الجنسانية، الخطيئة، الأسى

تاريخ النشر:

2012

اعداد بواسطة:

الجنسانية، الخطيئة، الأسى: ظهور الشخصية النسائية*

تشخيص الشخصية

إن أول قصة حب في الكتاب المقدس، وأول قصة حب في ثقافتنا، لهي القصة التي أسيء استخدامها بقدر كبير، لتصبح دليلاً على أن المرأة كانت السبب في كل ما حدث، وأن الذنب يؤول إليها وحدها. وباختصار، فالقصة تستخدم على نطاق واسع مبررًا للعداء تجاه النساء. ولكن القصة لم تكن دائمًا تستخدم بهذا الشكل. فقد أوضح مارك أنجينوه (Mark Angenot, 1980)أن حواء غالبًا ما كانت تنال الكثير من المديح وبأشكال غير متوقعة في فرنسا خلال القرن السابع عشر، وأن موقع حواء بوصفها أمًا عليا (super-mother)، والذي يجعلها تنافس مريم في تلك المكانة، يستبعد الأحكام القاطعة النهائية. ومن هنا تنبع المشكلة. إذ يؤدي ذلك إلى تحميل المعايير الأخلاقية المسيحية حملاً مؤلمًا من التأرجح، أيْ من الإعجاب والازدراء في آن واحد، يستحيل معه أن تصبح منابعها الأسطورية أحادية.

تقدم هذه المقالة عرضًا تركيبيًا لعدة ملامح بهدف إلقاء المزيد من الضوء على العلاقة بين المفاهيم الحديثة في فن السرد والتطور الأيديولوجي. وسوف تتعامل المقالة مع مفهوم الشخصية بوصفه مفهومًا محوريًا في السرد بشكل يجعله متضمنًا لجوانب الذاتية الأخرى. وسَتَعُدُّ المقالة الوضع الإشكالي لمفهوم الشخصية في البلاغة والنظرية النقدية وضعًا دالاً، متخذةً من ذلك نقطة انطلاق للتشكيك في بداهته. ومن هنا، فسوف تتعامل المقالة مع مفهومي التناظر (analogy) والتسلسل الزمني (chronology)، ولكنها سوف تتناول التسلسل الزمني من منظور لا سردی (nondiegetical).

وسوف تناقش المقالة كذلك رد فعل المسيحية المبكرة لتلك القصة، وذلك كمثال على فكرة التلقي (reception). فبالرغم من العداء المبالغ فيه للنساء الذي تتصف به نظرة بولسللمرأة، والتي تعبر عنها الفقرة الشهيرة (1تي ٢: 11-14)، فلا يمكن القول بأن تلك النظرة تختلف كثيرًا عن الأخلاقيات المسيحية السائدة. وتقدم الفقرة المذكورة دليلاً واضحًا يجعلني أرى أنه من الملائم أن أقدم موضوعي في إطار المواجهة بين الأسطورة اليهودية والأيديولوجيا المسيحية. فعلى مدى التاريخ الطويل للبلاغة والنقد في الغرب لا يوجد لدينا وصف نظري مُرضٍ للشخصيات. وعلى الجانب الآخر، تلقى الشخصية اهتمامًا كبيرًا فيما يسمى النقد التطبيقي“. وتحيط الكثير من الشكوك بذلك المصطلح وبمشروعه، وذلك لعدة أسباب منها أنهما يفترضان تضادًا بين النظرية والتطبيق، ذلك التضاد الذي أعاق من دون شك ظهور نظرية خاصة بالشخصية، وهو المنحي الذي سوف أنأي عنه هنا. وبالرغم من أن عنصر الشخصية يُعَدُّ عنصرًا أساسيًا في أية نظرية سردية شاملة، فإننا نجد أن معظم محاولات صياغة فهم لهذا العنصر قد فشلت على الأقل جزئيًا. ويمكن تفسير ذلك بعدة أسباب لن أحاول تحليلها هنا. ولكنني أرى ضرورة تأكيد أحدها، إذ تحاول النظريات أن تقدم تعريفًا وتفسيرًا وتصنيفًا وتقييمًا للشخصيات، ولكن دون تحديد واضح للفروق بين تلك الغايات المختلفة. فهناك على سبيل المثال بعض المصطلحات المستخدمة في تناول الشخصيات تهدف إلى التعميم مثل:

(أ) مصطلحات وصفية (descriptive): المواجهة، انتهاك الحدود، التمايز، منبع الحدث، حزمة الملامح

(ب) مصطلحات معيارية ((normative : الاكتمال، الحرية، الفردية، التطور، التركيب، العمق، النفاذ إلى الحياة الداخلية، تمثيل القيم الإنسانية العامة

(ج) مصطلحات تفسيرية ووصفية (explanatory and descriptive): الإسقاط على الصراع الإنساني

(د) مصطلحات تعريفية (definitional): اسم العلم (التسمية اللائقة) proper(ly) name(d))

ويمكن اعتبار المجموعة الأولى (أ) مجموعة وصفية، وذلك بالرغم من الصفات المعيارية المتضمنة في السمتين الأوليين، وهما على أية حال ليستا حكرًا على الشخصية بل يمتد نطاقهما لما يتعداها. تتكون المجموعة التالية (ب) من مصطلحات معيارية وتصنيفية. ومع أن تلك المصطلحات نادرًا ما تعد مصطلحات تعريفية، فإن الشخوص في نص ما لا تُعَدُّ في الغالب شخصيات حقيقيةإذا لم تنطبق عليها تلك المعايير. أما فكرة الإسقاط المستمدة من التحليل النفسي في (ج) فهي فكرة تفسيرية ووصفية في آن واحد، وتهتم بالبنية التي تنتجها الشخصيات والحدث أكثر مما تهتم بالشخصيات نفسها. وأخيرًا، يُعَدُّ اسم العلم (د) شرطًا كافيًا، وإن لم يكن ضروريًا، لوجود الشخصية، وعليه فإنه لا يُعدُّ شرطًا على الإطلاق، ولكنه وسمٌ ممكن. وعليه، لا يعد اسم العلم تعريفًا، إذ إنه ضعيف جدًا، ويقدم تكرارًا لا يضيف شيئًا. ولكنه مع ذلك يمكن أن يشكل نقطة انطلاق مفيدة للطرح الذي سأورده فيما يلي.

لا أدعي هنا أن فك تشابكات مثل هذا الالتباس ضروري للتوصل إلى نظرية صحيحة عن الشخصية، ولكني أرى ضرورة تفسير استمرارية وجود ذلك الالتباس. وقد شهدنا مؤخرًا بعض محاولات تخطى ذلك الالتباس، مثل تلك التي قدمها فيليب أمو Hamon, Philippe 1983) و شلومیت ریمون – کینان (Shlomith Rimmon-Kenan, 1983). يفضل فيليب أمو تحديد مفهوم الشخصية تحديدًا صارمًا لينحصر في عدة فئات سيميوطيقية (“حزمة ملامح“). وعلى النقيض، تسعى كتابات شلومت ريمونكينان إلى ضم معظم أوجه الشخصية في مجموعة متماسكة من المفاهيم والتحديدات. ومن الأمور الدالة أن فيليب أمو قام بدراسة متعمقة ومتفحصة لمجموعة محدودة من النصوص الواقعية، في حين تفترض شلومت ریمونكينان صحة طرحها على العموم. وينطوي العملان على قيمة عملية ومهمة لدراسة السرد. ومن الملاحظ أن كلا الباحثين لا يقدمان شرحًا للتأثير الأيديولوجي للشخصيات وللمفهوم الإنساني الذي يدعمها، وهو تأثير آراء من وجهة نظری موضوعًا أساسيًا في أية بلاغيات ذات توجه اجتماعی.

ويمكننا في الواقع ملاحظة الرفض المتنامي لمفهوم الشخصية بوصفه تصنيفًا مشبوهًا من الناحية الأيديولوجية. وتذهب الكثير من المناقشات حول مكانة الشخصية في الأدب الحديث إلى القول بأنها إحدى استراتيجيات الأدب البرجوازي، تُستخدم لتطبيع وضع الأيديولوجيا البرجوازية وجعلها تبدو بديهية وحقيقية، وفي سياق تلك المناقشات ترد فكرة اسم العلم. وهو أمر مفهوم، ذلك أن اسم العلم أقصر وأكثر العلامات (signs) قدرة على التحديد في الإشارة إلى الشخصية، بصفته نقطة محددة يمكن لفكرة افتراضية مثل الاكتمال الارتباط بها. قاسم العلم هو محدًد نصي يجسد ثبات الشخصية واستمرارها. ولكن ثبات الشخصية، الذي يمثل نموذجًا لثبات العلامة بصفة عامة، هو على وجه التحديد ما يثير فن القصة والنقد الحديثين التساؤلات حوله. وهنا، نشهد هجومًا قويًا على مفهوم الشخصية، وعلى فكرة الواقعية التي تدعيها، متمثلا في تغيير أسماء الأعلام (روبجرییه ((Robbe-Grillet أو استخدام الاختصارات، أو على العكس، الإفراط في خلع المعاني عليها (دورًا (Dura)) أو رفضها تمامًا (ساروت (Surraute).

وقد ذكر يول فاينزهايمر (Joel Weinsheimer, 1979) في سياق دعوته إلى نقد علاماتي semiotic) للشخصية أن اسم العلم شرط كاف (وليس ضروريًا) لخلق الشخصية، ثم تحدث واصفًا عدم استمرارية الاسم في رواية جين أوستن (Jane Austen) إيما بوصفه دليلاً على أهمية نمط النقد الذي يدعو إليه. ومن ناحية أخرى، يرى رولان بارت (Roland Barhtes) أن إحدى أهم خصائص الأدب الحديث تتمثل في استحالة كتابة اسم العلم، بوصفه مرادفًا للشخصية،: “إن العنصر الصائر إلى زوال في الرواية اليوم لا يتمثل فيما هو ليس روائي، ولكن في الشخصية (character)، أي ما لا يمكن كتابته باسم العلم” (١٩٧٤: ٩٥)، وتقترح ناتالي ساروت (Nathalie Saraute) (١٩٦٥: ٨٤) أن يكون الوصف ليس وصفًا للشخصيات بل لطور مجهول وقبل إنساني يحل محل الشخوص (Personae)، ويُرى اسم العلم في كل تلك الحالات على أنه أکثر لوجه الشخصية خلفًا للارتباك، إذ إنه العامل الذي يشير إلى ثباتها المشكوك فيه. وتقدم النزعة نحو لا تمايز الشخصيات (undifferentiation) في الأدب الحديث نفسها بسذاجة تاريخية مدهشة كرد فعل لواقعية القرن التاسع عشر يسعى إلى رفض الايديولوجية البرجوازية الفردية (ومن أوضح الأسئلة على ذلك ريكاردو (Ricardou ۱۹۷۱). وهنا، ترى تجاهلاً كبيرًا للرواية النقيض (anti-novel) التي كانت تكتب في القرن الثامن عشر، والقصة الرمزية (allegory) في العصور الوسطى التي يتماهي فيها اسم العلم مع الاسم النكرة (common noun).

وتأتي الكتابات عن الشخصية النقيض (anti-character) سابقة ومواكبة للمدرسة البنيوية في البلاغة، والتي فشلت فشلاً مدويًا في محاولاتها إنساج مفهوم الشخصية داخل نماذجها المنحصرة في التركيز على الحدث، ولهذا فهي تقدم رفضها لأيديولوجية الواقعية (الذي أشرنا إليه سابقا) بوصفه مبررًا مشرفًا لفشلها.

وترفض شلومت ریمونکینان (۱۹۸۳) الطرح القائل بأن فشل نظرية الشخصية يرجع أساسًا إلى موقف أيديولوجي. وفي الوقت الذي لا تغفل ذلك الجانب، ترى ذلك الفشل نتاج مشكلات جوهرية كامنة في مفهوم الشخصية ذاته، وتُعين اثنتين من تلك المشكلات وهما: صيغة

الوجود (mode of existence) (الناس أو الكلمات“) وعلاقتها بالحكاية (fabula) (الكينونة والفعل” ). وتقترح شلومت ریمونکينان حلاً وسطيًا للمشكلتين، ينحو الحل الذي تقترحه للمشكلة الأخيرة إلى التواقف الانعكاسي والنسبي (reversible and relative interdependence). وبهذا يمكن التركيز على قدرة أي من الجانبين على تحديد الآخر، وذلك تبعًا لهدف القاري أو الناقد. فالحدث يؤدي إلى مفهوم للكينونة، في حين تتنبأ الكينونة بنمط من أنماط الحدث، ونرى في معظم السرديات أن الملامح والأحداث تمارس تقييدًا متبادلاً على إمكانات بعضها البعض.

وهكذا يمكن اعتبار أن أدنى ما يتطلبه بناء الشخصية هو اسم العلم أو أية علامة أخرى تفترض وجودًا نصيًا للشخصية من ناحية، وموقعًا للذات يرتبط بالحدث من ناحية أخرى. ويكتمل المشروع بإضفاء الملامح عن طريق التشخيص المباشر وغير المباشر. وفي حين يفترض التشخيص المباشر أسبقية الكينونة، يدعم التشخيص غير المباشر أسبقية الحدث.

وينطوي تعريف الشخصية هذا أو أي تعريف آخر على مشكلتين. فهو أولاً يتجاهل التسلسل الزمني العلاماتي. ولا أعنى هذا المسار الخطي الذي تنمو فيه الحكاية أو تطور الشخصيات على مدار القصة، إذ يمكن لهذا التعريف أن يشمل تطور الشخصيات أيضًا. ولكن وجود الشخصيات داخل نظرية أنطولوجية ثابتة لا تتغير، حتى ولو كانت متخيلة، يُعدُّ في ذاته جزءًا من الاقتراض بأن الشخصيات تتغير. وتبعًا لتلك الرؤية توجد الشخصيات منذ أول مرة يرد ذكرها حتى النهاية، ولكننا لا نعرف كل شيء عنها. فالقصة تكشف شيئًا فشيئًا عن المعلومات الغائبة بحيث يصبح بإمكاننا إضافة بعض الملامح أو رفضها أو تغييرها حتى تكتمل الصورة. ولكننا مع ذلك لا نشكك في وجود الشخصيات المستمر في صورة الكينونات التي نكوَّن معرفتنا عنها في نهاية القصة.

ويظهر التسلسل الزمني العلاماتي عندما ننظر إلى الشخصيات بوصفها نتاجًا للتطور النصي الذي يصوغها شيئًا فشيئًا باستخدام العلامات. وهكذا، يمكن القول بأن الشخصيات توجدفقط عندما يشار إليها. وتنتج عن هذه العملية أنماط مختلفة لبناء الشخصية. فمثلاً أما وودهاوس” (Emma Woodhouse) موجودة بوصفها مدلولاً (signified) لاسم العلم ذلك منذ بداية لرواية وذلك لأن الاسم يرد في البداية. ولكننا نرى حواءتوجد فقط في نهاية سفر التكوين” 3 عندما يرد اسمها للمرة الأولى. أما المخلوق التي/ الذي كانت/ كان موجودًا قبل ذلك فقد كانت مخلوقًا ترابيًا (earth creature)، ثم أمراة، ثم فاعلاً ثم أمًا، وأخيرًا كينونة تسمى حواء” . وفي حين يقدم لنا تطور إماتغيرًا مستمرًا لكينونة مكتملة، ينم تطور تلك الشخصية في سفر التكوين عن عملية بناء بطيئة ناتجة عن تقليص مستمر للاحتمالات. ويختلف التسلسل الزمني هنا عنه في الحكاية حيث تتطور الشخصيات مثلما يتطور الناس في الحياة تمامًا، من الطفولة المبكرة إلى الرشد أو من البراءة إلى الخبرة والبصيرة، ولكن التسلسل الزمني هنا هو التسلسل الزمني لعملية الصياغة العلاماتية للمفهوم الذي يحدد تلك الشخصيات. ويكتسب اسم العلم وظيفة مهمة في ذلك التسلسل الزمني حيث يخلق إيحاًء بالاكتمال.

ثانيًا، يحاول ذلك التعريف للشخصية أن يتناولها بوصفها تصنيفًا منفردًا، فمثلاً يؤدی تأكيد علاقة الاعتماد المتبادل بين الكينونة والحدث إلى محو حقيقة أن الشخصية تدخل في علاقة تواقف (interdependece) مع شخصيات أخرى أو مع عناصر نصية أخرى أو مع مستويات أعلى من التجريد. ويؤدي قصر اهتمامنا على العلاقة بين الشخصية والحدث إلى تجاهل نقطة مهمة، ألا وهي العلاقة بين الشخصية بوصفها تخصيصًا والنمط بوصفه تعميمًا. وتشكل تلك العلاقة موقعًا من المواقع النصية المهمة في الأيديولوجيا، في حين أنها تتجاهل أيضًا عملية تشكيل الشخصيات وملامحها عن طريق التضاد والتناظر. وكما رأينا من قبل، تتسم علاقة التناظر مع التسلسل الزمني بالتوتر. ففي حين يرسخ التناظر للثبات، يشير التسلسل الزمني دائمًا إلى الاختلافات بين مراحل تطوره الخاصة. وإذا كان لا مفر من استخدام مجاز مكاني، فمن الممكن فهم التناظر على أنه النظير الجوانبي للتسلسل الزمني، أو الفكرة التي تبرزه عن طريق تجاوزه. وتلتقي في اسم العلم نقطتا الضعف الكامنتان في الاتجاهات التقليدية لتناول الشخصية، وذلك أن مكانة الاسم المركزية تولد استراتيجية قراءة منحازة أيديولوجيا، وهو ما سأطلق عليه المغالطة الاستعادية (retrospective fallacy)، وهي عبارة عن إسقاط الشخصية مكتملة وذات اسم فريد على عناصر نصية سابقة أسهمت بدورها في بناء تلك الشخصية. وتعزز تلك الحركة الدائرية وَهْمَ الواقعية، (انظري Brooks, 1984)، وهنا، أقدم طرحًا مفاده أن تلك المغالطة تسهم في إنتاج أشكال من سردنة الأيديولوجيات تطلق عليها اسم أساطير.

وللتدليل على النقاط السابقة سأتابع بالتحليل بناء الشخصية فيما يَعْدُّه الكثيرون أول رواية تتناول أول زوج من الشخصيات في تراثنا: قصة الخلق في سفر التكوين۱ و ۲، ومن الواضح أن ذلك ليس اختيارًا اعتباطيًا، ويمكن للمنطق القياسي التشكيك فيه. ولكني سوف آخذ بعكس ذلك: لم يأخذ قرَّاء النص المقدس في حسبانهم التناظر القوى بين الحكاية (التي تمثل خلق البشرية) والقصة (التي تشكل بناء الشخصية)، مما جعل طبيعة ذلك القياس وأهميته لا يبدوان بديهيين. ثم ان ذلك النوع من القصص الذي لا ينطوي على التشويقلأن نهايته معروفة سلفًايؤدي إلى كبح التوتر بين التسلسل الزمني والتناظر، وهنا تكمن الطبيعة السردية للقصة.

وسوف أوكد أهمية القراءة الخطية في سياق محاولتي فصل أسطورة حواءالباقية حتى الآن عن أسطورة الخلق كما وردت في سفر التكوين” 1-3. ولا أدعى هنا تقديم استراتيجية قراءة أفضلأوأكثر بديهية، ولكني فقط أراها استراتيجية ممكنة، مما يقوض حصرية القراءات الأخرى، مثل القراءة من داخل النموذج (paradigmatic)، وسوف أعرض الفرق بين الأسطورتين بقصد إيضاح دور المغالطة الاستعادية بوصفه عاملاً مهمًا في إنتاج الأسطورة المتعصبة جنسيًا التي تتناول حواء، والتي يصعب الادعاء بحتمية استقائها من ذلك النص.

 

لتتعلم المرأة بسكوت في كل خضوع. ولكن لست آذن للمرأة أن تُعلِّم ولا تتسلط على الرجل، بل تكون في سكوت، لأن آدم جُبلَ أولاً ثم حواء، وآدم لم يُغو، ولكن المرأة أغويت فحصلت في التعدي” (1تی ۲: ١١١٤). تقدم هذه الفقرة المأخوذة من الرسالة الأولى إلى تيموثاوس اثنين من الطروح الأحد عشر الرئيسة للتبرير العداء نحو النساء والتي توردها فيليس تربيل ( Phyllis Trible, 1987, 73) بوصفها طروحًا لها أصولها في قصة السقوط، (تك ٢: 4 ب– 3: ۲۷). وقد لخص روبرت ألتر (Robert Alter) في دراسة لاحقة (١٩٨١، ١٤٦) التفسير الشائع للنص على النحو الآتي: “(أنه) عبارة عن حكاية مثل حكايات علم أسباب الأمراض يقصد بها تبرير وجود المرأة ومكانتها الدنيا وقدرتها الدائمة على إغواء الرجال“. ولا يمكن في الحقيقة استخلاص معظم الطروح التي جمعتها فيليس تربل من داخل نصوص الكتاب المقدس، وهي تسوق حججًا مقنعة تفند بها تلك الطروح. وسوف أقوم في هذا الفصل بدراسة بعض الفقرات المتعلقة بالموضوع، التي تتناول خلق جسد المرأة والمعصية وتبعاتها.

أما بالنسبة إلى الحجج التي يسوقها بولسعلى وجه الخصوص، فهي الأكثر شيوعًا واستخدامًا، كما أنها الأكثر خطأ، وذلك من ثلاثة نواح. فبوصفها تقارير حقيقية عن القصة فإن النص، لو قرأناه بتمعن، لا يدعها. وحتى لو دعمها النص، فذلك لا يعني أن تلك الأحكام القيمية يجب أن تستقى بالضرورة من تلك الحقائق (المتخيلة). وحتى لو كان هناك ما يبرر تلك الأحكام، فليس ثمة رابط منطقي بينها وبين المحاذير المبنية عليها. وسأقدم لاحقًا طرحًا مفاده أنه من غير الواضح أن آدم، الرجل، قد جُبل أولاً. وحتى لو كان ذلك صحيحًا، فإن ذلك لا يجعل طبيعته أرفع مقامًا، بل على العكس، فحتى لو كان آدم قد تشكل على صورة أفضل من المرأة، تكاد لا توجد علاقة شرطية بين كون الإنسان منتجًا طينيًا من صنع الإله ولكن أقل نجاحًا، وقدرة الإنسان على التحدث والتعليم وممارسة السلطة. أما بالنسبة إلى موضوع الغواية، فكلا الكائنين البشريين لم يتعرضا للغواية، كما أنهما قد عصيا بالقدر نفسه.

ليس من أهدافي هنا أن أقحم على القصة محتوى نسويًالا يتسق تاريخيًا مع وقت حدوثها. ويتعين علىَّ هنا أن أوضح موقفي لكي أزيل بوضوح أيَّ سوء تفاهم قد ينجم. يمكننا بالقطع أن نجد جزئيًا في النص الأسطوري في سفر التكوين، والذي ليس له بالضرورة أصل متماسك، فكرة الاحتفاء بالمرأة بوصفها إلهة للأرض (earth- goddess) أو بوصفها إلهة أمًا ((mother-goddess, والتي كثيرًا ما ينظر إلى حواء على أنها إحدى بقاياها (فيليبس Phillips))، ١٩٨٤). وعلى الجانب الآخر، وكما نجد في قصص حب أخرى في الكتاب المقدس، نرى بوضوح أن الأيديولوجيا العامة في الكتاب المقدس هي أيديولوجيا أبوية. وبدلاً من أن أتبني قراءة نسوية أو قراءة منحازة ضد المرأة، وكلاهما خاطئ على حد سواء، فقد أشرت إلى وجود مؤشرات تثير إشكاليات وتدعو إلى فتح المناقشات حول صحة فكرة أسبقية الرجل وسيادته. يسرى ذلك على الكتاب المقدس كله، بما فيه سفر التكوين.

وسبب ذلك الوضع واضح، إذ يصعب تحمل عبء التسلط. فعلى المتسلطين أولاً تحديد موقعهم ومن ثمَّ المحافظة عليه، وهو ما يعني أن عليهم لاحقًا أن يجعلوا من يتسلطون عليهم وأنفسهم كذلك يؤمنون بذلك الموقع. لا يقتصر الإحساس بعدم الأمان على المتسلط عليهم. إن عملية تأسيس ما يسمى أسطورة البداياتالتفسيرية، التي يتعين أن تكون واقعية وذات مصداقية بشكل يجعلها تفسر تجارب مشتركة، ليست بالعملية اليسيرة. وعليه، بإمكاننا العثور في تلك الأساطير على آثار تلك العملية المؤلمة للفوز بالسيطرة. وتعمل تلك الآثار على تقليص حجم الكبت و إعطائه أبعادًا مقبولة وعملية.

أما فيما يتعلق بالحالة التي نتناولها هنا، فإن الاعتبارات السابقة تترتب عليها النقاط الآتية: لو أدى الفهم الذي أطرحه إلى وضع حواء إلى إظهارها بشكل أكثر إيجابية من الذي تظهرها به استخدامات النص الشائعة، فأنا لا أقول هنا بأن ذلك نص نسوي أو أنثوى أو موجَّه نحو المرأة. ولكن هدفي هنا تفسير طبيعة ووظيفة أسطورة أبوية ترتبط بأيديولوجيا لا يمكن عَدُّها أحادية. وتصبح محاولات جعلها كذلك أكثر ضراوة لأنها تسعى إلى هدف مستحيل. أما ما نراه من مؤشرات تدل على إثارة الشكوك والمناقشات حول الأيديولوجية المطروحة فلا تؤدي تلقائيًا إلى تحسين الأوضاع القائمة.

ولكنني قد سبق وذكرت أنني لا أسعى إلى ذلك الهدف. ليس هدفي الأول هنا رفض استخدامات النص المختلفة، على الرغم من أن ذلك الموضوع أكثر جاذبية، فما يعنيني هو أن المواجهة بين النص الأسطوري الباقي حتى الآن والوثائق التي تشير إلى استخدامه لاحقا مثل فهم بولس، من ناحية، والنصوص التي لا تعد ولا تحصى التي تلت ذلك والتي أنتجت الأسطورة بالشكل الذي لا تزال تعمل به حتى الآن من ناحية أخرى، تعكس تطورًا زمنيًا للأبوية ينم عن مفارقة.

وبما أنه من الواضح أن العداء تجاه النساء كان راسخًا في المجتمع اليهودي القديم، مثلما كان في معظم المجتمعات المعاصرة له، (ولمن لا يرى بديهية تلك الحقيقة فإن كتب الشريعة اليهودية تقدم قراءات مفيدة تظهر احتقار اليهود الواضح لجسد المرأة)، وبما أن المجتمع الغربي يدَّعى اليوم على الجانب الآخر أنه تطوَّر نحو التحرر والمساواة في الحقوق، فيمكننا إذن توقع تطور وتحول لنص متحيز جنسيا نحو قراءات أكثر مساواتية“. يمكننا مثلاً توقع أن يركز المعلقون على الجوانب الإيجابية في شخصية حواء والجوانب السلبية في شخصية آدم، وهما قراءتان ممکنتان كلتاهما، وبذلك تخرج لنا صورة أكثر مساواة لأول زوجين بشريين، وبخاصة أن هناك تبعات أخلاقية تستخلص من تلك الصورة. ولكن العكس هو الصحيح، الأمر الذي يتيح لنا كما أوضحت في موضع آخر فيما يتعلق بقصة شمشون ودليلة فهمًا أعمق للطبيعة الديناميكية في الأسطورة ولوضع الأيديولوجية الجنسية الراهن، ولأهمية قلب الصورة بوصفه فعلاً سياسيًا (Derrida, 1972, 56-57)، على أية حال فقد يبدو محبطًا أن نضطر إلى اللجوء إلى آباء اليهود القدامي للدفاع عن شخصيتنا في مواجهة الملحدين التقدميين المعاصرين.

وفي سياق هذه الدراسة، يبدو أن أهم النقاط في كلمات بولس“- وهو ما حداني إلى استخدام ذلك النص نقطة انطلاق هو التصاحببين ظهور الجسد الأنثوي في صورة علامات سردية وافتراض الفساد الأخلاقي في الشخصية التي وُهبت ذلك الجسد. وكما سأوضح لاحقًا، اسم العلم هو موقع تلك التصاحبات. وإذا كان بولسيستخدم تلك التركيبة البديهية ليدلل على ضرورة إقصاء النساء عن عالم السلطة الأخلاقية والفكرية، فإن ذلك يخدم وبالقدر نفسه تبرير أمور أخرى مثل الفن الإباحي والاغتصاب وأنواع العنف الأخرى، المادي منها والعلاماتي: عقل مخبول في جسد معافى. ولأن وجهي الشخصية يُنظر إليهما على أنهما أدنى شأنًا بلا أي أمل في إصلاح ذلك الوضع، وهو أمر يحدث من داخل سياق الدمج الخارق بين الاثنين، فإن الاثنين معًا يقعان تحت طائلة إساءة الاستخدام، بخصوص الروح (في حالة بولس“) وبخصوص الجسد (في حالة المغتصبين ومنتجي الفن الإباحي).

ومنذ الانتشار الدارج للفرويدية (Freudianism) أصبح من الشائع القول بأن جسد المرأة يسبب الفزع للرجل بسبب آخريته و نقصهوغموضه. وعلى الجانب الآخر، حين يكتشف الصبي أن الأم المثالية والمحتكرة هي أيضًا كيان جنسي، مما يجعلها متاحة على الملأ، يتولد لدي الأب الصغير احتقار لها بوصفها كينونة أخلاقية. ولكلا الانعكاسين أسبابه وأصوله المعاصرة وجوانبه الإسقاطية والمدمرة الذات. وتقدم أفلين فوكس كلر (Evelyn Fox Keller, 1983)، تحليلاً توضيحيًا رائعًا لتلك الانعكاسات). ولكن ذلك لا يستتبع بالضرورة تصاحبًا تلقائيًا، أو ذلك الترافق أو النزعة التي لا يمكن الفكاك منها نحو قبول الادعاء بأنه بما أن جسد حواء يمثل صنعة أدنى من جسد آدم فإنها أضعف منه أخلاقيًا ومتاحة أمام قوى الإفساد، أو بخطوة إسقاطية أخرى، مجسدة لقوى الإفساد. تصبح هذه التوليفة من المفاهيم التلقائية تدليلاً محضًا على الأنثى.

ولهذا التصاحب تأثير سردي وانثروبولوجي. فمن الناحية السردية أرى هنا أن التحول من أسطورة ماالنص كما هو – إلى أسطورة أخرى النظرة المجازة جنسيًا التي يعبر عنها بولس“- لهو نتاج المغالطة الاستعادية. فمثلاً نرى فئة من قراء سفر التكوين 1-3، وهم على وجه التحديد أصحاب المدرسة التاريخية النقدية في محاولتهم تفسير المزج بين قصتى الخلق وقصة السقوط يُسقِطون الجزء الأخير من القصة الثالثة على القصة الثانية، في حين نجدهم يتجاهلون القصة الأولى فيَعُدُّونها رواية تالية ودخيلة. وتأتي قراءتهم تلك نتيجة عدم فهمهم أن النص المعنى هو موضوع علاماتي، أي أنه لا يخلق العالم ولكنه يطلق سردًا. فهو يقدم تقريرًا عن خلق البشرية من خلال تطور الشخصية المتنامي. ويؤدي إغفال تلك النقطة إلى تبني المغالطة الاستعادية: يقوم القراء بعملية إسقاط للشخصيتين المكتملتين، أدم وحواء، اللتين تظهران في آخر القصة الثالثة، على مراحل تخصيص تطورهما السابقة. وهكذا، يصبح مفهوم الشخصية منبعًا للأسطورة المنحازة جنسيًا ووسيلة لتفكيكها في آن واحد.

أما من الناحية الأنثروبولوجية، فأرى هنا أن ذلك التصاحب يُعدُّ مثالاً آخر على أصل مفاهیمی متضارب المعاني أضحى كبته ضروريًا بعدما تمت أسطرته: ذلك هو الفصل بين الجسد والروح، وهو اختراع دخيل أصبح، كالأبوية، عبئًا ثقيلاً على كاهل الإنسانية التي ابتدعته. فالرجل، نتيجة لشعوره بعدم الرضا عن نفسه وبالفزع من نوازعه والاشمئزاز من جسده ذی المطالب الكثيرة، قد وجد طريقة يفترض بها أن ذلك الجسد مختلف عنه تمامًا. ولكنه في الوقت ذاته كان يدرك جيدًا أن ذلك لن يجدي، إذ لن يكون ثمة معنى لسلطة الجسد في بنية كتلك. ولهذا، فقد نتجت مشكلة الحسد عن النظرة الخارجية، وبالتالي الأحادية، إلى المرأة، والتي قد تبدو فيها المرأة مكتملة في آخريتها. ولأنه شعر بالحسد تجاه اكتمالها الظاهري وعاب عليها آخريتها، فقد حكم عليها بأنها فاسدة تمامًا. وهكذا، فسدت أسطورة البدايات نتيجة لذلك. ثم حدث إسقاط استعادي لذلك الانفصال بين الجسد والروح على حواء بوصفها شخصية، وذلك بعد أن أنتجت المغالطة الاستعادية حواء بوصفها شخصية: جسد مثير وروح فاسدة، تجعلها جاذبيتها خطيرة بصورة جدلية.

ولكننا نشهد بوضوح عودة المكبوتين في فرويدية القرن العشرين، كما في مواضع أخرى كثيرة. ففي نظرية الازدواجية الجنسية عند فرويد، نجد أن المرأة نظرًا لجمعها بين صيغ ذكورية وأنثوية، ونظرًا لامتلاكها عضوين جنسين، أحدهما ذكرىوالآخر أنثوى، تمثل النموذج العام للجنسانية (sexuality)، ويصبح الذكر مجرد تنويعة ما على المرأة (كلر ,Culler) (1983, 171). هنا تتحد الفرويدية بسفر التكوين الموجود منذ أزمان، حيث تظهر الازدواجية الجنسية بالتحديد بوصفها نقطة انطلاق. (لتحليل نقدى لمفهوم الازدواجية الجنسية عند فرويد، انظر/ي هيث (Heath, 1982))

والآن، دعونا نتابع بناء الشخصية خطوة بخطوة. نجد أن علامات جسد المرأة لا تظهر من البداية. ففي البداية يتكون مخلوق لا جنسي (sexless)، ذلك هو الجسد الأول، الجسد بعينه، فريدًا وغير مجتزأ، وهو جسد المخلوق الترابي الذي صنعه يهوه (Yahweh) الخزَّاف. يظل ذلك المخلوق بلا اسم أو جنس وبلا أي نشاط من ۲: ۷ حتی ۲: ۲۰ فهو يظهر بوصفه شخصية مستقبلية، مبينًابما ليس فيهالصورة التي يجب أن تكون عليها الشخصية. لا تتعدى تلك الخطوة الأولى كونها افتراض وجود شخصية ممكنة. ليس يهوه هو من يخلع عليها كلمة الآدم (المخلوق الترابي) (ha’adam)، ولكن الراوي هو الوحيد الذي يستخدم هذه الكلمة. وهكذا، ولأن الكلمة تحتوى على أداة التعريف فإننا نفترض أنها ليست اسم علم (proper name)، وإنما اسم نكرة. ونلاحظ أن استخدام الكلمة هنا جاء بشكل مناسب تمامًا، إذ إنها الحد الأدني الذي يمكن أن يصف المفهوم الذي تدل عليه، وهي مشتقة من كلمة تستخدم في الإشارة إلى الجانب المادي للأرض (الآدمة) (ha’adama) [ اخترت استخدام الكلمتين غير المألوفتين الآدمو‘الآدمة’ لأنهما قادرتان على توصيل الكثير من المعاني المتضمنة في الكلمتين العبريتين اللتين تستخدمها المؤلفة. وقد شرحت هذا الاستخدام بتفصيل أكبر في مقدمة المترجمة.( المترجمة)]. والتورية هنا قوية، فكما سنرى لاحقا، قد شُخَّص هذا المخلوق على أنه مأخوذ من، أي متمايز عن، بيئة أوسع. وفي الوقت نفسه، بعد مبدأ التمايز هذا، وهو الصفة الرئيسة لعملية الخلق في سفر التكوين 1 مبدأ علاماتيًا أساسيًا، فالمخلوق يبدأ أولاً بتلقى علامات الحياة. وعندما يستعير من أنفاس يهوه فهو بذلك يتلقى الحياة أو النفحة الحية (نفش) (nepes)، ليصبح مخلوقًا حيًا. إذن، الجسد ترابي أما الحياة فآتية مما هو إلهي. ويؤدي هذا التمييز لاحقًا إلى فكرة الفصل بين الجسد والروح. وقد لا تعني كلمة نفشالنفس ولا الروح، لأن ذلك سوف يستتبع خلع السمة ذاتها على الحيوانات (۲: ۱۹). نجد أحيانًا أن محل منشأ الحياة أو كلية الذات (ولف (Wolf, 1974, 10-25) هو الدم (لا ۱۷: ۱۱)، وهو ما ينم عن أنه متأصل في الجسد.

وتؤكد الكلمات المستخدمة في الإشارة إلى ذلك المخلوق الترابي، الذي يمكن أن نطلق عليه اسم كتلة الطين على طبيعة حالته غير المكتملة سواء بوصفه مخلوقًا إنسانيًا متمثلاً أو بوصفه شخصية أدبية، وهو ما يذكرنا دومًا بأصله ومكانته المتواضعين. إنه مصنوع من الطين، ولهذا لا يتعدى بعد كونه نوعًا لا فردًا، كما أنه لا يحمل اسم العلم بعد، لأن الكلمة ستتحول إلى اسم بعد ذلك بكثير. أما بالنسبة إلى الحدث، لا تزال كتلة الطين دمية متحركة. وقد وضعت وهي في حالتها الخامدة تمامًا في رياض الجنة لكي تكبر مع الأشجار. لا نستطيع استخلاص أي ملمح من ذلك اللا حدث (non-action).

وتوضع كتلة الطين هناك مرتين، نرى في كلتيهما أن الرواية التي تصف ذلك الحدث تطوق نموها: (۸ ب 9-14 -15). وتوحي المرة الثانية التي يحدث فيها ذلك التكرار الجزئي (ریمونکینان، ۱۹۸۰) بحدوث نشاط مستقبلي ممكن (لن يحدث فعليًا): يمثل حرث رياض الجنة وتهذيبها تسيدًا على الطبيعة مغلفًا بالرعاية والاحترام. وهكذا، تظهر ببطء خصوصية الحياة الإنسانية ولكن بصورة تنطوي على مفارقة: اسم لا يُخلع، ونشاط لا يحدث.

توکد فیلیس تریل (۱۹۷۸، ۸۰١٤۰) على طبيعة ذلك المخلوق الترابي اللامتمايزة جنسيًا. واذا أردنا توخي الدقة لن يمكننا القول بأنه مخلوق خنثوى او مزدوج الجنس طالما أنه لم يخلق بعد. ولكننا نجد الروايات اللاحقة تفسير الموضوع بهذا الشكل. وفي الروايات الطقسية الأحدث في تك 1: ٢٦٢٧ يخلق إلو هيم ((Elohim الإنسان ذكرًا وأنثى على صورتهن/ صورتهم. وهذا إشارة واضحة إلى صورة المعبود الخنثوية المتضمنة، وهو ما تذهب إليه الكثير من الباحثات (Leach, 1983, 33-66) و أوفلارتي (O’Flaherty, 1983)، ثم تُخلع تلك الطبيعة الجنسية المزدوجة في تلك 5: ١٢ بوضوح على الكينونة المسماة الآدم، المخلوق الترابي/ الإنسان ذاته. ولا يقودنا استخدام ضمير الجمع في ۱: ۲۷ و ٥: ٢ إلى فهم هذا المخلوق الترابي على أنه مفرد مذكر. وسوف أطرح لاحقًا فكرة أنه ينبغي ألا نَعُدُّ قصة الخلق الأولى مختلفة عن القصة الثانية ناهيك عن عَدَّها منفصلة تمامًا عنها.

ونجد في تك ٢: 4ب-3 إلى جانب ذلك الدليل التناصي طرحين آخرين على الأقل نابعين من داخل النص يؤكدان طبيعة الآدم اللامتمايزة جنسيًا، وهكذا، يصبح الألم متضمنًا لكل من المرأة المستقبلية والرجل المستقبلي. ولو كانت الكلمة تشير إلى الرجل فقط لما انطبق النهي عن الأكل من شجرة المعرفة في ٢: 16-17 على المرأة، ولكننا نجدها تنقل هذا النهي للحية في ۳: ۳۲. ثانيًا، لن تكون المرأة قد طردت من الجنة لأن يهوه لا يذكر في ۳: ۲۲۲۳ سوی الآدم. ربما كانت لا تزال تعيش هناك حتى الآن وبالطبع، يمكن الرد على كلا الطرحين. على الحالة الأولى قد يكون الرجل قد بلَّغ النهي للمرأة. ولكن مثل تلك الحجة تقع في نطاق دفع إل سی نايت ببطلان أسئلة مثل كم عدد أطفال الليدي ماكبث؟” (L.C. Knight, 1964). إن الخلط بين الشخصية والشخص هو ما يؤدي إلى فشل تفسير الطبيعة العلاماتية للشخصية. أما الحجة الثانية فيمكن رفضها بالرجوع إلى تسيد الرجل على المرأة الذي ورد ذكره بوضوح قبل الوصول إلى تلك المرحلة (3: 16): كان يتعين عليها أن تتبعه. وتكرس تلك الحجة لتحيز النص الجنسي. فلا يوجد ما يدعونا إلى افتراض أن حواء التي لم تتحدَّد بعد قد تم إقصاؤها تمامًا في النص. ولكننا ويا اللمفارقةنجد فيليس تربل تدافع عن تلك القراءة (1978).

وفي تك ٢: ٤ ب–١٥ تبنى العلامات مفهومًا يضم ملامح كثيرة في الوقت الذي يفتقد كذلك لملامح كثيرة. فيحتوي النص مثلاً على ملامح نجدها تختفى فيما بعد، مثل الصلة الوثيقة بين الأرض وذلك المفهوم للبشرية، موقعه بوصفه مفعولاً به تامًا (absolute object-position ) إلى جانب تفرده، والبراءة الأخلاقية والعجز اللذين يستتبعهما. ويفتقد هذا المفهوم لأشياء أخرى كثيرة، مثل الملامح التي أشرت إليها بوصفها مكونات الشخصية: الجنس، الاسم، الحدث: المسئولية. ما الذي يجعل القراء يفترضون أن ذلك المخلوق ذكر؟ وما الذي يجعلهم بنقلة أخرى غير مفهومة يفترضون بأن تلك الفكرة الخاطئة عن وجوده السابق على وجود المرأة تعنى أنه ارفع مقامًا؟ إن القراء هنا يقومون باستكمال الملامح الناقصة بأنفسهم، لأنهم لا يستطيعون قراءة شخصية غير مكتملة. ويتضح هنا أن مفهومهم عن الشخصية يرى في اسم العلم والهوية الجنسية ملامح متأصلة فيها.

تتبع عملية الدلالة على الوجود المجرد خطوة أخرى وهي المزيد من التمايز. هنا يصبح المخلوق المفرد جمعًا. ولا تستطيع الشخصية نفسها تكملة الملامح الناقصة حتى وإن كان ذلك بمقدور القراء. إذ إن يهوه/ الله، وليس الآدم، هو من يقرر أن عمله هولم ينته بعد. “ليس جيدًا أن يكون آدم وحده، فاصنع له معينًا نظيره” (۲: ۱۸). وتنتج عن غياب الاختلاف الجنسي حالة من الوحدة، ولكن لا يمكن للكائن الذي يفتقد ذلك الاختلاف أن يشعر بما لم يكن لديه أصلاً. يتطلب الأمر بعضًا من الوقت حتى يدرك يهوه عدم جدوى إضافة كائنات أخرى. فالحيوانات، بوصفها دخيلة، لا تتطابق مع المخلوق البشرى. ولن أعلق باستفاضة على ترجمة عبارة معينًا نظيره (“a help fit for him” ) وهي ترجمة شائعة وتنم بوضوح عن تحيز ضد المرأة. ولأن الضمير المذكر في نظيرهترجمة مغلوطة في الأساس، فلا يمكن أن يكون لبقية القول معنى. علاوة على ذلك، لا تعكس تلك الترجمة الفهم العميق لطبيعة الجنسانية المنبني داخل لغة ذلك النص. وعليه، فإن الكلمة المترجمة إلى معين” (“help”) يرد استخدامها في مواضع كثيرة للإشارة إلى الله، فيصبح من الصعب قبول فكرة أنها تشير إلى أمر متواضع كهذا.

إن التوتر بين المِثل والمختلف هو الذي يخلق الجنسانية، وعليه فإن الحيوانات غير مؤهلة لتلك المهمة، في حين أن الكائن البشري المختلف ليس مُعينًا لأحد، وعليه فيجب أن يُقطع الكائن الترابي وأن ينفصل عن جزء من نفسه/ا حتى يتمكن النصف الآخرمن ذلك الذي سيتبقي أن يأتي إلى الوجود.

يفقد/ تفقد المخلوق الترابي وعيه وتذهب في سبات عميق يكاد يعود بها إلى الآدم. ذلك السبات هو موت المخلوق الترابي اللا متمايز جنسيًا، والذي سوف يخرج منه متمايزًا.

ومن المفترض أن الجزء الذي يؤخذ عنه هو الضلع، وهي كلمة طالما ثار حولها النقاش. ترى بعض الباحثات أنها تعنى الجنب، وبهذا فقد تكون إشارة مهذبة إلى البطن، كما تشير كلمة أقدامفي كثير من الأحيان إلى الخصيتين” . وفي هذه الحالة، قد تكون الكلمة إشارة إلى الرحم، وهو ما يشكل قلبًا واضحًا للوظيفة الجنسية يمكن قبوله إلى حد كبير في حالة الحديث عن مخلوق لا متمايز، ويطرح يارش اوستن وديفيد موير (Jarich Oosten and David Moyer 1982, 80) فكرة ثانية لا تتعارض مع الفكرة السابقة. فهما يريان أن صمويل نوا كريمر ( Summuel Noah Kramer, 1961, 102-103) قد ربط ربطًا صائبًا بين ذلك المكون الأسطوري الأساسي والأسطورة السومرية التي تدور حول إنكى (Enki) في الجنة. نرى في هذه الأسطورة الإلهة (Nin-ti) تُخلق من ضلع (Enki). وتعنى كلمة “ti” الضلع، كما تعني صنع الحياة“. وقد يكون لذلك الربط معنى في وقته، ولكن اللغة العبرية لا تحمل التورية نفسها. فإن أم كل حيوالتي تظهر في تك 3: ٢٠ هي نفسها مصنوعة من (قطعة من) مادة حية، ويُعَدُّ ذلك القلب للفاعل والمفعول من السمات الأساسية في الأسطورة.

وفي سياق الإشارة إلى جَبْل يهوه للمخلوق الترابي تجد الفعل المستخدم هو الفعل المرتبط بصناعة الخزف. أما الفعل المستخدم في ۲: ۲۲ فيشير إلى مجال العمارة وإنشاء المباني. فالفعل هنا أكثر صعوبة وتعقيدًا، ويتطلب موادًا أكثر تمايزًا. إذا سوف يشير الاختلاف إلى مرتبة أعلى من الخلق، وهي فكرة تتلاءم مع بلاغيات تصور الكتاب المقدس عن عملية الخلق.

وكما أن خلق البشرية، كما يرد في تك ١-2: 4 ب، يمثل ذروة خلق العالم، فإن خلق الإنسان كما يشار اليه في هذه الرواية للقصة يحدث على مرحلتين متناميتين تصلان إلى مرحلة الكمال. وتدحض تلك الفكرة النتيجة التي يستخلصها بولسمن خطئه الأول. إن المادة المستخدمة لم تعد التراب أو الطين بل هي العظم واللحم اللذان أثرتهما نفش. والنتيجة كذلك أرقي: لم تعد مخلوقًا لا متمايز، بل كانئًا جنسيًا وعلى وجه التحديد امرأة: “وبنى يهوه الإله الضلع التي أخذها من الأدم [اللامتمايز] امرأة [آيشة] [issa ]”.

وبالنظر إلى كلمتي آيش وآيشة رجل وامرأة (is وissa) اللتين تشيران في هذا النص إلى وجود متمايز جنسيًا نجد أن كلمة آيشة أو امرأة ترد أولا. إن آيشة هي التي تغير معنى كلمة الآدم من كائن ترابي إلى رجل ترابي. وبهذا المعنى العلاماتي، فإن المرأة قد جُبلت أولاً ثم تبعها الرجل (بعكس ما يذهب إليه بولس” ).

وما من داع للمغالاة في الدفاع عن قضيتها. فبالطريقة نفسها التي لا يمكن أن يأتي بها الرجل إلى الوجود إلا بعد التمايز عن المرأة، كخطوة تالية لخلقها، فكذلك يجب أن يُنظر إلى المرأة بوصفها مختلفة، وأن تحصل بدورها على هويتها الجنسية من الرجل. ثم يحسم يهوه أمر الشخصية التي لم تكتمل بعد والتي لا تقدر على الفعل بأن يأتي بها إلى الآدم، الذي يتخذ هويته الجنسية بعد إدراكه للآخر. ويعبر الشعر الذي يقوله، والذي يعد أول ما ينطق به، عن إدراكه للجنسانية. فإذا كانت المرأة هي الأسبق في أن يُدَل عليها، فإن الرجل هو الذي يتكلم أولاً. وتوضح عملية خلع خاصَّة الكلام على الرجل، وهي الخطوة التالية في خلق البشرية، أن تلك العملية الجدلية تتسم بالمساواة. وترد في كتاب روبرت ألتر (Robert Aller, 1981, 65-67) رواية مهمة لجماليات عملية اقتباس الكلام التي ترد في سرديات الكتاب المقدس كما يراها الكاتب، ولكن ربما ببعض التعميم الزائد. وتعد عملية الاقتباس وسيلة أخرى من وسائل التشخيص، وهي متصلة اتصالاً وثيقًا بنظرة الكتاب المقدس للبشرية التي تصادفها كثيرًا. إن القضية المهمة هنا هي توزيع الكلام والأسماء على الشخصيات الممكنة.

وتتكون مقطوعة الشعر الغنائي التي يؤديها الآدم من ثلاثة أجزاء. فهو أولاً يعترف بالمرأة بوصفها جزءًا من نفس المخلوق الترابي (الآدم) الذي ينظر هو إلى نفسه كإحدى بقاياه:

هذه الآن عظم من عظامي

لحم من لحمي.

ويأتي ذلك بوصفه احتمالاً بهيجًا بطبيعتهما المشتركة والأخوّة والأختية اللتين تجمعهما بعد مواقع الفشل في ۲: ۱۹۲۰. فالرجل هنا ليس الأب الذي ولدت منه المرأة كما قد تذهب قراءة أخرى للنص، ولكنه يصبح أخاها، ذلك لو التزمنا بتلك الاستعارات العائلية غير اللائقة. إنه ابن الآدم وهي ابنة الآدم. ويتسق هذا الفهم للبشر الأولين، الذي يرى أنهما ليسا في الواقع أولان، مع أساطير الخلق الأخرى، التي يحل فيها كائن ثان وربما ثالث مكان الكائن الأول الذي يحيا في وحدة متناغمة مع الأرض والسماء أو إحداهما. نجد في زيوس (Zeus) مثالاً على ذلك.

يحتفى الآدم الثاني بالاختلاف بينهما بعدما يدرك الشبه بينهما. وتخلق العبارة المستخدمة مشكلة في التفسير:

هذه تدعى امرأة (آيشة) [issa]

لأنها من أمري (آيش) (is) أخذت.

تكمن المشكلة هنا في استخدام اسم ( ls) ذي الصبغة الدالة على الجنس. يناقش کتاب إیمانول لیفیان (Emanuel Levian) (۱۹۷۳) أهمية ذلك الاسم في صياغة الفكرة التي تقول بأن جوهر الأنوثة يكمن في أصل المرأة بوصفها فكرة متأخرة: “يكمن جوهر أنوثة المرأة في تلك الفكرة المبدأية: أن فكرة خلقها جاءت تالية لفكرة خلق الرجل“. (يمكن أيضًا مراجعة كتاب كاترين کالیبه (Catherine Chalier, 1982) للتعرف على آراء كالييه حول المرأة في الكتاب المقدس) وربما كانت مهمتي ستصبح أكثر سهولة لو أن الاسم المستخدم كان الآدم، مما كان سيقودني نحو افتراض أن الاسم مستخدم بمعناه اللا تمايزي الأول. وأرى طريقتين للخروج من ذلك المأزق. الاحتمال الأول هو أن الرجل قد افترض بأثر رجعي، بعد عملية التآصيل (allotropy)، وهي عملية تغيير الخواص المادية داخل المادة نفسها، أن تلك الهوية الجنسية كانت ملازمة له منذ البداية. أي أنه يمركز الحالة التي كان عليها سابقًا من موقعه الراهن. وكما لا تحمل ذاكرة البالغين ذكريات من طفولتهم المبكرة، التي لم يكونوا فيها ذواتًا مكتملة بعد، كما لا تحمل ذكريات من حياتهم كأجنَّة، فإن الرجل لا يتخيل أنه كان من قبل كائنًا لا جنسيًا. ولا ينبغي أن يثير ذلك غضبنا عليه، ولا على الراوي الذي يورد نص كلماته على هذا النحو. إن دور القياس هنا لا يتعدى طرح إطار تفسيري، وهو إطار التحليل النفسي، الذي لا أستطيع الخوض فيه هنا على الرغم من ارتباطه الواضح بالموضوع. فمن الثابت أن كلمة الآدم قد فقدت علاقتها بمعناها السابق، وهو ما ستوضحه القراءات اللاحقة.

إلى جانب هذا الاحتمال الوجيه والمقبول فهناك احتمال آخر على القدر نفسه من الوجاهة، إذ إن عبارة مأخوذة منلا تعني مصنوعة منولكن مقتطعة من“. إنن، فقد كان الرجل على حق. فقد صنع يهوه كلا من آيش وآيشة من الآدم بأن فصل أحدهما عن الآخر، وهو ما حدث في مرحلة الخلق السابقة حينما صنع يهوه الآدم بأن فصله/ا عن بقية الأرض، هآدمة التي تغيرت تغيرًا جوهريًا جراء ذلك الانفصال: فقد انفرطت وحدتها، وأصبحت أقل فوضوية، كما فقدت إنسانية ممكنة، في حين أصبح لديها راع وسيد ممكنان، وتؤكد التورية ذاتها فكرة الاختلاف في التشابه. وعليه، كان الاحتياج إلى استخدام الجذر نفسه. إن هذا التفسير لخلق/ تمايز الجنسين لهو أكثر توافقًا مع المفهوم الكلى لعملية الخلق في سفر التكوين.

بعد مرحلتي الاتحاد والانفصال، يقدم السرد في النهاية ملخصًا. فالجنسانية في عودة إلى الاتحاد. ولكن هناك ما هو أكثر من ذلك:

لذلك يترك الرجل أباه وأمه

ويلتصق بامرأته

ويكونان جسدًا واحدًا.

فالحب يشبه الموت. وكما يتمثل الموت لاحقًا (۳: ۱۹) في عملية العودة إلى الأصل، يتمثل الحب هنا في العودة إلى وحدة الجسد. ولكن الحب ليس الموت، إذ إن القياس لا يعني التطابق. فالحب هذا ليس مميتًا، تتضمن الفكرة العناصر الآتية:

إن الرجل هو الذي ينضم إلى المرأة

إن الحب هو عملية رجوع إلى مرحلة سابقة (ولهذا استخدمت كلمة لذلك“)

يرد ذكر الوالدين

إن ابتداعالوالدين كنوع من الناس يتركه المرء ويذهب بعيدًا يُعَدُّ نتيجة منطقية لما حدث. فقد تَكوَّن زوجان عن طريق انفصال ما كان متحدًا، ولذلكفسوف يبقى لدى الرجل أبدًا شعور مقلق بالحنين إلى حالة الوحدة الأولية، حيث يظل السعى إلى الاتحاد ذاته كما يظل الانفصال الذي يليه ذاته. هنا يبدأ التاريخ. فالراوي يعمم ويتنبأ بالمستقبل وينظر إلى الماضي من موقع الحاضر؛ فهو باختصار يؤسس التسلسل الزمني.

ويقوم الرجل، بوصفه الذي يتحدث ويخلق التاريخ وتتابع الأجيال، بالخطوة التالية في خلق الشخصية الأدبية. ولأنه قد ترقى للتو من مخلوق لا متمايز ولا جنسي إلى رجل يمثل كل الرجال فإنه لا يزال يفتقر إلى اسم علم وفردية. ولكنه الآن يشغل الموقع التاريخي للابن الذي هو في طريقه لكي يصبح أبًا.

يمكننا الآن العودة إلى افتراض بولسالأول. وعلى الرغم من أنه يمكن افتراض أن وجود المرأة، لو أننا نظرنا بشكل مدقق، قد سبق وجود الرجل، وذلك لأن الإشارة إليها قد سبقت الإشارة إلى الرجل، فإن ذلك الافتراض لا يمثل أهمية لي هنا، إذ لا تعلِّق بلاغيات الخلق في الكتاب المقدس أهمية كبيرة على الأسبقية الزمنية. علاوة على ذلك، فإن ادعاًء كهذا يعتمد على أسبقية العلامات على الموضوع، وهو ما لا يتسق مع بلاغيات الخلق كما يقدمها لنا سفر التكوين. فالخلق عملية لفظية، ولهذا يصبح لموضع الدلالة سلطة مماثلة لسلطة الخالق. ونجد في الحالة التي ندرسها هنا أنه بينما قد تكون المرأة أول شخصية مدلول عليها، فإن الرجل هو أول ذات دالة. وإذا كانت المرأة قد سبقت الرجل في التمايز، فإن الرجل هو الأسبق في إدراك الاختلاف الجنسي. وأود هنا أن أطرح فكرة أن توزيع الأدوار العلاماتية هذا يشير إلى مساواة جدلية بين العلامة والموضوع، حيث يشكل كل منهما الآخر. إذن فقد خُلق الرجل والمرأة في الوقت نفسه.

ويفند هذا الطرح الطروح الأخرى التي تفترض وجود تناقض بين روايتي الخلق. عادة ما نجد في الكتاب المقدس روايتين تتناقضان من الناحية الواقعية ولكن تكمل إحداهما الأخرى من الناحية الهرمنوطيقية. نجد روبرت ألتر (۱۹۸۱، ١٤٢٤٣) على سبيل المثال يميز بين روایتی الخلق: الواقعية (٢: ٤ ب٢٥) واللاهوتية (١٢: ٤ أ)، وذلك بناًء على النتائج اللغوية السائدة. ویری روبرت التر أن المحررين قد افترضوا أن الله خلق الرجل والمرأة متساويين (تك 1) ولكنهم رأوا في الوقت نفسه غياب تلك المساواة في المجتمع، وعليه فقد أدخلوا الرواية المنحازة جنسيًاالتي نجدها في سفر التكوين 2. وتتضح لنا وجاهة الفكرة التي يطرحها روبرت ألتر لو أننا أخذنا في الحسبان أن التفسيرات اللاحقة قد جعلت من سفر التكوين 2 تلك الرواية المنحازة جنسيًا التي آل إليها، وهو ما قد أدى إلى ضرورة تفسير واستبعاد الرواية التي تشير إلى المساواة في الحقوق“. ولكن الرواية تعود وتظهر مرة أخرى في (5: ١٢) مما يجعل من قمعها مشكلة. ولم يكن ثمة داع لدفاع ألتر عن ترابط سفر التكوين المنطقي والمنطوي على مفارقة. فالنص كما هو، لا يتناقض على الإطلاق مع سفر التكوين 1، إذ يقدم في الواقع سردًا محددًا للأحداث المتضمنة في فكرة ذكرًا وأنثى خلقهم“. وتجعل تلك العبارة المبنية على المجاز المرسل من سفر التكوين ۱۲ قصة الخلق مترابطة منطقيًا. وفي رأيي أن الترابط المنطقي ليس تصنيفًا أنطولوجيًا أو بناًء أدبيًا. العكس هو الصحيح. فأنا أعتبره من وسائل القراءة، وبناًء عليه فهو أيضًا وسيلة لفهم سياسة المحور (لمطالعة مناقشة حول هذه النقطة، يمكن الرجوع إلى بال (Bal, 1988) وأري في الحالة التي أتحدث عنها هنا أن المؤلفين اللاحقين authers [لمراجعة تعليقي على استخدام كلمات”author”، “editor”، “Writer” في الإشارة إلى الكتاب المقدس، انظري مقدمة المترجمة. (المترجمة)] للرواية الأولى اللاحقة لم يكونوا يقدمون فكرة لاهوتية مضادة للفكرة الثانية والأقدم، إذ لم يكونوا سوى قراء جيدين، كتبوا عملاً يكمل بأثر رجعي الطرح المتخيل لذلك التصور للخلق عن طريق التمايز. سنرى الآن أن المبدأ نفسه في التأليف يجعل من سفر التكوين 1-3، وبالتبعية الكتاب المقدس ككل، قصة مترابطة منطقيًا. وسنجد سفر التكوين 3 يقدم تفصيلاً عرضيًا للمعاني الأخرى المتضمنة في تك ۱: ۲۷: لقد خلقهما على صورته. وذلك قصة أخرى.

في الواقعة التالية يشكل كل من الوجود والحدث أحدهما الآخر. ونرى في تلك الواقعة أن السمات تستمد من الحدث، كما أن الحدث يفترض أن يكون مبنيًا على السمات.

المرحلة الأولى: الوعي بالجسد

يمكن اعتبار آخر جملة في سفر التكوين ٢ نقطة تحول بين الوجود اللا تاريخي وبداية التاريخ: الآن كان كلاهما عريانين، الآدم وامرأته، وهما لا يخجلان.” تظهر لنا هنا أهمية التصاحب، بغض النظر عما إذا كان المشار إليهم بمحرری يهوه هم الذين دمجوا قصتين مختلفتين في الأساس وهما قصتي الخلق والسقوط. ولكن تبقى قصة السقوط قصة مختلفة، وهي تمثل مرحلة مختلفة في تكَشُّف السرد بوصفه نوعًا أدبيًا.

وتقدم لنا تلك الجملة معلومات تمهد الطريق للأحداث التالية، فهي تعلن عن الطبيعة المزدوجة للشخصيات المستقبلية، كما ترسم خريطة الحقل الدلالي في القصة: العرى مقابل الخجل.وسوف يتكشف الحقل الدلالي على النحو الآتي:

لقد كانت الصفة عريانقبل السقوط نقيضًا للصفة خجلان“.، فقد كانا لا يعرفان الخجل وهما عرايا. أي أن عريان” <-> خجلان. فهما مثل الأطفال الأبرياء. وعليه يتحرك المعنى المتضمن على أساس أن

وتأتي قصة التطور من مرحلة عدم الوعي بالجسد إلى الوعي به، بعد قصة خلق الجسد وبعد قصة الأجساد اللمتمايزة، لتمثل أول تصوير للمشاعر مبنى على نظرة داخلية“. وهي بذلك تمثل خطوة على طريق بناء الشخصية. ولكن الوعي والخجل ليسا مرتبطين مباشرة. يرد أول ذكر للحجل على الرغم من التباسه على لسان الرجل في 3: 10، عندما يجيب على يهوه بأنهما اختبئا لأنهما كانا عريانين. إن ظهور يهوه، وليس العرى في حد ذاته، هو الذي يولد الخجل. في الحقيقة إن المواجهة بين الشخصيات هي التي تؤسس ذلك الاضطراب الدلالي القوى. فالمواجهة هي في الحقيقة الجانب السردي الذي تكشف عنه تلك الواقعة.

المرحلة الثانية: إمكان الحدث

إن الحية هي أول الكائنات التي تظهر في هذه المرحلة في تطور الشخصيات. وهي مخلوق ذو أوجه متعددة ومتضاربة، سواء من الناحية الأنطولوجية أو الأخلاقية أو السردية. فهي حيوان ولكنها تتكلم، وهي أول كائن يواجه كائنًا آخر وهو المرأة المتمايزة. ولكنها تستخدم الفعل في صيغة الجمع، وعليه فهي تخاطب الرجل أيضًا. وعند هذه المرحلة لا تتعدى المرأة والحية كونهما تعميمان على نوع أو جنس، ولكن المواجهة (Barthes, 1977) تقربهما خطوة نحو مرتبة الشخصية، وتصقل الطبيعة السردية للحكاية. إذن، الحية هي أول شخصية ممكنة تفتح الباب لإمكان الحدث في القصة (Bermond, 1972)

إن الحيلة هي الملمح الرئيس للحية. وهو ملمح يتميز بالتأرجح و التضارب من الناحية الأخلاقية. فهو ينطوي على مهارة وليس بالضرورة على خداع. وينم حديث الحية عن هذا الملمح: “أحقا قال الله لا تأكلا من كل شجر الجنة؟تقدم الحية النهي الذي أصدره الله في صورة نهی استبدادی، محرضة بذلك على التمرد. ولكن ليس من السهل اعتبار كلمة كلمجرد كذبة وبالتالي التخلص منها. فقد قال يهوه في ٢: ١٦١٧ ما يبدو أنه عكس ذلك: كان مسموحًا للآدم أن يأكل من كل الأشجار عدا واحدة. فلنر إذن أي الاشجار يتبقى بعد ذلك.

المرحلة الثالثة: الاختيار

تقدم ۲: ۹ وصفًا للأشجار المتاحة: فإن يهوه قد أنبت (…) من الأرض كل شجرة شهية للنظر وجيدة للأكل، مدخلاً بذلك حاستي النظر والتذوق. ويقدم لنا النص بعد ذلك ما يبدو وكأنه وصفًا لتلك الأشجار السارة: شجرة الحياة في وسط الجنة، وشجرة معرفة الخير والشر“. هل تتكون مجموعة كل شجرةمن نوعين فقط أم من نوع واحد؟ يجعلنا ذلك نفهم لماذا أثارت تلك الفقرة الكثير من الجدل. تفترض دراسة سي فسترمان (C. Westermann, 1966) وجود شجرة واحدة يرد وصفها مرتين، لأن الفقرة هنا تمزج روايتين مختلفتين للقصة نفسها. وعليه، يكون معنى العبارة شجرة الحياةأي شجرة المعرفة، ويعضد الرد الذي ترده المرأة على الحية ذلك الفهم. فهي تصف الشجرة المحرمة، شجرة المعرفة، بأنها الشجرة التي في وسط الحديقة“. يمكن أيضًا أن نجد ما يعزز هذا التفسير من خارج النص، وبصفة خاصة في تراث الأساطير، حيث ترد في كثير من الأساطير شجرة الحياة التي تحرسها الحية (Eliade, 1964, 310-324). وبالرغم من ذلك ليس لكلا الطرحين أهمية فيما يتعلق بتشكيل الأسطورة المبنية على هذا النص. فالقضية التي تستحق الالتفات إليها في هذا التفسير في العلاقة بين الحياةو معرفة الخير والشر“. فإذا كانت المعرفة المشار إليها تتضمن المعرفة الجنسية، وهو افتراض وجيه، فهنا تتضح القضية بجلاء. وهنا يصبح الوصفان مترادفين، وتصبح للحياة أو الخلود قيمة المعرفة نفسها. ونجد في دراسة يارش أوستن وديفد موير (۱۹۸۲، ۷۲) أن الخاصتين الأخلاقيتين الخير والشرلعلهما أضيفتا فيما بعد، مما قد يعني أن الحكم الأخلاقي على الجنسانية قد ابتدع فيما بعد.

أما الاحتمال الآخر المتمثل في وجود شجرتين محددتين فيستقى قوته من نهاية القصة. يغضب يهوه لأن الرجل قد حصل على المعرفة التي تقربه من المكانة الإلهية، فيطرده من الجنة ويقيم حارسًا على شجرة الحياة. وهنا يصبح فهم المرأة في 3: ۲۳ خاطئًا. وكثيرًا ما اتُخذ ذلك الخطأ المزعوم دليلاً على غباء المرأة، وهي سمة يتوق الكثيرون إلى إلصاقها بها، ولكنه لا يفسر النقاش الذي يدور بينها وبين الحية، والذي يتمركز حول المعرفة الربانية وليس الحياة. كما يتساءل المرء عن سبب اهتمام يهوه المفاجئ بشجرة لم تكن حتى تلك اللحظة من الممنوعات.

هناك احتمال ثالث. فقد يكون هناك بالفعل نوعان من الأشجار، واحدة تهب الخلود والثانية تعطى المعرفة. وإذا كانت تلك المعرفة تتضمن المعرفة الجنسية، كما ينم استخدام فعل (yada) بوصفه مرادفًا للفعل يعرفوالفعل يمارس الجنسفي آن واحد، فهي بالفعل معرفة تهب الخلود لا للفرد فحسب بل للنوع كله. وهكذا، يغدو خلط المرأة بين الشجرتين مفهومًا، بل ويدل على حكمة شديدة. وهكذا، أجدني أختلف مع فييلس تربل في اقتراحها حلاً لاهوتيًا مغرقًا في السهولة لتفسير الفارق بين أوصاف الشجرة الثلاثة (۲: ۱۷؛ ۳: 3؛ ۳: ۱۱)، فهي ترى تلك الأوصاف الثلاثة دليلاً على أن الشخصية غير ذات أهمية: ما الشجرة إلا شجرة الأمر الإلهي. ولكنني أرى أن الروايات الثلاث تحدد القضية الأساسية تحديدًا جدليًا ومتناميًا. ففي (۲: ۱۷) تتمثل القضية في المعرفة، بما فيها المعرفة الجنسية وتبعاتها على الحياة، في حين ترد في 3: 3 فكرة الموت على أنه وجه الحياة الآخر. أما في (۳: ۱۱) فتقود المعصية المحضة، أو بمنظور آخر التحرر من ذلك الأمر الأعمى، إلى الانتقال من حالة إلى أخرى. أي أنه بمجرد أن تصبح فكرة الجنسانية مقبولة، يصبح بإمكان الإنسانية التخلي عن فكرة الخلود المستحيلة.

إذن، لا يتعارض القول التالي للحية مع الطرح الذي يسوقه يهوه لتبرير النهي الذي أصدره .ففي ۲: 17 يقول يهوه يوم تأكل منها موتًا تموت، بينما ترد الحية سريعًا لن تموتا (…) تنفتح أعينكما وتكونان كالله عارفين الخير والشر.” حقًا، تؤدي المعرفة الجنسية، سواء كانت ذات صبغة أخلاقية أم لا، إلى تفتح عينيكفتجعلك تموت ولا تموت. فهي تجعلك تحيا في النسل الذي تسمح لك بإنجابه، وهي تخلق التاريخ المتمثل في تعاقب الأجيال الزمني في الحياة والموت، وهو الأمر الذي تمرد عليه يهوذا (Judah). هناك كذلك فرأت المرأة أن الشجرة جيدة“. يحمل فعل يريفي النصوص اليهودية المقدسة إيحاءات قوية بفكرة الحقيقة“. أن ترى هو أن تمتلك رؤية نافذة في جوهر الأشياء، فيما وراء المظاهر الزائفة أو المعلومات الناقصة. وهي شجرة تشتهي لأنها تجعل الانسان حكيمًا، ولا يمكن أن تكون الحكمة المشار إليها سوى قبول وضع الإنسان، بما فيه الموت واستمرارية التاريخ التي يتيحها الموت. فما الملامح التي يخلعها ذلك على المرأة؟ نحن هنا بعيدون كل البعد عن شهية المعدة الحمقاء التي تلام عليها تلك المرأة في معظم الأحيان. على العكس فهي منفتحة على الواقع وعلى استعداد لأن تتبناه.

وعلى الرغم من أن فكرة دلالة الشجرة الرمزية لا ترتبط ارتباطًا قويًا بالموضوعات التي يناقشها هذا الفصل، فإن تحليلها من الناحية الأنثروبولوجية في سياق المحظورات (taboos ) قبل التاريخية قد يوضح لنا بعض الأمور. هنا فقط تتضح لنا أهمية الأوصاف المختلفة للشجرة. تقدم لنا إفلين ريد (Evelyn Reed, 1975) دراسة الأصول الطوطمية (totemism) تتضمن محاذير متصلة بالجنس والطعام. ويعتمد المبدأ الأساس لهذا النسق على فكرة أنه ما من تمييز بين الدافعين، مما يفسر الفكرة الغريبة التي تجعل الطعام يرمزإلى النهي عن الشجرة والذي يضفي صبغة جنسية عليه. وبحسب ما تراه إفلين ريد بعد ذلك طرحًا خاطئًا للقضية. فالشجرة، أو بمعنى أقرب الفاكهة التي تنبت منها، لا تمثل أو ترمز إلى الجنسانية بل تتضمنها. فالطعام والجنسانية كلاهما جانبان من جوانب الحياة وإمكانية المحافظة على استمراريتها. وكلاهما ينبغي حمايته بآلية الطوطمة من الاستخدام الخاطئ الذي قد يهدد حياته. ويشار إلى معرفتنا بطرق تجنب مثل تلك الأمثلة على ذلك الاستخدام الخاطئ بمعرفة الخير والشر“.

وهنا نتساءل، أي استخدام خاطئ تساعدنا هذه المعرفة على تجنبه؟ ترى إفلين ريد (Reed, 1975, 279 Evelyn) أن النهي في أساسه يمثل حظرًا على أكل لحوم البشر. وقد تشكل هذه الفكرة صدمة لمن لا يفهمون طبيعة أكل لحوم البشر وارتباطها بالمحاذير الجنسية. فأكل لحوم البشر هو ببساطة غياب التمايز. فعندما تأكل نوعك نفسه (أو تتزاوج مع أقاربك) تهدد النوع لأن ذلك الفعل يستهلكه. ويمكن افتراض أن الإنسان البدائي لم يكن يستطيع التمييز بين النوع الانساني والأنواع الحيوانية (الأخرى). كل التمييز الذي كان يقدر عليه كان التمييز بين عشيرته والكائنات الأخرى. وهكذا، فقد يساعده وضع حظر على حيوان معين في أن يتعلم التمييز. لن أتوقف أكثر من ذلك عند نظرية إفلين ريد العامة، فأيًا كان رأيي في قيمتها فإنها تبقى تحزيرية للغاية. ولكن يبقى أحد جوانبها مألوفًا لدينا، وهو إشكالية الاختلاف.

ويبقى فهم إفلين ريد للنهي في جنة عدن ناقصًا، فهو يفسر النهي نفسه في حين لا يفسر المعصية. وهنا، تبرز أهمية نظرية الطوطمية (التي أوردتها بايجاز شديد) في كونها تتسع لتأويلات مختلفة للشجرة (الأشجار)، إلى جانب مغزى فكرة المعصية. وقد يؤدي التفاتنا إلى التفرقة بين كل شجرةوأي شجرة بعينها إلى إذابة التوتر بين كل شجرةومجموعة الأشجار المتواضعة التي يرد وصفها في ۲: ۹). فالفكرة العامة هنا هي أنه بمجرد أن يعرف البشر كيف يفرقون، لن يأكلوا (أو يلمسوا، كما تضيف المرأة في إضافة مهمة) كل ما هو ضار. ولكننا يجب بعد ذلك أن نميز بين نظرة يهوه ونظرة المرأة على أساس علاقة كل منهما بالنوع البشري. فبالنظر إلى عملية التعلم تلك، فإن المُعلم يهوه قد نهى عن الشجرة حتى يتعلم البشر التمييز. وقد نهي بشكل محدد عن شجرة المعرفة. لماذا بالتحديد تلك شجرة؟ لأنها ستجعلهم مثل الله. إنها مسألة تكثيف للرؤية. يرى الله أن أكل المادة الإلهية سيكون مساويًا لأكل نوعك نفسه. أما بالنسبة إلى المرأة فإن تلك الحجة لا يعتد بها لأن البشر لم يصبحوا إلهيين بعد. فالمعرفة هي التي جعلتهم إلهيين لأنها تعنى بالتحديد القدرة على التمييز وبالتالي تجنب أكل من هم من النوع نفسه. ويمثل السعي وراء امتلاك تلك القدرة أو تلك الحكمة المذكورة في (3: 7) نجاحًا لتعاليم يهوه. فالنهي ذاته ينم عن إمكان المعصية، وهي معصية لها دوافعها التي تبررها، إذ إنها مبنية على القدرة ذاتها على التمييز التي تشكل لب الموضوع.

ولكن إن كانت الحية صادقة في وعدها بالحكمة بدلاً من الموت فهل يمكن اعتبار يهوه مخطئًا؟ يستند ذلك الفهم إلى المساواة بين موقعي الحية ويهوه حيال الحقيقة. فكلاهما ذو حيلة يحتفظ ببعض المعلومات ولكن لا يكذب. وفي حين يركز يهوه على جانب واحد من الفكرة وهو الفنائية، تركز الحية على الجانب الآخر للفكرة نفسها؛ ألا وهو المعرفة. وكلاهما يتعاونان في إيقاع البشر في حيلة قبول ما ليس منه بد: أي في جعلهم يتخلون عن وهمهم الطفولي بالخلود الشخصي. أما المرأة فتتخذ قرارها الخاص بعد أن تفسر كلمات اللاعبين الأساسيين بما يفيد الحياة الانسانية. وإذا كانت الحية، التي تمثل الخلود لقدرتها على تجديد جلدها، هي معاونة الرب بوصفها حارسًا على شجرة الحياة كما تصورها العديد من أساطير الشرق الأوسط، فهي هنا تؤدي عملها بامتياز. ويمكننا أيضًا رؤية الحية بلسانها المشفوق، والتي ارتقت فيما بعد لتصبح التنين بلسانه اللهبي، على أنها هي نفسها الكيروبيم ذي السيف اللهبي الوارد ذكره في تك 3: ٢٤، إذ أن لها سمات مشابهة ووظيفة مشابهة.

وتعدَّ هذه الفقرة من أكثر الفقرات إشكالية. فقد غطت الاعتبارات اللاهوتية على القضية الأنثروبولوجية لوقت طويل، مما جعل فكرة قبول مكانة الله الأدبية ضربًا من المستحيل. نجد على سبيل المثال أن مشاعر فيليس تربل الدينية تبدأ من هنا وللأسف، وبالرغم من مقصدها النسوي الأصلي، في المغالاة في تقدير شخصية يهوه. فهي لا تأخذ مكانة يهوه الأدبية (سواء كان مذكرًا أو مؤنثًا) مأخذ الجد، حيث تفترض مثلا أن اعتراف بهوه بصورة الزوجين البشريين الإلهية (۳: ٢٢) هي قلب ساخر لما يعتقده بالفعل (۱۹۷۸، 136). وقد يحافظ ذلك على مقامته الربانية العليا، ولكنه لا يفسر خوفه وموقفه الدفاعي في (۳: ٢٢٢٤). ويكمن خطأ فيليس تربل في أنها تخرج يهوه من إطار العلاقات الدلالية ذات الطابع البنائي المتبادل التي نجدها قائمة بين كل الشخصيات، إذ يعيب مبدأ القياس عنها غيابًا تامًا.

المرحلة الرابعة: الحدث

وهكذا، يقدم لنا أول حدث سردي يقع في الأسطورة تعريفًا لكل من الحية والشجرة والإله، فيصبح لكل من الشجرة والحية والله وظائف سردية متساوية: الشجرة مصدر الإغواء، والحية في صورة المُغوى الفعلي الأول، والله في صورة الناهي عن الفعل. وهم بذلك يشغلون معًا موقع المحرك الفاعلي. إذن، يلعب ثلاثتهم في القصة أدوارًا ثانوية، ولكنها أدوار لا يمكن الاستغناء عنها. وبذلك الفعل الذي يتشكل موقعهم حياله تستحضر المرأة منزلتهم كشخصيات مرتبطة بنائيًا. فما الذي يحدث؟

تدرك المرأة خلق الإنسانية على صورة الله إدراكًا ينطوي على مفارقة، كما تدرك بالمنطق نفسه خلق الشخصية الأدبية التي يُخلق فيها الله على صورة الرجل. فقد صورت لها الحية قدرة الشجرة السحرية متمثلة أساسًا في الشبه بالله. ويشمل هذا الشبه حرية الإرادة في الفعل والمتضمنة في النهي ذاته. ويمكن الادعاء بأن الغيرة من أي احتمال للتكافؤ هي التي دفعت يهوه إلى إصدار التحريم. ويدل رد فعل يهوه اللاحق على أن الحية كانت على حق. ففي الحكاية التي يكتسب فيها المؤلف طبيعته الدرامية نراه وشخصياته في صورة خصوم متكافئين. تعزز المرأة في الوقت نفسه مكانها في السرد، إذ يمثل عصيانها أول فعل مستقل، وهو ما يمنحها القوة كشخصية. فهي لا تكتفي بقدرتها على أن تجعل الرجل يأكل، وبالتبعية أن تجعله يعرف(ها) ويرتكب المعصية بدوره، ولكنها أيضًا تجعل من الله القادر الذي يظهر في سفر التكوين 1 شخصية متساوية مع الآخرين في المكانة والملامح والمشاعر. من الآن فصاعدًا، يصبح لتلك الروح الخالقة (تك 1: ۲) جسد يسعى في طلب نضارة الجنة، يتمشى فيها ويبحث عن سكانها الآخرين، ويصبح له شخصية تجعله يغضب، بل وفيما بعد يخاف (۳: ۲۲). لم يعد في مكانة تجعله يأخذويضعالأشياء البشرية أينما يريد. يتحول الكلام إلى حوار، والحدث إلى مواجهة. وتصبح العلاقة بينهم الآن علاقة أفقية في المقام الأول، سواء على مستوى قدرة الفاعلية أو على مستوى المكان. كان ذلك تحولاً محتومًا. فقد حالت السلطة الحصرية في سفر التكوين 1 دون التحول إلى السرد. وكان الفعل الوحيد المتمثل هناك هو إعطاء الفوضى شكلاً علاماتيًا. أما المشاركة في السلطة والمتضمنة في خلق الذكر والأنثى على صورة الله فيؤسس للمواجهة والصراع والأحداث والزمن، أي التاريخ والسرد.

في المرحلة التالية والأخيرة، يأتي خلع اسم العلم، إذ أصبح ممكنًا بعد أن حدث خلع السمات المحددّة والمحدِّدة، وكما رأينا، فقد أسس الرجل والمرأة شبكة بنائية من المواقع الفاعلية كانت المرأة فيها الفاعلة الرئيسة نتيجة لمعصيتهما نهى يهوه. وهي لم تقترف خطيئة. كل ما فعلته هو اختيار الواقع. وهكذا، لا يتضح وجوب اعتبار رد فعل يهوه عقابًا، بل يبدو من الأوجه اعتباره وصفًا واضحًا لتبعات الخيار الإنساني، أي تصويرًا آخر لواقع الحياة الإنسانية.

وتتكون تلك الواقعة من سلسلة من الاستجوايات. يضيف الاستجواب بوصفه الوجه الآخر الكلام ملمحًا آخر في بناء الشخصية. أن يهوه باستجوابه لهم يعترف بمسئولية كل فاعل/ة ومن ثم بموقعه/ا كشخصية. يبدأ يهوه بتوجيه الكلام إلى الرجل. ويفضح التعبير عن الخجل موقف الرجل: من أعلمك أنك عريان؟لقد كانت أولى عواقب اكتساب المعرفة هي بالفعل الوعي بالعرى. نجد الرجل هنا يشارك مشاركة كاملة في عملية السرد، إذ نجده يتحدث ويوجَّه إليه الحديث، يجعل (خجله) في بؤرة الرؤية كما يصبح هو نفسه في بؤرة الرؤية، كما أنه يقوم بالفعل. يحاول الرجل أن يلوم كلاً من المرأة ويهوه الذي أعطاه إياها. ثم يلتفت يهوه إلى المرأة التي تلوم بدورها الحية. ثم يأتي الدور على الحية لتكون المخاطب، ولكن ليس بوصفها ذاتًا فاعلة كاملة قادرة على الكلام. هنا، يلعنها يهوه على الفور دون أن يسأل أي سؤال، محددًا بذلك موقعها كشخصية. فهي تُردُّ إلى حالتها كحيوان أعجم. أما محتوى اللعنة فهو ببساطة الصورة الواقعية التي تلي ذلك والتي ترى فيها الأفاعي حيوانات زاحفة وخطيرة.

أما المرأة فلا يوجَّه لها اللعن، ولا نرى حتى الكلمات التي يوجهها لها يهوه هنا نتاجًا لما فعلته، ناهيك عن أن تكون عقابًا. وهنا، يبدو لنا مرة أخرى أن ما نراه يمثل رسمًا صادقًا للواقع. ولكن ما مدى واقعية الواقع؟

تكثيرًا أكثَّرُ أتعاب حبلك

وبالوجع تلدين أولادًا

وإلى رجلك [آيش] يكون اشتياقك

وهو يسود عليك. (3: 16)

تبدو كلمة أكثرغريبة نوعًا ما. فحتى الآن لم يولد أطفال. يشير استخدام كلمة أتعاب” labor)) التي تتكرر في الخطاب الموجه إلى الرجل إلى أن ذلك يعد تقسيمًا للعمل بين الجنسين: سيعمل الرجل من أجل توفير الطعام والمرأة من أجل الأطفال، وبهذا تقدم هذه السطور تأسيسًا للأدوار الجنسية (3: 16-19). ويمثل الجزء الثاني من هذا الخطاب مصدرًا لقلق النسويات، إذ يغرى بالادعاء بأن الله القادر الداعي إلى المساواة في الحقوق في 1: ٢٧ قد تحول هنا إلى شخصية رجل عادي، يتأثر هو نفسه بظهور الأدوار الجنسية التي يمارسها بأفعاله. يبقى عنصر آخر من عناصر المفاجأة. أن علاقة الرغبة، التي كان من المتوقع أن يرد ذكرها أولاً بوصفها شرطًا مسبقًا للحمل، يأتي ذكرها بعد ذكر آلام الولادة، التي هي عاقبة الحمل. ويشير ذلك إلى أن علاقة التسيد تأتي مجرد فكرة تالية، تُعَدُّ أقل في الأهمية، بل قد لا تكون مهلكة مثل آلام الولادة. إذن، فسوف يتبنى التسلسل التراتبي (hierarchy) للسلطة على درجة مختلفة من الواقعية. تغطى تلك الفكرة قليلاً على صورة يهوه كشخصية ذكورية.

وترد في دراسة يارش أوستن وديف موير (۱۹۸۲، ۸۳) فكرة أقوى تأثيرًا، إذ يلفتان الانتباه إلى (تك 4: 7)، ففي سياق مختلف تمامًا، وبينما يشرح يهوه لقايين (Cain) سبب رفض القربان الذي قدمه، نجدنا فجأة نقرأ:

و إليك اشتياقها

وأنت تسود عليها.

لا تحمل العبارة أي معنى في سياق 4: 7، ولهذا يطرح المؤلفان فكرة أن تلك العبارة كانت في الأساس جزءًا من خطاب يهوه للمرأة في تك 3: 16-19، وأن المحررين اللاحقين لم يلحظوا منطق التبادلية، إذ أن الواقع لم يكن يقدم نموذجًا للمساواة في الحقوق بين الرجل والمرأة ، ولهذا فقد غيروا مكان السطور.

تلك فكرة جذابة، إذ أنها تعضد أحد الطروح التي تقاوم تفسيرات النص المنحازة ضد المرأة. وفي الوقت نفسه نجد طرحين من داخل النص ذاته يؤيدان هذه الفكرة، حتى ولو كانا غير مكتملين. أولاً، عَبَّرَ الرجل بوضوح في سياق احتفاله بالحب عن رغبة ذكورية (٢: ٢٤)، ولهذا يبدو من البديهي ضرورة أن يؤكد يهوه هنا الجانب السلبي لتلك الرغبة، مثلما قلب العناية بالأرض وحرثها إلى عمل شاق. وثانيًا، يتضح بجلاء أن يهوه يقسو على الرجل أكثر مما يقسو على المرأة. فهو يلومه مباشرة ويلعنه على نحو غير مباشر بأن يلعن الأرض التي أخذ منها والتي يعود إليها. وهكذا، يمكن القول بأنه ينتوي جعل الرجل تابعًا هو الآخر. وهكذا، يمكن النظر إلى تغيير مكان السطور على أنه (Entstellung)، أي تشويه وتبديل في آن واحد Weber, 1982))

وحتى لو أثرت تلك التفصيلة اللغوية على تقييمنا لنكهة المكون الأسطوري الأساسي الأيديولوجية الذي تتناوله هنا فهي ولا شك قليلة الأهمية لو قارناها بالمنحى الرئيس الذي تمثله. فلو استخدمنا منطقًا سرديًا يتلاءم مع تلك القصص، نجد أن يهوه قد نفذ المرحلة التالية في تكوين الشخصيات بأن خلع عليها حزمة من السمات تحدد مدى أفعالها المستقبلية وتقصر الاحتمالات المتاحة أمامهم، مكملاً بذلك مواقعهم الفاعلة. وهو يفعل ذلك بطريقة لا تجعلنا نشعر بالامتنتان له، إذ نجده يثبِّت الأدوار الجنسية. وبوصفه ذاتًا أيديولوجية فاعلة، يخلق يهوه تلك الهويات للرجل والمرأة، أي القصص التي تمثل القهر، والتي تدَّعي التحليلات النقدية الحديثة مجابهتها (هيث ، ۱۹۸۲ ، 168)

لقد أصبحت العلاقات بين الجنسين ثابتة تبعًا لمحاور الخصوبة والتسلط الدلالية، ولهذا فهي علاقات اعتباطية. وبحسب قول يهوه، فالخصوبة ينتج عنها حتمًا التعب، كما يفترض التسلط الرغبة كشرط مسبق له. وبالرغم من أن علم الطب الحديث ما زال يؤمن بصدق فكرة حتمية آلام الولادة، فإن العلاقة بين الرغبة والتسلط تبدو بالكاد طبيعية“. ترسى السلطة والتسلط القواعد لتنظيم الحياة الاجتماعية، وعلى مستوى أضيق فإن توزيع الأدوار في عملية التكاثر، الذي يجعل المرأة تنتج أطفالاً والرجل طعامًا، هو الذي يخلق تنظيم العمل.

وإذا عدنا بالنظر إلى خلق الفرق بين الجنسين فسوف نفاجأ بأن الفرق هناك قد تأسس على هيئة تصنيف فارغ و علاقاتي محض، تقريبًا على طريقة الثنائيات المتعارضة التي لا يسبقها معنى عند دي سوسير (de Saussure) . لا توصف المرأة ولا الرجل بأنهما متطابقان تشريحيًا. إننا هنا بعيدون كل البعد عن مفهوم الجنسانية المعاصر الذي يقدمهما في صورة اختلاف تشریحي: “أننا نشير في ثقافتنا إلى التقسيم التصنيفي المبنى على التشريح بوصفه تقسیمًا جنسيًا، ذلك أن التشريح قد أصبح مرادفًا للهوية والنشاط الجنسيين” (كاواردCoward))، ۱۹۸۲، ۲۸۰). وعندما يذكر يهوه آلام الولادة والرغبة يتنبأ بذلك التطور الارتقائي. وتشهد هذه الواقعةولأول مرة مجيء الشخصيات إلى الوجود بعد أن وهبوا الملامح الدلالية المطلوبة“. بمعنى آخر، فقد تحددت أهمية ملامحهم. ولو كان النص يحمل أيديولوجية منحازة جنسيًا فإننا لا نستطيع الإشارة اليها إلا عندما نصل إلى هذه الفقرة.

والآن، وبعد أن اكتملت الشخصيات، أصبح من الممكن أن تتخذ العلامة المميزة التي سوف تمكننا من تذكرها: اسم العلم. وهنا، نرى مرة أخرى أن المرأة هي الشخصية الأولى والوحيدة التي يطلع عليها وبوضوح اسم. ومرة أخرى، يعادل أسبقيتها في تشكيل شخصيتها أن يكون الرجل هو الفاعل الأول والوحيد لفعل التسمية. وكما رأينا فقد استخدم الراوي كلمة الآدم ككلمة بديهية، في حين أشير إلى الحية باسمها النوعي فقط، فيما كان كل من الرجل والمرأة/ آيش وآيشة is, issa)) مستخدمين في التسيير الجنسي. يُخلع على المرأة بإجلال اسم حواء (hawwa) هو اسم يعنى كما يقول رفيقها أم كل حي، وذلك بالنظر إلى دورها الجنسي والاجتماعي المستقبلي. وكأسماء كثيرة في الكتاب المقدس نجد أن الاسم له باعث، ولهذا فهو اسم وصفي. ويحدد الرجل الشخصية أكثر بأن يعطيها ذلك الاسم على وجه التحديد: إذن، تسجن حواء داخل الأمومة، الأمر الذي لا يترك أية فرصة للانجذاب الجنسي الذي جرى الاحتفال به في ۲: ۲۳ و٢٤

يأتی رد فعل بولسعلى هذا اللقب التكريمي المثير الشكوك عنيفًا ومن ثم مريبًا. ويبدو لنا بالفعل أن نهي بولسالنساء عن القيام بالتعليم يأتي بوصفه رد فعل على تلك الوظيفة الأمومية المدمغة في اسم العلم. وفي الوقت ذاته يتناقض التصاحب بين الجسد الأدنى والدونية الأخلاقية مع الأمومة: يقول بولسفي (1تي 2: 15) “ولكنها ستخلص بولادة الأولاد“. وهنا نتساءل: هل تستحق النساء الاحتقار رغمًا عن أمومتهن أم بسبب تلك الأمومة؟ تأخذ الأخلاقيات المسيحية بالتفسير الأول، الذي يجد صدًى في ابتكار فكرة الأمومة الخالصةفي شخصية مريم، نقيضة حواء (anti-Eve) (حيث إن عذريتها بالطبع أسطورية؛ للمراجعة: (Warner, 1976 أما التفسير الثاني فيؤيده التحليل النفسي، والذي يؤكد المشكلات التي يفرض على الطفل/ة أن تخوضها، والعلاقة التي تربطه/ا أكثر مما ينبغي بالأم. وينم ابتداع مريم، الذي يعد ساديًا في المتطلبات التي يفرضها على النساء، عن تناقض يدل على استحالة تجاوز التوتر بين هذين الموقعين. فقد كان من المفترض أن تصحح مريم حواء، لأنها كانت الأم الخالصة، ولكن الفكرة ذاتها تنطوي على تناقض داخلي. فالمرأة فاسدة تبعًا لما تمليه صورتها، حتى بالرغم من أمومتها، لأنها لا تقدر على أن تقصر نفسها على تلك الأمومة. ولكن حواء التي يمكن اعتبارها نظيرًا سلبيًا لمريم بدأت في الواقع بداية أفضل. فقد كانت تمثل كلا من الجنسانية والأمومة. ولكن الرجل لا يقدِّر ذلك: فبعد احتفاله بالحب الذي قد ذهب طي النسيان نجده يشدد حصريًا على جانب المرأة الآخر: الأمومة. وهكذا، وبعد أن بدأت حواء مكتملة، يُحكم عليها الآن بأن تتنبأ بمريم.

ليست هذه نهاية المطاف. ففي السرد يمكن أن يرتبط اسم العلم بنائيًا بأسماء أخرى وليس فقط بملامح الشخصية ذاتها. وقد درس فيليب أمو (۱۹۸۳، 1۰۷-49) نظام أسماء الأعلام في روايات زولا (Zola) مبتدعًا مصطلح الفاعل الصوتي ((actant phonetique الذي يورد تعريفه على النحو الآتي: “مجموعة ثابتة من الفونيمات تتصف بتكرار ورودها وثباتهاوحدة أساسية تأخذ مكانها بين الدال العام للنص الذي اطلقت عليه فيما سبق شائعة /ات النص واسم العلم للشخصيةالفاعل” (۱۲۲). وتتمثل أهمية هذا المفهوم في جانبه البنائي، إذ يتجنب التفسيرات الاعتباطية الحمقاء التي تفسر ملامح صوتية منعزلة. وهو على أية حال إجراء لا يمكن أن نحلم به في حالة تناولنا نصوصًا مغرقة في القدم، ولكنه يلفت انتباهنا في الوقت نفسه إلى بناء العلاقات بين الشخصيات. ويبدو ذلك منطقيًا في حالة النصوص اليهودية المقدسة حيث نجد فعل التسمية ذا معنى، ويقصد به تأسيس العلاقة بين الشخصية وملامحها الرئيسة. وتشير التورية التي صادفناها من قبل وبخاصة في الآدم/ الآدمة إلى تلك العلاقة بين الشخصيات. أما الأرض فلا تدخل في تلك العلاقات لأنها لاشخصية (non-character)، وسوف يعود إليها بعد حين آدم الشخصية المستقبلية. وفي هذا المضمار تبرز حقيقتان: أن المرأة، بوصفها أول ممثل لكائن حي متمايز جنسيًا تعد ذروة الخلق، وأنها قد جُعلت خالقًا/ عائلاً لكل حي“. ويمكن أن يدل التشابه بين اسمها واسم يهوه على هاتين الحقيقتين، باعتبار ه و ” (HW) هذا الفاعل الصوتي الذي يضع الخالقين والمخلوقات المدلول عليهم بالفاعل الصوتي د م” (DM)، في موضع تقابل. ومرة أخرى لا يقصد بهذا الطرح الإيحاء بتفوق النساء، ولكنه قياس ظيفي بين القوتين الخلاقتين. وبإعطائه المرأة ذلك الاسم يصبح آدم الشخصية التي تؤكد تلك الوظيفة الخلاقة. نجد يهوه في سياق حديثه الموجَّه إلى الرجل، يأتي بدوره الضوء على علاقة أدم الوظيفية بالأرض، التي تظهر هنا بوصفها قوًة عدائية وقوة متعاطقة في آن واحد، مما يخلع عليها موقع الفاعل الخصم. وهكذا، يحدد الأربعة بعضهم البعض: يربط حواء بيهوه، ويهوه يربط آدم بالأرض. وهنا تكتمل الشخصيات: يتصل بعضهم بالبعض، يُمنحون ملامح، في حين تُسهِّل أسماؤهم عملية تذكرهم. وهكذا، وفي آخر القصة، تبدأ أسطورة حواء.

كما رأينا يعطى (فعل) التسمية وسمًا مميزًا للشخصية يؤدي إلى اكتمال تكوينها. ولا تنم حالتها المكتملة بالضرورة عن كل حالاتها السابقة. ترد في تلك 1-3 أدلة وافرة على عكس ذلك. وتمكّننا المواجهة بين الأسطورتين من فهم التأثير الأيديولوجي للشخصية المسماة.

يصف فيليب أمو (۱۹۸۳، ۱۰۷) تأثير اسم العلم على النحو الآتي:

تعنى دراسة الشخصية أن يكون في مقدورنا تسموتها. أما الفعل بالنسبة إلى الشخصية فيعني أيضًا وفي المقام الأول أن تتمكن من تحديد ومخاطبة ومناداة وتسمية الشخصيات الأخرى في السردية. وتعنى القراءة أن يكون في مقدورنا أن نثبت تركيزنا وذاكرتنا على نقاط ثابتة في النص، وهي أسماء الأعلام.

ومن الطريف أن هذه الملاحظات تدعم النتائج التي خلص إليها تحليلنا هذا. فمنح شخصية حواء اسمًا لم يكن ممكنًا أثناء دراسة النص إلا حينما نصل إلى النهاية. فلو كنا فعلنا ذلك لكنا قد شوهنا مقصد النص. وثانيًا، كانت التسمية امتياز الرجل، وهو ما يعزز مفارقة الخلق العلاماتي: فقد كان الرجل هو أول من منح الاسم، وهو ما بَعُدُّه أمو شرطًا للحدث. ولكن المرأة كانت أول من سُمِّىَ، ولهذا فقد كانت الشخصية الأخرىالتي لا غنى عنها إطلاقًا لوجود الرجل بوصفه شخصية. وهكذا، يخلق بعضهما البعض، مختلفين في فعل مختلف.

أما بالنسبة للجانب الثالث من مقولة أمو، فقد خلق الظهور البطيء لاسم العلم مشكلة خطيرة في القراءة، حتمت على القراء تبني المغالطة الاستعادية التي أراها هذا مسئولة بدرجة كبيرة عن استخدام النص استخدامات أيديولوجية وعما حدث لقارئنا الاختبارى بولس“. لقد بدأ بولسمن النهاية، أي من اسم العلم. ومكَّنه هذا المنهج من تثبيت ذاكرته“. وهو منهج يحمل إمكان ضم الاسم والأسطورة المنحازة جنسيًا المرتبطة به معًا (إنها نفس الحواء“)، تلك الأسطورة المدفوعة باحتقاره للنساء وتعزز ذلك الاحتقار في آن واحد. فقد خلع بولستلك الملامح المأخوذة من القصة الأولى على الشخصية التي أصبح لها هنا اسم، وهو ما غًدَّى ذلك الاحتقار للمرأة المتمثل في الخلق الثانويلجسدها والعصيان الأولىفي فعلها. فلقد ثبتهما سويًا بمنتهى السهولة كأنما ينتميان إلى الكائن ذاته. ولكن البدء من النهاية في حالة قصة تطورية يعني أن نغفل ذلك التطور. وفي قراءة خطية، يتيح لنا مبدأ التطور ذاته فرصة التشكيك في أن تكون تلك السمات بديهية.

لقد اتبع بناء الشخصية في القصة خطًا محددًا. ففي البداية كان وجود الشخصية وجودًا افتراضيًا، ولكنها لم تكن بعد كائنًا جنسيًا. ثم أصبحت متمايزة جنسيًا، ولبست ملابسًا ومنحت تتابعيًا أوجهًا مختلفة للذاتية، ثم أصبحت موضوعًا للوعي، لتكثيف الرؤيا، للحديث، للفعل الممكن للاختيار، للفعل الحقيقي، ثم تشخصت عن طريق الوصف. وهنا فقط أعطيت اسمًا: آدم الرجل وحواء المرأة. لقد غاب ذلك النسق تمامًا عن بولسفلم يفهم مغزى قصة الخلق. تلك الفكرة ببساطة هي فكرة الخلق بالتمايز خلق البشرية وخلق الشخصية.

ميكا بال (Mieke Bal): أستاذة في كلية التحليل الثقافي بجامعة أمستردام، متخصصة في دراسات الكتاب المقدس والعصور الكلاسيكية حتى القرن السابع عشر. وتتضمن اهتماماتها البحثية الدراسات التاريخية والسياسية بالإضافة إلى أشكال التعبير الفني، حيث تجمع بين التخصص في الدراسات الأدبية وعلم التحليل البصري، ومناهج البحث في الدراسات البينية، والدراسات الدينية مابعد الحداثة.

*Mieke Bal, “Sexuality, Sin, and Sorrow: The Emergence of the Female Character,” In Lethal Love: Feminist Literary Readings of Biblical Love Stories (Indiana: Indiana University Press, 1987), 104- 130; rept. In Women, Gender, Religion, ed. Elizabeth Castelli (NY: Palgrave, 2001), 149-173.

Alter, Robert. 1981. The Art of Biblical Narrative. New York: Basic Books.

Angenot, Mark. 1988. Les champions des femmes: Montréal: Presses de l’Université du Québec.

Bal, Mieke. 1988. Death and Dissymmetry: The Politics of Coherence in Judges. Chicago: University of Chicago Press.

Barthes, Roland. 1974. S/Z, trans. Richard Miller. New York: Hill & Wang.

……. 1977. “Introduction to the Structural Analysis of Narratives.” In Image-Music -Text. London: Methuen.

Bremond, Claude. 1972. Logique de récit. Paris: Editions du Seuil.

Brooks, Peter. 1984. Reading for the Plot: Design and Intention in Narrative. Oxford: Oxford University Press.

Chalier, catherine. 1982. Figures de feminine: Lecture d’Emmanuel Levinas. Paris: La nuit Surveillée.

Coward, Rosalind. 1982. Patriarchal Precedents: Sexuality and Social Relations. London: Routledge & Kegan Paul.

Culler, Jonathan. 1983. On Deconstruction: Theory and Criticism after Structuralism. London: Routledge & Kegan Paul.

Derrida, Jaques. 1972. Positions. Paris: Minuits.

Eliade, Mircea. 1964. Traité de l’histoire des religions. Paris: Payot.

Greimas, Algirdas Julien. 1970. Du sens. Paris: Editions du Seuil.

Hamon, Phillipe. 1983. Le personnel du roman: le système des personages dans les Rougons- Macquart de Zola. Genève: Droz.

Heath, Stephen. 1982. The Sexual Fix. London: Macmillan

Keller, Evelyn Fox. 1983. Reflections on gender and Science. New Haven: Yale University Press.

Knights, L. C. 1964. “How Many Children Had Lady MacBeth?” In Explorations. New York: New York University Press.

Kramer, S. N., ed. 1961. Mythologies of the Ancient World. New York: Anchor Books.

Leach, Edmund, and D. Alan Aycock. 1983. The Structuralist Interpretation of Biblical Myth. Cambridge: Cambridge University Press.

Lévinas, Emmanuel. 1973. “Leçon talmudique.” Congrès juif mondiale. L’autre dans la conscience Juive. Paris: PUF.

O’Flaherty, Wendy Doniger. 1980. Women, Androgynes, and Other Mythical Beasts. Chicago: University of Chicago Press.

Oosten, Jarich, and David Moyer. 1982. “De mythische omkering: een analyse van de sociale code van de scheppingsmythen van Genesis 2-11.” Anthropologische verkenningen I, 1.

Phillips, John A. 1984. Eve: The history of an Idea. New York: Harper and Row.

Reed, Evelyn. 1975. Women’s Evolution: From Matriarchal Clan to Patriarchal Family. New York: Pathfinders Press.

Ricardou, Jean. 1971. Pour une théorie du nouveau roman. Paris: Edition du Seuil.

Rimmon-Kenan, Shlomith. 1980. “The Paradoxical Status of Repetition.” Poetics Today 1,4.

…..1983. Narrative Fiction: Contemporary Poetics. London: Methuen.

Sarraute, Nathalie. 1965. L’ère du soupçon. Paris: Gallimard.

Trible, Phyllis. 1978. God and the Rhetoric of Sexuality. Philadelphia: Fortress Press.

Warner, Marina. 1976. Alone of all Her Sex: The Myth and Cult of the Virgin Mary. New York: Vintage Books.

Weber, Samuel. 1982. The Legend of Freud. Minneapolis: University of Minnesota Press.

Weinsheimer, Joel. 1979. “Theory of Character: Emma.” Poetics Today 1, 1-2.

Westermann, C. 1966. Genesis 1-11. Neukirchen-Vluyn: Neukirchner Verlag.

Wolff, Hans Walter. 1974. Anthropology of the Old Testament. Philadelphia: Fortress Press.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي