مرآة التأمل فى الأمور

طباعة: Promotion Team

رقم الايداع:

٧٤١٨/۲۰۰٢

الترقيم الدولي:

977-5895-09 -x

رقم الطبعة:

الطبعة الثانية

تاريخ النشر:

2002

تأليف:

التقديم:

الإخراج الفني:

مرآة التأمل في الأمور لعائشة تيمور

مقدمة

يعتبر هذا الكتيب، الذي يقع في 16 صفحة، أحد أعمال الكاتبة عائشة تيمور المعروفة والتي لم تحز اهتمام الدارسين بها وبتاريخ المرأة المصرية في العصر الحديث. على الرغم من ذلك، لقد أثار الكتيب، حين نشر عام ۱۸٩٢، اهتمام الدوائر الأدبية التي عهدت للشيخ عبد الله الـفـيـومي، أحـد علماء الأزهر والمدرس بإحدى المدارس الأمـيـرية1، بمهمـة الرد عليها. نشرت جريدة النيل سلسلة من المقالات قام الشيخ فيها بنقد اجتهادعائشة تيمور في تفسير بعض الآيات القرآنية بوصفها جزءاً من تحليلها للمشاكل التي تواجه الأسرة المصرية. جمعت جريدة النيل هذه المقالات ونشرتها في كتيب بعنوان لسان الجمهور على مرآة التأمل في الأمور“. ولذا، يقوم ملتقى المرأة والذاكرة بإعادة نشر الكتابين في طبعة واحدة – أولاً: للتذكير بأعمال نساء كان لهن مساهمات قيمة في الحياة الثقافية، وثانيًا: لإلقاء الضوء على حيوية الجدل الذي احتدم حول المرأة ودورها في المجتمع في النصف الثاني من القرن التاسع عشر.

من المهم التذكير هنا بأن عائشة تيـمـور في ذلك الوقت كانت كاتبة وشاعرة معروفة في الدوائر الأدبية ولقارئ العربية. في عام ۱۸۸۸، نشرت عائشة نتائج الأحوال في الأقوال والأفعالالذي يعتبره الكثيرون أول عمل روائي لكاتبـة عـربـيـة في الـعـصـر الحديث۲. أعقبت عائشة هذا العمل بنشر ديوان شعرها العربي حليـة الطرازفي عام ١٨٩٢. أدى هذا الإنتاج الأدبي والشـعـري الغزير إلى تأكيد سمعتها الأدبية الرائدة. ويفسر اهتمام القراء والنقاد بتعليقها على قضية اجتماعية مهمة في مرأة التأمل في الأمور“.

يمثل هذا الكتيب الأخير محاولة من عائشة لتقديم مرآة، كما يقترح العنوان، تعكس العلاقات المتوترة بين الأزواج وزوجاتهم في كثير من العائلات المصرية والتأمل في أسبابها. زيادة على ذلك تقدم الكاتبة محاولة جريئة تعتبر الأولى من نوعها من جانب امرأة متعلمة مسلمة للاجتهاد في مناقشة حقوق الرجال على النساء والنساء على الرجالكما تطرحها آيات القرآن الكريم (ص: ۲۹،30).

سيرى القارئ أن الكاتبة تستعمل لغة عـربيـة وأدبيـة غـيـر مألوفة لنا في القرن الواحـد والـعـشـريـن. يصف الكثيرون من دارسي ومتحدثي العربية الحديثة هذه اللغة العربية القديمة نسبيًا بعدم القدرة على سلاسة التعبير عن الأفكار والأحاديث بطريقة واضـحـة ومـبـاشـرة، ولا يوجد دليل على ذلك في كتيب عائشة. وسيرى القارئ الاختلاف الكبير بين استعمالها للغة واستعمال الشيخ عبد الله الفيومي لها. ففي حين تتميز كتابتها بالوضوح والسلاسة، تئن كتابة الشيخ الفيومي تحت عبء التكرار واللعب بالألفاظ. وتشير هذه المقارنة إلى مهارة عائشة وتحديثها لهذه اللغة الأدبية: بحيث تبقى أناقة اختيار الكلمات وموسيقيتها دون أن يعوق ذلك وضوح الأفكار. من الواضح أنه ليس كل من استعمل هذه اللغة الأدبية استعملها بالطريقة نفسها. وفي كتاباتها نرى قدرة هذه اللغة على التغيير من الداخل عن طريق هذه الكاتبـة المبدعة.

تبـدأ الكاتبـة بوصف المنهج الذي تستعمله في التطرق إلى مـوضـوعها الحساس، فـتـذكـر أن نور العقل يضيء أي يقـوى من الهدى والإيمان. استعمل الرجال هذا المنهج العقلاني في التفسير الديني وحـان الوقت لاشتراك النساء مع الرجال في هذا العمل. هنا تشرح لنا الكاتبة تخوفها ورهبتها من التطرق لهذا الموضوع الحساس وكيف أنها أمضت أيامًا وليالٍ تفكر في حكمة ذلك. وفي النهاية تقرر الإقدام على هذا المشروع المهم للأمة الإسلامية. تقول الكاتبة في ذلك: “فناداني زعيم الجـسـارة. هلمي إلى مـقـصـورة السلامة. ولا تحذري الانتقاد والملامة وعليكي بإيضاح الدعوى من أولى الهمم والشهامة. قلت يا لها من خير علامة أموجود هو يا عراف اليمامة. قال نعم قال عليه الصلاة والسلام الخير فيّ وفي أمتي إلى يوم القيامة3 (ص: ۲۷، ۲۸).

انتهى تردد عائشة حين وجدت علامة شجعتها على المضي في مشروعها وهي قول رسول الله صلى الله عليه وسلم إن الخير فيّ وفي أمتى“. تجد الكاتبة في هذا الحديث الشرعية لأن تقـوم كأحد أفراد هذه الأمة باستعمال وتفسير بعض الآيات القرآنية التي تشرح حقوق الرجال والنساء معًا مثل: “الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم، ثم على المولود له رزقهن وكـسـوتهن بالمعـروفولهن مثل الذي عليهن بالمعروف“. تقترح عائشة أن القوامة تنبع من قيام الرجال بأمر زوجاتهم وتفضيل الله لهم بوفرة في العقل والدين ولذا جعل لهم الولاية والإمامة والتمييز في الشهادة. كما تعتبر إنفاق الرجال على زوجاتهم في المهـر، والمطعم، والمشرب، والمسكن، والكسوة شرط من شروط القوامة. في حالة المرأة المرضع، الهدف هو عدم تحميلها أكثر من إمكانيتها في العناية بالطفل وفي الوقت نفسه يأمر الله عز وجل الرجال بالقيام باحتياجات زوجاتهم. في نظير ذلك، تقبل النساء طاعة الرجال في الأسرة. يؤيد ذلك التفسير النصوص القرآنية وإجماع الأمة في الممارسات الاجتماعية.

تقترح عائشة أن هذا الإجماع الاجتماعي الذي ينبع من هذه الآيات انهار في الثمانينيات والتسعينيات من القرن التاسع عشر. لقد تخلى الشباب من جميع الطبقات عن مـضمون هذه الآيات واهتموا بالجري وراء الحلى والحلل والضياع والعقار” (ص: ۳۰). تدل هذه العبارة على اتساع هذه الممارسات في الطبقات المختلفة. ففي الطبقات العاملة الريفية والحضرية، تعتبر الحلى والحلل (سواء كـانـت مـلابس أو أواني) أنماطًا من الملكيـة تحـضـرهـا هذه النساء لأسرهن عقب الزواج. أما عن نساء الطبقات المتوسطة والعليا، فالضياع والعقارات أكثر شيوعًا بوصفها مصادر للملكية. ولقد كان التأكيد على الموارد المالية للنساء جزء من تيار مادي أدى إلى أزمة اجتماعية تمثلت في استبدال قيم إسلامية مهمة مثل التدين والعـفـة والوقار بقيم جديدة تشجع على الجشع وعـدم المسئولية. وينتج عن ذلك ظهور زيجات يستغل فيها الأزواج أموال وطاعة زوجاتهم لكي يستغنوا عن العمل وينطلقوا إلى محافل اللهو حيث الموسيقى ولعب القمار والخمر. أثر ذلك على قدرة الزوجات على إدارة شئون منازلهن، وفقد احترامهن لأزواجهن. كانت النتيجة هي عصيان الزوجات على أزواجهن وتفشي الشقاق في كثير من العائلات بغض النظر عن الطبقة الاجتماعية. أحد مظاهر هذا العصيان هـو خروج نساء الطبقة المتوسطة والعليا لزيارة جيرانهن للشكوى والخروج إلى الحدائق والأسواق بمفردهن.

حين يتذكر بعض الناس أن النساء حبايل الشياطينيفترض أن تأديبهن يأتي عن طريق أزواج صالحين. وقـد دل قوله تعالى ولهـن مـثل الذي عليهن بالمعـروف“. أي أن للنسـاء على الأزواج حقوقًا يلزم حفظها ومراعاتها من حسن العشرة وأداء الخدمة وترك الأضرار…. فإذا انقلب الموضوع وخفض بالعكس المرفوع وصـار لـهـا عليـه الولاء كيف لا تلقى وشـاح الخـدر وترمي برفع الحياء“(ص: ٣٤). إذا أصبح الرجال حبايل الشياطين، فلم لا تخرج النساء من الخدر ويرمين برقع الحياء؟ من الواضح هنا أن الكاتبة تنتقد سلوك هؤلاء الأزواج الذين تخلوا عن مسئولياتهم الزوجية، وفي الوقت نفسه لا تؤيد خروج النساء من خدورهن غير عابئات بالآداب المـرعـيـة في هذه الظروف التي تعكس قـدرًا كبيرًا من المعاناة النفسية.

من المثير أن عائشة تلقى عبء خروج نساء الطبقة المستريحة على نساء الطبقة العاملة. فهي تتحسر على أيام وجود الجواري والعبيد حيث كانت هذه الأسر تثق في قدرتهم على حفظ أسرارها والقـبـول بالآداب المتعارف عليها في هذه الطبـقـات. حين تحـرر العبيد تركن خدمة هذه الأسر واختاروا مهنًا تعكس أخلاق تلك الطائفة الوحـشـيـةمثل العمل في الحـانات. في هذه الظروف احتاجت سيدات هذه الطبقات إلى الخدم من الرعاع أي الطبقة العاملة. تلوم عائشة هذه الفئة من النساء على تشجيع سيداتهن على اتباع عاداتهن المتحررة مثل الخروج إلى الحدائق والبساتين للتنزه والتسوق في الأسواق. فمن وجهة نظرها المحافظة، تمثل هذه الممارسات نوع من الابتذال وأحـد أعـراض حذف الفـواصل الاجتماعية غير المرغوبة بين نساء الطبقات العليا وأمثالهن من الطبقة العاملة.

حين يرى الأزواج هذا التـغيـيـر في سلوك زوجـاتهم، لا يستطيعون وضع حد لهذه الأفعال بعد أن فقدوا أية سلطة معنوية أو أخـلاقـيـة لكي يكونوا قدوة لزوجاتهم. لا يمكن لوم النساء على سلوكهن بغير لوم الرجال على تخليهم عن دينهم ودنياهم” (ص: ٤١).

تختم عائشة كتيبها بالاعتذار عن تطفلها على مجال مناقشة احتكرته محافل الفحولأو فئات من الرجال وفي الوقت نفسه تذكـر بثـقـة الحـمـد لله الذي منَّ وأنعم وعلم الإنسان ما لم يعلم وجعل الدين القيم من أشرف النعم“. فعلى الرغم من انزوائها بين جدران بيتها فإن العلم من عند الله، فعن طريق الدين استطاعت عائشة أن تحلل هذه المشكلة الاجتماعية. وأخيرًا تقول الكاتبة إنه يجب على الرجال أن ينظروا في أمر صواحبهم ويحاولوا جذبهم من الكسل والكلال والتأمل في عواقب هذه الأحوال. إن مـصـدر هذه المشكلة العويصة هو الرجال، والمطلوب منهم الآن البحث فيما بسطته هذه المرأة المخدرة (ص: 43).

أثار كتيب عائشة تيمور انتباه القراء والدوائر الأدبية في ذلك الوقت، والدليل على ذلك نشر جريدة النيل لسلسلة مقالات يعقب فيها الشيخ عبد الله الفيومي على مرآة التأمل في الأمورثم قامت الجـريـدة بتـجـمـيـع المقالات في هيئة كـتـيب يقع في 36 صفحة4. يبدأ الشيخ بإشراك القارئ في الظروف التي أدت إلى قيامه بالرد على عائشة في نهاية ندوة أدبية جمعت کتاب معروفين اصطفى أحـدهم الشيخ (في الأغلب الأعم صاحب جريدة النيل) وذكـر لـه حـديثـًا عجيبًاوهـو كـتـابـة عـائشـة لمرآة التأمل في الأمور (ص: ٤٨).. يمدح هذا الرجل عائشة ككاتبة وشاعرة ولكنه يتهمها بأنها تعدت الحدود المتعارف عليها: “لقد أقام الله في كل جيل رجالاً من صناديد الحكماء وأساطين الفضلاء نصبوا أنفسهم لنصيحة الأمة…. [تتمثل] النصيحة من قوله تعالى ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر). وقوله عليـه السـلام الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله، قـال لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعامهم” (ص: 50).

هنا يبدو أن هذا الرجل يتهم عائشة باغتصاب مهمة الرجال في نصيحة الأمة، ويدعى أنها تدعى ذلك في قولها فناداني زعيم الجسارة هلمي إلى مقصورة السلامة ولا تحذري الانتقاد والملامة وعليك بإيضاح الدعوى إلـى عـلامـة“. وللأسف، من وجـهـة نظر الشيخ، لم يجب أحد من الرجال على هذا النداء: “لم نر من جـرد سيف همته للنصيحة سلبًا أو إيجابًا“. ومن ثم يصبح المطلوب هنا هو رجل يلبي نداء زعيم الجسارة وهو النداء الذي لبتـه عـائشـة ويستعمل سيفالهمة في النصيحة. السيف يمثل هذا الرجل واستعمال السيف في وصف نصيحة يشي بصفة مبدئية بعنف الرد على عائشة.

يشرك الشيخ الفيومي القارئ في أنه استشار الكثيرين من ذوى الفضيلة والذمة” (يقصد العلماء) وبهذه الطريقة يعطى رده وزنًا دينيًا. يقـول أيضًا أنه لا يخـشـي تسـرع الكاتبة إلى اللوم والعقاب، فالوجهة بين الاثنين واحدة. وإذ كان الفضل يعود إلى عائشة في ابتداء هذا النقاش فهو يبغى الآن في الاشتراك في الثواب عن طريق استعماله لعلمه بالشرع. في هذا السياق، يقول الشيخ في وصفه لمهمته إنى مسوق بعصا الشرع وسيفه حيث إن ذلك من أعظم الواجبات وأهمها ولا سيما على العلماء المتوطنين بصيانة الشرع من دسائس ذوى الأهواء” (ص: 53). من هذه العبارة يتضح أن الشيخ الفيومي سيقدم رؤية تأديبية للشرع الذي يمثله بالعصا والسيف في محاولة منه، كأحد العلماء، لحماية الشرع من دسـائس ذوى الأهواء، وهي في هذه الحـالة مـحـاولـة عـائشـة المشكوك فيها للكتابة في هذا المجال.

ولأن الرد على عـائشـة كـان جـزءًا من محاولة الشيخ لـتـقـديم نفـسـه للقـراء والدوائر الأدبيـة ككاتب في القـضـايا الدينيـة والاجتماعية، يمكن لنا أن نصف استعماله للغة العربية بطريقتين متميزتين:

أولاً، يحاول الشيخ إبداء مهاراته اللفظية عن طريق المحسنات البديعية والتكرار الذي كان سمة في بعض كتابات ذلك العصر. يمكن للقارئ هنا أن يقارن بين أسلوب عائشة في الكتابة وأسلوب الشيخ ليعي الاختلافات الموجودة بين كتاب هذه الفترة.

ثانيًا، حين يتجه الشيخ إلى مناقشة المنهج الديني للتفسير يستعمل لغة متخصصة جافة تنحو إلى التجريد وإغراق القارئ بالتفاصيل، والهدف من استعمال هذا النوع من السرد هو تعجيز القارئ عن متابعة أو نقاش هذه التفاسير للقضايا التي تمس حياته. نتيجة لذلك يأخذ رد الشيخ الفيومي ٣٦ صفحة من البنط الدقيق على كتيب عائشة الذي لا يزيد عن 16 صفحة من البنط الكبير.

في رد الشيخ على عائشة، يقول إنه ليس من المعادين للمرأة وأنه يؤيد تعليم البنات القراءة والكتابة لفوائده الوطنية ولا سيما علم تدبير المنزل الذي يخدم حسن حال الزوجية وتربية الأطفال. ولكنه لا ينكر إجماع الشرائع على حـرمـان النساء مما اختصت الرجال به. هنا يقدم الشيخ رؤية شخصية محافظة تؤكد على أن كيدهن عظيموأن هذا أساس إجماع الملل والنحل على منعهن من الخطابة الشرعية (الاشتراك في النقاش والخطاب الشرعي)، الإمامة والنبوة والجهاد. كجزء من هذه الرؤية، النساء ينقصن في كل هذه المجالات العامة عن الرجال.

وهو يركز في نقده لكتابها على هذه النقاط الخمس:

(۱) خروجها على معنى الآيات القرآنية التي استعملتها.

(۲) الاعتراض على رؤيتها الخاصة بعدم جواز الزواج القائم على المصلحة المادية.

(۳) تفنيد أسباب فساد الزوجين في هذه الزيجات.

(4) الاعتراض على الأمثلة الحكمية التي استعملتها بهدف تربوی.

(5) السقطات العربية والأغلاط النحوية.

في الفصل الأول يدعى الشيخ أن عائشة خرجت عن معنى الآيات، ويعـتـرض اعـتـراضًا شديدًا على مـحـاولـة قـراءة القرآن وتفسيره فذلك ميدان الفحول من العلماء” (ص: ٦١). إن معرفتها الجيدة باللغة لا تساعدها على الخوض في عـبـاب التأويل والتفاسير القرآنية“. وأن محاولتها تفسير هذه الآيات يعتبر جرأة منها على هذه المهمة الصعبة. يتهم الشيخ الكاتبة بأن هدفها من مـرآة التأمل في الأمـورهـو الإضـافـة إلـى سـمـعـتـهـا الأدبيـة والشعرية. وفي تفسير كيفية خروج عائشة عن معنى الآيات، يقول إنها لا تعرف أسباب نزول الآيات مثل الآية التي تذكر أن الرجال قـوامـون على النساءوالتي يقول إنهـا نزلت لكي تشـرح سـبب اسـتـحـقـاق الـرجـال الزيادة في الميراث وليس لـبـيـان جـواز الزواج القائم على الجشع أو عـدمـه. من المهم أن نذكر هنا أن عـائشـة استعملت هذه الآية لمناقشة حـقـوق الرجال والنساء وليس لبيـان جواز هذا النوع من الزيجات.

ثانيًا: يدعى الشيخ أن لفظ الحـقـوق غـيـر مـوجـود بالقـرآن. ولكنه يقول: إن هذا المفهـوم يمكن اشـتـقـاقـه مـن النص وآياته المختلفة (ص: 68). وفي تفسيره لهذه الحقوق التي يتمتع بها الرجال والنساء، يقدم تفسيرًا لا يختلف عن تفسير عائشة في أي من تفاصيله مثل: يجب على الزوج أن يقـوم بحقها ومصالحها وعلى الزوجة في المقابل الانقياد والطاعة. يضيف أشياء فرعية، مثل: وجـوب زينة المرأة لـزوجـهـا والإصـلاح عند المراجـعـة في الطلاق. يزيد الشيخ على هذه المناقشة مسألة أن للرجال عليهن درجةلكي يشرح أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجلص: 68. و أن القيام والإنفاق كلها من خواص الرجال لا أن الإنفاق سبب للقيام ولا من الحقوق المشتركة المندرجة في قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن“. في هذه الحالة، لا يتصور الشيخ افتراضها فإذا انقلب الموضـوع وخـفض بالعكس المـرفـوع صـار لـهـا عـليـه الولاء” (ص٣٤). حتى إذا لم ينفق الزوج على زوجـتـه قـوامـتـه عليـهـا لا تنقض (ص: ۷۲). لا توجـد أية حـالة تعطى الـزوجـة حق تحـدى قوامة الرجل. أما دعوى عائشة بأن النفقة والكسوة حق من حقوق الزوجة، فالأصح في رأي الشيخ هو أنه حق للزوجة المرضع فقط (ص: ۷۸) وليس الزوجات بصفة عامة (ص: ۷۸)!

النفقة لا تصير دينًا إلا بالقضاء أو الرضا (ص: 85) أي إذا رفعت الزوجة دعوى على زوجها أو إذا اتفقت معه على ذلك. يشير الشيخ أيضًا أن هناك آيات قرآنية تدل على جواز الإبراء من المهر والنفـقـة تـعـويـضًا عن شكاسـة أخـلاق وسوء معاملة النساء (ص: 85). في مكان آخر يقول الشيخ، كان لها في الجماع مثل ما للزوج من اللذة أو أزيد منه وتزيد عليه بوجـوب النفـقـة والكسوة” (ص: ٨٧) ويعطى ذلك مثلاً آخر على أسلوب المرواغة الذي يتبعه الشيخ في كتبه.

أما عن المهر ليس المقصور منه المغالبة والمناظرة وكونه في نظير القيام وموجبًا له بل المقصود منه مجرد التحليل وكونه في مقابل البضع والتمتع” (ص: ۸۷). “قال عليه السلام التمس ولو خاتمًا من حديد، فأية قيمة للخاتم الحديد أو العـشـرة دراهم توجب قـيـام الرجل على المرأة قـيـام الولاة على الرعيـة وتجعلهـا أسيرة تحت أمره ونهيه” (ص: 90). أما عن جواز الزواج القائم على الجشع والمنفـعـة، فـيـقـول الشيخ طالما أن هذا الزواج تم برضـا المتعاقدين فهـو قانوني. إذا تزوجت المرأة وهي تعلم ما عليه من عسر فلا حرج عليه. إن الكفاءة في النكاح معتبرة من جانبه لها لا من جانبها له بمعنى أن يكون الزوج كفؤًا لها .. فإذا تزوجته على أنه كفؤًا وظهر فيما بعد أنه غير كفؤ فلها الخيار في البقاء معه أو الفسخ” (ص: ٩١). إذا اختارت البقاء فلا لوم إلا عليها. لا يحق لها حينذاك عصيانه، أو سوء عشرته، أو نزع سلطته عليها بدعوى أنه لا ينفق وخروجها عن حدود الأدب المرعية. ولا يمكن لعائشة أن تمنع زواج الشـبـان رغبة في الحلي والحلل وتنديدها بالذي يفعل ذلك لا ينطبق على الشرع ويعتبـر تعـد لحدود الشرائع (ص: ۹۲). نعم إن الشيخ يذكر حديثًا للرسول عليه الصلاة والسلام ينفر من ذلك الزواج، إلا أنه يقول في النهاية على أن الزواج للحلى والحلل سنة في إشارة غير مباشرة إلى زواج الرسول صلى الله عليه وسلم بالسيدة خديجة وأنه مرغوب في الشارع المصرى الآن” (ص: 96). وأنه ليس ممنوعـًا بالقدر الذي هـولت به. “وأين هذا من الفظائع التي نرتكبهـا الآنبل أين هذا مما جاءته حـضـرتـهـا من تمزيق الآيات القرآنية واجترائها على انتهاك حرمة الشريعة القدسية؟ (ص: ۹۷).

في تفنيد أسـبـاب فـساد أخـلاق الزوجين في الحالة التي ذكـرتـهـا عـائشـة، يقـتـرح الشيخ أن المسئولية تقع على التـربيـة، العـوائـد، تأثيـر الأوطان وخـواصـهـا الجـوية وأحـوال الوالدين ومنشئهمـا ومـا تـعـوداه” (ص: 99). المطلوب والمتوقع من المرأة أن تكون فوق الرجل خلقًا، ودرعًا وأدبًا” (ص: ١٠٠). حتى إذا واجهت عدم إنفاقه عليها (ص: ۱۰۱). المرأة النموذج في هذا الوقت هي التي تبقى قانتة، صالحة تخدم زوجها ابتغاء الزوجيـة وامتثالاً للأوامر الشرعية.

أخيرًا، يتهم الشيخ الفيومي عائشة تيمور بأنها أخذت مثالاً من محاضرات الأصفهاني ولم تحسن في إعطاء بيت شعر مناسب في رأيه. أمـا مـا يسـمـيـه بالسقطات العربية والأغاليط النحوية فيتكون من وضعها همزة في أعضوفي رأيه أن الصواب أن تكون بدون. في مثال آخر أن تنوين أحمقًاخطأ. وينهي الشيخ الكتيب باقتراح أن أي مؤلّف في العلوم الشرعية لابد وأن يعرض على جمعية من أولى العرفان الصادقين، أي العلماء، ولها أن تقر بقبول أو رفض مـا تـراه (ص: ۱۱۲۱۱۳). يبـدو الهـدف هنا هو حماية هذا المجال الشرعي من تطفل غير المرغوب فيهم مثل النساء وغير المتخصصين بصفة عامة من الاشتراك في مناقشة قضاياه المهمة.

ماذا يمكن للقارئ/ للقارئة أن يستنتج من رد الشيخ الفيومي على عـائشـة تـيـمـور؟ أولاً، أن الشيخ يسـتـعـمـل رده على الكاتبـة كوسيلة لاستعراض معلوماته الشرعية على حسابها في سبيل ذلك، ويسيء الشيخ تمثيل هدف عائشة من مرآة التأمل في الأمور“. مثلاً هو يدعى أنها تحاول أن تفتى بعدم جواز الزواج القائم على الجشع والرغبة في وضع اليد على أمـلاك الزوجـة الممثلة في الحلى والحلل، الضياع والعقار. وأكثر قربًا من الحقيقة، أن عائشة تقـدم فهم المرأة لحـقـوقـهـا في الإسلام من خلال بعض الآيات القرآنية. والتي يعتبرها الكثيرون أساسية لفهم حقوق الرجال على النساء والنساء على الرجال“. هذا الفهم الديني والاجتماعي اصطدم بالقيم المادية الزاحفة التي أدت بالرجال إلى التخلي عن مسئولياتهم الأسرية وأدى بالنساء إلى العصيان. في هذا السياق تقدم عائشة اجتهادًا جديدًا لفهم هذه الآيات يمثل قوامة مشروطة للرجال تتوقف على قيامهم بواجباتهم المادية والمعنوية في الأسرة. إذا فشل الـرجـال في أداء هذه الـواجـبـات يحق للنسـاء أن ترفض طاعتهم وخـاصـة إذا هددت كيان الأسرة. لا تحبذ عائشة هذا العـصـيـان ولكنـهـا تقـدمـه بـوصـفـه جـزءًا من الواقع المعيش الذي تعكسه مرآة التأمل في الأمور“.

ثانيًا، ينحو الشيخ إلى المغالاة المغرضة والمراوغة في إنكار فهم الكاتبة لهذه الحـقـوق رغم أن المحاكم الشرعية في ذلك الوقت أكدت صحة رؤيتها. وتشير الدراسات لسجلات المحاكم في تلك الفـتـرة إلى أن للزوجـة حق في المهر والنفـقـة وأن فشل الزوج في الإنفاق على زوجته مدعاة للطلاق5. مثلاً يقول الشيخ: “إن لفظ الحقوق غير موجود في القرآن مما يوحى للقارئ وللقارئة أن هذا المفهوم غريب على القرآن ولكنه سرعان ما يعترف أنه من الممكن اشتقاق حقوق للمرأة وللرجل من الآيات القرآنية. في مثل آخر، يقول الشيخ إن قـوامـة الرجل غير مرتبطة بالإنفاق، ثم يقول في مكان آخر إن هذه أحد خواص الرجال. ويجب الإشارة هنا إلى أن الآية الكريمة تتحدث عن خواص الرجال حين تذكر بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا“. أخيرًا يقول الشيخ إن النفقة حق للمرأة المرضع فقط، ولكنه في مكان آخر يقول إن الآيات الكريمة تأمر الرجل بالإنفاق على زوجته. هنا يتضح أن الشيخ يستعمل المراوغة للتقليل من شرعية وجهة النظر التي تقدمها عائشة والتي تقوم على فهم عميق للممارسات الاجتماعية وأساسها الديني والقانوني. لا تدعي عائشة أنها تقدم رؤية شرعية متخصصة في ذلك المجـال، ولكن الشيخ يدينهـا لأنها غير قادرة على ذلك ويستعمل ذلك سلاحًا لإسكاتها وترهيب أي شخص غير متخصص من التعرض لهذه المهمة.

ثالثًا، يتهم الشيخ الكاتبة بأنها أرادت أن تنصر سربها فكذبت ربها” (ص: ٨٩). وفي الوقت نفسه، لا يقر الشيخ أن ظروف تجنيده للرد عليها من قبل رجـال آخـرين، ووجـهـة نظره التي تعكس آراء الفحول من العلماءتعكس محاباة ذكورية واضحة. هو مثلاً: يرى أن قـوامـة الـرجـال مطلقـة وغـيـر مـشـروطة رغم أن الآية الكريمة تعكس تمييزًا دقيقًا لهذا المفهوم. حين يقول بأن الإنفاق ليس حقًا من حقوق الزوجات بصفة عامة (ص: ٧٨). وأن النفقة لا تعتبر دينًا إلا بالقـضـاء والرضا (ص: 85). يقـدم الشيخ رؤية ذكورية محافظة لا تتفق مع تفسير المحاكم الشرعية لحقوق المرأة.

للأسف الشديد رغم كل المشاكل الموجودة في رد الشيخ على عائشة تيمور، فلقد نجح الشيخ في إسكاتها فلم ترد عائشة على كتيبه. مع ذلك، تبقى مرآة التأمل في الأمورمحاولة رائدة من كاتبة معروفة لإشراك المرأة في تحليل ومناقشة مشاكل مجتمعها وتفسير وفهم الآيات القرآنية التي تمس حـقـوقـهـا في الأسرة. أخيرًا، لابد لنا أن نعتبـر الجدل الذي أثاره كتيب عائشة تيمور بداية لظهـور خطاب مـتـمـيـز للمـرأة عن المرأة يناقش المفـهـوم الإسلامي لحـقـوقـهـا وحـقـوق الرجل. إن هذا الخطاب يقـدم المرأة بوصفها إنسانة فاعلة: تتحدى زوجها غير المسئول حماية لأسرتها وتأخذ حقوقًا جديدة لنفسها في ظروف صعبة، وتفسر الآيات القـرآنيـة بحيث تكون تجـارب النساء ذات شـرعيـة في الرسالة الإسلامية وبدون محاباة لأي نوع.

كل ذلك يجعل من مـرآة التأمل في الأمـورنقطة جـديدة لبداية تاريخ المرأة الحديث وخاصة أنها تسبق كتاب قاسم أمين تحرير المرأةبسبع سنوات كاملة. عن طريق هذه الكاتبة وخطابها المتميز يمكن للمرأة المصرية أن تخرج من العباءة الذكورية والتي تأبى إلا أن تذكـرنـا بـعـدم وجـود نقطة بداية نسـائـيـة تحقق لنا استقلالية الرؤية والخطاب.

د. میرفت حاتم

أستاذة العلوم السياسية، جامعة هاوارد، واشنطن

 

(1) خير الدين الزركلي، الأعلام: قاموس التراجم، المجلد 4 (بيروت: دار العلم للملايين، ۱۹۷۳) ص١٤٣.

(2) Joseph T. Zeidan, Arab Women Novelists, the Formative Years and Beyond (New York: State University f New York Press), p. 62; Sabry Hafez, The Genesis of Arab Narrative, London: Al Saqi books, 1993, p. 131.

(۳) عـائشـة تـيـمـور مـرآة التأمل في الأمـور” (القاهرة : مطبعة المحروسة، ۱۸۹۲)

(4) الشيخ عبد الله الفيومي، لسان الجمهور على مرآة التأمل في الأمور (القاهرة: مطبعة النيل، ۱۸۹۲).

(5) Judith E. Tucker, Women in Nineteenth-Century Egypt (Cam- bridge: Cambridge University Press, 1985), chapter1; Amira El Azhary Sombel, “Introduction”, in Women, the Family and Divorce Laws in Islamic History (Syracuse: Syracuse University Press. 1996).

مرآة التأمل في الأمور

لذي العصمة والعفاف عائشة عصمت هانم

كريمة المرحوم إسماعيل باشا تيمور

بسم الله الرحمن الرحيم

الحـمـد لله الذي أضاءَ سبل الهدى بسـراج العـقـول. وصـيـر مواهب الرشد والإدراك أرفع مشهود وامتع معقول. ومهد بساط العرفان بتدبير همم الفحول. وجعل منحة الإذعان أوثق دليل إلى مناهج الوصـول. حـتى لمعت بـوارق هذا الفضل المشكور بأداء كل إنسـان من إناث وذكور. فكم من ليـالٍ طوتها عنى أيادي الفكر. وسلبتها منى أكف التأمل بين أرق وسـهـر. وكم أيام أرتني مـرآت الوقت بها عبر. غريبة إشكال وأشكال لمن اعتبر. وأنا بين جدران الخـدر كقطاة سجنها المطر. وعـاقـهـا عن الانسياب برق يخطف البـصـر. أسـرح أحـداق الحيـرة يمينًا وشـمـالاً. لعلى أرى لسـمـاءَ الصفو هلالاً. ولعقد الأزمة انحلالاً. ولسان الحال يقول لا لا:

حقًا لعين الهدى أن لا ترى وسنا…..إذا رأى الوقت ما لا يحسن حسنا

فرفعت الطباق. لمن رفع الطباق. وأوجد العدل في الإنصاف والإشفاق. فناداني زعيم الجسارة. هلمي إلى مقصورة السلامة. ولا تحـذري الانتقاد والملامـة. وعليكي بإيضاح الدعوى من أولى الهمم والشهامة. قلت يا لها من خير علامة. أموجود هو يا عراف اليمامة. قال نعم. قال عليه الصلاة والسلام الخير فيَّ وفي أمتى إلى يوم القيامة. وهو علامة هاشمى متفقه معنوي. قد فرض على نفسه إجابة الداعي. والقيام بحسن المساعي. وكـأنني أراه بالباب. ولا حرج على منن الوهاب. فقلت أهـلاً بسارية الصبا. وواسطة عقد الحبا. لا غرو في جرأتي عليك بقولي. إن لم تكن لي في الخلق فـمـن لي. قف أيهـا العـلامـة بإزاء الـسـتـور. وانظر بحاسة السمع إلى هذا الرقيم المسطور. لو لم تكن عـلامـة تعي معنى هذا الاسم وتفـقـه هـذا الوسم. وتعي وجـه الدلالة عليه. وتدرك حـد الوقاية وتؤدي حق الرعاية إليـه. مـا خصصت بهـذا اللقب الفـخـيم. وتقلدت بذاك النعت الكريم. فـبـحـق مـن تـوجك بجوهر الفضل الذي تعلقت بأشـعـتـه عليـات الهـمم. وتمسكت بأسبابه نقيات الذمم.

إن لي مدة مديدة أجوب صعيد الأفكار. وأجول في جزر تلك القفار. واللهف يحثني شديد الحث. على التدقيق في البحث. عن طبيب يواسي الجراح بمرهم شفاء. ولبيب يشخص أسباب الداء. فتهدأ الآلام ببنات شفاه. فواأسفاه غش البصيرة ما غش فغميت عليها الأنباء. وتراكمت عليها الظلماء. حتى توارت بتلك الحجب طرق السلامة. وانطمست معالم الاستقامة. فخذ بيدي لا أراك الله ضيرًا. وجزاك عني خيرًا.

لعلى استظل بوادٍ طاب غراسًا. وزكي أنفاسًا. ونمي بالإصلاح أغصانًا. وأورق بالفلاح أفنانًا. كشف النقـا عن سـاق أشـجـاره. وحلت مـذاقًا حـلاوة أثمـاره. يميل لنضارته كل غـريب وقـريب.

ويعشق بهجة منظره كل غبي وأريب. لا سيما من كانت هيولاه من تلك البقعة البهية. الصفية النقية. فله أضعاف الشرف والافتخار. بنشر نفحات تلك الأزهار.

وهـا قـد مـددت إليـك سـاعـدًا أرجـفـه السـقـام. ويدًا قـصـرت بالضعف عن جذب الزمام. ناظرًا بإنسان العين إلى خيمة الظلام. المضروبة على سبل المرام. فاكشف بهمتك غاشية المغمي. واهدني إلى طرق الرشاد فإن الاسم ما دل على مسمى.

جمحت رکائب دهشتي في قفرها …………وإليك قد سلمت أمر زمامها

قد أراني من لا تراه العـيـون. وأمـره بين الكاف والنون. سـبل الهدى والصواب. فـيـمـا أمـرنـا بـتـلاوته من آيات الكتاب. فبين بصريح المقال. حقوق الرجال على النساء والنساء على الرجال. فقال الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم. فالرجل يقوم بأمر الزوجة مجتهدًا في حفظها وصيانتها وأداء كل ما تحتاج إليه. ثم إن الحق لم يكتف بالحكم حتى بين السبب بقوله بما فضل الله. يعني بأمور لها وفرة في العقل والدين. ولذا جعل لهم الولاية والإمـامـة وجـعـل فـيـهم الخلفاء والأئمـة. وميزهم الشهادة بين الأمة. فـقـال في آية أخـرى فـإن لم يكونا رجلين فـرجل فرجل وامـرأتان ممن ترضون من الشهداء إن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى“. وما ذلك إلا لتأكيد فضلهم ووثاقة عدلهم. وبقوله عز وجل وبما أنفقوا من أمـوالهمأي في المهـر والمطعم والمشرب والمسكن والكسوة على حسب حال الأزواج والزوجات. كما نبه عليه في آية أخرى منها قوله تعالى وعلى المولود له زرقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعهاأي على الوالدات.

وكما وجب ذلك بالنص وجب بالإجماع. فمن الغريب العجيب أن معشر الفتيان في هذا الزمان. أعرضوا عن تلاوة هذه الآيات فضلاً عن تدبـر مـعـانـيـهـا. ولم يعـبـئـوا بشيء من ظاهرها ولا خافيها. حتى محيت من مدركتهم حقائق الأمور. وشد الجهل بصائرهم بعصابة الغرور. فغرهم بالله الغرور. حتى إن كل إنسان هم بالاقـتـران من وضيع ورفيع وخامل ونبـيـه كان كل بحثه عن الحلي والحلل والضياع والعـقـار. لا عن النسب والتـدين والعـفـة والوقار.. فأقول:

أمور تضحك السفهاء منها ……….. ويبكي من عواقبها الحكيم

فلا شك أن هذا النسق مستهل الخيبة التي تذرف الصبيب من المحـاجـر. والغسق الذي تضل بكالح غـمـتـه أولوا الـبـصـائر. وهو الأصل الذي يحط بشـرف الأمم. ويحبط بل يهدم مباني الهمم. تمتد فروعه إلى كهوف الوبال. وتنتهي بحدود الويل والضلال.. واستغفر الله أن يعم قولي رجال الرفعة والقوة. وأسود محافل الفتوة والمروة. وقد قال أسد الله الغالب. على بن أبي طالب:

وفي الناس دينار وفي الناس درهم…….وفي الناس أقمار وفي الناس أنجم

إنما أعنى بمقالتي الذين جعلوا الكلال طرفة. والطيش خفة. والسلب تحـفـة. والجبن أهنى حـرفـة. ويدعون بالصورة الظاهرة أنهم رجال. فهلا أقول فيهم وربما ينفع المقال: لا فخر في اسم به صدق الندا وعوامل الأفعال منه تكذب

بل وحقي أن أقول:

ما الفخر إلا في امرء بيمينه………سيف القوى ويفرقه تاج الهمم

وإذا كان الظاهر عنوان البـاطن. ومـا في الجنان يظهـر من فلتات اللسان. قد اتضح من حالهم. وظهر من مقالهم. ما أكنته الأفـئـدة وأضـمـرته النفـوس. مـن أن رغـبـة هؤلاء الفـتـيـان. من الاقتـران. ليست للصيانة والديانة. ولا لطهارة العصمة. وطيب العفة. بل لطمع المقال. وحيازة الأموال، والتصرف فيما تمتلكه ربات الحجال. ابتغاء مرضاة نفس دنية. وذمة ردية. حتى إذا صار له الولاء. على تلك الزوجة المطيعة. رفيعة كانت أم وضيعة. تمنع كيف شاء. وأراح أفكاره من الإتعاب. وألقى عن عـاتقـه حـمـول الأوصاب. وقعد مستغنيًا عن الجهد في الاكتساب. وسلم الزمام للهوى. وانقاد لأمره وغوى. واتكأ على آرائك الغرور. وليس بزعمه خلع السرور. فينطلق إلى الخان. ومحافل الإخوان. بتلك الثروة المستعارة. وما يدرى بأنه واقع في حبائل الخسارة. فتحتاط به أقرانه. وتستدير به خلانه. ويقوم جيش المداهنين بين يديه. ومن المعلوم أن شبه الشيء منجذب إليه.

فـتـارة يبتهج بجث الأوتار وضـرب الآلات. وتارة يطرح أدوات المغامرات. والنشاط يسمو ويزهو. والندمان بالأقداح تمرح وتلهو. وخـيـال الذهـول يقـول: هيـمـوا أيهـا المفـرطون. وارتـعـوا أيهـا الجاهلون. ولسان الحال ينعيهم بقوله أيها الغافلون. أفمن هذا الحديث تعجبون وتضحكون. ولا تبكون وأنتم سامدون.. ثم يرجع كل منهم إلى الدار. كأنه ديَّار وهو لايعي ما يقول. ولا يدرى كيف يتخبط ويصـول وعلى هذا الحال يمسى ويصـبـح مـلازمًا أفعال النقص والاعتلال. والضيم والوبال. حتى إذا نفذ من يده الدينار والدرهم. وغاب الصديق وحضر الويل والهم. وتكاثر الوهم. وقد فر الرشـد عنه وضاع الفكر منه. فتقابله الزوجة بأشد النفور. وتقوم بالخدمة لكن بقلب مكسور. كيف لا وقد خلت مدركته عن التدبير. وجد الكف في التبذير. والبيت لا يقبل في النفقة أعذار. وحالة العسر تأبى الاستتار.

فتقوم الزوجة بإدارة خدرها. وتقاوم هذا العناء بصبرها. ومن ثم انتقلت السلطة إلى الزوجـات. وصــرن ربات التـدبـيـر وآل النفقات. وتخلت الرجال عما لهم من الزعامة التي كانت أوجبت لهم الهيبة والوقار. وتلثمت شهامتهم ببراقع الأدبار. من الجبن والخجل. ووافقهم هذا المثل. وهو أن أسـدًا تكاسل عن الصيد. وغله الجبن بالقيد. فأمر اللبؤة أن تنوب عنه وتأتى بالفريسة بدلاً منه. فانقادت لأمره. وسارت على ما عهدته من سيره. واستمرت مدة على هذا الحال. فلما طال الـشـرح عليـهـا صـارت تصطاد وتأكل مـا اشـتهت من أطايب اللحوم ولذيذ الأكـبـاد. وتلقى إلـيـه بالمشاش من فضلات ما بقى. فاشتاط الأسد غيظًا. ورأى أن ذلك إهانة لوقاره ومجلبة لعاره. فقال لها خزيت يا لكاع. كيف تأتيني بسقط المتاع. وتجسرين على أكل المطايب قبلي. وتخفضين رفعتی وتنسين فضلي. إن كـان غلب الشـره عليك واسـتـحـيت أن تأكلي بحضرتي. فاعد لي أطايب الطعام. وقدميها إلى أولاً كما جرت به العادة في سالف الأيام. فضحكت اللبؤة منه وقـالـت قـد أخطأ وهمك. وغلط فهمك. إني لما أنس فضلك. ولم أجهل قدرك. ولكن كان ذلك من كنت أنت أنت وأنا أنا. وأما الآن فقد انعكس الحال وصـرت أنا أنت وأنت أنا. فلك على ما كان لي عليك. ولى عليك ما كان لك على. فأفحم الأسد ورجع على نفسه باللوم رجوعًا. وآلى على نفسه أن لا يستعين بها على الصيد ولو مات جوعًا. فهلا أعض بنان نادم بأضراس آسف. وأكب بناصية ذل فـوق كف حسرة بدمع واكف. على رجال فضلهم العزيز الحميد في تنزيله المجيد. بآيات بينات ولآلٍ نيرات. فقال وللرجال عليهن درجة أي منزلة ورفعة. وأباح لهم التزوج بأربعة. وأوسع لهم في التسرى ما شاؤا غاية السعة. وجعل أمر العصمة بأيديهم عقدًا وحلاً.

فيا أيها الرجال إن تعدوا نعمة الله لا تحصوها. فلم لا تعوها. فكيف بفئة تتوجت بهذه اللآلئ. وأضاءت مفارقها بثنا هذا الولاء لا تعي سـر هـذا الأمر الجليل. ولا تفي بالشكر على نضارة هذا الجميل.

قد أقر لسان الناطقين. بأن النساء حبائل الشياطين. فخصت النساء بهذا النعت الوخيم. وعرفن بذلك اللقب الذميم. فالمعول في تهذيبهن على أولى الفـضل. وفي تأديبهن على ذوى الهـمـة والعدل. فالزوجة منقادة لأوامر الزوج ومناهيه. لأنها لا ترفل فيما يرضيها من حلى وحلل وغيرها إلا بهم مساعيه. وقد دل قوله تعالى ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف. أي أن للنساء على الأزواج حـقـوقـًا يلزم حفظها ويجب مـراعـاتهـا من حسن العـشـرة وأداء الخـدمـة وترك الأضرار. وأن حق الزوجـيـة لا يتم إلا إذا كان كل واحد منهما يرعى للآخر فيما له وعليه. فيجب على الزوج أن يقـوم بكل حقوقها ومصالحها. كما يجب عليها طاعته والانقياد لأمره. فإذا انقلب الموضـوع. وخفض بالعكس المرفوع. وصـار لها عليه الولاء. كيف لا تلقى وشاح الخدر وترمى برقع الحياء.

فإن كانت من خبايا المخدرات المصونات الصابرات وارت بإزار الصـبـر كلمـا تلقـاه. وأغـمـضت بعين عفتها عن كل قبيح تراه. وتوشحت بالحيل على تجلد الكتـمـان. ودفنت هذا الويل بجـدث قلبها الحزين الولهان. ولم ترض صيانتها بإعلان نجوى الخزلان. حذرًا من شماتة الأعداء وقهر الآل والإخوان. وتجتهد في إطفاء هذا اللهيب. بمدافق الصبيب. وهو لا يزيد إلا ضرامًا. ولا يقل فم الجفن بلسان الدمع يا نار كوني بردًا وسلامًا. فإن لم تبلغ الأمل. وصادف قصر الأجل. تسعرت جذوة الحسرات وأحرقت حديقة الحـيـوات. فتتيبس أغـصـانهـا. وتحـتـرق أفنانهـا. وانقلب الظل بالحرور. وبدلت القصور بالقبور. فتيتمت عيالها. ونعاها بالصيب آلهـا. والزوج لا يرثى ليتم الأطفال. ولا يكترث بنحيب الأقارب والآل. بل يأخـذ من الميراث مـا لقى وأبقى. ويجعله صـداقـًا لمن يلقيها في أكفه الشقا.

وإن كانت سليطة اللسان. ضعيفة الجنان. فلا يسعها إلا المبادرة باللوم والمشاجرة. وعلت بينهما الضوضاء. صباحًا ومساء. فيسمع البعيد والقريب. ويفهم العدو والحبيب. وانقلب الامتثال والطاعـة بالـغـرور. وتبدلت ألفة الأنس بالنفـور. فـلا طـاقـة له حينئذ على التأديب. ولا جراءة عنده على التهذيب. لأنه إن هم بشهامة رجـوليـة. وأظهر أبهته الأصلية. وشدد في الزجر ونهض للعقاب. انقطع حبل الاتصال وطلب الحساب. فطال سحبه عند الحكام. ودارت عليه الأحكام. وثبتت عليـه الحـقـوق. وهو صـفـر الكفين خال الصندوق. ولأولى البصيرة نظر في مـسـتـقـبـل هذا الحال. وتبصر فيما يؤول إليه من الاضمحلال.

هنالك لا يسعه إلا السكوت عن الجواب. والاستعانة بالمداهنة التي يراها عين الصواب. فيرضى بكل ما يلقاه. ويغض الطرف عن كل متسقبح يراه. ويستعين ببعده عن الدار فيقضى النهار في الحوانيت والخانات. والليل بالحدائق والحانات. فيسمع الآلات. ويشـاهـد رقص البنات. وإذا أتى المنزل نام في الحـال. خـوف المرافـعـة في القيل والقـال. وإذا انـتـبـه أسـرع بالفرار. واتخـذ البورصة قرارًا وبئس القرار.

فأجبني أيها العلامة بعزة فضلك. وعين عدلك. كيف تستقيم الزوجـات وهي تكظم الغيظ مع الـزفـرات. وأنـي لهـن السكوت والصـبـر. وهن بين هـجـر وهـجـر. ونضـارة عنفـوان الشباب تلمع بنواصهن. وطراوة صبا الصبا تلعب بذوائبهن. وحسرة ضياع ما لهن تومض بصدورهن. وجمرة طول الهجر تستعر بأفئدتهن. فلا غرو أن يكن هذا الحال مجلبة لكل أسف. ومقذفة لكل عار وتلف. طبعًا ترى كل منهن قصرها العالي سجنًا غيـر مـحـدد. ونطع ظلمها بسيف العدوان مقلد. فيجبرها الضجر على الخروج إلى بيت الجيران فتشكو بثها وحزنها. وتنفس عن قلبها وتستجير من عذابها وكربها. فتبادرها السيدات المصونات. بحسن العبارات. ويضـربن لها الأمثال في نتائج الصبـر. وحسن عواقب السكوت ونيل الأجر. ويهونن ما هي فيه. وما تلقاه وتقاسيه. يسكن برهة جأشها ويزهو ساعة انتعاشها. بقول تلك العفيفات (وقليل ما هم) فتجد في ذلك الراحة. وتجـبـر لكثرة الخروج للزيارات في تلك الساحة. ومن المعلوم أن ليس كل غصن يميله الصبا. ولا كل واد تسكنه الظبا. حيث لا يخفى على السامعين حالة البيوت الآن فإنها كانت قبل وجود الحرية للرقيق محافظ الدرر. وأدراج الغرر. وبعـدهـا صـارت مـخـازن الآلات ومـخـابئ الويلات. لا تخلو من الدخول فيها والخروج منها خصوصًا دور الأكابر والأعيان. التي كانت لا تدخل إلا باستئذان. وقـد كـانت الأسافل لا تدوس لهـا بساط. والفجار لا ترى منها سم الخياط. وكانت القصور خزائن الأسـرار. والـغـرف مـقـاعـد الأبرار. والجـوار يـقـمن بالخـدمـة لسيداتهن جلالاً وطاعة. وامـتـثـالاً خـوفـًا مـن المقـابلـة بسـوء المعاملة.

ولما فتحت أبواب الحرية ظهرت مخبآت أخلاق تلك الطائفة الوحشية. فأبقن إلى ذرائب البوظة للرقص مع العبيد. لا يرغبن في وعد ولا يرهبن من وعيد. فخلت منهن المنازل. وتخلت عنهن المحافل. فاحتاجت السادات إلى البدل وإن كان من الرعاع. ليقوم مقـام المبدل منه في خدمة البيت وحفظ المتاع. فـأدى الأخطار وشـديـد الأعـذار إلى اسـتـخـدام من لا خـلاق لهن ولا أخـلاق. فانصرم حبل الأصول. من كثرة الخروج والدخول. وصارت الدور المصونة. وما بها من الدرر المكنونة. ملعبة لأيديهن. مرآة لأعينهن. فربما رأت إحداهن تلك المصونة وهي تشكو ما هي فيه. وتبث ما تلقاه وتقاسيه. فتتقدم إليها بالغواء والخيانة. وتريها بالمداهنة كل حنانة. وتوسع لعن ذاك الزوج وسبه. وتعلن شئمه وصخبه.

وربما كان من بيت المجد والكرم. يأنف أن تكون مثلهـا بأبوابه من الخدم. لكن لا حرج على ألسنة الأسافل. ولا الحياء من خلق الأراذل. إنما أقول الجـزاء من جنس العمل. هو الذي جعل شرفه جذاذًا. ونفسه عرضة لهذا. والحاصل أن تلك الزمـرة الوقيحة الدنية. تجذب بأذمة مكرها وخبثها هاتيك التقية النقية. وتسلبها بأقاويل المداهنات. محفوفة بالفكاهات. فتصفى بسمع جهلها إليـهـا. ويعـتـمـد ذهنهـا الطائش عليـهـا. فـيـبـادرن بقـولهـن عـلام تحبسين نفسك في هذا المنزل ألكي ثلاث أرواح إنما هي روح واحدة أتصبرين على هذا الضيم والهجر وأنت فريدة في الجمال. بهـيـة المنظـر رقـيـقـة الدلال. جل من أنشـاكي. منيـة لمن يراكي. أخرجي إلى الحدائق والبـسـاتـين. واسـتنـشـقـي عـرف الأزهار والرياحين. وتنزهي بمناظر الأسواق. وادخلي الحوانيت والمغازات. لترى ما لم تريه من تحف البضاعات. فتقول أخشى أن يراني من يعرفني فأكون عرضة للملام. واتسم بسمة اللئام. فيقلن لها كيف ذلك ونحن لديك. أشفق عليك من والديك. ألم ترى حرم الأمير فلان. ألم تعرفي ابنة الأمير فلان. كانا قد أشرفا على الهلاك من حبسهن في المنازل وسوء أفعال أزواجهن. غثناهن بشفقتنا حتى صارا يتنزهن ويتفسحن كما يرغبن بدلالتنا. فغدون كالبدور الزاهيات ولم يتجاسر أحد أن يتفوه في حقهن بأدنى كلمة لأنا نعرف ما لا يحصى ولا يعد. من النفاثات في العقد. فيعقدون ألسنة الكبير والصغير والغني والحقير. والمراد أن يسلبوا ما بقى من الحلي واللباس. لتمام حالة الإفلاس. والحـال أن المصـونات الذين يرمونهن بالبهتان لم يكن أبصـرهن ولا يعـرفـوهـن. فتشكر تلك المسكينة فضل تلك الفـواجـر المسـؤولات. وتخـرج كـمـا أردن وتمتثل لما بـه أشـرن. فيستلمن تلك الخـبـيـة. وهي من كل عيب خلية. وقد غلبها الخجل والحياء. وتمشى بينهن على استحياء. وهن يسحبنها ويغررنها حتى تتعود وتتقوى. وتغلب غفلة الجهل على التقوى. ولكم يا أولى الأبصار نظر في مستقبل هذا الحال.

فيرى هذا الزوج المأفون كيفية هذا الحال. ويشاهد التغير والانتقال. فتأخذه الغيرة الغريزية (وماذا يصنع) فتتقطع ورايد صبره. وتنحل عرى جلده. ويقوم بالتهديد والتكدير. فلا يجد هذا الأعزل ما يبطش به عار عن الشهامة. برئ عن الشرف والفخامة. فبأي جارحة يقطع حبل ابتذالها. وبأي قوة يفصل وصل اعتدالها. فلم يجد غير قوله كيف تقدرين على هذه الأفعال. وبأي جسارة تقدمين على هذا الضلال. أتحتقرين حرمتي. وتحبطين مقامی ورفعتي. ألم تدر ابن من أنا ألم تسـمـعي بسطوة أبي وجـدي. ألم تعرفى بيت أبهتي ومجدي. وهو الغافل عن قولي:

إن الفتوة قوة ومهابة………. ليست بقول المرء كان الوالد

وقد طابق هذا السير هذا المثل.

خرجت حمامة من وكرها إلى عين ماء بجانبه. فلقاها بالباب صقر وغراب. فأعجب الصقر نضارة تلك البقعة ووفرة أثمارها. وكثرة أزهارها وعذوبة مائها. فتقرب من الحمامة وسألها لمن هذه الأرض. وهذا النبات الغض. قالت هي لي توارثتها عن آبائی. فقال لها هل لك أن تتزوجين بي وأشاركك في هذه النعم. ففرحت الحـمـامـة بشـرفـه. واسـتـغـربت تنازله إلى اقـتـرانـهـا. فـأجـابتـه بالـبـشـاشـة نعم. لكنى أشـاور أمي فأتني في الغد. ثم طار إلى سبيله فتقدم الغراب وقال لها أترضين باقتراني لتكوني معي في بقعتي. وتنعمي بأنعم همتي. ولتـبـاهـي بمجـالـب سـعـى وقـوتي. فقالت وهي معرضة عنه مظهرة للنفور منه. أجاوبك بعد غد قال وعزة أبيك لا تنظري إلى صورتي واصغي لسماع سيرتي. واعلمي أنك ستفخرين على أقرانك برفعتي وحسن إدارتي. ثم طار أيضًا إلى سبيله. فأتت هي إلى الوكر فلقيتها أمها فأخبرتها ووضحت لديها ما سمعت. فتبسمت الأم وقالت لها أراك تذكرين الصقر بالبشاشة والغراب بالإعراض. أغرك رفعة جنسه وحسـن عيـونه وشهامة اسمه وعلو صيته. وما الفائدة في اسم على غير مسمى. الويل لك يا جاهلة تأملي واعقلى. لو لم يكن هذا الصقر أحمقًا جهولاً عديم الهمة ما قدم إلى هذا الخذلان. ورضى بالجبن وأكل أنعم النسوان. فأرى الصواب والأمر المستطاب والقول المجاب. هو ما قاله الغراب وقد غاب عنك يا هفية ما قالته التيمورية:

المجد ينشأ بيتًا لا جدار له………..والجبن يهدم ما أنشته آباء

وقولها:

كم من وضيع غدت ترفعه همته…….حتى سما فوق من قد كان يسموه

فتلقت الابنة القول بالترحاب. واقترنت بالغراب. وعاشت معه عيشة هنية وتمتعت بنعم أخلاقه المرضية.

فأجبني أيهـا العـلامـة مـا الفائدة بـافـتـخـار المرء بنسبه. ومـا النتيجة في التفاضل الوهمي بحسبه. إذا كانت الأفعال تناقض الأقوال. وما العائد على تلك المظلومة من بيت مجد السلف. إذا هدم علاه بخيبة الخلف. وصار ذلك المشيد عرضة للتلف. فهل ينوبها إلا الأسف على ضياع الشرف.

فاعذروا أيها المتأملون. واعقلوا ولا تبسطوا ألسنة اللوم إذا رأيتم كـواكب الكواعب. رضيت بانحـدارهـا عن الأبراج. وتنازلت إلى غير كفئها وجنسهـا مـن الأزواج. حيث إن كلا من ذوى الأنساب. وعاليات الأبواب. صار بالكيفية المتقدمة عن كل شريف ساه ولاه. وأضاع دينه ودنياه. فكيف الرضا باقـتـرانهم. والرغبة في انتسابهم. وكيف لا تميل المدركون عنهم بكل ملل. وقد طابقهم هذا المثل.

اتفق أن فارسين خرجا إلى ضيعة لهما فاشتد عليهما الهجير وأخذ بهما العطش. فرأيا شجرة عظيمة الساق سانحة الأغصان. وريقة الأفنان. ففرحا بها وقصداها يستظلان بها. فقدما عليها وكانت الأرض مـزبدة بالـري. فـهـزها الريح فـسـقطت منهـا ثـمـرة وكانت شجرة السفرجل. فقال أحدهما للآخر نحتال بالسهم في جلب تلك الثمرة البهية حتى نصل إليها فتدرأ عنا حرارة الأوصال ببرودتها، وتدفع مرارة الأفواه بـحـلاوتهـا. فـقـال الثاني أخي لا يغرك عظم الساق ورفعة الأغصان. فما كل الأثمار تفيد نقاوة الأشـجـار. وهذه الثـمـرة مـقـطـوعـة النفع لأن باطنهـا مـسـوس وظاهرها ملوث. لو كان فيها الخير ما عافها الطيـر. ولا لعب الهوى ورمـاهـا من شاهق عال. إلى هذه الأوحال. فإن لم تصدق فدونك والسهم والاحتيال. فاحتال الطالب حتى جلبها. فإذا هي كما قال. فاستغفر الله أن أكون مـدعـيـة بالفـضـول. متطفلة بالدخول على محافل الفحول. وأنا أدرى بحيثيتي النسائية وأعلم تهـافـت قـدرتي في هذا الميدان. ولا أنكر انزوائي بين الجـدران. وأقـر بضـعـفـي الـذي هو ثابت للعـيـان. لكنـى جـريت في سـبل الأخطار. وقرعت باب التذكار. وقـادني بالعنف بلبال هذا الأمر الوخيم. وحرضني الأسف الملم المليم. فجئت أمشى على استحياء. متوكأة على عصا الرجاء. التمس إنقاذ عصبتي من أخدود الملام. ونجدة زمرتي من قذف ألسنة الخاص والعام. وتدراكها بالوقاية في أكناف الصـيـانة. وإظلالهـا بظل الإعـانة والعناية. وذلك بالتفات أولي العزم. وتوجهات ذوى البصيرة والحزم. هذا وإني لا أشك في نجدة الالتفات والاقتباس من أنوار التوجهات. حيث إن مرآة العصر مجلوة غاية الجـلا. وبدوره نيرة في أفق العلا. وقد تقلدت بالمهابة رجـاله. وتمنطقت بالعناية أبطاله. رفـعـوا بأيادي العـدل رايات الفنون. وبسطوا بسـواعـد الفضل سجلات الأماني للعيون. فنب عنى أيها العزيز في كل محفل أضاء بهاتيك الأنوار. ولمعت به تلك الأسرار وقل عنى:

أيها السادة الأخيار والنبلاء الأبرار الحمد لله الذي منَّ وأنعم. وعلم الإنسان ما لم يعلم. وجعل الدين القيم من أشرف النعم. وأنار سبل الآمال بمصابيح الهمم. ومهد طرق الاستقامة بنضارة الذمم. قد تمسكت بمكارمكم المنيفة. وتشبثت بحسن توجهاتكم الشريفة. أن لا تنبذوا خطاب هذه الضعيفة ولا تعيسوه بأقوال النساء السخيفة. فلا تلتفتوا إلى من قال وانظروا إلى ما قال:

دويبة صحراء تئن وإنما……….. يقر بفضل النحل من ذاق شهده

والحق أنتم أحق بالغيرة على معشركم منى. وأقدر بل وأجدر بالحمية على صواحبكم عنى. وقد أوسع الله لكم ميادين الهمة والقوة. ومهـد لكم مهايع الأبهة والمروة. وقلدكم بألسنة البلاغة. ومنطقكم بمناطق الإفصاح والـبـراعـة. فـحـاشـا أن تـسـهـو عن الإصلاح مساعيكم. وهمتكم تحقق قول هذه الضعيفة فيكم:

لهم همة غرا تغار من الصبا………….. رجال بأبواب المهابة رصد

وقلت أيضًا:

إن الرجال أسود عزت رفعـة…………..تسطو على روض العلا وتصول

لهم النضير بكل غصن مثمر………….. وسواعد للساميات تطـول

حازوا المكارم تحت عزة فضلهم……وشهودهم بين الأنام عقـــــــول

فلكم اليد الطولى في جذب من غسله الملال. وشـد جوارحه الكسل بكلال. حتى ألقاه الضـلال. في إخـدود الحيف والوبال. وأقصى التماسي أيدكم الله. أن لا تبخلوا ببذل نقود النصح على المحتاجين. وأن تتصدقوا بدنانير الوعظ على المفتقرين. فأراكم أجدر بالتفتيش فيما بسطته. والبحث فيما وضحته من الأقوال. وأفكاركم أحد من أن تحـرض على النظر في عـواقب الأحـوال. والأخذ بيد كل كفيف عن أفواه الحفر. مفروض على كل ذي بصر. فهذا هو العـصـر الذي تكحلت بالفـجـر آمـاقـه. وامتلأت بالنور أحداقه. وذاك بسنا ضياء مصباحه الأفخم. وبارقة مشكاة نيره الأعظم. جـوهـر خزائن الفخار النقية. وذخر كنز الدولة البهية. وآيات عدل العناية التوفيقية. وآلاء منح المواهب السبحانية. شبل الأسود شـامـة أعلام الجدود. ورب المهابة والسـعـود. ونور سرور عين الوجود. الخديوى المعظم العالي. عباسنا الثاني ضوء المعالى. أيد الله دولة عصره. وأبد بالعلا أعلام سعده ونصـره. ما لاح نجم بالسبع الطباق. وبزغت الشمس بالآفـاق. بحـرمـة سـيـد المرسلين. وإمام المتقين.

لسان الجمهور على مرآة التأمل في الأمور

تأليف

الشيخ عبد الله الفيومي

بسم الله الرحمن الرحيم

ان أبهى مـا تتـبـاهـي ببراعـة عـبارته الأدبا. وأزهى مـا تزدهی بزاهی زهـرانه الفـضـلا. وأحلى مـا تتحلى بحلاه أبكار الأفكار. وأنفس ما تتنافس في رشف رحيقه النفوس في نسمات الأزهار. وأجدر ما تتزين بدر قلائده نحور الأسفار وأحقه.

حمدًا لله الذي أحسن كل شيء خلقه. وبدأ خلق الإنسان من طين. ثم جعل نسله من سلالة من مـاء مـهين. وأسبغ عليـه من جـلائل الآلاء مـا لا يحصى. وأوضح له من دلائل الآيات مـا لا يستقصى. وأعذب منهل ترتوى بسلسبيل زلاله الأكباد. الصلاة والسلام على عقل العقول ومصدر الإيجاد. جوهر الجواهر وفلك الحكم المحيط بالكون ومـا حـواه. القـائل حبب إلى من دنياكم ثلاث: النساء والطيب وجعلت قرة عيني في الصلاة. المنزل عليه من الحكم القرآنية ما به نظام العمران وصلاح الأمة (ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة) وعلى آله وأصحابه الذين نشروا ما انطوى عليه غريب بلاغته. وبليغ إشارته. واعتصموا بحبل الله جميعًا في المسابرة والمحافظة على أحكام أحكامه وشرعة شريعته. ورفعوا على أعلام الهداية علائم الحجة. وأناروا على منابر الرشـاد دلائل المحبة. وبلغوا عن أسرار سنته ما يقيم عمارية الوجـود ويحكم نظامه. كحديث التناسل المكاثر به الأمم يوم القيامة.

هذا وقد جمعتنى روضة من رياض المحافل. آهلة بأهلة الأدب في سماء الفضائل. وبعد أن تجاذبنا أطراف الحديث. فيما جل ودق من القديم والحديث. وأخذ كل منا للوداع طريقًا. واستصحب في طريقه رفيقًا. استصفاني من بينهم صادق صـفى. وقال إنى لك مسامر نجي. أحدثك اليوم حديثًا عجبًا. وأخذ طريقه في بحر المسامرة سربًا. وقال لقد اطلعت على رسالة غراء. وروضة في الأدب زاهيـة زهراء. تسمى مرآة التأمل في الأمـور. للسيدة عائشة عصمت كريمة المرحوم إسماعيل باشا تيمور. من سارت بسيرتها في الأدب الركبان. وضربت ببديع يديها في النظم والنثر الأمثال:

فلو كان النساء كمثـل هذي……. لفضلت النساء على الرجال

فما التأنيث لاسم الشمس عيب……. ولا التذكير فخر للهـلال

وأين ولادة ومـن حـاكـاها من الحرائر المخدرات اللاتي برزت غرة في جبهة الآداب. وسـمـون على أرباب الحجـا سـمـو الكواكب على السحاب.

من كل ربات الحجال ترى لها……. خصر الرباب وصولة الآساد

فإذا هي روضة زاهية الأزهار. أو غيضة خضلة الأشجار. أو سـمـاء زينت بالنجـوم أرجـاؤهـا. وتلألأت للناظر ين أنوارها وأضواؤها . محلاة من البديع بجلل المحاسن اللفظية. مقلدة أجياد عرائسها بقلائد المحسنات البديعية. تكاد من عذوبتها تذوب رقة ولطافة. وتتدفق جداول مناهلهـا براعة وظرافة. بيد أني ألفيت القلم من بنانها صبًا فطنًا. وهام بنفسه على رأسه فـغـوى وثمل بكؤوس مـداده فـرقص على سطور الطروس. حتى طرب فأنساه الطرب الأدب المأنوس. وحاد عن الجادة سنانه. وزلق في مـزلـقـة العقبة لسانه. فعثر في أذياله وكبا من تيهه ودلاله. وقام مبتدرًا وقال معتذرًا:

لا تعزلوني فالبنان مخضب…….وشكيمتي لا تنثني لمخضب

وأنت تعلم أنه من الواجبات الأدبية. والآداب الشرعية الدينية. القيام بنصيحة الأمة لما فيه صلاحها وإرشادها. لما يرجى منه نجاحها وفلاحها. بدون طلب محمدة أو شهرة. سوى خدمة الأمة التي هي أجل غنيمة مدخرة:

إن كان حمدى ضاع في نصحكم…..فإن أجرى ليس بالضالع

ولقد أقام الله في كل جيل رجالاً من صناديد الحكماء. وأساطين الفضلاء. نصبوا أنفسهم لنصيحة الأمة وارتقائها لمناهج السعادة ومناهل الثروة قدموا أضحية. في سبل الراحة العمومية. وإن صادفتهم في مقاصدهم عراقيل الخطوب الكونية. ولا يخفاك ما ورد في الحث على النصيحة قوله تعالى: (ولتكن منكم أمة يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر) وقوله عليه السلام: (الدين النصيحة، قالوا لمن يا رسول الله، قال لله ورسوله ولأئمة المسلمين وعوامهم) خصوصًا فيما ينجم عن السكوت عنه إخلال بشعائر الشرائع المقدسة. التي على أحكم الدعائم النظامية مؤسسة. المفضى إلى هدم قواعد الأمن والعمران لاسيما وقد لمحنا في صدر رسالتها قولها (فناداني زعيم الجسارة هلمي إلى مقصورة السلامة. ولا تحذري الانتقاد والملامة. وعليك بإيضاح الدعوى إلى علامة) إلخ وانتظرنا من يجيب ندائها. ويسفر عن مخبأ الحقيقة لثـامـهـا. فلم نسمع لندائهـا جـوابًـا. ولم نر من جـرد سـيـف هـمـتـه للنصيحة سلبًا أو إيجابًا ، وإني على ما ترى في شغل شاغل. ودهر بسـيـوف الحـتـوف على صـائل طائل. فـرأيت أن أكلفك أعـبـاءها. وألزمك جهدها وعناءها. فقلت له حالي كحـالك. بل صبحى ليل حالك. فدعني والتظاهر فما في دنياك ما يحلو به التفاخر ولقد حلبت الدهر أشطره. فلم أره أهلاً لان أشكوه أو أشكره.

حلبت الدهر من عسل وصاب…….ودريت الزمان بكل ريح

ولقد اعتزلت الأوباش والأكياس. واعتنقت اليأس من الناس. (فإن اليأس إحـدى الراحتين) من حيث صار الأخ فـخًـا. وانقلب الخل خلاً. واحتجبت الفضلاء وراء جـبـال ذوى الجهـالة. الذين تربعـوا في دست المصالح بهـدير الشـقـشـقـة وغـدير الضـلالة. واستسمنت الأيام منهم ذا ورم. ونفخت غرورًا في غير ذي ضرم. فسادوا وشادوا. وجالوا وحالوا. فلم يبق للغيـر مجـال. ولا للأدب رجال. أما سمعت نفثات نجيك اليوم. نفثات مصدور في إخوان لا تردعهم رادعة اللوم.

ولكم جريت مع الزمان وأهله……فإذا بمظنون الوفا خــــــــوان

وإذا بمعظم من وثقت بـوده……كثعالة من دأبه الروغـان

شادوا النفاق وأحكموا بنيانـه……وتأبطوا شرًا وهم إخـــــــــــوان

ساؤا الصنيع وكدروا عيش الفتـي……والحر منهم في الحياة مهـان

في الشر ذو همم تصول على القضا……..والخيرهم عن شمسه عميان

متربصون إساءتي فكأنهم…………رقباء جن ساقهم شيطـان

ولكم مزجت لهم رقيق خطــابة………….وتصايح في طيها الإيمـان

فعموا وصموا والرشاد عنـاية………….وجنوا وطالوا بالقبيح وشانـوا

فسلمت بؤس العيش بين جموعهم………..والعيش بين مغفل حرمـان

وحللت عروة ودهم من حيثمـا………….خل الإخاء وخانت الخـلان

ورغبت عن من لا يكون لعهده………….ذمم ولا في شدة معوان

وكبير غيبي إن سموت فضـائلاً………وترفعت شيمي وعـــــــــز مكان

وأبت لى النفس الكريمة مسلكًا…………للعلم فيه مذلة وهـوان

ونبذت مذهب شيعة ما أدركـوا………..سر العلوم ولا لهم وجـدان

أخذوا التظاهر بالديــانة ديدنًا…………..والدين منهم زايغ حيران

مسخوا محياه الجميل ومزقـوا……………..عقد الآلئ نظمه القرآن

حسدوا الفتى إذ لم ينالوا سعيه………فتقولوا ومقالهم بهتان

ولكل شيء آفة من جنسه…………..وعظيم آفة فضلى الأقــــــــــران

فقالا لا حيلة في الخلاص. ولات حين مناص. فقد بلغ السيل الزبى. ومـن صـدق الله نجـا. ولا مندوحة عن إجابة هذا النداء. وحسم الداء العـضـال بناجع الدواء. فقلت لعلني في ذلك أكـون (الباحث عن حتفه بظلفه). فقال كلا (بل يثاب المرأ رغم أنفه). فاستخرت الله تعالى الذي لا يخيب من استخاره. واستشرت من ذوى الفضيلة والذمة من لا يندم مـن اسـتـشـاره. وفي عناية الله الفتـاح لمن تعلق بأذيالهـا فـلاح. وإن كنت أعلم أن من ألف فـقـد استهدف. ومن صنف فما استنصف. ولكن (أي الرجال المهذب)

ومن ذا الذي ترضى سجاياه كلها………..كفى بالمرء نبلاً أن تعد معايبه

(وبالجملة):

من راقب الناس مات غمًا…………وفاز باللذة الجسور

ولا نخشى من حـضـرتـهـا تسرعًا إلى لوم أو عتاب. فالوجهة بيننا واحدة وهي الوصول إلى مناهل الصواب. والفضل لها فهي التي بالخير ابتدأت. وللدخول معها في الثواب طلبت. (والفضل للمتقدم) ولا يخفاها ما ورد في من كتم علمًا عن أهله كقوله تعالى (إن الذين يكتمون ما أنزلنا من البينات والهدى من بعد ما بيناه للناس في الكتاب أولئك يلعنهم الله ويلعنهم اللاعنون) وقوله عليه السلام (من كتم علمًا نافعًا جاء يوم القيامة ملجمًا بلجام من نار) فمن هو الذي يرضى بنار هذا الوعيد تحـت مـيـزاب اللعنة.

ويصلى بالحـرمـان عن مناهل الرحـمـة والنـعـمـة. وإن كـان مـقـام الرجال. يقضى عليهم أن لا يقفوا للأنثى في مجال. ولكن (مكره أخاك لا بطل)

إذا لم تكن إلا الأسنة مركب……. فلا يسع المضطر إلا ركوبها

فإني مـسـوق بعـصـا الشـرع وسـيـفـه حيث إن ذلك من أعظم الواجبات وأهمها لاسيما على العلماء. المتوطنين بصيانة الشرع من دسائس ذوى الأهواء. ولو أهلمناه جميعًا لتمزق كل ممزق وباء بالإثم الجميع وعمت البلوى (واتقوا فتنة لا تصيبن الذين ظلموا منكم خـاصـة) وقـد قـال عـليـه السـلام (لا تزال طائفة من أمتى ظاهرين على الحق حتى يأتي أمر الله) وكما في رواية الصحيحين

ومن يفد الشريعة بالحياة……. فلا يخشى ملامًا من ملوم

إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت. وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت وإليه أنيب. والشروع في المقصود يستدعي تقديم فائدتين تمهيدًا وتنويرًا:

الفائدة الأولى

اعلم أن المشار إليه بالأنانية في الإنسان ليس ما نراه من هذا الهيكل الجسماني بل هذا الهيكل من الجمادات الصرفة لابد يومًا من تحليل تركيـبـه وفساد نظامـه وعـودة أجزائه إلى مصادرها.

وإنما المشـار إلـيـه بذلك أمـر آخـر وراء هذا الهيكل به مناط التكاليف الشرعية والمعاملات الإنسانية والفضائل الكمالية وهو ما نسميه بالنفس الناطقة التي هي جوهر مجرد مفارق للمادة ولواحقها بجوهره وطباعه. أكرم المجردات جوهرًا وأفضلها طباعًا إذ هو دائمًا متشوق إلى ما فوق طباع الأبدان. من معرفة حقائق الأعيان. على ما هي عليه في الواقع. والاطلاع على الآثار الإلهية والموجودات الكونيـة وأحـوال النشـأتين هـارب نافـر عن طبـاع الجسمانيات. كاللذات والشهوات وكل ما يتشوق إلى شيء. فذلك الشيء من طبـاعـه. كـمـا أن كل مـا يهـرب عن شيء فليس من طبـاعـه. وقـد اجـتـمـع في الإنسان من الـقـوى والآثار مـا هو من خواص المواليد الثلاثة ولذا سموه بالعالم الصغير. وإنما يتميز عن الجميع بهذا الجوهر الشريف المدرك للمعقولات الكلية. وذلك فإن للنفس قوتين نظرية وعملية. وتسمى الأولى بالعقل النظري والثانية بالعقل العملي. فبالأولى تستعد لتلقى ما يفاض عليها من الملأ الأعلى حسب اسـتـعـدادتها من العلوم العـاليـة والكمـالات الشريفة تستكمل بها طباعها وينتظم جوهرها. حيث إن ذلك من أشواقها المستمرة وطباعها المكملة لسعادتها. وبالثانية تحرك البدن إلى الأفعال الجزئية بالفكر والروية والتجربة على مقتضى اعتقادات تخص هذه الأفعال. وبالقوتين تتمكن من القيام بمهام وظيفتها التي لأجلها أفيضت على الجسم حسب استعداده. وهي تدبيره بما يحفظ قوامه ويقيم نظامه ويصونه عن هدم دعائمه وفساد صورته. حتى يحل أجله فتعجز عن التدبير وتودع القفص وتطيـر. وللفـراق لوعة وللوداع روعة. فإما سعيـدة متلذذة وإما شقية متألمة. (فمنهم شقي وسعيد) وقد عرفوا النفس بأنها كمال أولى لجسم آلى تدرك الكليات والجزئيات. ولذا احتاجت إلى قوى جسمانية تأخذ عنها مبادئ العلوم الجزئية المادية. وهذه القوى خادمة للفترة العملية. وأما المبادئ الشريفة والعلوم العالية فلا تحتاج فيها لغير العقل النظري الذي هو قوتها النظرية. فتدرك به المعقولات الكلية وأحوال العوالم بسائطها ومركباتها. كأسباب الاختلافات والاتفاقات بين الأسباب المختلفة والمؤتلفة. فالمدركات المأخوذة عن القوى الجسمانية قابلة بطبيعتها للخطأ والصواب. وأما الثانية فلا يعتريها خلل ولا يتطرق إليها فشل. وبها تصحح النفس أحكام الأولى حاكمة فيها خطأ أو صوابًا. مثلاً البصر قد يخطأ فيما يراه قريبًا أو بعيدًا. فالأول كخطئه في حركة القمر مع السـحـاب والسـفـينـة مع الشـاطئ. ومـا علـيـه من النخـيل والأساطين المسطرة. وكـالأشياء التي تتحـرك بالاستدارة يراها كالحلقة الدائرة وكذا الأشياء الغائصة في الماء يرى بعضها أكبر مقدارًا مما هو عليه في الواقع. وبعضها مكسورًا وهو صحيح. وبعضها معوجًا وهو مستقيم. فيستخرج العقل أسباب ذلك من مـبـادئ عقلية ويحكم عليها أحكامًا صحيحة واقعية. والثاني كإدراكه أن الشمس صغيرة غاية عرضها مثلاً قدم. مع أنها مثل الأرض مـائة ونيف وسـتين مـرة على رأى الأقـدمين. ومليـونًا وأربعمائة ألف مرة على رأى المتأخرين. كما أن القمر أصغر من الأرض بخمسين مرة. وهكذا يقـال فـي بقـيـة الحـواس. وبذلك علمت أن العقل ليس خارجًا عنها مخالفًا لها بل هو من جوهرها وذاتها وقـوة من قواها حتى إن علمها بذاتها مأخوذ عن ذاتها. ولذا قالت الحكماء العقل والعاقل والمعقول واحد ولا فضيلة لها تتشوق إليها إلا العلوم العالية والمعارف الشريفة. فلا ترى لها تمتعًا إلا في اعتناق أبكارها. ولا سعادة إلا في حدائق أزهارها. ويكون كـمـالها على حسب مـا جنته من ثمراتهـا. واقتطفته من زهراتها. وهذا مجمل ما قيل.

أقبل على النفس فاستكمل فضائلها……. فأنت بالنفس لا بالجسم إنسان

(وقوله)

إذا أكمل الرحمن للمرء عقله……. فقد كملت أخلاقه ومآربه

وقوله عليه السلام ما اكتسب ابن آدم أفضل من عقل يهديه إلى هدى. ويرده عن ردى. وتلك العلوم التي بهـا فـضـيلة النفس وسعادتها على دربين عقلية ونقلية. فالأولى حليلة كل طالب أمنية. كل راغب روضـة لأى رائض تتفكه النفـوس في فـواكـه أزهارها. وتتفنن في أفنان أدواحها. حيث كانت من مـخـتـرعات الحكماء الأوائل. ومـوضـوعـات الـعـقـلاء الأفاضل. كالعلوم الطبيعية والرياضية والإلهية وسائر الموضوعات الحكمية. ولذا كان تقدمها بتـقـدم الأمم في الـعـمـارية والتـمـدن. فكلما ازدادت الأمـة ثروة وتمدنًا. ازدادت العلوم والصناعات اختراعًا وتفننًا. وهذا مجمل قوله عليه السلام (الحكمة ضالة المؤمن يلتقطها أينما وجدها) وأما الثانية فأنت فيها مأسور وعلى ما ورد عن ذويها مقصور. ولذا اشتهر في كتب الأصول (اللغة لا تثبت بالعقل). وقد حصر هذا الضرب في العلوم الشرعية والموضـوعـات المعنوية. وحينئذ فما ورد عليك من الكتاب والسنة وكلام الأئمة وأردت الخوض في عـبـابـه. فـلابد أولاً أن تجـرى على سـفـن مـا ورد عن أربابه. المنتصبين لتمييز قشـره من لبابه. وإن لم تجـد فيـه عنهم نصًا فتدبره بعقلك وزنه بميزان اللغة وقواعدها وأعرضه على كليات المواضع ومباحثها. حتى لا يخالف مناهجها ولا يتجاوز مناهلها. مثلاً من أراد الكلام في علم الصرف ليس له بمجـرد مـا رأى أن مضارع ضرب مثلاً بالفتح بضرب بالكسر أن يحكم بأن كلما كان الماضـي مـفـتـوح العين يكـون مـضـارعـه مكسـورها. لأنه خـلاف قـواعـدهم. فـلا يسلم هذا الإنسان من الخطأ إلا إذا عرض هذا الحكم على تلك القواعد ووزنه بمعيارها. فيعلم خطأه ويعود عنه إلى الصـواب. وهو أن مـحـل ذلك مـا لم تكن عين الفعل أو لامـه حلقـيـة وإلا وجب الفتح في المضارع أيضًا نحـو: منح يمنح ذهب يذهب. فمثل هذا لا تقل فـيـه بـرأيك وهواك فـتـهلك وتهلك من سواك (ولا تتبع الهوى فيضلك عن سبيل الله) وقال عليه السلام (اعص هواك والنساء وأطع من شئت).

الفائدة الثانية

إعلم أني لست ممن يذهب في شأن النساء مذهب من قال:

ما للنسا وللكتابة…….. والعمالة والخطابة

هذا لنا ولهن منا……… أن يبتن على جنابة

وتبعه وأفرط في المقال سواه:

إن النساء وإن عرفن بعفـة…….. جيف عليهن النسور الحـوّم

اليوم عندك جيدها وحديثها……وغدًا لغيرك عطفها والمعصم

بل أقول إن تعليم البنات القراءة والكتابة ليس بأقل في الواجب من تعليم البنين. ولا يخفى ما ينجم عن ذلك من الفوائد الوطنية. لاسيما علم تدبير المنزل الذي به سعادة الزوجين وحسن حـال الزوجية. وتربية الأطفال الموكولة لهن في المدرسة المنزلية. التي هي أساس لحسن نشأتهم وترشيح قواهم للمدارس الخارجية. وبذلك تكون المرأة قد شاركت الرجال في كثير من الأعمال التي بها تقدم الهيئة الاجتماعية منزلية أو سياسية بل ربما كانت فيها أثبت جنانًا وأحـد ذكـاء منه. وفي سـمـعك عن حـزب النهلست بروسيا وأحوال السيدات اللاتي هن من أشـد أعـضـائه وأقـوم عماده. وتقلدهن فيه بسيوف الحزم وسهام العزم ما يغني عن الـبـيـان. حتى إنه إذا قبض على واحدة منهن آثرت الموت على إفشاء أسرار الحزب. ترى في ذلك جليل الخدمة للأمة واكتساب الأثر وتخليد المأثرة. وفي الممالك الغربية من أمثال ذلك كثير حتى إن سيدات فرنسا حين حربها مع ألمانيا قامت بإدارة مصلحتي السكك الحديدية والتلغرافات البـرقـيـة. ومنهن اليـوم كـثـيـر في البنوك التجارية المبنية على أصعب الأعمال الحسابية مـا يفـوق الحـصـر. ولكن من وجـه آخـر لا أنكر أن الطبائع والشـرائـع قـد قضت عليهن بالحـرمـان من كثير مما اختص به الرجـال مـاديًا وأدبيًا. فما من أحد ينكر نقصهن بكثير عن الرجال في القوى البدنية. وإن كن فوقهم بكثير في القوى الإحساسية المؤثرة على الرجال بسبب الشهوة الطبيعية التي بها اخضعت الرجال لإله الجمال وصارت مغناطيس التيه والدلال:

رهبان مدين والذين عهدتهم……. خروا لعزة ركعًا وسجودًا

بذلك كـان كيدهن عظيمًا باسـتـعـمـال عوامل الرقـة ومـلاعب الحـركـات الآخـذة بمجامع الألباب. فبناء عليـه جـاءت الشرائع الدينية والقوانين السياسية بحرمانهن من المواقع التي بها تفتك بجيوش محاسنهن في تحور ناظرهن. خوفًا من أن تنتهك حرمات الآداب وتهدم دعائم العـمـران ويختل نظام الهيئة الاجتماعية. ويعود المجتمع المدني كـمـسـرح ترتع الوحوش في زهرات رياضـه وتذهب بمحاسن نضارته وبهجة مغارسه ورونق مناظره. فأجمعت الملل والنحل على منعهن من الخطابة الشرعية والإمامة والنبوة والجـهـاد لـنقـصـهن في ذلك عن الـرجـال كـمـا وردت النصـوص القاطعة. من ذلك قوله عليه السلام (النساء ناقصات عقل ودين) وقوله (اتقوا الله في الضعيفين الرقيق والمرأة) ومن أعذب عباراته وأمنح إشاراته قوله عليه السلام (ارأفوا بالقوارير) يعنى النساء. لا يخفى حسن التعبير عنهن بالقوارير التي هي أقرب كسرًا وأبعد جبرًا وقول الشاعر:

كتب القتل والقتال علينا……. وعلى الغانيات جر الذيول

واعلم ثانيًا أن مـوضـوع هذه المرآة أربعة أمـور (الأول) التنديد على الشبان الذين يرغبون في الاقـتـران بالنساء لما عليهن من الحلى والحلل والحكم على ذلك بالمنع (والثاني) الاستدلال على ما ذكرت بالآيات القرآنية (والثالث) الحكم بأنه موجب لفساد أخـلاق الزوجين وسـوء أحـوال الـزوجـيـة (والرابع) إيراد الأمثلة الحكمية على الألسنة الحيوانية ولذلك حصرنا الكلام معها في أربعـة فـصـول وخـاتمة. الفصل الأول في معنى الآيات على مـا وردت. الفصل الثاني في رد تمسكها بالآية الأولى على عدم جواز الزواج المذكور. الفصل الثالث في تفنيد كون ما ذكر سببًا لفساد أخلاق الزوجين. الفصل الرابع في تزييف ما أوردته من الأمثلة. الخاتمة في السقطات العربية والأغاليط النحوية.

(الفصل الأول في معنى الآيات على ما وردت)

أوردت حفظها الله دليلاً على مـدعـاها آية النساء (الرجـال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم) ثم آية البقرة وهي (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف) دليلاً على وجوب النفقة والكسوة المنبه عليه في الآية الأولى بقوله: وبما انفقوا من أموالهم. ثم آيتها التي قبل هذه وهي (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) دليلاً على وجـوب مـراعـاة كل منهما حقوق الآخر. وأنها إذا انقلبت تلك الحقوق انقلبت أحوال الزوجـيـة. وكل ذلك سـامـحـهـا الله خـروج عن مـوضـوع الآيات الشريفة بينه وبينها مراحل. وكأن ذلك سرى لحضرتها من أخذها بالرأي واعـتـمـادها على شهرتها في بابها من تفـردها بصناعتى النظم والنثـر عن الكواعب أترابهـا بل حتى عن كـثـيـر مـن رجـال البلاغة وأربابها. ونحن أول من يرفع لها تلك الراية ويعلم أنها في البـلاغـة آية. ولكن (ومـا يسـتـوي البـحـران هذا عـذب فرات وهذا ملح أجاج) فأين الصناعات اللفظية والتحسينات البديعية من رکوب مصاعب التأليف العلميـة البـعـيـدة الغوص على المدارك الظاهرية. فضلاً عن الخوض في عـبـاب التأويل والتـفـاسـيـر القـرآنيـة التي هي مـيـدان الفـحـول من العلماء الذين أفنوا في اقتطاف ثمرات المعارف أعـمـارهـم. وملأوا مـن ذخائر الرواية والدراية أفكارهم. وتثـبـتـوا في الأخذ عن الإثبات. وتضلعـوا من التطلع على أسـرار الآيات. من كل من رزق من الكمالات الأدبيـة أعلاها. ومن معجبات البلاغة ومعجزات القرآن أرقها وأخفاها. وانظر ما وقع لقطبي البلاغة وبحري الرواية والدراية في العلوم الحكمية والعربية العلامتين السعد التفتازاني والسيد الجرجاني رحمهما الله تعالى في مجلس المناظرة الذي أمـر بعـقـده الملك تيمور لنك بسمرقند إثر نصرته المشهورة. فجعلا موضوع المناظرة قوله تعالى (أولئك على هدى من ربهم وأولئك هم المفلحون) وبعد انتهاء المناظرة حكم الحكم للسيد فقام السيد مفحمًا محمومًا حتى مات إثر ذلك كمدًا. فإذا خفيت أسرار هذا الكتاب الشريف على مثل هذين الإمامين فكيف برجالنا ونسائنا (وهل يقاس ضياء الشمس بالقمر) فتى ولا كمالك:

ومن يجعل الوجه مثل القفا…… وعالية الرمح كالسافل

بل لقد خفي بعض ذلك على أكـابـر قـريش الذين هم خـيـار العرب فتحير بعضهم في مبانيه. وبعضهم في معانيه. فمن ذلك ما ورد أنه لما تلا عليـه السـلام (إنكم ومـا تعـبـدون من دون الله حصب جهنم) قال له ابن الزبعري خصمتك ورب الكعبة أليست اليـهـود عـبـدوا عزيرًا والنصارى المسيح وبنو مليح الملائكة؟ فـرد عليه بقوله عليه السلام ما أجهلك بلغة قومك هذا ما لا يعقل. ذكر ذلك أبو السعود على هذه الآية. ولذلك كان الجـمـهـور على الوقف في قـولـه تعـالى (ومـا يعلم تأويله إلا الله) على الله ثم الابتداء بقوله (والراسخون في العلم يقولون آمنا به كل من عند ربنا ومـا يذكـر إلا أولوا الألباب) ولم نر من فتح هذا الباب قبل ابن عباس رضي الله عنهما. وكل من جاء بعده مغترف من بحره وكلهم مـن أكـابر الفـضـلاء الذين قـامـت بهم العلوم وقـعـدت. كالزمخشري والخازن والبـيـضـاوي وغيرهم من مراكز الفضل ومنابغ العلم. وأما أمثالنا فليس عليه في الشرائع إلا تقليد مذهب من المذاهب الأربعة كما قال في الجوهرة.

فواجب تقليد حبر منهم…كذا حكى القوم بلفظ يفهم

ولا نتجـاوز ذلك إلى تفسير القرآن أو الحديث من عندياتنا. فإن ذلك جرأة منا والعياذ بالله على ثلم سـيـاج الآداب وانتهاك حـرمـة كـلام رب الأرباب. فكان الواجب عليـهـا حفظها الله أن تستدل على دعواها بقواعد مذهبها وما ورد في ذلك عن أيمتها حيث إن المسألة شرعية فقهية ولا تتجاهر بقولها. قد أراني من لا تراه العيون وأمره بين الكاف والنون إلخ. فإن هذه العبارة لا يملأ بها شدقية إلا من يتلقى عن الوحي الرباني أو الفتح الإلهامي أو بلغ درجة المجتهد في استنباط المعاني ويا ليته وافق عقلاً. أو قارب نقلاً. ولكن:

يقضى على المرء في أيام محنته…حتى يرى حسنًا ما ليس بالحسن

ولقد صدأت المرآة فانعكست أشعتها. وصـورت الحقائق على عکس صورتها:

إن المرأة لا تريك خدوش وجهك في صداهـا

وكذاك نفسك لا تريك عيوب نفسك في هواها

ولعلها ما أرادت إلا أن تطرفنا بطرائف نثرها. كما أعجزتنا قبلاً بمعـجـزات نظمها. فـتـشـرب بالكأسين. وتذهب بصـيت الشهرتين. والكلام معها في هذا الفصل على بحثين.

(البحث الأول)

أعلم أنه من المبادئ الضرورية لمن ينصب نفسه لتفسير الآيات القرآنية التحقق من أسباب النزول. حيث إن كل آية ما نزلت إلا لسبب اقتضاها. فـمـبـعـرفـتـه يتمكن المفـسـر من حل الآية على موجبه. خصوصًا وقد قالوا (العبرة بخصوص السبب لا بعـمـوم اللفظ) فـمـن جـهله وهـو المدار. فـقـد شـط به المزار. وركب متن عمياء. وخبط خبط عشواء.

أوردت حضرتها الآية المذكورة في موضوع عدم جواز الزواج للحلى والحلل. يدلك على ذلك مساقها للآية وقولها: فمن الغريب العجيب أن معشر الفتيان في هذا الزمان أعرضوا عن تلاوة هذه الآيات إلخ. أي ولو لم يعرضوا تلاوتها لامتنعوا. وذلك لا يكون إلا لدلالتها على عدم جواز ما رغبوا. وادعت أنه بين فيها صريحًا حقوق كل من الزوجين على الآخر وأن الإنفاق في مقابلة قيامه عليها. وكل ذلك مردود لوجهين (الوجه الأول) أن مـوضـوع كل آية هو سبب نزولهـا وهو في هذه الآية بينه وبين مـا ذكـرت كـمـا بين الثرى والثريا. وذلك لأن سبب نزولهـا هـو بيـان وجـه اسـتـحـقـاق الرجل في الميراث ضعف استحقاق المرأة المبين بقوله تعالى قبلها (للذكر مثل حظ الأنثيين) لأنها وما قبلها إلى آية (ولا تتمنوا ما فضل الله بعضكم على بعض) مسوقة عقب آيات الميراث المذكور بها أنصباء الذكر والإناث بيانًا لوجه زيادة نصيب الرجال على نصيب النساء. لا بيانًا لجواز الزواج المذكور أو عدمه. ونحن نسرد عليك ما قاله المفسرون في هذا المقام بالحرف الواحد بدون أدنى تصرف دفعًا للريبة وإقامة للحجة. وإن أدى ذلك إلى الإطناب فنـقـول: قـال أبو السـعـود (الرجـال قـوامـون على النسـاء) كـلام مستأنف مستوف لبيان سبب استحقاق الرجال الزيادة في الميراث تفصيلاً إثر بيان تفاوت استحقاقهم إجـمـالاً. وإيراد الجملة الإسـمـيـة والـخـبـر على صيغة المبالغة للإيذان بعـراقـتـهم في الاتصاف بما أسند إليهم ورسوخهم فيه. أي شأنهم القيام عليهن بالأمر والنهي قيام الولاة على الرعيـة. وعلل ذلك بأمرين وهمي وكسبي فقيل (بما فضل الله بعضهم على بعض) الباء سببية متعلقة بقوامون أو بمحذوف وقع حالاً من ضميره. وما مصدرية والضمير البارز لكلا الفريقين تغليبًا أي قـوامـون عليهن بسبب تفضيل الله تعالى إياهم عليهن أو متلبسين بتفضيله تعالى إلخ. ووضع البعض موضع الضميرين للإشعار بغاية ظهور الأمر وعدم الحاجة إلى التصريح بالمفضل والمفضل عليه أصلاً. ولمثل ذلك لم يصرح بما به التفضيل من صفات كماله التي هي كمال العقل وحسن التدبير ورزانة الرأي ومزيد القوة في الأعمال والطاعات. ولذلك خـصـوا بالنبوة والإمامة وإقامة الشعائر والشهادة في جميع القضايا ووجوب الجهاد والجمعة وغير ذلك. (وبما أنفقوا من أموالهم) الباء متعلقة بما تعلقت به الأولى. ومـا مـصـدرية أو مـوصـولة حذف عائدها من الصلة. ومن تبعيضية أو ابتدائية متعلقة بأنفـقـوا أو بسبب انفاقهم من أموالهم أو كائنًا من أموالهم وهو ما أنفقوه من المهر والنفقة. روى ابن سعد بن الربيع أحد نقباء الأنصار رضي الله عنه نشزت عليه امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي هريرة فلطمها. فانطلق إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وشكا. فقال عليه السلام لنقتص منه. فنزلت فقال عليه السلام أوردنا أمرًا وأورد الله أمراً والذي أراد الله خير فقـد نص على أن سبب نزولها هو سبب نزول ما قبلها الذي هو بيان وجه استحقاق الرجال ضعف استحقاق النساء في الميراث. فلا سبب لهـا سـواه. وقوله أي شـأنهـم القـيـام عـليـهـن تـصـريح بأنه ليس المقصود القيام الفعلي من كل الرجال على كل النساء لأن القيام منهم عليهن قـد يتخلف لبعض عوارض وأسباب أخـر. كما في الزوجين اللذين ذكرت حضرتها حالتهما زعمًا منها أنهما خرجا عن مـضـمـون الآية. وقوله في الباء سببية متعلقة بـقوامونأو بمحذوف وقع حالاً إلخ. صريح في أن الباء لا تتعين للسببية بل يجوز جعلها للملابسة. فلا يكون التفضيل سببًا للقيام بل كل منهما ذاتي للرجال. وكذلك الباء في وبما أنفقوا فلا يكون الإنفاق سببًا للقيام. وبذلك يتلاشى ما ذكرته حضـرتهـا من أن الإنفاق والتفضيل سببان للقيام ورتبت عليه ما رتبت مما سيأتي رده في الفصل الثاني. وقـولـه ومـا مـصـدريـة جعلهـا رد لجعلها نكرة مـوصـوفـة أو مـوصـولة. أما الأولى فتدل على أن تلك الأمور التي بها التفضيل مجهولة مع أنها معلومة. وأما الثانية فلأنه لا عائد هنا وليس هذا مـن مـواضع الحذف. وإن أردت المزيد فألق السمع وأنت شهيد. قال الفخر في تفسير هذه الآية اعلم أنه تعالى لما قال ولا تتمنوا ما فضل الله به بعضكم على بعض. وقد ذكرنا أن سبب نزول هذه الآية أن النساء تكلمن في تفضيل الله للرجـال عليهن في الميراث. فذكر الله تعالى في هذه الآية أنه إنما فضل الرجال على النساء في الميراث لأن الرجال قوامون على النساء. فإنهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر أمر الله الرجال أن تدفع إليهن المهر وتدر عليهن النفقة. فصارت الزيادة من الجانبين مـقـابلـة بالزيادة من الجانب الآخر فكان لا فضل البتة. هذا هو بيان النظم. وهو أيضًا صريح في أن السبب لنزول الآية هو مـا تقـدم. وبقـولـه فـصـارت الزيادة إلخ تعلم أن البـاء في وبما أنفقوا ليست وهو يؤيد ما تقدم عن أبي السعود وأن الإنفاق في مقابلة زيادة حظ الرجل في الميراث. ولا دخل له في القيام وعدمه كما هو زعمها ومدار قصدها. حيث ذكرت أنه إذا لم ينفق عليها فلا حق له في طلب القيام عليها بالأمر والنهي كما هو سياق كلامها. (الوجه الثاني) قالت حضرتها فبين بصريح المقـال حـقـوق الرجـال على النساء والنساء على الرجـال فـقـال الرجـال قـوامـون إلخ. وهـو أيضًا مـردود بما تقدم من أنه لم يبين فيها إلا وجه زيادة استحقاق الرجال على النساء في الميراث لا بيان جواز الزواج المذكور أو عدمه كما تقدم. ولا بيان حقوق كل منهما أصلاً. فضلاً عن كون ذلك صريحًا إذ ليس فيها لفظ الـحـقـوق ولا ما يدل عليه نصًا. وإنما يؤخذ منها ضمنًا حـقـان مختصان بالرجال وهما القيام والإنفاق كما سيأتي في تفسير وللرجال عليهن درجـة. ومع ذلك فليسا بمقصـودين كـمـا علمت. وإنما بيـان تلك الحـقـوق مـأخـوذ من آية (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) على أحد القولين فيها قال أبو السعود: (ولهن) عليهم من الحقوق (مثل الذي) لهم (عليهن بالمعروف) من الحقوق التي يجب مراعاتها وتتحتم المحافظة عليها (وللرجال عليهن درجة) أي زيادة في الحق لأن حـقـوقـهم في أنفسـهـن وحـقـوقـهن في المهر والكفـاف وترك الضـرار ونحـوها. أو مـزية في الفضل لما أنهم قوامون عليهن حراس عليهن ولما في أيديهن يشاركونهن فيما هو الغرض من الزوج ويسـتـبـدون بفضيلة الرعاية والإنفاق. وقـال الفخر أما قوله تعالى (ولهن مثل الذي عليهن) فاعلم أن الله تعالى لما يبين أنه يجب أن يكون المقصود من المراجعة إصلاح حالها لا إيصال الضـرر إليها. بين أن لكل من الزوجين حقًا على الآخر واعلم أن المقصود من الزوجيـة لا يتم إلا إذا كان واحـد منهـمـا مراعيًا حق الآخر. وتلك الحقوق المشتركة كثيرة ونحن نشير إلى بعضها (فأحدها) أن الزوج كالأميـر والراعي. والزوجة كالمأمور والرعية. فيجب على الزوج بسبب كونه أميرًا وراعيًا أن يقـوم بحقها ومصالحها. ويجب عليها في مقابلة ذلك إظهار الانقياد والطاعة للزوج. (وثانيها) روى عن ابن عباس أنه قال إني لأتزين لامرأتي كـمـا تتـزيـن لي لقوله تعالى (ولهن مثل الذي عليهن). (وثالثها) ولهن على الزوج من إرادة الإصلاح عند المراجعة مثل ما عليهن من ترك الكتمان فيما خلق الله في أرحامهن. وهذا أوفق بمقدمة الآية. فهذا الثالث قد جعل الآية خاصة بالزوجين اللذين افـتـرقـا فـراقًا رجعـيًا ويريدان المـراجـعـة. وعلى ذلك لا ينفع الاستدلال بهذه الآية على أن لكل من الزوجين القائمين على الزوجيـة حـقـوقًا قـبل الآخـر عامـة. ولكن عبـارة أبي السـعـود لم تخص. ثم قال الفـخـر وأمـا قـوله تعالى (وللرجال عليهن درجة) ففيه مسألتان إلى أن قال ( المسألة الثانية) اعلم أن فضل الرجل على المرأة أمـر مـعـلوم إلا أن ذلك ههنـا يـحـتـمل وجهين: الأول أنه أزيد في الفضيلة من النساء في أمور أحدها العقل. والثانية في الدين. والثالث في المواريث. والرابع في صـلاحـيـتـه للإمـامـة والقضاء والشهادة. والخامس له أن يتزوج عليها وأن يتسرى عليها وليس لها أن تفعل ذلك مع الزوج. والسادس أن نصيب الزوج في الميراث أكثر من نصيبها في الميراث منه. والسابع أن الزوج قادر على تطليقها وإذا طلقها فهو قادر على مراجعتها شاءت المرأة أو لم تشـأ. أما المرأة فـلا تـقـدر على تطليق الزوج وبعـد التطليق لا تقدر على مـراجـعـة الزوج ولا تقدر أيضًا على أن تمنع الزوج من المراجـعـة. والثامن أن نصيب الرجل في سهم الغنيمة أكثر من نصيب المرأة. وإذا أثبت فضل الرجل على المرأة في هذه الأمـور ظهر أن المرأة كالأسير العاجز في يد الرجل. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم (استوصوا بالنساء خيرًا فإنهن عندكم عوان) وفي خبر آخر (اتقوا الله في الضعيفين اليتيم والمرأة) وكأن معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله للرجال من الدرجة عليهن في الاقـتـدار كانوا مندوبين لأن يوفوا من حقوقهن أكثر. فكان ذلك كالتهديد للرجال في الإقدام على مـضـارتهن وإيذائهن. لأن كل من كـانت نعم الله عليه أكثر كان صدور الذنب عنه أقبح واستحقاقه للزجـر أشـد. (الوجه الثاني) أن يكون المراد أن حصول المنافع واللذة مشتركة بين الجانبين. لأن المقصود من الزوجـيـة السكن والألفة والمودة واستكثار الأعوان والأحباب وحصـول اللذة. وكل ذلك مشترك بين الجانبين بل يمكن أن يقال إن نصيب المرأة فيها أوفر. ثم أن الزوج اختص بأنواع من حقوق الزوجية وهي التزام المهر والنفقة والذب عنها والقيام بمصالحها ومنعها عن مواقع الآفات، فكان قيام المرأة بخدمة الرجل: أأكد وجوبًا رعاية لهذه الحقوق الزائدة. وهذا كما قال تعالى (الرجال قوامون على النساء) وعن النبي صلى الله عليه وسلم (لو أمـرت أحـد بالسـجـود لـغـيـر الله لأمـرت المرأة بالسجود لزوجها). وقوله فيجب على الزوج بسبب كونه أمـيـرًا وراعيًا أن يقـوم بحقها ومصالحها. كقوله وكأن معنى الآية أنه لأجل ما جعل الله إلخ. يشير إلى أن قـيـام الرجال على النساء كالعلة والسبب فيما ندب إلى وفائه من النفقة وغيرها. لا أن الأمر بالعكس كما زعمت حضرتها. وقوله كانوا مندوبين يشير إلى أن ذلك ليس بواجب لازم بل هو مندوب. وهو كذلك لأن المرأة قد تتنازل عن تلك الحقوق كما سيأتي في الفصل الثاني. وقوله ثم أن الزوج اختص إلخ. يشير إلى أن الإنفاق من الزوج وقيامه عليها من واد واحد من جهة اختصاصها بالرجل. لا أن الإنفاق في نظير القيام بل الذي في نظير ذلك هو خدمة المرأة. وقوله وهذا كما قال تعالى الرجال إلخ. بمعنى أن للرجال عليهن درجة بهذا المعنى. مثل الرجال قوامون من جهة أن كلاً منهما أفاد أن قيام الرجل على المرأة وإنفاقه عليها من اختصاصات الزوج. وأن قيام المرأة بخدمة الرجل في نظير ذلك. وكل هذا مما يرد عليها في حل آية الرجال وجعلها الإنفاق سببًا للقيام. ولنزدك وضوحًا فنقول قال البيضاوي (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف) أي ولهن حقـوق على الرجال مثل حقوقهم عليهن في الوجوب واستحقاق المطالبة عليها لا في الجنسية. (وللرجـال عليهن درجـة) زيادة في الحق وفضل فيه لأن حقوقهم في أنفسهن وحقوقهن في المهر والكفاف وترك الضرار ونحوها أو شرف وفضيلة لأنهم قوامون عليهن وحراس لهن يشـاركـونهـن فـي غـرض الإزواج ويخـصـون بفضيلة الرعاية والإنفاق. وقوله كأبي السعود لأن حقوقهم إلخ. يشير صراحة إلى أن الإنفاق في مقابلة البضع والتمتع لا في نظير القيام عليهن. وأن القيام والإنفاق كليهما من خواص الرجال لا أن الانفاق سبب للقيام و من الحقوق المشتركة المندرجة في قوله (ولهن مثل الذي عليهن). ومثل ذلك في الكشاف في تفسير هذه الآية. وبالجملة فـمـن نبـذ الـتـعـصب ظهـريًا ونـقـد مـا قلناه ومـا نقلناه من هذه التفاسير وضح له جليًا أن آية الرجال قوامون إلخ ليست مسوقة لبيان عدم جواز الزواج المذكور. ولا أنها مفيدة لحقوق الزوجين لا صراحة ولا ضمنا قصدًا. ولا أن الإنفاق سبب حقيقي للقيام كما زعمت كل ذلك حضرتها. وأن ما ذكرته بعد في معنى آية ولهن إلخ لم يصادف نحره. حيث إنها ما وفت بذكر الحقوق. ثم زادت من عندها لرواج دعواها في تفسيرها ما ليس بينه وبين الآية مناسبة لفظية. ولا إشارة مطوية. ولا قال به أحد من المفسرين من قبلها. فإذا انقلب الموضوع. وخفض بالعكس المرفوع. وصـار لـهـا عليـه الولاء إلخ. ومـا أدرى من أين جـاءها هذا الانقلاب على أنه لا فائدة في ذكرها ثانيًا بعد ذكر آية الرجال دليلاً على دعواها. لأن كلاً منهما على ما زعمت يدل على الحقوق المذكورة صريحًا. فكان الواجب الاقتصار على أحدهما أو بيان نسبه الثانية من الأولى وذكر ما يحسن التكرار. سامحها الله فيما طغا به قلمها ووهي فيه قدمها.

كان ظني بك الجميل فألفيتك من كل ما ظننت بعيدًا

(البحث الثاني في معنى الآية الثانية)

قالت حضرتها: وبقوله عز وجل وبما أنفقوا من أموالهم أي في المهر والمطعم والمشرب والمسكن والكسوة على حسب حال الأزواج والزوجات. كما نبه عليه في آية أخرى منها قوله تعالى (وعلى المولود له رزقهن وكسوتهن بالمعروف لا تكلف نفس إلا وسعها) أي على الوالدات. هذا كلامها بالحرف ولعمـر الأدب إن هذا لمن ذاك أعـجب. وذلك أن هذه الآية في خـصـوص الحـقـوق المتـعـلقـة بأولادهن لا بأنفسهن كما حسبت. يصرح بذلك أول الآية وعلى إرخاء العنان. فليست في جميعهن كما هو مساقها حيث ذكرتها دليلاً على وجوب النـفـقـة والكسـوة لكل الزوجات على أزواجهن تفسيرًا لقوله تعالى وبما أنفقوا من أموالهم. بل في خصـوص المرضعات فالنفقة والكسوة المذكورتان فيها إنما هما لداعي الإرضـاع الذي لا يلزم الأم بل الأب. إذ عليـه أن يسـتـأجـر لـولـده ظئرًا بأجرة مخصوصة فإذا أرضعته أمه خصوصًا عند وجود الظئر وقبوله إياها فلها في نظير ذلك ما كان للظئر. فأين هذا من ذاك؟ وأيضًا فالكلام ليس خاصًا بالمرضعات الزوجات بل حتى في المطلقات بل خصه بعضهم بهن. وعلى كل فليس الكلام فيها في حقوق الزوجين اللذين كلامها فيهما. ونحن نورد لك كلام المفـسـرين في ذلك لينجلي الحق لذي عينين. قـال أبو السـعـود (والوالدات يرضعن أولادهن) شـروع في بيـان الأحكام المتعلقة بأولادهن خصوصًا واشتراكًا. وهو أمر خرج مخرج الخبر مبالغة في الحمل على تحقيق مضمونه ومعناه الندب أو الوجوب إن خص بمادة عدم قبول الصبى لثدى الظئر أو فقدانها أو عجز الوالد عن الاستئجار. والتعبير عنهن بالعنوان المذكور لهـز عطفهن نحو أولادهن والحكم عام للمطلقات وغيرهن وقيل خاص بالمطلقات إذ الكلام فـيـهـن (حـولين كاملين) التـأكـيـد بصـفـة الكمال لـبـيـان أن التقدير تحقيقي لا تقديري مبنى على المسامحة المعتادة (إن أراد أن يتم الـرضـاعـة) بيـان لمن يـتـوجـه إليـه الحكم. أي ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة وفيه دلالة على جواز النقص. وقيل اللام متعلقة بيرضعن فإن الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة. والأم ترضع له كما يقال أرضعت فلانة لفلان ولده (وعلى المولود له) أي الوالد. فإن الولد يولد له وينسب إليه وتغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقـتـضـى لـوجـوب الإرضـاع ومـؤن المرضـعـة (رزقهن وكـسـوتهن) أجرتهن. واختلف في استئجار الأم وهو غير جائز عندنا ما دامت في النكاح أو العـدة جـائز عند الشـافـعـي رحـمـه الله (بالمعروف) حسبما يراه الحاكم ويفي به وسعه. (لا تكلف نفس إلا وسعها) تعليل لإيجاب المؤن بالمعروف أو تفسيـر للمعروف وهـو نص على أنه تعالى لا يكلف العـبـد مـا لا يطيق. ذلك لا ينافي إمكانه. (لا تضـار والدة بولدها ولا مولود له بوالده) عطف على قـولـه تعـالى وعلى المولود إلخ ومـا بينهـمـا تعليل أو تفـسـيـر مـعـتـرض (وعلى الوارث مثل ذلك) المراد به وارث الصبي ممن كان ذا رحم مـحـرم منه وقيل عصيانه. وقال الشافعي هو وارث الأب وهو الصبي أي تمان المرضعة من ماله عند موت الأب ولا نزاع فيـه. وتأمل قوله أجرتهن فإنه جعل المقصود عن النفقة والكسوة هنا الأجرة للأم على الإرضاع زيادة عن النفقة والكسـوة المستحقتين للزوجية. ويؤيده مـا ورد في صـورة الطلاق (فـإن أرضـعـن لـكم فـآتـوهـن أجورهن) (وخير ما فسر بالوارد) وقوله وهو غير جائز عندنا يدل على أن الآية في خصوص المطلقات عند أبي حنيفة وهو المذهب الجاري به العمل الآن. وقال الفخر في تفسير هذه الآية اعلم أن في قوله تعالى والوالدات ثلاثة أقوال: الأول المراد منه ما أشعر به ظاهر اللفظ وهو جميع الوالدات سواء كن مـزوجات أو مطلقات. والدليل عليه أن اللفظ عام وما قام دليل على التخصيص. فوجب تركه على عمومه. القول الثاني أن المراد منه المطلقات والذي يدل على أن المراد ذلك وجهان (أحدهما) أن الله تعالى ذكر هذه الآية عقب آية الطلاق فكانت هذه الآية تتمة تلك الآيات ظاهرًا. وسبب التعليق بين هذه الآية وبين ما قبلها أنه إذا حصلت الفرقة حصل التباغض والتعادي. وذلك يحمل المرأة على إيذاء الولد من وجهين أحدهما أن إيذاء الولد يتضمن إيذاء الزوج المطلق. والثاني أنها ربما رغبت في التـزوج بزوج آخـر وذلك يقتضى إقـدامـهـا على إهمال أمر الطفل. فلما كان هذا الاحتمال قائمًا لا جرم. ندب الله الوالدات المطلقـات إلى رعـايـة جـانب الأطفـال والاهتـمـام بشـأنهم فـقـال والـوالدات يرضعن أولادهن والمراد المطلقات. (الحجة الثانية لهم) ما ذكره السدى قال المراد بالوالدات المطلقات لأن الله قـال بـعـد هذه الآية وعلى المولود له رزقـهـن وكـسـوتهن بالمعروف. ولو كانت الزوجية باقية لوجب على الزوج ذلك بسبب الزوجيـة لا لأجل الإرضاع. واعلم أنه يمكن الجواب عن الحـجـة الأولى أن هذه الآية مشتملة على حكم مستقل بنفسه فلم يجب تعلقها بما قبلها. وعن الحجة الثانية أنه لا يبعد أن تستحق المرأة قدرًا من المال لمكان الزوجـيـة وقـدرًا آخـر لمكان الإرضـاع فـإنه لا منافاة بين الأمرين. (القول الثالث) قـال الواحـدي في البسيط الأولى أن يحمل على الزوجات في حال بقاء النكاح لأن المطلقة لا تستحق الكسوة وإنما تستحق الأجرة (فإن قيل) إذا كانت الزوجية باقية فهي مستحقة للنفقة والكسوة بسبب النكاح سواء أرضعت أم لم ترضع فما وجه تعليق هذا الاستحقاق بالإرضاع (قلنا) النفقة والكسوة يـجـبـان في مقابلة التمكين. فإذا اشتغلت بالحـضـانة والإرضاع لم تتفرغ لخدمة الزوج. فربما توهم متوهم أن نفقتها وكسوتها تسقط بالخلل الواقع في خدمة الزوج فقطع الله ذلك الوهم بإيجاب الرزق والكسوة وإن اشتغلت المرأة بالإرضاع. هذا كله كلام الواحدي رحمه الله. أقول لقد أشار إلى قوة القول الثاني وهو أن المراد خصوص المطلقات بذكر الحجتين المتقدمتين. وأما قوله واعلم أنه يمكن الجـواب إلخ فـفـيـه إشارة إلى ضعف هذا القول حيث عبر بقوله يمكن وبقوله لا يبعد ولم يأت بما يدل على اليقين. ومع ذلك فلا يضيرنا في الرد عليها لأنه أثبت أولاً أنه في خصوص الوالدات بلا نزاع. وثانيًا أن ما تستحقه للإرضاع قدر زائد على ما تستحقه للزوجية. فليست النفقة والكسوة المذكورتان هنا مـن حـقـوق الـزوجـيـة الـعـامـة كمـا هـو دعـواها بل من حـقـوق الإرضاع زيادة عن الأوليين. وأشار إلى ضعف القول الأول وهو أن المراد العموم بقوله وما قام دليل على التخصيص. وتعقيبه بالقول الثاني المذكور فيه الحجتان على التخصيص. وأشار إلى ضعف القول الثالث بعزوه إلى قائله أولاً وآخرًا دون القولين قبله. حيث قال أولاً قال الواحدي وقال آخرًا هذا كله كلام الواحدي فإن هذا العزو للتبرئة كما إن قوله (رحمه الله) يعرض إلى ذلك تعريضًا ذوقـيًا وإنما تبرأ عنه لضعـفـه ضعفًا كليًا لأنه كيف يتـوهـم مع الحضانة والاشتغال بخدمة الولد زيادة عن خدمة الزوج سقوط أصل النفقة والكسوة المستحقتين للزوجية بل ربما تتوهم زيادتها بل تتحقق نفقتها وكسوتها حينئذ بالولد الواجب على الأب تربيته شريعة وطبيعة. على أن آية سورة الطلاق نصت على أن ذلك في مقابلة الإرضاع لا في مقابلة الزوجية. وهي قوله تعالى (فإن أرضعن لكم فآتوهن أجورهن) ومما يضعفه أيضًا عدم ذكر كل من الجلالين والبيضاوي والكشاف له كما لم يذكره أبو السعود فيما نقلناه عنه آنفًا. وعـبـارة الجـلالين (وعلى المولود له) أي الأب (رزقـهن) إطـعـام الوالدات (وكـسـوتهن) على الإرضـاع إذا كن مطلقات. فقد خصه بالمطلقات وانه في مقابلة الإرضاع. وعبارة البيضاوى (والوالدات) يعم المطلقات وغيرهن وقيل يختص بهن إذا الكلام فيهن. قال محشيه: قيل وكونه للمطلقات يرجحه بيان إيجاب الرزق والكسوة فإنه لا يجب كسوة الوالدات ورزقهن إذا كن غير مطلقات للإرضاع بل للزوجية. فإن كان للدعم فلا إشكال لأنه باعتبار بعضهن. ومعنى قوله فإن كان إلخ أن قوله والوالدات ولـو كـان شـامـلاً للمطلقات وغيـرهـن كـمـا هو القول الأول. إلا أن قوله وعلى المولود له إلخ إنما هو باعتبار للمطلقات لا غير وهو مـوافق للجـلالين. وعلى كل فـقـد وضح وضـوحًا لا ريبـة فـيـه أن النفقة والكسوة في الآية إنما هما للإرضاع لا للزوجية حتى على القول بأن قوله (والوالدات) شامل. وحينئذ فاستدلال حضرتها على وجوب الإنفاق المأخوذ من قوله وبما أنفقوا من أموالهم على زعمها العام في كل الزوجات المستحق للزوجية بهذه الآية الخاصة بالوالدات ثم بالمطلقات المنصوص على أن النفقة والكسوة فيها إنما هما للإرضاع لا للزوجية عقيم الدلالة جلي الإحالة.

إنارة العقل مكسوف بطوع هوى وعقل عاص الهوى يزداد تنویرًا

(الفصل الثاني في رد تمسكها بالآية على عدم جواز الزواج المذكور)

هذا الفصل كالنتيجة لما قبله. علمت فيما سلف ما هو سبب نزول آية الرجال قـوامـون إلخ وما هو المعنى المقصود منها وبذلك تعلم عدم تعرضها لمسئلة الزواج المذكور أو عدمه. وكأن ذلك سرى لها بعد ذهولهـا عن سبب نزولهـا مـن كـون البـاء في قـوله وبما أنفقوا سببية. وقد أوضحنا أن السببية ليست على حقيقتها لقول الفخر المتقدم أنه تعالى إنما فضل الرجال على النساء في الميراث لأن الرجال قوامون على النساء. فإنهما وإن اشتركا في استمتاع كل واحد منهما بالآخر أمـر الله الرجـال أن يدفعوا إليهن المهر ويدروا عليهن النفقة. فصارت الزيادة من أحد الجانبين مقابلة بالزيادة من الجانب الآخر فكأنه لا فضل البتة. فقـد صرح بأن الإنفاق ليس في نظير القيام ولا سببًا فيه بل هو في نظير زيادة استحقاقه في الميراث عنها. كما صرح كل المفسرين الذين نقلنا لك تفسيرهم في آية وللرجال عليهن درجة بمثل ذلك كما نبهنا عليه هناك فارجع إليـه. على أنه لا يتعين جعل البـاء سببية لما تقدم لك من جواز جعلها متعلقة بمحذوف حال بمعنى متلبسين فتكون للملابسة بل هو الأوفق تطبيقًا للآيات بعضها على بعض. وعلى فرض تعيينها للسببية وأنها حقيقية فهي باعتبار الشأن لا الوقوع الفعلي من جميع الأفراد. أي أن شأن الرجال القيام على النساء بسـبـب مـا ذكـر. فـلا ينافي وقـوع خلاف ذلك من بعض الأفـراد. فـيـوجـد أحـدهـمـا بدون الآخـر. فـإن ذلك لا يـخـالف الشأنية. وقد صرح بذلك أبو السعود في تفسير هذه الآية ونقلناه لك في البحث الأول حيث قال: أي شأنهم القيام عليهن بالأمر والنهي قيام الولاة على الرعـيـة وقـد قـالـوا بمثل ذلك في قولهم الرجل خير من المرأة أي حقيقة الرجل وشأنه خير من حقيقة المرأة وشأنها. فالتفضيل بينهما باعتبار الشأن والحقيقة الطبيعية لا باعتبار الأفراد لأنا نجد أفراد النساء خير من كثير من الرجال كالسيدة خديجة والسيدة عائشة رضي الله عنهما. ومع ذلك فلا يزال الرجل خيرًا من المرأة لأن مخالفة الشأن في الأفراد لعارض من العوارض لا تمنع صـدق الشأنية وبقاء الكلية. فما هنا كذلك أي أن شأن الرجال وطبيعتهم القيام على النساء بسبب الإنفاق وإن تخلف ذلك في بعض الأفراد كما في الزوجين اللذين ذكرتهما حـضـرتـهـا فـإنـهـمـا لـم يـخـرجـا عن الشـأنـيـة المذكورة ولم تنقلب بفعلهما الحقيقة والطبيعة. فيوجد القيام بدون الإنفاق كالعكس في بعض الأفراد لا في الشأنية والحقيقة الطبيعية. على أننا لو لم نعتبر الشأنية واعتبرنا الوقوع الفعلي من جميع الأفراد فالآية لم تحصر سبب القيام في هذين السببين. فلم تقل لا قيام للرجال على النساء إلا بالتفضيل والإنفاق. فيجوز أن توجد أسباب أُخر للقيام غيرهما فإن السبب يتعدد كما في قوله تعالى (فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كـثـيرًا وأخـذهم الربا وقـد نـهـوا عنه وأكلهم أمـوال الناس بالباطل). على أن السبب وإن لزم من وجوده الوجود ومن عـدمـه العدم إلا أن ذلك مقيد بوجود الشروط وعدم الموانع. ألا ترى أن الزوال سبب شرعي لوجوب الظهر. لكن قد يوجد الزوال ولا يجب الظهر لعدم وجود شرط الوجـوب من كونه بالغًا عاقلاً مكلفًا أو لوجود المانع كالحيض والنفاس. وحينئذ فلا يكون الإنفاق على فرض سببيته مع التفضيل كافيًا بذاته في القيام على النساء. فـقـد يـوجـد ولا يوجـد لعدم وجـود شـرطه مع الانقـيـاد للأوامـر الشرعية والكفاءة الموجبة لقيام كل من الزوجين بحقوق الآخر أو لوجود المانع من ذلك. كأن يطرأ على الرجل من الطوارئ الطبيعية ما يعجـزه عن القـيـام على المرأة. ثم إن هذا كله منا مـجـاراة لحضرتها حيث ركبت في غير سرجها. وتربعت في غير دستها. واقتحمت أسوار التفسير. واغتصبت ما ليس لها فيه فتيل ولا نقير. وإلا فالواجب علينا وعليها الرجـوع في ذلك إلى مـا قـاله أئمة المذاهب الذين حـرروا لنا الشـريـعـة. وأحاطوها بالأسوار المنيعة. كما قال الجوهرة:

فكل خير في اتباع من سلف……. وكل شر في ابتداع من خلف

نقـول لـهـا مـاذا أردت باقـتـران الشـبـان بالنساء الحلى والحلل الذي حكمت بمنعه. هل الاقـتـران بـدون شيء أصلاً لا عـقـدًا ولا إنفاقًا؟ أو بعقد لكن بلا إنفاق؟ فإن كان الأول فهو الزنا البحت لا حاجة في تحريمه إلى تلك الطنة. ولا في التنفيـر عنه إلى هذه الرنة. وآياته غير ما ذكرت. وموضوعه خلاف ما وضعت. وإن كان الثاني كما هو الأجدر بها فنصوص المذاهب متضافرة على حله وجوازه. قال الدر المختار مع متنه تنوير الإبصار صحيفة (٤٥٢) جزء ثاني (باب المهـر) من أسـمـائه الصـداق والصـدقـة والنحلة والعطية والعقر. وفي استيلاد الجوهرة العقر في الحرائر مهر المثل. وفي الإماء عشر قيمة البكر ونصف قيمة الثيب (اقله عشرة دراهم) لحـديث الـبـيـهق وخـيـره (لا مـهـر أقل مـن عـشـرة دراهم) ورواية الأقل تحمل على المعجل (فضة وزن سبعة). هنا قيل كما في الزكاة (مـضـروبة كانت أولاً) ولو دينًا أو عرضًا قـيـمـة عشـرة وقت العـقـد. أمـا في ضـمـانهـا بطلاق قبل الوطئ فـيـوم القـبض (وتجب) العـشـرة (إن سـمـاهـا أو دونهـا ) ويجب (الأكـثـر منهـا إن سمى) الأكثر. ويتـأكـد (عند وطئ أو خلوة صحت) من الزوج أو موت أحدهما. المقصود منه قال ابن عابدين عليه لما فرغ من بيان ركن النكاح وشرطه شرع في بيان حكمه وهو المهر. فإن مهر المثل يجب بالعقد. فكان حكمًا كذا في العناية واعترضه في السعدية بأن المسمى من أحكامـه أيضًا. وأجـاب في النهـر بأنه إنما خص مهر المثل لأن حكم الشيء هو أثره الثابت به والواجب بالعقد. إنما هو مهر المثل. ولذا قالوا إنه الواجب الأصلي في باب النكاح. وأما المسمى فإنما قام مـقـامـه للتراضي به ثم عرف المهر في العناية بأنه اسم للمال الذي يجب في عقد النكاح على الزوج في مقابلة البضع أما بالتسمية أو بالعقد. فأنت ترى من هذه النصوص أن المهر واجب بمجرد العقد أو بالتسمية بعد العقد. وأنه في مقابلة البضع لا في مقابلة قيام الرجل على المرأة كما زعمت حضرتها حيث جعلته مع النفقة في قوله تعالى ربما أنفقوا في مقابلة ذلك وربطت كليهما بالآخر ثم. قال الدر مع متنه أيضًا صحيفة (460) وكذا يجب مـهـر المثل (فيما إذا لم يسم) مـهـر (أو نفى أن وطئ) الزوج (أو مات عنها إذا لم يتراضيا على شيء) يصلح مهرًا وإلا فذلك الشيء هو لواجب. فـقـد صـرح بأنه حتى إذا لم يسم المهـر أصلاً أو اتفق الزوجان على نفيه وعدمه. فإنه يجب بمجرد العقد مهر المثل ويلزم النكاح ويصح ثم قال صـحيفة (٤٦٤) (وضح خطها) لكله أو بعضه (عنه) قبل أو لا ويرتد بالرد كما في البحر. فقد صرح بإبرائها الزوج عنه مع بقاء الزوجية وصحتها. وبذا وجد قيام الرجل عليها ولم يوجد المهر من الرجل لها ولم تنقلب الحقائق كما زعمت حضرتها. هذا ما يقال في المهر. وأما ما يقال في النفقة فقال في الدر أيضًا صحيفة (٨٨٦) (باب النفقة) هي لفة ما ينفقه الإنسان على عياله. وشرعًا (هي الطعام والكسوة والسكني) وعـرفًا هي الطعام (ونفـقـة الغـيـر تجب على الغـيـر بأسباب ثلاثة زوجية وقراية وملك). بدأ بالأول لمناسبة ما مر أو لأنها أصل الولد (فتجب للزوجة) بنكاح صحيح. فلو بان فساده أو بطلانه رجع بما أخذته من النفقة بحر (على زوجها) لأنها جزاء الاحتباس. وكل محبوسة لمنفعة غيره يلزمه نفقته كمفت وقاض ووصى زيلعى وعامل ومقاتلة قاموا بدفع العدو ومضارب سافر بمال مـضـاربه ولا يرد الرهـن لـحـبـسـه لمنفعتهما. إلى أن قـال صحيفة (٨٩٨) وفيه أي في النهر عن قضـاء البخر هل تقدير القاضي للنفـقـة حكم منه؟ قلت نعم لأن طلب التـقـدير بشـرطه دعوى فلا تسقط بمضي المدة. ولو فرض لها كل يوم أو كل شهر هل يكون قـضـاء ما دام النكاح. قلت نعم لا لمانع ولذا قالوا الإبراء قبل الغرض باطل. وبعده يصح مما مضى ومن شهر مستقبل حتى لو شرط في العقد أن النفقة تكون من غير تقدير والكسوة كسوة الشـتـاء والصـيـف لم يلزم. قال ابن عابدين قـولـه (هل تقـدير القاضي) أي مـن غـيـر قـوله تحكمت بذلك. والظاهر أنه بالدال هنا. وفيما بعده من الواضح ويصح بالراء. وكان ينبغي ذكر هذه المسائل عند قول المصنف الآتي والنفقة لا تصير دينًا إلا بالقضاء أو الرضاء. (قوله بشرطه) هو شكوى المطل وحضور الزوج وكونه غير صاحب مائدة. إلى أن قـال قـوله يلزم كذا ذكره في البحر بحثًا. ووجهه أن ذلك الشرط وعـدمـه سـواء لأن ذلك هو الواجب عليـه بنفس العـقـد سـواء شرطه أو لا. وإنما يعدل إلى التـقـدير بشيء معين بالصلح والتراضي أو بقـضـاء القـاضي إذا ظهر له مطله. فتصير النفقة بذلك لازمة عليه ودينًا بذمته حتى لا تسقط بمضي المدة ويصح الإبراء عنها. وقبل ذلك لا تصير كذلك كما علمت. فقد صرحت تلك النصوص بأن النفقة في مقابلة احتباس المرأة تحت الرجل لا في نظير قيامه عليها كما زعمت حضرتها. فـإن قلت إن الاحـتـبـاس هـو القـيـام. قلنا حينئذ يكون المفـتى والقاضي والوصي والعامل والمضـارب أسـراء للغير. ويكون ذلك الغير قيمًا عليهم قيام الرجل على المرأة. لأنه ذكر أن هؤلاء وجبت نفقتهم للاحتباس. وأظنك لا ترضى بهذا القضاء. وقد صرحت أيضًا بالإبراء من النفقة وأنه لا يصح إلا إذا صارت دينًا ولا تصير دينًا إلا بالقـضـاء أو الرضـا وقـبلـهـمـا لا تصـيـر دينًا على الرجل. وعلى كل فجاز قيام الرجل على المرأة بدون نفقة. أما قبل التقدير فليست دينًا عليه. فله أن يدفعها إذ ليست بواجبة حينئذ. وأما بعده فيجوز الإبراء وبذلك كله سقط ما زعمت حضرتها من أن المهـر والإنفاق في مـقـابلـة الـقـيـام. وأنه إذا عـدمـا عـدم الـقـيـام وانقلبت الحقائق. فتأمل ما جاءت به مرآة التأمل مما لا ينطبق على رأى ولا مذهب. ولعلها تأبى التقليد لأحد المذاهب وتجـرى على ما هي عليه من أخذها الأحكام من الآيات القرآنية اجتهادًا واستعظامًا (أست في الماء وأنف في السماء) فنقول لها هلمي بنا نجرى في هذا الميدان أيضًا حتى نغلق البابين ونقوم. فهناك الأدلة القرآنية على جواز الإبراء من المهر والنفقة منها قوله تعالى (وأتوا النسـاء صـدقاتهن نحلة فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه هنيئًا مريئًا) قال أبو السعود: وأتوا النساء أي اللاتي أمر بنكاحهن (صدقاتهن) جمع صدقة وهي المهر (نحلة) قال ابن عباس وقتادة وابن جريج وابن زيد فريضة من الله تعالى لأنها إنما فرضها الله في النحلة أي الملة والشـرعة والديانة. وقال الكلبي نحلة أي هبـة وعطية من جهة الأزواج والتعبير عن إيتاء المهور بالنحلة مع كونها واجـبـة على الأزواج لإفادة مـعنى الآية عن كـمـال الرضى وطيب الخاطر (فإن طبن لكم عن شيء نفسًا) أي إن وهبن لكم شيئًا من الصـداق مـتـجـافـيـات عنه نفـوسـهـن طيـبـات غـيـر مـخبثات بما يضطرهن إلى البذل من شكاسة أخلاقكم وسوء معاشرتكم لهن. (فكلوه) أي فخذوا ذلك الشيء الذي طابت به نفوسهن وتصرفوا فيه تملكًا. وتخصيص الأكل بالذكر لأنه معظم وجوه التصرفات المالية (هنيئًا مريئًا) صفتان من هنوء الطعام ومروء إذا كان سائغًا لا تنغيص فيه. وهذا عبارة عن التحليل والمبالغة في الإباحة وإزالة التبعة. روى أن ناسًا كانوا يتأثمـون أن يقبل أحدهم من زوجـتـه شيئًا مما ساقه لها فنزلت. باختصار ومثله في الفخر (ومنها) قوله تعالى في سورة النساء أيضًا (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) عقب قوله تعالى (فما استمتعتم به منهن فآتوهن أجورهن فريضة) قال أبو السعود: أي لا إثم عليكم فيما تراضـيـتم به من الحط عن المهـر والإبراء منه على طريقـة قـوله تعالى: فإن طبن لكم عن شيء منه نفسًا فكلوه. إثر قـوله تعالى (وأتوا النساء صدقاتهن نحلة) وقوله تعالى إلا أن تعـفـون عـقـب قوله (فنصـف مـا فـرضـتم). وتـعـمـيـمـه للزيادة على المسمى لا يسـاعـده رفع الجناح عن الرجـال لأنها ليست مظنة الجناح على الزوجة. وقيل فيما تراضيتم به من نفقة ونحوها وقيل مقـام أو فراق ولا يساعده قوله تعالى (من بعد الفريضة) إذ لا تعلق لهما بالفريضة إلا أن يكون الفراق بطريقة المخالفة. وبمعناه في الفخر ثم حكيًا قولاً آخر وهو أن المراد بآية فما استمتعتم إلخ نكاح المتعة وأنها منسوخة وضعفاء. وقال البيضاوي (وآتوا النساء صدقاتهن) أي مهورهن وقرئ بفتح الصاد وسكون الدال (نحلة) عطية يقال نحلة كـذا نحلة أعطاه ونحـلاً إذا أعطاه إياه عن طيب نفس بلا عـوض أو باخـتـصـار. قـال مـحـشـيـه قـوله عطيـة إلخ أي النحلة حقيقتها في اللغة العطية بغير عوض. فإن قلت كيف يكون بلا عوض وهو في مقابلة البـضـع والتمتع به؟ قلت لما كان لها في الجـمـاع مـثـل مـا للزوج في اللذة أو أزيد منه وتزيد عليـه بـوجـوب النفقة والكسوة كان المهر مجانًا لمقابلة التمتع بتمتع أكثر منه. وقيل إن الصداق كان في شرع من قبلنا للأولياء بدليل قوله تعالى (أني أريد أن أنكحك إحـدى ابنتي هاتين على أن تأجـرني ثمـاني حجج) ثم نسخ فـصـار ذلك عطيـة اقـتطعت لهـا فـسـمـى نحلة *(تنـبـيـه)* قال العلائي في قواعده في الصداق عوضية عن البضع من وجه. وهبة من وجه لجرمتها. لكن المغلب أيهما؟ فقيل المغلب الأول وقيل الثاني ومـأخـذه الآية لأن النحلة العطيـة بلا عوض. وحجة الأول أنه يرد بالعيب ولها حبس نفسها حتى تقبضه وأنه يثبت فـيـه الشـفـعـة ويضمن لو تلف ورجح المصنف الثاني لاقتضاء الوضع له فقدمه. ثم قال البيضاوى (فما استمتعتم به منهن) من جماع أو عقد عليهن (فآتوهن أجورهن) مهورهن فإن المهر في مقابلة الاسـتـمـتـاع (فـريـضـة) حـال من الأجـور بمعنى مفروضة. أو صفة مصدر محذوف أي إيتاء مفروضًا (ولا جناح عليكم فيما تراضيتم به من بعد الفريضة) فيما يزاد على المسمى أو يحط عنه بالتراضي أو فيما تراضيا به من نفقة أو من مقام أو فراق. وقيل نزلت الآية في المتعة التي كانت ثلاثة أيام حين فتحت مكة ثم نسخت لما روى أنه عليه السلام أباحها. ثم أصبح يقـول يا أيها الناس إني كنت أمرتكم بالاستمتاع من هذه النساء إلا أن الله حرم ذلك إلى يوم القيامة. قال محشيه: قوله فـيـمـا يزاد على المسمى أو يحط عنه إلخ. الفريضة الشيء المقدر كما في فريضة الميراث. ففي التيسير هذا مذهب الشافعي رحمه الله ومذهبنا أنه لا يشترط تراضيهما في غير الزيادة. ويصح الإبراء والهبة برضاها وحدها فهذا مخصوص كذا في أحكام الجصاص مع زيادة تـفـصـيـل قـولـه. وقيل نزلت الآية في المتـعـة أي آية فـمـا استمتعتم هذه. واعلم أن نكاح المتعة جـوزه صلى الله عليه وسلم في صدر الإسلام ثم نسخ بلا خلاف الآن فـيـه لأحد من الفقهاء ولا قائل به سوى الشيعة. وأما المنقول عن ابن عباس رضي الله عنهما فيها فإنه رجع عنه وقيل إنما إجازة للمضطر لا مطلقاً. روى أن سعيد ابن جبير قـال له أتدرى ما صنعت بفتواك فـقـد سارت بها الركبان وقيل: شعر كقوله:

قد قلت للشيخ لما طال مجلسـه……. يا صاح هل لك في فتيا ابن عباس

هل لك في رخصة الأطراف آنسة……. تكون مثواك حتى مصدر النـاس

فقال إنا لله وإنا إليه راجعون والله ما بهذا أفتيت ولا أحللت إلا مثل ما أحل الله الميتة والدم. وقياسه على الميتة لا وجه له أيضًا وقيل إن النسخ وقع فيها مرات وأنها لم تبح إلا في السفر لا في الحـضـر. ومثله في الكشاف وزاد أنه روى عن عـمـر: لا أوتى برجل تزوج امرأة إلى أجل إلا رجمتهما بالحجارة. وأن ابن عباس تاب عن القول بها عند موته وقال اللهم إني أتوب إليك من قولي بالمتعة قولي في الصرف. فهذه النصوص متضافرة على جواز الهبة والإبراء للصداق بل وللنفقة وعلى أن المهر في مقابلة البضع والتمتع لا في مقابلة قيام الرجل على المرأة. وأظنك بعد أن ملأت أفكارك الصافية. من بحورها الوافية الشافية. لا ترتاب في أن ما ذكرته حضرتها في هذا الموضوع مما كبا فيه الجواد. وخبا فيه الزناد. حتى لم يبق للاعتذار عنه مـجـال. ولا للإقالة عن تبعته مـقـال. فهل حيث أجاز الله للزوجين حط المهر والنفقة في تلك الآيات صراحة. أجاز في نظير ذلك عدم قيام الزوج على الزوجة وأوجب قيامها عليه قلبًا للحقائق كما ذكرت. أو أبقـى حقـوق كل منهما على أصلها من قيام الرجل عليها وقيامها بخدمته وتحت رعايته؟ نلتمس من حضرتها الإجابة عن هذا السؤال إن أغضبها الحق أو أغـراهـا زعـيـم الجـسـارة. وياالله العجب ممن أرادت أن تنصر سربها فكذبت ربها. ولنا من الحجج الدامغة زيادة على ما تقدم ما يفل السيوف ويريش في نحر معارضها سهام الحتوف. منها أنه ليس المقصود من المهر المغالبة والمناظرة وكونه في نظير القيام وموجباً له. بل المقصود منه مجرد التحليل كونه في مقابلة البضع والتمتع خصوصًا على ما تقدم عن محشى البيضاوي من كونه هبـة من جهـة وعـوضًا عن البضع مـن جهـة. وعلى مذهب الشافعي فإن مذهبه أنه يكفي فيه القليل والكثير ولا يحد بحد كما قاله الفخر في تفسير قوله تعالى (وأحل لكم ما وراء ذلكم أن تبتغوا بأموالكم محصنين) إلخ. ونصـه المسألة الثانية. قال أبو حنيفة رضي الله عنه لا مهر أقل من عشرة دراهم. وقال الشافعي رضي الله عنه يجـوز بالقليل والكثيـر ولا تقـديـر فـيـه. احتج أبو حنيفة بهذه الآية وذلك لأنه تعالى قيد التحليل بقيد وهو الابتغاء بأموالهم والدرهم والدرهمان لا يسمى أمـوالاً فوجب أن لا يصح جعلها مهرًا. فإن قيل ومن عنده عشرة دراهم. لا يقال عنده أموال مع أنكم تجـوزون كونها مهرًا؟ قلنا ظاهر هذه الآية يقتضي أن لا تكون العشرة كافية إلا أنا تركنا العمل بظاهر الآية. هذه الصورة لدلالة الإجماع على جوازه فتمسك في الأقل من العشرة بظاهر الآية. وأعلم أن هذا الاستدلال ضعيف لأن الآية دلت على أن الابتغاء بالأمـوال جائز وليس فيها دلالة على أن الابتغاء بغيـر الأموال لا يجوز إلا على سبيل المفهوم وأنتم لا تقولون به. فتدبر قوله: وليس فيها إلخ تفهم. وقد قال عليه السلام التمس ولو خاتمًا من حـديـد فـأي قـيـمـة للخاتم الحـديد أو العـشـرة دراهم توجب قـيـام الرجل على المرأة قـيـام الولاة على الرعيـة وتجعلهـا كالأسيرة تحت أمره ونهيه؟ بل كان يجب كون المهر محدودًا بنحو قنطار حتى يقوم للزوجة مقام قيام الرجل عليها أو يجز. والقيام على حسب المهر قلة أو كثرة وكذا على حسب النفقة ولا قائل به في الدنيا بل ربما كان الأمر بالعكس. واعتبر ذلك بين أواسط الناس وأعلاهم غني تفهم (منها) أنا نقول لحضرتها هل الزواج الذي ذكـرتـيه جـبـري أو اخـتـيـاري؟ لا يصح الأول لأن النكاح من العقود التي لا تتم إلا بالرضا من المتعاقدين كما هو معلوم في كتب الفقه ولذا قالوا لابد من إذن الزوجة ثيبًا أو بكرًا للحديث الشريف (إذن البكر صمتها والثيب تعرب عن نفسها) وحينئذ لا ملام على الزوج المذكور حيث إنها ما تزوجته إلا بعد علمها بحالته وما هو عليه عسرًا أو يسرًا دينًا وخلقًا راضية مرضية. بل ربما كانت هي الداعية إلى ذلك وقد كان لها مندوحة في عدم الرضى به وعـدم دخـولـهـا تحت حـوزته وتـصـرفـه. (ومنهـا) أنا نقـول لحضرتها إن الكفاءة في النكاح معتبرة من جانبه لها لا من جانبها له بمعنى إن الزوج لابد أن يكون كفؤًا لها مالاً ونسبًا ودينًا وتقـوى وحرفة. واعتبارها إنما هو عند العقد فلا يضر زوالها بعد. فلا تتزوج الغنية فقيرًا ولا الشريفة وضيعًا ولا الحرة عبدًا ولا التقية فاسقًا ولا المحترفة عاطلاً. فإذا تزوجته على أنه كفؤ وظهر فيما بعد أنه غير كفؤ فلها أو لوليها الخيار في البقاء معه أو الفسخ. وحينئذ فـأي ظلم من الزوج لهـا وأي لوم عليـه في أي طـور من أطواره وأي خلق من أخـلاقـه مـع كـون الأمـر بيـدهـا قـبـل الـعـقـد وبعده؟ فكيف تكون هي الجانية على نفسها والزوج يتوجـه عليـه لوم أو تنديد.

غيري جنى وأنا المعذب فيكم……. فكأنني سبابة المتندم

وإن ارتبت فيما ذكرت فراجع الدر المختار مع متنه وحاشيته في باب الكفاءة صحيفة (٤٣٥) جزء ثاني من ابن عابدين. وحينئذ فقولها في صحيفة (٩) (فأجبني أيها العلامة بعزة فضلك وعين عدلك كيف تستقيم الزوجات وهي تكظم الغيظ مع الزفرات إلخ) يجاب بأنه لا جابر يجبرها على البقاء معه على هذه الحالة حتى تكظم غيظًا أو تثير زفيرًا. حيث وسع عليها الشارع وجعل الكفاءة من جهته لها لا من جهتها له وسوغ لهـا طلب الفسخ إن ظهـر خلاف ما ادعاه أولاً من الكفاءة. فإن رضيت بعد ذلك بالبقاء معه فلا لوم إلا عليها. فتعاصيها عليه بعد ذلك وخروجها عن طاعته وسوء عـشـرتها له ونزع سلطته عليها بدعوى أنه لا ينفق عليها منذر بسوء الطوية وخبث القصد. وجعل الرجل حجاب غاياتها وستار عورتها وخروج عن حدود الأدب المرعية بين الزوجين التي أوجبتها الشريعة من قيام المرأة بخدمة زوجها أو سيرها طوع أوامـره ونواهيـه في كل أطوارها. وكـذلك الزوج يجب عليـه المحافظة على حقوقه من قيامه عليها بالأمر والنهي قيام الولاة على الرعية. والسلطة التي خولتها له الطبيعة الفطرية والنصوص الشرعية. غير ناظر في جانب ذلك إلى أي عارض من عوارض النفقة أو غيرها وإلا فلهما وسعة في فراق بعضهما بعضًا. لأن العصمة بيده فيفارقها إن لم يرضها وأمر رضاها. وبقاؤها معه إن كان فقيرًا معدمًا بيدها أولاً وثانيًا على حد (إذا لم تستطع شيئًا) فبـقـاؤهـا مـعـه على تلك الحالة اختيارًا من أعظم دلائل الرضا على حد قوله:

قالت بنات العم يا سلمى وإن……. كان فقيرًا معدمًا قالت وإن

وبالجملة فالزوجان اللذان حالتهما ما ذكرت حضرتها من ارتكاب كل منهما ما لا ينبغي بعد الزوجية ارتكانًا على عدم إنفاق الرجل ورضـوخـه لإنفاق المرأة مما لا ينطبق على شرع ولا طبع. كبنيها زواج الشبان رغبة في الحلي والحلل. وتنديدها على فاعله. واستدلالها بآية الرجال قـوامـون إلخ وجعلها الإنفاق في مقابلة القـيـام. وأنه إذا عـدم عـدم. وإيرادها للآيات الأُخـر في هذا الموضـوع. وكل ذلك خروج عن الواقع وتعـد لحدود الشرائع (ومن يتعد حدود الله فأولئك هم الظالمون) ومن جهلت نفسه قدره رأی غيره منه ما لا يرى. وإنما أقول لحضرتها: اسمعي جزال ما لم يخطر لمثلك ببال. وهو أن الذي ذكرته الفقهاء أنه يندب أن تكون المرأة فوق الرجل ورعًا وأدبًا وخلقًا وأقل منه مالاً وحسبًا وسنًا. ومخالفة المندوب خلاف الأولى ينبغي التنزه عنه وهذا لا يستلزم عدم الإنفاق من الرجل عليها ولا قصد زواجها للحلى والحلل حتى يكون من الموضوع التي ذكرته. بل مازالت النفـقـة على حكمها واجبة على الزوج ولا ملازمة بينهما. فقد تكون فوقه مالاً وهو يدر عليها النفقة وبالعكس لأخلاق وغايات شخصية أو عوارض خارجية وهي كذلك. وللنفقة باب مخصوص تؤخذ منه أحكامها. وللنكاح باب مخصوص تؤخذ منه أحكامه. ولذلك لما ذكر الفقهاء في باب النكاح التنزيه عن هذا الزواج لم يلاحظوا فيـه نفـقـة ولا عدمها بل جعلوا محط النظر كونها فـوقـه مالاً لا غير. معللين بأنها ربما تترفع عليـه. على أنه لم يقع التنزيه عن خصوص ما ذكر بل عن أمور كثيرة متساوية في الحكم الدال على استوائها في النتائج. ومنها ما لا يترتب عليه كبير ضرر ولا عظيم خطر ككون العقد في غير مسجد وكونه في غير يوم الجمعة. بل منها ما لا يمكن غيره كعدم نظر وجهها وكفيها قبل العقد فإنه خلاف الأولى منزه عنه. ومع ذلك فـلا نرى في مـصـرنا إلا ذلك جـاريًا حسب العوائد التي التحقت بالواجبات الضرورية. بل لو أراد الإنسان أن يفعل هذا المندوب لعد ذلك من سوء أخلاقه ودناءة طباعه. وربما كان سببًا في الحرمان من الزواج. وغير ذلك كثير في هذا الباب كالافتضاض بالآلة الرجلية لا بالأصابع وإليك ما قاله الدر المختار في صحيفة (٣٥٩) في كتاب النكاح ويندب إعلانه وتقديم خطبة وكـونـه فـي مـسـجـد يوم الجـمـعـة يـعـاقـد رشـيـد وشـهـود عـدول والاستدانة له والنظر إليها وكونها دونه سنًا وحسبًا وعزًا ومالاً وفوقه خلقًا وأدبًا وورعًا وجمالاً. قال ابن عابدين بعد أن ذكر علل الحكم في هذه الأمـور روى الطبري عن أنس أنه قال: قال عليـه الصلاة والسلام من تزوج امـرأة لعـزها لم يزده الله إلا ذلاً. ومن تزوجها لمالها لم يزده الله إلا فقرًا. ومن تزوجها لحسبها لم يزده الله إلا دناءة. ومن تزوج امـرأة لم يرد بهـا إلا أن يغض بصـره ويحفظ فرجه أو يصل رحمه بارك الله له فيها وبارك لها فيه. فقد استدل بهذا الحديث على ندب كون المرأة دونه مالاً وعـزًا وحسبًا والتنزيه عن خلاف ذلك. وإن كان ظاهر الحديث التحريم لا التنزيه إلا أنه مـحـمـول على الترهيب والتنفيـر لا على المعنى الحقيقي رغبة في التخلق بالكمالات الفاضلة كحديث (لا يزني الزاني حين يزني وهو مؤمن) وحديث (والله لا يؤمن والله لا يؤمن والله لا يؤمن قـيـل من هو يا رسول الله؟ قـال من لا يأمن جـاره بوائقه) على أنه لا يلزم من كونها فوقه مالاً أن يتزوجها لقصد المال حتى يلحقه الوعيد الذي في الحديث بل قد يكون القصد غير ذلك إذ لا ملازمة بينهما. مثل قصد كونها حينئذ تكون عفيفة مهذبة من بيت شرف ومجد فيرجع إلى كونها فـوقـه أدبًا وورعًا وهو مطلوب. وحينئذ فالمراد منه هو المراد مما ذكـره الفـقـهـاء وظاهره غـيـر مـراد وإلا لنصـوا على التـحـريم ولم يهملوا ظاهر لفظه. ثم قال ابن عابدين (تتمة) زاد في البـحـر ويـخـتـار أيسر النسـاء مـخـطبـة ومـونة. ونكاح البكر أحـسن للحديث (عليكم بالأبكار فإنهن أعذب أفواهًا وأنقى أرحامًا وأرضى باليسير) ولا يتزوج طويلة مهزولة ولا قصيرة دميمة ولا مكثرة ولا سيئة الخلق ولا ذات الولد ولا مـسنة للحـديث (سـوداء ولود خـيـر مـن حـسناء عقيم) ولا يتزوج الأمـة مع طول الحـرة ولا زانيـة. والمرأة تخـتـار الزوج الدين. الحسن الخلق الجواد الموسـر. ولا تتزوج فاسقًا ولا يزوج ابنته الشابة شيخًا كبيرًا ولا رجلاً دميمًا. ويزوجها كفوًا فإن خطبهـا الكفو لا يؤخـرهـا. وهو كل مسلم تـقي. وتحليـة البنات بالحلي والحلل ليـرغب فيهن الرجال سنة. ولا يخطب مخطوبة غيـره لأنه جـفـاء وخـيـانة. فكل هذه الأمـور مـسـتـحـسنة مندوبة ومخالفة المندوب خلاف الأولى ينبغي التنزه عنه فقط لا ممنوع غير جائز. وهل كل هذه المندوبات واقعـة الآن؟ وهل يترتب على عدم وقوع ما لم يقع منها خلل زائد أو ضـرر فـادح يوجب انهدام دعائم الدول وخراب الكون؟ وانظر قوله وتحلية البنات إلخ فإنه نص على أن الزواج للحلى والحلل سنة وهي أعلى من المندوب. وذكر العلة وهي الترغيب. فكيف يمنع رغبة الشبان في الزواج للحلى والحلل مع النص على أنه مطلوب مرغب فيه من الشارع بل صـار كـالـواجب عـادة أيضًا. عندنا في مـصـر فـإن الرجل مـتى ترعرعت ابنته يأخذ في أن يشترى لها كلما تيسر شيئًا من الحلى والحلل وغيرهما حتى إذا جاء وقت الزواج كان عندها جميع لوازم الزينة بل والجهاز وأثاث منزلها. فيا قبح الله الجهل وما أجدرها بقولي (بأي كتاب أم بأية سنة ترى تحريم الحلال شريعة) (قل من حـرم زينة الله التي أخـرج لـعـبـاده والطيـبـات من الرزق) (يا أيهـا الذين آمنوا لا تحـرمـوا طيبات ما أحل الله لكم ولا تعتدوا إن الله لا يحب المعتدين) فإن قصدت حضرتها بالاقتران للحلي والحلل ما ذكره الفقهاء. فقد ذكرت ما لا قصدت وقصدت ما لا ذكرت. وهو مما ننزهها عنه لأنه من فعل العجماوات. على أنها لو أرادته لكفاها عن تلك الطنطة الكاسدة الحديث المتقدم فهـو لهـا على ظاهره غنيـمـة باردة. وكانت أقله تسلم من جريمة التهجم على الآيات الشريفة وركوبها في تفسيرها متن الأهواء. وخبطها في مفاوزها خبط العـمـيـاء. على أنه ليس ممنوعًا بهذا القدر الذي هولت به كـمـا علمت بل هو خـلاف الأولى. بل قد يكون طاعـة بالنية الخيرية. فإن النية روح العمل (إنما الأعمال بالنيات) ولربما يسلم به كلا الزوجين من مواقع الشهوة وموارد التهمة فيكون دارئًا للمفاسد (ودرء المفاسد مقدم على جلب المصالح) وأين هذا من الفظائع التي ترتكبها الآن مما يهدم دعائم الأدب ويهوى بشعائر الشرائع على مرأى ومسمع من أولياء الأمور؟ بل أين هذا مما جاءته حضرتها من تمزيق الآيات القرآنية واجترائها على انتهاك حرمة الشريعة المقدسة فما أحقها بقوله:

لا تنه عن خلق وتأتي مثله……. عار عليك إذا فعلت عظيم

(الفصل الثالث في تفنيد كون ما ذكر سببًا لفساد أخلاق الزوجين)

اعلم أولاً إن للإنسان كغيـره صفات طبيعية وصفات كسبية والأولى ذاتية وعرضية. والذاتية ما بها قوام الحقيقة كالحيوانية والناطقية للإنسان. والأولى عـامـة وتسمى الجنسـيـة والـثـانيـة خاصة وتسمى النوعية وبها تمتاز الأنواع المتشاركة في الجنس الواحـد. (والعرضية) مـا كـانت خارجة عن الحقيقة والذات لا تتوقف عليها في قـوامـهـا وذاتها. وهذه منها ما هو نتايج وآثار الذاتية الناشئة عنها الملازمة لها لزومًا بينًا غيـر منفك كلزوم الحرارة للنار والزوجـيـة لـلأربعـة والضحك للإنسان وانتـصـاب القامة وكونه على هذه الصورة الخاصة التي لا توجد في سواه. والصـفـات اللازمة له شـأنًا وطبيعة. وهذه لا دخل للنفس في اكتسابها ولا قدرة على جلبها أو دفعها مهما كانت القوى والأفكار. فهل رأت عيناك أو سمعت أذناك أن إنسانًا خلق على غير ما نعـهـده فـيـه مما هو عليـه مـن هذه الصورة وآثارها وصـفـاتهـا الخـاصـة به اللازمـة لـه كـالنطق والضحك والمشي على الرجلين المخـصـوصـتين بالقوة الشـأنيـة في الجميع. أو أنه غـيـر مـدرك بفكرته للأمور الكلية كأن يدرك أن الوجود ضد العدم وأن العدد إما زوج أو فرد. (ومنها) أي الصفات العرضية لازم لزومًا غير بين منفـك كـالـفـضـائل والرذائل الإنسانية التي تـتـبـدل وتتـوارد على الإنسان. فالأولى مثل الحلم والكرم والشجاعة والصداقة والعدالة والاستقامة في جميع أطوار حياته من الرشد ومكارم الأخلاق (والثانية) أضدادها. وهذه بقسميها موكولة لأمر التربية وحكم المولد وتأثير الأوطان وخواصها الجوية وأحوال الوالدين ومنشئها ومـا تعـوداه. فإذا لوحظ الطفل حـال طـفـولـيـتـه وعـولج بمحاسن التربية الكاملة. والشباب غض وغصن الشبيبة رطب. انغرست تلك الصفات في لوحة فكرته انغراس النبات في الأرض الطيبة والروضة الغضة. وانتقشت في مرآة مخيلته وارتسمت فصارت كالطبيعة الغريزية لا تحولها العوارض ولا تزلزلها العوائد. وشبت معه كلما شب (ولكل امرء من دهره مـا تعـود) (التعليم في الصغر كالنقش على الحجر).

قد ينفع الأدب الأطفال في صغر…… وليس ينفعهم من بعده أدب

إن الغصون إذا عدلتها اعتـدلت…… ولا يلين ولو لينته الخشـب

وإذا لم يلاحظ الطفل حال طفوليته بالتربية الشريفة والتخلق بالأخلاق الكريمة حتى مضى زمن الشبيبة فهيهات أن يجدي التعليم أو يؤثر التحسين. وتأمل ذلك في الأشجـار حال نشأتها وبروزها على سطح الأرض ثم حالتها بعد ذلك نراها في الحالة الأولى مستعدة لقبول أي شكل تريد ظهورها عليه وتوجهها إليه بالمعالجة وفي الحالة الثانية تراها متعاصية عن ذلك حيث نضبت مـائيًا وجـفـت رطوبتها. العجينة والطينة في حالتي رطوبتـهـمـا وجفافهما تـرى الفرق واضحًا جليًا بالجملة (فمن شب على شيء شاب عليه).

تعود فعال الخير دأبًا فكل ما……. تعوده الإنسان كان له طبعـًا

غيره:

ظلمت أمرًا كلفته غير خلقه……. وهل كانت الأخلاق إلا غرائزًا

وحينئذ فسفاهة الزوجين وسوء أخلاقهما في عشرتهما من هذا القبيل. فمن حسنت تربيته منهـمـا حـال طفـوليـتـه وروعيت سيرته وسيره إذ ذاك بمحاسن الآداب وجلائل الصـفـات وحسن التعود شب على ذلك ولحقت صفاته وأخلاقه بالغرائز الطبيعية والفطرة الذاتية لا تغـيـره عنهـا الأغـيـار ولا تـزحـزحـه عـوارض الأحوال. كنفقة أحدهما على الآخر أو إبرائه من المهر والنفقة أو زيادة المهر وكثرة الإنفاق أو غير ذلك مما تراه وتسمعه بينهما. ولذا جعلوا من المندوب أن تكون فوقه خلقًا وورعًا وأدبًا وما ذاك إلا لأن الأخلاق سابقة على الزوجـيـة مـوجـودة كـالـغـرائز بحسن التربية وعراقة البيوتات. فتأمل أحوال الزوجين اللذين من عنصر طيب وأصـل كـريم وبيـت شـريف. وبين اللذين من عنصر خبيث واصل خسيس وبيت دنئ. يظهر لك الفرق جليًا مع اتفاقهما في أن الزوج دفع ما يجب عليه من المهر وقام بواجب النفقة والكسوة في كل منهما. وهل يمكننا أن نسـوى بين أحـوال زوجيـة السـوقـة والعـامـة وبين أحـوال زوجـيـة الخـاصـة ومـن فـوقـهـم مـن الأمـراء والوزراء والملوك. بل بين أحوال كل نوع من هذه الأنواع فإنك تجد بينهـما تفـاوتًا لا يمكن إنكاره مع تسـاوى الكل في قـيـام الزوج بالإنفاق والمهر. وحينئذ فسوء عشرتهما إنما هو ناشئ عن سوء تربيتهما كما إن حسنها ناشئ عن حسنها. لا تابع لعارض ولا جار تحت مؤثر من النفقة أو غيـرهـا. فكثيرًا مـا نجـد أزواجًا قامت بواجباتها وحافظت على ما عهد لديها من أمر الزوجية وزوجته سابحة في بحار جهلها. طامحة في أودية هواها. رافعة برقع حيائها. متهتكة في أعراضها لا تصدها الأموال. ولا تصدمها عن غيها الرجال. مهما كانت قوتهم وثروتهم. وأظنك لا تكلفني على ذلك دليـلاً فـفـي سـمـعك من ذلك الـيـوم وقـبل الـيـوم مـا يغني عن الكلم ولولا الحياء لصرحنا بنموذج من ذلك في مصرنا. وكثيرًا ما نجد زوجات فاتنات صالحات يخدمن أزواجهن ابتغاء الزوجية وامتثالاً للأوامر الشرعية وإن لم ينلن من الرجال ما ينال غيرهن (وقد حكي أن رجلاً نزل ضيفًا على آخر في طريق سفـره فـرأی رب البيت ذميم الخلق سيئ الخلق ورأى المرأة حسنة الخلق جميلة المنظر على عكس زوجها. وهما في غاية الاتفاق وحسن العشرة والائتلاف. فسأل الضيف المرأة متعجبًا من امتثالها وعشرتها لمن هو دونها في ذلك. فقالت له لا تعجب فلعله أصلح فيما بينه وبين الله فجعلني الله جزاءه. ولعلني أسأت فيما بيني وبين الله فجعله جـزائي). وحسبك دليلاً. على ما ذكرناه من أن أحوال الزوجيـة وواجـبـاتهـا ليست معللة بعلة ولا مبنية على سبب غـيـر الآداب الشـرعيـة والأخلاق الفاضلة المرعية. وورد في الآيات القرآنيـة الحث على ذلك من غيـر مـراعات غرض من الأغراض العارضة كالنفقة ونحوها. من ذلك قوله تعالى (قل للمؤمنين يغضوا من أبصارهم ويحفظوا فـروجـهم ذلك أزكى لهم إن الله خـبـيـر بما يصنعون وقل للمؤمنات يغضضن من أبصارهن ويحفظن فروجهن ولا يبدين زينتهن إلا ما ظهر منها إلخ) قال الكشاف يغضوا من أبصارهم: من للتبعيض والمراد غض البصر مما يحرم والاقتصار على مـا يحل. وجوز الأخفش أن تكون مزيدة وأبى سـيـبـويه (فإن قلت) كيف دخلت (يعني من) في غض البصـر دون حفظ الفروج (یعنى حيث قال من أبصارهم ثم قـال ويحفظوا فروجهم بدون من) قلت دلالة على أن أمـر النظر أوسع. ألا ترى أن المحـارم لا بأس بالنظر إلى شـعـورهـن وصـدورهن وثديهن وأعضادهن وأسواقهن وأقدامهن وكذلك الجواري المتعرضات. والأجنبية ينظر إلى وجهها وكفها وقدميها في إحدى الروايتين. وأما أمر الفرج تضيق. وكـفـاك فرقًا أن أبيح النظر إلى ما استثنى فيـه وحظر الجـمـاع إلى مـا استثنى منه. ويـجـوز أن يراد مع حـفـظـهـا عن الإفضاء إلى ما لا يحل حفظها عن الإيذاء. وعن ابن زيد كل ما في القرآن من حفظ الفروج فهو عن الزنا إلا هذا فإنه أراد به الاستتار. ثم أخبر أنه خبير بأفعالهم وأحوالهم فكيف يجيلون أبصارهم وكيف يصنعون بسائر حواسهم وجوارحهم. فعليهم إن عرفوا ذلك أن يكونوا منه على تقوى وحذر في كل حركة وسكون. النسـاء مـأمـورات أيضًا بغض الأبصار. ولا يحلل للمرأة أن تنظر من الأجنبي إلى ما تحت سرته إلى ركـبـتـه وإن اشتهت غضت بصرها رأسًا. ولا تنظر من المرأة إلا مثل ذلك وغضها بصرها من الأجانب أصلاً أولى بها وأحسن. ومنه حديث ابن أم مكتوم عن أم سلمة رضي الله عنها قالت كنت عند النبي صلى الله عليه وسلم وعنده ميمونة فأقبل ابن أم مكتوم وذلك بعد أن أمرنا بالحجاب فدخل علينا فـقـال احتجبن. فقلنا يا رسول الله أليس أعمى لا يبصرنا قال أفعمياوان أنتما ألستما تبصرانه. (فإن قلت) لم قدم غض الأبصار على حفظ الفروج قلت لأن النظر بريد الزنا ورائد الفجور والبـادي أشد وأكثر. ولا يكاد يقدر على الاحتراس منه الزينـة مـا تزينت به المرأة من حلى أو كحل أو خـضـاب فـمـا كـان ظاهرًا منها كالخاتم والفضة والكحل والخضاب فلا بأس بإبدائه للأجانب. ومـا خـفـي منهـا كـالـسـوار والخلخال والدملج والقلادة والإكليل والوشاح والخـرط فـلا تبديه إلا لهؤلاء المذكورين. وذكر الزينة دون مواقعها للمبالغة في الأمر بالتصـون والتستر لأن هذه الزين واقـعـة على مـواضع من الجـسـد لا يحل النظر إليـهـا لغـيـر هؤلاء وهي الزراع والسـاق والعـضـد والعنق والرأس والصـدر والأذن. فنهى عن إبداء الزينة نفسها ليعلم أن النظر إذا لم يحل إليها لملابستها تلك المواقع بدليل أن النظر إليها غير ملابسة لها لا مقال في حله. كأن النظر إلى المواقع أنفسها متمكنًا في الخطر ثابت القدم في الحرمة شاهدًا على أن النساء حقهن أن يحتطن في سترهن ويتقين الله في الكشف عنها. إلى أن قال على قوله تعالى (وليضربن بخمرهن على جيوبهن) كانت جيوبهن واسعة تبدو منها نحورهـن وصدورهن وما حواليهن. وكن يسدلن الخمر ورائهن فتبقى مكشوفة فـأمـرن بأن يسـدلنها من قدامهن حتى يغطينها. ويجـوز أن يراد بالجـيـوب الصـدور وتسـمـيـة بما يليـهـا ويلابسها ومنه قولهم ناصع الجيب. وقولك ضربت بخمارها على جيبها كقولك ضربت بيدي على الحائط إذا وضعتها عليه. وعن عائشة رضي الله عنها ما رأيت نساء خيرًا من نساء الأنصار. لما نزلت هذه الآيات قـامـت كل واحـدة منهن إلـى مـرطها المرجل فصدعت منه صدعة فاختمرن فأصبحن كأن على رؤسهن الغربان إلى أن قال على قوله تعالى (ولا يضربن بأرجلهن ليعلم ما يخفين من زينتهن) كانت المرأة تضرب الأرض برجلها ليتقعقع خلخالها ليعلم أنها ذات خلخال. وقيل كانت تضرب بإحدى رجليها الأخرى ليعلم أنها ذات خلخالين. فأنت ترى أن حفظ الرجل نفسه وصونه إياها وحفظ المرأة نفسها وصونها إياها أمر شرعي وواجب ديني غيـر معلل بكثرة إنفاق أو قلته أو عدمه. وكيف مـسـارعـة نساء الأنصار عند سماع تلك الآية إلى الامتثال. فلو كان معللاً بتلك العلة لكان لهن أن يتـوقـفـن حتى يعلمن هل تلك العلة موجودة في أزواجهن أم لا. والآيات والأحاديث في هذا الشأن كثيرة وحسبك ما أوردنا دليلاً على ما أردنا ودونك قولي:

تلك الدلائل يا أميم تجرعي……. كأس الملام فمنك كان شرابها

(الفصل الرابع في تزييف ما أوردته من الأمثلة)

اعلم أن مثل هذه الأمثلة مما اخـتـرعـتـه الحكماء ووضعته الفـضـلاء تقريبًا للإفهام الضـعـيـفـة التي لا تقوى على المدارك العقلية. فتبرز لها ما تريد من المواعظ الأدبية والنصايح الحكمية في صورة محسوسة تثبيتًا في عقولهم وتأثيرًا في أفكارهم. فهي من باب الخطابيات الإقناعية المركبة من المقدسات المقبولة الظنية العلوية عن اليقينيات. كما يفعله الخطباء على المنابر وفي المحافل بقصد ترغيب العـامـة وتـرهـيـبـهم في الإقدام على مـا ينفعهم والإحجام عن ما يضرهم. كما هو معلوم في الكتب المنطقية. ففي كتابنا المبادئ المنطقية: الخطابة هي ما تتألف من مقدمات مقبولة ومظنونة. فالأولى هي المأخوذة ممن يعتقد فيه كعالم أو ولى أو حكيم أو سياسي كل في مـوضـوعـه. ومن ذلك خطابة المسـاجـد والمحافل والغرض منه ترغيب الناس فـيـمـا ينفـعـهم وتهذيب الأخلاق. وكل ما يجلب السعادة في الدين والدنيا وتحذيرهم عما يضـر سـعـادتهم. ومعلوم أن هذا لا يفيد اليقين إذ لا يفـيـده إلا البرهان وهو القياس المؤلف من المقـدمـات اليـقـيـنـيـة المحصـورة عندهم في الضـروريات والنظريات. قـال في ذلك الكتـاب (والبـرهـان) وهـو مـا يتألف من مـقـدمـات يقـيـنـيـة تـفـيـد اليـقين. واليقين هو الاعتقاد الجـازم المطابق للواقع الغير ممكن الزوال. والمقـدمـات اليـقـيـنـيـة قـسـمـان إمـا ضـروريات وإمـا نظـريات. فالضروريات مـن أوليـات ومـشـاهـدات ووجـدانيـات وتجـربـيـات وحدسيات ومتواترات. فالأوليات هي القضايا التي يحكم فيها العقل بمجرد تصور الطرفين بدون توقف على أمر آخر سواء كان التصور المذكور بديهيًا نحو الاثنان ضعف الواحد والواحد نصف الاثنين والكل أعظم من الجزء والجزء أقل من الكل. أو نظريًا نحو الممكن يحتاج في وجوده إلى مرجح. وقد يتوقف الحكم فيها بعد تصور الطرفين على أمر آخر وذلك غير معتبر لأنه لا يكون إلا لنقصان الغريزة كما في البله والصبيان. أو لتدنس الفطرة كما في بعض العوام والجهلة. ومنها القضايا التي قياساتها معها وهي ما توقف الحكم فيها على واسطة لا تغيب عن الذهن نحو الأربعة زوج فإنها متوقفة على قياس. وهي الأربعة منقسمة بمتساويين. وكل مـا كـان كـذلك فـهـو زوج إلى آخـر مـا هو معلوم لدى أرباب المباحث النظرية المتصديين للتآليف العلمية. على أن ما أوردته من مثالي الأسد مع اللبؤة والحـمـامـة مع الصـقـر والـغـراب لا يكاد ينطبق على نظر صحيح. أما الأول فإن الأسد يضرب به المثل في الهمة والشجاعة وكرم الأخلاق وتشبه به رجـال الهمم العـاليـة كقوله:

لدى أسد شاكي السلاح مقذف…… له لمة أظفاره لم تقلم

وقول الآخر في وصف محبوبه:

أسد على وفي الحروب نعامة……. فتخاء تنفر من صفير الصافر

وقال تعالى (فما لهم عن التذكر معرضون كأنهم حمر مستنفرة فرت من قسورة) والقسورة الأسد. فإذا كانت حمر الوحش التي هي في القـوة والافتراس بمكان كما قيل (كل الصيد في جوف الفرا) تفر من الأسد وتخشاه فكيف يكون جبانًا دنيء الهمة. إن هذا إلا تناقض. ومما قيل في همة الأسد وكرم أخلاقه:

سأترك ماءكم من غيـر ورد…… وذاك لكثرة الورّاد فيـه

إذا سقط الذباب على طعام…… رفعت يدي ونفسي تشتهيه

وتجتنب الأسود ورد مـاء…… إذا كان الكلاب ولغن فيـه

ولهذه الأبيات حكاية رأيناها في كثير من الكتب منها تسلية الخواطر في منتخبات الملح والنوادر نمرة (١٤٧) يستأنس بها لما ذكرناه من أن الأخلاق الطاهرة لا تدنسها الأغراض الكاسدة. والصفات الكاملة الملحفة بالغرائز لا تزعزها الأعراض الفاسدة. ملخصها أن بعض الملوك هوى امرأة بعض خدمه فأغفله ودخل عليـهـا بقـصـد الفـاحـشـة منها. وذكرت له هذه الأبيـات فـخـجل وانقطع عنها ولما حضر زوجها استشعر لعلامة رآها بدخول الملك منزله. فارتاب في زوجـتـه غيـر مظهـر. فأخذها وردها لأهلها موهمًا زيارتهم. ثم تركها عندهم مدة ولم يسأل عنها. فخاصمه أخوها إلى القاضي. فذهبوا إليه ووجدوه عند الملك. فقال أخوها أيد الله القاضي أني أجرت هذا الغلام بستانًا رفيع الحيطان ببئر عامرة وأشجار مثمرة فضرب حيطانه وهدم بئره والآن يبغى أن پرده علىّ. فالتفت القاضي إلى زوجها. وقال مـا تقـول يا غلام. فقال قد سلمت إليـه البـسـتـان أحسن مما كـان. فـقـال القـاضي أكـذلك قـال لا. ولكن أريد أن أسـألـه مـا السبب في رده؟ فـقـال القاضي ما قولك يا غلام؟ قال رددته كرهًا لأني دخلت إليه يومًا فرأيت أثر الأسد فأخاف إذا دخلت مرة ثانية أن يفترسني الأسد فكان مـا كـان إجلالاً له وخوفًا منه. وكان الملك متكئًا فلما سمع كلامه اسـتـوى جالسًا وقال أرجع إلى بستانك آمنًا مطمئنًا فإن الأسد لا يدخله ثانيـة فـوالله مـا رأيت مثله ولا أشد احترازًا من حيطانه على شجره ولا أعز منعة على قاصده. فرجع الغلام إلى زوجته فانظر إلى صنع هذه المرأة وزوجها وعدم اغترارهما بعزة الملك تفهم. (وأما الثاني) فباطل أيضًا لأن كلاً من الغراب والصقر لا يشاكل الحـمـامـة لاختلاف الثلاثة أثرًا ونوعًا وهم يقولون (إن الطـيـور على أشكالها تقع) (ومن عـاشـر مـن لا يشـاكله حـاق به السوء) وما أجدر حضرتها فيما عليه اجترأت. حيث على المثال عـولت بهـذا المثل المذكـور في الجـزء الأول من مـحـاضـرات الأصـبهاني نمرة (١٩٤) ونصـه ذكـر أن قـصـارا كـان يعـمـل على شاطئ النهر وكان يرى كركيًا يجيء كل يوم فيلتقط من الحماءة دودًا ويقتصر في القوت عليه. فرأى يومًا بازيًا قد ارتفع في الجو فاصطاد حمامًا فأكل منها بعضًا وترك في موضعه البعض وطار. فتفكر الكركي في نفسـه وقـال مـا لـي لا أصطاد الطـيـور كـمـا يصطاد وأنا أكبر جسمًا منه، فارتفع في الجو وانقض على حمام فأخطأه فسقط في الحـمـاءة فتلطخ ريشـه ولم يمكنه أن يطير. فأخذه القصار وحمله إلى منزله فاستقبله رجل فقال ما هذا قال (كركي يتصقر) مغزاه (أطرق كرا إن النعام في القرى) فيا ليتها أدرجت في ديوانها:

يا بارى القوس بريًا ليس يحسنه أفسدت قوسك أعط القوس باريها

(الخاتمة في السقطات العربية والأغاليط النحوية)

(يضيق صدري ولا ينطلق لسـاني) مـاذا أقـول فـيـمـن لا يدرى مبـادئ اللغـة وهي أول خطة لمن يضـرب في النظم والنثـر بـالقـدح المعلى ويجلو بنور أفكاره في التأليف المغمى والمعمى. وأنا لفي زمن تكاد اللغة العربية فيه أن تلحق بالضروريات الأولية. ولقد اطلعنا في رسالتها مع وجازتها على نحو الأربعين غلطة عربية. ونحن نذكر نموذجًا منها يرشدك لباقيها فمنها صحيفة (٧) سطر (١٥) (فهلا أعض) بالهـمـزة والـصـواب بدونه وأصله عضض. اجـتـمـع مـثـلان متحركان فوجب إدغام أولهما في ثانيهما فصار عض بفتح أوله وفعل الأمر منه عض بفتحها أيضًا كما هي القاعدة الصرفية ففي كتابنا الأصول الوافية في القواعد الصرفية بعد قول المصنف إن جمعا في كلمة مثلان *فادغم وجوبًا أولاً في الثاني ما نصه: اعلم أن المضارع والأمر المسند للمذكر المفرد إذا أردت إدغامهما وكانا من الثلاثي وجب تحريك أولهما وآخرهما أما أولهما وهو الفاء فيحرك بحركة عين المضارع وذلك لأن المدغم أصله مفكوك فلأجل الإدغام يجب تسكين العين ونقل حركتها إلى الساكن قبلها فتصير العين ساكنة والغاء متحركة بحركة العين سواء كانت فتحة أو كسرة أو ضمة فيستغنى حينئذ عن همزة الوصل في الأمر. مثلاً إذا أردت إدغام اردد فـتنقـل ضـمـة الدال إلى الراء وتحـذف هـمـزة الوصل وتدغم فتقول رد بضم الراء. وإذا أردت إدغام اعضض فتنقل حركة الضاد وهي فتحة إلى العين فتحذف همزة الوصل وتقول عض بفتح العين. وهو معتمد لواحد بنفسه أو بحرف الجر يقال عضه وعض به وعض عليـه كله بمعنى وقـد عـضـه يعـضـه بالفـتـح عـضـا ومنه الحديث الشريف (عليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين من بعدي عضوا عليها بالنواجذ) وأما أعض بالهمزة فهو بمعنى جعل غيره عاضًا على الشيء. وهو متعد لاثنين يقال أعضه الشيء فعضه ومنه الحديث الآخر (فـاعـضـوه بهن أبيـه ولا تكنوا) وما هنا من المتعدى لواحـد لأن المقـصـود يعض هـو بنانـه كـمـا يعض النادم سـبـابـتـه بأضراسه آسفاً. ومنها صحيفة (٨) سطر (١٥) (لم ترضى) بالألف والصواب بدونها. ومنها صحيفة (١٣) سطر (١٤) (أحمقًا) بالتنوين وهو من لحن الأحمق لأنه ممنوع من الصرف فتنوينه خطأ. ومنها فيها سطر (۱۷) (المجـد ينشـا) بالألف والصـواب بـاليـاء لأنه من انشاء. ثم لا يخفى ما في هذا البيت من التجافى عن مضاجع الرقة إذ المجـد لا يقابل الجبن ولا يمكن إقامة بيت بدون جـدار. فما منه انسرق أذوق وأرق وهو:

العلم يرفع بيتًا لا عماد له…… والجهل يهدم بيت العز والشرف

فقد جمع بين العلم والجهل والرفع والهـدم وفرق بين قوله لا عماد له وقولها لا جدار له. كما أن قولها كم من وضيع إلخ فيه للنقـد مطعن خـفـي العـار يظهـره التأمل في السطر الثاني بعين الاعتبار وليتها قالت:

کم من وضيع سما بالجد والهمم…… وكم رفيع هوى بالجبن والكسل

ومنها صحيفة (١٤) سطر (۱۱) (اتفق أن فارسان) من اللحن الذي لا يجرى على لسان أصغر التلامذة. ومنها فيها سطر (۱۳) (يستظلا بهـا) والصـواب يسـتظـلان بهـا. وأني لأعجب ممن هذه حالته كيف يتجاسر على اقتحام أسوار التأليف لاسيما في العلوم الدينية (إنك لأجراء من خاص الأسد). ولعلها من أرباب الشطح الذين بالإلهـام يؤلفون وهم باللغة جاهلون سبحان الفتاح. ولكن (الحياء شعبة من الإيمان) وأنا لفي زمن ترمقنا فـيـه الأجـانب بحدة أنظارها. وترمينا بسهام انتقادها. تبحث عن فرصة لتجر عنابها كؤوس التنديد وتدخل علينا بها الدخل في الدنيا والدين. ويا حبذا لو ضربت الحكومة على أيدي المتصدرين للتآليف في العلوم الشرعية وآلاتها اللسانية. وأناطت ذلك بجمعية من أولى العرفان الصادقين المترفعة عن دناءة الغايات همهم. وأمرت أرباب التآليف أن يعـرضـوا تـآليفهم على تلك الجمعية. فمن أقرت له بالقـبـول كـوفىء بما يعظم الرغبات في مناهج العلوم فـتـتـزايد الاختراعات وننبغ في العلوم وغيرها حتى نلحق من تقدمنا وكنا الأوائل. أو على الأقل نحـرز ما كان لآبائنا المصريين من الفضائل. فإن فرنسا لم تصل إلى هذه الدرجة القصوى التي رفعت فيها راية التمدن على أعلام المعمورة إلا بمثل هذه الجمعيات. فقد ذكر العلامة خير الدين باشا في مقدمة أقوم المسالك أن فرنسا فيها خمس جمعيات من كبار علمائهم يسمى كل منها بالأكدمـية. وتسمى الجمعية الأولى أكدمية فرنسا والثانية أكدمية الخطوط والثالثة أكدمية العلوم والرابعة أكدمية البوزار والخامسة أكدمية السياسة وتهذيب الأخلاق. ولكل من هذه الجمعيات تعيين جوائز لمؤلفين من مـقـدار مـالي أو نيـشـان مـن الصنف المعروف عندهم بالميداليا. والجوائز تارة من الدولة وأخرى من بعض أعيان البلد ترغيبًا في الاختراع. وفي رجال حكومتنا ما يشفى غليل علتنا خصوصًا وقـد تعلقت الآمـال الـيـوم بـهـمـة أمير البلاد وعـزيزها الخديو الأفخم (عباس) الثاني الذي جدّد للسياسة دورًا جديدًا نهضت فيه ليوث الحرية من أجماتها قائلة:

عباس عباس إذا احتدم الوغى…… والعزم ماض والشبيبة غضة

حيث أحيا لمصر رسومًا دارسات. وكساها من حلل العـز دروعًا سابغات.

نهضت به مصر على الأقدام…… تسمو على الجوزاء دون تراخ

قالت بعباس بلغت مقاصدی…… سن الشباب وهمة الأشيـاخ

ولعل الله تعالى يديم هذه النهضة حتى تصفق بجناحيها على عيون تلك الدفعة. فتحمد الغاية نهضة البداية وتسترجع مصر ما كان لها من العزة والسطوة في سالف الأعصار. فما من أحد ينكر أن التـمـدن الـغـربـي مـا هو إلا مقتبس من أنوار التقدم الشرقي وسليل الأهرام وبانيها والبرابي وما فيها. والصيحة الإسلامية التي صعقت لها المعمورة شرقًا وغربًا والسطوة العربية التي سرت كالبرق فدانت لها الملوك قيصرًا وكسرى. ولكنهم حفظوه وأهملناه وشادوه وهدمناه. فتقهقرنا حيث تقدموا واستذللنا حيث استعزوا. ولله فينا غاية لم تبلغ العقـول كنهها. ولم تدر منتهى أمدها. ولا متى حدها. نسأله تعالى تسهيل سبل الكمال إلى صعود ممارج الإصلاح وتمام الآمال. وإلى هنا أحجم القلم عن الجرى في هذا المضمار. واختبأ كما كان وراء حجب الأستار. تاركًا أثرًا يذكر. راجيًا عملاً يؤجر. قائلاً:

وبضاعتي المزجاة تطلب من فتى…… حر يغض الطرف عن علاتها

أو يصلحن خطأ اليراعـة بالتي…… تغفو بنا جبلت على زلاتـها

والمرء في الدنيا فريسة خطبها…… ومجرة لمدار فلك حياتـها

فوجودنا أصل الفناء لذاتنـا…… وشقاؤنا أصل النعيم لذاتهـا

حكم تحجب سرها عن فهمنـا…… حار الحكيم وضل في أجماتها

تبغى النفوس كمالها لكنها…… تفنى وما تجني سوى حسراتها

فذر التعمق إن أردت سلامـة…… فالناس لا تهوى سوى عاداتـها

واسلك طريقًا لا يلام سـلوكه…… أو فاعترك دنياك في غفلاتـها

من حارب الأيام غص بريقـه…… وسقى كؤوس الحتف من فتكاتها

والله يرشدنا لأعذب منهـل…… تروى به الأكباد من زفراتــها

تنبيه:

نُشر هذا الكتاب أولاً بصفة ملحق بجريدة النيل مجـزأ على التوالي. ثم جرد منها وجمع بصفة كتاب مستقل. وهذا معنى ما كتب على ظهـره بعنوان (منتخب من جريدة النيل) والله الموفق للقبول.

اصدارات متعلقة

وسائل التواصل الاجتماعي ترسخ العنف ضد النساء
نصائح للمصورة الصحفية بشأن الوقاية من "كوفيد" 19" أثناء التصوير الصحفي
نصائح بشأن السلامة النفسية للنساء في أوقات الأزمات
ورقة قانونية بشأن مشروع قانون الأحوال الشخصية الجديد
كيف تحررين محضر تحرش
عيد الأم ما بين الاحتفاء بقيمة الأمومة و ترسيخ الدور النمطي للنساء
خدمات الصحة الجنسية فيما بعد سن الإنجاب ضرورة لتمكين النساء
ختان الإناث في مصر... جريمة تعذيب ضد الإنسانية
حقوق النساء من اجل العدالة والتنمية
الإيدز خطر صامت يهدد حياة النساء في ظل جائحة كورونا