من قضايا المرأة

اعداد بواسطة:

الولاية والوصاية للمرأة

موضوع ولاية المرأة على مالها أو على نفسها أو على غيرها، أو وصايتها على غيرها، أو وصاية غيرها عليها، من الموضوعات المثارة بقوة على الساحة الإسلامية المعاصرة، من أقصى المشرق إلى أقصى المغرب، بمختلف مثارات الجدل على هذه الساحة الواسعة، وما وراءها من ساحات عالمية ومنظمات دولية وأسمية، لا يقتصر فيها اختلاف الآراء على الفقهاء الشرعيين، بل يشمل المثقفين والمفكرين، وفقهاء حقوق الإنسان، ومنظماتهم، ومنظمات حقوق المرأة على وجه الخصوص.

والذي يضاعف حدة الخلاف في هذا الموضوع، أن كثيرًا من فقهاء الشريعة في عصرنا لا يستطيعون الخروج من بطن الحوت الذي وضعوا أنفسهم فيه، وهو التقليد والجمود على آراء بعينها في مذهب بعينه في كتب الفقه القديمة وإصرارهم على التمذهب بمذهب واحد، بحكم ثقافتهم التي تلقوها على هذا المذهب، دون أن يخرجوا منه إلى مذاهب أو مناهج أخرى في تراثنا نفسه، يمكن أن تسمح لهم برؤية جديدة تحررهم من إسار المذهب الواحد إلى آفاق أوسع تنبع من تراثنا الفقهي القديم نفسه، وتشرق على العالم الحاضر بكل مقتضيات الملاءمة معه، والتجاوب مع هذه المقتضيات، مما يحقق في النهاية عقيدة صلاحية الإسلام لكل زمان ومكان حقًا وعدلاً وواقعًا.

لكن الذين يخرجون من بطن الحوت يدركون بادئ ذي بدء أن هناك عدة أمور مهمة في موضوع الولاية أو الوصاية:

1- أن موضوع الولاية أو الوصاية مرتبط بالأهلية، وهي امتلاك الحرية والقدرة على التصرف، فمن ثبتت له الأهلية بهذا المعنى ثبتت له مباشرة الولاية على النفس أو الغير، ويكون ثبوت الولاية على المال أو النفس أو الغير بمقدار ثبوت الأهلية، فعلى قدر الأهلية تكون الولاية، أو بعبارة أخرى أكثر تركيزًا وأكثر دلالة نقول: الأهلية أصل الولاية.

٢أنه لما كانت الأهلية هي أصل الولاية، كان علينا أن نبحث عن مفهوم الأهلية؛ لأن تحديد هذا المفهوم يترتب عليه تحديد تعلق الولاية بالأهلية وارتباطها بها، واعتبار مؤشرات وأمارات الأهلية موجبات للولاية.

ويمكن تحديد هذا المفهوم واستنباطه من القرآن الكريم، عندما يقول الله تعالى: ” ولا تؤتوا السفهاء أمولكم التى جعل الله لكم قيامًا وارزقوهم فيها واكسوهم وقولوا لهم قولاً معروفًا” [النساء: 5) فالآية تنزع الولاية على الماء من السفيه الذي لا يتصرف في المال تصرفًا رشيدًا؛ لأن الماء هو الذي به قيام الإنسان بشئون حياته، والسفه هو خفة الحلم (العقل)، والجهل (الفيروز أبادي. القاموس المحيط).

وإذا كان السفه هو موجب إسقاط الولاية، فإن ضد السفه وهو الرشد هو موجبها؛ لأنه كمال العقل، والعلم بوجوه التصرف النافع في المال، دون تقتير أو إسراف كما قال تعالى: ( والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا وكان بين ذلك قواما ) [ الفرقان: 67].

يقول الفخر الرازي في تفسير قوله تعالى: ( ومن يرغب عن ملة إبراهيم إلا من سفه نفسه ) [البقرة : 130] “أصل السفة: الخفة، ومنه زمام سفيه، والدليل عليه ما جاء في الحديث (الكبر: أن تسفه الحق وتغمض الناس) وذلك أنه إذا رغب عما لا يرغب عنه عاقل قط فقد بالغ في إزالة نفسه وتعجيزها، حيث خالف بها كل نفس عاقلةكما نقل الرازي قولاً ثانيًا عن الحسن، إن معنی سفه نفسه: جهل نفسه وخسر نفسه.

وقد زاد الرازي هذا المعنى أيضاحًا عند تفسيره لقوله تعالى: ( ولا تؤتوا السفهاء أمولكم) ، مشيرًا إلى ما ذكره آنفًا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل، ولذلك سمى الفاسق سفيهًا، لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم، ويسمى الناقص العقل سفيهًا لخفة عقلهكما قال: “ليس السفه في هؤلاء صفة ذم، ولا يفيد معنى العصيان لله تعالى، وإنما سموا سفهاء لخفة عقولهم ونقصان تمييزهم عن القيام بحفظ الأموال.

وقد أكد نفس المعنى الفيروز أباديصاحب القاموس المحيطإذ قال في مادة رشد: “الرشد: الاستقامة على طريق الحق مع تصلب فيه (يعني ثبات عليه) والرشيد في صفات الله تعالى الهادي إلى سواء الصراط (أي صفة من صفات الله سبحانه) والذي حسن تقديره فيما قدر“.

الرشد إبن بهذا المعنى هو مناط الأهلية، فحيث توجد الاستقامة وحسن التقدير للأمور تكون الأهلية، ومن ثم تترتب عليها الولاية، سواء كان هذا الرشد عند رجل أو امرأة، لأنه – كما قلنا – هو مناط الولاية.

ولاية المرأة على المال:

ومع اتفاق الفقهاء على هذا الارتباط بين الرشد والولاية، والارتباط بين السفه والحجر أو منع الولاية، إلا أنهم اختلفوا في من يوجد لديه الرشد أو من هو أهل له، وفي من يوجد لديه السفه، أو من هو محل السفه؟ هل هو صغير السن؟ حيث يكون محلاً للسفه. أو نقصان التمكين أو انعدام الحرية في التصرف؟. أو هو تبذير الأموال؟ حيث يجب الحجر وترفع الولاية عن السفهاء الذين يبذرون الأموال سواء كان رجلاً أو امرأةً أو لا يحسنون التصرف فيما يتولون من أمور …..هل ينظر في كل ذلك إلى عامل السن؟ أو ينظر إلى عامل الرشد؟ والذين نظروا إلى السن إنما نظروا إليه باعتبار أن الغالب إيناس الرشد في هذه السن.

ونلاحظ إلى هنا اتفاق الفقهاء على ثبوت الولاية للذكور والإناث على السواء، تأسيسًا على قوله تعالى: ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن وءانستم منهم رشدًا فادفعوا إليهم أمولهم ) [النساء : 6] فيما عدا الإمام أبا حنيفة الذي ذهب إلى أن الحجر أو منع الولاية عن الكبير لا يجوز، حتى إذا كان سفيهًا، فهو حر في ماله. والحرية عنده حق أهم من المال، إلا إذا كبر وهو سفيه محجور عليه، استدلالاً بقوله تعالى: ( فادفعوا إليهم أمولهم ولا تأكلوها إسرافا وبدارا أن يكبروا) [النساء : 6] وذلك لأن أبا حنيفة رأى السفه في الكبر أمر نادر، والنادر لا حكم له.

وقد علق الإمام ابن رشدعلى موقف أبي حنيفة ومن تابعه من أهل الفرق على هذا الرأى، فقال: “ربما قالوا: الصغر هو المؤثر في منع التصرف بالمال، بدليل تأثيره في إسقاط التكليف، وإنما اعتبر الصغر لأنه الذي يوجد فيه السفه غالبًا، كما يوجد فيه نقص العقل غالبًا، ولذلك جعل البلوغ علامة وجوب التكليف وعلامة الرشد؛ إذ كانا يوجدان فيه غالبًا، أعنى العقل والرشد، وكما لم يعتبر النادر في التكليف، أعني أن يكون قبل البلوغ عاقلاً فيكلف، كذلك لم يعتبر النادر في السفه، وهو أن يكون بعد البلوغ سفيهًا، كما لم يعتبر كونه قبل البلوغ رشيدًا” (بداية المجتهد، صــ ۲۸۰، ج۲، ط6، دار المعرفة، بيروت، لبنان، ١٤٠٢ه، ۱۹۸۲م).

لكننا لاحظنا هنا أن الإمام مالكًا انفرد عن جمهور الفقهاء بالتفرقة بين الذكور والإناث، فبينما نرى اتفاق الجمهور على أن الولاية حق لكل من بلغ الرشد، ولا يحجر على الذكر أو الأنثى إلا بسبب مانع للرشد كالصغر والجنون، أو بسبب سالب للحرية الأصيلة في الإنسان كالرق (في الماضي) نرى الإمام مالكًا مترددًا بين موافقة الجمهور على أن العبرة بالولاية: الرشد، وبين القول بأن المرأة تظل في ولاية أبيها حتى تتزوج، ويدخل بها زوجها ويؤنس رشدها.

والغريب أن الإمام مالكًا لم يحدد هنا سنًا يؤنس فيه رشدها بعد زواجها، مما ترك لأصحابه اختلاف تقديرهم لهذه السن أو المدة التي يعرف فيها رشدها بعد الزواج، مما يجعل الأمر ضربًا في متاهات الظنون.

وقد عرض ابن رشدالمسألة، فقال:

إن الصغار بالجملة صنفان: ذكور، وإناث، وكل واحد من هؤلاء: إما ذو أب، وإما ذو وصي، وإما مهمل، وهم الذين يبلغون ولا وصى لهم ولا أب“.

فأما الذكور الصغار ذوو الآباء: فاتفقوا على أنهم لا يخرجون من الحجر لا ببلوغ سن التكليف وإيناس الرشد منهم، وإن كانوا قد اختلفوا في الرشد ما هو، وذلك لقوله تعالى: ( وابتلوا اليتامى حتى إذا بلغوا النكاح فإن ءانستم مهم رشدًا فادفعوا إليهم أمولهم ” [النساء : 6].

واختلفوا في الإناث، فذهب الجمهور إلى أن حكمهن في ذلك حكم الذكور، أعنى بلوغ الحيض وإيناس الرشد، وقال مالك: هي في ولاية أبيها في المشهور عنه حتى تتزوج ويدخل بها زوجها ويؤنس رشدها، وروى عنه مثل قول الجمهور.

ولأصحاب مالك في هذا أقوال غير هذه، قيل: إنها في ولاية أبيها حتى تمر بها سنة بعد دخول زوجها بها، وقيل: حتى يمر بها عامان، وقيل: حتى تمر بها سبعة أعوام” (المصدر السابق، صــــ ۲۸۰، ۲۸۱).

وهنا يقدم ابن رشدحجة مالك على رأيه، ويضعف أقاويل أصحابه، فيقول: “وحجة مالك أن إيناس الرشد لا يتصور من المرأة إلا بعد اختبار الرجال. وأما أقاويل أصحابه فضعيفة، مخالفة للنص والقياس“. أما مخالفتها للنص: فإنهم لم يشترطوا الرشد (يقصد ابن رشد أنهم لم يشترطوا الرشد، والنص قد اشترطه للولاية، فهم مخالفون)”.

وأما مخالفتها للقياس، فلأن الرشد ممكن تصوره قبل هذه المدة المحدودة” (المصدر نفسه، صــــــــ ۲۸۳).

ولعلنا نلاحظ هنا أن إبطال ابن رشدلأقاويل أصحاب مالك بأن الرشد يمكن تصوره قبل المدد التي ذكروها، يؤدي أيضًا إلى إبطال قول مالك نفسه بأن الرشد لا يؤنس من المرأة أو لا يتصور كما يقول إلا بعد اختبار الرجال، إذ أن الرشد يعرف من المرأة قبل الزواج بعد اختبار الرجال، خاصة في البيئات التي يختلط فيها الرجال بالنساء في المعاملات، وهذا هو الذي جعل جمهور الفقهاء لا يؤقتون ولاية المرأة على الزواج. وإنما يجعلونه كما جاء نص القرآن الكريم على إيناس الرشد، سواء لدى الإناث أو الذكور، فمتى كانت المرأة راشدة كانت لها الولاية.

ولذلك نقول: إن الرواية الأخرى عن مالك أنه وافق الجمهور في أن حكم الإناث كحكم الذكور في توقف الولاية عند كليهما على البلوغ وإيناس الرشد، أصح من الرواية التي انفرد بها عن الجمهور، ولعلها تكون الأخيرة التي عدل إليها عن التي انفرد بها.

وكذلك ينسحب هذا الإبطال على قول مالك، من أن الزوجة من المحجورين (أي ممنوعى الولاية) يمنعها زوجها من التبرع فيما فوق الثلث من مالها، كما جاء في نقل ابن رشد أن المحجورين عند مالك: السفهاء والمفلسون والعبيد (فيما مضى) والمرضى والزوجة، فيما فوق الثلث؛ لأنه يرى أن للزوج حقًا في المال، وخالفه في ذلك الأكثر” (نفس المصدر، صـــــ2۹۳) .

ومخالفة الأكثر لمالك لبطلان منع ولاية الزوجة على مالها فيما فوق الثلث؛ تعللاً بحق الزوج في مالها، إذ أن هذا المنع لو صح فإنه يؤدى إلى حجر كل المورثين جميعًا رجالاً ونساًء، ومنعهم من التبرع فيما فوق الثلث من مالهم؛ لأن للورثة حقًا في هذا المال، ولم يرد حكم شرعي بهذا، إلا ما ورد من نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم للرجال والنساء من التبرع بما زاد عن الثلث، على السواء، وليس على النساء وحدهن دون الرجال أو على الزوجات دون غير المتزوجات. بل النهي هنا لكل مسلم ومسلمة أن يتبرع بما زاد عن الثلث من ماله، لحق الورثة لا الزوج فقط، في مال مورثهم.

والغريب أن بعض المفسرين القدامي عمدوا إلى تفسير القرآن من واقع ثقافتهم، بالنظر إلى المرأة على أنها ناقصة الأهلية أو ناقصة العقل، وفسروا قوله تعالى: ( ولا تؤتوا السفهاء أمولكم) بأن المقصود من السفهاء: النساء. وقد رد الفخر الرازي هذا القول بأن تخصيص النساء هنا ليس عليه دليل، وإن كان هو نفسه قد رجح القول بأنه يدخل في السفهاء: النساء والصبيان والأيتام، قال: “إن المراد بالسفهاء كل من لم يكن له عقل يفي بحفظ المال، ويدخل فيه النساء والصبيان والأيتام، وكل من كان موصوفًا بهذه الصفة (يقصد من الرجال والنساء والصبيان والأيتام) وهذا القول أولى لأن التخصيص بغير دليل لا يجوز، وقد ذكرنا في سورة البقرة أن السفه خفة العقل، ولذلك سمى الفاسق سفيهًا لأنه لا وزن له عند أهل الدين والعلم، وليس الناقص العقل سفيهًا لخفة عقلة،(الفخر الرازي، التفسير الكبير ج 9، صـــــــــ 185، ط 1، المطبعة البهية المصرية، القاهرة، ١٣٥٧ه، ۱۹۳۸م).

ولاية المرأة على نفسها:

وإذ قد ثبت للمرأة ولايتها على مالها كالرجال ما لم يكن هناك سفه بها، فإن حديث الفقهاء عن ولايتها على نفسها قد ذهب مذاهب شتى، لا تخلو من الغرابة، ويبدو أن ثقافة العصر قد فرضت نفسها على الفقهاء، مع اختلاف الزمان والمكان. فإذا كان جمهور الفقهاء – كما رأينا – يعطون النساء حق الولاية على المال كالرجال، ما لم يكن سفه عند هؤلاء وهؤلاء، ما عدا الإمام مالكًا الذي يعطى الزوج ولاية على زوجته في مالها، فإن الجمهور بمن فيهم الإمام مالك أيضًا والإمام الشافعي والإمام أحمد يرون أن المرأة لا تملك الولاية على نفسها في الزواج، بينما انفرد الإمام أبو حنيفة هنا بتقرير حق الولاية لها في تزويج نفسها بكفء، فإن زوجت نفسها بكفء مضى زواجها وصح عقدها، أما إذا زوجت نفسها بغير كفء، فللولي حق الاعتراض؛ لأن تزوجها بغير كفء يؤخذ هنا أمارة على السفه الذي يمنع الولاية.

وبالنظر إلى الأحاديث التي احتج بها كل من الفريقين، ندرك أن الأحاديث التي تجعل ولاية المرأة على نفسها في تزويج نفسها، أصح.

وقد عنيت كتب الأحناف بالمقارنة بين حديث لا نكاح إلا بولىوحديث أيما نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطلوهما مما يحتج به القائلون باشتراط الولى في عقد النكاح، والأحاديث الأخرى التي تثبت للمرأة حق تزويج نفسها، مثل حديث: “الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وأذنها صماتهاوحديث البخاري جاءت امرأة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إن أبى أنكحني رجلاً وأنا كارهة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: لا نكاح لك، اذهبي فانكحي من شئت“. فثبت لهم أن الأحاديث التي تثبت للمرأة حق ولايتها في تزويج نفسها أصح، إذ أن الحديث الأول الثيب أحق بنفسها من وليهاقد رواه الإمام مسلم، والحديث الثاني رواه البخاري تحت عنوان باب إذا زوج بنته وهي كارهة فنكاحه مردود“.

قال شيخ الإسلام برهان الدين المرغيناني في كتابه الهدايةفي وجه جواز تصرف المرأة أنها تصرفت في خالص حقها وهي من أهله لكونها عاقلة مميزة، ولهذا كان لها التصرف في المال، ولها اختيار الأزواج، وإنما يطالب الولي بالتزويج كي لا تنسب إلى الوقاحة، ثم في ظاهر الرواية لا فرق بين الكفء وغير الكفء، ولكن للولى الاعتراض (مجرد الاعتراض) في غير الكفء، بل إن ابن الجوزي قال: إنه (أى الرسول صلى الله عليه وسلم)، أثبت لها حقًا وجعلها أحق، لأنه ليس للولى إلا المباشرة (أي مباشرة العقد) ولا يجوز له أن يزوجها إلا بإذنهاوقد ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يرد نكاح أي امرأة تشكو إليه أن وليها زوجها وهي كارهة.

كما ثبت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه تزوج السيدة أم سلمة من نفسها. وقد نقل الإمام أبو جعفر الطحاويعن أم سلمةقالت: “دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بعد وفاة أبي سلمة، فخطبني إلى نفسي، فقلت: يا رسول الله: إنه ليس أحد من أوليائي شاهدًا (أي حاضرًا) فقال: إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره ذلك. قالت: قم يا عمر (ابنها) فزوج النبی صلى الله عليه وسلم ، فتزوجها. يقول الإمام الطحاوي“: “فكان في هذا الحديث أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى آله وسلم خطبها إلى نفسها. ففي ذلك دليل أن الأمر في التزويج إليها دون أوليائها، فإنما قالت له إنه ليس أحد من أوليائي شاهدًافقال إنه ليس منهم شاهد ولا غائب يكره ذلك، فقالت: قم يا عمر، فزوج النبي صلى الله عليه وسلم ، وعمر هذا ابنها، وهو يومئذ طفل صغير غير بالغ، لأنها قد قالت للنبي صلى الله عليه وآله وسلم في هذا الحديث (إلى امرأة ذات أيتام)، يعني عمر ابنها وزينب بنتها) والطفل لا ولاية له، فولته هي أن يعقد النكاح عليها (من باب الحياء والأدب)، ففعل، فرآه النبی صلى الله عليه وسلم جائزاً، الوكالة قام مقام من وكله فصارت أم سلمة رضي الله عنها، كأنها هي التي عقدت النكاح على نفسها للنبي صلى الله عليه وسلم فإن قيل: إن النبی صلى الله عليه وسلم ولی من لا ولى له، فالجواب: أنه لو كان الأمر كذلك، لقال لها: أنا وليك من دونهم، حيث قالت له: ليس أحد من أوليائي شاهدًا (الطحاوي، شرح معانی الآثار، صــــــ۱۱، ۱۲، ج۳، دار الكتب العلمية، بيروت، ط1، ۱۳۹۹ه، ۱۹۷۹م. وراجع نصب الراية للزيلعي، صــ 340، ج3، دار الحديث، القاهرة، 1415ه، 1995م، ط 1).

على أن من يراجع الأحاديث الواردة في موضوع اشتراط الولي على المرأة في عقد النكاح يجد أنه لم يسلم منها حديث، حتى حديث الأيم أحق بنفسها من وليها، والبكر تستأذن في نفسها وإذنها صماتهاوقد أخرجه الجماعة، إلا البخاري (مسلم وأبو داود والترمذي وابن ماجه والنسائي) ومعنى ذلك أن البخاري لم يخرج هذا الحديث ولم يره على شرطه، والأحاديث الأخرى التي استدل بها القائلون بوجوب اشتراط الولى على المرأة في العقد، كلها لم يسلم منها حديث واحد أيضًا حتى حديث لا نكاح إلا بولىاعترض عليه الترمذي وقال: هذا حديث فيه اختلاف فبينما وصف بأنه مرسل، نرى الحاكم وصفه في بعض طرقه بأنه صحيح.

وهكذا نجد أن الأحاديث الواردة في الموضوع، سواء استدل ببعضها القائلون بالولاية على المرأة في عقد النكاح، أو استدل ببعضها الآخر القائلون بأن ولاية المرأة ثابتة لنفسها في هذا العقد، مما يجعلنا نفضل هنا منهج الإمام الكمال ابن الهمامفي الترجيح بين هذه الأحاديث لا من جهة السند والرواية فقط، وإنما من جهة المقارنة بين الحديث والقرآن، فما وافق القرآن من الأحاديث اعتمدناه وأخذنا به، لأن القرآن هو المعول عليه.

وبهذا المنهج انتهى الكمال بن الهمامرحمه الله إلى ترجيح حق المرأة في الولاية على نفسها في عقد النكاح، فهي صاحبة الحق في هذا العقد، وإنما يطالب الولى بإجرائه ومباشرته؛ حتى لا تنسب المرأة إلى الجرأة وعدم الاحتشام، أو على حد ما قال (الوقاحة) قال: فإن له (لهذا القول) أدلة أخرى سمعية هي المعول عليها، وهي قوله تعالى: ( فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن) ، نهى الأولياء عن منعهن من نكاح من يخترنه، وإنما يتحقق المنع من في يده الممنوع، وهو الإنكاح. ثم قال: وموافقها قوله تعالى: ( حتى تنكح زوجًا غيره ) لأنه حقيقة إسناد الفعل إلى الفاعل، وأما الحديث المذكور أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل إلخوما في معناه من الأحاديث المذكورة مثل لا نكاح إلا بوليفمعارضة بقوله صلى الله عليه وسلم الأيم أحق بنفسها من وليهارواه مسلم وأبو داوود والترمذي والنسائي ومالك في الموطأ وجه الاستدلال: أنه لكل منها ومن الولي حقًا في ضمن قوله أحق، ومعلوم أنه ليس للولي سوى مباشرة العقد إذا رضيت، وقد جعلها أحق منه، فبعد هذا أن يجرى بين هذا الحديث وما رووا حكم المعارضة والترجيح، أو طريقة الجمع، فعلى الأول يترجح هذا بقوة السند وعدم الاختلاف في صحته، بخلاف الحديثين؛ فإنهما إما ضعيفان: فحديث لا نكاح إلا بولىمضطرب في إسناده في وصله وانقطاعه وإرساله، وحديث عائشة عن ابن جريج أيما امرأة نكحت نفسها بغير إذن وليها فنكاحها باطل” (الكمال بن الهمام، شرح فتح القدير، صــــ ٢٥٨٢٦٠، ج۳، دار الفكر، بيروت). فقد أورد الإمام أبو جعفر الطحاويما يخالف ذلك عن عائشة نفسها، قال: “حدثنا يونس، أخبرنا ابن وهب أن مالكًا أخبره عن عبد الرحمن بن القاسم، عن أبيه، عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها زوجت حفصة بنت عبد الرحمن، المنذر بن الزبير، وعبد الرحمن غائب بالشام، فلما قدم عبد الرحمن قال: أمثلى يصنع به هذا ويفتات عليه؟ فكلمت عائشة رضي الله عنها المنذر بن الزبير، فقال المنذر: إن ذلك بيد عبد الرحمن، فقال عبد الرحمن: ما كنت أرد أمرًا قضيته، فقرت حفصة عنده، ولم يكن ذلك طلاقًا“.

ثم قال الطحاويفلما كانت عائشة رضي الله عنها قد رأت أن تزويجها بنت عبد الرحمن بغيره (أي بغير إذنه مع أنه الولي) جائز، ورأت ذلك العقد مستقيمًا، حتى أجازت فيه التمليك الذي لا يكون إلا عن صحة النكاح وثبوته، استحال عندنا أن يكون ترى ذلك، وقد علمت أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “لا نكاح إلا بولىفثبت بذلك فساد ما روى عن الزهري في ذلك” (الطحاوي بشرح معانی الآثار، ج۳، صــــ ۸، دار الكتب العلمية، بيروت).

ومع أن هذا أول بأن عائشة لم تعقد العقد، بل مهدت أسبابه، وأذنت في التزويج، حتى لم يبق إلا العقد. أشارت إلى من يلى أمرها عند غيبة أبيها ليعقد هو العقد، ويدل على ذلك كما قال الكمال بن الهمام” – ما روى عن عبد الرحمن بن القاسم عن أبيه، قال: كانت عائشة رضي الله عنها تخطب إليها المرأة من أهلها فتشهد، فإذا بقيت عقدة النكاح قالت لبعض أهلها زوُّج. فإن المرأة لا تلى عقد النكاح، وفي لفظ: فإن النساء لا ينكحن” (شرح فتح القدير، ج۳،صــــــ 260، الطبعة المشار إليها سابقًا).

يقول الكمال بن الهمام“: “على كلا التقديرين، فالتقدم للصحيح (أى يقدم الحديث الصحيح الذي يثبت حق المرأة وولايتها للعقد) وهو ما رواه مسلم، وأبو داود، والترمذي، والنسائي، ومالك في الموطأ وهو ما استدللنا به (يقصد حديث الأيم أحق بنفسها .. إلخ)

ويتابع الإمام ابن الهمام منهجه بطريقة ثانية، وهي الجمع بين الأحاديث فيقول: وأما الثاني (أي الحديث الثاني) فيمكن أن يؤول بأن يحمل عمومه على الخصوص وذلك سائغ (أي مقبول). وهذا يخص حديث أبي موسى لا نكاح إلا بولىبعد جواز كون النفي للكمال والسنة” (المصدر السابق نفس الصفحة).

ولا يخفى أن هناك فرقًا بين أن يكون النفي في قوله لا نكاح إلا بولىنفيًا لصحة العقد. فيترتب على هذا النفي بطلان العقد وعدم صحته، ومن ثم لا يكون زواج المرأة لنفسها صحيحًا. أو يكون النفي للكمال أو السنة. فلا يترتب عليه بطلان العقد، أو عدم صحته، ويكون وجود الولي هنا لتوفير كمال الحشمة والوقار للمرأة. فالأمر حينئذ من باب أداء السنة التي يثاب فاعلها ولا يعاقب تاركها.

يقول ابن الهماموعلى هذا التأويل يتم العمل بالحديث الجامع لاشتراط الشهادة والولي، وهو ما قدمناه من رواية ابن حيان في فصل الشهادة (يشير إلى حديث لا نكاح إلا بولى وشاهدي عدل)، ويخص حديث عائشة بمن نكحت غير الكفء، والمراد بالباطل حقيقة على قول من لم يصحح ما باشرته من غير كفء أو حكمه على قوله من يصححه، ويثبت للولي حق الخصومة في فسخه .. كل ذلك سائغ في (إطلاقات النصوص، ويجب ارتكابه لدفع المعارضة بينهما، على أنه يخالف مذهبهم، فإن مفهوم إذا أنكحت نفسها بإذن وليها كان صحيحًا. ثم ينتهي إلى القول فثبت مع المنقول الوجه المعنوى وهو أنها تصرفت في خالص حقها وهو نفسها، وهي من أهله. كالمال فيجب تصحيحه مع كونه خلاف الأولى“.

يريد أن يقول إن المرأة لها ولاية على نفسها، وهي حق لها يبيح التصرف في تزويج نفسها، فإذا زوجت نفسها بكفء أو بإذن وليها، فعقدها وزواجها صحيح. وإن زوجت نفسها بكفء وبغير إذن وليها كان عقدها صحيحًا. مع خلاف الأولى، لأن الأولى أن يباشر وليها العقد حتى لا تنسب إلى عدم الحشمة، أما إذا زوجت نفسها بغير كفء وبغير إذن وليها فلوليها حق الاعتراض والمطالبة بفسخ العقد، لأن زواجها بغير كفء دال على نوع من السنة قد يجرح ولايتها على نفسها ما لم تلد، وفي كل الأحوال لیس لولي المرأة أن يمنعها حقها أو يجبرها على زواج شخص لا ترغبه أو لا توافق عليه، وبهذا يتم الجمع بين النصوص باحترام ولاية المرأة على نفسها، كولايتها على مالها، فلها التصرف في حق نفسها وهي من أهل هذا التصرف، كالتصرف في المال فولايتها على نفسها كولايتها على مالها، فالولاية كما اتفق الفقهاء بالبلوغ وإيناس الرشد، لا بالذكورة ولا بالأنوثة.

ولاية المرأة على الغير:

تنقسم هذه الولاية فيما يبدو من الفقه الإسلامي، إلى:

أولاية على الأبناء القاصرين.

ب ولاية على غير الأبناء، وهم العاملون في الوظائف العامة، والمستويات الكبرى في الدولة، كالوزارة وما يليها من إدارات ووظائفها، بما فيها القضاء، ورئاسة الدولة.

أالولاية على الأبناء القاصرين:

اتفقت كلمة الفقهاء المسلمين على ولاية الأم على أولادها الذين لم يبلغوا سن الرشد، سواء بالاشتراك مع الآباء أثناء قيام الزوجة بين الأبوين، وإذا حدث الطلاق كانت الأم أحق بالولاية على أبنائها، حتى سن التمييز.

وإن كان الفقهاء قد اختلفوا في تحديد هذه السن، فقد رأى مجمع البحوث الإسلامية بالأزهر الشريف الموافقة على أن يكون الأولاد والبنات في حضانة الأم إلى سن الخامسة عشرة، ثم يخيرون بعدها، بين الاستمرار في حضانة الأم إلى ثماني عشرة سنة، أو الانتقال إلى حضانة الأب.

وأحقية الأم في حضانة أبنائها القاصرين والوصاية عليهم بعد الطلاق، أو بعد موت الأب، لدى الفقهاء جميعًا، مستندة إلى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم للأم: “أنت أحق به ما لم تتكحيعلى هو ما مفصل في كتب الفقه.

وهنا يجب أن ننبه إلى أن هذه الدراسة عن الولاية عمومًا وعن هذه الولاية العامة خصوصًا، تعتمد على:

1- القرآن الكريم، وتحليل الخطاب القرآني في هذا الموضوع، بأدوات اللغة التي نزل بها.

٢السنة النبوية، مع إعمال قواعد المحدثين، وتحليل ما جرى عليه النص النبوى من مناهج الخطاب.

3- ويلحق بذلك: ما صح من وقائع التاريخ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم ، وعصر الراشدين، دون غيرهما من العصور التالية، قبل اختلاط الأمة الإسلامية بغيرها من الشعوب التي دخلت في الإسلام، وكان لتقاليدها تأثير في واقع الحياة الإسلامية فيما بعد.

واقتصارنا على وقائع التاريخ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم وخلفائه الراشدين، يجعلنا نتقادي:

تأثيرات بعض الثقافات الدخيلة، التي اختلفت تصوراتها للنصوص الإسلامية، مما شكل فهمًا خاصًا لهذه النصوص، يبتعد أحيانًا عن روحها وجوهرها وهدفها.

كما نتفادى الروايات التاريخية الكثيرة والمتضاربة أحيانًا، بحيث لا نملك حتى الآن وسيلة لتحقيقها والترجيح بينها، لأن علم التاريخ في الإسلام لم يتعرض في كثير من رواياته للفحص والتحقيق والتوثيق، الذي تعرض له الحديث النبوي مما يجعلنا بحال لا نطمئن معها للروايات التاريخية لاتخاذها مصدرًا للتشريع.

4- استعراض آراء أئمة الفقه، وتحليلها في ضوء الحديث النبوي.

5- عرض نماذج من ولاية المرأة، في الحالات التي تولت فيها ولايات معينة عبر التاريخ، وأثر هذه الولايات على الواقع الإسلامي والعالمي، ومقارنته بولاية كثير من الرجال، وذلك من باب الاستئناس لعصر الصحابة.

6- مناقشة الآراء المخالفة، وتحليلها في ضوء النص الديني والواقع التاريخي. وتوجيهها الوجهة التي نراها من وجهة نظرنا موافقة للكتاب والسنة، ومدى دلالتها على المراد منها، ومن ثم بيان قيمة الاستشهاد بها.

وبادئ ذي بدء: فإننا نرى من الواجب أن نؤكد على بعض الحقائق في هذا الموضوع:

أولاً: أن المجتمع الذي رسمه القرآن الكريم، يقوم على التكامل بين الرجل والمرأة، بحيث يؤدي هذا التكامل إلى التعاون الوثيق بينهما عن طيب نفس ورضى، دون منافسة تؤدى إلى الصراع الذي يتظالم فيه كل من الرجل والمرأة فيظلم كل منهما الآخر. فالتكامل والتعاون، لا الصراع والتنافس، هو أساس العلاقة بين الرجل والمرأة في الإسلام.

ثانيًا: أن التكامل بين المرأة والرجل راجع إلى حاجة كل منهما للآخر.

وقد أبرز القرآن الكريم حاجة الرجل إلى المرأة, أكثر من حاجة المرأة إلى الرجل، ومن الله على الرجل أن لبى له هذه الحاجة في أكثر من موضوع من الكتاب الخالد، منها:

أن الرجل محتاج إلى البنين والحفدة، وأن وظيفة المرأة الأساسية هي: الأمومة، التي تهب الرجل البنين والحفدة. قال تعالى: ( والله جعل لكم من أنفسكم أزوجًا وجعل لكم من أزوجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالبطل يؤمنون وبنعمت الله هم يكفرون )(النحل: ۷۲).

أن الرجل محتاج إلى السكن النفسي، والمرأة بما أودع الله في كيانها من العاطفة والانجذاب إلى المودة والرحمة، تحيط من يجاورها بالحب والعاطفة والشفقة، هي القادرة على تلبية حاجة الرجل إلى هذه العواطف النبيلة التي تعطى للحياة طراوة ونداوة، تخفف بقدر ما تملك من هذه العواطف قسوة العيش ومجالدة الحياة وما بها من شظف ومعاناة، قال تعالى: ( ومن آيته، أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذالك لآيت لقوم يتفكرون ) (الروم: ٢١). وقال تعالى ( هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها ) (الأعراف: ١٨٩).

وإذا كان القرآن قد صرح بهذه الحاجة، فقد أشار إلى حاجة المرأة إلى الرجل، فهي تتعرض للخطاب، لتحقيق حاجتها الأساسية، وهي: الأمومة. وقد جاء ذلك في قوله تعالى: ( والذين يتوفون منكم ويذرون أزوجًا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير ) (البقرة: ٢٣٤)، وعبارة فيما فعلن في أنفسهن تحمل ميل المرأة إلى التجمل، وترفع الحرج عن هذا الميل المشروع، الذي تسعى به المرأة لاجتذاب الرجل ليحقق لها الأمومة.

ثالثًا: أن تلبية كل من الرجل والمرأة حاجته للآخر وبالآخر، توجه كلا منهما إلى دور أساسي لتحقيق الحياة، يحمل الرجل في هذا الدور مهمة أساسية، وهي توفير نفقات المعيشة، والجهاد من أجل الحصول على الرزق لتدبير النفقة المشتركة، وتحمل المرأة مهمة أساسية، هي مساندة الرجل، ورعايته، وحسن تبعله، ومشاركته في تربية ولده.

وهذه الوظيفة أسمى وظائف الحياة. وهي تزيد بالأثر عن وظيفة الرجل، لأن أثرها على الرجل، وعلى أولاده، وعلى المجتمع كله، أكبر من أثر الكد على المعاش والسعى على الرزق الذي يقوم به الرجل، بل هي أكبر من مسئوليات الرجل وأفضل أثرًا.

أخرج البخاري عن أبي هريرة أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: “خير نساء ركبن الإبل نساء قريش)، في قول آخر: “صالح نساء قريش أحناه على ولد في صغره، وأرعاه على زوج في ذات يده” (البخاري كتاب النفقات باب ۱۰).

روى أن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما، جاءت إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقالت: يا رسول الله: “أنا وافدة النساء إليك، إن الله بعثك إلى النساء والرجال كافة، فأمنا بك، إنا معاشر النساء محصورات مقصورات، قواعد بيوتكم، حاملات أولادكم، وإنكم معاشر الرجال فضلتم علينا بالجمع والجماعات، وعيادة المرضى، وشهود الجنائز، والحج، وأفضل من ذلك كله الجهاد في سبيل الله، وإن أحدكم إذا خرج حاجًا، أو معتمرًا، أو مجاهدًا، حفظنا لكم أموالكم، وغزلنا لكم أثوابكم، وربينا أولادكم، أفنشارككم في هذا الخير؟ فالتفت النبي صلى الله عليه وسلم إلى أصحابه ثم قال: هل سمعتم مسألة امرأة قط أحسن من أمر دينها من هذه؟ فقالوا يا رسول الله: ما ظننا أن امرأة تهتدى إلى مثل هذا، ثم التفت النبي إليها. ثم قال: “اذهبي أيتها المرأة واعلمي من خلفك من النساء أن حسن تبعل المرأة لزوجها، وطلبها مرضاته، واتباعها موافقته، يعدل ذلك كله” (أخرجه ابن عساكر في تهذیب تاریخ دمشق ج 2/ 338 في أخطل ابن المؤمل أبو سعيد الحيطي مسألتها في دار السيرة، بيروت).

هذه هي القاعدة العامة في المجتمع الإسلامي.

لكن المسألة المعروضة هنا في هذا البحث: أنه إذا جدت ظروف، ووجدت المرأة على مستوى خاص من التفوق، تؤدي دورًا في المجتمع إضافة إلى دورها الأساسي، فهل يضع الإسلام حاجزًا أمامها يمنعها من تولى الولاية التي تقوم فيها بالدور المنوط بها؟ أو بعبارة أخرى: هل في نصوص الإسلام كتابًا، أو سنة، أو واقعًا، يهتدى بهدی الكتاب والسنة ما يمنع المرأة من ولاية عامة في ظروف خاصة؟

هذا هو السؤال.

1- في القرآن الكريم:

لا نجد جوابًا بالمنع على هذا السؤال، بل إن القرآن الكريم عرض ملكة سبأ في صورة منصفة غاية الإنصاف؛ إذ عرض حكمها ومنهجها في إدارة المواقف الصعبة عرضًا يبرز محاسن توليها لمنصبها ملكة على هذا العرش، الذي ذكر القرآن أنه عرش عظيمأي مملكة عظمى، ولم يعب عليها توليها للولاية العظمى في قومها، بل عاب على قومها، والتمس لها العذر بأن البيئة التي نشأت فيها هي التي جعلتها كافرة. (إنها كانت من قوم كافرين ).

وذكر القرآن الكريم أنها فهمت رسالة سليمان على وجهها الصحيح، بمجرد أن تلقتها من الهدهد رسول سليمان، وأن هذه الرسالة دعوة إلى الدين الصحيح، وليست دعوة إلى دخول في حوزة ملك سليمان وضم مملكتها إلى مملكته، مجرد استعمار واستيلاء وتوسع، فقالت : ( قالت يأيها الملؤا إني ألقى إلى كتاب كريم وإنه من سليمان وإنه بسم الله الرحمن الرحيم ألا تعلوا على وأتوني مسلمين ) (انظر السياق كله في القرآن الكريم النمل: ۲۹۳۱).

ثم امتدح القرآن منهجها في الشوري، حينما جمعت مستشاريها وأخبرتهم بالرسالة (قالت يأيها الملؤا أفتوني في أمرى ما كنت قاطعة أمرًا حتى تشهدون ) (النمل: ۳۲) ولنلاحظ العبارة الأخيرة، التي تؤكد فيها أن الشورى عندها التزام ومنهج دائم متكرر، بحيث لا تتخلف عن أن تقطع أمرًا دون أن يشهدوها ويشيروا عليها، مما يدل على أن هذه الملكة تعرف حق المعرفة، أن جوهر الحكم الصحيح والملك المستقر في الشوري، وأنها أسبق من أعرق الديمقراطيات في عصرنا.

وقد عرض الرجال الأقوياء الذين أشاروا عليها من منطق القوة، أن الأمر إليها، وأنهم على استعداد لتنفيذ رأيها، مما يدل على أن هذه الدولة (مملكة سبأ) كانت قوية عسكريًا؛ لأنه ما كان للرجال أن يقولوا نحن أولوا قوة إلا وهم يعرفون قوتهم بجانب قوة الممالك المعاصرة لهم، لأنهم رجال حرب وسياسية، ويعرفون بالقطع قوة مملكة سليمان ونسبتها إلى قوتهم ( قالوا نحن أولوا قوة وأولوا بأس شديد والأمر إليك فأنظرى ماذا تأمرين ) (النمل: ۳۳).

ومع أن هؤلاء الرجال – وهم رجال – فكروا أول ما فكروا في خيار القوة، إلا أنها اختارت خيار الحكمة، فعمدت إلى اختبار سليمان نفسه، والتحقق من صدقه في رسالته وإخلاصه في دعوتها وقومها إلى الإسلام، ويبدو أنها كانت متحققة من تفوقها المادي على قوة مملكة سليمان الظاهرة لها، فكان اختبارها لسليمان اختبار نبوة لا اختبار قوة، فبعثت له الهدايا. فإن قبلها كان رجل دنيا لا رجل رسالة أو دعوة. وإن لم يقبلها فهو رسول صادق يبلغ عن ربه ولا يبغي الطمع في مملكتها. بل يبغي الطمع في أن تؤمن بربها الواحد وتسجد له، بوصفه الخالق الذي خلق الشمس الذي يعبدونها من دونه ( ألا يسجدوا لله الذي يخرج الخبء في السموات والأرض ويعلم ما تخفون وما تعلنون الله لا إله إلا هو رب العرش العظيم ) (النمل: ٢٥٢٦).

فلما تحققت من صدق النبوة وإخلاص الدعوة، أسلمت لله، لا لسليمان.

ولعلنا نلحظ نبرة القوة والحكمة معًا، والاعتزاز البالغ في عبارتها البالغة قمة البلاغة والثقة، في قولها ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العلمين) فلم تؤخذ هذه الملكة العظيمة بهول المفاجأة، ولم يتزلزل قلبها المتمرس بالحكم والمواقف الصعبة، بل حرصت على أن تتحدث وسط المفاجأة، بأنها ملكة، وأن إسلامها حين أسلمت لا لسليمان، بل معه، لله رب العالمين.

هنا بين القرآن الكريم أن هذه العقلية الملكية الكبيرة، ما منعها عن الإسلام من قبل إلا بيئتها (وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين)، وأنهم مع جمعهم كانوا (يسجدون للشمس من دون الله وزين لهم الشيطن أعمالهم فصدهم عن السبيل فهم لا يهتدون) ومع ذلك, استطاعت هي أن تنتصر، حتى على الشيطان في نفوسهم، بأن قادتهم إلى الهداية، وجعلت انتصار سليمان، انتصارًا لها هي ولقومها؛ لأنه انتصار داعية لا انتصار ملك، انتصار المبادئ التي تجد طريق الإقناع في النفوس الحكيمة والعقول الكبيرة، لا انتصار المطامع والأغراض السياسية، التي تعتمد التوسع والإذلال.

وفي كل هذا السياق الجليل الذي يعرضه القرآن، لا نجده يعيب عليها عيبًا واحدًا في توليها الملك لقومها، بل يعيب على قومها أنهم كانوا كافرين يسجدون للشمس من دون الله، وأنهم كانوا السبب في انصرافها وعدم معرفتها من قبل بالإسلام، فلما عرفت بعقلها وحكمتها، اختارت الاختيار الصحيح الذي قادت قومها إليه.

ولو قد وجد القرآن عيبًا واحدًا في حكم هذه المرأة وتوليها هذه الولاية العظمى، لما فوت القرآن بيانه، لأنه كتاب هداية في أمور الحياة من ناحية، ولأن الإمامة أو الولاية العظمى من أهم الأمور التي تتوقف عليها الحياة من ناحية أخرى، لأن نصب الإمام واجب، إذ الإمامة قيام بشئون الدنيا، ورعاية لأمور الدين.

قال الإمام ابن تيمية: “إن وجوب نصب الإمام واجب شرعًا و وعقلاً. ويجب إتخاذ الإمارة دينًا وقربة يتقرب بها إلى الله” (انظر د. عبد العظيم الديب. إمام الحرمين الجويني. حياته، وعصره، صــــــــــــ 148، ط أولى، دار القلم، الكويت، 1401ه، ۱۹۸۱م).

كما قال إمام الحرمين الجويني“: “إن الإمامة رئاسة تامة، وزعامة عامة، تتعلق بالدين والدنيا، مهمتها حفظ الحوزة، ورعاية الرعيةالمصدر السابق، صــــــــــ 149 .

ويلفت إمام الحرمين الجوينيالنظر إلى أهميتها في الدنيا. “فقد رأى أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم المدار إلى نصب الإمام حقًا، فتركوا بسبب التشاغل به تجهيز الرسول صلى الله عليه وسلم ودفنه مخافة أن تتغشاهم هاجمة أو محنة” (نفس المصدر، صـــــ ١٤٧).

ومحال في تقديري – أن تكون الولاية العظمي، أو الإمامة في الدين، بهذه المثابة، ثم يعرض القرآن سياقًا طويلاً عن تولى المرأة لها، ثم يكف عن النهي عن ذلك إن كان فيها نهي. فسكوته تقرير لولاية المرأة على قومها، فضلاً عن أن عرضه الذي قدمناه لولاياتها، دليل على امتداح هذه الولاية، وعدم ممانعته لمثلها، إن وجدت.

فإن قيل: إن عرض القرآن للقصة على سبيل الحكاية، لا التشريع. فهذا يفرغ القصص القرآني من الهدف والمضمون، ويجعله كتابًا للتسلية، لا للهداية والتشريع.

فإذا تركنا هذا الموضع من القرآن الكريم إلى غيره من السور والآيات. فإننا نجد الروح العامة السارية في القرآن كله، أن الرجال والنساء بعضهم من بعض، وأن الله يتقبل الإيمان والأعمال من الذكر والأنثى على حد سواء، قال تعالى: ( ومن يعمل من الصالحات من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فأولئك يدخلون الجنة ولا يظلمون نقيرا) (النساء: ١٢٤)، وقال سبحانه: ( أني لا أضيع عمل عمال منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) (آل عمران: ١٩٥).

وإذا كانت الولاية أيًا كان مستواها – قربة لله – كما ذكر إمام الحرمين فإن الله لا يرد قربة من مؤمن، ذكرًا كان أو أنثى، لأنها عمل صالح، بشرط أن تكون لله. قال تعالى: ( وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس (الرجال والنساء) لرؤوف رحيم ) (البقرة: 143).

وفي هذا الإطار القرآني الذي يسوى بين الرجال والنساء في قبول الإيمان والأعمال، يجب أن نفهم الدرجة التي ذكرها القرآن الكريم في سياق النسوية بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات، في قوله تعالى: ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) (البقرة: ٢٢٨) أنها درجة القوامة التي أعطاها الله للرجل في الحياة الزوجية. والمذكورة في قوله تعالى: ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) (النساء: 34).

ومن العجيب أن بعض مفسرينا القدامي جروا على أن إعطاء القوامة للرجل على المرأة في الأسرة، إنما كان بتفضيل الرجل على المرأة مطلقًا، والرجال جميعًا على النساء جميعًا. وهذا غير صحيح، كما سنبينه في مبحث القوامة“.

٢ في السنة النبوية:

فإذا انتقلنا إلى بحث الأمر في السنة النبوية، وجدنا أن ما اعتمد عليه المانعون لتولى المرأة الولاية، هو حديث واحد صحيح، أخرجه البخاري، قال: “حدثنا عثمان بن الهيثم، حدثنا عوف عن الحسن، عن أبي بكرة. قال: “لقد نفعني الله بكلمة سمعتها من رسول الله صلى الله عليه وسلم أيام الجمل، بعد ما كدت أن ألحق بأصحاب الجمل، فأقاتل معهم، قال: لما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أهل فارس قد ملكوا عليهم بنت كسرى قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” (صحيح البخاری، کتاب المغازی، باب ۸۲، کتاب الفتن باب ۱۸).

وكذلك أخرج النسائي، قال: “أخبرنا محمد بن المثنى، قال: حدثنا خالد بن الحرث، قال: حدثنا حميد عن الحسن، عن أبي بكرة، قال: عصمني الله بشئ سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم لما هلك كسرى، قال: من استخلفوا؟ قالوا: بنته، قال: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة” (النسائی، کتاب القضاة، حديث 8).

قال الحافظ ابن حجر:

قال الخطابي: في الحديث أن المرأة لا تلى الإمارة، ولا القضاء، وفيه أنها لا تزوج نفسها، ولا تلى العقد على غيرها. كذا قال“.

فالخطابي كما نقل ابن حجر يمنع المرأة بناء على هذا الحديث من أن تلى أمرًا سواء كان إمارة، أو قضاء، أو عقدًا لنفسها، أو لغيرها، وهنا يظهر فهمه لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم ولو أمرهمعلى عموم اللفظ يشمل أي أمر.

ولذلك لم يوافق الجمهور على هذا الفهم، مع أن الأمر كما يلاحظ في الحديث مضاف إلى ضمير القوم، وليس مطلقًا، ولذلك لم يوافق عليه الجمهور، وقد عقب عليه ابن حجر قائلاً: ” وهو – رأي الخطابي متعقب، والمنع من أن تلى الإمارة، والقضاء قول الجمهور، وأجازه الطبري أي أجاز أن تلى الإمارة والقضاء – وهي رواية عن مالك، وعن أبي حنيفة تلى الحكم فيما تجوز فيه شهادة النساء” (الحافظ ابن حجر: فتح الباري، شرح صحيح البخاری، ج۸، صــــــــــ۱۸۲)، أي في مجال الأحوال الشخصية.

قال: “والمرأة تقضي في غير حد وقود، وإن أثم المولى لها، لخبر البخاري لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة“. وتصلح ناظرة للوقف، أو وصية ليتيم، وشاهدة فتح، فيصح تقريرها في النظر والشهادة في الأوقاف، ولو بلا شرط واقف” (حاشية ابن عابدين ج 5، صــــ 46، ط3 – 404ه، ١٩٨٤م، طبعة مصطفى الحلبي وأولاده بالقاهرة).

وفي التعليق على نظارة الوقف، والشهادة فيه، قال ابن عابدينفي حاشيته: “إنه إذا شرط الواقف في وقفه لفلان ثم لولده فمات وترك بنتًا. فإنها تستحق وظيفة الشهادة، لأنها أهل للشهادة. أما بدون شرط الناص عليها كما في صورة الحادثة التي ذكرها. فيه نزاع فقد رده، في النهر بأن قوله ثم لولده لا يشمل الأنثى، لأن عرف الواقفين مراعي، ولم يتفق تقرير أنثى شاهدة في الوقف في زمن ما فيما علمنا، فوجب صرف ألفاظه إلى ما تعارفوه وهو الشاهد الكامل إلى آخره ونقل الحموي مثله عن المقدسي” (نفس المصدر، صـــــــ 467).

ولعلنا نلحظ هنا أن ابن عابدينينقل عن صاحب النهر منعه وظيفة الشهادة في الوقف للمرأة؛ استنادًا إلى العرف حتى عهده؛ ولذلك صرف الألفاظ إلى ما تعارفوه على حد قوله – ولما كان مرد الأمر هنا إلى الأعراف، وكانت الأعراف متغيرة، لم يكن رأيه مقبولاً؛ لدى الآخرين ولذلك نقل ابن عابديننفسه عن الحمويخلافه. قال ثم نقل عن بعضهم أن هذا لا يمنع كونها أهلاً للشهادة” (نفس المصدر، صــــــــ٤٦٧).

ولذلك قال ابن عابدينوقول الأصحاب بجواز شهادتها وقضائها في حد وقود، صريح في صحة تقريرها في الأوقاف” (نفس المصدر، صـــــ 446، 447).

قال: “وقد أفتيت فيمن شرط الشهادة في وقفه لفلان ثم لولده فمات وترك بنتًا، أنها تستحق وظيفة الشهادة“.

ثم قال بعد ذلك: “ولو قضت في حد أو قود، ثم رفع إلى قاض آخر يرى جوازه وأمضاه، ليس لغيره إبطاله” (نفس المصدر، صــــــ٤٦٧).

أما عن وظيفة الإمام، فقد قال ابن عابدين“: “وأما تقريرها في نحو وظيفة الإمام، فلا شك في عدم صحته؛ لعدم أهليتها. خلافًا لما زعم بعض الجهلة أنه يصح وتستنيب،لأن صحة التقرير يعتمد وجود الأهلية، وجواز الاستنابة فرع صحة التقرير” (نفس المصدر ، نفس الصفحة).

ومع نفى ابن عابدينللشك في عدم صحة أهلية المرأة لوظيفة الإمام، ورميه بالجهل من يقول بذلك، فإننا نرى ابن حزميجيز لها أن تتولى القضاء، وينقل عن أبي حنيفة صاحب المذهب نفسه جواز توليها الحكم يعني به القضاء، كما يجيز لها أن تتولى بعض الأمر (ابن حزم، المحلي، ج 5، صـــــ ٤٢٩-430، منشورات المكتب التجاري للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت).

يقول: “وجائز أن تلى المرأة الحكم، وهو قول أبي حنيفة. وقد روى عن عمر بن الخطاب أنه ولى الشفاء” – امرأة من قومه السوق فإن قيل: قد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لن يفلح قوم أسندوا أمرهم إلى امرأة“. قلنا: إنما قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمر العام الذي هو الخلاقة. (ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج۲، صــــ 449، کتاب الأقضية، الباب الأول، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ١٣٧١ه، ١٩٥٢م).

برهان ذلك قوله عليه الصلاة والسلام المرأة راعية على مال زوجها، وهي مسئولة عن رعيتها، وقد أجاز المالكيون كونها وصية ووكيلة. ولم يأت نص من منعها أن تلى بعض الأمور (وفي نسخة أخرى من المحلى) أن تلى بعض الأمر (نفس المصدر، نفس الصفحة).

ومعلوم أن الأمر إذا أطلق أريد به الولاية العظمي.

كما ذهب الإمام ابن رشدإلى أن اشتراط الذكورة في رأى الجمهور شرط في صحة الحكم، ونقل عن أبي حنيفة جواز أن تكون المرأة قاضية في الأموال، كما نقل عن الطبري جواز أن تكون قاضية على الإطلاق في كل شئ.

قال ابن رشد“: اختلفوا في اشتراط الذكورة: فقال الجمهور: هي شرط في صحة الحكم، وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون المرأة قاضيًا في الأموال. قال الطبري: يجوز أن تكون المرأة حاكمًا على الإطلاق في كل شئ (ابن رشد: بداية المجتهد ونهاية المقتصد، ج۲، مطبعة الاستقامة بالقاهرة، ١٣٧١ه، ١٩٥٢م).

وقال ابن قدامهفي كتابه المغني“:

وحكى عن ابن جرير : أنه لا تشترط الذكورة؛ لأن المرأة يجوز أن تكون مفتية، فيجوز أن تكون قاضية“.

وقال أبو حنيفة: يجوز أن تكون قاضية في غير الحدود، لأنه يجوز أن تكون شاهدة فيه.

ولنا قول النبي صلى الله عليه وسلم ما أفلح قوم ولوا أمرهم امرأة“.

ولأن القاضي يحضر محافل الخصوم والرجال، ويحتاج فيه إلى كمال الرأي، وتمام العقل، والفطنة، والمرأة ناقصة العقل، قليلة الرأي، ليست أهلاً للحضور في محافل الرجال، ولا تقبل شهادتها، ولو كان معها ألف امرأة مثلها ما لم يكن معهن رجل، وقد نبه الله تعالى على ضلالهن ونسيانهن بقوله تعالى: ( أن تضل إحداهما فتذكر إحدثهما الأخرى) (البقرة: ٢٨٢).

ولا تصلح للإمامة العظمى، ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يول النبي صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه، ولا من بعدهم امرأة قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغتا، ولو جاز ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبًا” (ابن قدامة، المغنی، ج۱۰، صـــــــ ۱۲۷).

وقال الكمال بن الهمام : “وعند الأحناف: أن القضاء مستقى من الشهادة. فكل ما تجوز فيه الشهادة يجوز فيه القضاء. وكل من هو أهل للشهادة فهو أهل للقضاء” (شرح فتح القدير، ج5، صـــــ 454، طبعة المكتبة التجارية بمصر).

بل إن الشرط الأول من شروط تولية القضاء، أن يكون القاضي أهلاً للشهادة.

جاء في شرح فتح القدير للكمال بن الهمام“: “لا تصح ولاية القاضي حتى يجتمع في المولى شرائط الشهادة، ويكون من أهل الاجتهاد أما الأول وهو أنه لابد أن يكون من أهل الشهادة؛ فلأن حكم القضاء يستقى من حكم الشهادة، يعني كل من والشهادة يستمد من شرط واحد هو شروط الشهادة” (المصدر نفسه).

ثم جاء فيه بعد ذلك وأما الذكورة فليست بشرط إلا القضاء في الحدود والدماء فتقضي المرأة في كل شئ إلا فيهما” (نفس، المصدر).

وفي المذهب الشافعي: ذكر شمس الدين الرمليفي كتابه نهاية المحتاج أن من شروط القاضي: الذكورة.

قال: “فلا تولى امرأة، لنقصها، ولاحتياج القاضي لمخالطة الرجال، وهي مأمورة بالتخدر، والخنثى في ذلك كالمرأة، ولخبر البخاري وغيرهلن يفلح قوم ولو أمرهم امرأة” (شمس الدين الرملي، ج۸، صـــــــ۲۲۸، طبعة مصطفى البابي الحلبي، القاهرة،١٣٥٧ه، ۱۹۳۸م).

ثم قال: “ولو ابتلى الناس بولاية امرأة، أوقن، أو أعمى، فيما يضبطه، نفذ قضاؤه للضرورة” (المصدر نفسه, صـــــــ 228)

أما الفقهاء المعاصرون: فيرون أن الحديث مختص برئاسة الدولة دون غيرها من الوظائف العامة.

يقول الدكتور محمد بلتاجي“: “هذا الحديث ورد في رئاسة الدولةخاصة بها دون سواها من الوظائف العامة في الدولة” (د. محمد بلتاجي مكانة المرأة في القرآن الكريم والسنة النبوية، ص ٣٥٢، مكتبة الشباب، القاهرة ١٩٩٦م).

ويقول: “إن نصوص القرآن والسنة في مجموعها تبيح للمرأة تولى الوظائف العامة باستثناء رئاسة الدولة وبالضوابط التي أسلفنا القول فيها، من عدم خلوة الرجال بها، وعدم سفرها سفرًا غير أمين على المرأة المسلمة، وكون العمل متفقًا في طبيعته مع معالم شخصيتها المسلمة، وبشرط عدم اعتراض زوجها عليها في العمل، إلا أن تكون قد اشترطت عليه في العقد ألا يمنعها منه” (نفس المصدر، صـــــــــ٣٥٨).

أما الدكتور محمد رأفت عثمانفقد نقل خلاف العلماء في جواز تولى المرأة القضاء، فقال: “فأجاز ابن جرير الطبري كما هو المنقول عنه – أن تلى القضاء في كل الأمور بلا استثناء، أي سواء في ذلك ما يتصل بالحدود والدماء وغيرها، ومنع باقي العلماء من توليتها القضاء في أي أمر من الأمور، على ممئى أن رئيس الدولة يأثم إذا ولاها هذا المنصب؛ وإذا حكمت بعد توليتها القضاء في أي أمر من الأمور لا ينفذ حكمها، عدا الحنفية فقد قالوا: مع إثم من ولاها فإنه ينفذ حكمها إذا حكمت في الأمور التي نصح شهادتها فيها، ولا ينفذ حكمها فيما لا تصح فيها شهادتها، وهي الحدود والدماء” (د. محمد رأفت عثمان رئاسة الدولة في الفقه الإسلامي، صـــــــ ۱۳۰، دار الكتاب الجامعي ١٩٧٥م، القاهرة، ويلاحظ أننا نقلنا في الصفحة السابقة كلام الإمام شمس الدين الرملي من الشافعية نفاذ قضائها للضرورة).

كما نقل الإجماع على اشتراط الذكورة في جميع من يرشح لتولية منصب رئاسة الدولة (نفس المصدر، نفس الموضع).

وقد رأى أن هذا هو المتفق مع طبيعة تكوين المرأة الجسمي والنفسي والعقلي. ولا أدل على ذلك – كما قال – من استقراء حال الناس في كافة الأعصر قديمها وحديثها وملاحظة أن النابغين في تولى القيادة العامة في كافة الشعوب كانت الغالبية العظمى منهم من الرجال، ولم يظهر نبوغ النساء في قيادة الشعوب إلا في ظروف نادرة ولأسباب لا تتكرر كثيرًا، ولا يصح إرجاع ذلك إلى أن الرجل كان متفوقًا على المرأة في هذا الميدان لاستعمال قوته التي يفوق المرأة فيها مما أتاح له الفرص التي حرمت المرأة منها، أو لأنه منعها من التعليم سنوات طويلة مما جعلها تقنع بدور التابع للرجل، ولا يصح أن يقال هذا، لأن استعمال الرجل قوته في إبراز جانب التفوق إن كان طريقًا عاديًا متبعًا في العصور الماضية، فقد انعدم هذا الطريق أو كاد أن ينعدم في العصر الحديث، ومع ذلك فالقيادات لازالت في أيدي الرجال، إلا ما ندر. في الوقت الذي أتيح للمرأة فرصة التعليم المتاحة للرجل، وكذلك لا يصح إرجاع ظهور قيادات أكثر من جانب الرجل إلى الكثرة العددية في الرجال دون النساء؛ إذ أنه في بعض البلاد التي تدل الإحصاءات على أن الكثرة العددية في جانب النساء، كما حدث في ألمانيا بعد الحرب العالمية، فإن عدد الرجال كان قليلاً بالنسبة إلى عدد النساء لأن الحرب أفنت من الرجل أكثر، ومع ذلك ومع كون الفرصة متاحة للمرأة لإثبات تفوقها على الرجل، فالنبوغ القيادي والفكري والعلمي في جميع المجالات كان متحققًا في جانب الرجل أكثر منه في جانب المرأة” (المصدر نفسه، صــــــــ ۱۳۲).

والسؤال بعد ذلك: لماذا اختلف الفقهاء هذا الاختلاف؟

والجواب: لأن الدلالة ظنية.

وظنية الدلالة – في تقديري إنما نجمت من الخلاف في فهم عدة ألفاظ في الحديث، هي: لن يفلح – قوم – ولوا أمرهم امرأة.

فبالنسبة للفظ (لن يفلح): فمن المعروف أن لنإنما تستعمل في اللغة العربية أصالة للإخبار، لا للنهى.

فمن المحتمل أن الرسول صلى الله عليه وسلم أخبر بعدم فلاح الفرس، لأسباب اجتمعت وتضافرت كلها – وليست تولية المرأة وحدها – كانت السبب في توقعه صلى الله عليه وسلم عدم فلاحهم.

يقول الحافظ ابن حجر“: بعد أن بين أن كسرى – بعد أن مزق كتاب رسول الله إليه ودعا عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم بأن يحرق ملكه سلط الله عليه ولده شيرويه فقتله، وكان كسرى قد عرف أن ابنه قد عمل (تآمر) على قتله احتال على قتل ابنه بعد موته فعمل في بعض خزائنه المختصة به حقًا مسمومًا وكتب عليه: حق الجماع. من تناول منه كذا جامع كذا، فقرأه شيرويه فتناول منه فكان هلاكه، فلم يعش بعد أبيه سوى ستة أشهر، فلما مات لم يخلف أخًا؛ لأنه كان قد قتل إخوته حرصًا على الملك، ولم يخلف ذكرًا، وكرهوا خروج الملك عن ذلك البيت، فملكوا المرأة.

فهي واقعة عين إذن يخبر فيها رسول الله صلى الله عليه وسلم أن قومًا بلغ بهم التكالب على السلطة، والتقاتل إلى درجة يقتل فيها الابن أباه والابن ابنه والأخ أخاه حتى يصل بهم الأمر إلى تولية امرأة لأنهم لا يجدون رجلاً في بيت عريق توارث عرش کسری فمآلهم إلى عدم الفلاح.

ويقول الشيخ محمد الغزالي:

عندما كانت فارس تتهاوى تحت مطارق الفتح الإسلامي كانت تحكمها ملكة مستبدة مشئومة“.

الدين وثني، والأسرة المالكة لا تعرف شوري، ولا تحترم رأيًا مخالفًا، والعلاقات بين أفرادها بالغة السوء، قد يقتل الرجل أباه أو إخوته في سبيل مآربه، والشعب خانع منقاد.

وكان في الإمكان، وقد انهزمت الجيوش الفارسية، وأخذت مساحة الدولة تتقلص، أن يتولى قائد عسكري يوقف سيل الهزائم، لكن الوثنية السياسية جعلت الأمة والدولة ميراثًا لفتاة لا تدرى شيئًا، فكان ذلك إيذانًا بأن الدولة كلها إلى ذهاب.

في التعليق على هذا كله قال النبي الحكيم كلمته الصادقة. فكانت وصفًا للأوضاع كلها (ظن البعض أن الشيخ الغزالي كان يتحدث عن تولية هذه المرأة حكم فارس أثناء الفتوحات الإسلامية بعد عهد النبی صلى الله عليه وسلم والواقع أن الشيخ رحمه الله يصف واقع فارس أثناء الفتوحات ويصف الملكة بالاستبداد ويقصد أن كلمة النبي صلى الله عليه وسلم تعليق على أوضاع فارس منذ عهده صلى الله عليه وسلم).

ولو أن الأمر في فارس شوري؛ وكانت المرأة الحاكمة تشبه جولدا مائيراليهودية، التي حكمت إسرائيل واستبقت دفة الشئون العسكرية في أيدى قادتها لكان هناك تعليق آخر على الأوضاع القائمة” (محمد الغزالي: السنة النبوية بين أهل الفقه وأهل الحديث، صـــــــ 48، ٤٩، ط٢، دار الشروق مصر، 1409ه، ١٩٨٩م).

وإذا كان هناك من يرى أن الإخبار هنا في معنى النهي، أو أنه خبر صادق لا يتخلف أخبرنا فيه النبي صلى الله عليه وسلم بخسران وعدم فلاح من تولى عليهم المرأة، فإنه مما يضعف هذا الرأى أن مثل هذه الصيغة على هذا التقدير – الخبر المقصود به النهي لا يتناسب مع أمر تشريعي جليل يتعلق بالأمة ومستقبلها، كالإمامة التي بها حفظ الدين ورعاية الدنيا، ولو كان الرسول صلى الله عليه وسلم قد قصد النهي عن ولاية المرأة لما ترك ذلك لصيغة تتعدد فيها الأفهام وتضطرب الآراء، أو لكان قد ترك الأمر تمامًا – دون إخبار أو نهي معًا لإرادة الأمة تولى من تشاء، كما فعل مع نصب إمام معين إذ ترك الأمر شورى للمسلمين فلم يعين لهم إمامًا، ولم يحدد لهم طريقة لاختيار إمام، لأنه من الأمور الدنيوية المتغيرة، وفق قواعد ومبادئ كلية ثابتة.

فمن المعلوم أن قواعد الحكم وأسسه في الإسلام تقوم على الشورى والعدل والمساواة ( وأمرهم شورى بينهم ) (الشوری: ۳۸)، ( وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل) (النساء: 58) بقطع النظر عن الطريقة التي يختار بها النظام الذي يحقق هذه الأصول، أو الشخص الذي يدير هذا النظام، أو الهيئة التي تقوم عليه (ينظر: د. عبد الحميد الأنصاري، الشورى وأثرها في الديمقراطية، دراسة مقارنة. وقد بحث ذلك بتوسع في صـــــــ ۲۷۸۳۲۰ منتهيًا إلى أنه كانت مسألة إمامة المرأة محل خلاف طويل، فإن بقية حقوقها السياسية أمر جائز. بل يدخل في باب الواجب الكفائي، لأنه من الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، المكتبة العصرية للطباعة، صيدا، بيروت، ط۲، 1400ه، ۱۹۸۰م).

فإذا انتقلنا إلى اللفظة الثانية: “قومفإن الذي يجعلنا نطمئن إلى الاقتناع بأن الحديث ورد في قوم مخصوصين هم الفرس، في زمن مخصوص هي الفترة التي قيل فيها الحديث أمران:

الأمر الأول: أن الفرس في هذه الفترة – كما رأينا قتل الأخ أخاه، وقتل الابن أباه، وقتل الأب ابنه، وضاقت عقول الفرس عن أن يخرجوا الملك من هذا البيت المتقاتل كما قال الإمام ابن حجر – لم يكونوا أهلاً للفلاح بمثل هذه الأوضاع المتردية.

وما جاء ذكر ولوا أمرهم امرأةإلا علامة لهؤلاء القوم، خاصة أن الرسول صلى الله عليه وسلم عبر عنهم بالقوم ولم يقل مثلاً قوم كسرى أو الفرس، وقد كان من عادته صلى الله عليه وسلم أن يشير بعض من يعنيهم بعلامة قد لا تكون سببًا في إيجاب الحكم الذي يوجبه صلى الله عليه وسلم مثل قوله:

من أكل لحم جزور فليتوضأ“.

فمن المعلوم أن أكل لحم الجزور لا ينقض الوضوء، لكنه صلى الله عليه وسلم اتخذه علامة لرجل عرف عليه الصلاة والسلام أنه أحدث واستحيا من القوم فأراد صلى الله عليه وسلم أن يرفع عنه ذلك الحرج فقام الرجل فتوضأ، لأنه لم يجد حرجًا في أكل لحم الجزور، لأن العرب كلها تأكله.

ومثل ذلك قوله صلى الله عليه وسلم الذي نجده كثيرًا ما بال أقوام يفعلون كذا، فيكون فعلهم علامة عليهم لأنه كان عليه الصلاة والسلام يكره التصريح بالأسماء في أمثال هذه الحالات“.

الأمر الثاني: أن كثيرًا ممن ولوا أمرهم امرأة أفلحوا.

ففي عصرنا اشتهرت السيدة مارجريت تاتشربإدارتها لدولة كبرى (بريطانيا) وقادت اقتصادها وحروبها مع جزر فوكلاندوتوجيهها للشئون السياسية والعسكرية والاقتصادية والمدنية، بعامة بحيث استمرت في حكم بريطانيا أحد عشر عامًا، ربما كانت تزيد لو لم تقدم هي استقالتها، وكانت أطول من حكم بريطانيا في القرن العشرين وتركت بريطانيا في حال كانت خيرًا من حالها عندما بدأت حكمها.

وجولدا مائيرقادت حروبًا ضد العرب وحكامهم رجال – فانتصرت عليهم.

وأنديرا غانديالتي حكمت الهند فترات وازدهرت فيها الديمقراطية وقادت الهند في معركتها مع باكستان التي شطرتها نصفين، وقسمتها إلى دولتين يقودهما رجال.

والسؤال هنا: أتريدون أن يكذب رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بالفهم الضيق لحديث عني به قومًا مخصوصين في زمن مخصوص؟.

أم تريدون أن يخرَّب الواقع نتيجة فهم خاص لحديث يمكن أن يفهم بطريقة أخرى تسيغها اللغة العربية لغة النبي صلى الله عليه وسلم ، خاصة إذا جدت ظروف، ربما تكون استثنائية لتولى المرأة.

إن شجرة الدرقادت الأمة الإسلامية في آخر معارك الحروب الصليبية فكانت المعركة الفاصلة، توجه القادة والأمة، وزوجها على فراش الموت، وكتمت خبر وفاته حتى لا يؤثر على سير المعركة الإسلامية مع الصليبيين.

ولولا ذلك الفهم الخاص الضيق لحديث لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأةلاستمرت تحكم البلاد في عهد الدولة الأيوبية. لكن علماء عصرها بهذا الفهم الخاص للحديث أفتوا بعزلها، ولو عقلوا الأمور لأدركوا أنهم ما أفلحوا ولا أفلحت مصر إلا بتولى هذه المرأة نفسها توجيه الحرب، حتى أسر المسلمون بتوجيهها الملك لويس التاسعملك فرنسا في مصر.

أين إذن مصداقية ذلك الفهم الضيق لقوله صلى الله عليه وسلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة؟ وقد أفلحوا فعلاً فلاحًا تاريخيًا.

فإذا انتقلنا إلى النظر إلى كلمة أمرهمالواردة في الحديث الشريف وما تنوء به من دلالات كلها ظنية، مما جعل الفقهاء لا يتفقون على تحديد مدلول معين لها، لأن مضامين اللفظ تتسع لكل الاحتمالات في نظر البعض، وتضيق حتى تقتصر على الولاية في نظر البعض، أو تتسع لبعض الاحتمالات دون بعضها في نظر البعض الآخر، أو تضيق بحيث لا تسع احتمالاً من الاحتمالات.

فكما رأينا فإن الخطابيرأى أن المرأة لا تلى أمرًا قط. لا على نفسها فلا تزوج نفسها، ولا تلى العقد على غيرها. فلا تملك أمر نفسها فضلاً عن أن تملك أمر غيرها؛ لأن لفظ أمرهمعام في نظره يشمل جميع أفراده.

والحافظ ابن حجر العسقلانييرفض هذا الفهم، ويقف مع الجمهور في أنها تلى الوظائف. ما عدا الإمارة والقضاء.

وهذا مبنى على أن للمرأة أهلية. فما لم تكن لها ولاية لم تكن لها أهلية، ومعنى ذلك أن الشرع ينزع عنها أهليتها ولم يقل بذلك أحد. فثبت لها إذن الولايات الخاصة إلا ما استثني ويكون هذا الحديث استثناء للولاية العامة.

يقول الدكتور إبراهيم عبد الحميد: “فالذي يلحظ هذه الأهلية (أهلية المرأة للولايات الخاصة) ويفهم مناطها لا يسعه إلا تعميمها، وقصر الولاية المنهي عنها في الحديث على الولاية التي تستمد منها الولايات – أعني ولاية الحاكم الأعلى” (دكتور إبراهيم عبد الحميد، نظام القضاء في الإسلام، . صــــــــ ۳۳، محاضرات بقسم السياسة، الدراسات العليا، كلية الشريعة والقانون، جامعة الأزهر، نقلاً عن دكتور عبد الحميد الأنصاري، الشوري وأثرها في الديمقراطية، صــــــــــــــــ۲۸۱).

أما الإمام الطبري فقد أجاز ولاية المرأة للقضاء، وهي رواية عن الإمام مالك. أما أبو حنيفة فقد أجاز لها أن تلى الحكم فيما تجوز فيه شهادتها.

كل ذلك جعل آخرين من معاصرينا ينظرون نظرة أخرى إلى كلمة أمرهم على أنها الخلافة باعتبار أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعني أنظمة الحكم الموجودة في ذلك العصر، وهي الأنظمة التي تقوم على استقلال ولى الأمر وانفراده بكل الأمر في الدولة.

من هؤلاء الشيخ عبد المتعال الصعيدي، والدكتور عبد الحميد متولى“.

فالشيخ عبد المتعال الصعيدييرى أن الحديث نهى عن الولاية التي تستبد فيها المرأة بكل أمر في الدولة فتحكمها حكمًا استبداديًا لا ترجع فيه إلى المشورة العقلاء من الرجال (المصدر نفسه، صـــــــــــ٢٩٤، ٢٩٥).

ويضيف الدكتور عبد الحميد الأنصاريأن الحكم القائم على الشوري واحترام مبدأ الأغلبية في حدود الشريعة الإسلامية يجعل الحاكم في مثل هذا النظام – سواء كان رجلاً أو امرأةً – لا يملك بيده كل الأمر، بل الأمر كله هنا بيد المجلس الشعبي الممثل لجمهور الشعب (المصدر نفسه، صـــــــــــ٢٩٥).

ويرى الدكتور عبد الحميد متولىأن الحديث لا ينطبق على رئاسة الدولة في العصر الحاضر، لأن الخلافة كانت تجمع بين السلطتين: السلطة السياسية، والرئاسة الدينية، خلافًا لما عليه الأمر في العصر الحديث؛ حيث لا يجمع الرئيس بين هاتين السلطتين أو الرئاستين. بل نجد الرئيس أحيانًا (في بعض البلاد) لا يملك سوى مجرد رئاسة شرفية أي رمزية، لأنه لا يملك سلطة فعلية.

ونقول: إن الإدارة الحديثة فعلاً محاطة في الأغلب الأعم بكثير من الضمانات التي تحول دون انفراد الحاكم بالأمر، مما يجعلنا نشبع النظر في قوله صلى الله عليه وسلم ولواهل هي تولية انفراد؟ أو تولية تحاط بالضمانات حتى تحول دون الانفراد؟ هل هي تولية كاملة تلك التي يقع عليها النهي في الحديث؟ أو هي تولية تجعل من تولى رجلاً أو امرأةً لا يختص منفردًا بالولاية؟.

فإذا كانت الولاية العظمى تختلف في العصور الماضية عنها في عصرنا، فهي من الأمور المتغيرة، وليس شكلها ونظامها واختصاصاتها من ثوابت الدين وقواعد الملة.

أيقع النهي عنها في عصرنا أن تتولاها امرأة؟ إن سلمنا أنه نهى، أو خبر في معنی النهي.

أو يمكن أن نقول: إذا كانت هناك ظروف استثنائية وضمانات حقيقية تتولى المرأة فيها، وكان لها من النواب والوزراء والمستشارين ومجالس الرأى والتشريع أو الحل والعقد، في منظومة كاملة مترابطة تشكل مؤسسة للحكم، تمنع الاستبداد والتولي المطلق، أيبقى النهي واردًا؟

إننا لا نعتقد أن المرأة حينئذ وسط هذه الظروف والضمانات تدخل في نطاق النهي الذي يفهمه البعض من الحديث الشريف.

ذلك أنه وسط هذه الظروف والضمانات لا يبقى وجه لا نطابق الحديث على هذه الحالة، لأن تولى المرأة أو الرجل في هذه المؤسسة لا يكون توليًا بالمعنى المفهوم للتولى المنهى عنه في الحديث؛ لأن القوم حينئذ لا يصدق عليهم أنهم ولواامرأةً أو رجلاً، بل ولوامؤسسة كاملة متضامنة تتبادل السلطة، ويشارك كل من فيها بالقرار، كما نرى في الديمقراطيات الحديثة.

ففي هذه الديمقراطيات لا يوجد ولي الأمربالمفهوم القديم الذي كان سائدًا في العصور الماضية، ومنها عصر النبي صلى الله عليه وسلم النبي نفسه الذي قيل فيه الحديث، حيث كان ولى الأمر ينفرد بالسلطة العليا أو الولاية العامةكما سماها الفقهاء، أو الولاية العظمى التي تتفرع منها كل الولايات، وكان ولي الأمر صاحب هذه الولاية العامة هو مصدر السلطات الأدنى منه فهو الذي يولى الولاة والقضاة والمنفذين في كل جهات الدولة، ومنه يستمد صاحب كل سلطة سلطته، وإليه ترجع أمور الدولة كلها بدءًا عند تعيين أي صاحب سلطة، ونهاية عند التصديق على قرارات أصحاب السلطة.

أما نظم الحكم الحديثة: فإن الأمة هي مصدر السلطات، وهي لا تختار ولی في أمر واحد، وإنما تختار سلطات ثلاث: سلطة تشريعية، وسلطة قضائية، وسلطة تنفيذية.

وكل سلطة من هذه السلطات مستقلة عن الأخرى، وإن كانت تتبادل فيما بينها التعاون على تحقيق ولاية الأمر، فالولاية العامة التي كانت في يد ولى الأمر بالمفهوم القديم أصبحت موزعة على هذه السلطات الثلاث لكل منها نصيب في ولاية الأمر، غير مستقلة وحدها تمام الاستقلال، بل ترتبط بالسلطتين الأخريين بحيث لا تستطيع كل واحدة من السلطات الثلاث أن تستقل بقراراتها.

فالملكة في انجلترا تملك ولا تحكم، ورئيس الوزراء هو الآخر لا يستطيع أن يحكم حكمًا مستقلاً بعيدًا عن سلطة مجلس العموم، فلا يستطيع أن يشن حربًا، أو يطبق ميزانية، دون التصديق من هذا المجلس. والرئيس الأمريكي لا يستطيع أن ينفذ القرارات الكبرى كشن الحرب، أو الميزانية، أو حتى المعونات التي تخصصها إدارته للدول الأخرى، إلا بعد موافقة الكونجرس الأمريكي، ولا تستطيع هذه المجالس بدورها أن تنفذ قرارًا، إلا بعد موافقة السلطة التنفيذية.

ولنأخذ مثالاً على ذلك قرار: نقل السفارة الأمريكية من تل أبيب إلى القدس، فلا تستطيع الإدارة الرئاسية في الولايات المتحدة أن تنقلها إلا بعد موافقة الكونجرس، ورغم أن الكونجرس هو الذي بادر بأخذ القرار إلا أنه لم ينفذ لأن الإدارة الرئاسية لم توافق عليه.

وهكذا في القرارات الكبرى لاولى أمر واحد، لأن ولاية الأمر باتت شركة بين سلطات المؤسسة الحاكمة في النظم الحديثة.

وبذلك لا تكون رئاسة الدولة بهذا المفهوم الحديث ولاية عامة. ولا تقع تحت نهى النبي صلى الله عليه وسلم لن يفلح قوم ولوا أمرهم إلخ لأنها لا تكون حينئذ تولية للأمر بل لبعض الأمر.

وهنا في ظل المؤسسة أو النظام الحاكم، لا يتعلل بطبيعة المرأة وما يعتريها من ضعف عاطفي، أو صحي؛ لأنه سيكون في هذه المؤسسة، النواب، والوزراء، والمستشارين، والخبراء، ما يسد حاجة المؤسسة، ويعوض ما قد يفوت لدى بعض أفرادها أو إداراتها من نقص موقوت.

ثم إن المرأة التي تتولى مثل هذه الولايات، تكون قد خرجت عادة عن طبيعة المرأة، بحكم الدربة، والخبرة، وتقدم السن، ومكابدة الأحداث، ومعايشة القرارات الصعبة، وتخطت عوامل الضعف الأنثوى، ولذلك نرى من تولت في عصرنا من وصفت بالمرأة الحديدية أو الفولاذية التي قد تكون أقوى كثيرًا من الرجل، بل توصف أحيانًا بأنها امرأة رجل“.

ويمكن أن توضع السيدة مارجريت تاتشروإعلانها السريع والحاسم لحرب فوكلاندوقيادتها لها وإنهاءها بالنصر في أيام قليلة، مما لا يقل عن كفاءة الحكام العظام من الرجال بأي حال.

ولئن كانت هذه الأمثلة ظروفًا استثنائية فالكلام كله على هذه الظروف بأن الإسلام لا يضع حاجزًا أمام المرأة، إن وجدت هذه الظروف.

ويمكن أن نأخذ هنا مثال خروج السيدة عائشة رضي الله عنها على رأس الجيش في موقعة الجمل، ونتصور أنها رضي الله عنها لو كانت قد فهمت من رسول الله صلى الله عليه وسلم قوله لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأةكما فهمه من يرى النهي عن تولية المرأة الولايات العامة، ما خرجت قط عن نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولما خرج معها أحد من الصحابة بإطلاق.

بل خرج معها ثلاثة آلاف من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم مما يعادل ثلث الجيش الذي كان مع الخليفة على رضي الله عنه، مما يدل على أن الصحابة لم يفهموا من رسول الله صلى الله عليه وسلم هذا النهي عن تولية المرأة، وإن لم يقع.

أما ما يقوله ابن قدامة“: “ولا تصلح (المرأة) للإمامة العظمى ولا لتولية البلدان، ولهذا لم يول النبی صلى الله عليه وسلم ولا أحد من خلفائه ولا من بعدهم امرأة، قضاء ولا ولاية بلد فيما بلغنا، ولو جازو، ذلك لم يخل منه جميع الزمان غالبًا” (المغني لابن قدامه، 10/127).

فإننا نقول: إن عدم الوقوع، ليس دليلاً على عدم الجواز.

وما يقوله أيضًا الشيخ عبد العال عطوة من أن الإجماع قائم ومنعقد على أن من شروط الإمامة – الذكورة – والإجماع قائم على عدم جواز تولية المرأة (القضاء) ولا عبرة بخلاف ابن حزم وابن جرير إذا صح ما نسب إليه” (د. عبد العال عطوة: نظام القضاء في الإسلام، صـــــ ١٣، نقلاً عن د. عبد الحميد الأنصاري: الشورى في ص ٢٩٧).

فإننا نقول إن دعوى الإجماع هنا على منع تولية المرأة، مردود.

وكيف يدعى الإجماع؟ وقد كانت البصرة مع عائشة، والكوفة مع على.

وقد ذكر الإمام الحافظ ابن حجرأن راوي الحديث نفسه وهو أبو بكرة رضي الله عنه لم يشترك في القتال مع عائشة لا لأنها امرأة فقط ولا لأن الحديث ينهي عن أن تتولى المرأة، بل لأنه كان يرى الكف عن القتال بين المسلمين والاشتراك في الفتنة رغم أنه كان موافقًا لعائشة في اتجاهها السياسي، إذ كان اتجاهها رضي الله عنها الإصلاح بين الناس ومطالبة على بقتل قتلة عثمان، لكن الحرب نشبت فلم يكن لمن معها بد من المقاتلة. وما كان امتناعه من الاشتراك معها رضي الله عنها إلا فراسة بأن من معها سيهزمون لأنهم ولو أمرهم امرأة.

يقول: “نقل ابن بطال عن المهلب أن ظاهر حديث أبي بكرة يوهم توهين رأى عائشة فيما فعلت، وليس كذلك؛ لأن المعروف من مذهب أبي بكرة أنه كان على رأى عائشة في طلب الإصلاح بين الناس، ولم يكن قصدهم القتال، لكن لما انتشبت الحرب لم يكن لمن معها بد من المقاتلة، ولم يرجع أبو بكرة عن رأى عائشة، وإنما تفرس بأنهم يغلبون لما رأى الذين مع عائشة تحت أمرها لما سمع في أمر فارس قال: ويدل على ذلك أن أحدًا لم ينقل أن عائشة ومن معها نازعوا عليًا في الخلافة، ولا دعوا إلى أحد منهم ليولوه الخلافة، وإنما أنكرت هي ومن معها على عليّ منعه من قتل قتلة عثمان وترك الاقتصاص منهم، وكان على ينتظر من أولياء عثمان أن يتحاكموا إليه فإذا ثبت على أحد بعينه أنه ممن قتل عثمان اقتص منه” (فتح الباري شرح صحیح البخاری، ج۱۳، صـــــــــــ 56).

ثم قال ابن حجروقال ابن التين أيضًا: كلام أبي بكرة يدل على أنه لولا عائشة لكان مع طلحة والزبير، لأنه لو تبين له خطؤهما لكان مع على، كذا قال. وأغفل قسمًا ثالثًا وهو أنه كان يرى الكف عن القتال في الفتنة كما تقدم تقريره، وهذا هو المعتمد. ولا يلزم من كونه ترك القتال مع أهل بلده للحديث المذكور أن لا يكون منعه من القتال سبب آخر، وهو ما تقدم من نهيه الأحنف عن القتال واحتجاجه بحديث إذا التقى المسلمان بسيفهما فالقاتل والمقتول في النار” (المصدر نفسه نفس الصفحة).

لم يكن السبب الرئيس لدى أبي بكرة إذن هو الإنضواء تحت قيادة امرأة، وإنما كان الرغبة في الكف عن القتال بين المسلمين كما فعل سعد بن أبي وقاص ومحمد بن مسلمة، وعبد الله بن عمر وغيرهم، ولهذا لم يشهد صفين مع معاوية ولا على، كما يقول الحافظ ابن حجر.

بل إننا لم نلحظ وسط ما كتب من الصفحات الطوال عن الفتنة الكبرى، أن أحدًا من الصحابة غير أبي بكرة – أمسك عن الانضمام تحت قيادة عائشة مع طلحة والزبير، لأنها امرأة، بل كان الاختيار أمامهم بين على وعائشة، وفضل الكثيرون الوقوف مع على لا لأنه رجل، بل لأنه الخليفة الشرعي الذي لم تكن عائشة نفسها رضي الله عنها تنازعه الخلافة، بل تنازعه الرأي، وهي الذي دعت إلى توليته والبيعة له، وكانت تحث من يسألها على ذلك.

وقد نقل ابن حجرما أخرجه ابن أبي شيبة بسند جيد، عن عبد الرحمن ابن أبزى قال انهى عبد الله بن بدیل بن ورقاء الخزاعي إلى عائشة يوم الهودج، فقال: يا أم المؤمنين: أتعلمين أني أتيك عندما قتل عثمان، فقلت: ما تأمريني؟ قلت: إلزم عليًا” (المصدر نفسه، صـــــــ 57).

وهناك دليل آخر على أن الصحابة لم يفهموا من النبي صلى الله عليه وسلم النهي عن تولية المرأة، ما وقع من أن عمر رضي الله عنه ولى الشفاءحسبة بالسوق، دون نكير من الصحابة.

ثم إن التاريخ الإسلامي بعد ذلك يحتوى على كثير من الوقائع التي تولت فيها المرأة السلطة بطريق مباشر .

ويذكر الدكتور أحمد الطيب (عدة مقالات نشرها د. أحمد الطيب بعنوان: “نساء شهيراتفي جريدة الأهرام القاهرية، ۱، ۲، ۳، 4 فبراير ۱۹۹۷م) في ترجمته لكتاب فاطمة المرنيسي: “سلطانات منسياتأن الكاتبة في هذا الكتاب تحدثت عن مسلمات كثيرات وصلن إلى قمة السلطة.

من هؤلاء أميرة الجبلحاكمة تطوان” – الإقليم الشمالي الغربي من بلاد المغرب في بدايات القرن العاشر الهجري (السادس الميلادي) وقد أثر فيها وفي غيرها من المسلمات الحرائر سقوط غرناطة، فخضن العمل السياسي والعسكري. قأقامت هذه الأميرة حاكمة تطوان الحرة (لقب يعني السيدة الحاكمة) أسطولاً بحريًا للقرصنة في البحر المتوسط، وكانت تصعد عليه بنفسها وتمارس وتقود القرصنة ضد سفن الفرنجة الذين استولوا على بلاد الأندلس، مما أجبر ملوك الأسبان والبرتغال على التعامل معها كحاكم الإقليم، ويحسبون حسابها كقوة بحرية، ويعقدون معها الاتفاقيات والمعاهدات لإطلاق سراح الأسرى المرتهنين لديها من الأسبان والبرتغال.

ومنهم ايش (عائشة) خاتونإحدى سلطانات المغول. حكمت مملكة قرابة ربع قرن (662- 686ه) وهي آخر ملوك أسرة سولغور، وكان يدعى لها على المنابر في خطبة الجمعة، وصك اسمها على العملة (المصدر نفسه).

ومنهن أيضًا الملكة تندوابنة الملك أويسملكة العراق لثماني سنوات (٨١٤ه ٨٢٢ه) وكان يخطب لها بمنابر الجمعة، وتضرب العملة باسمها، وكان أبوها قد عجز عن الدفاع عن العراق أمام تيمور لنكواستعان بمماليك مصر وتزوجت الظاهر برقوقلكنها لم تطق العيش بعيدًا عن ملك آبائها في العراق، رغم شعورها بالأمان في مصر، فعادت إلى العراق وتزوجت ابن عمها شاه ولدوبعد وفاته جلست على العرش سنة ٨١٤ه (المصدر نفسه).

ويذكر الدكتور أحمد الطيبأن المؤلفة تحدثت عن ثلاث ملكات حكمن جزر المالديف، وأربعًا حكمن جزر أندونيسيا، وتستند الكاتبة إلى ابن بطوطةالذي تنقل عنه أنه مر بجزر المالديف وذكر من عجائبها أن سلطانتها امرأة، وهي خديجةبنت السلطان جلال الدين عمر بن السلطان صلاح الدین صالح البنجالي وأن الخطباء يدعون لها في خطبة الجمعة بدعاء اللهم انصر أمتك التي اخترتها على علم على العالمين، وجعلتها رحمة لكافة المسلمين، ألا وهي السلطانة خديجة بنت السلطان جلال الدينوحكمت خديجة بلادها لفترة ثلاثة وثلاثين عامًا، ثم تولت الحكم بعدها أختها السلطانة مريموهذه خلفتها من بعدها ابنتها فاطمة التي جلست على عرش البلاد إلى أن توفاها الله عام 790ه، وهكذا استمر حكم المرأة في جزر المالديف فترة تبلغ أربعين عامًا وتختم المؤلفة هذا الفصل بحاكمات أندونيسيا من المسلمات وهي:

السلطانة تاج العالم صفية الدين شاه (1641 – 1675م).

السلطانة نور العالم تقية الدين شاه (1675 – ١٦٧٨م).

السلطانة زكية الدين عنايت شاه (١٦٧٨ – ١٦٨٨م).

السلطانة كمالات شاه (١٦٨٨ – ١٦٩٩م).

وتنقل المؤلفة عن دائرة المعارف الإسلاميةأن هؤلاء حكمن بلادهن برغم مقاومة منافسيهن من الرجال، وصدور فتوى من مكة المكرمة في ذلك الوقت تحرم تولية المرأة، في الشريعة الإسلامية مناصب الولاية العامة (المصدر نفسه).

ولنا أن نلحظ تعارض هذه الفتوى مع دعاء الخطباء على منابر الجمعة لهؤلاء السلطانات اللاتي حكمن أكثر من نصف قرن.

على أننا نجد في العالم العربي من تولت ملك اليمن وهي الملكة أروى بنت أحمدالتي حكمت اليمن، وعاشت من سنة ٤٤٤ه إلى سنة ٥٣٢ ه وكانت تدعى الحرة الصليحية” (المصدر نفسه).

أين دعوى الإجماع إذن؟

ثم إن الإجماع لابد أن يستند إلى الكتاب والسنة، وليس في الكتاب أو السنة كما رأينا دلیل قطعی صريح، يستند عليه القائلون بمنع المرأة من الولاية العامة.

ومع أننا لا نعرف الأسس التي اعتمد عليها فتوى العلماء في مكة، فإن المحدثين والفقهاء بنوا إجماعهم على أسس عقلية، إما قياسًا على الإمامة والقضاء، وإما لأن المرأة عورة أو ضعيفة – كما يقولون -.

قال البغوىاتفقوا على أن المرأة لا تصلح أن تكون إمامًا ولا قاضيًا، لأن الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد والقيام بأمور المسلمين، والقاضي يحتاج إلى البروز لفصل الخصومات والمرأة عورة لا تصلح للبروز، وتعجز لضعفها عن القيام بأكثر الأمور” (شرح السنة للبغوى، ج۱۰/ صـــــ 77، وانظر منهج فقه السنة النبوية درايةً وتنزيلاً د. الحسن العلمي، رسالة دكتوراه، كلية الآداب، الرباط، المغرب).

وكل ذلك أمور تقديرية. منشؤها البيئة والأوضاع الاجتماعية، وهي تتغير من بيئة إلى بيئة، ومن زمن إلى زمن.

فإذا كانت مبررات عدم صلاحية المرأة للإمامة والقضاء: أن الإمام يحتاج إلى الخروج لإقامة أمر الجهاد، فلم يعد الإمام في عصرنا محتاجًا إلى الخروج على رأس الجيش، كما كانت القيادة القديمة، بل إن الإمام في عصرنا يلزم العاصمة وغرفة القيادة المركزية التي تجتمع فيها كل خطوط الاتصال مع الجيوش والأسلحة العديدة ومواقع الحرب المختلفة وسط قواد كثيرين يمثلون تقسيمات الجيش العصري الكثيرة.

وإذا كان القاضي قديمًا يخلو بالخصم: فإن القضاء الحديث تندر فيه – إن لم تنعدم هذه الخلوة لأن جلسة المحكمة تحتوى على الرئيس، وعضوية اليمن واليسار، والدفاع، والنيابة، ورجال الإعلام، والجمهور.

وكون المرأة عورة لا تصلح للبروز كما يقول البغوي -: ليس له سند. لا من القرآن، ولا من السنة، ولا من واقع الحياة الإسلامية في عصر النبي صلى الله عليه وسلم نفسه.

فالقول بأنها عورة مع أنه لم يثبت – لا يمنع من بروزها، فقد نظم الإسلام علاقات المرأة بمجتمعها وبغيرها من الرجال.

ولقد كانت المرأة في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم تشارك الرجل في أنشطة المجتمع، وتلتقى بالرجال، وتخرج إلى الحروب، وتستقبل الوفود.

فعن عبد الله بن عمرو بن العاص أن نفرًا من بني هاشم دخلوا على أسماء بنت عميس؛ فدخل أبو بكر الصديق وهي زوجته يومئذ (رواه مسلم، کتاب السلام).

وقد أورد أبو موسی رضی الله عنه أن أسماء بنت عمیس رضي الله عنها كانت هاجرت إلى الحبشة مع من هاجر من الرجال.

وعن أنس بن مالك قال: كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يغزو بأم سليم ونسوة من الأنصار معه إذا غزا، فيسقين الماء ويداوين الجرحي (رواه البخاري ومسلم، البخاري كتاب المغازی باب غزوة خيبرة، مسلم كتاب فضائل الصحابة باب فضائل جعفر بن أبي طالب وأسماء بنت عميس).

كانت المرأة إذن، والوحي ينزل ورسول الله صلى الله عليه وسلم قائم بين الناس، حاضر في حياتهم ووجدانهم تغزو وتلتقى بالرجال وتشارك في أنشطة المجتمع، ولم تظهر مقولة إن المرأة عورة لا تصلح للبروز.

بل كانت النساء تشارك في البيعة بنص القرآن الكريم كما يشارك الرجال ويأتين رسول الله صلى الله عليه وسلم نفسه يبايعنه ويستفتينه في مسائل الدين والدنيا.

قال تعالى: ( يأيها النبي إذا جاءك المؤمنات يبايعنك على أن لا يشركن بالله شيئًا ولا يسرقن ولا يزنين ولا يقتلن أولدهن ولا يأتين ببهتين يفترينه بين أيديهن وأرجلهن ولا يعصينك في معروف فبايعهن واستغفر لهن الله إن الله غفور رحيم ) (الممتحنة: ١٢).

والسنة النبوية مليئة بالشواهد التي تحفظ للمرأة حقوقها في المشاركة البناءة في مظاهر الحياة وأنشطتها التي تحفظ عليها إنسانيتها وكرامتها في إطار من الحشمة والوقار والعفاف ضمن الإطار الأخلاقي للإسلام.

فإذا قيل أين حجاب المرأة من ذلك كله؟ أو أين منعها من الظهور؟

فإننا نقول إن الحجاب بمعناه الشرعي هو: القرار في البيت وعدم الخروج منه إلا لحاجة، مع ستر أبدانهن جميعًا بما فيها الوجه والكفان، وهو خصوصية لنساء النبي صلى الله عليه وسلم.

فقد جاء في الصحيحين أن عمر رضي الله عنه قال: يا رسول الله. يدخل عليك البر والفاجر فلو أمرت أمهات المؤمنين بالحجاب فنزلت آية الحجاب وهي قوله تعالى: ( ياأيها الذين أمنوا لا تدخلوا بيوت النبي إلا أن يؤذن لكم إلى طعام غير ناظرين إناه ولكن إذا دعيتم فأدخلوا فإذا طعمتم فانتشروا ولا مستئنسين لحديث إن ذالكم كان يؤذي النبي فيستحي منكم والله لا يستحي من الحق وإذا سألتموهن متبعًا فسئلوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن وما كان لكم أن تؤذوا رسول الله ولا أن تنكحوا أزواجه من بعده أبدا إن ذلكم كان عند الله عظيما ) (الأحزاب: ٥٢) (والحديث أخرجه مسلم كتاب الجهاد والسير باب غزو النساء مع الرجال).

قال القاضي عياض“: فرض الحجاب مما اختص به أمهات المؤمنين، وهو فرض عليهن بلا خلاف في الوجه والكفين، فلا يجوز لهن كشف ذلك، لا في شهادة، ولا في غيرها” (انظر البهي الخولي الإسلام والمرأة المعاصرة، صــــ 161، دار القلم الكويت).

وهذا صريح قوله تعالى: ( يانساء النبي لستن كأحد من النساء ) .

أما بقية نساء المؤمنين فتجري عليهن الأحكام العامة من جواز الخروج وكشف الوجه والكفين مع الالتزام بالآداب العامة الواردة في القرآن والسنة.

وقد كان السياق الذي نزلت فيه هذه الآية كله يتحدث عن تقرير أحكام وواجبات والتزامات على نساء النبي، من تحريم الإغراق في الاستمتاع بالحياة الدنيا، ومضاعفة العقاب والثواب، مثل قوله: ( يانساء النبي من يأت منكن بفاحشة مبينة يضاعف لها العذاب ضعفين وكان ذلك على الله يسيرا ) (الأحزاب: 30) ومثل قوله تعالى: ( ومن يقنت منكن لله ورسوله، وتعمل صلحًا نؤتها أجرها مرتين وأعتدنا لها رزقًا كريمًا ) (الأحزاب: 31)

وإذا كان البعض يرى أن وظيفة القضاء في مصر تتطلب في بدايتها أن تعمل من يتولاها معاونًا للنيابة ووكيلاً لها، وهذا يتطلب إن تولت المرأة هذه الوظيفة أن تخرج ليلاً في بعض الأحيان إلى مناطق نائية للتحقيق، مما لا يتناسب مع المرأة. ويرى كثيرون آخرون أنه ليس بلازم أن تبدأ المرأة هذه البدايات فإذا لم تتغير آليات الوظيفة المرأة من القضاء يكون في هذه الظروف من باب الملاءمة لا من باب الديانة مع الإحاطة بأن آليات الوظيفة مختلفة من بلد إلى بلد، فقد تعمل قاضية دون المرور بالوظائف المعاونة السابقة على وظيفة القضاء).

إذن؛ كل ولاية تحفظ على المرأة كرامتها وحشمتها لا يوجد في نصوص القرآن والسنة ما يمنعها من توليها، إذا توافرت لها هذه الكرامة والحشمة والتزمت هي بهذه الآداب.

القوامة في الإسلام

 

القوامة في الإسلام

إن الإطار القرآني والنبوي الذي يسوى بين الرجال والنساء في قبول الإيمان والأعمال يوجب أن نفهم منه وفي ضوئه الدرجةالتي ذكرها القرآن الكريم في سياق التسوية بين الرجال والنساء في الحقوق والواجبات في قوله تعالى: ( ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة) (البقرة: ۲۲۸)، درجة القوامة التي أعطاها الله للرجل في الحياة الزوجية والمذكورة في قوله تعالى: ( الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم ) (النساء: 34).

ومن العجيب أن بعض مفسرينا القدامي جروا على أن إعطاء القوامة للرجل على المرأة في الأسرة، إنما كان بتفضيل الرجل على المرأة مطلقًا، والرجال جميعًا على النساء جميعًا.

قال الإمام الفخر الرازي (التفسير الكبير للإمام فخر الدین الرازی، ج۹، صـــ۸۸، ط1، مطبعة عبد الرحمن محمد، 1357ه، ۱۹۳۸م) بعد أن بين أن القوامة هنا مطلة بأمرين أحدهما قوله تعالى: ( بما فضل الله بعضهم على بعض ).

واعلم أن تفضيل الله الرجال على النساء حاصل من وجوه كثيرة، بعضها صفات حقيقية، وبعضها أحكام شرعية.

أما الصفات الحقيقية: فاعلم أن الفضائل الحقيقية يرجع حاصلها إلى أمرين: إلى العلم، وإلى القدرة، ولا شك أن عقول الرجال وعلومهم أكثر، ولاشك أن قدرتهم على الأعمال الشاقة أكمل، فلهذين السببين حصلت الفضيلة للرجال على النساء في العقل والحزم، والقوة، والكتابة الغالب، والفروسية، والرمي، وأن منهم الأنبياء والعلماء، وفيهم الإمامة الكبرى، والصغرى، والجهاد، والآذان، والخطبة، والاعتكاف، والشهادة في الحدود، والقصاص بالاتفاق، وفي الأنكحة عند الشافعي رضي الله عنه، وزيادة النصيب في الميراث، والتعقيب في الميراث، وفي تحمل الدية في القتل والخطأ، وفي القسامة والولاية في النكاح، والطلاق، والرجعة، وعدد الازواج، وإليهم الانتساب، فكل ذلك يدل على فضل الرجال على النساء.

والسبب الثاني لحصول هذه الفضيلة قوله تعالى: ( وبما أنفقوا من أموالهم)، يعنى الرجل أفضل من المرأة، لأنه يعطيها المهر، وينفق عليها“.

وقد تمادي الإمام أبو بكر بن العربي في تحميل الآية تفضيل الرجال بإطلاق على النساء بإطلاق، فصاغ المعنى على لسان الحق سبحانه وتعالى، فقال في معنى قوله سبحانه: ( بما فضل الله بعضهم على بعض) .

المعنى: أني جعلت القوامة على المرأة للرجل، لأجل تفضيلي له عليها، وذلك لثلاثة أشياء:

الأول: كمال العقل والتمييز.

الثاني: كمال الدين، والطاقة في الجهاد، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، على العموم وغير ذلك.

وهذا الذي بين النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث الصحيح: “ما رأيت من ناقصات عقل ودين أسلب للب الرجل الحازم منكنقلن: وما ذلك يا رسول الله؟ قال أليس إحداكن تمكث الليالي لا تصلي ولا تصوم، فذلك من نقصان دينها، وشهادة إحداكن على النصف من شهادة الرجل فذلك من نقصان عقلها، وقد نص الله سبحانه على ذلك بالنقص فقال: ( أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) (البقرة : ٢٨٢).

الثالث: بذله المال من الصداق والنفقة، وقد نص الله عليها هنا” (أبو بكر بن العربي: أحكام القرآن، ج1، صــــ531، ط دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان،1408ه، ۱۹۸۸م).

وإلى نفس المذهب في تفسير الآية ذهب الإمام ابن كثير، وزاد في ذلك شيئًا عجيبًا

أن الرجل أفضل من المرأة في نفسه“.

قال: يقول تعالى: (الرجال قوامون على النساء، أي الرجل قيم على المرأة، أي هو رئيسها وكبيرها والحكم عليها ومؤدبها إذا اعوجت (بما فضل الله بعضهم على بعض) أي لأن الرجال أفضل من النساء، والرجل خير من المرأة، ولهذا كانت النبوة مختصة بالرجال، وكذلك الملك الأعظم لقوله صلى الله عليه وسلم: لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأةرواه البخاري من حديث عبد الرحمن بن أبي بكرة عن أبيه، وكذا منصب القضاء وغير ذلك(وبما انفقوا من أموالهم) أي من المهور والنفقات والتكاليف التي أوجبها الله عليهم لهن في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم, فالرجل أفضل من المرأة في نفسه، وله الفضل عليها والأفضال، فناسب أن يكون قيمًا عليها” (الإمام الحافظ بن كثير: تفسير القرآن العظيم، ج2 صـــــ ٢٧٥، ٢٧٦، ط۲، دار الفكر، بيروت، ۱۳۸۹ه، ۱۹۷۰م).

ولنا على هذه التفسيرات العجيبة نظر:

فالإمام الرازي الذي يرجع فضل الرجال بعامة على النساء بعامة إلى صفات حقيقية وأحكام شرعية، وأن الصفات الحقيقية ترجع إلى العلم، وأن الأحكام الشرعية ترجع إلى ما ذكر من بعض الأحكام كالجهاد، والاعتكاف، والميراث، وغير ذلك.

فإننا نرى أن العلم والقدرة من الصفات المكتسبة، التي تختلف من شخص إلى آخر. بل تختلف عند الشخص نفسه من وقت إلى آخر، وفي الأمم من زمن إلى زمن. فالعلم الذي يكتسبه الرجل في وقت قد يتغير إلى جهل به أو مزيد منه في وقت آخر وقد يوجد من الرجال ما لا يكتسب علمًا في حياته وقد تقبل امرأة إلى أعلى درجات العلم مما لا يصل إليه كثير من الرجال. ولنأخذ على سبيل المثال السيدة عائشة رضي الله عنها وغيرها من نساء النبي ونساء صحابته فكمال العقل أو العلم أو الأفضلية فيه قد تكتسبه المرأة فليس ذاتيًا في الرجل.

وكذلك القدرة كالعلم ليست صفة حقيقية لازمة، فقد تتغير هي الأخرى وتكتسب، ومن يكون قادرًا في زمن قد لا يكون في زمن آخر، وقد يعجز الرجل عن وجوه الاكتساب، ويكون للمرأة ميراث تتفضل به على زوجها وتعاونه به.

أما الأحكام الشرعية فقد شرعها الله عز وجل لحكمة، قد لا تعود إلى نقص في المرأة. بل تعود إلى العدل الإلهى، كالميراث لنقص كلفتها عن الرجل، وأمرها برعاية الصغار من أولاد الزوج المجاهد جهاد في ذاته. وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم ولدًا يرعى والديه في كهولتهما جاء يستأذن الرسول صلى الله عليه وسلم في الخروج معه إلى الجهاد فسأله صلى الله عليه وسلم هل من والديك أحد حي؟ قال: نعم، قال: ففيهما فجاهد.

فالأحكام الشرعية قائمة على العدل، لا على النقص، ولا على الجنس.

وما ذكر ابن العربيإضافة إلى ما تقدم من فضل الرجل على المرأة لنقصها في دينها ونقصها في عقلها، مردود بأن الرسول صلى الله عليه وسلم يتحدث عن المجموع لا عن الجميع، فإن كان أكثر النساء أقل صلاة وصومًا لما يعتريهن في كل شهر مما يعطلهن أحيانًا عن القيام بالفرائض، فإن بعضهن دائمات الطهر، أو تخطين في سنهن مرحلة القروء المتكررة فيكملن العبادات ويحرزن من المعقولات ما يتساوين به مع الرجال، وبعضهن يعوض بالنوافل صلاةً وصيامًا ما يفوتهن من ذلك، حتى يزدن عن غيرهن من الرجال.

ولیست شهادتهن على النصف من شهادة الرجل إلا كما بين الله عز وجل من تذكير إحداهما الأخرى بالديون أو المعاملات التي تشهد فيها المرأة فتكون شهادتها على النصف من شهادة الرجل، لأن احتكاكها بالتجارة والديون أقل من احتكاك الرجل فيعرض لها النسيان لنقص الخبرة.

ولنلاحظ أن الآية نزلت في الديون وتسمى آية الدين“.

فليس العقل هنا إلا المعقولات، ونقصانه نقصان المعقولات، وهي في هذا الصدد: المعلومات أو الخبرات التي تكسب المرأة دراية وخبرة تثبت بها المعقولات المتحصلة في نشاط من أنشطة الحياة فيكتمل بها العقل، ولذلك تقع شهادتها كاملة في المجالات الخاصة بها كالولادة والرضاعة لزيادة معقولاتها فيها عن معقولات الرجل بل قد لا تكون له معقولات أصلاً في هذا الباب، فلا تقبل له فيه شهادة أبدًا.

وهذا المعنى للعقل هو الذي يوافق دلالة هذا اللفظ في اللغة العربية.

فالعقل في اللغة العربية مصدر عقل أي أدرك الأشياء على حقيقتها، وعقل الشئ أدركه على حقيقته، وعقل البعير ضم رسغ يده إلى عضده وربطهما معًا بالعقال ليبقى باركًا.

يقول أبو البركات البغدادي“: “إن الذي أشير إليه باسم العقل في اللغة العربية إنما هو العقل العملي من جملة ما قيل، وجاء في لغتهم من المنع: العقال، فيقال: عقلت الناقة، أي منعتها بما شددتها به عن تصرفها في سعيها، فكذلك العقل يعقل النفس ويمنعها من التصرف على مقتضى الطباع” (أبو البركات البغدادي، المعتبر في الحكمة، ج۲، صــــ ٤٠٩).

وواضح أن الذي يعين النفس على منعها من التصرف على مقتضى الغريزة أو الطبع، إنما هي المعقولات التي يكتسبها الذهن، والخبرات التي تتراكم لديه، وبذلك يتفق العقل والمعقول في المعنى بحيث يطلق على كليهما عقلاً، بمعنى وبوجه.

أما ما ذكره الإمام ابن كثير في تفسير الآية من أن قوامة الرجال على النساء راجعة إلى أن الرجل أفضل من المرأة في نفسه مما يفيد عنده أن عنصر الرجل أفضل من عنصر المرأة، وأن جوهره أفضل من جوهرها وذلك أمر لازم لا يختلف في كل الرجال على كل النساء – كما قال ، فذلك تفسير أغرب ما يكون على الآية، وتحميل لها بما يتعارض معها تمامًا، وتنبو عنه صراحة لفظها، وهو تفسير ذاتي أشد ما يكون ذاتية، هو رأيه الذاتي في المرأة، وليس مضمون الآية على الإطلاق.

فالآية الكريمة عللت القوامة بأمور إضافية طارئة على ذات الرجل أو المرأة، فالتفضيل سواء كان بالعلم أو القدرة – كما قال الإمام الرازي – أو بنقصان الدين والعقل – كما فهم ابن العربي – تفضيل بأمور متغيرة لأنها مكتسبة، ولا تلزم في جميع الأحوال جميع الرجال أو جميع النساء.

والتفضيل بالإنفاق واضح في أنه تفضيل بأمر طارئ متغير، فقدرة الرجل على النفقة قد تعجز تمامًا، وقد تزيد وتنقص.

ولست أدرى كيف غفل الإمام ابن كثير غفر الله له – عن هذا المعنى، وعن قوله تعالى: ( لينفق ذو سعة من سعته، ومن قُدر عليه رزقه فليتفق مما ءاتاه الله الله لا يُكلف الله نفسًا إلا ما ءاتاها سيجعل الله بعد عسرٍ يسرًا ) (الطلاق: 7).

وكيف غفل – رحمه الله عن أن عجز الرجل عن النفقة يسقط القوامة، بل قد يسقط عقد النكاح نفسه، ويبيح للمرأة أن تطلب الطلاق، إلا أن تتكرم على زوجها بإنظاره إلى ميسرة، أو بالصدقة عليه كما فعلت زينب زوج عبد الله بن مسعود.

يقول الإمام القرطبي: “فهم العلماء من قوله تعالى تعالى: ( وبما أنفقوا من أموالهم) وأنه متى عجز عن نفقتها لم يكن قوامًا عليها، وإذا لم يكن قوامًا عليها كان لها فسخ العقد، لزوال المقصود الذي شرع لأجله النكاح. وبناء على رأى القرطبي أنها إذا أنفقت معه كانت القوامة مشتركة في هذا السبب.

تعدد الزوجات

تعدد الزوجات

تعدد الزوجات ورد فيه النص المحكم في قوله تعالى: ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتامى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) (النساء: 3).

وإذا كان التعدد مباحًا فهو كإباحة الزواج من الأولى، وتعترى كل أنواع المباح أحكام المباحات وطوارئ الظروف التي تطرأ على المباحات فتنقلها أحيانًا من المباح إلى غير المباح، بما تتضمنه أقسام غير المباح من الكراهة أو الحرمة وبما تتضمنه أقسام المباح من الاستحباب أو الندب إلى الوجوب والسؤال الذي يفرضه عمق التفكر في تعدد الزوجات: هل أبيح على أنه حق أو على أنه حل؟.

وفرق بين النظرتين: نظرتي الحق والحل:

ففي النظرة إلى إباحته على أنه حق – كما هو عليه غالبية المسلمين خاصة في عصرنا فإن معنى هذه النظرة أنه يجوز للرجل في كل حال أن يتزوج ثانية وثالثة ورابعة كلما أراد ذلك. دون أن يسأل عن الأسباب أو الدوافع لأن ممارسة الحق لا تحتاج إلى السؤال عن الأسباب والدوافع.

فإذا سألت واحدًا من أصحاب هذه النظرة لماذا تتزوج ثانية أو ثالثة أو رابعة؟ فإنه يقول لك بلا تفكير: حقى. فلا تجد تعليقًا على هذا الجواب إلا التسليم؛ لأنه لا يسأل صاحب الحق حين يأخذ حقه أو يمارسه.

أما في النظرة إلى إباحة تعدد الزوجات على أنه حل: فإن معنى ذلك أنه لا يجوز للرجل أن يتناول هذا المباح إلا إذا كانت هناك الدوافع والأسباب الموجبة أو الداعية لتناوله، وما لم تتوفر هذه الأسباب والدواعي ينتقل الأمر من المباح إلى المحظور.

وفي محاولتنا لتحديد أي النظرتين أقرب إلى أساس التشريع ومقصده لابد من الرجوع إلى النصوص التي شرعت إباحة التعدد وأسباب نزولها وتأمل الوقائع والآثار التي تترتب على كل من النظرتين، وما حدث في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم بوصف هذا العصر هو العصر الذهبي والأصل للتشريع والتطبيق، ومقارنة بما يحدث في عصرنا من جراء الفهم لكلتا النظرتين.

وقبل أن نقف بالتحليل والفهم للنصوص وأسباب نزولها ومقاصد الشريعة والوقائع والآثار فإننا نقرر أن النظرية السائدة في فهم هذه النصوص ومقاصدها أن الأصل هو التعدد وأنه أبيح تيسيرًا للمسلمين وإرضاءً للطبيعة البشرية في الزواج، فالتعدد على أساس هذه النظرية حق للرجال متى شاء أحدهم استخدام هذا الحق فله استخدامه على أساس النظرة العامة الشائعة أن هذا شرع الله وأن هذا حق الرجال.

وقد شاع التعدد في مجتمعات إسلامية على أساس هذه النظرة شيوعًا غلب على نظام وحدة الزوجة بحيث لا تجد من الأسر في بعض المجتمعات إلا القلة التي اكتفى فيها الرجل بزوجة واحدة سكن إليها وسكنت إليه.

وفي زيارة بعض شيوخ الأزهر لأمير عربي سأل هذا الأمير – وكان يغلب عليه التدين – ولكنه في سؤال بدا كأنه يغلب عليه الحرج والقلق قال:

قولوا لي يا شيوخ لقد تزوجت حتى الآن سبعًا وعشرين امرأة لكني لم أفعل الفاحشة قط؟ كانت سن هذا الأمير المسكين في ذلك الوقت قرابة الخامسة والسبعين من العمر).

سكت الشيوخ لكن واحدًا منهم سأل مازحًا بأدب شديد: قل لنا أنت يا سمو الأمير طال عمرك كيف جمعت هذا العدد؟.

قال المسكين ببساطة شديدة (لكن الأبدان تقشعر لها) أن أجمع أربعًاً في ذمتي (لا يخالف الشريعة كما يرى) لكني إذا أعجبتني امرأة أخرى عملت قرعة على نسائي الأربع من أطلق منهن؟ (في مساواة يراها عادلة) فإذا طلقت من وافتها قرعتها – حتى وإن كانت الجديدة أحللت غيرها من أعجبتني، وهكذا داولت هذا الأمر حتى وافيت هذا العدد.

لم يخالف الرجل شكل الشريعة. لكن شتان بينه وبين مقصد الشريعة في الزواج وأنه ميثاق غليظ بنص القرآن الكريم في قوله تعالى: ( وكيف تأخذونه وقد أفضى بعضكم إلى بعض وأخذن منكم ميثقًا غليظًا ) (النساء: ٢١) وأنه شرع على سبيل التأييد.

وأتذكر أني لما أبديت تقززي من هذا الصنيع، قيل إن هذا أهون من فلان الذي وصل عنده العد إلى ما فوق ذلك بكثير. ووقائع أخرى من ممارسات بعض المسلمين لتعدد الزوجات تعصف بحكمة التعدد، ومقصد الشارع من إباحته، وتقف حجر عثرة في طريق الدعوة الإسلامية وانتشار الإسلام وتحسين صورته أمام من لا يفهمون مقاصده التشريعية وعدالته فتزيدهم هذه الممارسات بعدًا عنه ونفورًا منه بغير حق ، ثم هي تصوب الأسرة والمجتمع بأضرار كثيرة.

تشويه الشريعة:

كل ذلك لأن أمثال هؤلاء المعتدين ينطلقون من النظرة إلى التعدد على أنه حق.

من هذه النظرة التي لا تتسبب في تشويه جمال الشريعة الإسلامية فقط، ولا تشويه حكمة مقاصدها التشريعية إذا استخدمت في حقها وفي حلها فحسب ولما تسبب في تشتت الأسرة التي أرادها الله متماسكة، وتورث العداوة والبغضاء بين أبناء الرجل الواحد، أبناء الضرائر اللاتي يرضعن أولادهن الكره لإخوتهم من الضرة الأخرى مع اللبن، فينشأ الأولاد منذ صغرهم على البغض بدلاً من الحب، البعض لإخوتهم ولأبيهم الذي ربما فوت على أبنائه جميعًا فرصة عنايته بهم ورعايته لهم كما فوت على نفسه نعمة السكن النفسي في مقابل اللذة الحسية مع أن السكن النفسي لا يتحقق إلا إلى واحدة كما قال تعالى: ( ومن ءاياته، أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لأيات لقوم يتفكرون ) (الروم: ٢١) لنلاحظ أنه سبحانه وتعالى لم يقل:

لتسكنوا إليهن بل قال تعالى إليها“.

والذي يدل على أن النظرة إلى التعدد على أنه حق يتعارض مع التضييق الذي قام به الشارع الحكيم للتعدد عما كان عليه في الجاهلية وتفهم منه التضييق الذي من أجله لعن رسول الله صلى الله عليه وسلم الذواقة والذواقين من الرجال للنساء والذواقات من النساء للرجال.

فقد كان التعدد مباحًا دون حد قبل الإسلام لكن الإسلام قصره على أربع فقد أخرج الإمام أحمد أن غيلان بن سلمة الثقفي أسلم وتحته عشر نسوة فقال له النبي صلى الله عليه وسلم أختر منهن أربعًاكما أخرج أبو داوود في رواية الحارث بن قيس أن عميرة الأسدى قال: أسلمت وعندي ثماني نسوة فذكرت ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم فقال:

اختر منهن أربعًا“.

ولو كان مبنى التعدد على الحق لكان مبناه على التوسع لا على التضييق وتقليل العدد, لكن هذا التضيق يدل على أن التعدد يؤخذ بمقدار الحل لا بمقدار الحق, وأمره مبني على التضييق أيضًا في اشتراط العدل في كل ما يستطاع في العدل.

وهنا نلاحظ أن الله تعالى وهو الخالق العالم بما خلق وهو اللطيف الخبير ذكر صراحة أن العدل المطلق غير مستطاع فقال سبحانه: ( ولن تسطيعوا أن تعدلوا بين السناء ولو حرصتم فلا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة وإن تصلحوا وتتقوا فإن الله كان غفورًا رحيما ) (النساء: ١٢٩)

وإذا كان المفسرون قد أوضحوا أن العدل المنفى هنا هو العدل في الأمور القلبية وقد كان صلى الله عليه وسلم يدعو ربه اللهم إن هذا قسمي فيما أملك – أي في أمور الملبس والمسكن والمعاشرة – فلا تؤاخذني فيما لا أملك” – أي الميل القلبي – فإن الله قد جعل بعد ذلك مجرد الخوف أو الشك أو الظن من عدم القدرة على العدل مانعًا من التعدد: ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة ) (النساء: 3).

وأي الناس أملك لنفسه مثل رسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابته، فقد جرى واقع الناس في معظم العصور على الظلم الأغلب لأن التعامل في الأمور المادية مصحوب غالبًا بالعاطفة وميل القلب فمن يميل إليها القلب أكثر يميل إلى تفضيلها باللباس والمظهر والمعيشة، ومن هنا جاء تحذير القرآن الكريم ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) (النساء: 3) أي أن الاقتصار على واحدة أقرب إلى ألا تظلموا وتجوروا، والتعدد بنص الآية أقرب إلى الظلم.

والذي يتأمل النص القرآن الذي شرع به التعدد يدرك أنه لم ينزل أصالةً أو قصدًا لتشريع التعدد، بل كان تشريع التعدد فيه قصدًا تاليًا لقصد أساسي هو رعاية اليتامى والعدل في أموالهم وهذا هو مسار السياق كله قبل آية التعدد وفيها نفسها وفي أولها وآخرها وفيما بعدها، حيث قال الله تعالى قبل آية التعدد ( وءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبًا كبيرا ) (النساء: ٢) أي إثمًا كبيرًا ثم قال تعالى: ( وإن خفتم ألا تقسطوا في اليتمى فانكحوا ما طاب لكم من النساء مثنى وثلاث ورباع فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا) (النساء: 3) فجاء نكاح النساء حلاً من الخوف من عدم العدل في اليتامي، مما يرجح دلالة الآية على أن التعدد حل وليس حقًا.

والجو الذي نزلت فيه هذه الآيات أو سبب النزول أن المجتمع الإسلامي في ذلك الوقت وقد كثرت فيه الغزوات التي استشهد فيها صحابة تركوا خلفهم ذرية ضعافًا يتامى ويتيمات قام الصحابة بكفالتهم وضمهم إليهم وتربيتهم ورعايتهم فلما نزل التحذير من أكل مال اليتيم في مثل قوله تعالى: ( إن الذين يأكلون أموال اليتامى ظلمًا إنما يأكلون في بطونهم نارًا وسيصلون سعيرا ) (النساء: ١٠) وفي مثل قوله تعالى: ( ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده وأوفوا الكيل والميزان بالقسط لا نُكلف نفسًا إلا وسعها وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى وبعهد الله أوفوا ذلكم وصاكم به، لعلكم تذكرون) (الأنعام: ١٥٢) والآية التي قبل آية التعدد ( وءاتوا اليتامى أموالهم ولا تتبدلوا الخبيث بالطيب ولا تأكلوا أموالهم إلى أموالكم إنه كان حوبًا كبيرًا ) (النساء: ۲) تحرج الصحابة من رعاية اليتامى وعزلوا أموالهم عن أموالهم، وقد ترتب على هذا الوضع بقاء اليتامي واليتيمات بلا وال يكفلهم فنزل الأمر بالنكاح.

قال الإمام الفخر الرازيفي أحد وجوه تأويل الآية: أنه لما نزلت الآية المتقدمة في اليتامى وما في أكل أموالهم من الحوب الكبير خاف الأولياء أن يلحقهم الحوب بترك الإقساط (العدل) في حقوق اليتامي فتحرجوا من ولايتهم” (صــ ۱۷۱ ج ۹ ط ۱ عبد الرحمن محمد) ولا يناسب في تقديري – أن يكون الأمر هنا بنكاح اليتيمات مثنى وثلاث ورباع حلاً لمشكلة اليتامى في مجتمع مجاهد كثرت غزواته وكثر فيه اليتامى المحتاجون إلى عائل خاصة النساء منهن، لكن هذا الحل يتوقف تمامًا إذا خاف من يتزوج من عدم العدل، لأن العدل هو القيمة العليا التي ينهار كل شئ في المجتمع والأسرة بفقدها. فإذا كانت اليتيمة أو غيرها ستتزوج رجلاً لا يعدل معها فالأقرب إلى الحق والعدل أن يتركها بمنجاة من الظلم، وفي كفالة اليتيم بعد ذلك غناء، لأنه إذا تزوجها ظلمها فكأنه ارتكب إثمًا كبيرًا ظلمها وأكل مالها وذلك معنى التحذير الذي جاء مباشرة عقب تشريع التعدد ( فإن خفتم ألا تعدلوا فواحدة أو ما ملكت أيمانكم ذلك أدنى ألا تعولوا ) أي وحدة الزوجة أقرب إلى عدم الظلم.

وقد نقل الإمام الفخر الرازيفي تفسير هذه الآية عن الإمام الشافعي أن الأمر في قوله تعالى: ( فانكحوا ما طاب لكم من النساء) ليس أمرًا واجبًا ولا مندوبًا فقال: وتمسك الشافعي في بيانه أنه – أي الأمر بالنكاح – ليس بواجب، بقوله تعالى : ( ومن لم يستطع منكم طولاً أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم) إلى قوله ( ذلك لمن خشي العنت منكم وأن تصبروا خير لكم) فحكم تعالى بأن ترك النكاح في هذه الصورة خير من فعله , ذلك يدل على أنه ليس بمندوب فضلاًعن أن يقال إنه واجب (تفسير الفخر الرازي صــــ ۱۷۲ ج ۹ ط 1 عبد الرحمن محمد، القاهرة ١٣٥٧ه، ۱۹۳۸م).

تحريم التعدد:

التعدد إذن تسرى عليه أحكام الزواج من الوجوب والندب والكراهة والحرمة أحيانًا.

فهو واجب إن كانت هناك مشكلة كأن تكون الزوجة الأولى عقيمًا لا تنجب، أو مريضة لا تستطيع القيام بواجباتها الزوجية ويخشى الزوج على نفسه العنت والوقوع في المعصية كما يخشى التخلى عن زوجته الأولى وفاءً لها وقيامًا بحقها وإحسانًا لعشرتها وحبها فيرى حينئذ أن يمسكها في عصمته ويتزوج معها من تؤدى إليه واجب الزوجة، فهو لم يضيع زوجته الأولى التي يحبها ويجب عليه الوفاء لها ولم يضيع نفسه، وملاحظ أن الزواج في هذه الحالة أو أي حالة تكون فيها مشكلة على مستوى الفرد أو المجتمع، لا يترتب عليه ضرر ولا عداوة داخل الأسرة والتعدد مندوب إذا كانت ثمة مشكلة أخرى على نطاق الفرد أو الأسرة أو المجتمع بأن قل عدد رجاله عن عدد نسائه فمن يتزوج عندئذ إنما يسهم في إعفاف النساء وإنشاء البيوتات أو كانت هناك ظروف أخرى كمن يتزوج أرملة أخيه الذي مات عنها وله ذرية صغار يخاف عليهم من الضياع إن هي تزوجت أو قل إن ذلك واجب أو غير ذلك من الظروف التي تجعل الزواج المتعدد حينئذ يتمشى مع أخلاق المسلم ولا ينبو عنها.

ولكن التعدد مكروه إذا لم يكن ثمة داع إليه، وهو حرام إذا كانت الزوجة الأولى قائمة بواجباتها الزوجية حافظة للغيب بما حفظ الله.

لكن الزوج إذا عدد جريًا وراء الشهوات لا يقصد من زواجه غير إرضاء شهواته ظالمًا لمن يتزوج مسفًا في شهواته غير قائم بالعدل منتهكًا الحرمات عابثًا بكرامة النساء وأعراضهن فهو حينئذ يرتكب حرامًا يعاقب عليه لأن كل ذلك يؤدى إلى الضرر، وكل ما أدى إلى ضرر فهو محرم، كما هي القاعدة الشرعية لا ضرر ولا ضراركما أن ذلك يؤدي إلى إهمال الزوجات الأوليات وأبنائهن مما يسبب العقوق في الأسر عقوق الأبناء نحو آبائهم الذين جعلوا أموالهم لشهواتهم، وأعمارهم, لملذاتهم غير عابئين برسالة الإنسان في الحياة، مستهزئين بمقاصد الشريعة ومصائر الزوجات والأبناء.

وإذا كان الذين يجأرون في أيامنا هذه بأن أمرًا ما إذا كثرت مفاسده وقلت مصالحه أولى بأن يصنع طبقًا لقاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المنافعفأولي بهم أن يجعلوا إباحة التعدد مقصورة على حالات النفع فيه دون المفسدة ليعود هذا التشريع إلى وضعه الذي كان عليه في عصر الرسول صلى الله عليه وسلم وصحابته طبقًا لتشريع القرآن له، حلاً لا حقًا، فقد كان المسلمون في عصر النبي صلى الله عليه وسلم يعدلون، وكانت ظروف الجهاد المستمر من عصره صلى الله عليه وسلم إلى عصور قريبة تجعل الرجال يعددون بدافع النخوة لإعفاف اليتامى والأيامي كما رغب الله في ذلك ، وأنكحوا الأيامي منكم ، (النور: ۳۲).

لكن التعدد في عصرنا لا يتجه التعدد إلى هذه الغاية النبيلة لسد حاجة مجتمع محارب، أو كفالة بكر يتيمة، أو إعفاف أرملة جميلة، أو مطلقة شابة، أو غير ذلك، مما شرع التعدد ليكون حلاً له وإنما صار التعدد في عصرنا لا يتجه إلى هذه الفئات بل يتجه إلى الصغيرات الجميلات مرضاة للشهوات، والإسفاف في الملذات بشكل ينبو عنه روح الإسلام وأخلاق الإيمان، لا يقصد تكوين أسرة بل إشباع نزوة. والتسبب في إيجاد مشرودین متباغضين.

ولعله قد آن الأوان لوضع تشريع يضع التعدد على مساره الإسلامي الصحيح، فلا يترك لأصحاب الشهوات أن يعبثوا بأعراض المسلمات في سوق المتعة الرخيصة عليهم مهما تكلفوا في سبيلها من أموال بل يتكفل التشريع بمراعاة ضوابط التعدد وغاياته التي شرع من أجلها حتى يحقق هذه الغايات وما تحقق هي من نفع للمجتمع الإسلامي.

يقول الأستاذ الإمام محمد عبدهفمن تأمل الآيتين علم أن إباحة تعدد الزوجات في الإسلام أمر مضيق فيه أشد التضييق، كأنه ضرورة من الضرورات التي تباح لمحتاجها بشرط الثقة بإقامة العدل والأمن من الجور، وإذا تأمل المتأمل مع هذا التضييق ما يترتب على التعدد في هذا الزمان من المفاسد جزم بأنه لا يمكن لأحد أن يربى أمة فشا فيه زوجتان لزوج واحد لا تستقيم له حال، ولا يقوم فيه نظام، بل يتعاون الرجل مع زوجاته على إفساد البيت كأن كل واحد منهم عدو للآخر ثم يجئ الأولاد بعضهم لبعض عدو، فمفسدة تعدد الزوجات تنتقل من الأفراد إلى البيوت ومن البيوت إلى الأمة“.

ويقول الأستاذ الإمام رحمه الله: “كان للتعدد في صدر الإسلام فوائد أهمها: صلة النسب، والصهر الذي تقوى به العصبية، ولم يكن له من الضرر مثل ما له الآن؛ لأن الدين كان متمكنًا في نفوس النساء والرجال، وكان أذى الضرة لا يتجاوز ضرتها، أما اليوم فإن الضرر ينتقل من كل ضرة إلى ولدها إلى والده إلى سائر أقاربه، فهي تغري بينهم العداوة والبغضاء ولو شئت تفصيل الزرايا والمصائب المتولدة من تعدد الزوجات لأتيت بما تقشعر منه جلود المؤمنين. فمنها السرقة، والزنا، والكذب، والخيانة، والجبن، والتزوير، بل منها القتل كل ذلك واقع ثابت في المحاكم. (وقد كان الشيخ قاضيًا فهو يتحدث عن تجربة ومعاينة).

ويقول الشيخ محمد عبدهأيضًا: “فيجب على العلماء النظر في هذه المسألة، خصوصًا العلماء الحنفية منهم الذين بيدهم الأمر وعلى مذهبهم الحكم، فهم لا ينكرون أن الدين أنزل لمصلحة الناس وغيرهم، وإن من أصوله منع الضرر والضرار فإذا ترتب على شئ مفسدة في زمن لم تكن تلحقه فيما قبله فلا شك في وجوب تغير الحكم وتطبيقه على الحال الحاضرة. يعني على قاعدة درء المفاسد مقدم على جلب المصالح (تفسير الإمام ضمن الأعمال الكاملة تحقيق د. محمد عمارة ص 170، ج5، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، ۱۹۷۳م).

الطلاق الغيابي، والموقف التشريعي المناسب له

الطلاق الغيابي، والموقف التشريعي المناسب له

ينظر التشريع الإسلامي للأسرة على أنها الوحدة الأساسية في بناء المجتمع، فهي الحاضنة للأفراد على اختلاف مستوياتهم وأصنافهم آباء وأمهات وأبناء ذكورًا وإناثًا وقرابات عديدة من العصبات والأرحام، فإذا صلح بناء الأسرة صلحت كل هذه المستويات وارتبط الجميع برباط المودة والرحمة، ولذلك يضع التشريع الإسلامي قاعدة التكافل القائمة على التراحم والتضامن، أي يضمن بعضهم بعضًا في تحمل الديات والغرامات، ويفيد الكل من الإنفاق بعضهم على بعض وميراث بعضهم من بعض، على أساس الغنم والغرم المتبادل، كما هو مفصل في الفقه الإسلامي تفصيلاً يجعل تبادل الحقوق والواجبات على أساس محكم، فكما أن الأسرة هي العاقلةالتي تتحمل عن الأفراد الديات ومقابل الجنايات، فهي التي تعطى للأفراد ضمانة كاملة لكل التبعات والواجبات.

ولا يتم ذلك في الإسلام إلا إذا ساد جو الحب والثقة والأمان، أو ما يعبر عنه القرآن الكريم بالمودة والرحمة، كما قال تعالى: ( ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجًا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون ) (الروم: ۲۱).

ولذلك جعل التشريع الإسلامي الإيجاب والقبول المشترك من الزوجين أساسًا لبداية قيام الأسرة، لكي تحقق غاياتها من إقامة بناء متكامل متكافل، تؤدى فيه الواجبات، وتؤخذ فيه الحقوق بالتراضي والحب والثقة والأمان المتبادل، فلا يجوز أن يمسك أحد من الزوجين وحده بطرف البداية، ولا يمكن الإسلام لأحد وحده أن ينفرد بعقد الزواج بل لابد من رضى الطرفين: إيجاب من طرف، وقبول من الطرف الآخر. ولا إكراه في الزواج، وأي زواج يقوم على الإكراه ونفى إرادة الطرف الآخر فهو باطل، ولابد أن يشهد الشهود على هذا الاختيار الحر والتوافق المشترك، خاصة موافقة الزوجة، التي قد ينظر إليها أحيانًا على أنها الطرف الأضعف في عقد الزواج، أو التي قد يمنعها الحياء في إعلان الموافقة أو الرفض. ولذلك مكن الإسلام لها كل الظروف التي توفر قيام الزوجية على أساس الرضا الحر المتبادل بين الزوجين.

أخرج البخاري ومسلم، عن ذكوان مولى عائشة، قال: قلت: يا رسول الله تستأمر النساء في أبضاعهن؟ قال: نعم، قلت: فإن البكر تستحى، فتسكت، قال: سكوتها إذنها“.

وكثيراً ما رد الرسول صلى الله عليه وسلم زيجات لم يتم فيها الاختيار الحر. فقد وردت أحاديث كثيرة بطرق شتى، منها ما أخرجه البخاري من أن خنساء بنت خدام زوجها أبوها وهي ثيب فكرهته، فرد عليه السلام نكاحهوعن ابن عباس أن النبي صلى الله عليه وسلم رد نكاح بكر وثيب أنكحهما أبوهما وهما كارهتان” (الزيلعي، نصب الراية، ج۳، صــــــ 350، دار الحديث، القاهرة، ط1، 1415ه، ١٩٩٥م) فليس دور الولى هنا إلا مباشرة إجراءات العقد لمن ترضاه المرأة زوجًا لها، وليس من ولايتها إجبارها، أو الوصاية عليها بالمصادرة على رأيها.

وإذ قد بدأت الحياة الزوجية على أساس من الرضا المشترك، فإن التشريع يحرص كل الحرص على استمرار هذا الرضا المشترك، بحيث يظل اختيار الحياة الزوجية قائمًا طول الحياة المشتركة وبحيث لا يشعر أحد الزوجين في لحظة من حياتهما أنه صار مرغمًا على قبول هذه الحياة المشتركة. ولذلك وضع الإسلام من التشريعات في يد كل من الزوجين ما يفصم عقدة النكاح في أي وقت بنفس حرية الاختيار التي تحققت في البداية، وتحقيقًا لهذا فقد وضع الإسلام حق الطلاق بيد الرجل، ووضع حق الخلع بيد المرأة، وإن كان قد حذر كلا من الزوجين من سوء استخدام كل منهما لحقه، فقد نبه رسول الله صلى الله عليه وسلم الرجال بأن الطلاق أبغض الحلال إلى اللهونبه النساء إلى أن أي امرأة تخالع زوجها دون مبرر لا تشم رائحة الجنة.

ونلحظ هنا ملحظًا دقيقًا: أن حرص الإسلام على استمرار حب الزوجة للزوج يبدو أكثر من حرصه على استمرار حب الزوج للزوجة، فقد أمر الله تعالى الأزواج أن يصبروا في معاملة المرأة بالحسنى، حتى وإن كرهها، فربما يكره فيها شيئًا ويحب شيئًا آخر، أو ربما يكره شيئًا منها في زمن فيتغير الزمان أو الحال فيرى منها ما يحب، أو ربما يحول الله عز وجل الحال فيجعل ما كره الرجل من زوجته خيرًا كثيرًا يقول تعالى: ( وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئًا ويجعل الله فيه خيرًا كثيرًا ) (النساء: ۱۹) بينما نرى رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يبادر إلى تحقيق رغبة من تريد الخلع من زوجها إذا تحقق من سبب الخلع، فعندما جاءته صلى الله عليه وسلم امرأة ثابت بن قيس تطلب الخلع من زوجها وهي تلمح إلى أنها لا تحب الكفر في الإسلام أي كفر العشير هنا ولا تطعن على زوجها في خلق ولا دین، بادر رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى القضاء لها بالخلع وترد على زوجها مهرها الذي دفعه وقال له خذ الحديقة وطلقها تطليقةلأن المرأة لو كرهت استمرار الحياة مع زوجها، فلا يملك أحد التنبؤ بآثار ذلك.

ولذلك كان عليه الصلاة والسلام يأمر الرجال بالتحبب إلى نسائهم ومعاملتهن بالحسنى حتى يدوم الحب، وكان يقيس مروءة الرجل وكرم معدنه بقدر معاملته لأهله وزوجه، فكان يقول عن النساء لا يكرمهن إلا كريم ولا يهينهن إلا ليئمويقول أكرمكم أكرمكم لأهله وأنا أكرمكم لأهلىوقال: “استوصوا بالنساء خيرًا“.

ولذلك جعل الله عز وجل الخلع مرة واحدة، وجعل الطلاق الرجعي مرتين، والطلاق البائن ثلاث تطليقات ثلاث مرات، وأمر الرجل بإمساك زوجته بالمعروف وأن يصبر عليها ويعالج بحكمة ما قد يغضبه منها، ونصب الحكمين ليصلحا بين الزوجين إذا خيف نشوز الزوجة، لأن الزوج ربما يكون أقدر على الصبر. وجعل فرصًا كثيرة للمراجعة في الطلاق حتى لا يصار إليه إلا إذا استحالت حياة الرجل مع المرأة فلا يتخذ الطلاق ملهاة بالنساء، قال تعالى: ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسن ؟ (البقرة: ۲۲۹).

ذلك أن الرجل بطبيعته أكثر احتمالاً لمجالدة الحياة وتحمل المشاق وتقلب العواطف، أما المرأة فهي أرق عاطفة وأكثر تأثرًا وأسرع ألمًا لهفوات الزوج، فهي تأمل من عشيرها الرقة، وربما تنسى في لحظة تأثر كثيرًا من مواقف المجاملة والنعمة التي يبديها الزوج، فهي كمال قال الشاعر كالزجاجة كسرها لا يجبركما أنها أسرع استجابة إلى تطبيب الخاطر، وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول للسيدة عائشة إني لأعرف إن كنت عني راضية أو كنت غضبى (مع أنه رسول الله) قال: إن كنت راضية قلت: ورب محمد، وإن كنت غضبي قلت: ورب إبراهيم.

لذلك شرع الطلاق على مراحل، في مواجهة هذه العاطفة الرقيقة إذا تقلبت، وفي مواجهة غضب الزوج بالحكمة والتدرج، فقسم الطلاق إلى طلاق سنی، وطلاق بدعي, فالطلاق السني: أن يطلق الرجل امرأته في طهر لم يجامعها فيه حتى لا يطيل عليها أمر العدة، فتحسب العدة من الطلاق في طهر فتكون ثلاث حيضات من الحيصة الأخيرة، أما إذا طلقها في أثناء حيضها فيطيل عليها مدة العدة ليضرها بطول الانتظار، ومن ثم يعرض نفسه لغضب الله عز وجل نتيجة ظلمه لها، وقد كان عليه أن يتبع طلاق السنة حتى لا يطيل عليها العدة لأنه أقوى منها وأكثر حكمة، وهذه هي الدرجة التي للرجال على النساء، تلك الدرجة التي ذكرها الله سبحانه في هذا السياق درجة ضبط النفس والحكمة وعدم التسرع في الغضب والانتقام، وما من شك أن هذه الدرجة ملحوظة لدى الرجال الحقيقيين الذين يملكون ضبط النفس والنأي بأنفسهم عن الانتقام أو التشفي، وليست درجة أخرى فضل بها الرجال على النساء قال تعالى: (والمطلقات يتربصن بأنفسهن ثلاثة قروء ولا يحل لهن أن يكتمن ما خلق الله في أرحامهن إن كن يؤمن بالله واليوم الآخر وبعولتهن أحق بردهن في ذلك إن أرادوا إصلاحًا ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف وللرجال عليهن درجة والله عزيز حكم ) (البقرة: ٢٢٨).

فتذييل الآية هذا بالإشارة إلى عزة الله وحكمته تذكير للإنسان ليحتذى بأخلاق الله عز وجل فيعتصم بالقوة النفسية والخلقية ويتمسك بالحكمة في ممارسة هذه القوة في مقابل صدق المرأة في عدم كتمان ما في أرحامهن والحفاظ على أولاد الرجل، فليس الشديد بالصرعة كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم بل الشديد هو الذي يملك نفسه عند الغضب، كما أن هذا التذييل يتضمن وعيدًا بأن الرجل الذي يستخدم القوة بغير حكمة، فالله أعز وأحكم، وقادر عليه.

ولذلك كان الطلاق البدعي الذي يستهدف الرجل من ورائه الإضرار بالمرأة تطويل فترة عدتها حرامًا، ولذلك ترى أنه عندما أخبر سيدنا عمر بن الخطاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أن ابنه عبد الله طلق زوجته بهذا الطلاق البدعي، بادر صلى الله عليه وسلم قائلاً لعمر: “مره فليراجعهاحتى ذهب بعض الفقهاء المحققين إلى أن هذا الطلاق لا يقع، واعتباره كأن لم يكن، جزاًء وعقابًا لمن يفعله، ومعاملة له على عكس مقصوده، إذ أنه ربما أراد الإضرار بالمرأة، فأريد له أن يراجعها إلى عصمته.

وهنا نلاحظ في سياق حديث القرآن عن الطلاق وتشريعاته التي اهتم القرآن الكريم بإيرادها بنصوص قطعية الدلالة بالإضافة طبعًا إلى قطعية الثبوت، أن القرآن الكريم سمي هذه التشريعات صراحة بأنها حدود الله، وشدد النهي عن التجرؤ عليها وتجاوزها، والتنبيه على من يتعدى على هذه الحدود بتعريض نفسه للعقاب، الذي يعاقب به الظالمون.

كما نراه شدد النهي عن:

۱طلاق المرأة بطريقة تضر بها.

٢أو إمساكها إضرارًا بها.

3- لو عضلها (منعها) عن أن تعود لزوجها، إذا تراضيا معًا.

1- فالقرآن الكريم أمر بألا يجازف الرجل بطلاق زوجته طلاقًا بائنًا بطلقة واحدة، حتى يترك مجالاً لمراجعة النفس والحكمة، وحرم استحلال الرجل المطلق لمهر زوجته فيأكله بالباطل، ويسر الخلع إذا تراضى الزوجان على الاقتداء بمال وتوعد من يخالف ذلك أشد الوعيد.

قال تعالى: ( الطلاق مرتان فإمساك بمعروف أو تسريح بإحسان ولا يحل لكم أن تأخذوا مما آتيتموهن شيئًا إلا أن تخافا ألا يقيما حدود الله فإن خفتم ألا يقيما حدود الله فلا جناح عليهما فيما أفتدت به تلك حدود الله فلا تعتدوها ومن يتعد حدود الله فأولائك هم الظلمون) (البقرة: ۲۲۹).

ثم وضع عقبة يحذر بها الذين يجازفون بالطلاق البائن، سواء كان بطلقة واحدة أو ثلاث، بأن عليه أن يعلم أنها لن تعود إليه إلا بعد أن تتزوج رجلاً غيره، ولابد أن تذوق عسيلة الزوج الجديد ويذوق عسيلتها وإلا بطل هذا الزواج المحلل. وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم ينهى عن هذا الزواج المحلل. قال عليه الصلاة والسلام لعن الله المحلل والمحلل لهوذلك حتى يستثير نخوة المطلق وغيرته بأن زوجته ستقع في غيره، وقد لا تعود إليه، إن رجع إلى نفسه وعاد إلى رشده، فلابد قبل كل ذلك وقبل أن يسئ استخدام حق الطلاق الذي وضعه الله بيده أن يستخدم قوة إرادته وعزة نفسه ويتذرع بالحكمة خاصة بعد أن تبقى المرأة في بيت الزوجية أثناء عدتها حتى يراجع الرجل نفسه.

يقول تعالى: ( فإن طلقها فلا تحل له من بعد حتى تنكح زوجًا غيره، فإن طلقها فلا جناح عليهما أن يتراجعا إن ظنا أن يقيما حدود الله وتلك حدود الله يبينها لقوم يعلمون ) (البقرة:۲۳۰).

۲كذلك حذر القرآن أشد التحذير من أن يمسك الرجل المرأة ضرارًا وعدوانًا فيجعلها معلقة، لا هي بالمتزوجة ولا بالمطلقة، كأن يطلقها حتى إذا كادت عدتها تمضي قبل يومين أو ثلاثة يراجعها ثم يطلقها وهكذا، أو يمتنع عن طلاقها ويهملها أو يطلقها غيابيًا دون أن تعلم ويجعلها رهينة لا تعلم من أمر نفسها شيئًا. ويصرح القرآن بأن من يفعل إنما يظلم نفسه هو، بتعريض نفسه لعقاب الله الشديد، لأن من يفعل ذلك يستهزئ بآيات الله وأحكامه، وينسى نعم الله عليه، فيقابلها بالاستهزاء والعبث بها.

يقول تعالى: ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو سرحوهن معروف ولا تمسكوهن ضرارًا لتعتدوا ومن يفعل ذلك فقد ظلم نفسه ولا تتخذوا ءايت الله هزوا وأذكروا نعمت الله عليكم وما أنزل عليكم من الكتب والحكمة يعظكم به، واتقوا الله واعلموا أن الله بكل شيء عليم ) (البقرة: ٢٣١).

3- كما نرى القرآن أيضًا ينهي عن أن تمنع المرأة أن تعود إلى زوجها الذي طلقها إذا كانا قد تراضيا على العودة بالمعروف واستئناف الحياة الزوجية. قال تعالى: ( وإذا طلقتم النساء فبلغن أجلهن فلا تعضلوهن أن ينكحن أزواجهن إذا تراضوا بينهم بالمعروف ذلك يوعظ به من كان منكم يؤمن بالله واليوم الآخر ذالكم أزكى لكم وأطهر والله يعلم وأنتم لا تعلمون) (البقرة: ٢٣١).

على أن القرآن – مع ذلك كله – لم يترك وجوه الإضرار بالمرأة اكتفاء بالنهي الشديد والوعيد المغلظ لمن يعتدى على حدود الله ولا يبالي بوعيده وغضبه، بل وضع التشريعات والقوانين العملية ما يمنع وقوع هذه الأضرار، ويحول دون النفوس الضعيفة أن تتجاوز حدود الله أو تتخذها هزوًا خاصة الطلاق البدعي، والطلاق الغيابي.

فبخصوص الطلاق البدعى ألغاه رسول الله صلى الله عليه وسلم وأمر عمر أن يأمر ابنه بمراجعة زوجته، وفي هذا دليل راجح على إلغاء هذا الطلاق واعتباره كأن لم يقع. وهذا رأى ابن تيمة ومدرسته وهو – في رأيي – يجب أن تكون عليه الفتوى والتشريع، خاصة إذا تعرضت الحياة الزوجية؛ بسبب هذا الطلاق للانفصام، وبين الزوجين ذرية صغار أو ضعاف يستوجب حالهم استمرار الحياة الزوجية رعاية لهم حتى يكبروا.

وبخصوص الطلاق الغيابي فإن القرآن الكريم أمر بالإشهاد على الطلاق، وعلى الرجعة، حتى تستبين حدود الله، ولا تدرك لتقدير العابثين المستهزئين بآيات الله، والمتعدين على حدوده.

ومن المعلوم في أصول الفقه أن الأمر أو النهى إذا حفت به قرائن الوعيد كان الأمر للوجوب والنهي للتحريم فأن يقول الله تعالى: ( يأيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن وأحصوا العدة واتقوا الله ربكم لا تخرجوهن من بيوتهن ولا يخرجن إلا أن يأتين بفاحشة مبينة وتلك حدود الله ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه لا تدري لعل الله يحدث بعد ذلك أمرا) (الطلاق: 1).

ثم يقول سبحانه عقب ذلك مباشرة، وفي نفس السياق وتكملة له وتعقيبًا عليه بإلفاء التي تدل على سرعة التعقيب كما هي القاعدة في اللغة العربية التي نزل بها القرآن الكريم: ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ذلكم يوعظ به، من كان يؤمن بالله واليوم الآخر ومن يتق الله يجعل لله مخرجًا ) (الطلاق: ۲).

بهذا يكون الإشهاد على الطلاق، وعلى العدة، والرجعة، أمرًا واجبًا في عصرنا الذي عمت فيه البلوى بإضرار النساء وطلاقهن وإرجاعهن دون علمهن، ولا يبقى هنا شك لوضوح النص، واقترانه بالوعيد، ونصوع القاعدة الشرعية بتحريم الضرر ونفيه، فالضرر يزال، كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم أو كما قال: “لا ضرر ولا ضراروعموم البلوى بخراب الذمم وضعف الإيمان لدى كثيرين لا يأبهون بوعيد الله بقدر ما يردعهم القانون.

كما أن المنطق الذي قام عليه التشريع في اشتراط الإشهاد على الديون والمعاملات كما قال تعالى: ( وأشهدوا إذا تبايعتم) (البقرة: ٢٨٢) وكما جرت الأعراف بتوثيق العقود بالإشهاد، وبالتشريع الذي أجمع الأئمة على جعل الإشهاد فيه ركنًا من أركان عقد الزواج، فلا يجوز أن ينفصم هذا العقد ويفسخ وتصان الحقوق التي تترتب على هذا الفسخ إلا بالإشهاد كما ترتبت الحقوق على الإشهاد وعلى الزواج.

ومعلوم أن تحقيق مصالح العباد هو الغاية العليا للتشريع، وحتى لا تضيع هذه المصالح، ويفتح المجال للنزاع بين الناس الذي يعد منعه مقصد الشريعة الأسمى، فلابد أن يتم الإشهاد على الطلاق والرجعة، كما تم على عقد الزواج منذ البدء تطبيقًا لأمر الله سبحانه: ( وأشهدوا ذوي عدل منكم وأقيموا الشهادة لله ) (الطلاق: ۲).

ولا يهولن أحد أن كثيرًا من الأئمة القدامي كانوا يرون أن الإشهاد على الطلاق أو الرجعة أمر مندوب وليس واجبًا تدعو إليه عن تضييعها وأن الطلاق يقع بدون إشهاد, فذلك ربما كان مناسبًا لعصور مضت كانت وقائع الطلاق تشاع وتشتهر كما تشاع وقائع الزواج وتشتهر، فكان ذلك الإشتهار بديلاً عن الإشهاد، ومؤديًا لمقاصد التشريع في حفظ المصالح وضمان الحقوق ومنع النزاع، ولعلنا نلاحظ ذلك من كتب السير والأعلام من الرجال والنساء فنقرأ أن فلانة كانت زوجة فلان أو أنها كانت مطلقة فلان، وأن فلانًا تزوج بها بعد فلان، مما هو موجود في هذه الكتب والسير ومن النساء في هذه السير من تزوجت ثلاثة رجال أو أربعة معروفين بالأسماء والكنى والألقاب أيضًا، قبل هذه المدنية الحديثة المعقدة التي تكاد تختلط فيها الأنساب نظرًا لانشغال كل ذي حال بحاله دون أن يعرف المرء جاره في الشارع أو في العمارة فضلاً عن المحلة أو الحي أو المدينة، الأمر الذي أحوج إلى توثيق العقود، خاصة عقود الزواج الذي تحل فيها الحرمات والأعراض، ويحوج أشد ما تكون الحاجة إلى توثيق وقائع الرجعة والطلاق.

على أن هذا مذهب عدد من كبار الصحابة منذ البداية، سواء من أهل البيت أو من غير أهل البيت رضوان الله على الجميع. منهم على بن أبي طالب، وعمران بن حصين، وعطاء، وابن جريح، وابن سيرين.

ولعل الأئمة الذين كانوا لا يرون وجوب الإشهاد على الطلاق والرجعة لم يكونوا يرون الحاجة إلى ذلك في عصرهم، لأن وقائع الرجعة أو الطلاق كانت كما قلنا مشهورة، ومن ثم كانت مشهودة، لا تحتاج إلى مزيد شهود.

أما ما نقله أستاذنا الشيخ سيد سابق رحمه الله من أن جمهور الفقهاء من السلف والخلف ذهبوا إلى أن الطلاق يقع بدون إشهاد لأن الطلاق حق من حقوق الرجل ولا يحتاج إلى بينة كي يباشر حقه ولم يرد عن النبي صلى الله عليه وسلم ولا عن الصحابة ما يدل على مشروعية الإشهاد” (فقه السنة، ج۲، صــــــــ ٢٥٨، ط دار الكتاب العربي، ۱۳۹۷ه، ۱۹۷۷م).

ففيه نظر.

أولاً: أن الإشهاد لا يعارض حق الرجل في الطلاق ولا ينقص من هذا الحق بل يثبته إذا كان صادقًا فيه، فالرجل إذا أراد أن يطلق امرأته وهذا حقه، فلماذا يريد أن يخفى الإشهاد عليه، اللهم إلا إذا كانت رغبته في الطلاق غير معقودة عنده وإنما يريد أن يضر امرأته، فالإشهاد إشهاد على فعله الحق بنيته الحقيقية على الطلاق.

ثانيًا: إذا لم يكن قد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم فقد ورد في كتاب الله ولم تتضح الحاجة في عصره صلى الله عليه وسلم إلى مزيد بيان لكتاب الله، فتوضيح الواضح أو بيان المبين لا فائدة منه وحاشا لرسول الله صلى الله عليه وسلم أن يفعل.

ثالثًا: أن الكلام ليس في مشروعية الإشهاد؛ لأن مشروعيته تبنت بالقرآن فيما عرضنا من قوله تعالى في الحديث عن الطلاق واشهدوا ذوي عدل منكم“. وإنما الكلام في الالتزام بالآثار والحقوق والواجبات التي تترتب على الطلاق. فالرجل الذي يطلق لا يصادر الشهود على حقه في الطلاق ولا يؤثر الإشهاد على هذا الحق، وإنما يؤكد الإشهاد هذا الحق ويلزم المطلق بما ألزم نفسه به من واجبات إزاء هذا الحق المؤكد له نحو مطلقته.

رابعًا حتى إذا لم يرد عن الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه ما يدل على مشروعية الإشها. فهل ورد عنهم مشروعية التوثيق بكتابه هذا العقد والإشهاد عليه مما نراه في عصرنا في قسيمة خاصة وديوان خاص مما لم يكن في عصره صلى الله عليه وسلم وألجات إليه حاجة زماننا.

خامسًا أما القول بأنه لم يرد عن الصحابة ما يدل على هذه المشروعية، فقد نقل أستاذنا الشيخ سيد سابق نفسه رحمه الله رحمة واسعة في كتابه فقه السنةوفي نفس الموضع قوله بالنص وتبين مما نقلناه قبل عن السيوطي وابن كثير أن وجوب الإشهاد لم يتفرد به علماء آل البيت عليهم السلام كما نقله السيد مرتضى في كتاب الانتصاربل هو مذهب عطاء وابن سيرين وابن جريج كما أسلفنا” (صـــــ ٢٦٠ نفس المصدر).

وقد أطال الشيخ في نقل أقوال من ذهب إلى وجوب الإشهاد على الطلاق وعدم وقوعه بدون بينة، حتى أني ظننت ظنًا راجحًا أنه هو نفسه يرحمه الله – يميل إلى ترجيح هذا المذهب، وخاطبته أمام جماعة من إخواننا بعد صلاة جمعة – كان يحرص كل جمعة على صلاتها معى قائلاً إنني أرى بعد هذا العرض المطول من فضيلتك، أنك تأنس أو تميل إلى هذا الرأي. فأومأ بالموافقة.

قال: “وممن ذهب إلى وجوب الإشهاد واشتراطه لصحته من الصحابة: أمير المؤمنين على بن أبي طالب، وعمران بن حصین رضی الله عنهما، ومن التابعين: الإمام محمد الباقر، والإمام جعفر الصادق، وبنوهما أئمة آل البيت رضوان الله عليهم، وكذلك عطاء، وابن جريج، وابن سيرين رحمهم الله ففي جواهر الكلامعن على رضي الله عنه، أنه قال لمن سأله عن طلاق: “أشهدت رجلين عدلين كما أمر الله عز وجل؟ قال: لا، قال اذهب فليس طلاقك بطلاق“.

وروی أبو داود في سننه عن عمران بن حصین رضی الله عنه، أنه سئل عن الرجل يطلق امرأته، ثم يقع بها، ولم يشهد على طلاقها ولا على رجعتها فقال: “طلقت لغير سنة، وراجعت لغير سنة, أشهد على طلاقها وعلى رجعتها، ولا تعد“.

وقد تقرر في الأصول: أن قول الصحابي، من السنة كذا، في حكم المرفوع إلى النبی صلى الله عليه وسلم على الصحيح، لأن مطلق ذلك إنما ينصرف بظاهره إلى من يجب اتباع سنته، وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولأن مقصود الصحابي بيان الشرع لا اللغة والعادة كما بسط في موضعه. وأخرج الحافظ السيوطي في الدر المنثور في تفسير آية: ( فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف وأشهدوا ذوي عدل منكم ) (الطلاق: ۲).

وعن عبد الرازق عن ابن سيرين أن رجلاً سأل عمران بن حُصين، عن رجل طلق ولم يشهد، وراجع ولم يشهد. قال: بئس ما صنع، طلق لبدعة، وراجع لغير سنة، فليشهد على طلاقه وعلى مراجعته، وليستغفر الله.

فإنكار ذلك من عمران، رضي الله عنه، والتهويل فيه وأمره بالاستغفار لعده إياه معصية، ما هو إلا لوجوب الإشهاد عنده، رضي الله عنه، كما هو ظاهر.

وفي كتاب الوسائلعن الإمام أبي جعفر الباقر، عليه رضوان الله، قال: الطلاق الذي أمر الله عز وجل به في كتابه، والذي سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أن يُخلِّى الرجل عن المرأة، إذا حاضت وطهرت من محيضها، أشهد رجلين عدلين على تطليقه، وهي طاهر من غير جماع، وهو أحق برجعتها ما لم تنقض ثلاثة قروء، وكل طلاق ما خلاف هذا فباطل؛ ليس بطلاق.

وقال جعفر الصادق رضي الله عنه: من طلق بغير شهود فليس بشيء.

قال السيد المرتضي في كتاب الانتصار“: حجة الإمامية في القول: بأن شهادة عدلين شرط في وقوع الطلاق، ومتى فقد لم يقع الطلاق. لقوله تعالى: ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ).

قال: لا يجوز في نكاح ولا طلاق ولا إرجاع إلا شاهدا عدل، كما قال الله عز وجل، إلاَّ من عذر.

فقوله: لا يجوز، صريح في وجوب الإشهاد على الطلاق عنده، رضي الله عنه، لمساواته له بالنكاح، ومعلوم ما اشترط فيه من البينة.

إذا تبين ذلك، أن وجوب الإشهاد على الطلاق، هو مذهب هؤلاء الصحابة والتابعين المذكورين؛ تعلم أن دعوى الإجماع على ندبه، المأثورة في بعض كتب الفقه، مراد بها الإجماع المذهبي لا الإجماع الأصولي الذي حده – كما في المستصفى” – اتفاق أمة محمد صلى الله عليه وسلم, خاصة على أمر من الأمور الدينية، لانتقاضه، بخلاف من ذكر من الصحابة والتابعين، ومن بعدهم من المجتهدين (فقه السنة. نفس الموضع).

وأعتقد أنه تبين من هذا ضرورة الاتجاه إلى أخذ مذهب أهل البيت في هذا الموضوع كما أخذنا من قبل تشريع الوصية الواجبة. وهذا أخذ في جانب الفقه لا يترتب عليه مساس بالعقيدة وأن تلجأ إليه ضرورات الزمان وما يحدثه الناس من فتن نتيجة الطلاق الغيابي الذي به الإضرار بالمرأة وبحقوقها.

وحتى يتم هذا التشريع: أرى أن من طلق امرأته غيابيًا دون أن يعلمها، فإن الطلاق يقع في حقه ويلتزم به، دون أن يقع في حقها قبل أن تعلمه، فآثاره عليه لأنه الذي أوقعه. وآثاره تقع عليها عند علمها به، وعليه أن يثبته عليها أمام شهود بتاريخ اليوم الذي أشهد على الطلاق فيه.

على أنه إذا مات ولم تعلم، أو مات في الشهر الذي أعلمها فيه، ترث منه وتجب لها حقوقه الزوجة، قياسًا على من طلق امرأته في مرض الموت إعمالاً للقاعدة الفقهية من استعجل شيئًا قبل أوانه عوقب بحرمانهفإذا أراد بإخفاء طلاقها تعجلاً فيه حتى لا ترث منه عوقب بعكس مقصوده وهي قاعدة عادلة تسري في الميراث وفي الفقه الإسلامي كله، فلتسر هنا حتى تكون مانعًا من الإضرار بالغير، فلا ضرر ولا ضرار. وصدق أمير المؤمنين عمر ابن الخطابحين قال: “يحدث للناس أقضيات بقدر ما يحدثون من فتن“.

والتشريع الحي هو الذي يعالج الفتن كلما ظهرت، بما يناسبها من أقضيات.

شهادة المرأة

شهادة المرأة

يجري الجدل منذ مدة حول شهادة المرأة بالنسبة لشهادة الرجل، وقد درج جمهور الفقهاء القدامى على أنها تعدل النصف من شهادة الرجل، خاصة في الأموال، بناء على قوله تعالي: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) [البقرة ٢٨٢].

وقد أخذوا ذلك على العموم في بقية المعاملات والحقوق، إلا ما كان خاصًا بالنساء مثل الشهادة في الرضاع وبقية أحوال النساء، فشهادتهن تقبل منفردة دون أن تكون مع الرجال.

وتثير هذه المسألة في عصرنا تيارين:

  • تيار يقف مع القديم، ويتحرج من الاجتهاد في فهم الآية الكريمة، ويشفق أن يترك مذاهب الفقهاء القدامى لا في هذا الموضوع ولا في غيرها غالبًا، خاصة إذا كان ظاهر الآية على ما فهم الأقدمون.

  • تيار ثان، لا يقف عندما ذهب إليه القدماء، بل يتعمقون في فهم الآية ودلالات الألفاظ فيها، والموضوع والسياق الاجتماعي الذي نزلت فيهما، وهذا التيار، وإن كان يستخدم مناهج الفقهاء القدامى، إلا أنهم ينتهون بإعمال هذه المناهج نفسها، إلي مذاهب تختلف عن أولئك الفقهاء، باختلاف الظروف والأحوال، وباختلاف الزمان، ومعلوم أن اختلاف الأزمان والأحوال يؤديان إلى اختلاف المذاهب والأقوال، كما يؤديان إلي اختلاف الأفهام، فلكل زمان فهم مختلف باختلاف الثقافات والظروف تبعًا لما هو محل إجماع على أن الإسلام يتبدى لكل عصر بشكل جديد فهو دين متجدد بتجدد الثقافات والمستجدات، والقرآن يكشف لكل عصر ما هو جديد لأنه لا يبلي على كثرة الردطالما كانت المعاني التي تستخلص منه موافقة لما تحتمله اللفظة القرآنية من معان، غير مخالفة لعقيدة من عقائد الإسلام الرئيسية.

وقد لاحظنا أن نصوص القرآن الكريم والسنة النبوية في باب الشهادة أن مبني الشهادة على العدالة، إذ يقول الله تعالي: ( وأشهدوا ذوي عدل منكم ) [الطلاق ٢]، ولما كانت معايير العدالة متفاوتة ومظاهرها نسبية تبعًا لثقة القاضي وثقة أطراف الخصومة من يشهد له ومن يشهد عليه، فقد قال تعالي: ( ممن ترضون من الشهداء ) [البقرة ٢٨٢]، ولذلك اختلف الفقهاء في معيار العدالة فذهب الجمهور إلي أن العدالة معنى زائد على الدين فقال الإمام القرطبي: “كما قال الله تعالي: ( ممن ترضون من الشهداء) دل على أن في الشهود من لا يرضى فيجئ من ذلك أن الناس ليسوا محمولين على العدالة حتى تثبت لهم، وذلك معنى زائد على الإسلام.

رواه البخاري عن عبد الله بن عقبة، قال: سمعت عمر بن الخطاب رضي الله عنه يقول أن أناسًا كانوا يؤخذون بالوحي في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الوحي قد انقطع وإنما تأخذكم الآن بما ظهر لنا من أعمالكم، فمن أظهر لنا خيرًا أمناه وقربناه وليس البينًا من سريرته شئ، الله يحاسبه في سريرته، ومن أظهر لنا سواء لم نأمنه ولم نصدقه وإن قال إن سريرته حسنة: (البخاري: كتاب الشهادات).

وقد قال أبو حنيفة كل مسلم ظاهر الإسلام مع السلامة من فسق ظاهر فهو عدل وإن كان مجهول الحال، ولكن الإمام القرطبي ضعف هذا القول قال: “قول أبي حنيفة في هذا لباب ضعيف جدًا لشرط الله تعالي الرضا والعدالة، وليس يعلم كونه موصيًا بمجرد أنه مسلم، فربما أنطوي على ما يوجد رد شهادته، مثل قوله تعالي: ( ومن الناس من يعجبك قوله في الحياة الدنيا ويشهد الله على ما في قلبه، وهو ألد الخصام وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد ) [البقرة ٢٠٤: ٢٠٥]، وقال: ( وإذا رأيتهم تُعجبك أجسامهم ) [المنافقون 4].

مدار الشهادة إذن على العدالة ورضا القاضي والخصوم وثقة الناس في الشاهد. ولذلك جعل الفقهاء المروءة واجتناب الكبائر حتى قال أبو يوسف – رحمه الله – إن الفاسق إذا كان وجيهًا في الناس تقبل شهادته إذا كان ذا مروءة، لأنه لا يستأجر لوجاهته، ويمتنع عن الكذب لمروءته، وقد وافقه الإمام الشافعي لأنه رأي أن من لا مروءة له لا حياء له ومن لا حياء له يصنع ما شاء، لخبر صحيح وهو قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا لم تستح فاصنع ما شئت“. وقد نقل الإمام شمس الدين الرملي (الشافعي المذهب) أن المروءة تعنى التخلق بخلق أمثاله في زمانه ومكانه، لاختلاف العرف في هذه الأمور. بخلاف العدالة فإنها ملكة راسخة في النفس لا تتغير بعروض مناف لها، والمراد بذلك تخلقه بخلق أمثاله المباحة غير المزرية” (الرملي – نهاية المحتاج – صـــــ ٢٩٤۳۰١ – دار الكتب العلمية – بيروت 1414ه – ١٩٩٣م).

وعند الكمال بن الهمام: المروءة: أن لا يأتي الإنسان بما يعتذر منه مما ينجسه عن مرتبة عند أهل الفضل (شرح فتح القدير ج 7 – صــــ 415 – دار الفكر – بيروت – بدون تاریخ).

وحتى يتبين لنا أن مقياس الرضا أو العدالة أو المروءة التي هي شرط الشاهد لا الذكورة ولا الأنوثة، فإن كتب الفقه القديم تعرض نماذج مما عده الفقهاء في أزمانهم مخلة بالمروءة مخالفة للعدالة، ومن ثم لا تقبل شهادة من يفعها كالزبال والكساح والحجام أو أي حرفة دنيئة أو الأكل في السوق، والمشي مكشوف الرأس، ومن يكثر من الحكايات المضحكة، ومن يلعب بالنرد (الطاولة) لا الشطرنج (فإنه يساعد على التفكير والتدبير إلا إذا ألهي عن عبادة).

نستخلص من ذلك كله أن المظاهر التي تدل على معايير قبول الشهادة طبقًا لقوله تعالي: (ممن ترضون من الشهداء) مختلفة باختلاف الأعراف وتغير الزمان والمكان والأحوال.

ومع ذلك فقد ربط الفقهاء القدامى قوله تعالي: ( ممن ترضون من الشهداء) في حدود شاهدين من الرجال، فإن لم نجد رجلين فرجل وامرأتانوعمموا ذلك في كل بنية في معظم الحقوق خاصة الأموال والديون، ومعروف أن الديون من الحقوق الآجلة التي يمر زمان على استيفائها من المدين إلى الدائن، ولذلك شدد القرآن في توثيقها حتى لا تُنسى في أزمان آجالها، خاصة إذا كانت الآجال طويلة المدى في الزمان، ومعروف أن كر الغداة ومر العشى يُنسى.

وهنا لابد أن نقف لنستدعى أو نستعيد منهج الفقهاء في اعتبار قبول الشهادة أو قبول الشاهد بمعايير الأزمنة المختلفة مما يتوقف عليه الرضا وثقة القاضي وأطراف الخصومة في الشاهد مما يجري في زمن الشهادة، حتى يكون الشاهد مرضيًا، ونقول إن النساء في البيئة والزمن الذي نزلت فيه الآية، لم يكن يمارسن عقود الديون ولا يغشين المعاملات المالية على نفس مستوي الرجال، بل كن يوكلن الرجال، كما حدث السيدة خديجة رضي الله عنها عندما وكلت رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارتها، مع أن ذلك كان حقًا لهن. لكن ليس على نفس الخبرة والدراية التي عليها الرجال، فهن من أهل الشهادة ومن أهل المروءة والعدالة والرضا بشهادتهن. فقد جعل الله تعالي شهادتهن مشروطة بالتذكر لمقادير الديون وآجالها، فنصب لشهادة المرأة شهادة أخري تذكرها أن نسيت مقدار الدين وأجله، وأوضح سبحانه وتعالي بجلاء علة هذا الحكم، فقال تعالي: ( فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى ) [البقرة ٢٨٢].

ومن المعلوم من أصول الفقه أن الحكم يدور مع علة وجود أو عدما فإن وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم فعلة الحكم بشاهدتين من النساء أن تذكر إحداهما الأخرى، فإذا كانت متذكرة مستحضرة لمقدار الدين وأجله كانت الشاهدة الأخرى لا داعي لها ولا علة للحكم بوجودها.

وقد نقل الإمام القرطبي عن أبي عبيد، قال: معنى تضل: تنسى، والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء: وقد رد القرطبي قول القائلين إن معنى تذكر إحداهما الأخرى أي تردها ذكرًا أي تجعل شهادة الواحدة مثل شهادة ذكر لأن لا يحصل في مقابلة الضلال الذي معناه النسيان إلا الذكر وإليه ترجع قراءة أبي عمرو أي أن تنس إحداهما فتذكرها الأخرى يقال: تذكرت الشئ وأذكرته غيري وذكرَّته بمعنى وهذا في الصحاح ولكن الفقهاء القدامى، رغم وضوح المعنى في الآية الكريمة، ورغم اعترافهم جميعًا بتغير معيار قبول الشاهد حسب العرف والزمان والمكان والأحوال، جعلوا البيئة في الغالب تقوم على شهادة رجلين أو رجل وامرأتين.

وإذا كان موقف الفقهاء القدامي متسقًا مع عرفهم وزمانهم وأصولهم من المرأة في زمانهم على إدراك المعاملات المالية والإحاطة بتفاصيل العقود المالية والديون وآجالها الطويلة أو القصيرة فإن الزمان قد تغير فأصبحت المرأة تشارك الرجل في الحياة العامة وتغشى المعاملات التجارية، وتدرك العقود، وتحصي الديون وآجالها، حتى أصبح من النساء كثيرات تخصصن في هذه المعاملات حتى صارت تخصصها الدقيق، ومنهن من ترأست بنكًا كبيرًا، بل منهن من عملت نائبة للبنك المركزي الذي يملك ناصية البنوك جميعًا ويهيمن على العمل البنكي كله، هل تحتاح واحدة من هولاء إلى شهادة امرأة أخري ولو غير متخصصة في الأموال لكي تذكرها؟

لكن فقهاءنا المحدثين لم يتغيروا في عصرنا، ذلك الذي تغير كما نري، عن عصور أئمتنا القدامى، وتالله لو أن فقيهًا من فقهائنا القدامى، بعثه الله إلى عصرنا، لما استنكف بكل ما نعرفه عنهم من تواضع وأدب أن يجلس متعلمًا الشئون المالية والديون والآجال أو الحسابات الاكتوارية، على واحدة من نساء عصرنا اللاتي يرأسن البنوك..! ولنا عبرة في الإمام الشافعي .. ألم يتتلمذ رضي الله عنه له على السيدة نفيسة رضي الله عنها، وقيل إنه يوم مات قالت عنه: رحمه الله كان يحسن الوضوء!

أحسب أن السبب في موقف جمهور فقهائنا المحدثين وعدم تغيرهم وتغير رؤاهم الفقهية، أو صعوبة هذا التغير، ما يرونه من عقبة يعدونها عقبة أساسية في هذا الموضوع، هو نقصان شهادة المرأة لنقصان عقلها.

وهو فهم مغلوط لحديث شريف عن أبي سعيد الخدري عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه قال: “أليس شهادة المرأة مثل نصف شهادة الرجل؟ قلنا: بلى. قال: فذلك من نقصان عقلهامع أن الحديث صحيح أخرجه البخاري (كتاب الشهادات باب ۱۳).

والرسول صلى الله عليه وسلم قال في سياقه، وفهمه القدماء أيضًا في نفس السياق، ومعرفة السياق سبب نزول الآية أو ورود الحديث مفتاح مهم لفهم الآيات والأحاديث. ولذلك نبه القدماء على أن من شرط الاجتهاد العلم بأسباب النزول أو أسباب ورود الحديث النبوي؛ لأن أسباب النزول والورود تكشف الظروف المحيطة بالآية أو الحديث، وتبين عن الحكم في الآية أو الحديث، فنقصان عقل النساء في ذلك الزمان يكشف العلة التي يدور معها الحكم وجودًا وعدمًا، فمع أن اللفظ عام أي يطبق في كل زمان ومكان، لكن يكون مرتبطًا بوجود علة، فالعبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، فكلما وجد نقصان العقل في النساء طبق الحكم وإذا انتفى النقصان انتفى الحكم، وقد يطبق في بيئة دون أخري، في نفس الزمان، لوجود النقصان.

لكن ما هو نقصان العقل؟ وما العقل نفسه؟ إن العقل ليس عضوًا ناقصًا في المرأة كاملاً في الرجل، بل العقل ليس عضوًا بالمرة لا في الرجال ولا في النساء، وإنما كلمة أو لفظ العقل معناه الإدراك، أو عملية التفكير والإدراك. فهو كما جاء في معاجم اللغة: عقل يعقل عقلاً أي أدرك الشئ يدركه إدراكًا، فهو ملكة في الإنسان رجلاً كان أو امرأةً يزداد بكثرة المعقولات والدربة على التفكير وترتيب المقدمات واستخلاص النتائج، أو هو كما قال أبو البركات البغدادي من فلاسفة الإسلام هو العقل العملي، وهذه الملكة تزداد بالدربة وكثرة التعلم والتعقل للأمور، أو نقول باختصار المراد بالعقل: المعقولات، وهي تتوقف على الخبرة المستخلصة وتحصيل المعقولات لا على الذكورة أو الأنوثة. بل على الذكاء والقدرة على التعلم وتحصيل الإدراكات، وقد ثبت أن هذه القدرة في إمكان النساء كما هي عند الرجال. ألا تري نسبة المتفوقات إلي نسبة المتفوقين في التعليم في كثير من الحياة، مما يبطل القول تمامًا بأن النساء أقل قدرة على تحصيل المعقولات من الرجال، إنما النقص أو الزيادة تأتي بكثرة الفرص أو قلة التعرض لتحصيل المعقولات. ففي زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وزمان فقهائنا كان تعرض المرأة لتحصيل المعقولات أقل من تعرض الرجال، ولذلك قلن له يومًا: يا رسول الله: غلبنا عليك الرجال، فاجعل لنا يومًا من ذات نفسكوقد غلب الرجال على النساء بالتعرض أكثر منهن للعمل وتحصيل المعقولات فالحديث يطبق في كل زمان علي حسب وجود علته، فكلما غلب الرجال على النساء في تحصيل المعقولات كن ناقصات عقل (أي معقولات) وكلما تساويا كن سواء كالرجال، فإذا زاد أحدهما كان أكثر عقلاً (أيضًا بمعني معقولات) هذا هو معنى اللفظ في اللغة العربية التي نزل بها القرآن وتحدث بها رسول الله صلى الله عليه وسلم.

والدليل على ارتباط الشهادة بالمعقولات التي يحصلها الشاهد فتصل شهادته، أو تنقص عنده فتنقص شهادته، عدم قبول الفقهاء لشهادة الأعمى فيما يتوقف على البصر، وقبولها فيما لا يتوقف عليه في النكاح والمبايعات والتأذين وما يعرف بالأصوات، فكلما نقصت حاسة من الإنسان نقصت شهادته في مجالها. فلما كانت عقول النساء (معقولاتهن) ناقصة كانت شهادتهن ناقصة في مجال ما يتوقف على هذه المعقولات، وإلا فقد قبل الرسول صلى الله عليه وسلم شهادة امرأة واحدة منفردة، في غير الرضاع والنكاح أو الولادة وأمور النساء، فقد أخرج البخاري عن عائشة تهجد النبي صلى الله عليه وسلم في بيتي فسمع صوت عباد يصلي في المسجد، فقال: يا عائشة: أصوت عباد هذا؟ قلت: نعم. قال: اللهم ارحم عبادًا” ( البخاريكتاب الشهادات باب ۱۱)، كما أخرج البخاري أن سمرة بن جندب أجاز شهادة امرأة منتقبة، فهذا هو الصحابي يقبل شهادة امرأة واحدة في أمر علمته، والصحابي يدرك أن الشهادة على قدر العلم أو المعقولات (وهذه منتقبة لصفة الشاهدة لا للنقاب).

هذا كله مما يفرض على فقهائنا في هذا الزمان أن يعملوا مناهج القدماء، ولو أعملوها لتوصلوا إلي ما يخالف مذاهبهم، لأن المناهج غير مرتبطة بالزمان. أما المذاهب فهي متغيرة مرتبطة بالزمان، وقد كان رسول الله صلى الله عليه وسلم كما هو معروف – يعني في المسألة الواحدة بفتاوى مختلفة، باختلاف السائلين وظروفهم.

على أن القرآن فوق ذلك يسوى بين الرجال والنساء في الواجبات والحقوق فيقول سبحانه: ( أني لا أضيع عمل عمل منكم من ذكر أو أنثى بعضكم من بعض ) [آل عمران ١٩٥]، وينبه الله تعالي أن الرجال والنساء سواء من نفس واحدة فيقول سبحانه: ( خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالاً كثيرًا ونساء) [النساء 1]

شهادة المرأة مرة أخرى في مواجهة الجمود

انطلاقًا من فكر جديد وفهم يحافظ على نصوص القرآن والسنة وثوابت الشريعة ويتأسى مناهج الفقهاء القدامي وإن اختلف معهم في مذاهبهم في الأحكام الفرعية أي أن الشهادة في الفقه الإسلامي وكما تجمع مناهج الفقهاء على أن مبناها على الأهلية لتحمل الشهادة وأدائها لا على الذكورة والأنوثة، وأن قوام هذه الأهلية هي: العدالة والمروءة، متى توفرت لدى الرجل أو المرأة أو حتى الصبي، وأن تحقيق هذه الأهلية للشهادة بمقتضى العدالة والمروءة إنما يتم ويقوم عليها اقتناع القاضي إذا توفر للشاهد العلم بما يشهد علمًا يوازي المشاهدة؛ لأن الشهادة مستقاة من العلم المتحقق كما تتحقق المشاهدة، وهذا العلم هو الذي يسوغ للشاهد أن يقول أشهدفالأهلية هي قوام التحمل للشهادة، والعدالة والمروءة هما قوام الأداء لها.

هذه هي المعايير المجمع عليها لقبول الشهادة، بقطع النظر عن الشاهد رجلاً كان أو امرأة أو صبيًا، إذا كان أهلاً لأن يدرك ما يشهد عليه ويتحمل هذه الشهادة، وهذا الإدراك أو العلم إلى درجة ما قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم على مثل الشمس فاشهد، أي على درجة وضوح الإدراك للواقعة محل الشهادة، وكان أهلاً لأن يؤدى هذه الشهادة على وفق هذا العلم مثل الشمس وضوحًا وبيانًا، دون أن يكون هناك سبب للإخلال بهذا العلم، أو الإخلال بتغييره عند الشهادة، أو بعبارة أصولية الأهلية في التحمل وفي الأداء.

وتطبيقًا لهذه المعايير المجمع عليها رأيت أن الشهادة في الشريعة الإسلامية على أساس هذه المعايير (الأهلية في التحمل، والأهلية في الأداء) وإن شئنا قلنا ما هو أكثر اختصارًا وتركيزًا وبتغيير العصر: مدار الشهادة على الاطلاع والعلم بموضوع الشهادة وهذا هو مدار الأهلية في تحمل الشهادة. والعدالة والمروءة، وهذا هو المدار الأهلية في أداء الشهادة، وما كانت التفرقة بين قبول شهادة الرجل أو المرأة أو حتى شهادة الصبيان أو شهادة المسلم على الذمي أو شهادة الذمي على المسلم، إنما كانت بقصد تحرى اطلاع الشاهد أيًا كان على موضوع الشهادة لتكون له الأهلية على تحملها، وتحرى العدالة لتكون له الأهلية على أداءها.

ومن ثم اختلفت مذاهب الفقهاء في مظاهر ومظان الأهلية على التحمل ومظان الأهلية على الأداء، حتى قال بعضهم: إن من يمشي عاري الرأس، أو يأكل في الشارع، أو من يلعب بالنرد أو يحترف الغناء لا تقبل شهادته، لأن هذه كانت في أزمنة مضت مظاهر لنقص المروءة مما يخل بالعدالة في أداء الشهادة، كما كان جمهور الفقهاء يرى شهادة المرأة في الجنايات والأموال على النصف من شهادة الرجل، لأن إمكان إحاطتها أو علمها بحقيقة هذه الأمور يخل من قدرتها على تحمل الشهادة فيها لنقص اطلاعها وعدم بلوغ هذا الاطلاع والعلم درجة على مثل الشمسفاشهد فهنا نقص في التحمل.

ولما كانت الشهادة تتبع العلم في التحمل والعدل في الأداء، فلذلك قبلوا شهادة المرأة منفردة فيما يدخل في اطلاعها مثل الشهادة في الرضاعة والولادة والشئون الخاصة بما تطلع عليه النساء عادة، كما قبلوا شهادة الصبيان في الجراح فيما بينهم، وقبلوا شهادة الرجل منفردًا مع اليمين في الأداء، وقبلوا شهادة رجلين في تحمل الشهادة، أي في الوقائع والعقود.

وهنا نفهم شهادة المرأة في توثيق الديون كما جاءت في آية المداينة لماذا كانت الشهادة لتحمل التوثيق في عقود الديون رجلاً وامرأتين. ففي هذا الموضوع على وجه الخصوص تحدثت الآية عن أمرين مهمين لتوثيق الدين؛ لأن الديون يجرى فيها التناكر والجحود بين الناس، ويجرى فيها النسيان أو التناسي، خاصة إذا طالت المدة. فقطعًا للنزاع بين الناس واستمرار العلاقات وحفظ الأموال الذي هو أحد أهم مقاصد الشريعة.

الأمر الأول: الكتابة. وقد شدد الله عز وجل على وجوب كتابتها، فقال تعالى: ( يأيها الذين ءامنوا إذا تداينهم بدين إلى أجل مسمى فاكتبوه وليكتب بينكم كاتب بالعدل ولا يأب كاتب أن يكتب كما علمه الله فليكتب وليملل الذي عليه الحق وليتق الله ربه ولا يبخس منه شيئًا فإن كان الذي عليه الحق سفيهًا أو ضعيفًا أو لا يستطيع أن يُمل هو فليُملل وليه بالعدل) [البقرة ٢٨٢].

الأمر الثاني: الإشهاد على الدين فقال تعالى: ( واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرأتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) [البقرة ٢٨٢].

وهذا الأمران للوجوب؛ لأنه طبقًا للقاعدة الأصولية أن الأمر إذا جاء بشأنه تهديد أو اقتران بوعيد كان الأمر للوجوب، وقد جاء الوعيد في القرآن كله في النهي والنكير على من يأكل أموال الناس بالباطل فقال تعالى: ( يأيها الذين ءامنوا لا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل إلا أن تكون تجارة عن تراضٍ منكم ولا تقتلوا أنفسكم إن الله كان بكم رحيما) [النساء ٢٩]، إشارة إلى أن من يأكل مال غيره بالباطل يقتل نفسه؛ ولذلك قال تعالى: ( ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذللك على الله يسيرا) [النساء ٣٠].

ولذلك نرى القرآن الكريم هنا في الديون والأموال يشترط وجود شاهدين من الرجال أو شاهد من الرجال واثنتين من النساء، ولعلنا نلاحظ العلة في اشتراط اثنتين من النساء قوله تعالى: (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) أي لابد عند تحمل الشهادة وحضور واقعة التوثيق حتى إذا نسيت أو احتارت إحدى المرأتين ذكرتها الأخرى بواقعة الشهادة وموضوعها ومقدار الدين وأجله وكيفية أدائه وذلك عند أداء الشهادة.

وهنا نسأل ثلاثة أسئلة:

(۱) ما معنى الضلال هنا؟

(۲) متى يكون تذكير إحداهما للأخرى؟

(۳) وهل يقع قوله تعالى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى علة لاشتراط وجود المرأة الثانية عند الشهادة؛ لتذكر الأخرى التي ضلت؟

وذلك أن هناك البعض من المتأثرين بكتب الفقه القديم يقفون عند مذاهب الفقهاء القدامي لا يجاوزونها رغم اختلاف الزمان والمكان وأعراف الناس وأشكال المعاملات وتباين العادات والثقافات، رغم أن فقهاءنا القدامي رحمهم الله لم يكونوا يجمدون هذا الجمود. بل كانوا يضعون في اعتبارهم اختلاف الزمان والمكان والأحوال والأعراف والعادات ويطبقون النصوص بمناهج قويمة تقوم على إعمال النص كما ورد بعلته، وبما يحقق هذه العلة، وبما يقاس على أسباب النزول قياس الوقائع الحاضرة بالوقائع التي نزل فيها النص حتى يتم القياس صحيحًا ليتم القياس صحيحًا لا بمنطق تاريخية النص وارتباطه بسبب نزوله فقط كما يقول البعض، وإنما يجعلون رحمهم الله سبب النزول مؤشرًا لفهمه وتطبيقه سليمًا ومستمرًا إلى الأبد بقياس جلي واضح صحيح.

هؤلاء الجامدون في عصرنا يأخذون مذاهب الفقهاء القدامي في عصرنا، دون أن يأخذوا مناهجهم، فيقلون اختلاف الزمان والمكان والعرف والعادات والخبرات وكأننا نعيش في القرون الأولى. وهذا عيب في الفقيه وليس عيبًا في الفقه.. عيب في فقيه الحاضر، وليس عيبًا في فقيه الماضي.

ولذلك نرى بعض هؤلاء يشغب على اعتبار شهادة المرأة كشهادة الرجل متى توفر المعيار الحقيقي الذي يتوفر عند الرجل وهو الاطلاع والعلم بموضوع الشهادة عند تحملها، والعدالة والمروءة عند أدائها، فكلما تحقق هذا المعيار الذي أجمع عليه الفقهاء استوت شهادة المرأة وشهادة الرجل، فإن لم يتحقق هذا المعيار لا يستويان، بل تأخذ الشهادة قيمتها لا من الذكورة أو الأنوثة وإنما تأخذ قيمتها من الاطلاع عند التحمل، والعدل عند الأداء.

ولكي نضع قيمة رأى المعارضين لاستواء شهادة المرأة مع شهادة الرجل بتحقيق أو عدم تحقيق المعيار في الشهادة، فإننا نجيب عن هذه الأسئلة.

1- ما معنى الضلال هنا؟ إن الضلال هنا هو: المقابل للتذكر. هو الحيرة أو النسيان أو الغيبوبة. جاء في القاموس المحيط للفيروز أبادي، من معاني الضلال: “الحية والغيبة لخير أو شر، والضالة من الإبل التي تبقى بمضيعة بلا رب (صاحب) فمعنى أن تضل هنا أن تنسى أو تتحير أو تتوه.

٢أما متى تذكر إحداهما الأخرى؟ وبهذا السؤال نحدد متى يقع التذكير؟ وهل يقع النسيان بالفعل؟

وهنا عرض الإمام الفخر الرازي عند تفسيره قوله تعالى: ولا يأبى الشهداء إذا ما دعواعدة وجوده تدور بين وقت تحمل الشهادة ووقت أدائها، فيكون المعنى: النهي عن إباء أو رفض أن يتحمل الشهادة في البداية، أو النهي عن أداء الشهادة عندما تطلب من الشاهد أو يؤديها.

ورغم أن الإمام الرازي رجح الرأي الأول نهى الشاهد عن الامتناع عن أداء الشهادة عند احتياج صاحب الحق إليها إلا أنه أورد الأقوال الأخرى فقال الثاني أن المراد تحمل الشهادة إذا لم يوجد غيره الرابع: وهو قول الزجاج أن المراج بمجموع الأمرين: التحمل أولاً، والأداء ثانيًا.

أما وقد أوردنا هذه الأقوال لتبين منهما أن أغلبيتها كما نرى تذهب إلى أن اشتراط المرأة الثانية منذ بداية تحمل الشهادة لكي تذكر الأخرى بموضوع الشهادة حتى لا تنسى أو تتوه أو تتحير في شئ من موضوع الشهادة مخافة النسيان لا وقوعه بالفعل، فليس حتمًا أن يقع النسيان من المرأة، وإنما هو إجراء احتياطي كما نقول في تعبيرنا العصري.

أما لماذا هذا الإجراء الاحتياطي فلمواجهة احتمال أن تنسى المرأة. وما السبب في هذا الاحتمال؟ هل النسيان راجع عند المرأة إلى أمر ذاتي فيها؟ أو لأمر عارض لديها؟ الغريب أن الإمام الرازي على جلالة قدره – نراه يقول إن النسيان غالب طباع النساء لكثرة البرد والرطوبة في أمزجتهن، واجتماع المرأتين على النسيان أبعد في العقل من صدور النسيان على المرأة الواحدة، فأقيمت المرأتان مقام الرجل الواحد، حتى أن إحداهما لو نسيت ذكرتها الأخرى“.

ولتقويم رأى الرازي، وبيان صحته أو خطئه، كان حتمًا عليه – رحمه الله – أن یورد حجته استنادًا إلى الطب، ولا نعلم أنه كان طبيبًا.

ومما يعكر على هذا الرأى ويفسده أن هناك كثرة كثيرة من روايات الحديث النبوى من النساء، لم يؤثر عن إحداهن النسيان أو الغفلة في رواية الحديث بمثل ما أثر عن كثير من الرجال (انظر كتب الرواة خاصة كتاب سير أعلام النبلاءللإمام الذهبي عمدة أئمة الجرح والتعديل) فكيف تؤتمن المرأة على ما هو أغلى من الأموال وهو الحديث النبوي؟ وكيف يعدلها المحدثون ويتهمها الرازي المفسر بالنسيان الراجع إلى برودة المزاج؟

على أن ما يفسد كلام الرازي أيضًا أن الفقهاء أجمعوا على قبول شهادة المرأة فيما تطلع عليه كالرضاعة والحمل والولادة وغيرها من الشئون الخاصة بها وعدم قبول شهادة الرجل في هذه الشئون أن الرجال غالبًا لا يحضرون بعض هذه الشئون؛ مما يدل على أن نسيان المرأة في مسائل الديون والجنايات وغيرها إنما يرد لأن اطلاعها على هذه الأمور أقل من اطلاع الرجال. فالشهادة عند تحقيق المناط تابعة للإطلاع لا للذكورة والأنوثة.

3- وهنا يأتى الجواب عن السؤال الأخير: هل يقع قوله تعالى: “أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرىعلى سبيل التعليل لاشتراط وجود المرأة الثانية، لتذكر الأخرى إذا نسيت سواء عند تحمل الشهادة أو عند أدائها؟، أو وردت على سبيل الحكمة في هذا الاشتراط؟ حتى لا يتهمنا أحد بتجاوز النص القرآني إذا سوينا بين شهادة الرجل والمرأة عند تحقق الاطلاع على موضوع الشهادة سواء بسواء، وهذا هو موضوع المقال القادم ان شاء الله.

وأيضًا في شهادة المرأة الأئمة القدامى يقرعون الجامدين في عصرنا

جرت الشريعة الإسلامية على احترام العقل، وإفساح المجال له في التشريع، حتى أن القياس يمثل مصدرًا مهمًا من مصادر التشريع، بالإضافة إلى الكتاب، والسنة، والقياس يعني تطبيق حكم شرعي في واقعة من الوقائع على واقعة أخرى تشبهها في نفس العلة التي أوجبت الحكم في الواقعة الأولى.

ولذلك كان جهود العقل في البحث عن علل الأحكام الشرعية من أشرف وأنبل أنواع العلوم العقلية، ويعد مبدأ تعليل الأحكام معلمًا من المعالم البارزة في الفقه الإسلامي وأصوله، لأن معرفة علة حكم ما يساعد على تطبيق هذا الحكم في كل ما ظهرت نفس العلة الموجبة لهذا الحكم، في سائر الوقائع المشابهة.

وكان البحث عن العلة في أي حكم أول واجب على الفقيه وهو أساس الاجتهاد، وتنوع البحث في العثور على علل الأحكام هو الذي يؤدي إلى تنوع الاجتهاد، فأصل الاجتهاد البحث عن علل الأحكام، ووجوها أو عدم وجودها هو مدار الحكم على الأشياء، حتى قال الأصوليون: إن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا، فإذا وجدت العلة وجد الحكم، وإذا انتفت العلة انتفى الحكم.

نقول هذا بمناسبة ما قاله المفسرون خاصة الإمام القرطبيفي كتابه الجامع لأحكام القرآنإن قوله تعالى في آية الديون: (واستشهدوا شهيدين من رجالكم فإن لم يكونا رجلين فرجل وامرـتان ممن ترضون من الشهداء أن تضل إحدهما فتذكر إحداهما الأخرى) (البقرة ٢٨٢) “إنما كان ذلك في الأموال دون غيرها؛ لأن الأموال كثر الله أسباب توثيقها لكثرة جهات تحصيلها، وعموم البلوى بها وتكررهاثم قال بعد ذلك في معنى أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى: “معنى تضل: تنسي, والضلال عن الشهادة إنما هو نسيان جزء منها وذكر جزء ويبقى المرء حيران بين ذلك ضالاًكما قال لما كانت الشهادة ولاية عظيمة ومرتبة منيفة وهي قبول قول الغير على الغير شرط فيها تعالى الرضا والعدالة. فمن حكم الشاهد أن تكون له شمائل يتحلى بها حتى يكون له مزية على غيره توجب له تلك المزية رتبة الاختصاص بقبول قوله ويحكم بشغل ذمة المطلوب بشهادته. وهذا أدل دليل على جواز الاجتهاد والاستدلال بالأمارات والعلامات عند علمائنا على ما خفي من المعاني والأحكام“.

وبهذا يشير القرطبيوهو عمدة مفسري أحكام القرآن بلا جدال، إلى أن الاستدلال بالأمارات والعلامات على ما خفي من المعاني والأحكام، هو أول دليل على جواز الاجتهاد، وذلك نفسه هو البحث عن العلل وارتباط الأحكام بها، بل تأسيس الأحكام على الحكم والعلل ومصالح العباد.

ومع ذلك يقول قائل في مجلة مغمورة إن الزعم بأن الحكم يدور مع علته وجودًا وعدمًا زعم باطل وفهم قاصر للنص، فليس قوله تعالى تعليلاً للحكم وإنما هو بيان لبعض جوانب الحكمة، والحكمة غير العلة عند من يفهم في أصول الفقه“.

ونرد على هذا القول بأن من يفهم في أصول الفقه حقًا يدرك أن بحث العلة ودوران الحكم معها وجودًا وعدمًا فإذا وجدت وجد الحكم وإذا انتفت انتفى الحكم، من أهم مباحث أصول الفقه وقواعدها الأصيلة.

فالمجتهد عندما يريد تطبيق حكم شرعي على شئ ما، أو تصرف من تصرفات الإنسان بالحل أو الحرمة إنما يبحث أولاً عن وجود العلة في التحليل أو التجريم، ويقيس الأشباه والنظائر على أساس العلل، فمثلاً عندما يعرض عليه شئ يشرب أو يؤكل، ليبحث عن أن هذا حلال أو حرام، من المباح أو المحظور، من الخمر أو غير الخمر إنما يعمد أولاً إلى البحث عن علة تحريم الخمر التي هي الإسكار، فإن كانت موجودة في هذا الشراب الذي يبحثه كان حرامًا، فإن لم توجد كان مباحًا، فالإسكار علامة التحريم وأمارته، وهي في الوقت نفسه علته.

ومن احترام الإسلام للعقل، والحرص على ديمومة الإسلام وصلاحيته لكل زمان ومكان، أن الأحكام قامت على العلل، وما حرم الإسلام شيئًا إلا لعلة موجبة لهذا التحريم، ولذا ترى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية تضمنت علل الأحكام، بالنص أحيانًا وبالإشارة أحيانًا أخرى، بحيث يستطيع الفقيه المجتهد أن يعثر على الأمارات والعلامات الدالة على علة الحكم في منطوق الآية أو الحديث أو مدلولهما، وإنكار ذلك جهل مطبق.

وقول هذا القائل فليس قوله تعالى ( أن تضل إحدهما فتذكر إحداهما الأخرى) تعيلاً للحكم، وإنما هو بيان لبعض جوانب الحكمة، والحكمة غير العلة عند من يفهم في أصول الفقه“.

هذا القول يتضمن أمورًا غريبة:

1- أنه يعني أن الحكمة غير العلة لأن العلة تعليل للحكم والحكمة بيان لما فيها من خير في وجود امرأة تذكر امرأة أخرى فليست مؤثرة في الحكم وواضح هنا أن هذا القائل يجهل أن الحكمة، قد تكون علة في تحقيق المناط الخاص، علمًا بأن أئمة كثيرين جعلوا الحكمة أساسًا للحكم منهم الإمام الطوفي والإمام ابن القيم.

٢يترتب على قول هذا القائل أن يكون قوله تعالى (أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرى) زيادة في النص، لأن الحكم يقف عند رجل وامرأتين ولم تضف هذه الزيادة معنى جديدًا مؤثرًا في الحكم الذي هو في كل الأحوال، نسيت إحدى المرأتين أو لم تنس، فلابد من وجود امرأتين مع رجل في الشهادة.

3- أن المرأة الأولى إذا كانت متذكرة كامل التذكر فلابد من وجود امرأة أخرى معها، حتى وإن كان وجودها في هذه الحالة عبثًا لا طائل من ورائه؛ لأن اشتراط وجودها لتذكير الأخرى، والأخرى متذكرة، وحاشا لله من العبث أو الزيادة في القرآن الكريم حشوًا.

4- أن هذا القائل قال إن المرأة إذا نسيت لا تقبل شهادتها، وهذا صحيح، وكان عليه أن يعترف بالمقابل أنها إذا حفظت ولم تنس لا تحتاج إلى امرأة ثانية: لكنه لم يقل بذلك.

ولمن يفهم حقًا أصول الفقه، فقد تحدث الأصوليون الأوائل الذين أسسوا علم أصول الفقه، ونحن نعتمد هنا على اثنين منهم تعد كتبهما أمهات المراجع في أصول الفقه بلا منازع.

أولهما: الإمام الشاطبي (المتوفى 790ه) وكتابه الأشهر الموافقات في أصول الأحكام، الذي يعد عند الأصوليين دستورًا في أصول الفقه، ونراه في هذا الكتاب يجعل تحقيق مناط العلة، بمعنى أن يقع الاتفاق على أن وصفا ما هو علة بنص أو إجماع فيجتهد الناظر في وجوده في صورة النزاع التي خفى فيها وجود العلة، كتحقيق النباش سارق، فالوصف وهو السرقة هو مناط الحكم بتحريم النبش لاشتماله على هذه العلة أو هذا الوصف (السرقة)، ومعلوم أن السرقة حرام، فإذا علم أن السرقة هي العلة وهي موجودة في النبش، والاجتهاد أو النظر أدى إلى تحقيق هذا الوجود في هذه الصورة، حكم بأن النبش حرام، لاشتماله على علة تحريم السرقة.

هذا الاجتهاد الذي يسمى تحقيق المناطينقسم إلى نوعين: تحقيق عام، وتحقيق خاص. فالتحقيق العام هو: إذا نظر المجتهد في العدالة مثلاً، ووجد هذا الشخص متصفًا بها على حسب ما ظهر له، أوقع عليه ما يقتضيه النص من التكاليف المنوطة بالعدول، من الشهادات والانتصاب (الاستحقاق والتصدى) للولايات العامة والخاصة، وكذلك إذا نظر الفقيه في الأوامر والنواهي الشرعية، والأمور المباحة، فوجد المكلفين والمخاطبين على الجملة، مؤهلين لهذه الأوامر والنواهي وأدائها، فإنه يوقع عليهم أحكام تلك النصوص والأوامر.

ويتحدث الشاطبيرحمه الله عن نوع ثان من أنواع تحقيق المناط هو: تحقيق المناط الخاص، يقول: “وأما الثاني (النوع الثاني من تحقيق المناط) فأعلى من هذا وأدق، وهو في الحقيقة ناشئ عن نتيجة التقوى المذكورة في قوله تعالى: ( يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤت الحكمة فقد أؤتي خيرًا كثيرًا) (البقرة: ٢٦٩). ويقول في تعريفه: “وعلى الجملة فتحقيق المناط الخاص: الانظر في كل مكلف بالنسبة إلى ما وقع عليه من الدلائل التكليفية بحيث يتعرف منه مداخل الشيطان ومداخل الهوى والحظوظ العاجلة (مثل التذكر والنسيان مثلاً) حتى يلقيها هذا المجتهد على ذلك المكلف مقيدة بقيود التحرز من تلك المداخلثم يقول في تعريفه أيضًا النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت“.

ورحم الله أئمتنا القدامي عمومًا، وإمامنا الشاطبي خصوصًا، في هذا الموقف. فعبارته في تعريف تحقيق المناط الخاص بأنه النظر فيما يصلح لكل مكلف في نفسه بحسب وقت دون وقت، وحال دون حال، وشخص دون شخص“.

وما اجتهدنا نحن، ونظرنا في شهادة المرأة، وما كان عملنا في تحقيق المناط في العثور أو البحث عن علة الحكم في الآية إلا بهذا النظر؛ حيث نظرنا إلى المرأة باعتبارها مكلفًا، وكان نظرنا إليها في نفسها في هذا الوقت دون وقت مضى، كانت لا تحتك فيما مضى بالمعاملات المالية والديون، مثل احتكاكها في عصرنا، وحفظها لهذه المعاملات فيما مضى أقل قطعًا من حفظها لها في عصرنا.

ويا لعظمة علم الشاطبيرحمه الله رحمة واسعة، عندما أسهب بعد ذلك في شرح تحقيق المناط الخاص قائلاً وإذًا النفوس ليست في قبول الأعمال الخاصة على وزان واحد، كما أنها في العلوم والصنائع كذلك“.

ثم أسهب في أن هذا كان منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم, عندما كان يحكم لبعض الناس في مسألة واحدة بأحكام مختلفة، ويجب على سؤال واحد لسائلين مختلفين بأجوبة مختلفة، تبعًا لاختلاف حال السائل. أو كما يقول الشاطبيمما يشعر إشعارًا ظاهرًا بأن القصد إنما هو بالنسبة إلى الوقت أو حال السائل (انظر: “الموافقاتللشاطبي ج 4 صــــــ 47 – 55 مبحث الاجتهاد ومتعلقاته، وحكم النبي يختلف باختلاف الأحوال !!! – دار إحياء الكتب العربية – فيصل عيسى الحلبي – القاهرة).

ولعله من القارع لأصحاب العقول الجامدة أن نقرعهم بكلام هذا الإمام الجليل، وهو يقول في نهاية هذا المبحث إن هذا النوع الخاص أي تحقيق المناط الخاص واختلاف الحكم على شخص باختلاف الزمان والخبرة والعلوم، كلي في كل زمان، عام في جميع الوقائع أو أكثرها، فلو فرض ارتفاعه لارتفع معظم التكليف الشرعي، أو جميعه، وذلك غير صحيح“.

على أننا إذا قلنا إن المرأة في عصرنا تختلف عن المرأة في عصر مضى، من حيث علمها واحتكاكها بالأموال ومعاملاتها، إنما هو إعمال للنص، وليس تجاهلاً له، فالنص نفسه يحمل علة تطبيقه أن تضل إحداهما فتذكر إحداهما الأخرىومعناه: أن المرأة الثانية يكون وجودها إذا ضلت الأولى، أي إذا تحيرت ليس بمعنى نسيت نسيانًا مطلقًا كما يقول البعض، فإذا كانت الشاهدة الأولى متذكرة اكتفى بها، وهذا معنى النص، وتطبيقه الصحيح هو إعماله على هذا الوجه، وليس تجميده على حالة واحدة في اشتراط رجل وامرأتين في كل الأحوال، وإنما يكتفي بالشاهدة الواحدة في حال التذكر.

ولعله من المناسب أن أختم هذا المقال في شهادة المرأة، بأن نقرع مسامع الجامدين مرة أخرى، بإمام آخر، وقد سعدت سعادة قصوى عندما عثرت على قول له، هو نفس ما نقوله بحمد الله، وهو إمام لا يرقى إليه شك، بل تجتمع عليه كل التيارات الفكرية في الإسلام، ذلك هو الإمام ابن القيم” – رحمه الله رحمة واسعة يقول: ” فأما إذا عقلت المرأة وحفظت، وكانت ممن يوثق بدينها، فإن المقصود حصل بخبرها، كما يحصل بأخبار الديانات” (ابن القيم، إعلام الموقعين عن رب العالمين، ج ۱ صــــ ۹۳، ط 1 دار الحديث بالقاهرة، 1414ه، ۱۹۹۳م).

فهل للجامدين بعد ذلك قول ؟؟؟!!!

شارك:

اصدارات متعلقة

اغتصاب وقتل طفلة رضيعة سودانية في مصر
نحو وعي نسوي : أربع سنوات من التنظيم والتعليم السياسي النسوي
شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10
شهادة 9
شهادة 8
شهادة 7
شهادة 6