جرائم بلا مجرمين
ورقة قانونية حول أثر المادة 60 من قانون العقوبات على الإفلات من العقاب في جرائم العنف الأسري ضد النساء
المقدمة والمنهجية
يضع القانون الجنائي القواعد القانونية المنظمة لكل ما هو مجرم، وكيف يتم ضبط والتعامل مع هذه الجرائم، ويعتبر ما غفل هذا القانون عن ذكره خارج دائرة التجريم الجنائي. نظرًا لأهمية دور هذا القانون تحديدًا في ضبط سلوك المواطنين والمواطنات تجاه بعضهم البعض، وتجاه المصلحة العامة. وخطورته على حرياتهم العامة، فقد عمد فقهاء القانون للتأكيد على أهمية دقة وضبط صياغة كل مادة من مواد هذا القانون. بشكل لا يقبل التأويل أو جهات النظر.
في أحيان كثيرة، وبعد أن كشف التطبيق العملي عورات هذه المادة أو تلك من قانون العقوبات. كان المشرع المصري يتدخل للتعامل معها، بالتعديل أو بالحذف، أو بإضافة مواد جديدة مكملة. لكن ومع ذلك ظلت المادة 60 من قانون العقوبات عصية على أي تدخل تشريعي خلال عشرات السنوات، فيما يتعلق بتطبيق هذه المادة على جرائم ضرب الزوجات والبنات تحت مسمى ممارسة (حق التأديب).
المادة 60 من قانون العقوبات وغيرها من المواد التي تهدر حقوق النساء وتمارس تمييزًا ضدهن بعجزها عن حمايتهن من كل صور العنف – وهو واجب على الدولة بسلطاتها الرسمية الثلاثة وفقًا لنص المادة 11 من الدستور المصري – هي تعبير صريح عن موازين القوى المختلة داخل المجتمع بين الرجال والنساء، وعن أن القهر والتهميش التاريخيين الذين لازمًا النساء. قد انعكسا أيضًا على القواعد القانونية.
تحاول هذه الورقة تقديم قراءة للمادة 60 من قانون العقوبات من منظور نسوي يركز على تطبيق هذا المادة عمليًا أمام المحاكم المصرية في جرائم الاعتداء على النساء داخل الأسرة. وكيف تساهم هذه المادة في إفلات المجرمين من العقاب حجة ممارستهم لـ (حق التأديب) المقرر ( شرعًا)، كمقدمة لمطالبة المشرع بالتدخل لتعديل هذه المادة بما يحرم المجرمين من اعتبار جرائمهم الثابتة بموجب باقي نصوص قانون العقوبات “أفعالاً مباحة“.
المنهجية المستخدمة
تعتمد هذه الورقة على منهج تحليل المضمون كأحد أكثر المنهجيات الكيفية مناسبة لدراسة القواعد القانونية حيث تضم الورقة تحليل لمضمون المادة 60 من القانون رقم 58 لسنة 1937 (قانون العقوبات) وكيف طبقت المحاكم المصرية عمليًا مضمون هذا المادة فيما يتعلق بجرائم الاعتداء على النساء داخل الأسرة بالاعتماد على دراسة عدد من الأحكام القضائية الصادرة في فترات زمنية مختلفة في جرائم اعتداء على نساء دخل الأسرة.
المادة 60 هي المادة الأولى الواردة في الباب التاسع من الكتاب الأول لقانون العقوبات، والمعنون بـ “أسباب الإباحة وموانع العقاب” ويضم هذا الباب 4 مواد فقط. تتعلق المادة الأولى منه بأسباب الإباحة. المادة بصياغها الحالية، منقولة نسخًا من المادة رقم 55 من قانون العقوبات الذي كان معمولاً به أمام المحاكم الأهلية في مصر والذي حمل رقم 3 لسنة 1904. أي أننا نتعامل مع مادة تمت صياغتها منذ ما يقارب 120 عامًا، لم تدخل عليها أي تعديلات حتى اليوم.
تنص المادة 60 من قانون العقوبات على: “لا تسري أحكام قانون العقوبات على كل فعل ارتكب بنية سليمة عملاً بحق مقرر بمقتضى الشريعة“.
يمكن تعريف أسباب الإباحة بأنها “تلك الأسباب التي يكون من شأنها رفع الصفة الجنائية عن الفعل في الظروف التي وقع فيها، فهي تقدم الركن الشرعي في الجريمة، فتخرج الفعل من دائرة الأفعال المعاقب عليها إلى مجال الإباحيات“1. كذلك يمكن تعريفها بأنها “ظروف منصوص عليها في القانون ومحددة تحديدًا دقيقًا من شأنها إذا توافرت في الفعل الموصوف بأنه جريمة أن تجعله صباحًا وتؤدي إلى براءة مرتكبيه وتعفيه من أى مسئولية جنائية أو غير جنائية“2
والسبب وراء وجود مثل هذه القواعد أن “المشرع يستهدف من القواعد الجنائية الإيجابية أي من نصوص التجريم حماية مصالح المجتمع وضمان المحافظة على حقوقه وسلامة الأفراد. غير أن السلوك قد يباشر في ظروف لا يصح فيها تطبيق نص التجريم لأن تطبيقه في هذه الظروف لا يحقق الغرض الذي يستهدفه المشرع، أو لأن إباحة السلوك في هذه الأحوال تحقق للمجتمع مصلحة أولى بالرعاية من المصلحة التي تتحقق لو أعمل نص التجريم“3
الفرق بين أسباب الإباحة وموانع العقاب:
تؤثر أسباب الإباحة على السلوك نفسه، فتحوله من سلوك محرم إلى سلوك مشروع، أي أنها تهدم ركن من أركان قيام الجريمة وهو ركن السلوك غير المشروع. لكن موانع العقاب/ المسئولية “فهي تؤثر على قدرة الشخص على الإدراك والاختيار، فتصبح إرادته معيبة لا يعتد بها القانون، فهي إذن ترجع لأمور شخصية، ولا تأثير لها على السلوك الذي يظل غير مشروع، فيبقى الركن الشرعي للجريمة قائمًا بينما ينهار ركنها المعنوي.
ولما كانت موانع المسئولية ذات طبيعة شخصية لذلك فهي لا تؤثر إلا على من توافرت فيه، فإذا تعدد المساهمون في الجريمة وتوافر مانع المسئولية لدى أحدهم فهو وحده الذي تنتفي مسئوليته الجنائية ولا يوقع عليه العقاب، أما سواه فيسألون جنائيًا ويعاقبون“.4
في بعض الفروض تكتمل الجريمة في أركانها الثلاثة، المادي، وعدم المشروعية، والمعنوي. ومع ذلك لا تحدث أثرها القانوني في العقاب نظرًا لأن المشرع نص على الإعفاء من العقاب، مثال على ذلك ما نص عليه المشرع في (جريمة) الرشوة من إعفاء الراشي والوسيط إذا أخبر السلطات بالجريمة أو اعترف بها (مادة 107 مكررًا) فالاعتراف أو الإخبار في هذه الحالة يعتبر مانعًا من العقاب ومعني ذلك أن موانع العقاب تفترض وجود الجريمة تامة في أركانها المكونة لها، وكل ما تحدثه الموانع من أثر هو عدم توقيع العقوبة المقررة للجريمة. ومن هنا يبدو الفرق واضحًا بين موانع العقاب وأسباب الإباحة فتلك تحول دون اكتمال الجريمة في أركانها بنفي الصفة غير المشروعة عن الواقعة المادية المرتكبة، ونظرًا لأن الجريمة لم يكتمل بنيانها القانوني فلا مجال للحديث عن العقاب. 5
نطاق تطبيق المادة 60 من قانون العقوبات:
إذا توافر سبب الإباحة يتحول السلوك محل الفحص، من سلوك مجرم لسلوك مشروع. لكن هنا يجب التفرقة ما بين سبب الإباحة العام مثل تقرير حق الدفاع الشرعي عن النفس أو المال. حيث يستفيد من سبب الإباحة هنا صاحب الحق، أو أي شخص آخر يدافع عنه فلا يفرق القانون بين فاعل أصلي وشريك، وهو ما يمكن أن نسميه سبب الإباحة المطلق. النوع الثاني هو سبب الإباحة النسبي حيث يضيق نطاق الإباحة هنا ليشمل أشخاص بعينهم دون غيرهم، وفي هذه الحالة لا يستفيد من هذا الأمر إلا صاحب الحق نفسه، مثل حق الأطباء حصرًا في جرح المرضى لعلاجهم. وقيام أي شخص آخر بذلك هو عمل يخرج من دائرة الإباحة كاستثناء إلى دائرة التجريم كأصل عام في جرح الجسم البشري.
ويشترط لتطبيق المادة 60 عقوبات: 6
1 – أن يكون وقوع الفعل بمقتضى حق مقرر بمقتضى القانون.
2 – استعمال الحق بحسن نية.
3 – استعمال الحق في حدود القانون
ورغم أن المادة قد استخدمت لفظ “الشريعة” وليس القانون، “إلا أنه من المتفق عليه فقهًا أن حكمها ينصرف إلى الحقوق المقررة بالقوانين المختلفة ومنها مثلاً المدنية والتجارية والمرافعات المدنية والتجارية والدستورية فضلاً عن قوانين الأحوال الشخصية المتعلقة بمن يباشر الحقوق الواردة بها. وبعبارة أخرى هي تبيح كل حق يحميه القانون أينما كان موضعه من القوانين المختلفة“.7 ونجد في شروحات الفقه القانوني، واتجاهات القضاء في تفسير المادة 60 في أحكامه المختلفة ما يوسع من مفهوم لفظ “الشريعة” الوارد في هذه المادة، فهي تشمل كل القوانين وليس فقط قانون العقوبات، وتشمل أشكالاً أخرى من القواعد القانونية مثل العرف، ومثال على ذلك إباحة لبس زي السباحة على الشواطئ في حين يعتبر لبسه في أي مكان عام آخر جريمة فعل فاضح، وكذلك بطبيعة الحال قواعد الشريعة الإسلامية.
وقد درجت المحاكم المصرية على تطبيق المادة 60 في الحالات التالية:
-
المساس بالجسد البشري بالجرح وسواه أثناء علاجه على يد طبيب.
-
الألعاب الرياضية التي يتعرض أحد اللاعبين فيها للإصابة.
-
ضرب الرجل لزوجته في إطار ممارسة “حق التأديب الشرعي“
-
ضرب الرجل لأبنه / بنته في إطار ممارسة “حق التأديب الشرعي“
ولكل حالة من هذه الحالات شروط مختلفة لتحديد مصدر الحق، ومفهوم ومضمون حسن النية، وحدود ممارسة الحق. في هذا السياق أيضًا تخلت المحاكم عن اعتبار أن ضرب المدرس للتلاميذ، أو السيد لخادمه، من قبيل حق التأديب مع تطور الحياة في المجتمع المعاصر، لكن هذا التطور لم يصل بعد لجرائم ضرب الأزواج لزوجاتهم!
تعامل المحاكم المصرية مع جرائم ضرب الزوجات والبنات وفقًا للمادة 60 من قانون العقوبات:
المشكلة الرئيسية في هذه المادة هي غموض الصياغة والاستناد لألفاظ غير دقيقة مثل “حسن نية” و “حق مقرر بمقتضى الشريعة“، وهو ما يسمح للمحاكم المختلفة بالاستناد لتفسيرات بعينها لمفهوم (التأديب) في الشريعة السلامية تحط من قدر النساء، وتسمح للرجال داخل الأسرة بممارسة صور مختلفة من العنف عليهم تحت مسمى (التأديب).
يفترض في قانون العقوبات أن يسري على الجميع دون تمييز. لكن وبسبب وجود المادة 60 نجد أن هذا القانون ذاته يتدخل للتفرقة بين الجرائم التي تتم بين آحاد الناس وذات الجرائم إذا تمت داخل نطاق الأسرة ووقعت على الزوجة من زوجها أو البنت من أبيها. فيعاقب على الجريمة إذا وقعت مش شخص غريب ويعتبرها (مباحة) إذا وقعت داخل الأسرة من الأب أو الزوج. رغم أن الفعل المجرم في الحالتين واحد.
خلال ما يزيد عن 100 عام درجت المحاكم المصرية على اعتبار الضرب غير المبرح الذي لا يترك آثارًا ظاهرة كالكسر والعاهات المستديمة والأمراض على جسد الزوجة أو الأبناء والبنات من الأفعال المباحة قانوناً. في منطوق حكمها الصادر عام 1965 تقول محكمة النقض: “أنه وإن أبيح للزوج تأديب المرأة تأديبًا خفيفًا على كل معصية لم يرد في شأنها حد مقرر إلا أنه لا يجوز له أصلاً أن يضربها ضربًا فاحشًا – ولو بحق – وحد الضرب الفاحش هو الذي يؤثر في الجسم ويغير لون الجلد” 8.
وفي حكمها الصادر عام 1975، تقول: “من المقرر أن التأديب من مقتضاه إباحة الإيذاء ولكن لا يجوز أن يتعدى الإيذاء الخفيف فإذا تجاوز الزوج هذا الحد فأحدث أذى بجسم زوجته كان معاقبًا عليه قانونًا حتى ولو كان الأثر الذي حدث بجسم الزوجة لم يزد عن سحجات بسيطة “. 9
وفي حكمها الصادر عام 1977، تقول “ما هو مقرر شرعًا أن التأديب الصباح لا يجوز أن يتعدى الضرب البسيط الذي لا يحدث كسرًا أو جرحًا ولا يترك أثرًا ولا ينشأ عنه مرض“. 10
وفي حكمها الصادر عام 1981، تقول “من المقرر أن التأديب وإن كان حقاً للزوج من مقتضاه إباحة الإيذاء إلا أنه لا يجوز أن يتعدى الإيذاء الخفيف مإذا تجاوز الزوج هذا الحد فأحدث أذى بجسم زوجته كان معاقباً عليه قانوناً حتى ولو كان الأثر الذي حدثىبجسم الزوجة لم يزد عن سحجات بسيطة “11
وفي حكمها الصادر عام 1994، تقول “إنه وإن أبيح للزوج تأديب المرأة تأديبًا خفيفًا على كل معصية لم يرد في شأنها حد مقرر إلا أنه لا يجو أن يضربها ولو بحق ضربًا فاحشًا وحد الضرب الفاحش هو الذي يؤثر في الجسم ويغير لون الجلد“. 12
الأحكام السابقة تنطق جميعًا بنفس المعنى، وهو أن القضاء، واستنادًا لنص قانوني غامض لا يجد مشكلة في ضرب الزوج لزوجته طالما كان هذا الضرب غير مبرح! دون مراعاة لفكرة الكرامة الإنسانية وحرمة الجسد الإنساني. استنادًا لمفاهيم وتفسيرات قانونية وشرعية، تخلت عنها الإنسانية منذ عشرات السنين.
لا يقف الأمر عند الضرب غير المبرح بل يشمل هذا (التأديب) أحيانًا جرائم أخرى مثل جريمة الحبس المنزلي، ويقصد بالحبس المنزلي للفتيات إجبار البنت، أو الزوجة، أو الأخت، وسواهن، على البقاء في المنزل بشكل كامل وعدم السماح لهن بالخروج، أو منعهن من الذهاب إلى مكان معين، كمنع النساء من مغادرة البلدة التي يقطن فيها، أو منعهن من التعليم أو العمل 13.
فرغم أن تقييد حرية إنسان دون مسوغ قانوني هي جريمة سوا وقع هذا التقييد من شخص عادي، أو من أحد رجال السلطة العامة، وبغض النظر عن المكان الذي شهد عملية تقييد الحرية أو الحبس، حتى لو كان منزل الضحية نفسه، في هذا السياق تقول المادة رقم 280 من قانون العقوبات: “كل من قبض على أي شخص أو حبسه أو حجزه بدون أمر أحد الحكام المختصين بذلك، وفي غير الأحوال التي تصرح فيها القوانين واللوائح بالقبض على ذوي الشبهة يعاقب بالحبس أو بغرامة لا تتجاوز مئتي جنيه مصري“، غير أن هذا النص يتم تعطيله إذا مارس هذه الجريمة أحد ذكور الأسرة مثل الأب أو الزوج على ابنته أو زوجته بحجة (التأديب) وهو ما نجد له صدى في أحكام محكمة النقض. تقول المحكمة في أحد أحكامها: “إذا كان الولي قد رأي في سبيل حمل ابنته القاصرة على إطاعة أوامره التي لا ينبغي من ورائها إلا تهذيب أخلاقها وتقويم سلوكها أن وضع في رجلها قيدًا حديدياً عند غيابه عن المنزل ملاحظاً في ذلك ألا يمنعها عن الحركة في داخل المنزل، وألا يؤلم بدنها ذلك لا تجاوز فيه لحدود حق التأديب المخول له قانوناً” 14.
خطورة المادة 60 من قانون العقوبات بشكلها الحالي على سلامة وحقوق النساء في مصر:
الشكل الحالي للمادة 60 من قانون العقوبات يسمح باعتبار جرائم الاعتداء الجسدي غير المبرح على النساء أفعالاً (مباحة) فيفلت مرتكبيها بشكل كامل من كل أشكال المسائلة أو العقاب. فنجد أن حوالي ثلث النساء المصريات يتعرضن للعنف من الزوج، وفقًا لنتائج المسح الصحي السكاني للأسرة المصرية 2021، يظهر المسح نفسه أن ربع النساء تتعرض للعنف الجسدي من الزوج أيضًا. 15 دون أن ينعكس ذلك على عدد الرجال الذين يتم إدانتهم في تلك الجرائم. هناك بالطبع أسباب أخرى مثل أن النساء لا يبلغن في معظم الحالات. لكننا أيضًا نستطيع الربط ما بين اعتبار جزء من جرائم العنف الجسدي ضد النساء أفعالاً (مباحة) لأنها ممارسة لـ (حق التأديب الشرعي)، وبين عدم لجوء النساء لمنظومة التقاضي والعدالة في مصر.
لا يتوقف أثر وجود هذه المادة بشكلها الحالي على إفلات الجناة من العقاب، بل يتعدى الأمر ذلك لكون تقنين جرائم العنف ضد النساء باعتبارها ممارسات (مشروعة) يعزز ثقافة الاعتداء عليهن تحت مسمى تأديبهن، ويشجع على تكرار مثل هذه الجرائم. ورغم أن القضاء والفقه يتفقان على أن حد ممارسة التأديب المباح لا يجب أن يصل لترك أثر جسدي على النساء إلا أن الجناة كانوا يمارسون جرائم قتل وتعذيب كاملة، ويطالبون باعتبار ما فعلوه ممارسة لـ (حق التأديب الشرعي)!
تقول محكمة النقض في مواجهة متهم قام بحرق اننته حية، وطالب بإعفائه من العقاب لأنه كان يمارس (تأديبيًا مشروعًا). “التأديب المباح شرعًا للولد لا يجوز أن يتعدى الضرب البسيط الذي لا يحدث جرحًا أو يترك أثرًا ولا ينشأ عنه مرض. فاذا ربط الوالد ابنته رباطًا محكمًا بحبل وسكب عليها كيروسين وأشعل النار فيها فحدثت بها الحروق التي تسبب في وفاتها لخلاف بينه وبين زوجته يكون قد جاوز حق التأديب المباح وحق معاقبته بالعقوبة المقررة لجريمة الضرب المفضي إلى الموت. 16
يخبرنا هذا الحكم المبني على دفع المتهم بحقه في حرق ابنته حية، خطوة فتح الباب أمام التسامح مع أي شكل من أشكال العنف ضد النساء حتى تلك التي درجت القوانين والأعراف المجتمعية السائدة على اعتبارها، صورًا بسيطة.
كيف تنتهك المادة 60 من قانون العقوبات المعايير الدولية لحقوق النساء:
المادة 60 تتسامح مع بعض صور الإيذاء الجسدي باعتبارها “ضرب غير مبرح“، وهي بذلك تخالف ما هو متفق عليه من المعايير الدولية لحقوق الإنسان وفي القلب منها الاتفاقيات والإعلانات الدولية المتعلقة بحقوق النساء، والتي تعرّف العنف ضد النساء بوصفه مفهومًا شاملاً يضم أي مساس بسلامة المرأة جسديًا، ونفسيًا واقتصاديًا، بل ويعتبر التهديد بأي شكل من أشكال العنف، هو في حد ذاته عنف أيضًا.
وفقًا لاتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف الأسري “ينبغي فهم تعبير العنف ضد المرأة على أنه انتهاك لحقوق الإنسان، وشكل من أشكال التمييز ضد المرأة، وأنه يعني كافة أشكال العنف القائمة على النوع الاجتماعي، والتي تسبب، أو من شأنها أن تسبب للمرأة أضرارًا أو الآما بدنية، أو جنسية، أو نفسية، أو اقتصادية. بما في ذلك التهديد بالقيام بمثل هذه الأعمال. أو الإكراه أو الحرمان التعسفي من الحرية سواء كان ذلك في الحياة العامة أو الخاصة“. 17
العنف ضد النساء يمكن تعريفه أيضًا وفقًا لإعلان الأمم المتحدة للقضاء على العنف ضد المرأة بأنه “أي فعل عنيف تدفع إليه عصبية الجنس ويترتب عليه، أو يرجح أن يترتب عليه، أذى أو معاناة للمرأة، سواء من الناحية الجسمانية أو الجنسية أو النفسية بما في ذلك التهديد بأفعال من هذا القبيل أو القسر أو الحرمان التعسفي من الحرية، سواء حدث ذلك في الحياة العامة أو الخاصة“. 18
ويعرف بروتوكول حقوق المرأة في أفريقيا الملحق بالميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب “بروتكول مابوتو” العنف ضد النساء بأنه “جميع الأعمال المرتكبة ضد المرأة التي تسبب أو من شأنها أن تسبب معاناة جسدية أو جنسية أو نفسية أو ضرر اقتصادي بما في ذلك التهديد بالقيام بمثل هذه الأعمال أو بفرض قيود تعسفية على المرأة أو حرمانها من الحريات الأساسية في الحياة العامة أو الخاصة سواء في أوقات السلم أو في حالة النزاعات أو الحرب.” 19
تتفق كل التعريفات السابقة على مضمون واحد وهو أن أي فعل قد يترتب عليه معاناة للمرأة هو من قبيل العنف ضد النساء، المحظور في القانون الدولي لحقوق الإنسان. وبالتالي فالخلل الموجود حاليًا في قانون العقوبات المصري، فيما يتعلق بإباحة إيذاء النساء جسديًا تحت مسمى (التأديب) هو انتهاك للقانون الدولي لحقوق الإنسان. وحتى لو تكن مصر طرفًا في الاتفاقيتين الملزمتين السابقتين – الإعلان بطبيعته غير ملزم – فهي طرفًا في العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسة، واتفاقية القضاء على كافة أشكال التمييز ضد المرأة، وهي اتفاقيات ملزمة تضع على الدولة التزامات بحماية السلامة الجسدية للنساء وحمايتهن من أي شكل من أشكال الايذاء.
بعد أن استعرضنا بشكل سريع مضمون المادة 60 من قانون العقوبات المصري، وسياق تطبيقها فيما يتعلق بجرائم الاعتداء الجسدي غير الجسيم على النساء والفتيات داخل الأسرة، فأننا نذكر المشرع بنص المادة 11 من الدستور المصري والتي تنص على: “تكفل الدولة تحقيق المساواة بين المرأة والرجل في جميع الحقوق المدنية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية وفقًا لأحكام الدستور. وتعمل الدولة على اتخاذ التدابير الكفيلة بضمان تمثيل المرأة تمثيلاً مناسباً في المجالس النيابية، على النحو الذي يحدده القانون، كما تكفل للمرأة حقها في تولي الوظائف العامة ووظائف الإدارة العليا في الدولة والتعيين في الجهات والهيئات القضائية دون تمييز ضدها. وتلتزم الدولة بحماية المرأة ضد كل أشكال العنف…” والتي تفرض بشكل واضح على كل سلطات الدولة أن تبادر باتخاذ كل الإجراءات الممكنة لحماية النساء من كل أشكال العنف.
في هذا السياق ولضمان ألا يفلت مجرمًا بجريمته بسبب الصياغة القديمة وغير المنضبطة للمادة 60 من قانون العقوبات فإننا نوصي المشرع بما يلي:
1 – استبدال النص الحالي للمادة 60 بنص جديد يحدد حدود أسباب الإباحة ويضبطها في نطاق محدد، ويربطها بمفهوم القانون لا الشريعة، فالقانون محدد بالنصوص القانونية الصادرة عن السلطة التشريعية، على عكس الشريعة التي تحتوي على اجتهادات فقهية متباينة تم إنتاجها في فترات تاريخية مختلفة. وبطبيعة الحال إلقاء اعتبار ما يعرف باسم “حق التأديب” جزاءً من أسباب الإباحة.
2 – استحداث مواد جديدة في قانون العقوبات، أو إصدار قانون خاص موحد، لتحديد كل أشكال العنف ضد النساء، ووضع عقوبات مناسبة لها.
1 – مصطفى هرجة. موسوعة هرجة الجنائية “التعليق على قانون العقوبات” المجلد الأول ص 600
2 – د. عبد الرؤوف المهدي. شرح القواعد العامة لقانون العقوبات. ص 352
3 – إيهاب عبد المطلب الموسوعة الجنائية الحديثة في شرح قانون العقوبات. المجلد الأول، ص 827. طبعة 2010.
4 – المرجع السابق، ص 834 وما بعده.
5 – د. مأمون سلامة في قانون العقوبات – القسم العام. ط 1979. ص 173.
6 – مصطفى هرجة موسوعة هرجة الجنائية “التعليق على قانون العقوبات” المجلد الأول طبعة 1998. ص 515.
7 – المرجع السابق، ص 516.
8 – الطعن رقم 715 لسنة 35 قضائية جلسة 7/ 6/ 1965 س 16 ص. 552.
9 – الطعن رقم 1132 لسنة 45ق جلسة 2/ 11/ 1975 س 26 ق 146 ص. 672.
10 – الطعن رقم 120 لسنة 46ق جلسة 15/ 5/ 1977 س 28 ق 126 ص. 596.
11 – محكمة النقض الطعن رقم 750 لسنة 51 ق جلسة 11 / 11 / 1981
12 – نقص جنائى 9/ 1/ 1994 السنة 45 ص 71
13 – محمود عبد الطاهر، دراسة لا حماية لأحد دراسة حول العنف الأسرى ضد النساء في مصر. مركز المرأة للإرشاد والتوعية القانونية. 2018.
14 – محكمة النقض. الطعن رقم 2286 لسنة 12 ق جلسة 4/ 1/ 1943
15 – الجهاز المركزى للتعبئة العامة والاحصاء وآخرين. المسح الصحي السكاني للأسرة المصرية 2021، صدر في 2022.
16 – الطعن رقم 16767 لسنة 1960 ق جلسة 11/ 2/ 1992 س 43 ص 237.
17 – اتفاقية المجلس الأوروبي لمنع ومكافحة العنف ضد المرأة والعنف الأسرى.
https//bitly/3W1alHF
18 – إعلان الأمم المتحدة بشأن القضاء على العنف ضد المرأة.
https//bitly/3Hnvrk
19 – بروتوكول حقوق المرأة في أفريقيا الملحق بالميثاق الأفريقي لحقوق الإنسان والشعوب.
https//bitly/35mG3BV