العدد التاسع -المرأة الجديدة

رقم العدد:

9

تاريخ النشر:

1997

اعداد بواسطة:

لماذا يطالبون النساء بالرحيل عن سوق العمل؟

عزة عبد المحسن خليل

بعد أكثر من قرنٍ ونصف القرن من الزمان من دخول النساء المصريات إلى سوق العمل المنظمة, نتعثر الآن في بعض الأفكار عن جواز وعدم جواز عمل المرأة. ذلك إلى جانب ما نطالعه في قنوات الإعلام المختلفة من استعراض لنماذج سلبية للمرأة العاملة، التي تُقصر في عملها بسبب انشغال بالها بشؤون المنزل والأطفال. بل إننا نطالع أيضًا دراسات حول عمل الأم ومدى علاقته بانحراف أبنائها. وعلى كل الأحوال، فمن حقنا أن نتساءل حول اختفاء النموذج الإيجابي للمرأة العصرية العاملة، الذي كان يقدم من خلال الأعمال الدرامية والبرامج التليفزيونية والإذاعية خلال فترة الستينات، ويُلح السؤال التالي، هل يسير المجتمع المصري إلى الأمام أم إلى الخلف؟

ويُرشدنا التفكير العلمي ويُعلمنا التاريخ، أن لاشئ يعود إلى سابق عهده، ولكن ما يطلبه المجتمع من أفراده وفئاته وطبقاته يختلف باختلاف متطلبات تطوره من مرحلة إلى أخرى، وبالطبع، وفقًا لوجهة نظر أصحاب السلطة والتحكم فيه حول سبيل التطور. وبالطبع، أيضًا، فإن علاقات السلطة والتحكم تنبني على ميزان القوة القائم على عناصر مختلفة، منها الطبقة الاجتماعية ومنها، أيضًا، النوع (الجنس). وهكذا يطلب المجتمع الذكوري القائم على استغلال العمل من المرأة أن تخرج إلى العمل أو تتوارى في المنزل وفق المتطلبات الاقتصادية للمرأة. ويعود بنا هذا التأمل إلى ظروف دخول المرأة المصرية إلى سوق العمل.

دخول المرأة المصرية إلى سوق العمل

تُرجع الدراسات التاريخية أول دخول للمرأة المصرية في سوق العمل المدفوعة والمنظمة في مصر إلى عهد محمد على (١٨٠٣ ١٨٤٦)، حيث انتقلت النساء من الإنتاج المنزلي الصغير إلى الإنتاج الكبير في مصانع الدولة التي أُنشئت في أول تجربة لإقامة صناعات حديثة في مصر (1)، ويرجع دخول النساء إلى سوق العمل في هذا الوقت كما يرى بعض الباحثين إلى هروب الرجال من مصانع الدولة التي كانوا يعملون بها في ظروفٍ شديدةٍ القسوة تقترب من السُخرة (2) .

وعمومًا فقد دخلت المرأة المصرية سوق العمل المأجورة مع نشأة الوحدة الصناعية الحديثة ونشأة العمل المأجور. ويصاحب هذه الفترة من نمو المجتمع الحديث حاجةٌ متسعةٌ إلى إضافة من الأيدى العاملة، التي تُقلل من أجر العامل وتزيد من الربح، ثم شهدت فترة ما بين الحربين العالميتين طفرةً في عدد النساء العاملات، حيث قدرت بعثة مكتب العمل الدولي نسبة النساء والأطفال في تلك الفترة بنحو ٢٠ ٢٥% من عمال المدن(3). ويصف لنا مقالٌ منشورٌ عام 1946 حال العاملات في المحلة الكبرى في هذه الفترة فيقول: “إنهن كن يستأجرن غرفًا صغيرة في أطراف المدينة، يعشن فيها مجموعات تصل إلى عشرين عاملة، وقد تشترك أكثر من مجموعةٍ في الغرفة الواحدة، فيتناوبن عليها في ساعات النوم، فضلاً عن العاملات اللاتي لا يستطعن دفع نصيبهن من الإيجار بسبب متطلبات من يعلن، فيقطعن مسافات كبيرة يوميًا تصل أحيانًا إلى ١٢ كليو متر على الأقدام في ظروف الطقس المختلفة لينتقلن من مساكنهن في القرى القريبة من المحلة إلى مقار عملهن في المدينة(4).”

وهكذا دفعت العاملة المصرية ثمنًا غاليًا مقابل أن يقر بها المجتمع كجزءٍ من قوته العاملة. ولم يكن بالطبع مُقصراتٍ في العمل بسبب انشغال البال بالمنزل والأطفال.

قومي وجاهدى مع الرجال

تبنت الدولة في الفترة الناصرية تجربة إنشاء صناعاتٍ ثقيلةٍ مملوكة للدولة، مع تأميم المشروعات الخاصة الكبيرة، وذلك في محاولتها للاعتماد اقتصاديًا على الذات، وتميز الفكر الاجتماعي الذي سيدته الدولة مركزيًا بالليبرالية(5). ومع الحاجة إلى المزيد من الأيدي العاملة لخدمة هذه التجربة، أخذ الإعلام الرسمى على عاتقه تحفيز المرأة على الخروج إلى العمل، والدعوة إلى المساواة بين الرجل والمرأة، وقد ساعد على تبني هذه الأفكار ارتفاع صوت البرجوازية الصغيرة المتعلمة، واستيعاب القوات المسلحة لعددٍ كبيرٍ من القوى العاملة من الذكور بسبب الحشد العسكري للجيش خلال الحروب المتتالية. وفي هذا السياق، ارتفعت نسبة مساهمة المرأة في القوى العاملة.

وفي تلك الفترة تضاعفت نسبة النساء إلى إجمالي الناشطين اقتصاديًا، خاصةً في النشاط الصناعي. وتركزت العمالة النسائية عامة في القطاعات المملوكة في الحضر، خاصةً في القاهرة والإسكندرية. وأصبح من المألوف أن تتحدث النساء عن قيمة عملهن كوسيلةٍ لتحقيق الذات.

انفتاحٌ اقتصادي مع انغلاق فكرى!

ومع فشل المشروع الناصري، الذي بلغ قراره مع الهزيمة العسكرية في 1967، ومع النفقات العسكرية الضخمة وتراجع الدولة عن التخطيط الاقتصادي، تقلصت فرص العمالة بسبب انخفاض معدل الاستثمار، وبسبب عودة العمالة التي كانت مجندةً في الجيش. وهكذا بدأت الدولة تتحول عن سياسة الالتزام بتشغيل القوة العاملة، وبدأت الحكومة في تشجيع الهجرة للتخلص من أزمة البطالة التي ظهرت، وذلك بالتخفيف التدريجي للقيود التي كانت مفروضة على الهجرة(6).

وفي هذه الفترة تضافرت مجموعةٌ من العوامل في صياغة المجتمع المصري، في ما عُرف بفترة الانفتاح الاقتصاديومنها، لعب الدول العربية النفطية دورًا كبيرًا في صياغة سياسات التنمية في الدول غير النفطية ومنها مصر، وغلبة الاقتصاد الريعي (ريع السياحة، ريع قناة السويسإلخ). واتجاه إنتاج السلع إلى السلع الاستهلاكية، والاعتماد الكبير على التحويلات النقدية للعاملين بالدول العربية النفطية التي عادت محملةً بنسقٍ محافظٍ من القيم السائدة هناك، والقائمة على عزل المرأة وتحجيبها. وإلى جانب ذلك أو بسبب منه تصاعدت الاتجاهات السلفية المعادية للمرأة.

العمل أكل عيش

ولم تحل هجرة العمل إلى دول النفط أزمة البطالة التي واصلت تصاعدها. وتراجعت القيمة الاجتماعية للعمل في ظل منظومة القيم السلمية الاستهلاكية التي سادت مع غياب مشروع بناءٍ قومی حقیقی.

وهكذا اندثر الشعار الناصري العمل حق، العمل شرف، العمل واجبوأصبح العمل وسيلةً للكسب” …أكل عيش، ولم يتردد الحكام في هذا الحين طويلاً أمام أزمة البطالة، بل تفتق ذهنهم الإعلامي عن حل سحرى بتقديم المرأة ككبش فداء. وعلى حساب النساء، ضربت الدعاية حول عودة المرأة إلى المنزل ثلاثة طيورٍ بحجرٍ واحد. أولاً: تبرير أزمة البطالة على أنها نتيجةٌ لمزاحمة النساء للرجال في لقمة العيش، ثانيًا: حث النساء المستنزفات في العمل خارج وداخل المنزل على ترك الساحة مما يقلل من حدة البطالة، وأخيرًا؛ تملق التيارات السياسية السلفية المعارضة, التي أظهرت لهم وجهها المخيف، ومادام العمل أكل عيشفمن السهل إذن ترديد الأوهام حول أن عودة المرأة إلى المنزل سيعود بالرزق عليها عندما يرتفع أجر زوجها مع الرخاء الآتى بلا ريب.

وكان الواقع أمر

إذا كانت الدعاية لنماذج النساء المتخدرات في نهاية القرن العشرين، قد حاولت حل إحدى أزمات المجتمع في اتجاهٍ معين، إلا أن الأزمات الأخرى كانت تسير بالأمور في اتجاهٍ معاكسٍ في واقع الأمر، ففي الثمانينات والتسعينات، ومع محاولة حل الأزمات الاقتصادية عن طريق سياساتٍ أدت إلى خفض الأجور الحقيقية لقطاعٍ واسعٍ من المجتمع حتى بشهادة الاقتصاديين المتحمسين لتلك السياسات أصبح المزيد من الإفقار شبحًا يهدد الجميع، بل ويهدد نجاح تلك السياسات في الوصول إلى مآربها. ومن البديهي أن الدعاية إلى تماسك الأسرة عن طريق حصار النساء داخل جدران المنزل، لا يمكن أن تكون ذات معنى بالنسبة إلى الألوف من الأسر المهدد بقاؤها ذاته بسبب الجوع الصريح. وأصبح من غير الممكن لنسبةٍ كبيرةٍ من الأسر أن تعتمد على دخل عائلٍ واحد. ولم تعد المرأة إلى المنزل، بل خرج المزيد من النساء للعمل، لا للمشاركة في إعالة الأسرة فحسب, بل في كثيرٍ من الأحيان للانفراد بإعالة الأسرة.

وأخيرًا، وإذا استخلصنا من ذلك أن الإجابة عن السؤال المطروح في العنوان، هي أن المرأة دخلت سوق العمل لتبقى فيها، فإننا نواجه بتساؤلاتٍ أخرى عن مصير نصيب النساء من الاستغلال في هذه السوق، وعن موقعها من العملية التنافسية بداخلها. وإذا كنا بدأنا بسؤالٍ وانتهينا بأسئلة، فلا بأس من ذلك، حيث لابد من مواصلة التساؤلات والعمل حتى يُصبح للنساء المصريات صوت وكيان يحمين بهما أنفسهن من الوقوف في موقع الضحية والمفعول به، وحتى تصب استراتيجيات حل أزمات المجتمع وتطويره في صالح الجميع أي شكلٍ من أشكال التمييز.

الهوامش

* ملحوظة: اعتمدنا في بعض الأجزاء على ورقة لكاتبة هذا النص بعنوان دخول المرأة المصرية سوق العمل وتطور خصائص عمالتها، وهي مقدمة إلى مركز البحوث العربية من خلال بحث الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للمرأة العاملة في الصناعة بمصرالذي أجراه المركز عام ١٩٩٥

Mona Hammam, IWomen and Industrial Work In EgyptI, Ara Studies Quarterly vol .2, 1980, p55.

(۲) زکاری لوکمان وآخرون، العمال والحركة السياسية في مصر، ج1، ترجمة: أحمد صادق سعد، مركز الأبحاث العربية، القاهرة، ١٩٩٢، ص44، ص49.

(3) Mona Hammam, Ibid, p.55.

(4) مصطفى كامل منيب معاملة شركة مصر للعمال أليس لهذا الظلم من آخرالبعث، العدد 16، الجمعة ٢٩ مارس ١٩٤٦، ص۱۲ من الأرشيف الخاص بالأستاذ طه سعد عثمان

(٥) د. باقر سلمان النجار، الحقوق الاجتماعية للمرأة العربية، المستقبل العربي، السنة الحادية عشرة، العدد ۱۲۰ شباط/ فبراير ١٩٨٩.

(6) شهيدة الباز، المرأة العربية ونظام القيم في الحقبة النفطية، المستقبل العربي، السنة 11، العدد ١٢٠ شباط / فبراير ١٩٨٩.

مقالات الاعداد

الأوضاع الاقتصادية واستراتيجيات البقاء الخاصة بالفقراء في مصر
صورة المرأة في مناهج التعليم في المرحلتين الإعدادية والثانوية
المرأة والقانون والتنمية ورشة عمل نظمتها مركز دراسات المرأة الجديدة
المرأة والقانون والتنمية القاهرة 6 - 8 مارس ۱۹۹۷
شارك:

اصدارات متعلقة

النسوية الإلغائية في فلسطين
نصائح من اجل بيئة عمل آمنة للنساء
نصائح للنساء لضمان السلامة خلال الحمل والولادة والوقاية من كوفيد19
الإجهاض القسري في نيجيريا وسؤال العدالة الانجابية
اغتصاب وقتل طفلة رضيعة سودانية في مصر
نحو وعي نسوي : أربع سنوات من التنظيم والتعليم السياسي النسوي
شهادة 13
شهادة 12
شهادة 11
شهادة 10