أو حكاية لا تخلو من فائدة أو فكاهة. وقد يصرفون الوقت في ألعاب مختلفة لتنشيط أذهانهم وأبدانهم ويتبادل المجتمعون الدعوة كل في نوبته، فيتراءى أعضاء الأسرة الواحدة وأصدقاؤها كل يوم تقريبًا فينفون بذلك همهم ويأنسون بعضهم ببعض، وبذلك يعيشون في وئام ووفاق.
الخدم: المرأة المصرية لا تقدر نفسها قدرها. وطالما رأيت سيدة تضاحك الخادمات وتكاشفهن بأسرارها فلا يتأخرن عن إذاعتها في البيوت الأخرى. وهذا من الخطل في الرأي. يجب أن يعامل الخدم بالرأفة ولكن لا تتعدى تلك الرأفة حدودها. ألم تستغربن مرة من أن خدمنا لا يشتغلون عندنا نصف ما يشتغلون في البيوت الإفرنجية، ومع ذلك نراهم هناك أنشط وأهدأ خلقًا مما إذا كانوا في بيوتنا؟ إن السبب لسهل الإدراك وهو أن المرأة الإفرنجية تحفظ هيبتها فيخشاها الخدم وهي لا تخالطهم إلا عند الأمر والنهى ولا تحط من شأنها بمسايرتهم ومضاحكتهم، وتفرض عليهم شغلهم وتريهم إياه لأول مرة ثم تتركهم وشأنهم فيشعرون بمسئوليتهم.
هذا الدور مرتبط بدور الطفولة ارتباطًا تامًا حتى يكاد يندمج أحدهما في الآخر. وعليه فكل ما قلته هناك أقوله هنا.
النتيجة: والنتيجة أن المرأة الغربية سبقتنا بمراحل في العلم والعمل، مع أننا لا نقل عنها ذكاء. وكل ما لا يستحيل طبعًا فهو ممكن بالمعالجة واتخاذ الجد مطية إليه مهما صعب الطريق واستعصى. فإذا تدرعنا بثبات العزم وقوة الإرادة فإننا نصل إلى ما وصلت إليه من نور العلم ورفعة المقام. ولا يثبطنا قول القائلين “إن الشرق شرق والغرب غرب“. فإن التاريخ أعدل حكم، وهو حافل بذكر الشرقيات اللاتي نلن من بعد الصيت ووفرة العلم منالاً كبيرًا أيام كانت الغربيات لا ذكر لهن. فاقر أن تواريخ نساء العرب في الشرق والغرب تجدن نادر الذكاء وجزل الشعر ومتين الأسلوب وما يشهد لهن بعلو الكعب في العلم والعمل.
إن الضعيف إذا لم يرزق قوة التمييز خيل له أن كل ما يأتيه القوى حسن. ذلك مثلنا أمام المرأة الغربية. فهل تردن أن نثبت للملأ خمولنا وخلونا من التمييز أم تردن أن تعمل على حفظ قوميتنا وتقوية روح الاستقلال فينا وفي الأجيال القادمة من أولادنا؟ إذا أردنا أن نكون أمة بالمعنى الصحيح تحتم علينا أن لا نقتبس من المدنية الأوربية إلا الضروري النافع بعد تمصيره حتى يكون ملائمًا لعاداتنا وطبيعة بلادنا. نقتبس منها العلم والنشاط والثبات وحب العمل. نقتبس منها أساليب التعليم والتربية وما يرقينا حتى نبدل من ضعفنا قوة. وإنما لا يجوز في عرف الشرف والاستقلال أن نندمج في الغرب فنقضى على ما بقى لنا من القوة الضعيفة أمام قوته المكتسحة الهائلة.
وفي الختام؛ لا يسعني أيها السيدات إلا أن أشكر لكن حسن إصغائكن ومؤازرتكن إياي بالحضور، وآمل أن نسمع ونعى. ولا أخالكن إلا عازمات على محاربة جمودنا القديم وعلى العمل معًا لرفع شأننا وشأن هذا الوطن المفدى. والله أسأل أن يوفقنا ويهدينا سواء السبيل.
وسبب إنشائها أن شاعر النيل أحمد شوقي بك أدرج في الجريدة قصيدة مطلعها:
صداح يا ملك الكنا……ر ويا أمير البلبل
ومنها:
بالرغم منى ما تعالج ……في النحاس المقفل
والقيد لو كان الجمان…… منظمًا لم يجمل
صبراً لما تشقى به …… أو ما بدا لك فافعل
أبدًا مروع بالإسار……ر مهدر بالمقتل
إن طرت عن كتفى وقعـ ……ت على النسور الجهل
وقد أهدى قصيدته هذه للباحثة. فظن بعضهم أنه ينعى حالة المرأة ويتأسف لإقامتها في البيت، ويعتذر عن الرجال بالخوف عليها من تطاول السفهاء. فلم يقبل هذا العذر وكتب في الجريدة إلى شوقي بك على لسان الباحثة قصيدة منها:
سميتني ملك الكنار …… وأنت رب المنزل
وجعلتني رهنًا لأقـ ……. ـفاص الحديد المقفل
غللتني وسجنتني…… خوف اصطياد الأجدل
إن لم تكن لي حارساً……من كل عاد مقبل
فالحصن والبيداء……يستويان عند الأعزل
لو كان حبك صادقًا……لفككتني من معقلي
وذهب بعض آخر لتأويل غير هذا؛ فرأت الباحثة أن هذه التأويلات كلها بعيدة عن الصواب، وأن قصيدة شوقي بك يجب أن تفسر بتفسير آخر، وهو ما ذكرته في قصيدتها وهي:
يا هذه لاتعذلي ……وإذا أبيت فقللي
أفرطت في لومي ولو……أنصفتني لم تفعلي
لاخير في نجوى بغـ ……ير روية وتعقل
ماذا فهت من الكنار…… ومن حديث البلبل
حتى سخطت على المعيـ ……شة في ظلال المنزل
ووددت أن تجدي مقا……ما بالعراء فتنزلي
أو دمنة عند اللوى ……بين الدخول فحومل
رب الكنار أظنه ……عما زعمت بمعزل
خال الكنانة طائرًا…… والشعر حسن تخيل
فحنا على مثواه في ……قفص النحاس المقفل
ونعى زمان مراحه ……بين الربى والجدول
والقيد ذل لو يكو……ن خلاخل في الأرجل
وغدا يعزيه ويأ……مره بحسن تجمل
ويقول إن الحبس حر…… زمن تقضي الأجدل
أهدى القصيدة في ……الجريدة لى هدية مفضل
كمؤلف يهدى الكتا…… ب إلى سرى أمثل
يرمي إلى تشريفه…… ويخصه بتطول
هي عادة مألوفة……في الناس منذ الأول
فشكرت مهديها وقد……قابلتها بتقبل
هذي الحقيقة يافتا……ة تلوح للمتأمل
لكن جهلت الأمر……والمعهود أن لا تجهلى
مجد الفتاة مقامها …… في البيت لا في المعمل
والمرء يعمل في الحقول ……وعرسه في المنزل
کم خدمة يقضى نظام ……البيت إن لم تعمل
من للوليد يعينه ……في لبسه والمأكل
ويميط عنه أذى الهوي…… بتلطف وتحيل
من للرضاعة والحضا……نة والفطانة وما يلي
من للمريض يحوطه ……أبدًا بدون تململ
يجرى على وصف الطبي ……ب على الطريق الأفضل
من للأثاث يصونه ……من للذخائر والحلي
من يطعم الغرثان من ……متزود ومحوصل
إن الدواجن والطيور ……تموت إن لم تأكل
من يقسم المذخور بين ……الحال والمستقبل
من ذا يعلم خادمًا……ت البيت فعل الأكمل
لكن إذا دعت الضرو….. رة للخروج فحيهل
سیری كسير السحب……. لا تأتى ولا تتعجلى
وتنكبي نهج الزحام ……وفضلى النهج الخلي
لا تخضعي بالقول أو…… تتبرجي أو ترفلى
لا تكنسي أرض الشوا…… رع بالإزار المسبل
أما السفور فحكمه ……في الشرع ليس بمعضل
ذهب الأئمة فيه ……بین محرم ومحلل
ويجوز بالإجماع منهم ……عند قصد تأهل
ليس النقاب هو الحجا ……ب فقصرى أو طولی
فإذا جهلت الفرق بينهما……فدونك فاسألي
من بعد أقوال الأئمة …… لا مجال لمقولي
فعلام أكثرت الملامة…… وانضممت لعذلي
سقيتني من مرقو…… لك مثل نقع الحنظل
ونسبتنى حينًا لمذ……هب قاسم وأبي على
تعنين ويلك أنتي…… أمارة بتبدل
أدعو النساء للعب با……ريس ولهو بروكسل
نسبتنى حينًا إلى…… تحميل ما لم يحمل
جعل الحرائر كالإما……ء خادمًا للمنزل
ليس الكلام بمبهم …….فتفسری وتؤولي
لا ينفع التشكيك والت ……أويل في الأمر الجلى
قلت النقاب سكت عنـ …… ـه نعم بدأت فکملی
ولای شئ ياتر……ين بغيره لم تحفلي
كم مبحث ما جلت فيـ ……ـه وجل من لم يغفل
من ذا الذي جاءت مقا…… لته بكل مؤمل
لا أبتغى غير الفضيـ …… لة للنساء فأجملی
إن لم ترى رأيى فيا ……”ويل الشجي من الخل“
باب التقاريظ
مرتبة بترتب ورودها
جاء من صاحب الفضيلة الشيخ عبد الكريم سلمان رئيس تفتيش المحاكم الشرعية.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حق الحمد والصلاة والسلام على سيدنا محمد فوق العدو على آله وصحبه رجالاً ونساء يتجددان كل يوم صباحًا ومساء.
أما بعد، فإن كان لمذهب دارون وجه من الصحة فليكن في ترقى العقول واستنباط المجهول من العقول وفي تولد المعلومات بعضها عن البعض، أما في نوع العالم، وهو بنو آدم، فلا نراه مصيبًا، إذ الآدمي آدمي أينما كان وشكله شكله في كل زمان ومكان.
أصدق الأدلة على ترقى المعلومات وتوالدها وتنوعها الذهاب إلى ما يقرب من الطوفان والمشي معه إلى هذا الزمان. فقد نرى في زمان نوح شكل الإنسان على ما هو عليه الآن، ولكننا نراه في معلوماته قد تغير تغييرًا تامًا بحيث يمكننا أن نحكم بانقطاع النسبة، أو تبدل النوع بين معلومات هذا الزمان وزمان الطوفان.
نحن في غناء عن سرد حالة هذا الهيكل الإنساني في معلوماته القديمة والحديثة فما من نفس إلا وقد تتصور الفرق بين العهدين وأن هذا الجديد كخلق جديد.
يمكنني أن أذكر شيئًا سمعته من أسن رجل لقيته في حياتي، وكانت سنه إذ ذاك تتجاوز مائة عام، وسني سبع عشرة على التقريب، قال ما معناه (إنني وأنا شاب ذهبت إلى إحدى الأسواق الريفية، ثم رجعت منها حائرًا في أمرى، فحدثت أبي بما عاينت وقلت: يا أبتاه رأيت اليوم في السوق عجبًا. فاعتدل وسأل: ما هو؟ فقلت: رأيت امرأة في السوق، وما عهدتها قبل هذا النهار إلا قعيدة البيت. فقال له أبوه: يا ولدي لا تعجب، فإننا قربنا من آخر الزمان الذي تقول فيه الملاحم وتعلو “الحجول على الخيول” فاللهم نجنا، ولا تبلغ بنا في حياتنا إلى ذلك الزمان) ا. ه هذا الحديث.
فأين المرأة التي حدث عنها محدثي هذا وزمانها لا يتجاوز المائة والعشرين سنة، وقد كان مقرها كسر بيتها تخرج منه إلى قبرها، وأين المرأة في هذا الزمان فقد تراها على وشك الإسفار حاملة قمطرها ذاهبة إلى مجتمع فيه كثير من النساء يعددن بالمئات، وفيهن كثير من المتعلمات، فتصعد بينهن على مثير الخطابة، ثم تقول وتعيد ذاكرة حال النساء ولزوم تربيتهن ووجوب تعليمهن، مبينة فوائد تعليمها، منددة بالمواضي في جهلهن، حاضة على تسوية النساء بالرجال في الاستفادة من العلوم. فيقابل المجتمعات قولها بالرضى والقبول والإذعان للحجج والبيئات التي أقامتها على وجوب تربية البنات.
يظهر أنني أسرعت في الانتقال إلى المقصود من كلماتي هذه، كما أسرع الزمان في تبديل حال النساء في بلادنا من تلك الجهالة العمياء إلى هذه المعرفة العلياء. وإن كانت هذه المعرفة تعد بالنسبة للآتي شيئًاً قليلاً أو لا يكاد يذكر في جانب ما هو منتظر الحصول.
بالطبع قد عرف أنني أقصد التنويه بالسيدة الفاضلة الباحثة في البادية (ملك حفني ناصف)، فقد رأيت مجموعتها التي أدرجت في الجريدة منذ زمان، وطالعت معظمها بإمعان، ولم أطالع البقية لقرب عهدي بها منشورة في الجريدة، فاذا فيها من المباحث العلمية والفوائد الاجتماعية ما يعظم نفعه ويكون أساسًا في المستقبل لبناء جديد نضيد يخرج المرأة المصرية إلى عالم المشاركة الحقيقية للرجل في التربية والمعيشة. وبهذا يكون لهذه السيدة فضل المؤسسين.
إني رأيت في كتابة هذه السيدة حدة في بعض الموضوعات، وكأنها معذورة في حدتها لامتلاك الموضوع نفسها وحواسها، فكتبت فيه وهي ممتلئة حنقًا ولو ملكت نفسها لخفضت من حدتها وأتت بالخاص مكان العام، أو بالبعض مكان الكل، وبهذا كانت تسلم من الاعتراض، وتغنى نفسها عن تدارك ما وقع في مقال ثان، وليس هذا بالشيء إلا من جهة صناعة الكتابة والعذر فيه هو ما ذكرناه.
رأيتها في موضوع الحجاب تضرب البحر بعصا موسى، ولكنه لم يطعها، بل بقى عريقًا عميقًا، صفاء مائه ما يغني عن انفلاقه، وستظهر الأيام أن رأيها في الحجاب رأي لم تقدر على تخميره، ولم تملك حرية القول فيه، وإنني لست معها في أمره، وأرى غير ما تراه فيه.
أيتها السيدة الفاضلة لا تبالي بما يتعرضك في طريقك من قول اللاتي لم يشمن نور العلم (ما للسيدات وللخطابة، ومالهن وللكتابة، وإن رضي أبوها فكيف رضي زوجها، وإن رضي زوجها، فكيف رضيت عشيرتهما) فإن العلم دائمًا محسود أهله، ولن يغلبه الجهل مهما كثر مشايعوه.
أي بنية أخي إني أراك قد نبعت بين قريباتك، واتخذت لك طريقًا لم يسلكه قبلك منهن ولا واحدة، فكنت لهن قدوة صالحة، فكثر بوجودك بينهن عدد الكاتبات القارئات المتعلمات إلى الدرجة الابتدائية، ثم تدرج منهن بعضهن إلى التعليم الثانوي والعالي. فثابری بلا مبالاة على خطتك هذه، وأصمي أذنيك عن لوم اللائمات، فما هي إلا مائة وعشرون سنة يكون الفرق بين نسائها وبين نساء اليوم ما كان بين نساء اليوم ونساء تلك المائة والعشرين عامًا.
أيتها الفاضلة ناشدتك الله أن تكوني لبنات زمانك هذا قدوة في عملك بما تقررينه في أقوالك وخطاباتك حتى يكون نصحك مقرونًا بالإجابة، مصحوبًا بالقبول، وإني لأعلم منك ذلك، ولكن لابد من أن أنصحك به، لأنه إذا ظهر على الناصح عمله أولا بنصائحه قبله المنصوح ورسخ في نفسه العمل وبهذا تكونين قدوة صالحة لأخواتك في الأعمال والأقوال.
أيتها السيدة إذا كتبت بعد هذا الذي رأيته فأمامك ضرب المثل بالبعض وإياك والحكم على الجميع فإن في هذا إغراء بالمخالفة، وليس هذا مما يقصده المؤسسون، وبعد هذا فلله أنت ولله أبوك ولله بعلك وفي سبيل الله ما تقاسين من عناء وما تكابدين من محاولة هداية وإرشاد. حقق الله آمالك وأقر عينك بنيل ما تطلبين لأخواتك من الخير العاجل والسلام.
عبد الكريم سلمان
جاءنا من صاحب السعادة إسماعيل صبري باشا، وكيل نظارة الحقانية سابقًا:
بنت أخي العزيز حفني بك ناصف:
نشرت كتابك دواء لعلة من علل الوطن، ذلك المريض العزيز في وقت اجتمعت حول وسادة الأطباء والرقاة، هذا يصيح وهذا يولول وذاك يكتب وذلك يخطب وذياك ينادي بالصمت ويشير بترك العليل للطبيعة، تعمل فيه عملها، إن خيرًا وإن شرًا.
وكل يدعي حبًا لليلى …… وليلى لا تقر لهم بذاكا
فنظرت أنت ببصيرتك الوقادة وفكرك الصائب في جسم المريض، وفتشت في مظان العلل، فعثرت على أشدها فعلاً فيه، ودونت مقالاتك في كتاب جمع من الآراء النافعة والأفكار الناجعة ما لو عولج به ذلك المريض لذهب بأصل أمراضه وقرب للأطباء والرقاة يوم شفائه.
أجل، يا بنت حفني، إن تربية بنات مصر لهو العلاج الأكبر الذي غاب عن أكثر الباحثين في أسباب انحطاطنا وثقل خطانا في طريق التقدم.
أجل. إن الفتاة إذا أصبحت أمًا وكانت متعلمة متهذبة آخذة من أسباب التربية بما تشيرين به كانت لولدها في مهده ملكًا حافظًا، فإذا حملته رجلاه سددت خطاه، فإذا انطلق لسانه هذبت كلماته، فإذا سلم لمعلم كانت رقابتها نافعة في حث الصغير على الاستفادة وحمل المعلم على الإفادة.
إذا أمًا دامت والعياذ بالله على ما نراه من الجهل كانت الحال على عكس ما قدمت، ولو لم يكن في تعليم البنات وتهذيبهن إلا ما ننشده من الوفاق والوئام بين الزوجين وتقليل الطلاق والاكتفاء بزوجة واحدة، تقربًا من العدل الذي أمرنا به كتابنا الحكيم, لكفى كل ذلك مقرظًا لكتابك النفيس، وآرائك الصائبة. والخلاصة؛ أن ما جاء في كتابك متعلقًا بتعليم البنات وتأديبهن وتهذيبهن يعد من أجل الخدمات للوطن في زمن تشكلت فيه الوطنية أشكالاً شتى، لا يلائم أحدها حالتنا الحاضرة والظروف التي غيرت وجوه الحكمة بيننا.
إن لرقي مصر أبوابًا عديدة. أراك قد فتحت أوسع باب منها، فكانت بك ربات الجمال سابقة أرباب السيف والطيلسان إلى أجل خدمة تؤدي لمصر. ولا أخال شبابنا وكهولنا إلا فاتحين الأبواب الأخرى؛ أبواب العلم والعمل والصناعة والتجارة والزراعة، وغيرها من أبواب الخير والسعادة المؤدية إلى استقلال الوطن، والتي يعد كل منها مؤديًا إلى استقلال نوعي تسعد به البلاد إلى أن يأتي يوم الاستقلال الأكبر.
أما من جهة الحجاب، وما أدراك ما الحجاب، شيء يظنه البعض أسرًا واسترقاقًا، ويعتقد البعض أنه سعادة وسيادة، فالذي أراه فيه هو أننا رأينا المرأة متأخرة في حجابها فاستنكرنا تأخرها والحجاب معه، ولو كنا عاقلين لانتظرنا اليوم الذي نراها فيه متعلمة مرباة، فربما حكمنا غدًا بأن الحجاب أنفس على المرأة الراقية. بارك الله فيك وفي كتابك، وجعله مرجعًا نافعًا لطلاب رقي نصيف أهل مصر؛ أعلى نساءها، بل كل أهل مصر بفضل تهذيب نسائها ورجالها. آمين.
جاء من فضيلة الأستاذ الجليل الشيخ عبد العزيز جاويش:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، وبعد ذلك، أنا قلت كلمة في النسائيات التي وضعتها السيدة الجليلة “ملك حفني“, فما أنا بمقتف أثر المقرظين ولا متساهل تساهلهم (على عادتی قبلاً). فإنني تصفحت هذه العجالات الثمينة واستوعبتها درسًا وبحثًا، فوجدت بين دفتيها من النصائح الأدبية والمسائل الاجتماعية ما لو بنيت عليه تربية البنت في بلادنا لسلمت منازلنا من كثير من ضروب الشقاء، الذي ابتلى به الشرقيون منذ تركوا تعاليم دينهم، وانحرفوا عن الصراط السوي في معاملاتهم. لقد وصفت السيدة الفاضلة أكثر عللنا الاجتماعية ومبلغ آثارها في حياتنا المنزلية وشؤوننا المدنية، فكانت فيما وصفت خير من يعتمد عليه في تعرف شؤوننا، ثم جعلت تصف لكل علة من طرق العلاج ما لو أخذت به النابتة منذ النشوء لصلح حال الأمة في جميع أطوارها ولنبلت مبادئها وغايتها. ولقد رأيتني إزاء كل باب من أبواب هذه المجموعة أقلب بصري في حقائق، بيد أنها كما يقال في المثل حقائق مرة لا يجمل بالمصري الصبر عليها ولا يمكنه التبجح بإنكارها. على أنها قد هونتها العادة على النفوس حتى مرت الأيام تتابع والأجيال تتعاقب دون أن ينتبه لرذائلها وسوءاتها الرجال، فضلاً عن النساء، إلى أن وفق الله لهذه الأمة سيدة كاتبات هذا العصر، وأستاذة المربيات في مصر، فوضعت هذه العجالات التي ستكون فاتحة تاريخ جديد للتربية الصحيحة القويمة التي أساسها إصلاح المرأة والرجل اللذين عماد كل شيء في الحياة الدنيا.
ولقد كاد قلم قاسم أمين يجلب البلاء على المسلمين والمسلمات بما وضعه من الكتب في موضوع المرأة لولا أن تنبهت لما يريده النابتة الإسلامية فجعلت تطارد تعاليمه وتحارب إرشاداته. وإذا شئنا أن نضرب مثلاً للمجاهدات والمصالحات، اللاتي تقصين بآياتهن البينة ما أودعه كتبه من النصائح البعيدة عن روح الإسلام، فإننا لا نجد أحسن من تلك السيدة الفاضلة التي بنت نصائحها على الإسلام، وحرصت على تقاليد المسلمين.
على أنني، وإن عجبت بكثير مما جاء في مجموعتها هذه من الآراء السديدة، فإنني لا أحب أن أزايل موقفي هذا دون أن ألاحظ على السيدة الفاضلة هفوة عرضت لها في باب مساوئ الرجال (الازدراء بالمرأة) طالبًا منها بما ورد لها في باب النقد أن تتقبل كلمة لم يملها على إلا الإخلاص لها، والميل إلى المصلحة العامة، فلقد صورت في ذلك الباب المرأة في نظر الرجل اليوم على نحو ما كانت عليه في الجاهلية الأولى، وهذا أمر قلما طابق الواقع، وهل كان من حرج على السيدة أن توسع المسألة بحثًا، وأن ترقب اليوم الذي تترجم فيه مقالاتها إلى اللغات الأجنبية، فتنشر أحكامها على هذه الأمة في العالم الأوربي الذي يجهل معنى الغلو البديعي، وإنه من المحسنات في اللغة العربية، حيث يعتقد الأوربيون، لاسيما نساؤهم، أننا اليوم على ما كانت عليه جاهليتنا منذ أربعة عشر قرنا. وناهيك بما يحدث هذا القول في العالم المتحضر من الآراء، وما يجلبه علينا بعد ذلك من البلاء.
تقول السيدة الفاضلة في ذلك الفصل إن الجاهلية ما حبب إليها الذكور وبغض إلى نفوسها البنات، إلا حاجتها إلى الحرب والطعان في سبيل حماية ذمارها، فكان لها من هذا عذر مقبول، وأما هذا الزمن فزمن السياسة والصناعة إلى آخر ما قالت في هذا الباب. وإنني أستمحيها عفوًا أن أصرح هنا بأنني لا أكاد أطابقها على شيء مما جاء لها في هذا الباب من الأحكام، وما التمسته من العلل، واستخلصته من النتائج والآراء.
وإنني لعلى يقين أن السيدة الفاضلة لو زادت هذا الباب عناية وبحثًا لما وجد منتقد سبيلاً إلى كلمة يقولها في أكثر موضوعات هذه المجموعة الثمينة. فحسب الأمة المصرية الإسلامية ما دون ذلك من الأبواب الاجتماعية الأدبية التي طرقتها، فإن فيها من الحكم الغالية والنصائح العالية ما هو كفيل لسعادتها، إن شاء الله تعالى.
عبد العزيز جاويش
هذا ما كتبه سعادة العالم أحمد بك زكى، سكرتير ثاني مجلس النظار.
لست بميال لإطراء بنات الأفكار، إذا تضمنتها بطون الدفاتر والأسفار. ذلك لأن الثمرة التي تتولد عن القرائح والأذهان، إذا جاء معها لقاح المدارك والأفهام، هي التي تنادي بنفسها على نفسها، وتدعو الرأي العام إلى الحكم عليها أو لها. بل هي التي تقتضى الرواج والإقبال، بطبيعة الحال، سواء تبرع بمدحها قطب من أقطاب الآداب، أو تطوع لتفريطها علم من أعلام الكتاب.
كنت، ولا أزال أعتقد، أن التقريظ جناية على العلم الصحيح، وعلى ارتقاء الأمة في معارج العرفان. وها هي كتب المتقدمين خلو بالمرة من هذه البدعة حتى إذا تصوحت زهرة الآداب ظهر التقريظ، فاعتمد حملة الأقلام على مجاملة الأصدقاء والخلان. حينئذ تهافت الناس عليه تهافتًا اختلط فيه الحابل بالنابل، والغث بالسمين، والتافه بالثمين. هذا التهافت هو الذي أفسد الأذواق، فتبدل النفاق بالنفاق، وكسدت أسواق الأوراق.
إنما يكون التقدم بهجر التقريظ ومقاطعته، وبالتعويل على النقد الحقيقي الذي قرره العلماء في أيام تقدم الإسلاميين. وهو الذي عول عليه جهابذة أوربا في هذا العصر. وذلك أن يتوخى الكاتب إظهار ما في الكتاب المعروض عليه من الحسنات وآيات البراعة، مع الإشارة إلى ما فيه من العيوب بغير تحامل. ومن الواجب في هذا السبيل التماس المعذرة في بعض الأحايين، والدلالة على طرق التوسع وشفاء الغليل.
لو عاد قومنا إلى منهاج السلف الصالح والصدر الأول، لكان سعيهم محمود المغبة, مشكور العاقبة, لا جرم, إذن، أن تعود المعارف في ربوعنا إلى بهجتها الأولى، ونبنى على ما كانت أوائلنا.
تلك الخواطر، لو اشترك فيها النساء مع الرجال، لكانت مقدماتها صحيحة القياس. وهذه المباني، لو تعاون الصنفان على إقامتها، لكانت وطيدة الأساس.
ولقد شمت اليوم بارقة الأمل، فأمسكت اليراع، وأجريته على القرطاس، لأشكر الثلاث: صاحبين من خيار الرجال، تعززهما ثالثة يعتز بها كل منهما، ولا فخر، لأنها فخر الإناث.
أمعنت النظر في السلسلة الأولى من “النسائيات” التي صاغت حلقاتها يد لصاحبتها كما لأبيها، ومن كمال بعلها، أياد على الآداب والفضيلة. فلم أعجب من صلاح ذلك الغرس الطيب، وإيناع هذا الثمر الشهي، وقد تعهد تلك البذرة الصالحة المباركة، الباسل “حفني” في إبان الصبا، والمنصف “الباسل” في ريعان الفتوة.
فيارعي الله ذاك القناع، وذياك اليراع! فقد برزت بهما تلك الفتاة في مضمار الحياة. فأثبتت أن في السويداء إناثًا يضارعن الرجال، إذا هن أخذن بالعلم الصحيح والعمل النافع، وتهيأت لهن الأسباب، مع التمسك بأذيال الحشمة والكمال.
مرحى مرحى! ب “بملكة” ظهرت في عالم الإنس بين النساء، فأكبرها الرجال. لأنها أعادت لنا ذلك العصر الذهبي الذي كانت فيه ذوات العصائب يناضلن أرباب العمائم: في ميداني الكتابة والخطابة!
لو لم يكن للسيدة “ملكة الباسل” سوى أنها أول من برزت في هذه الأيام بحجابها وآدابها، لإلقاء الخطب على أترابها، لكفاها فخرًا في الأواخر أن اسمها سيخلد في “كتب الأوائل“. إذ يقال إنها من المجتهدات المجددات لأنها أول من أعادت الخطابة إلى فريق من النساء، بعد أن انطمست معالم هذه السنة، منذ ست مئين من السنين. سنة أخذها الغرب عن العرب فارتقى، وأهملها الشرق فانزوی، وقعد بهن وبنا.
إحياء هذه السنة على يد هذه الفضلى، هو الذي حداني إلى كتابة هذين السطرين: لإطراء النساء، لا لإطراء “النسائيات“. فهو كتاب ينطق بنفسه لصاحبته، بل هو غني عن التقريظ لرقة عبارته، ولطف أسلوبه، ولبسالة صاحبته بنوع أخص.
نسأله تعالى أن يكثر بين ظهرانينا من أمثال أولئك الثلاث. فكل منهم فرد في بابه إن شاء الله!
رمل الإسكندرية في 31 أغسطس سنة 1910.
أحمد زكي
السكرتير الثاني لمجلس النظار
جاءنا من حضرة الفاضل الشيخ حسين والي، الأستاذ في الأزهر ومدرسة القضاء الشرعي:
أباحثة البادية شكرانك في البدو والحضر. فقد أراني كتابك علم عائشة بنت الصديق، وأدب سكينة بنت الحسين، وأذكرني عهد الحضارة الإسلامية وقد بدا كوكبها في أفق المشرق. ذلك العهد المتقادم الذي تسابقت نساؤه ورجاله في المعرفة فكان الفضل للسابق. كفضل هاتين السيدتين على غيرهما من نساء ورجال. لعمرك ما كان نبوغهما مقتضباً اقتضابًا. إذ كان من دونهما مراتب للرجال وللنساء، مراتب متفاوتة بحكم الترقي والاستعداد، ومستباحة بحق الإسلام، فالزمان يومئذ زمان العدل والنصفة. والعلم يومئذ علم اليقين والتهذيب.
(روى البخاري) عن أبي هريرة، رضي الله عنه، أنه قال: سمعت رسول الله – صلى الله عليه وسلم – يقول: نساء قريش خير نساء ركبن الإبل أحناه على طفل وأرعاه على زوج في ذات يده.
لقد بين النبي– صلى الله عليه وسلم– تاريخ المرأة العربية التي كانت تركب البعير في البادية. فقال: إنها كانت تحنو على طفلها وتحفظ مال زوجها. والحنو الصحيح هو التربية الصحيحة. وحفظ مال الزوج هو الاقتصاد فيه، ولا يكون ذلك إلا بعد العلم بوجوه صرفه ووضع الشيء في موضعه. والحكمة كل الحكمة في تربية الطفل وحفظ المال، فإن في هذين الأمرين عمران الكون وبهجته– المال والبنون زينة الحياة الدنيا.
وقال: إن المرأة القرشية أحنى على طفلها وأحفظ على مال زوجها من العربية الأخرى. فالقرشية أفضل من غيرها لهذه المزية لا لشيء آخر. فالفضل إنما هو بالعلم والعمل.
أثنى النبي – صلى الله عليه وسلم– على نساء العرب بما أحرزن من فضيلة توافق زمانهن, ورفع القرشيات عليهن درجة، كما هو شأن البيوت العالية في كل جيل. فإن أهلها يفوقون غيرهم في كثير من الأمور.
فالنبي– صلى الله عليه وسلم– يأمر أمته أن تجرى على هذا السنن: سنن العمران والسعادة.
ففي الحديث إشارة إلى بيان أساس البيت، الذي تتألف منه القرية والبلد والمصر والقطر والمملكة.
وفي الحديث إشارة إلى بيان نصيب المرأة في الحياة الدنيا، وأن قسمتها ليست قسمة صغيرة.
وعلى ذلك درج الناس في القرون الأولى من الإسلام. ثم خلف من بعدهم خلف أنزلوا المرأة من مكانتها وبخسوها حقها. والله يقول: ولا تبخسوا الناس أشياءهم ولا تعثوا في الأرض مفسدين.
ولما قهروها وضموا حقها إلى حقهم ضعفوا أن يؤدوا الحقين فوقعوا في الحرج. فلما استحكمت حلقات الأزمة أخذوا يفكرون في الخروج من هذا المأزق فكان كل أمرئ منهم يرى رأيًا حتى كثرت الآراء واختلطت الأمور وأظلمت الآفاق وطمست الطرق.
رويدكم أيها الناس فهذا (كتاب النسائيات) يبين لكم الجادة من مكان قريب، ويقول إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها، وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل، إن الله نعمًا يعظكم.
أباحثة البادية؛ قرأت كتابك فأنبأني أن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، فأخذ الناس يهتدون بهدي الفطرة، وأنساني أسفى على عبث الرجال بنصف الأمة. وأخبرني أن التاريخ يعيد نفسه فتستوي المرأة والرجل رغم أنف الجاهلين .
أباحثة البادية؛ قرأت كتابك فأنشدت قول ابن هانیء:
ولو جاز حكمي في الغابرين ……وعدلت أقسام هذا الورى
لسميت بعض النساء الرجال ……وسميت بعض الرجال النسا
أباحثة البادية؛ قرأت كتابك فألقي في روعي أن أكون مستقل الرأي كما أعرف نفسي. وأذن لي أن أدخل باب الكلام متأدبًا كما تعودت. وألا أتعرض إلا إلى العظيم من الأمور. فإن ائتلف الرأيان فالخير في الائتلاف، وكفى الله المؤمنين القتال. وإن اختلفا فهذه عادة الناس فيما هو من عند غير الله، ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك. وربما كان الاختلاف مبدأ الائتلاف. وعند ذلك لا يشين السبب المسبب (كما لا يشين الكلف البدر).
رأيت في المقالة (1) أن المرأة الحاضرة تفهم معنى الحياة أكثر من الغابرة لأن ذلك مقتضى سنة الله في رقي الزمان.
ولكن المرء إذا زاد علمه عرف وجوهًا كثيرة من النفع، ووجوها كثيرة من الضرر. فإذا كان العلم غير صحيح، لم تتهذب النفوس، فلا تكون المعاملة بالحسنى، وقد يكون الضرر أكثر من النفع. فالجهل البسيط خير من الجهل المركب.
ورأيت في المقالة (٢) أنه لا يجوز أن تلبس نساؤنا كلباس الراهبات المسيحيات، لأنه وإن أباحه الدين، بضرب من التأويل، يضيع تاريخ نسائنا ويذهب مميزاتهن، وذلك يمنعه الدين بضرب من التأويل. وإذا دار الأمر بين الإباحة والمنع فدرء المفسدة مقدم على جلب المصلحة، والاحتياط في الأمور أولى، فينبغي أن تبقى النساء على لباسهن لباس الجو والعشيرة، ويقتصدن فيه اقتصادًا لائقًا، وإذا زادت نفقته فالزيادة يسيرة ومثلها يمكن تحمله بلا ضرر.
ورأيت أن خروج نسائنا سافرات مضر، عند عدم التهذيب، ومبدأ ضرر عند كمال التهذيب.
ورأيت أن خلاف أئمة الدين في مسألة السفور لا يكون إلا عند أمن الفتنة حالاً ومآلاً. فإن خيفت الفتنة فلا خلاف في أن الواجب عدم السفور.
ورأيت في المقالة (3) أن المتعلمين من أهل مصر أكفاء للمتعلمات من أهلها، لأن الدرجات متقاربة. ولا يضر التفاوت اليسير. والكلام في كفاءة التربية.
ورأيت أن اقتباس الأدب من دار الخلافة ضروري، فيلزم أن يجاء بطائفة من المعلمات للتربية، كما جيء بمعلمين ومعلمات من جهات أوربا الأخرى، لنأخذ من كل جهة ما نحن في حاجة إليه. وإذا أمكن إرسال طائفة من النشء إلى هناك فلا بأس، ولكن على شريطة أن يكون معها من يقوم بأسرها ويراقب أخلاقها التي تريدها، وذلك لا يذهب بنا إلى عقدة النسب فإني لا أجيز النسب من عنصرين مختلفين يؤخذ على أحدهما شيء إلا عند الحاجة الشديدة. فإن العرق دساس.
ورأيت في المقالة (4) أنه يجوز لبعض المتعلمين أن ينأى عن ناقصة العلم والتربية إلا إذا استطاع أن يقوم من أودها بحكمته. وإن كامل التهذيب يستطيع ذلك، فإذا قصر فهو نصف رجل. ومن أراد سعادة قومه وكان ذا عزيمة أمكنه أن يختار جاهلة لا يصعب تعليمها فيتزوجها ثم ينشئها بالتعليم خلقًا جديدًا. فالمدرسة تعلم من ناحية، والرجال في بيوتهم يعلمون من نواح أخرى ما تمس إليه الحاجة، فتكثر المتعلمات في وقت قريب. وإن كان بعضهن أكمل تربية من بعض.
ورأيت في المقالة (6) أنه ينبغي أن يتراءى الرجل والمرأة قبل الزواج في حضرة بعض المحارم. فترى المرأة من الرجل هيكله العادي، ويرى الرجل منها مثل ذلك ووجهها وكفيها ويحادثها وتحادثه حتى ينجلي الأمر، فإن ذلك نموذجهما. وكثيرًا ما يكون النموذج صادق المخبر– وإذا جاز للرجل أن يرى وجهها وكفيها بلا داع عند بعض أئمة المسلمين فالأولى أن يرى ذلك عند خطبة الزواج مع الاحترام– هذه سنة إسلامية معقولة، وفي العمل بها إنقاذ الأمة من وهدة الشقاء، فإن الطلاق قد ينشأ عن قبح الذات كما ينشأ عن قبح الخلق.
وهناك صنف من الناس تدور عصم نسائهم على ألسنتهم، فيحلفون بالطلاق كثيرًا، ويعلقون الطلاق على أمور منها اليسير والخطير، وربما لم يكن لها ارتباط بالمرأة البتة. وكم من نساء ذهبن في سبيل هذه البدعة، وأصبحن مطلقات بلا ذنب، وبلا علم، وأمسين مسهدات يندبن حظهن، وهن يزعمن، فيما يزعمن أن الشريعة تبيح ذلك الطلاق، فيكتمن ما في أنفسهن ويتكلفن الصبر فيما بعد – حاشا لله أن يأذن في ذلك, فما كان الله ليعبث بخلقه ويتركهم يجهلون ولا يقفون عند حد محدود.
ذلك الطلاق ضلالة يتبرأ منها الدين. ولم يحصل نظيره في عهد النبوة والخلافة. فهو طريقة باطلة. وشريعة عاطلة. فيجب على المسلمين ألا يأخذوا به، ويجب على ولي الأمر أن يضع للناس حدًا في الطلاق كما وضع حدًا في بيع السلعة الحقيرة عملاً بحديث (إنما البيع عن تراض).
ورأيت أنه يجوز أن يكون أحد الزوجين غنيًا والآخر فقيرًا مع العفة والمعروف. ورأيت أن الأولى في هذا الزمان أن يتعاون الناس على مقاومة الجهل من جميع النواحي؛ ومن ذلك أن يتزوج العالم جاهلة، وتتزوج العالمة جاهلاً، لأن شأن العلم النفوذ، فهو يسرى من المرأة إلى الرجل كما يسرى من الرجل إلى المرأة.
وربما كانت هذه الطريقة عند المصلحين أولى من كون الزوجين عالمين ابتداء. فإن المتعلمات الآن أقل عددًا من المتعلمين، ولا سبيل إلى تعليم الجاهلات عند الكبر إلا زواجهن من المتعلمين. والعلم فريضة على الأمة كلها فهي متضامنة في ذلك.
ورأيت في المقالة (7) أنه يجوز أن يجمع الرجل بين زوجين فأكثر عند الحاجة الشديدة، وظهور المصلحة في ذلك، والقدرة على إرضائهما أو إرضائهن جهد استطاعته. على شرط أن يكون الجمع أخف من مفسدة تركه. وإن بعض الكبراء في مصر يغش زوجه ويخدعها بعدم زواجه عليها ويريها أنه لها، ثم هو يأتي المنكر من حيث لا تدرى وربما رضيت أن يأتي المنكر مادام ممتنعًا من زواج غيرها. الغش ظلم والرضا بالمنكر ظلم، وما هذان إلا من الجهل وعدم المروءة. وذلك ظلم؛ ظلمات بعضها فوق بعض إذا أخرج يده لم يكد يراها ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
إن الله أباح للرجل زوجًا فأكثر، ولكنه حظر الظلم، فقال فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة. ومشى الناس في صدر الإسلام على ذلك، ثم أصبحوا فوضى في أمر الزواج، فترى الرجل يتزوج المرأة قادرًا على حاجاتها وغير قادر، ويتزوج أكثر من واحدة قادرًا على العدل وغير قادر، فوقع كثير من الأمة في البلاء والعذاب الأليم. كل هذا لأن الأمة لم تعمل بوصية الله ورسوله في النساء. ولو كان أمر النساء سهلاً ما قصد إليه النبي، صلى الله عليه وسلم، في أمهات المسائل التي ذكرها في حجة الوداع، ثم مات على ذلك.
إن محمداً، النبي العربي والرسول الأمي، كان يحترم المرأة كثيرًا. كان يحترمها أكثر من احترام الإفرنج الآن.
فيا قضاة الإسلام اعملوا بتلك الوصية، واضربوا على أيدي الرجال حتى لا يتزوج الرجل واحدة إلا بإذن القاضي، بعد علمه بالقدرة والمصلحة، ولا يتزوج أكثر من واحدة إلا بإذن القاضي، بعد علمه بالقدرة والمصلحة والعدل.
ما بال الناس ينظرون إلى المسألة من جهة الجواز ولا ينظرون إليها من جهات المنع. هذه مغالطة الدين أو جهل. وكلاهما لا يجوز.
ورأيت في المقالة (8) أنه يجوز زواج البنت عند بلوغها إذا كان في ذلك مصلحة ظاهرة يدوم أمرها، وعلى مثل ذلك يحمل حديث تعجيل الزواج.
وإن الأوفق مراعاة اتحاد الزوجين في السن، أو تقاربهما، خشية الضرر عند التباين الشديد.
ورأيت في المقالة (9) أن أهل مصر الآن خليط من العرب والفراعنة وغيرهم. وليسوا خليطًا من العرب والفراعنة فقط، فالقشرة الطبيعية موجودة كالقشرة الصناعية الحاصلة بسبب الجهل والغش.
ورأيت أن كثرة التعرض للشمس تضيع حسن اللون وربما جعلته ضاربًا إلى السواد.
ورأيت في المقالة (13) أن تهديد الرجل امرأته بالطلاق أو تهديد المرأة الرجل بالخروج من بيته لا يجوز، مادام هناك رجاء في البقاء، سواء أكانت الأسباب قوية أم ضعيفة، فإن مثل ذلك التهديد يلفت الذهن إلى أمر الانفصال فيقربه، وتلك بدعة في الدين لم تكن من أخلاق الأولين.
ورأيت في المقالة (14) أنه لا يليق بالرجل أن يتزوج المرأة لمالها؛ لأنه لو تزوجها لمالها فقد تزوج مالها ولم يتزوجها. فالمال عنده هو المقصود والمرأة غير مقصودة. وليس ذلك سر عقد الزواج الذي يطلبه الدين.
إذا تزوج الرجل المرأة لمالها فقد تنازعا فيه فيهزم الرجل لأنه غير محق. فإن كان غنيًا بالطمع رجع فقيرًا بالهزيمة. أما إذا صادفته الغنية ولم يقصدها لمالها فهو عند حده ولا يعدم معروفًا يناله من حيث لا يحتسب.
(روى البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: تنكح المرأة لأربع؛ لمالها ولحسبها وجمالها ولدينها، فاظفر بذات الدين تربت يداك.
ورأيت في المقالة (15) أن عمران الكون لا يحصل إلا بالنسل، وهو أمر طبيعي يقهر الإنسان وسائر الحيوان، فالرجل معذور أن يتزوج على امرأته التي فقدت ولديها، وربما قوى عذره أنها عجوز في الغابرين مثلاً، ولكنه غير معذور أن يفاجئها بالزواج في حين المصيبة، فلكل منهما حق، والمخلص أن يتزوج بحيث لا تعلم امرأته الثكلى بالزواج.
ورأيت أن للرجل أن يتزوج على زوجه لأجل إنجاب الذكور، فإنهم أقوى عملاً وأكثر نفعًا من الإناث، فلا جناح على الرجل أن يقصد إلى ذلك، وقام مأربه بيد الله وحده.
ورأيت في المقالة (٢٠) أن من أحط الأخلاق وأكبر الآثام أن تسعى المرأة في طلاق المرأة لتحل محلها، أو يسعى الرجل في طلاق امرأة غيره ليتزوجها مثلاً، فإن ذلك من هدم المصالح الثابتة. ووقوع ذلك من بعض الأقربين منتهى الفظاعة، ويكاد المرء يعتقد أن الله لا يغفره. ولا شك أن الساعي في الطلاق هو الذي اجترح السيئة أولاً وإليه ينسب الإثم، وإن شاركه غيره في ذلك.
(روى البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن النبي صلى الله عليه وسلم، أنه قال: لا يحل لامرأة أن تسأل طلاق أختها لتستفرغ صفحتها فإنما لها ما قدر لها.
ورأيت في خطبة نادي حزب الأمة أن مزاج الرجل أكمل من مزاج المرأة. وكذلك المذكر والمؤنث من بقية الحيوان، ومما يشهد على ذلك التشريح والأعمال الظاهرة في كل جيل, وقد تغلب الرجل على المرأة من سالف الزمان إلى الآن، وبذلك أخذت الطبيعة حقها واستوفت عملها. وقد حكم الله في كتابه أن الرجل مسيطر على المرأة فقال الرجال قوامون على النساء.
(وروى البخاري) عن أنس رضي الله عنه أنه قال: كانت أم سليم في الثقل وانجشة غلام النبي، صلى الله عليه وسلم، يسوق بهن. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: يا أنجش رويدك سوقك بالقوارير.
لأي شيء شبه النبي، صلى الله عليه وسلم، النساء بالقوارير, ما ذلك إلا لضعفهن ولطافتهن. فهن الجنس اللطيف. وهن محل عناية الرجال. فالرجال أقوى منهن ومسيطرون عليهن.
إن الرجل يتعلم مع المرأة في مدرسة واحدة في أوربا، وينقطعان إلى دروسهما ثم بعد إتمام سني المدرسة يخرجان, وقد يوفقان للفراغ والتفكير فترى الرجل يخترع الأشياء وترى المرأة لا تخترع.
وقد تصل المرأة إلى ما وصل إليه الرجل في العلم والعمل، ولكن بعد اللتيا والتي وبعد أن تخرج عن طورها وسنتها الطبيعية، فهي في ذلك الوقت رجل لا امرأة، والطبيعة حاكمة بالقسمة؛ فقسم رجال وقسم نساء (فلا يغيرن خلق الله).
وإن مساواة المرأة الرجل في بعض الأحيان أمر عارض لا أمر جبلي (والفرق مثل الصبح ظاهر).
وعملاً بمقتضى الطبيعة وحفظًا للصحة، يلزم أن تتعلم المرأة في المدرسة والمنزل ما يلائم درجتها لا غير.
نحن لا نجد في تاريخ المرأة ما يجعلها في صف الرجل. فلا يجوز أن تسمو إلى سكنى البيت وتدبيره (فرمان) الطبيعة فرمان من الله مقبول معقول.
والمرأة القروية أقوى من الحضرية، ولكنها دون درجة الرجل، ولو نشأت مع سباع البادية.
والمادة الثانية من المواد العشر التي في آخر الخطبة تظلم السيدات، فإنا شاهدنا آثار الضعف في كثيرات ممن يتعلمن التعلم الثانوي. فلابد من معارضة هذه المادة حتى لا تكسر (القوارير).
ولا بأس أن تلزم طائفة من النساء هذا التعلم الثانوي ليقمن بفرض الكفاية في تعليم البنات، ويكون ذلك من قبيل (قتل الثلث لإصلاح الثلثين) أقول ذلك مازحًا ولا أقول إلا حقًا.
ورأيت في خطبة المقارنة بين المرأة المصرية والمرأة الغربية أن بعض الأمراض العصبية لا يزول إلا بضرب من الموسيقا. فيجب على الطبيب أن يعرف ذلك. كما قال ابن سينا: وبعض نغمات الزار تصلح لذلك، ولكن أصبح إثم الزار أكثر من نفعه، فالواجب محاربة الزار، وقيام الطبيب بما يلزم.
ورأيت أن الرجل أخذ المرأة بأمانة الله، وأن الخيانة في الأمانة حرام ومفسدة خطيرة.
(روى البخاري) عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنه قال: من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فلا يؤذ جاره (واستوصوا بالنساء خيرًا) فإنهن خلقن من ضلع. وإن أعوج شيء في الضلع أعلاه. فإن ذهبت تقيمه كسرته. وإن تركته لم يزل أعوج (فاستوصوا بالنساء خيرًا).
ورأيت في الكتاب بعض مؤاخذات عربية تجرى على ألسنة كبار الكتاب عند التسرع لا عند التأني واليقظة.
مثل عبارة: (يسبى ربات الحجال بما فيهن المحصنات) في الصفحة (4) والعربي يقول: (وفيهن المحصنات).
ومثل عبارة: (لا تتفق مع الدجاج) في الصفحة (6) والعربي يقول: (لا تتفق هي والدجاج) .
ومثل عبارة: (فقد لا يطابق الحقيقة) في الصفحة (8) والعربي لا يدخل (قد) على فعل منفی. ومثل عبارة: (لابد وأن ينتج) في الصفحة (14) والعربي يقول: (لابد أن ينتج ).
ومثل عبارة: (بسبب الوساخة) في الصفحة (٢٠) والعربي يقول: (بسبب الاتساخ) فليس في اللغة العربية (وساخة).
ومثل عبارة: (وحب القديم حتى ولو كان مضرًا) في الصفحة (٢٤) والعربي يقول: (وحب القديم ولو كان مضراً).
ومثل عبارة: (ويحسدون بعضهم البعض) في الصفحة (30) والعربي يقول: (ويحسد بعضهم بعضًا).
ومثل عبارة: (ضمني مجلس بصديقتين) في الصفحة (37) والعربي يقول: (ضمنی مجلس وصديقتين).
ومثل عبارة: (أو التنازع على السلطة). في الصفحة (40) والعربي يقول: (أو التنازع في السلطة).
ومثل عبارة: (ويسنون النظام لصالح بني البشر) في الصفحة (48) والعربي يقول: (لمصلحة بني البشر).
ومثل عبارة: (تنغيص الآخر له) في الصفحة (51) والعربي يقول: (تنغيص الآخر عليه).
ومثل عبارة: (إذا كان أساءها) في الصفحة (٥٤) والعربي يقول: (أساء إليها).
ومثل عبارة: (نسيان أن يعتبره قوم للمنفعة وحدها أو للشهرة) في الصفحة (67) والعربي يقول: (وأن يعتبروه للشهرة).
ومثل عبارة: (سواء كانت في الأطفال أو الكبار) في الصفحة (87) والعربي يقول: (سواء أكانت في الأطفال أم الكبار).
ومثل عبارة: (العمار) في الصفحة (96) والعربي يقول: (العمران).
ومثل عبارة: (لقلت) في الصفحة (97) والعربي يقول: (قلت) لأن اللام لا تدخل على جواب (إذا).
ومثل عبارة: (الصدف) في الصفحة (١١٠) والعربي يقول: (المصادفات).
ومثل عبارة: (وأخبار علانة) في الصفحة (115) والعربي يقول: (وأخبار فلانة).
ورأيت في الكتاب بعض مؤاخذات إملائية لا تخفى على الكاتب. وربما كانت من المطبعة.
أباحثة البادية؛ أحسنت فكرًا وكتابة كما يحسن الأكثرون، بيد أنك سابقة السيدات في ميدان الإصلاح. وتلك مزية لو نالها رجل لكان له شأن في هذا الزمان. فليكن شأنك أعظم. وثناؤك ألزم. ولا يصرفنك بعض ما جرى به قلمي، فما أخذت عليك إلا كما يأخذ أستاذ الإنشاء والشؤون الاجتماعية. لا كما يأخذ الناقد المثبط. وإنى أرتقب يومًا أرى فيه أثرك وقد دل على الكمال الذي تحاولين ونحاول.
وإذا رأيك من الهلال نموه…… أيقنت أنه سيصير بدرًا كاملاً
القاهرة في 14 شعبان سنة ١٣٢٨ و19 أغسطس سنة 1910
(حسین والی)
جاءنا من حضرة النظامي الفاضل الدكتور شبلی شمیل
سيدي الأستاذ الفاضل؛ حفني بك ناصف المحترم:
أشكرك على النسخة التي تفضلت على بها من مقالات النسائيات لحضرة الفاضلة باحثة البادية. وقد طالعتها معجبًا بعلم صاحبتها، ودقة نظرها. ولاسيما إقدامها في مجتمع لا يزال يعد الخروج فيه عن المألوف، مهما كان شأنه، بدعة مذمومة. مما دل على أن علمها الواسع لم يبق في رأسها عقيمًا. كما هو الحال في رءوس أكثر رجالنا حتى اليوم. ولم أقل نساءنا لئلا أبخسها حقها من الفضل المتقدم بين أترابها. وهن غالبًا كما هن؛ شطر عاطل في جسم اجتماعنا.
فباحثة البادية بين النساء المصريات، بل المسلمات، بل الشرقيات عمومًا، لا يقل فضلها في الضرب على مساوئ الأسرة عندنا، والحض على وجوب تعليم المرأة، لتحرير عقلها وتقويم أخلاقها بالعلم الصحيح، عن فضل قاسم أمين في وجوب تحريرها. وإن كانت لم تطلب لها هذا التحرير إلى الغاية القصوى مثله. لأنها لم تطلب إلغاء الحجاب بالكلية. وهو رأي في نظر البعض وجيه أولئك الذين يقولون إن الطفرة محال ويخشون الانتفاضات العنيفة، فيطلبون الإصلاح بالتؤدة واللين خوفًا من أن تصعيب المطلب يحول دون بلوغه. وإن كان نظام الاجتماع لا يستغنى أحيانًا عن الثورات العنيفة إذا اشتدت المقاومة في الأحوال الراسية لطول العهد، كنظام الطبيعة نفسه حذو القذة بالقذة. ومهما يكن من ذلك.. فإن رأيها هذا في نظري، لا ينافي رأی الطالبين اليوم السفور المطلق. وما هو إلا حذر لفظى لأن رفع الحجاب المعنوى عن العقل لابد أن يؤدي إلى رفع الحجاب الحسي عن الجسم. كما أن طلب رفع الحجاب الحسى دفعة واحدة لا يرضى به حتى المحجوب نفسه، إذا لم يرفع حجاب الجهل عن عقله أيضًا. كأنها في ذلك سلكت مسلك دارون نفسه في العلوم الطبيعية، إذ حصر الخلق في أصول قليلة تفرعت منها الأنواع الكثيرة بعد ذلك بالنشوء والتحول، حذرًا من تصعيب المطلب على أصحاب الخلق أنفسهم. ولكن ذلك الحذر لم يمنع معتنقي مذهبه المعتقدين صحته من إطلاق ناموس النشوء والتحول على الطبيعة كلها. لأنه إذا صح النشوء للبعض، لا يفهم لماذا لا يصح للكل. فتحرير العقل إلى الغاية القصوى لا يتم بدون تحرير الجسم إلى الغاية القصوى أيضًا. فطالب تحرير المرأة لا يسعه أن يطلبه من جهة واحدة, وإلا فكأنه لم يطلبه. ولذلك أعتبر نسائيات باحثة البادية ككتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، في النتيجة المترتبة عليهما، ومقامها بالفضل المتقدم بين النساء كمقامه بين الرجال في الإسلام اليوم. وفي يقيني أن الإسلام لم تحرك فيه حتى اليوم مسألة اجتماعية أهم من المسألة التي نحن بصددها. والفضل في ذلك لمصر وحدها ولأبناء مصر.
* * *
ليس الغريب أن مسألة المرأة في الاجتماع شغلت الناس في كل العصور، ولا تزال شغلهم الشاغل حتى اليوم في كل المعمورة. فهي من مقومات الأسرة التي هي أساس الاجتماع، بل الغريب أنها مع بساطتها لم يسهل الاتفاق فيها، وذهب الناس فيها مذاهب، وكتبوا فيها ما لو جمع لضاق عنه الحصر. كأنها من المسائل اللاهوتية العويصة، لأن أكثر الباحثين جعلوها كذلك، مع أنها من المسائل الطبيعية البسيطة التي لا يجوز أن يختلف فيها اثنان لولا ذلك. ولا نظن أن منشأ هذا الاختلاف خاص بقوم دون آخرين، وبصقع دون آخر، بل هو عام جميع المعمورة، وكائن من أول التاريخ إلى اليوم في أشد المجتمعات البشرية انحطاطًا، وفي أكثرها ارتقاء على ضروب متنوعة. فلابد أن يكون لذلك سبب عام هو أصل كل الاختلافات التي رويت في شأن المرأة، والتي لا تزال موجودة حتى الآن.
فالمرأة منذ القدم مظلومة مهضومة الجانب من الرجل، لأنه أقوى منها. وهي مظلومة في كل الشرائع دون استثناء لأن واضعيها رجال. حتى أن بعض هذه الشرائع أنكر عليها النفس. أو بالأحرى حتى جاز لاتباعها في عصر من العصور أن يتباحثوا في ما إذا كان للمرأة نفس. وهكذا استبد الرجل القوى الخشن بالمرأة الضعيفة الجاهلة، فحرص عليها الفقير حرص المالك على ملكه النافع له، واستخدمها أحيانًا كما يستخدم الحيوان، ولكنه لم يكن يضن بها كما كان يضن به، لأن الحيوان بثمن وهي بلا ثمن غالبًا، ولم يستمسك كثيرًا بالحجاب لأن الفقر كان يطفئ فيه آياته الشهوانية. وحرص الغني عليها حرص غيره، فدفنها حية في قبور من القصور، وكفنها بأكفان من الحجاب. حتى إذا برزت من خدرها مشت متثاقلة كالبرميل الموشح. وهي تهتز على محورها وتتعثر بظلها ولم يعدم الشعراء من خيالهم تصورًا للتغني بهذا الشبح ؛ وغار عليها من النسيم لئلا ينقل إلى سواء شذاها. وحتى من النور لئلا تمتد الأبصار به إلى مرآها. فإذا مات وئدت معه حية. كأنها متاع له لا يجوز أن يفصل عنها أو كأنها جزء منه. ولكنه يجوز له أن يفصل عنها، واعتبرها بذلك أحط من الحيوان، الذي كانوا إذا غالوا في القسوة عليه ربطوه إلى جانب القبر حتى يموت. وهي قبلت بذلك مرغمة بالقوة، مستسلمة للجهل، حتى حسبت كل ذلك واجبًا عليها وحقًا له:
والمرء إن ما اعتاد متربة …… فإن تصنه فهو يمتهن
حتى قتل الترهل قواها الجسدية، والجهل مواهبها العقلية، والرجل يحسب أنه بذلك صانها وصان نفسه بها، وما صان فيها إلا جهله، إذ المرأة مرأة الرجل، جاهلة فجاهل وعالمة فعالم. وما صان الجهل أدبًا ولا أوصد أبوابًا ولا أعز أمة. وأمنع حجاب توسيع العقل بالعلم الصحيح وتقويم الأخلاق بالتربية القويمة، وأكفل كافل الاختبار بالنفس لصيانة المصلحة. فالذي قياده بيده أمنع جدًا إذا امتنع ممن قياده بسواه.
فالحجاب بقية باقية من ضروب الظلم التي حاقت بالمرأة من أول عهد التاريخ إلى اليوم. والحجاب على المرأة المسلمة إلى الحد المألوف اليوم، من غير تخريج أو تأويل، لا تقبله العقول الناضجة أيًا كانت. وهو سبب عيوب الأسرة الشرقية عمومًا. والمصرية خصوصًا التي قامت باحثة البادية تنبه إليها في نسائياتها طلبًا لإصلاحها. وأى دليل أوضح على أن فساد الأسرة هذا إنما هو من مقام المرأة فيها المنافي للطبع. إذ الحرية المتبادلة في نظام الطبيعة حق طبيعي لا يجوز أن تسلبه حتى ذرات الجماد. وإلا كانت أعمال الطبيعة أدعى إلى الخراب منها إلى العمار. وهي في الاجتماع البشري حق واجب بل ضروري أيضًا، لأن المرأة فيه شطر من شطري جسمه. فإذا سلبت المرأة الحرية عرج الاجتماع ومشى على رجل واحدة. وفيها قيد أيضًا إذ تصبح المرأة حينئذ عالة عليه عوضًا عن أن تكون عونًا له. ولا حاجة بنا إلى إطالة البحث لوضع المقدمات المركبة لاستخراج النتائج البسيطة. فإن علم المقابلة البسيط يغنينا اليوم عن كل ذلك. ولا أقل من أن نقارن بيننا وبين الأمم الراقية لنقف على الفرق الجسيم بين مجتمع المرأة فيه مدرجة حية في الأكفان، مدفونة بين الجدران، عقلها محجوب عن أنوار علوم الاختيار، كما حجبت حواسها عن نور الطبيعة، وبين مجتمع ترى المرأة فيه على ضد ذلك، وتقابل فقط بين أطفال الامرأتين في مجتمعنا ومجتمعهم، فأين قذارة أطفالنا من نظافة أطفالهم وسقم أطفالنا من صحة أطفالهم، ورعونة أطفالنا من رصانة أطفالهم، حتى أن صبيانًا ليفوقوا رجالنا في العزائم. فيشبون على الجد والعمل، ونشب نحن على السخافة والكسل، فيستطيلون بأيديهم إلى كل عمل نافع، ونستطيل نحن بألسنتنا إلى كل دعوى فارغة، وإذا دمغتنا الحجة أخذنا نفتش على عيوبهم الجزئية لنستر بها عيوبنا الكلية. غير ناظرين من خلال ذلك إلى ارتقائهم وانحطاطنا وتقدمهم وتقهقرنا الكليين. وما كان هذا الارتقاء لهم يوم كانت المرأة عندهم مسلوبة الحرية، محجوبة عن نور العلم. فقد كانت مظلومة كذلك عندهم، وإن لم تكن محجبة كما هي عندنا، فإن دروب الظلم كثيرة.
وأغرب من كل ذلك أن مثل هذه الدعاوى الفارغة التي نطمئن إليها. تجوز على كثيرين ممن هم في مقام القادة أو أن البعض يجيزونها نفاقًا يجعلونه طعامًا على رؤوس صنانير أغراضهم لاصطياد أغرارنا به. والأدهى محاولة البعض من هؤلاء وأولئك إخراج البحث في الموضوع من وجهته الاجتماعية إلى وجهة دينية، بحسب أهوائهم وعلى قدر أفهامهم. وما يقصدون بذلك إلا إزالة التكافؤ من بين المتباحثين لينقلوا الكلام من أن يكون بين الناس بعضهم مع بعض إلى ما بينهم وبين الله، لعل المعارض يجبن ويكون صمته عونًا على تأييد ما يدعون، كما يفعل منتقدو الزهاوي، وقد يظن بعض السياسيين إنهم يأتون ذلك عن حكمة ليدفعوا عنهم شر الجهلاء، كما فعلت الحكومة العثمانية الدستورية اليوم، إذ ظنت أنها تملك قيادة الجهلاء، وهم لا يملكون إلا إقامة العدل الصحيح ومن ورائه السيف حتى يقره العلم، فتزلفت إليهم بأنها منعت نشر أفضل كتاب في الإسلام لأعظم مصلح من المسلمين وهو كتاب تحرير المرأة لقاسم أمين، وما أشبه سلوكهم في هذه المسألة بسلوك عرابي إذ قام يتبرك بالحجب، ويلبس المسابح ليتقرب إلى العامة، وهو يحسب أن النصر له من ورائهم، وما كان له من ورائهم إلا الفشل وهم بعملهم هذا اليوم. أبعدوا غاية الدستور عنا أجيالاً، غافلين عن أن التنازع حولنا اليوم شديد.
* * *
قد يقول بعض الذين ينظرون إلى الأشياء مجردة أن الإسلام ارتقى في الماضي وما كان حجاب المرأة عقبة في سبيله. وهؤلاء لو نظروا إلى الاجتماع كما ينبغي أن ينظر إليه أي بنظر المقابلة. لعلموا أن المرأة كانت في تلك العصور متناسبة في الظلم في كل المعمورة، ولم يكن بينها هذا التباين الشديد الذي نراه الآن. فالمرأة الغربية لم تكن أفضل من المرأة المسلمة في تربيتها وفي علمها. وأما اليوم فمن المستحيل أن يتم للمسلمين ما تم لهم في الماضي مع سائر الأمم بسبب هذا التباين، وإذا طال جمودهم على حالهم هذه، ولم يجاروا جيرانهم في كل شيء، كان مصيرهم إلى حيث تقضى سنة التنازع بين المتنازعين غير الأكفاء.
على أن النهضة التي قام بها قاسم أمين منذ سنين قليلة وتلته فيها باحثة البادية، والتي نراها تتجسم أكثر فأكثر كل يوم، كما يدل تكاثر الباحثين في الموضوع وميل الأكثرين منهم إلى شد أزرها ولا سيما في هذه الآونة الأخيرة، تبشرنا بأن مساعي المصلحين، وإن لم تظهر نتائجها العملية في المسلمين اليوم، فسوف لا يمضى زمن قصير حتى تجنى منها الأجيال القريبة كل الفوائد المطلوبة، إذ تكون الرؤوس البالية بما فيها من الأفكار المتعفنة قد انقضت– والعادات دين ثان – فتشب الرؤوس الجديدة على المبادئ الجديدة الموافقة لمصلحة الإنسان المشتركة في العمران، والمتغيرة بحسب روح كل عصر طبقًا لاحتياجات كل زمان عملاً بسنة الارتقاء وغلبة الأصلح. والعلم الصحيح أي العلم الاختباري دين أيضًا.
واقبل أيها الأستاذ الفاضل فائق احترامي.
الدكتور شبلی شمیل
بين كاتبتين(1)
باحثة البادية والآنسة مي
إلى باحثة البادية:
ترنمت باسمك قبل أن أعرفك، واتخذت ذكرك عنوانًا لنهضة المرأة المصرية قبل أن أطالع مقالاتك، لأن أصوات الجمهور قد اتفقت في الثناء على فضلك. غير أني عثرت بالأمس على مجموعة كتاباتك القديمة النفيسة، فانحنيت عليها ساعات طويلات، فيها خيل لي أني أقلب صفحات نفسك المفكرة المتوجعة.
ثلاث سنوات مضين، وتلك المجموعة محفوظة بين دقات المكاتب، أو مبعثرة بين الأوراق والأسفار المتراكمة يومًا بعد يوم، لكن سرها ما زال مترقبًا يدًا تلمسه.
سنوات ثلاث، فيها مشت البشرية خطواتها المعدودات متعثرة بالعظام والجماجم، منشدة أهازيج النصر الكاذب وتهاليل الفخر الباطل، وقواها الغالية تسيل على شفار السيوف, ودماء حياتها تجرى أنهارًا في سهول قد أخفت نجمها الجميل، وثمراتها الممتعة خوفًا من وحشية الإنسان.
سنوات ثلاث، فيها شعرنا بارتداد صدمات السياسة والاقتصاد والأطماع المتزايدة. فيها ارتفعت دويلات جادة مجتهدة وتهشمت أعضاء تركيا العظيمة بتاريخها، الضعيفة بإهمالها وتهاونها. وقد جاش لذلك كل ما في صدر الإسلام من النخوة القديمة، وبكت له قلوب الغيورين على مصالح بني عثمان.
كل ذلك ومصر مصر، بكآبتها وانعطافها واندفاعها. كل ذلك ونحن هائمون على وجوهنا في صحراء الفوضى. صخور التقاليد القديمة تدمي أقدامنا الجديدة، وأشواك الاصطلاحات تجرح أيدينا الممتدة للمس أشياء نظنها موصلة إلى حياة نريدها عظيمة. والسراب الجميل اللامع في حدود المستقبل غير المحدود يستدعينا آمرًا، كأنه نظرة عين فتانة، فنجرى في الصحراء ولا ندري إلى أين المصير!
سنوات ثلاث، مررن على يوم فيه ارتفع صوتك مرشدًا عائلتنا، لا تزال على ما كانت عليه، وأفكارنا لم تتغير إلا قليلاً، وعواطفنا ما برحت بين تيارات متعاكسة, دائمة الاضطراب، بين ما ندعي أننا نعلم وما نجهل أننا لا نعلم! غير أن الأصداء الخفية ما زالت ترجع همس ذلك الصوت الرخيم.
بالأمس لمست نفسك وقرأت أفكارك فعثرت على جراح بليغة وودت تقبيلها بشفتي روحي، وما أطبقت الكتاب إلا وأنا الثم بناني على غير هدى. ولم يكن ذلك إلا إجلالاً لصفحات قلبتها وحبًا لنفس استجوبتها فعرفتها.
فيا من “ارتفع قلبها إلى فكرها وانحنى فكرها على قلبها” أيتها الباحثة الحكيمة، لماذا تصمتين؟
تتوالى الأيام ونحن في ضلال مبين. الرجل يجاهد في حرب الاقتصاد الدائمة. الرجل تائه في مهامه أشغاله، فإذا كتب بحث في العموميات، وإذا أجال قلمه في الخصوصيات فهو لا يستطيع البلوغ إلى نور الوجدان النسائي لأنه يكتب بفكره، بأنانيته، بقساوته، والمرأة تحيا بقلبها، بعواطفها، بحبها.
علاتنا مستعصية لا يشفيها إلا طبيب يعرفها. والمرأة بعلة جنسها أدرى، فهي تستطيع معالجته. ولا تطالب هذه الخدمة الشريفة من فتيات لا يعرفن من الحياة إلا ما يصوره لهن الخيال المخيم بطلانه على منابت العواطف المخصبة. هذا اعتراف ساذج صادق: الفتيات لا يداعبن القلم إلا لينثرن الدموع أو ليصورن الابتسامات. وما تجاوز ذلك علامات استفهام متتالية، وإن لم ير فيها من الاستفهام شيئًا.
لكن الزوجة والأم، التي أعطيت ذكاء وفطنة وعلمًا وشعورًا قويًا، تدرك بواسطته كل ما في الحياة من حلاوة ومرارة، تلك تستطيع وضع المرأة في مركزها السامي، وتلك تقدر أن تعمل في مزج نصفي الشخصية المتألمة، شخصية المرأة وشخصية الرجل.
فيا سيدتي،
لدينا قلوب تحترق ولا ندري أي نار تحرقها، وتلتهب شغفًا بما لا نعرف ماهيته،فعلمينا، أنت التي كنت فتاة قبل أن تكوني أمًا، كيف نرشدها وإلى أين نوجهها!
لدينا نفوس عزيزة تنمو فيها ميول مبهمة ورغبات حارة، فأرشدينا أي الأعشاب فاسد فنقتلعه، وأيها الصالح فنسقيه ماء الرعاية والحنان!
قولی یا سیدتی تکلمی!
ضمي يدك الباردة إلى الأيدي التي تحاول رفع هذا الجيل من هوة الحيرة والتردد.ساعدي في تحرير المرأة بتعليمها واجباتها. إن صوتًا خارجًا من أعماق القلب، بل من أعماق الجراح كصوتك، قد يفعل في النفوس ما لا تفعله أصوات الأفكار.
لا يهمنا أن تخفى تلك اليد النحيفة وراء جدران خدرك، وأن تحجبي هيئتك الشرقية وراء نقابك الشعري، ما دمنا نسمع صوتك في صرير قلمك، ونعرف منك روحك العالية.
فهنيئًا لوطن يضم بين بناته مثيلاتك، وهنيئًا لصغار يستقون وعود الهناء من ابتسامتك ويسكبون حياتهم في قالب حياتك!
“مي“
بين كاتبتين(1)
باحثة البادية والآنسة مي
إلى باحثة البادية:
ترنمت باسمك قبل أن أعرفك، واتخذت ذكرك عنوانًا لنهضة المرأة المصرية قبل أن أطالع مقالاتك، لأن أصوات الجمهور قد اتفقت في الثناء على فضلك. غير أني عثرت بالأمس على مجموعة كتاباتك القديمة النفيسة، فانحنيت عليها ساعات طويلات، فيها خيل لي أني أقلب صفحات نفسك المفكرة المتوجعة.
ثلاث سنوات مضين، وتلك المجموعة محفوظة بين دقات المكاتب، أو مبعثرة بين الأوراق والأسفار المتراكمة يومًا بعد يوم، لكن سرها ما زال مترقبًا يدًا تلمسه.
سنوات ثلاث، فيها مشت البشرية خطواتها المعدودات متعثرة بالعظام والجماجم، منشدة أهازيج النصر الكاذب وتهاليل الفخر الباطل، وقواها الغالية تسيل على شفار السيوف, ودماء حياتها تجرى أنهارًا في سهول قد أخفت نجمها الجميل، وثمراتها الممتعة خوفًا من وحشية الإنسان.
سنوات ثلاث، فيها شعرنا بارتداد صدمات السياسة والاقتصاد والأطماع المتزايدة. فيها ارتفعت دويلات جادة مجتهدة وتهشمت أعضاء تركيا العظيمة بتاريخها، الضعيفة بإهمالها وتهاونها. وقد جاش لذلك كل ما في صدر الإسلام من النخوة القديمة، وبكت له قلوب الغيورين على مصالح بني عثمان.
كل ذلك ومصر مصر، بكآبتها وانعطافها واندفاعها. كل ذلك ونحن هائمون على وجوهنا في صحراء الفوضى. صخور التقاليد القديمة تدمي أقدامنا الجديدة، وأشواك الاصطلاحات تجرح أيدينا الممتدة للمس أشياء نظنها موصلة إلى حياة نريدها عظيمة. والسراب الجميل اللامع في حدود المستقبل غير المحدود يستدعينا آمرًا، كأنه نظرة عين فتانة، فنجرى في الصحراء ولا ندري إلى أين المصير!
سنوات ثلاث، مررن على يوم فيه ارتفع صوتك مرشدًا عائلتنا، لا تزال على ما كانت عليه، وأفكارنا لم تتغير إلا قليلاً، وعواطفنا ما برحت بين تيارات متعاكسة, دائمة الاضطراب، بين ما ندعي أننا نعلم وما نجهل أننا لا نعلم! غير أن الأصداء الخفية ما زالت ترجع همس ذلك الصوت الرخيم.
بالأمس لمست نفسك وقرأت أفكارك فعثرت على جراح بليغة وودت تقبيلها بشفتي روحي، وما أطبقت الكتاب إلا وأنا الثم بناني على غير هدى. ولم يكن ذلك إلا إجلالاً لصفحات قلبتها وحبًا لنفس استجوبتها فعرفتها.
فيا من “ارتفع قلبها إلى فكرها وانحنى فكرها على قلبها” أيتها الباحثة الحكيمة، لماذا تصمتين؟
تتوالى الأيام ونحن في ضلال مبين. الرجل يجاهد في حرب الاقتصاد الدائمة. الرجل تائه في مهامه أشغاله، فإذا كتب بحث في العموميات، وإذا أجال قلمه في الخصوصيات فهو لا يستطيع البلوغ إلى نور الوجدان النسائي لأنه يكتب بفكره، بأنانيته، بقساوته، والمرأة تحيا بقلبها، بعواطفها، بحبها.
علاتنا مستعصية لا يشفيها إلا طبيب يعرفها. والمرأة بعلة جنسها أدرى، فهي تستطيع معالجته. ولا تطالب هذه الخدمة الشريفة من فتيات لا يعرفن من الحياة إلا ما يصوره لهن الخيال المخيم بطلانه على منابت العواطف المخصبة. هذا اعتراف ساذج صادق: الفتيات لا يداعبن القلم إلا لينثرن الدموع أو ليصورن الابتسامات. وما تجاوز ذلك علامات استفهام متتالية، وإن لم ير فيها من الاستفهام شيئًا.
لكن الزوجة والأم، التي أعطيت ذكاء وفطنة وعلمًا وشعورًا قويًا، تدرك بواسطته كل ما في الحياة من حلاوة ومرارة، تلك تستطيع وضع المرأة في مركزها السامي، وتلك تقدر أن تعمل في مزج نصفي الشخصية المتألمة، شخصية المرأة وشخصية الرجل.
فيا سيدتي،
لدينا قلوب تحترق ولا ندري أي نار تحرقها، وتلتهب شغفًا بما لا نعرف ماهيته،فعلمينا، أنت التي كنت فتاة قبل أن تكوني أمًا، كيف نرشدها وإلى أين نوجهها!
لدينا نفوس عزيزة تنمو فيها ميول مبهمة ورغبات حارة، فأرشدينا أي الأعشاب فاسد فنقتلعه، وأيها الصالح فنسقيه ماء الرعاية والحنان!
قولی یا سیدتی تکلمی!
ضمي يدك الباردة إلى الأيدي التي تحاول رفع هذا الجيل من هوة الحيرة والتردد.ساعدي في تحرير المرأة بتعليمها واجباتها. إن صوتًا خارجًا من أعماق القلب، بل من أعماق الجراح كصوتك، قد يفعل في النفوس ما لا تفعله أصوات الأفكار.
لا يهمنا أن تخفى تلك اليد النحيفة وراء جدران خدرك، وأن تحجبي هيئتك الشرقية وراء نقابك الشعري، ما دمنا نسمع صوتك في صرير قلمك، ونعرف منك روحك العالية.
فهنيئًا لوطن يضم بين بناته مثيلاتك، وهنيئًا لصغار يستقون وعود الهناء من ابتسامتك ويسكبون حياتهم في قالب حياتك!
“مي“
إلى الآنسة مي (1):
تفضلت فكتبت إلى كلمتك العذبة في الجريدة، وكنت إذ ذاك بين مخالب الموت، فلم يكن في وسعى أن أمسك القلم لأرد عليك، وإن كانت مخيلتي لم تبخل بالرد. كانت رسالتك عزاء جميلاً لي في مرضى الطويل المؤلم، وبلسمًا ملطفًا لجراحي البالغة التي قلت إنك عثرت عليها. آلامي أيتها السيدة شديدة. ولكني أنقلها بتؤدة كأني أجر أحمال الحديد، فهل تدرین یا سیدتی ما هولى؟ ليس لي بحمد الله ميت قريب أبكيه، ولا عزيز غائب ارتجيه، ولا أنا ممن تأسرهم زخارف هذه الحياة الدنيا، ويستولى عليهم غرورها، فأطمع في أكثر مما أنا فيه، وليس لي حال سيء أشتكيه، ولكن لي قلبًا يكاد يذوب عطفًا وإشفاقًا على من يستحق الرحمة، ومن لا يستحقها، وهذا علة شقائي ومبعث آلامي. إن قلبي يتصدع من أحوال هذا المجتمع الفاسد.
ومالي أحمل نفسي أعباء غيرها، ولست بمسيطرة على هذا العالم، ولكني كنت عاهدت نفسي على الأخذ بيد المرأة المصرية، ويعز على أن أتخلى عن هذا العهد وإن كان تنفيذه شاقًا، ومفوفًا بالصعوبات ويكاد اليأس يسد طريقي إليه.
كنت اعتزلت الكتابة لا لنضوب مادتها عندي، ولا اكتفاء بالقليل الذي كتبت من قبل، ولكني كنت مللت المناداة بإصلاح المرأة المصرية، وثبط عزمي ما أراه من انصراف فئة المتعلمين والمتعلمات الجدد عن العمل لتكوين القومية المصرية المطلوبة، وما حركتهم التي ملأوا بها القطر صراخًا إلا عنوان نهضة كاذبة.
تسأليني يا سيدتي أن أدلك وسط هذه الأحوال المضاربة والآراء المتشعبة عن الطريق الذي يحسن بالفتاة نهجه، وأنها لحال توجب الحيرة، ولا ندري أي الطرق نسلك لنصل سريعًا إلى الغاية التي نقصد إليها. كلنا يرمي إلى تقدم الفتاة وتنورها وإعدادها لأن تكون زوجة صالحة وأمًا نافعة أبناءها ووطنها، ولكن لكل مناد بالإصلاح وجهة هو موليها. فبعضهم لا يرى لهذا التأخر والجهل من سبب إلا كان راجعًا للحجاب، وهؤلاء قرروا وجوب سفور المرأة المصرية حالاً، ونسوا حكمة التأني والتحفظ عند إرادة الانتقال من طور مظلم مألوف إلى طور لم يعهد من قبل؛ تكتنفه المدهشات واللوامع البراقة الجذابة التي تكاد تغشى الأبصار.
وفريق لا يرى السفور فائدة، ويقول إن الحجاب لا ينفي العلم، وإن إطلاق الحرية للمرأة أخيرًا كان سببًا لفسادها، وإن اطراد تعليم المرأة وتثقيفها سيكون مجلبة للشغب ولخروجها عن حدود وظيفتها في المستقبل، كما خرجت أختها الغربية الآن. فأي الطريقين نسلك، ومن نتبع؟ إننا معشر النساء لا يزال ظلم الرجل يرهقنا، واستبداده يأمر وينهى فينا، حتى أصبحنا ولا رأى لنا في أنفسنا. فإذا قال لنا اختبئن حتى تدفن بالحياة صونًا لكن وتدليلاً كما يقول المتنبي في رثاء أخت سيف الدولة:
على المدفون قبل الترب صونا
وكقوله في أخت ممدوحه الثانية من رثاء أيضًا:
وما رأيت عيون الإنس تدركها…… فهل حسدت عليها أعين الشهب
وهل سمعت سلامًا لى ألم بها ……فقد أطلت وما سلمت عن كثب
إذا أمرنا الرجل أن نحتجب احتجبنا، وإذا صاح الآن يطلب سفورنا أسفرنا، وإذا أراد تعليمنا فهل هو حسن النية في كل ما يطلب منا ولأجلنا أم هو يريد بنا شرًا؟ لا شك أنه أخطأ وأصاب في تقرير حقنا من قبل، ولا شك أنه يخطئ ويصيب في تقرير حقوقنا الآن.
نحن لا نأبي أن تتبع رأى العقلاء والمصلحين من الأمة، ولكننا لا يمكننا كذلك أن نعتقد أن كل من يتصدى للكتابة في موضوع المرأة من العقلاء المصلحين. ليدعنا الرجل نمحص آراءه ونختار أرشدها، ولا يستبد في (تحريرنا) كما استبد في (استعبادنا). إننا سئمنا استبداده. إننا لا نخاف من الهواء ولا من الشمس وإنما نخاف عينيه ولسانه, فإن وعدنا أن يغض بصره، كما يأمره دينه، وإن يكن لسانه كما يوصيه الأدب، نظرنا في أمرنا وأمره. وإلا فكل منا حر يفعل ما يشاء. والسلام عليك أيتها الفاضلة من المعجبة بك المثنية على أدبك الجم وعلمك الغزير.
باحثة البادية
إلى باحثة البادية:
ليس أعز لدينا من لطفك إلا حزمك وصراحتك، وليس أجمل من صدى صوتك إلا فعل معناك. وإني لأقبض بيدي لأعترف بأني أحب– أستغفر الله وأستغفرك يا سيدتي – آلامك النفسية الشديدة من جراء شقاء الإنسانية وضلالها، وأتمنى من أعماق فؤادي أن تجد دوامًا تلك الآلام منفذًا رحبًا إلى قلبك، وأن يبقى ذلك القلب كريمًا لينًا ينجرح لجرح الغريب ويبكي لبكاء المظلوم، ويشفق على المتوجع أيا كان. بالاختصار – عفوك! عفوك!- أتمنى لك العذاب المعنوي لأنه النار المقدسة. أجل، هو النار التي تطهر النار التي تلين النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعاني السامية والميول الرفيعة والرغبات الكريمة، والتحمس لإجراء الإصلاحات اللازمة وتنفيذ المبادئ الطيبة، والنهوض بالاجتماع نهضة تهتز لها القلوب حمية وطربًا.
أتمنى لك ذلك، ولولاه لما وجدنا في كتاباتك تلك الأنة العميقة التي تنبه الفكر وتلمس العاطفة في آن واحد.
لا أنكر أن أنانيتي تتكلم الآن. غير أني قلت ما قلت مسرعة هامسة. فابتسمي له إن شئت، وإلا فلا تصغي يا سيدتي ولا تسمعي، بل اسأليني عما أهمس به لأجيب أني أحمد الله على إبلالك وأنى أسأله أن يديمك سالمة. وما أغلى سلامتك لدينا.
جئت أسر إليك أمرًا وقفت عليه عند ما شهدت صدى مقالتك لدى جمهور القراء. اسمعي يا سيدتي الباحثة، وصوني سرى!
رأيت جميعهم يتقبل أقوالك بنظرة الفخر وابتسامة الإعجاب، ولكني رأيت أسيادنا الرجال –… أقول “أسيادنا” تخمد نار غضبهم– قلت إني رأيتهم يطربون لتصريحنا بأنهم ظلمة مستبدون. نعم آنست ذلك في ملامح كل من قرأ مقالك أمامي من أسيادنا الرجال.
فذكرت إذ ذاك ألا سرور في العالم يضاهى سرور التفاهم. فإذا شعر المرء بأن من يفهمه كان سعيدًا، سواء لديه إن تعرف منه على صفاته أو علاته، لأن معرفة العلات تتبعها حتمًا معرفة الصفات، وإن كان الخير أقل انتشارًا من الشر وما النقائص إلا فضائل مضخمة مكبرة تتسع وتستفيض دون أن تجد لها من الضمير مهذبًا فتتجاوز الحدود المعنوية التي عينتها اصطلاحات الاجتماع– إذا كانت اجتماعية– أو رسمتها علوم النفس والأخلاق، إذا كانت أخلاقية.
فعملاً برغبة التفاهم، وطبقًا لنظام المباهاة، وتوصلاً للاستمتاع بنتيجة هذه المباهاة وذلك التفاهم كان وسيكون السارق دائم المفاخرة بوقوف الناس على براعته في اختيار الطرق الجديدة واستنباط الحيل الغريبة. وكان وسيكون القاتل مسرورًا بإعلان آثامه للورى آملا أن يجدوا فيها أعمال بطل– من نوعه! وكان وسيكون السياسي جادًا في إقناع الآخرين أن دهاءه اقتدار وسوء ظنه وروغانه فطنة وحكمة. كذلك الرجل يسر، ويرجو، ويريد أن تشعر المرأة باستبداده ظنًا منه أن الاستبداد هو السيادة، وأن هذه مقياس ذاتيته التي يريدها كبيرة. رضيت المرأة عن تلك السيادة أم تمردت عليها في نظره سيان، بل أظنه– سامحني الله إن كنت مخطئة – مؤثرًا تمردها على إذعانها لأنها كلما زاد تمردها زاد شعوره بالسيطرة. وأشد الملوك فرحًا بهز الصولجان، وأرفعهم للرأس كبرًا وتيهًا تحت ثقل التيجان، هم ذوو العروش المتداعية للهبوط. والرجل ملك متداع عرشه، لأن ريح الفوضى تهب عليه من كل جانب، وخطوات الارتقاء النسائي تتوالى متمكنة مع مرور الأيام.
لكنه ملك عزيز!
هو الأب والأخ والصديق والخطيب والزوج فإذا سقط سقطنا معه، وإذا ارتفع كنا بارتفاعه عظيمات. لذلك نريد له خيرًا ونجتهد في تأييد دولته، بشرط أن ينصب عرشنا بقرب عرشه، وأن نقف إلى جنبه وقفة المثيل بجوار المثيل. نريد أن نكون متساويين في الواجبات والمسئولية. بل إن واجباتنا ومسئوليتنا يفوقان ما عليه من مسئولية وواجب! فيا ترى متى يرضى الرجل بتقرير هذه الحقيقة؟
ما أطيب قولك، يا سيدتي الباحثة، إنك تشفقين على من يستحق الشفقة ومن لا يستحقها. الرجل من الذين يستحقون الشفقة لأنه لا يعرف أنه يستحقها، إنه باستعبادنا لمنتحر. ولو صرفنا النظر عن مستقبل الذرية وبحثنا في حياته الفردية لوجدنا أن ما من أحد يساعده على التخلص من الشوائب الشائنة، ويحثه على إنماء شخصيته الغنية المخصبة إلا نحن. كما أنه لا يهدينا إلى واجباتنا ويضع في ضعفنا قوة إلاه.
الحجاب؟ وما الحجاب؟
مرحبًا به ما دمنا في وسط لا يعرف كيفية معاملة المرأة ولا يستطيع احترامها، ولكن كيف نلوم الرجل على كلامه ونظراته ما دام رجل اليوم صنع امرأة الأمس؟ هكذا علمته أمه وإن لم تعلمه ذلك فإنها لم ترشده إلى ما يفضله، ولا ذنب لها لأن قصورها في جهلها لم يكن إلا نتيجة اتفاق أبيها وزوجها على جعلها عبدة. لا لوم على أبناء تلك الأمهات. إلا أن مستقبلنا صالح لأن حاضرنا مملوء بالآمال الطيبات. النشء تتنازعه طبائع الوراثة ومؤثرات العصر وعواصف الفوضى المهاجمة قديم التقاليد من كل ناحية. ولكنه ينشد الصراط السوي ويصغى إلى صوت الإصلاح. فارفعي صوتك، يا سیدتی، ولا تيأسي! قولى بصراحتك، واكتبي بشجاعتك! جاهري ولا تصمتي!
إن البذرة التي تزرعها اليوم يد زارع تثبت سنبلة في كيانها حياة الغد، وما يتبعه من الأيام. وعندما تخضر المروج بنصرة الرجاء، فتتماوج فوق غلتها نسمات الحياة، إذ ذاك سيسمع المستقبل صدى جيل يردد أبيات الأمير شوقي:
صداح يا ملك الكنا…… ر ويا أمير البلبل
صبرًا لما تشقی به ……أو ما بدا لك فافعل
فتجيب الأصداء الجديدة: لقد فعلت! لقد فعلت!
“مي“
الساعة المفقودة
جعلها أرباب التجارة حلية نسائية، وأتقن الجوهري وضعها في سوار ذهبي فكانت نصيبي في الشرى.
صورة مصغرة للكون، كذلك كانت ساعتي. مساحتها رمز للفضاء، دورتها مسرح اللانهاية، حدودها حدود الإمكان، علاماتها مقاطع الوقت الذي رتبه الإنسان، ساعاتها مقياس الأعمال، دقائقها خوف من هجوم الرزايا وترقب لوفود الآمال، ثوانيها دقات القلب. .. من الثواني يتألف الزمان ومن نبضات القلب تنسج الحياة نسجًا.
فيا لهول ثواني الزمان، ويا لهول نبضات قلب الإنسان!
بين ثانية وثانية يلتقي العدوان في أحشاء الثرى: الماء والنار، فتميد الأرض بمن عليها، وتنفطر أساساتها فتقذف البراكين مقذوفاتها الجهنمية وسوائلها النارية، وتزفر الطبيعة زفرتها القتالة فتلتهم صروح العمران، وتفتح صدرها مرحبة ببنيها. تفتح صدرها مرحبة فيتدحرجون إلى الهاوية التي ليس فيها من يعود على وجه البسيطة مخبرًا.
بين ثانية وثانية يتلاقى الجيشان في ساحات الوغى، فتدوي وعود المدافع في الفضاء، وتختطف بروق السيوف غالي الأرواح. ولأجل كلمة غالب أو مغلوب تندك عروش وتنتصب عروش، تدمر ممالك ويعمر سواها، تخرب مدائن ويشاد غيرها، تتجندل الأفراد وتفني مجامع فترتدي الأقوام سواد الألوان، وفي نفوسهم لوعة الفقدان وسواد الأحزان.
بين ثانية وثانية يموت أمل ويحيا يأس، تبتسم شفة وتدمع عين، يخون صديق ويخلص عدو، بين ثانية وثانية!
وبين نبضة ونبضة هناك سر الأسرار. دماء داخلة إلى القلب ودماء منبعثة منه، تتهافت عليه جراثيم الموت فتخرج مطهرة حيوية. بين النبضة والنبضة تأثيرات تهتز لها أعماق العمر وانفعالات تشخص لمرورها ذوات الكيان. اشتعال الفكر وخمود العاطفة، ظفر البلاهة وتقهقر النبوغ، لذعات الغرام والحسرات العظام. قنوط ورجاء، سعادة وشقاء. هتاف الروح المسلمة ولهات الروح المودعة!
يا ابنة أبيك! يغدرنا الزمان ساعة الرجاء، ويخوننا يوم الصفاء، ويهجرنا حين اللقاء. فأنت خائنة هاجرة كالزمان, يا ابنة الزمان!
كم من ساع طيبات وقت مرورهن على دوران عقربيك وفكري يناجيك بأحاديث هداه وضلاله! ابسم لك عند السرور فأتخيلك صامتة تبتسمين، وأتنهد حيالك يوم الأسى فأتوسمك تتنهدين وتحزنين، وكأن عقربيك ذراعان يمتدان نحو العلاء مستغيثين متوسلين.
لما أفنت قلبي وحدة القلب ضغطت بك على ساعدي قائلة: “أنت الصديقة التي لا تخون“. ولما مزقت سمعى أكاذيب الناس وأحاديثهم المؤذية خاطبتك قائلة: “أنت لا تؤذين لأنك لا تتكلمين” ولما أذابني الجهل بدعواه والغرور بسخافته نظرت إليك قائلة “أنت عالمة لذلك تصمتين“.
وكنت تعزيني!
وكنت زمانی، يا ابنة الزمان!
وعلى هذا ما كان أطول إعراضك عنى وأقل اهتمامك بي! في النهار كنت تطوقين ساعدی فیوجعه أثر سلسلتك وأجيب أنا على هذا العنف بلمسة المداعبة. وفي المساء كنت تستريحين بجوار وسادتي، فأوقع على موسيقاك الساهية ألحان أحلامي وآمالي، وفي الصباح كنت أول عين أشاهدها وأول روح استجوبها.
كل ذلك وأنت لا تنتبهين ولا تعلمين.
وها قد هجرتني. فقدتك فسيرى بحراسة الله وانسيني!
ولكن انتخبي اليد التي ستطوقينها!
فإذا وقعت في يد شرير وقصد استعمالك ليؤذي أخًا له فانقلبي أفعي لساعة ولا تبرحي مفرغة فيه سمك حتى تصرعيه قتيلاً!
… لكن لا، لا! ليس الأشرار إلا ضحايا البشر وضحايا نفوسهم، لو كنت تعلمين. وهم خليقون بالرحمة أكثر من الأخيار الصالحين، فلا تتحولي حية ولا تؤذي شريرًا، بل غادرى تلك اليد المسكينة واسقطي في طريق أب فقير لتكوني من نصيب فتاة لم تلبس في حياتها حلية. زيني يدًا شوهت خشونة الخدمة جمالها، ونامي على زند الفتاة الغريبة بدلال القبلة والتحبب! نامي هناك واسعدي، ولو ساعة، قلبا بائسا يحسب السعادة في الغنى.
نامي هناك وانسيني، ولكن!
إن كان لديك ذاكرة تذكر، يا ساعتي الصغيرة المحبوبة، اذكري لحظة ما شهدته معي من المسرات واللهفات، اذكرى وإحفظي ما تعرفين!
ولكن … ألست ابنة الزمان الذي تنسب إليه في ضعفنا كل شيء، وهو في قوته لا يبالي بشيء؟ ترین بأي حافظة تذكرين، وبأي ذهن تتأملين؟ إنما علاماتك مداد قد تحجر، وعقربك إصبع يشير إلى علامة يجهل منها المعنى. وأنت آلة ليس إلا. وإن كنت آلة الآلات المثلى. أنت ابنة الزمان الناسي،
وأنت مثله لا تذكرين!
“مي“
إلى الآنسة مي:
عزیزتی می:
لا تستغربي يا سيدتي أني دعوتك “بيا عزيزتي” وسأدعوك باسمك على غير معرفة شخصية سابقة. أقول شخصية وأحدها لأني عرفتك من كتاباتك الشعرية الجميلة من قبل، وتعرفت منها بروحك العالية الهائمة في الفضاء، وكأنها تبحث عن مستقر لها، فلا يكاد يعجبها مكان تستقر فيه.
وتعرفت بك بالأمس، بل وارتبطت بك من دعائك علىّ بالعذاب المعنوي، كأني أنا المعنية بقول جميل:
وأول ما قاد المودة بيننا……بوادی بغيض يابثين سباب
وقلنا لها قولاً فجاءت بمثله ……لكل مقال يا بثين جواب
وإنما حاشا أن يكون دعاؤك على سبابًا. وحاشا أن يكون له جواب عندي من مثله، فإني لم أقابله إلا بالضحك والحلم الذي ركب في غريزتي.
لماذا تدعين على بالعذاب المعنوي؟ ألا أن العذاب البدني أخف منه وطأة وأعفى أثرًا. على أني جربت كليهما وذقت الأمرين منهما معا. تقولين: “لأنه النار المقدسة“. نعم. لقد أعطاني من القداسة مقدارًا أكثر مما يجب لمثلى حتى جعل البون بعيدًا جدًا بيني وبين هذا العالم غير القديس.
تقولين: “إنه النار التي تطهر“. حقيقة أنه تلقى وجداني بالتطهير منذ أن كان لي وجدان حتى صيره شفافًا يظهر كل شيء ويتأثر لأقل شيء. وهذا فيه من الضنى والخطر ما فيه.
تقررين “أنه النار التي تحيى“. نعم يا مي إنه أحيا روحي حتى أحرقها، لأنه كان كل صباح كمصباح سیال كهربائه، شديد. ولكن فتيلته ضعيفة لا تحتمل.
هو “النار التي تلين” هذا ما أبديت. ولكن ألا تعتقدين أن اللين قد يؤذى ولا يفيد. خصوصًا في هذه الدنيا التي كلها صدام وعراك، وأنه لا يفل الحديد إلا الحديد. إنه ألاننى حتى صيرني ماء. وما أشد عبث الطبيعة والناس بالماء مع أنه أصل الحياة!!
يصبونه فينصب، ويريقونه فيختفي في الأرض، ويضعونه في كل آنية معوجة وملونة، فيأخذ كل شكل ويصطبغ بما يراد به من الألوان. تبخره الطبيعة زارية هازئة فتارة ترفعه إلى السحاب وطورًا تقذف به إلى الأرض وآونة تعاكسه بصقيعها بردًا وآونة تحمی علیه براكينها فيخرج ملتهبًا، وحينًا تخبث رائحته بكبريتها وزرنيخها فيلعنه الناس إذا أحسوا منه غير ما يريدون وهو برئ. ثم أليس هو رمز الطاعة والامتثال؛ يضعون فيه سكرًا فيحلو ويذيبون به الحنظل فيمر. وهم مع ذلك لا يقيمون له وزنا ولا يعترفون له بالجميل. وهو بلا ثمن في أكثر بقاع الأرض وأرخص الأشياء في أقلها. إنه مثلي يا مي يذهب ضياعًا.
وختمت حسن تعليلك لعذابي بقولك: “إنه النار التي ترفع النفس على أجنحة اللهيب إلى سماء المعنى” إلخ.
نعم يا مي إننى الآن على أجنحة اللهيب، ولكني لم أصل بعد إلى السماء، وإذا وصلتها فلن يعود العالم يراني فهل يا ترى ستعجبني السماء؟ إني أشك في ذلك. إني أول ما حفظت من الشعر حفظت المراثي وأولها رثاء الأندلس. وكنت في حداثتي أقرأ كثيرًا ديوان المتنبي وأعجب بروحه العالية وبنفسه الكبيرة، وأظنه هو الذي عداني في ذلك وسمم آرائی، رحمه الله، إننى ألذ كثيرًا بهذه العدوى.
وقد قال لي أخي مرة بعد حديث كنت أشتكي له فيه الدنيا وأهلها وأقول: “لعل الله يجزيني على هذا في آخرتي بالجنة“.
قال متهكمًا: “أنا واثق يا شقيقتي أن الجنة أيضًا لن تعجبك لأنه لا يكاد يسرك شيء“. أستغفر الله.
إنك يا مي خالفت المألوف في التمنيات والمجاملات الفارغة، وهي كثيرة وشائعة جدًا الآن (بمناسبة عيدي الميلاد ورأس السنة المسيحيين). قلت: “ابتسمى له” أي لدعائك “إن شئت وإلا فلا تصغي ولا تسمعي وأسأليني عما أهمس به لأجيبك أني أحمد الله على إبلالك وأنى أسأله أن يديمك سالمة” إلخ.
لا يا عزيزتي، إني أكره الكذب والمجاملات الفارغة ولذلك أصغيت وسمعت وابتسمت (حسب أمرك) وتسرني جدًا صراحتك في الدعاء علىّ.
أتدرین یا مي أن ذلك اليوم الذي تمنيت لي فيه العذاب كان فيه عيد ميلادي أيضًا.
وأنى تفاءلت خيرًا بدعائك وافتتحت عامي الجديد بالضحك من تمنيك، وبصداقتي لك تبعًا لذلك التمنى المعكوس. أشكر لك يا عزيزتي أمانيك لي ورغباتك الصادقة، وأقر لك أني واقعة فيما رجوت لي والحمد لله، ولكن يا مي لا أتمنى المزيد. إنه عذاب طاهر لا يتعدى الميل إلى السكون والشعور بشيء من الحزن الشعرى الجميل. ولكنه، ولله المنة والشكر، لا تخامره شائبة من الندم ولا من الأسف الأليم وأخشى أن يزيد ضرام النار التي طلبتها لي فأحترق يا مي أو أصل إلى ذلك الذي لا أريده لنفسي ولا أظنك تريدينه لي.
الساعة المفقودة
عجيب يا سيدتي أنك تريدين عذابي وأنا أريد هناءك. أتدرين ماذا سألقيه عليك فيفرحك؟
إني وجدت ساعتك المفقودة والتقطتها. رأيتك ترثينها بحرقة فجئت لأمسح دموعك لأني أحب دائمًا أن أمسح دمعة المحزون، تعالى إلى لتأخذيها وتستغفريها من وصفك إياها بالغدر وبعدم الإحساس. فإنها، أحسب، بشوقي لرؤيتك فأتت تقدمة لمجيئك ولتعارفنا.
إنها بثت إلى ما كنت تشكينه إليها من العواطف والآلام. عثرت على وعثرت عليها لنكفي قلبك شر الفناء من الوحدة، ولنؤكد لك أنك وجدت الصديقة التي لا تخون.
حكاية الرجل
والآن فلنعد إلى حكاية الرجل
عجیب یا سيدتي أمر هذا المخلوق الغريب الأطوار الذي يسمى “بالرجل“. إني أعتقد أنه كريم شجاع وله قلب حساس ولكني أظنه (وبعض الظن إثم) أنانيًا قبل كل شيء. ورأیی أن أنانيته وحدها هي أصل رذائله. فهو يهضم حق المرأة ويستعبدها، لا لأنه يبغضها أو يتمنى لها السوء، ولكن ليلهو بها وهو يحبها. ويموت لأجلها، لا لأنه يحبها، ولكن ليلهو بها. وهو في كل ذلك واسع الحيلة قوى الحجة فيقنعها فتصدقه وهو كذوب.
أما المرأة فهي دائمًا تحترمه وتحبه لأنها تحبه، صادقة، وإذا كرهته علانية، ولم يكن لذلك البغض من دواء. عرف ذلك أبو الطيب فقال:
وإن حقدت لم يبق في قلبها رضًا…… وإن رضيت لم يبق في قلبها حقد
هي صادقة مخلصة دائمًا حتى وهي خاطئة. هي تحب لتفنى في الحب، ولكن الرجل يحب ليعيش متمتعًا بالحب, هي تحزن وقت المصاب لتتفرغ للحزن ولكن الرجل لا يحزن إلا ليبحث عن تعزية وسلوان.
المرأة كدودة القز تفرغ حريرها لتموت. إنها تعلم أن حريرها الذي تقدمه للملأ زينة وحلية سيقتلها، ولكنها لم تحاول قط الخلاص منه.
أما الرجل فهو كالنحلة يتنقل من زهرة إلى زهرة متروضًا، وقد يطيل المكث على زهرة ناضرة وإنما ليمتص منها نضارتها وماء حياتها. إنها تحب الأزهار حينًا ولكنها تلهو بها أحيانًا فتتركها هشيمًا. وهي تقدم للناس عسلاً فيه شفاء لهم وشمعًا نافعًا ولكنها تعملها لغذائها وسكنها قبل كل شيء.
ظلمنا الرجل حقوقنا، لا لأنه كان ينوى ظلمنا، وإنما هو أخطأ كثيرًا في حسبانه، وإن ما يزيد في قوتنا يضعف من قوته هو. لعله ظن أن مملكتنا واحدة ولذلك نظر إلينا نظر الدعيات الثائرات. وإنما نحن نريد له السعادة والمزيد من القوة في مملكته, ونرجو منه أن يفك عنا الخناق في مملكتنا المستقبلة التي تشد أزره ولا تفكر في إضعافه قط مهما بلغت من العزة والقوة. إننا نتقدم إليه كأننا ساعده الذي يريد أن يخدمه لا كأننا يد غريبة تريد أن تضربه. إننا منه وهو منا فليطب نفسًا وليقر عينًا وليعطنا ما نشاء.
وإنما نحن یا می ضايقناه في بعض شؤون مملكته حتى ظننا نريد منازعته فيها. لنترك له السياسة التي يحبها وحمايتنا. وأقول لك همسًا: “إننا لا ننفع بدونه ولكنه هو أيضًا لا ينفع من غيرنا !!”.
إن المطالبات بحق الانتخابات وإن كن يطلبن حقًا إلا أنهن ظالمات الرجل وأنفسهن معًا، لماذا يرمن مشاركته في الجلوس على كراسي “البرلمان” ولا تقدم واحدة منهن صدرها للقاء كرات المدافع ونصال الفناء في الحرب. الحق أحق أن يتبع.
ليهنأ الرجل بمملكته. إننا لا نهز عرشه ليتداعي إلى السقوط كما تقولين، ولكنا نهزه لنطلب منه “الدستور“.
باحثة البادية
ولها في وصف البحر
في حالتي صفوه وكدره
تعالى الله ما هذا الحلال! أيها البحر إنك كأطماع الإنسان لا تنتهي إلا إذا عبر جسر الحياة. كذلك أنت لا يعرف لك حد إلا عند الخروج منك. أو أنك كقلب الرجل مرة تصفو ومرة تغضب. لا أمان لك في الأولى ولا أمان في الثانية. إذا رضيت كنت جمالاً وإن غضبت انقلبت نکالاً.
أيها البحر إنك رهوًا نعم المركب الذلول كأن صفحتك من الغمام، يصطحب الموج بين أحشائك ويتلاشى كألفاظ الحاد تمر بسمع الحليم. وتشق البواخر جوف عبابك فتصبر عليها صبر الكليم. تحمل من الأثقال والاكدار ما لو حملته الجبال لخرت هدًّا كأن صوتك الهادئ تموجات لحن شجي، وكأن أمواجك المزبدة متتابعة متقابلة سرايا جيش منظم يحمل رايات السلام. إذا صحت السماء استعارت صفاء زرقتك وإن تجلت بالغيم حكت لون كدرتك، تضيق عليك الأرض مسالكها فتنكمش وتوسع لك فتنفجر، تجرى متواضعًا تحت قدميها وأنت أعظم منها قوة، وأعز شأنًا، تنفجر جبال النار (البراكين) بين ضلوعك فلا تلتاع ولا ترتاع كأنك أجمد من قلب الخلي. أو كأنها بثور بأديمك أو أثر لذع البعوض في وجه الحسناء، كم سقطت فيك جزر وبلدان تحتمى بك من مآثمها ومعاصيها فمسحتها بدموعك ونقيت روعتها بمائك الطهور. ظلموك أيها البحر إذ لم يهتموا بك اهتمامهم بأختك الغبراء. زينوها وتركوك عاطلاً، ففنيت بجلالك عن جمالها المصطنع، وبحدائق مرجانك وأودية درك عن حدائقها الخضراء وأوديتها الجرداء، وصلتهم فقطعوك، وشايعتهم فناوؤوك، بذلت لهم ما تملكه زينة وطعامًا وتسامحت لهم بمائك فحللوه شرابًا وأنخت لهم متنك فاتخذوه ركابًا، وصقلت لهم جبينك فجعلت منه عند بزوغ القمرين مرآة ومشكاة. تفيض عليهم بهجة ونوراً. كأن العسجد أذيب فيك نهارًا. وتكسرت في ثنائك جداول اللجين ليلاً. وأنت أيها البحر الخضم أصل حياتهم، منك الغيث ومن الغيث الحياة. أظللت سماءهم. وأنبت غذاءهم وألطفت هواءهم. وفوق ذلك فأنت مستودع أسرارهم وقارورة أقذارهم، فهل تراهم على ذلك يشكرون؟ تالله ما رأيت مثلك اتضاعًا في عظمة واحتسابا في قدرة.
وإذا عبثت أيها البحر وكشرت عن نابك، ويا سرعان ما تعبث، فإن الموت في تقطيب حاجبيك يصرح الشر باسمه عند زمجرة منك، كأن جوفك كان مملوءًا أسودًا فلفظتها فاغرة أفواهها، تبلع من تصادف في طريقها. يدوى صوتك كالرعد القاصف فيمطر وابل المنايا بغير ولى. ما أظلمك أيها البحر مستبد غاشم تأخذ البرئ بدم المجرم أو تأخذه بلا جريرة. إن الله لم يظلمك إذ جعلك ملحًا أجاجًا. وإن البشر لم يبخسوك حقك إذ امتطوا ظهرك كالدابة، ومزقوا أديمك سفرًا. وإن أقل خفقة في قلب الأرض تذكر تضطرب على اتساعك، وأدنى هزة من الريح تهز أعصابك، لا أمان عندك فتحب ولا ميعاد لغضبك فتتقى. كأنك في تقلبك رأى الضعيف أو يمين الحانث وفي تلونك كالحرباء. كم مجرم استعان بك على كتمان جريمته. وكم ملك أفنى رعيته ودفن العدل في جوفك كان آذيك متلاطمًا قمم الجبال تتساقط كسفًا أو رؤوس الجند البرئ تتناثر إرضاء لأهواء الملوك الظالمين. كان جوفك المظلم ضمير الحسود يغلى كالمرجل ويخفي ما يخفي تحت ثوب الرياء، تنطح الصخر الأصم كمستجدي البخيل، ثم ترجع أدراجك كالسائل المحروم أو كالجيش المقهور تشمخ بأنفك فترغمها اختراعات الإنسان، وتتطاول إلى السماء فتسقط أعياء ويرجع البصر خاسئًا وهو حسير، لا أثر للرحمة عندك كأنك قلب الكافر الجحود. لا يسوغ لك شراع تمج مرارة كمرارة المظلوم أرهقه العذاب. كأن بريق مائك التماع أسنة الخرصان أو امتداد ألسنة النيران. شاهر سيفك بادئ العدوان. لكنك لا تتمثل في هجومك بما يفعله الشجعان. لأنك تطلع على الغافلين بالردى بغير نذیر.
لا حبذا أنت أيها البحر من طريق ولا رفيق، لولا اضطرارنا إليك ما سلكناك، ومن يسلم منك فما ينجو من الحمام إلى الحمام كما قال المتنبي:
وإن أسلم فما أبقى ولكن…… نجوت من الحمام إلى الحمام
ما أكفر الإنسان وما أضعف إيمانه أين قوته واختراعه من قدرة الله سبحانه، إن في البحر وحده حالتی صفوه وهياجه لعبرة لقوم يعقلون، فسلام عليك أيها البحر ضاحكًا وعبوسًا، وسلام عليك إنك أبو الكون ومحيطه، وسلام عليك لو لم يكن لك فضل إلا وصل مصر بأجزاء العالم لكفاك بذلك فضلاً ولو لم يكف ماؤك أن يصل لمصر لأكلته بشرایینی.
باحثة البادية
بعد سبع سنوات:
مظاهرة نسائية– مطالب النساء المصريات – شرح حالة المرأة.
قصيدة شاعر القطرين – خطاب هدى هانم شعراوی.
قصيدة المربية السيدة نبوية موسى – آراء وأقوال.
ذكرى سبع سنوات لصاحبة الإمضاء
مضى سبع سنوات على وفاة كاتبة فاضلة، وسيدة ذات مبدأ شريف في تحرير المرأة وحلها من قيود الاستعباد. فصارت تكتب بكل ما أوتيت من علم وقوة أرادت في وقت مظلم كانت تعد فيه الأمة المصرية ذكر أسماء السيدات، ولو في المجالس الخصوصية، امرًا يشمأز من ذكره، وكل محدث تغير في الهيئة التي نشأت عليها بعد ضلالاً. قام الأستاذ المرحوم قاسم بك أمين وكتب عن تحرير المرأة فرماه الرجعيون بأفضل نساء الأمة المصرية، وصار يحنق عليه كل من قرأ كتابه، أو من لم يقرأه. والكل لم يفقه مقصده ومرمى كلامه إلا نفر قليل في مصرنا العزيزة. قام من قبله الإمام المرحوم الشيخ (محمد عبده) وأراد إدخال بعض الإصلاحات عند الأزهريين فرموه بالعقم في الدين. وإذا عددنا ما قام به المصلحون من وجوه الإصلاح، وما قابلوه به من الاستهجان، لضاق بنا المقام غير أننا نعرف أن المرحومة باحثة البادية قد وضعت حجر الزاوية لتشيد عليه صرح آمالنا، حتى نكون أمة راقية نعمل على سعادتها نساء ورجالاً فيحق علينا نحن بنات الجنس اللطيف أن نقيم في كل عام مثل هذه الحفلة التي أقيمت يوم ٢٤ نوفمبر الماضي في حديقة الأزبكية تخليدًا لذكرى زعيمة من زعمائنا. وقد توج هذه الحفلة حضرة السيدة الفاضلة هدى هانم شعراوي بقبولها رئاسة حفلة التأبين. فتحت الحفلة بتلاوة آيات الذكر الحكيم. ثم وقف الشاعر المفلق خليل مطران بك وألقى كلمة بالنيابة عن حضرة السيدة المصونة رئيسة الحملة. أبان فيها ثلاثة مطالب: الأول؛ مساواة المرأة بالرجل في مناهج التعليم. الثاني؛ إصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية تنتقد فيها تعدد الزوجات. الثالث؛ مساواة المرأة بالرجل في الحقوق المدنية والشرعية. وقد أفاض القول في هذه المطالب الثلاثة وعززها بالقول والبرهان. ثم ألقى قصيدته الرثائية حتى أبكى القلوب قبل العيون فذابت أسى وتفجعًا على الفقيدة وما كان لها من جليل الأعمال. ثم وقف شقيق الفقيدة الأستاذ مجد الدين ناصف وذكر أن النهضة النسائية في مصر قد ظهر قبس من نورها. فقال إن أختي هي أول فتاة تعلمت في مدارس البنين، وأول من نالت شهادة الدبلوم، وذكر لمحة من تاريخها، وأول من كتب في الصحف نظمًا ونثرًا، وقد فاجأتها المنية في سنة ١٩١٨ فيكون مضى على وفاتها سبع سنوات وقد أبن شقيقته بكلمات مؤثرة أسالت العبرات، ثم قدم بنات دار الاتحاد النسوي فألقين نشيدًا تراه في غير هذا المكان. ثم أعقبته حضرة الأنسة المربية الفاضلة نبوية موسى، كبيرة مفتشات وزارة المعارف العمومية، فألقت مرثيتها بما عهد فيها من طلاقة اللسان وفصاحته، مما كان لها من التأثير على أفئدة الموجودين. من ثم اعتلت منصة الخطابة حضرة الكاتبة القديرة الآنسة “مي” فقالت: إنى يربطنى بالفقيدة ثلاثة روابط، الرابط الأول؛ ما وجدته من جاذبية ما يسطره يراعها البليغ. الثاني؛ فضلها علىّ في سنة ۱۹۰۷ بأنها جرأتنى على الكتابة في الصحف. الثالث؛ جرأتها على أنها أول مصرية شرقية تطالب بحقوق المرأة. فدلت فصاحة الآنسة “مي” في إلقاء الحماس على أنها من كبيرات الخطيبات، لأن كلامها كان له الوقع الطيب في قلوب سامعيها وانصرف الجميع وهم يرددون فليحيا العلم الذي أظهر السيدة المصرية على مسرح الخطابة بما أبهر العقول من فصاحة وشجاعة إلقاء غير ما كنا نراه في أمهاتنا.
فريدة فوزي.
المشرفة على القسم النسائي بمجلة الحسان
خطاب السيدة هدى
أيها السادة:
اجتمعنا اليوم لنحيي ذكرى باحثة البادية. ولست بحاجة إلى أن أبين لكم مقدار الخسارة التي نالتنا بوفاتها في عنفوان شبابها وبدء جهادها. وليس منكم من يجهل ما كان لها من فضل واسع وأثر خالد في خدمة الأدب والتربية والنهضة النسوية.
وإن أمسكت القلم عن سرد آثارها الطيبة فلأني رأيت ترك التفصيل في هذا الباب لمن هو أولى به منى، لأنه اقتفى أثرها حتى كأنه رأى من الوفاء لها أن يعمل معنا على تحقيق ما بدأت به في سبيل تحرير المرأة ورفع شأنها، وإن في شهودكم هذه الحفلة لتعزية أخرى لأنه يجعلني عظيمة الرجاء في تأييدكم للمبادئ التي وضعت أساسًا لحرية المرأة ورقيها.
وكيف لا يكون لي هذا الرجاء وقد أخذ الشعب المصري يقنع غيره من الأمم الإسلامية الراقية بأن جهل المرأة وعزلتها في دارها كان ولا يزال من أهم أسباب تأخره وانحطاطه. وإلى لمغتبطة بهذا الشعور الذي يبتسم أمامي ابتسام الفجر بعد الليل المظلم.
والآن أرجو أن تسمحوا لي أن أشرح لكم حقيقة ما تصبو إليه المرأة المصرية، وما فهمه بعض الناس خطأ من مطالبنا فأولها تأويلاً مشوشًا بعيدًا عن الحقيقة المطلوبة.
مطالب المرأة
المطلب الأول:
مساواة المرأة بالرجل في فروع التعليم. لا نظن عاقلاً ينكر علينا هذا المطلب لأننا إنما نريد أن ندرأ عن أنفسنا غائلة الجهل.
ولذلك رأت الحكومة أخيرًا أن تصغى لشكوانا المستمرة منذ سنوات فأخذت تذلل العقبات التي كانت تحول دون مساواة المرأة بالرجل في التعليم فأنصفتنا في ذلك بعض الإنصاف، ونرجو أن تتدرج بنا إلى الكمال فيه.
كان يرى بعض الناس في الزمن الغابر أن تعليم المرأة يعرضها للفساد، ولما تبين لهم أن الجهل هو أساس الفساد رجعوا إلى الصواب، وعملوا على تعليمها، ولكن إلى حد محدود، مع التمسك ببقائها في غرفتها الأولى ظانين أن ذلك أصون لأخلاقها وباعث على قيامها بواجباتها المنزلية، فظهر لهم عكس ما توقعوه، فرجع بعضهم إلى النظرية الأولى، وبقى البعض الآخر مترددًا بين التعليم والجهل، وكلهم عاجز عن التقدم بها إلى الأمام أو التأخر بها إلى الوراء.
ولا أدرى هل كان ذلك لما رسخ في طباعهم من استضعاف المرأة واحتقار شأنها، أو إن ذلك لجمودهم وفقدانهم الشجاعة للتصريح بالحقيقة أمام الأمر الواقع.
ومن الظلم البين أن يتحكم هذا الفريق في حياة المرأة وتكوينها تحكم المستبد كأن لم تكن إنسانًا له حقوق مثل حقوقه، وعليه واجبات مثل واجباته، وله شعور وعقل وإرادة كشعوره وعقله وإرادته.
وقد فات هذا الفريق أن العلم، لكائن من كان، لا يكون أداة للفساد، كما فاتهم أن تعليمها مع بقائها في غرفها غير كاف لتكوينها وتهذيبها.
لأن العلم لا يظهر أثر فضله إلا وقت تطبيقه على العمل، وشر آفة على الإنسان – رجلاً كان أو امرأة– اتساع معارفه وتضييق دائرة عمله.
فامنحوا بناتكم حسن الثقة بهن، وحببوا إليهن مكارم الأخلاق، وأطلقوهن يعملن في أفق الحرية الكاملة.
ولهن من حب العفاف لخير واق وأشرف حجاب.
المطلب الثاني:
إصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية، وجعلها منطبقة تمام الانطباق على روح التشريع الديني من إقامة العدل ونشر السلام بين الأسر وإحكام روابط المصاهرة وذلك بان:
(1) يسن قانون لمنع تعدد الزوجات، إلا لضرورة كعقم الزوجة أو مرض عضال يمنعها من أداء وظيفتها الزوجية، وفي هذه الحالة يجب أن يثبت ذلك الطبيب المختص.
(2) يسن قانون يحرم على الرجل أن يطلق زوجة إلا أمام القاضي الشرعي، وعلى القاضي معالجة التوفيق بين الزوجين بحضور حكم من أهلها وحكم من أهله قبل الحكم بالطلاق، طبقا لنص الدين الحنيف.
أعتقد أننا في هذا المطلب لم نتجاوز الحكم الديني، ولا الحكم العقلي، إذ ليس منا من يجهل أن الطلاق مثار الاحتقاد والأضغان بين المتصاهرين، ولذلك قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ” أبغض الحلال إلى الله الطلاق“.
وليس منا من يجهل مضار تعدد الزوجات، وما له من أثر سيء يوهن جلال الأبوة في نفوس الأبناء، ويختلس حنان البنوة من الآباء، وينقص رابطة الأخوة فتؤول إلى مشاحنة وبغضاء.
ويدفع الرجال إلى الإسراف والتبذير، وينمى الأثرة، فينقادون إلى شهواتهم غير حاسبين حسابًا لما سيعقب ذلك من حسرات ونكبات.
هذا إلى القضاء على سرور المرأة في حياتها والحكم عليها بالشقاء الأبدي، وذلك ما لا يرضاه رجل شريف تتغلغل في نفسه العاطفة الإنسانية، ولا ترضاه امرأة رفيعة كانت أو وضيعة.
إذا كانت هذه آثار تعدد الزوجات، محسوسة ملموسة، فلم لا نحاربه بكل قوانا، ولم لا ينضم إلى صفوفنا عقلاء الأمة لتلاقي شروره ومفاسده.
المطلب الثالث:
مساواة المرأة بالرجل في الحقوق النيابية والحقوق التشريعية. تريد المرأة أن تتبوأ مكانها في الهيئة الاجتماعية، وأن تنال قسطها كاملاً في الحقوق، لا لتزاحم الرجل كما يتوهم, وإنما في الحقيقة لتساعده في تحمل أعباء الحياة.
تعلمون أن الرجل والمرأة بحكم الشرائع السماوية والنواميس الطبيعية قد خلقا لا لينفرد كل منهما بنفسه، وإنما ليمتزجا ويتكاملا ويتشاركا في الحقوق والمسئولية.
ولم نر الطبيعة أفردت الرجل بعمل خاص، كما لم نراها أفردت المرأة بعمل خاص، لأن الاستعداد القطري واحد في الجنسين، وإنما هيأت الطبيعة كل فرد لعمل يميل إليه بحكم مزاجه الخاص.
بالرغم من هذا كله عزيز على الرجل أن يقتنع بكفاءة المرأة واستعدادها للعمل.
وشديد عليه أن يستسلم لما تطلبه، وتسعى إليه، لأنه أهملها فانقادت إليه وخضعت لإرادته واستبداده حينًا من الدهر ففقدت بالطبيعة ما هي مستعدة له.
وما مثل ذلك إلا كمثل من أهمل استخدام إحدى عينيه ففقدت وظيفتها، لا عن مرض، أو كمثل من أهمل استخدام يده اليمني في الكتابة فأصبحت شبه مشلولة وليس لها شلل، ولو انه استخدم كل أعضائه بدقة فيما خلقت لأجله لكان له منها خير عون وأكبر نصير.
ولو فطن الرجل إلى ذلك أو أرجع نفسه بعدل ونزاهة وقدر ما يعود على نفسه من مشاركة المرأة له في مهام الحياة. لو علم ذلك لما وقف حجر عثرة في طريقها، لأن نهوضها نهوض به، وله من رقيها نصيب وافر وأثر محمود.
يرى بعض الرجال، الذين يضنون على المرأة بإعطائها حق الاشتراك في السلطة، أن ليس ذلك من مصلحتها لأن خروجها إلى ميادين العمل يقلل من نفوذها غير المباشر ويضعف تأثيرها في الهيئة الاجتماعية، ومن أجل هذا ينصح للمرأة أن تحافظ على هذا النفوذ، لأنه أبقى لمنزلتها عند الرجل وأنقذ لكلمتها دون مجهود عظيم تبذله في هذا السبيل.
ولكن هذا البعض الذي يرى ذلك فاته أن ينظر إلى الثمن الذي قد تدفعه المرأة للوصول إلى هذا النفوذ، كما فاته أن يتبصر في عواقب هذا التصرف أو هذا النفوذ الخفي الذي لا مسئولية فيه.
لا ينكر أحد أن المرأة، على العموم، تأثيرًا محسوسًا في الرجل تظهر نتيجته في كل عمل من أعماله، فمن الخطر الجسيم أن يكون لها ذلك التأثير العظيم وهي بمعزل عن الهيئة الاجتماعية وعلى جهل تام بمجرى الأمور ومقتضيات المصلحة العامة، وأكبر دليل على ذلك الحوادث التاريخية الماضية التي دفعت رجلاً عظيمًا من كبار مفكري فرنسا إلى أن ينادي بأعلى صوته ابحثوا عن المرأة عند كل ملمة أو كارثة.
لم يقل ذلك الرجل هذا إلا بعد وقائع مثبتة.
والحقيقة أن المرأة مظلومة، لأن تحكم الرجل في حياتها وبعدها عن مواطن التفكير ومواقف المسئولية جعلتها تندفع بشعورها دون مراعاة للمصلحة العامة التي لا تعرف عنها شيئًا، ومن الظلم البين أن يعيرنا الرجال بعيوب لا تقع تبعة وجودها فينا إلا عليهم وحدهم.
وليس هناك علاج لهذا الخطر المخيف إلا مشاركة المرأة للرجل في المسئولية الحقيقية عن الأعمال الاجتماعية العامة.
أيها السادة:
هذه المطالب التي نرفع بها اليوم صوتًا عاليًا ونلح في طلب تحقيقها، كانت السعار الأول لباحثة البادية وظلت تنادي بها منذ نعومة أظفارها، وقد عاجلتها المنية قبل أن تنعم بتحقيق شيء منها، فماتت في أول الطريق. وها نحن أولاء اليوم نجاهد على إثرها، ولنا بعض التعزية إذا متنا لأننا قد كوفئنا بتحقيق بعض الأماني التي حرمت باحثة البادية مشاهدتها، وهذا مصير كثير من المجاهدين الأولين في هذه الحياة: يضعون الغرس الطيب ليجنى ثماره خلفاؤهم.
فنسأل الله للفقيدة الرحمة، ولنا حسن العزاء وتام التوفيق بفضل تآزرنا ومعاونتكم لنا.
ثم تلا الأستاذ خليل مطران قصيدته البارعة التي قوطعت بالتصفيق والاستعادة مرات وهي:
قصيدة خليل مطران
يا آية العصر حقيق بنا……تجديد ذكراك على الدهر
جاهدت لكن النجاح الذي ……أدركه أعلى من النصر
بدت تباشير الحياة التي ……جدت فحيى طلعة الفجر
قد أثبتت يقظتها للعلي…… بعدك ذات الخدر في مصر
فبرزت معه ولكنها……ما برزت عن أدب الخدر
تعفو عن المخطئ في حقها……حلمًا وتسعفي من النكر
مكانها أصبح من زوجها……مكان ثم الشطر بالشطر
لها على الواجب صبر وإن ……شق ومرت شرعة الصبر
مخايل العزم يرى وريها……مؤتلقًا في وجهها النضر
وتلمح العين حلى نفسها……أزهى وأبهى من حلى التبر
في أي عصر كان عرفانها…… أو خيرها ما هو في العصر
قد علمت أن المزايا وإن ……جللن لا يغنين من طهر
لو جمعت في نسيق بارع…… كريمة الأحجار والدر
ولم تصب نورًا فتبدي به…… زينتها الخلابة الفكر
ألا يكون الفحم والماس في ……منجمه سنيين في القدر
يا من ذوت في زهرة العمر ما…… أقسى الردى في زهرة العمر
إن تبعدي ما بعدت نفحة ……تركتها من خالص العطر
في كتب مأثورة كلها……كالروضة الدائمة الزهر
ولا نأي عن مسمع القوم ما……عنيت من أنشودة نكر
خالدة الترديد في مصر عن…… نابغة خالدة الذكر
بشدوها المؤلم في أسرها……أطلقت الطير من الأسر
ما الوزر أن تبدو ذات الحلي…… وسيرها خلو من الوزر؟
أي كمال وجمال يرى ……كما يرى في طالع الزهر؟
فباسم طلاب رقي الحمى…… وباسم أهل الخلق الحر
أهدي إلى روحك في عدنها…… أنفس ما يهدي من الشكر
ذلك دين لك في عنقنا ……قضاؤة ضرب من البر
ومثله أو فوقه ذمة…… حقت لرب النظم والنثر
لوالد رباك حتى إذا ……عولجت قفاك على الأثر
هل كنت إلا كوكبًا آخذاً…… في أفق العلياء من بدر
فضلك من فضل أبيك الذي…… كان أبًا الآداب في القطر
أبدع من جدد في مرسل…… وخير من جدد في الشعر
قصرت في إيفائه حقه…… تقصير مغلوب على أمري
وكان من عذر الأولى أرجأوا……تأبينه ما كان من عذري
شلت يد البين الذي ساءنا……بفقد ذاك العالم الخبر
العامل الثبت الذي إن يفض…… في مبحث حدث عن البحر
رب المعاني والبيان الذي…… علمنا ما لم نكن ندري
الباذل العلم لطلابه……. بذلاً وما كان من التجر
يثقف النشء على أنه…… أعلى منار لأولى الذكر
في صدره الرفق جميعًا وما …… من ريبة في ذلك الصدر
أخلص شيء لإورائه …… بيته في السر والجهر
فرحة الله ورضوانه…… على فقيدتنا إلى الحشر
من والد بر ومن بضعة……طهر أنارا ظلمة القبر
ما غاب من ملك علاها بل ظهر…… لما توارى النيل منها واستتر
وهوى بباحثة القضاء وحكمه ……أما مباحثها فدان لها القدر
كانت كشمس الفضل تسطع في الضحى ……إن كان أهل العلم يومًا كالقمر
كانت لكل ملمة تعرو بنا…… ولكن عادية مواقفها غرر
ظهرت مواقفها الكثيرة طفلة ……فأنار روض العلم فكر مستعر
ما كان في أبناء مصر مثلها ……وبذاك فضلت النساء على البشر
ها كم أشقاها وإن ملئوا علا ……هل فيهم من فضل باحثة أثر
لو أنها عاشت لكان ذكاؤها …… تهدي الذي جهل النساء وإن كفر
لهفي على شمس توارت في الضحى ……قبل الأوان وضوء فكر قد قبر
كم جاهدت في حب مصر فأتعبت ……. مقلاً أضر بحسنها طول السهر
كنا يؤم لدى الحوادث شخصها …… فيمن يلوذ وقد أحاط بنا الخطر
ملك لقد جحد الرجال نبوغنا …… ونسوك لما زال عهدك والقبر
هل تقدرين على الكلام ليعلموا …… أن النساء أجل من يلقى الدرر
لو أنهم سمعوك يا ابنة ناصف…… تتسامرين لهالهم حلو السمر
قومی فخطى من بياتك أسطرًا …… تهدي العنيد وكل من فقد البصر
ردي لنا الفضل الذي ولى فقد …… دفن الكمال بجوف قبرك واندثر
هبی ندافع عن كرامة جنسنا……فسواك لا نرضاه في كر وفر
هزى اليراع فإن طول سكونه…… حرم النساء من الرقي المنتظر
هزى اليراع فإن مصر بحاجة …… ليراع فاضلة وعقد مقتدر
هزى اليراع فإن كل فضيلة ……تدعو النساء إلى النضال المستمر
هزى اليراع فإن فاسدهم بغى ……فينا وليس لمن بغى فينا مفر
هذي الفضيلة في البلاد طريدة ……من لي بصوتك للفضيلة ينتصر
ضاع العفاف فهل سمعت بفقده …… وبمن أصابوا القلب منه فانفطر
قطعوا غصون الفضل فينا عنوة …… ولأنت أول من جنى منها الثمر
يا شمس نهضتنا وغيث رياضنا …… غاب الضياء ولم يعاودنا المطر
لما توارت شمس فضلك بغتة …… عز الرجاء وبدل الصفو الكدر
وذوت رياض العلم بعد نمائها …… وهوى بها جور الحوادث والغير
هل كنت يا ابنة ناصف إلا هدى ……يهدي الأنام فذاع صيتك واشتهر
شهد الرجال بما لذاتك من علا……. في الخافقين وما لشأنك من خطر
وهم الألي غبنوا النساء وأنكروا…… ما كان من مجد لهن ومن ظفر
فإذا أتى منهم بفضلك شاهد …… دلت شهادته على صدق الخبر
هذي جموعهم تدل صراحة …… أن التي يبكون أفضل من خطر
فإليك من كل القلوب تحية …… تهدي إلى جدث بمثلك يفتخر
في حفلة ذكرى باحثة البادية
هذه هي الخطبة الشائقة البديعة التي ألقتها الكاتبة المبدعة الطائرة الصيت الآنسة “مي” في الحفل الذي أقيم إحياء لذكرى باحثة البادية وكانت تقاطع بالتصفيق المتكرر:
أيها السادة والسيدات:
وأنا كذلك لي كلمة أقولها في هذا الاجتماع، وكيف لا أقولها بكل قلبي وذكر الباحثة حبيب إلىّ أثير لدىّ؟ وكذلك لأسباب استسمحكم في إيضاح ثلاثة منها هي في تقديري أوجه الأسباب وأحكمها وثاقًا بين اسم الفقيدة وما لها في النفوس من محبة وإكبار.
أما السبب الأول؛ وقد يراه بعضكم سببًا نسويًا مع أنه سبب جوهري. فهو الجاذب الذي طويت عليه شخصية الباحثة. ذلك الجاذب القوى الذي يتشفع من بعض الشخصيات الكبيرة فيستولى علينا، ويظل جادًا وراء ميولنا ونزعاتنا كأن لديه رسالة يتحتم أن يؤديها إلينا، سواء في الحياة أو بعد الممات.
أما السبب الثاني؛ فهو فضل الكاتبة على قارئة. لقد اطلعت على مجموعة “النسائيات” سنة الحرب فكانت الباحثة أول كاتبة عربية خاطبتني في موضوعات غريبة يومئذ عن معرفتي وإدراكي واهتمامی؛ موضوعات الزواج والطلاق وتعدد الزوجات والنقد الاجتماعي والإصلاح. فسيطرت على انتباهي وتغلغلت غير متعثرة في مشاعري، ولفتتني إلى علل مازالت ضاربة إلى يومنا هذا في مختلف المراتب، ومازال الدواء الحكيم الذي وصفته باحثتنا في مقدمة ما يحسن أن تعالج به من الأدوية.
أما السبب الثالث؛ فهو فضل الكاتبة على كاتبة. فإني بفعل حزني عليها عكفت على درس شخصيتها وتمحيص آرائها ورسم صورتها الجذابة السمراء.
وذلك الكتاب الذي صدر سنة ١٩٢٠ “باحثة البادية” كان فاتحة تآليفي باللغة العربية ومنشأ اهتمامي بدرس شخصية المرأة عمومًا والشرقية خصوصًا، ومسايرتها في تطورها الجديد مع إعلان ما يناسبها وما تحتاج إليه، وتعريف ما لا يلائمها وما وجب عليها نبذه. ولقد كانت المرأة الشرقية إلى اليوم كمية مهملة– كما يقول العوازل – فلم يقم طبعًا كاتب يفرد لذات شخصية نسوية كتابًا. فكان للباحثة أن تفتح هذا الباب فتوحي أول کتاب عربي في النقد الأدبي والاجتماعي والتاريخي والإصلاح عن إحدى بنات جنسها تدونه إحدى بنات جنسها.
وهذه الأسباب الثلاثة التي تصلني بالباحثة هي بعينها التي تصل الجمهور بها، ولو مع بعض الاختلاف. فكل من قرأها شعر بجاذبها من خلال الصحائف. وكل ثائر بكتاباتها وفقًا لاستعداده، القارئ منا والقارئة. وكما كانت موحية أول كتاب عربي عن كاتبة عربية كذلك كانت أول امرأة مصرية– وأكاد أقول شرقية – تعاون الرجال والنساء على الاحتفاء بتأبينها احتفاء رسميًا. فأقام الرجال حفلتهم بعد مرور أربعين يومًا على وفاتها. وأقام النساء حفلتهن بعد مرور العام، في دار الجامعة المصرية القديمة. وقد كان لي الشرف والسرور والحزن أن أكون من أعضاء اللجنة التي عنيت بتهيئة تلك الحفلة ومن الخطيبات اللائي تكلمن فيها. أوتذكرون متى كان ذلك؟ لقد كان ذلك في تلك الساعة المتلظية الطروب ساعة اليقظة المصرية. لأن الباحثة سكتت للمرة الأخيرة عندما سارت الأمة هاتفة تحت الأعلام الخافقات. أدرج جسم الباحثة في الأكفان عندما انبرت الأمة تلقى عليها لفائف الموميات القديمة لتنتفض منها النفس القومية انتفاض الحياة المشرقة المنشورة في بعث جديد باهر!
للعمر ساعات، أيها السادة والسيدات، لا يسع المرء فيها حتى ولو كان حكيمًا إلا أن يعاقد القدر وينعته بالجور والطغيان. لأنه بينما هو يغدق النعم على الأحمق أو الخبيث الأثيم من بني الإنسان إذا به يؤذي المحسن الكريم فيصعقه في لطمة واحدة بعد التعذيب الطويل. ذلك كان نصيب الباحثة من القدر. على أننا نعود إلى الامتثال الجميل الذي هو من أسمى دروس الإسلام، نعود إلى الامتثال لعلمنا أن الزارع لا يتحول عن حقله إلا وقد نثر جميع البذور التي تحتم عليه أن ينثرها. ومن يد بطلتنا المباركة كما من يد قاسم أمين ألقيت البذور الصالحة في الوادي الخصيب، فرأيتم اليوم، يا رجال مصر، هذا الحصاد البهيج من بنات واديكم ينهضن عاملات لكم ولنفوسهن ولأوطانهن وللإنسانية.
ولا عجب في ذلك. بل قد كان يكون العجب واليأس أيضًا لو لم تتحرك المرأة المصرية. كيف؟ أو يغامر الرجل ويجاهد ويستبسل ويفادي وتظل المرأة حياله تمثالاً أو دمية لا يسمع نداء الحياة، ولا تفقه عجيج الأماني وصيحة الأوطان؟ كيف؟ أو يدوى العالم بصخب الشكايات والمطالب ولا تتأثر بذلك مصر، ومصر كالشرق بأسره مطمح الأنظار وسرق المصالح ومرمى المطامع؟ أو تنهض الأمم بشطريها للسعي والاقتباس والتجديد وتظل هذه البلاد معرضة غافلة رغم كونها النقطة المسيطرة على طريق المشرقين، وملتقى القارات الثلاث، والبقعة التي تستقر فيها خلاصة كل حضارة وكل ازدهار؟
كلا! لم يكن ذلك بالميسور في بلاد قوية بماضيها، قوية بمستقبلها، قوية بحيويتها الحسية والأدبية وبرسالتها إلى العالم التي تجلها عن الانقراض والفناء! فكانت الباحثة ساعة النهضة الوطنية، ومثل النهضة الوطنية، أول وسيلة يتفاهم عندها الشطران ويتعاونان. فهنيئًا لنا به يقضى بين قوم نابهين! وهنيئًا للأحياء تدخر لهم القبور ودائع الفضل والذكاء!
ولقد شاء الأستاذ مجد الدين ناصف استنهاض همة الرجل في هذا النادي. فيسط له مظاهر ظلمه، وفعلت فعله أستاذتي الجليلة السيدة نبوية موسى وهي المحقة في إخلاصها. ولكن للأمر وجهًا آخر على أن أذكره ليقوم التوازن حيث يجب أن يكون وما أنا قائلة إلا كلمة حق توحيها روح العدالة ومعرفة الجميل إن أنا شكرت الرجل لعطفه على المرأة وعنايته بحركتها في هذه الديار.
فالرجل في شخص قاسم أوجد اليقظة النسوية ودعا إليها. والرجل يتعهد هذه اليقظة بشخصكم أيها الآباء والفضلاء الذين تعنون بتعليم بناتكم وتثقيفهن وما فتئ الرجل ينشط المرأة ويستحثها ويروج مصالحها بأكرم المظاهر وأنبل الوسائط. وهل من هو أولى بالذكر في هذا الموقف من أبي الباحثة؟ بل هل هناك من هو أولى بالشكر منك، يا شقيق الباحثة، أنت الذي نراك باذلا ًذكاءك وهمتك ومعرفتك وحماستك الفتية للإشادة بذكر قضية المرأة, وتفخيم أعمالها وبسط آرائها، وتشجيعها على مخاطبة الرجال في شؤونها بإباء، وإرغام الرجال على الاستحسان والتصفيق والموافقة؟
وهاكم الكتب، والاجتماعات، والأحاديث، وهاكم عطف الصحافة الكريم بوجه خاص. كل ذلك ناطق باهتمام الرجل وإنصافه وسامي شعوره. وها هو كل شاعر وخطيب هنا, وها هو كل حاضر منكم أيها السادة الرجال، إنما هو يعرب بطريقته الميسورة عن رغبته في تفاهم الجنسين لإعلاء شأن الأوطان. لأنكم تدركون أنه لا خير في وطن يجرى الرجال منه والنساء مقعدات! بل الخير كل الخير في وطن يتعاون الرجال منه والنساء على تنشئة الفرد الصالح تنشئة للعائلة فالمجتمع، فالأمة الزاخرة بتيارات الرفعة والكرامة!
أيها السادة والسيدات:
إننا في طريقنا إلى غايات خطيرة قومية وإنسانية وروحية تحدو بنا جهود العاملين وتنير سبيلنا أفكار الراحلين، ففاخرن يا أخواتي المصريات بأن تكن عاملات في هذا الموكب العظيم كما تفاخرن بأن لكن شعاعًا نسويًا يزيد في النور الطاهر السني المنبعث من قبور الخالدين!
حرية المرأة في الإسلام
لمجد الدين حفني ناصف
لقد أطلق النبي للفتاة الحرية الكاملة في اختيار الزوج،جاء في الأمام (أحمد والنسائي) عن (عبد الله بن بريده) عن أبيه “جاءت فتاة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت إن أبي زوجني ابن أبيه… ليرفع بی خسيسته قال فجعل الأمر لها فقالت قد أجزت ما صنع أبي ولكن أردت أن أعلم النساء أن ليس إلى الآباء من الأمر شيء“
واشترت (عائشة) جارية وأعتقتها، فلما ملكت أمرها لفظت زوجًا كانت تزوجت به مكرهة وكان يمشي خلفها باكيًا فقال النبي صلى الله عليه وسلم “اتقى الله فإنه زوجك وأبو ولدك» قالت: أتأمرني؟ قال “لا إنما أنا شافع“، قالت: ” فلا حاجة لى إليه” (المبسوط). وأرى أن حرية اختيار الزوج صريحة جد الصراحة هنا، وأن ليس للآباء حق في الضغط على حرية بناتهم يزوجوهن من أقرباء لهم مهددين بحرمانهن من الميراث أو غير ذلك. وفي هذا وحشية يسوغ للفتاة أن ترفض احتمالها رفضًا، فإن زوجها هو شريكها في حياتها الطويلة فلا قبل لها أن تطلق سعادتها إرضاء لشهرة الوالد سيما أن تقدير الرجل للزوج غير تقدير الفتاة، وهي في هذا صاحبة الشأن. وقد أجاز النبي للنساء اللهو “البرئ” في كثير من المواضع: جاء في (أبي داود) عن (عمر بن شعيب) عن أبيه عن جده قال “قالت امرأة لرسول الله إلى نذرت أن أضرب على رأسك بالدف. قال إن كنت فأوفي بنذرك” وأوضح من هذا ما جاء في (تيسير الوصول) “أذن الرسول صلى الله عليه وسلم لفتيان الحبشة فلعبوا بحرابهم بين يديه في المسجد. ودعا عائشة، رضي الله عنها، فوطأ لها عاتقه وحاط وجهها بيده” ولا أرى بعد هذا لماذا لا تستصحب الرجل امرأته في حشمة لشهود حفلة أو نحوها إسوة برسول الله؟ ومن خير ما يؤثر أن يهودية أسرها المسلمون في حرب وساروا بها في الميدان وهي تبكي. فادرك رسول الله أنها شهدت جرحى قومها فنهر النبي المسلمين بقوله “أنزعت الرحمة من قلوبكم حتى تمرا بالمرأة على قتلاها؟” إذن, فرحمة المرأة واجبة حتى في أشد المواقف فزعًا وأقساها هولاً، وهذا ما ينساه كثير من المسلمين حتى في الظروف المعتادة قال تعالى في (سورة آل عمران) فيمن يدعونه “فاستجاب لهم ربهم اني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيلي وقاتلوا وقتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا من عند الله والله عنده حسن الثواب“.
مجد الدين حفني ناصف
آية العفاف
لإسماعيل باشا صبري
كم في الورى من خائل ومرائي …… يخفي الرياء بحيلة السحراء
يبدي الصداقة والخيانة طبعه ……ويعيش بالوجه البشوش الرائي
في قرية بصعيد مصر عفيفة …… تسمو بفقهها على الجوزاء
خرجت لتملأ جرة من جدول …… ينساب في البطحاء كالرقطاء
والصبح منبلج وفي أردنه …… وذيوله أثر من الظلماء
والماء سال شبيه سائل فضة …… يجري على درر من الحصباء
والأرض من وشي الربيع تجملت …… من سندس من نبتها برداء
والزهر يبسم في الرياض وفي الربى…… والشمس مشرقة على الأرجاء
آيات رب الناس يظهرها لنا…… مكتوبة في سائر الأشياء
عادت لجرتها تسير لدارها …… كالشمس فوق القبة الزرقاء
حسناء جملها العفاف بثوبه …… إن التعفف زينة الحسناء
رضيت بعيشتها فهنت زوجها……فتقلبت في راحة وهناء
لمحت بمدرجة الطريق متاعبًا …… لخطيها سفه من السفهاء
ود الكلام فما أجابت سؤله …… وتعززت بفضيلة شماء
مازال يتبعها لغاية دارها ……. ومضى وجمر الحب في الأحشاء
من بعد أيام رأته وزوجها……. في ألفة ومحبة وولاء
وغدًا تدرب خاضعًا من بعلها……. متظاهرًا بصداقة وإخاء
حتى إذا وثق القرين بوده……. جهلاً وبئس صداقة الجهلاء
كثرت زيارته فكل صبيحة…….. يأتي لدار صديقه ومساء
وافى وكان صديقه متغيبًا……. عن داره في ليلة ليلاء
وافى اللئيم لسلب عرض صديقه…… ولسلب عرض المرء شر بلاء
وضياع نفس الحر أهون عنده…… من سلب هذي الذرة البيضاء
وافى وقال الوغد هيت لك أذعنى…… إني أتيت لريبة وخلاء
فتمايلت عن ردعه برجائه…… لرجوعه عن ذاك خير جزاء
فاستل مديته وقال بجفوة…… وخشونة ووقاحة وجفاء
إن لم تجيبي ما أردت فإنني…… أقضي عليه بطعنه نجلاء
فلما رأت أن ليس يجدي رجه…… باللين أو نصيحة النصحاء
عملت إلى حسن الدهاء وجردت…… من حزمها سيفًا شديد مضاء
ورجته تمضي كي تنوم طفلها……في غرفة أخرى بحسن دهاء
فأجابها لك ما أردت فأحدقت…… بالطفل وهو مجلل بسناء
ونجت به وبعرضها وتنفست…… بعد النجاة تنفس الصعداء
حملت له نار القضاء وأقبلت…… وعيونها كالجمرة الحمراء
جاءت وفي يدها مسدس زوجها…… وحشته سهم منية وقضاء
قالت له: أو ما تعود عن الذي…… تبغيه من بغي ومن إعداد
يا ناكسًا عهد الصديق ونهاجًا…… نهج الوحوش وأخبث الخبثاء
خير لمثلي أن تموت شهيدة…… من أن أخون طهارتي ووفائي
أأخون زوجي إن ذلك عارة…… تبقى مدى الآجال والآناء
فأجابها كلا فقالت مرحبًا…… خذها إذن من كف ذات حياء
تودي بروحك في الجحيم وإنها…… نار الجحيم منازل اللؤماء
غمزت بإصبعها المسدس فانبرى…… منه الرصاص فمزق الأحشاء
فغدا اللئيم مدرجًا بدمائه…… فوق الثرى كالصخرة الصماء
شر البرية من يخون صديقه …… والموت للخوان خير جزاء
نشيد المرأة الجديدة
مجد الدين ناصف
مصر منار الأولين…… ومنهل المجد المعين
نحن لها دنيا ودين…… نشقى لها كي تنعم
ونفتديها بالدما
دعامة المستقبل…… زينة مصر والحلي
طبيبها في العلل…… لها المكان والزمان
فنحن ربات الوطن
في ظل دين ووقار…… نخرج للدأب النهار
نكلاء بالليل الصغار…… فنحن رمز العمل
ونحن ذخر المنزل
الله يا رب السداد…… جدد لنا مجد البلاد
واكفل سعادة العباد……وارع البلاد سرمدًا
وارع لها منا هدى
خاتمة
مطالب النساء
في حفل ذكري باحثة البادية
لكاتب صاحب الإمضاء
لحن في العاصمة المصرية قد نجد أنه من تحصيل الحاصل بيان فضل النساء في الحياة الإنسانية، وإننا لم نعد نحتاج إلى الاستشهاد بحكمة نابليون (المرأة التي تهز مهد طفلها بيمينها تهز العالم بشمالها) فقد شاءت هذه الحكمة ونزلت إلى أن تكون بضاعة معلمي المدارس الابتدائية في تعليم الصبية الإنشاء. ولكننا إذا شئنا أن نعبر عن تقدير الرجال لمكان النساء في الحياة الاجتماعية المصرية في جميع بلاد مصر وقراها على السواء، وجدنا أن علينا واجبًا كبيرًا نحو نساء مصر في بيان فضلهن حتى نستطيع أن نظفر لهن بحقوق مهضومة، واحترام منكور، وفضل مغموط. والمكانة الجديدة التي استفادتها المرأة المصرية والتي يشعر بها الرجل إن هي إلا مكانة محصورة في عدد من الأسرات المصرية قد لا يصعب تعدادها، أما في الأسرات، ولاسيما في غير المدن، فإنه لم تزل المرأة منظورًا إليها بمهانة وهون ولاسيما في المعيشة الزوجية. فمازلنا نسمع كثيرًا أن المرأة لا عقل لها ولا دين، وأن التعليم مفسد لأخلاقها، ومازال الأكثرون يفخرون بطرد زوجاتهم، وسلب متاعهن، والقسوة في معاملتهن في صنوف شتى. ونحن لا ننسى على الدوام أن مرجع هذا الفساد نشر الجهل بين هؤلاء الأكثرين، وأن خير علاج وأساس أي شفاء من هذه البلوى المعرة هو نشر التعليم. ولكن هل نقف مكتوفين حتى تنمحي الأمية وينير العلم أرجاء مصر صعيدها ومهادها؟ وهل يكفل العلم وحده براءة من هذه المشائن؟
إن جهاد حضرات السيدات المصريات لهو جهاد واجب. ولكن يعوز هذا الجهاد عدد أكثر للاشتغال بهذه النهضة، لا في مدينة القاهرة وحدها وإنما في كثير من مدن القطر لاسيما في العواصم، حتى يشعر أهل الريف، ولاسيما نساؤه، بأن لنساء مصر كيانًا محترمًا فيعرف أولئك الرجال القساة الجهلاء الضرر الأدبي على الأقل الذي يصيبهم من إساءة المعاملة مع النساء. ولتعلم نساء مصر أنه على أكتافهن وحدهن تقوم النهضة النسائية، وأنه من الضعف لحركتهن أن يقوم بها الرجال وحدهم. لقد نهض ذلك العلم الخالد الذكر “قاسم أمين” بفتح باب النهضة. ولكن دعوته الجريئة بقيت فردية حتى استيقظت بعض السيدات الفضليات إلى صوت هذه الدعوة العادل وفؤادها الرحيم.
لا شك أن نصرة مطالب السيدات ليس نصرًا لخصم، ضد خصم وإنما هو تأييد لوحي العدل وإلهام الطبيعة وتلبية للمصلحة البشرية. فبقدر ما تزيد النساء علمًا وحقوقًا وحرية يستفيد الرجال من هذه الزيادة التي هي سعادة مضافة إلى ما يتوهمون من سعادة، بل إن سعادة الرجال لا تتم إلا بهذه الإضافة. لقد اهتموا بالرفق بالحيوان الأعجم لأنهم وجدوا في الرفق به احترامًا للإنسانية، وصيانة لمقتضى الشعور الآدمى. فهلا يكون اهتمام الرجال بمطالب السيدات خدمة كلية للإنسانية وللرجال أيضًا.
* * *
في خطاب السيدة هدى شعراوي في حفل تأبين باحثة البادية ثلاثة مطالب:
مطالب نسوية: مساواة الرجل بالمرأة في فروع التعليم. إصلاح القوانين العملية للعلاقة الزوجية وجعلها منطبقة تمام الانطباق على روح التشريع الديني من إقامة العدل ونشر السلام بين الأسر وإحكام روابط المصاهرة. مساواة المرأة بالرجل في الحقوق النيابية والحقوق التشريعية.
أما المطلب الأول الخاص بالتعليم فهو مطلب سائر في مجرى التحقيق. أما المطلب الثاني الخاص بالعلاقة الزوجية فقد شرح كما يأتي: “(۱) يسن قانون لمنع تعدد الزوجات إلا لضرورة كعقم الزوجة أو مرض عضال يمنعها من أداء وظيفتها الزوجية وفي هذه الحالة يجب أن يثبت ذلك الطبيب المختص“.
ونحن نقول إن إصدار قانون كهذا ليس فيه ما ينافي الشرع الشريف، لأنه مبنى على قوله تعالى: “فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة” كذلك قوله “وعاشروهن بالمعروف” وقد شرط الفقهاء للعدل شروطًا كثيرة يندر أن تجتمع في إنسان، خصوصًا إذا فكرنا في أن الشخص الذي يتزوج بزوجة ثانية يتوهم أن زوجته الثانية خير من الأولى فيخصها عادة بالرعاية والعناية، فينتفى كل عدل “راجع ابن عابدين والمختارات وغيرهما“.
“(۲) يسن قانون يحرم على الرجل أن يطلق زوجته إلا أمام القاضي الشرعي. وعلى القاضي معالجة التوفيق بين الزوجين بحضور حكم من أهلها وحكم من أهله قبل الحكم بالطلاق طبقًا لنص الدين الحنيف. أعتقد أننا في هذا المطلب لم نتجاوز الحكم الديني ولا الحكم العقلي، إذ ليس منا من يجهل أن الطلاق مثار الأحقاد والضغائن بين المتصاهرين، ولذلك قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم، (أبغض الحلال إلى الله الطلاق). وليس منا من يجهل مضار تعدد الزوجات وماله من أثر سيئ يوهن جلال الأبوة في نفوس الأبناء، ويختلس حنان البنوة من الآباء، وينقص رابطة الأخوة فتؤول إلى مشاحنة وبغضاء. ويدفع الرجال إلى الإسراف والتبذير وينمى الأثرة فينقادون إلى شهواتهم غير حاسبين حسابًا لما سيعقب ذلك من حسرات ونكبات. هذا إلى القضاء على سرور المرأة في حياتها والحكم عليها بالشقاء الأبدي، وذلك مالا يرضاه رجل شريف تتغلغل في نفسه العاطفة الإنسانية، ولا ترضاه امرأة رفيعة كانت أو وضيعة. إذا كانت هذه آثار تعدد الزوجات محسوسة ملموسة فلم لا نحاربه بكل قوانا، ولم لا ينضم إلى صفوفنا عقلاء الأمة لتلاقي شروره ومفاسده“.
وقد أصبحت مسألة الطلاق في فرنسا وغيرها من النظام العام، بمعنى أن المحاكم الفرنسية لا تطبق القانون الشخصي للأجنبي إذا كان ذلك القانون يجيز الطلاق في غير الأحوال المنصوص عليها في المواد ۲۲۹ و ۲۳۰ و ۲۳۱ و ۲۳۲ من القانون الصادر في ۲۷ يوليو سنة 1884 (وهذا من مبادئ القانون الدولي الخاص). كذلك لا يعترف بزوجتين لشخص أجنبي، لأن تعدد الزوجات محرم باعتبار أنه من النظام العام، وفي قضية سكاكيني شيء من هذا. وقد تزوجت فرنسية من رجل تركي ورفعت دعوى تطالب بطلاقها منه أمام محكمة السين بفرنسا. ودفع الزوج التركي بعدم الاختصاص، فرفضت المحكمة هذا الدفع، وكان من بين الأسباب التي بنت عليها المحكمة الرفض قولها: “وفوق ذلك فإنه من الواجب على المحكمة رفض هذا الدفع لأن النظام العام يأبى أن يتمتع أي الزوجين (وهو الزوج في حالتنا هذه) بامتياز خاص يسمح له أن يبت العلاقة الزوجية وحده“
كذلك يطرد الأجنبي من الولايات المتحدة إذا كان يسمح لنفسه بالاقتران بأكثر من واحدة. وعلى كل حال فإن عادة تعدد الزوجات معدودة في أوروبا أنها عادة وحشية وفوضى. ويسخرون من وجودها أي سخرية. وفي رواياتهم كثير من مظاهر السخرية والتشنيع.
على أنه في الإمكان أيضًا أن يوجد في القانون الدولي الجديد، الذي قد يوضع التنظيم مسألة الزواج والطلاق، إذا صادفت مصر رجلاً مصلحًا مشفقًا برًا بوطنه غيورًا على سمعته، أسلوب الانفصال بين الزوجين، وهو الحكم بإبعاد الزوجة عن الزوج مدة، على أن تزول النفرة وأسبابها وذلك تحاشيًا من القضاء بالطلاق. ففي المادة 306 من القانون المدنى الفرنسي أنه: ” إذا وجد محل لطلب الطلاق فللزوجين الحق في طلب الانفصال“.
وجاء في المادة 310 منه: ” إذا استمر الانفصال الجسمي بين الزوجين لمدة ثلاث سنوات فإن الحكم القاضي به يتحول بمقتضى القانون إلى حكم بالطلاق بناء على طلب أحد الزوجين“. وفي تعليق فوستان هيلي على الفصل الخاص بالانفصال الجسمي بين الزوجين يقول بأن مدة الثلاث السنوات لا تبدأ إلا إذا أصبح الحكم به نهائيًا، وإن طلب التحويل إلى طلاق يخول للمحكوم عليه مثل المحكوم له، وإن المحكمة لا تقضى بالتحويل إلا بعد مضى الثلاث سنوات.
وجاء في المادة 311: “يجوز أن يذكر في حكم الانفصال الجسمي، أو في حكم قال له، منع الزوجة من اتخاذ اسم الزوج أو السماح لها بأن تحمله. وفي حالة ما إذا أضاف الزوج إلى اسمه اسم زوجته فللزوجة أن تطلب منعه من التسمي به“.
ويؤدي الانفصال الجسمى دائمًا إلى الفصل بين أموال الزوجين. ويترتب عليه أيضًا أن يكون للزوجة حرية استعمال الأهلية المدنية (للتعاقد والتصرف) دون حاجة إلى الالتجاء لالتماس رضا الزوج (أو المحكمة. .. ).
إن الغرض من سن قانون التنظيم الزواج والطلاق على شبيه هذه القواعد الفرنسية لا يرمي إلى سلب حرية الزوج، أو مخالفة الشريعة الإسلامية السمحاء، وإنما الغرض تنظیم استعمال الحرية وكفالة السعادة التي رمي إليها الشرع الشريف من الحياة الزوجية.
وعلينا أن نتصور ماذا تكون الحالة لو أبيح الطلاق بلا قيد في أوروبا المتحضرة وأمريكا اللامعة. لقد تعددت فيها قضايا الطلاق بالرغم من تحريمه المطلق تقريبًا.
وفوق المساوئ التي عددتها خطيبة الحفلة فإن لإباحة تعدد الزوجات إطلاقًا، ولإباحة الطلاق لإرادة الزوج وحده بمجرد اللفظ به سيئة أخرى نجدها في عدم الثقة الموجودة عند كل زوجة مسلمة مبدئيًا بخصوص سلوك الزوج، مما يترتب عليه نزاع، بل نزاعات طويلة متتابعة في المأكل والمشرب والسفر والحضر والإيراد والمنصرف والغياب والسهر. وكيف يستطيع رجل أن يجد زوجة مخلصة مطمئنة وهي تعلم أنه في حمقة المناقشة ولبادرة لفظ مفلت قد يقضى على حاضرها ومستقبلها شر قضاء. وقد سرت في مصر عادة عند النساء، يفزع لها الرجال. ذلك أن النساء – دفعًا لاحتمال الزواج بزوجة أخرى – يندفعن في مطالب تبهظ حمل الزوج وتثقله بالدين حتى لا يجد في إيراده فرجة تسمح له بالتفكير في الإتيان بزوجة جديدة. وفي هذا مضرة اقتصادية لا تخفى لأن هذه العادة تجعل الأسر تعيش مستدينة مدينة. فوق ما تتأدى إليه من النزاع والكراهية. فالضرر مادي ومعنوي. للأسرة وللأمة.
وضرر آخر يشكو الكثيرون منه وهو ميل الشاب المتعلم إلى الزواج بالأوروبيات مع أن من أسبابه الأولى هذا الخوف المنبث مبدئيًا في قلب الفتاة المسلمة.
* * *
إن الحياة الزوجية هي الصورة الصغرى للحياة المصرية، بل هي الحياة المصرية بما فيها من المساوئ والأحقاد والبغض والإسراف والخيانة وخفاء روح التعاون والتضحية والوفاء. فعلى الذين وضعت في أعناقهم أثقال سعادة هذه البلاد الجميلة السخية سواء أكانوا حكامًا أم نوابًا أم كتابًا واجب وطني، واجب إنساني وفرض اجتماعی عمرانی: هو العمل لسن ذلك القانون الذي تضمنه المطلب الثاني من مطالب حضرات السيدات المصونات الجليلات.
عبد الله حسين
حقوق المرأة لصاحبة الإمضاء
ليس في الدنيا من أنواع هذا الحيوان إلا وقد تقلبت عليه أطوار وأحوال كثيرة أنساه بعضها بعضًا حتى لقد خرجت به بعض الأحوال عن خطة التقدير الطبيعي فصار النافر أنيسًا والأنيس نافرًا والضخم صغيرًا والصغير ضخمًا. ولم يكن كل ذلك يجرى على ناموس الارتقاء والاضمحلال ولا التغيير والتبديل الطبيعي، بل كان كل ذلك يجرى على الغالب بقوة أجل أنواع هذا الحيوان وأسمه إدراكًا وأكثره تصرفًا، ألا وهو الحيوان الناطق، وبالتالي الإنسان العظيم، فإنه قد شارك الطبيعة في أكثر أحوالها وتبديلاتها وكاد ينهاها عن أكثر نواميسها وأمورها، ولذلك فلا نعجب إذا قيل لنا إن هذا الهر قد كان نمرًا فصغر الإنسان حجمه بالترويض، أو كان ضاريًا كاسرًا فالآن حدته بالقوة والإذلال، ولا أن ذلك الجواد الجرئ والفيل الكبير قد كانا من أنفر الحيوانات وأشدها بطشًا فدللهما الإنسان حتى صار يقودهما الغلام الصغير.
ثم إن هذا الحيوان الناطق لم يقتصر تصرفه بالحيوان الأعجم، إذ هو أتم منه تركيبًا وأوفر حيلة فقط، بل هو قد تصرف نفسه بنفسه أو بعضه ببعضه فنشأ ما نراه من اختلاف الناس في مواطنهم ومعايشهم وأديانهم ومذاهبهم, ولولا ذلك لكان الناس أمة واحدة في كل حالة تقريبًا، إذ هم من نوع واحد وخلق واحد منذ البدء.
على أن الإنسان لو تفكر في هذا التصرف الذي جرى لما وجد له من سبب غير قدرة التركيب والعقل على نقص التركيب والجهل بين نوعى الحيوان الناطق والأعجم، وقدرة العقل والبدن على ضعفيهما بين نوع الحيوان الناطق وحده، ولذلك كان الاختلاف بين طبقات البشر كلهم بالعموم، وبين الرجل والمرأة منهم بالخصوص، ولهذا نجد أنه مهما تبدلت حالات البشر، وحال الضعف في بعضهم إلى قوة، والقوة في بعضهم إلى ضعف،فإن حالة المرأة، وبالتالي الأنثى، بجملتها، لم تتبدل على وجه الإجمال، بل لبثت ضعيفة منذ نشأت إلى الآن وكان الرجل متسلطًا عليها في كل زمان ومكان.
ولكن هذه المرأة قد تعاقبت عليها حالات أدبية كثيرة لم تتعاقب على مخلوق قط حتى ليعجب المرء كيف بقيت على حالتها الطبيعية، ولم تتغير تغير بعض الحيوان الأعجم الذي تسلط عليه الإنسان وذلك لفرط ما تصرف بها الرجل وبدل في حالاتها وأخلاقها بين حرية وعبودية وعز وهوان.
ولقد أذل الرجل المرأة إذلالاً عجيبًا في القرون الخوالي، حتى لنظن أنه كان يحسبها من غير نوعه وجنسه، أو أنه لا حاجة له بها على الإطلاق، وذلك لكثرة ما حملها من ذل الاستعباد وهوان الاسترقاق، ولم يكن هذا الشأن جاريًا عند شعب دون شعب أو متبعًا فيه حكم إقليم دون إقليم، بل كان جاريًا في الدنيا كلها على الغالب، وإن اختلفت طرق المذلة وأسباب الاستعباد والتقييد. ولا تزال الحالة تجرى كذلك عندنا إلى الآن إذ يضرب كثيرون نساؤهم لذنوب لا يضربون من أجلها حيواناتهم إشفاقًا عليها، ويحمل كثيرون نساءهم من مشاق الحياة وأتعابها ما لا يحملونه بهائمهم.
ولا حاجة لأن تأتي على ذلك ببراهين ما كان يجري في العصور السالفة؛ عصور الظلمة والفوضى، فإن البرهان قد لا يكون صادقًا بالقياس إلى حالة مجموع الناس في تلك الدهور، ولكن تذكر قليلاً مما كان يجري في العصور الوسطى أو بالقريبة منا. فقد ذكروا أنهم كانوا يذلون المرأة إذلالاً غريبًا ويمنعون عنها حتى الحقوق الطبيعية وقد توصلوا بذلك إلى أن كانوا يمنعونها عن الزواج الثاني ويعاقبونها على الزواج الثالث كأنها أتت جريمة، بل كانوا يعاقبونها على الزواج الثاني بأن يحرمونها من حقوق الإرث المقدسة. وزادوا في إذلالها من الجهة الأدبية حتى كانوا يمنعون فئات من النساء من لبس الحلي ويخصون بعضهن بها، وكانت لذلك قوانين دولية لمخالفتها عقاب كعقاب السرقة والخيانة. ثم توصل سوء ظنهم بالمرأة إلى أن ادعوا أنها قادرة على السحر والتنجيم بسبب لطف حسها، وفشا هذا الاعتقاد بينهم لاحتراف بعض النساء هذه الحرفة للارتزاق، فصاروا يحكمون على كل منجمة بالقتل وذلك بقوانين مسنونة حتى قيل إنهم قتلوا في انكلترا وحدها في مدة 150 سنة فقط 30 ألف امرأة بهذه الدعوى الكاذبة. وليس بعد ذلك من ظلم حسى أصيبت به المرأة فوق المظالم الأخرى الأدبية التي انصبت عليها، ولا تزال لاحقة بها إلى وقتنا هذا وقت المدنية والمساواة.
ولكنه يخال لأول وهلة للمطلع على حال النساء وتاريخهن القديم والجديد أنها ليست جزءًا من نوع الإنسان، أو أنها أحط منه منزلة في خاصية العقل وتركيب الجسم، إلا أنه لو تأمل في تلك المظالم التي أصيب بها النساء من قبل، والتي لا يزلن يدعينها إلى الآن, لوجدها ظلمًا صحيحًا أصبن فيه من وجه ولكنه مشفوع بعدل من جهة أخرى، بحيث إن الرجل لو طاوع المرأة في هذا العصر على جميع مطالبها التي تلتمسها وتدعى أن منعها عنها ظلم صريح لكان نصيبها من الرفاه في هذه الدنيا أكثر من نصيبه، لأنها تصبح أكبر منه حقوقًا وأوسع مجالاً، في ميدان الحياة، مع أنه هو القوى الذي له حق الاستبداد والأثرة فضلاً عن المساواة والنصفة.
ولقد يقول البعض بل إن المرأة مظلومة على كل حال مهما بلغت بها المدنية وأرخى الرجل لها طول الحرية، ولو لم يكن ظلمه لها إلا اقتياده إياها إلى حيث يريد، واضطرارها لأن تطيعه على الصواب والخطأ، لكفى به ظلمًا أدبيًا يفوق كل ظلم مادي. ونعم إن هذا الانقياد إنما هو ظلم حقيقي للناظر إليه بعين الرجل الذي لم يتعود إلا الاستقلال والأنفة من الضيم الأدبي بسبب قوته الطبيعية التي نشأ عليها منذ البدء فلم تفارقه، بل ظل فيها الحاكم الأول على جميع المخلوقات. ولكن إذا نظر الرجل إلى المرأة بعين المرأة نفسها أو تمثل شعورها في عواطفه، وعلم أن هذا الانقياد خلق معها كما خلقت القوة معه، هان عليه أن يحملها هذه المذلة التي تدعيها وعرف أن تفاوت النتيجة لا يكون إلا بالتأثير، وإذا كان فيهن من تشعر بذلك حقيقة فإنما يكون ذلك من أصل التربية ونشوء النفس، على أنه تكون نفس المرأة مساوية لنفس الرجل في أمثال هذه التأثيرات، لأن السليقة لا تغلب، والضعيف يحتمل المذلة حتى تصير فيه من جملة الطباع.
ثم إنك لو نظرت إلى المرأة بإجمالها لوجدت أن الطبيعة قد أوجدت في نفس الرجل إنصافها وتعويضها مطالب بمطالب أخرى هو محروم منها. فإن الطبيعة قد سخرت الرجل لأشق أعمال الحياة، ثم عزته على ذلك بالتعويض الأدبي الذي يجده من طاعة المرأة وما يشعر به في نفسه من عظم السلطة عليها، ثم سخر الرجل المرأة أن تطيعه وأن يكون الحاكم المتصرف بأمرها يقودها إلى حيث يريد, وعزاها بأنه أعفاها من أكثر موجبات الحقوق والمطالب وتحملها دونها فكان خطبه من الطبيعة ماديًا محضًا وخطبها من الرجل أدبيًا أغناها عن تحمل أكثر الخطوب الحسية، إلا بعض الخطوب الطبيعية التي يشترك بها كلاهما أو تمتاز المرأة بتحملها دونه كالحزن والوجد والإشفاق والحنو وكثرة الاهتمام والمبالاة وغير ذلك من عواطف النفس التي ابتليت بها المرأة بأكثر مما ابتلى به الرجل، وإن كان نقيض تلك الوجدانات فيها مما تشفع لها حلاوته وحسن وقعه بما مر وخشن منها، أي أنها تبتهج وتطمئن حين ذلك النقيض أكثر منه.
أما عزاء المرأة في ضعفها عن مجاراة الرجل في قوة البدن واضطرارها للانقياد إليه بحكم القوة والعقل فكثير لا يتسع ذكره كله، ولو استطاع الرجل أن يذكر للمرأة كل امتيازاتها التي تشهر بها ولكنها تجهل فضلها لأراها أنه قد أعطاها أكثر مما أخذ منها وأنه دافع أكثر نوازل الطبيعة عنها وتحملها دونها.
ولتنظر المرأة إلى حالة معيشتها، ولا سيما في هذا العالم المتمدن الذي تطلب الإنصاف منه، تجد أنها ترتكب من الذنوب ما لو ارتكبه الرجل لبرح به القصاص، ولكنها مع ذلك قد يعفى عنها إشفاقًا على ضعفها أو يقل عقابها إذ يتكلف لها العذر بجهلها القوانين والحقوق، بحجة أنها من شروط الرجل وليس من شروطها، فتنجو بذلك مما لا يستطيع أن ينجو منه الرجل، بل قد تكون هي والرجل شريكين في ذنب واحد وتأثيرها فيه تأثيره فيتحمل هو من العقاب أكثر منها، أو قد تعفي هي منه بسبب ذلك الإشفاق الذي أودعته الطبيعة من أجلها قلوب الرجال.
ثم لتنظر المرأة فيما وهبته لها الطبيعة وبالتالي ما خصتها به شريعة الرجال وعواطفهم من نحوها تجد أن القتل والضرب قلما يصيبها من الناس، إلا نادرًا، فإنه لا يقع في مكان خطب أو مكروه إلا وتكون هي أول من ينظر خلاصها، فإذا احترق منزل مثلاً كان أول ما يصرف من العناية موجها إليها، وإذا غرقت سفينة كانت هي أول من يهتم بخلاصه، وإذا تشاركت المكاره بينها وبين الرجل في مثل الفقر والمرض ونحوهما كانت هي المقدمة عليه في العناية والإشفاق من الرجال أنفسهم، ثم تجد ذلك الرجل الذي كان مثلها في فقره ومرضه مسرورًا ومغتبطًا بتقدمها دونه غير حاسد لها على شيء اختصت به من قبله، بل إن حسد الرجل للمرأة في كل حالة يكاد يكون معدومًا من نفسه مهما علت هي وانخفض هو, ولذلك ترى المرأة في الدنيا طليقة لا يزاحمها أحد إلا زميلتها المرأة وتلك مزاحمة وهمية لا تؤثر ولا تؤذي.
ولتنظر المرأة إلى حالتها العمومية الجارية كل يوم تجد أنها مهما اشتد خصامها مع الرجل فإنه يندر جدًا أن يمد لها يدًا أو يوجهها بكلام يؤثر بعواطفها النسائية، بل هي تستطيل عليه بما تشاء وهو لا يقابلها إلا بالحلم والرفق كما يعامل الرجل الصبي، ثم إن المعارك تثور والمذابح تجرى على ساق وقدم والمدائن تفتح والقتل يدور وكل ذلك يكون واقعًا من الرجال على الرجال، حتى من الرجال على الأطفال، أما المرأة فتظل سليمة لا تمد لها يد بسوء وإن كثيرين من البشر، حتى المعدودين بنصف متمدنين، يعدون من أشد العار قتل النساء ثم يكون ما يصيب النساء من تلك المكاره شدة جزعهن وحزنهن على من قتل من أزواجهن وبنيهن. ولو استطاع الرجل أن يرد عنهن مصيبة هذه الشعائر لردها ونهاها من فرط إشفاقه عليهن وتخصيصهن بالرحمة والمعروف.
هذا من الوجه المادي الذي جرى من قبل ومن بعد. وأما الوجه الأدبي وهو أهم ما يتطلبنه في هذا العهد فقد وصلن إليه بعمومهن إلى درجة أسمي جدًا من التي وصل إليها الرجل بعمومه. فنحن نجد على الغالب أن الرجل لا يحترم إلا إذا كانت له ميزة من مال أو علم ومن كان خلوًا من هذين انتفت كرامته فلم يعتبره أحد، على خلاف المرأة، فإنه لا يطلب منها المال والعلم لتحترم من أجلهما، وإنما هي تحترم لأنثويتها فقط ويلتمس لها عذر إذا خلت من مال أو علم، وأما الرجل فلا يناله شيء من العذر لأن الطبيعة تطلب منه كل شيء ولا تعفيه من شيء.
ثم إن هذا الاحترام لا يصيب بعض النساء دون سائرهن، بل هو لهن بالعموم وإنما يختلف باختلاف المراتب التي لا سبيل لنكرانها أو المساواة بها. أي أنه لو ظهر رجل وامرأة في حال واحدة ومرتبة واحدة لكان احترام المرأة أكثر منه، إن كان ثم ما يدعو إلى الاحترام، أو لم تحتقر مثله إن كان ما يدعو إلى الاحتقار.
وهذا الشأن محسوس نراه كل يوم. وإذا قالت المرأة إنها إنما تكون محترمة من الرجال من قبيل ظهورها لديهم بمظهر الضعف أو كونها من غير جنسهم القوى وإن النساء لا يحترمنها كذلك، قلنا إن نتيجة الاحترام الحقيقي هو التعزية، والتعزية التي تطلبها المرأة إنما تكون من الرجل لأنه عنوان الدنيا وقويها ولا تكون التعزية من الضعيف.
وعلى الجملة، فإن المرأة لو نظرت إلى نفسها بعين العدل والإنصاف لوجدت أنها منتصفة، وأن الطبيعة أو الرجل إذا كان قد منع عنها بعض الحقوق جريًا على سياسة الدنيا الواجبة فقد أعطاها مثل ما أخذ منها. وإذا كان الله تعالى قد خلقها ضعيفة البدن وحملها من شروط الطبيعة ما يقتضى السكون وعدم التعرض لجسيمات الأعمال التي ينال منها الفخر ويتم بها العلاء والمجد فما ذنب الرجل؟
الكسندره
(1) نشرت في الجريدة والمحروسة.