“عرق البلح” روح هامت فوق الجبال لتمتص دفء الشمس وحريقها

إلى الجنوبي، المطارد بخبيئته.. سلامًا إليك يوم تموت وسلامًا إليك يوم تبعث حيًا

   

الهارب بالشمس في كتفه وبالحلم في كفه

الذهب لا يغني عن بريق رمال الصحراء

هكذا يطالعنا رضوان الكاشف مخرج الفيلم بإهدائه عندما يفتح الستار عن عرق البلح، وترى أول ما ترى وجه ذلك الجنوبي الذي هرب بالشمس في كتفه وبالحلم في قلبه، يدعو له أن ينجو بتلك الخبيئة التي استحقها وحده وطمع فيها الكثيرون.. ولا يخفى على أحد التشابه بين هذا الإهداء والآية القرآنية التي يدعو فيها المسيح لنفسه السلام علىَّ يوم ولدت ويوم أموت ويوم أبعث حيًاوكأن الجنوبي مثل المسيح يحمل رسالة، ومثله عليه أن يطارد دائمًا، ومثله أيضًا عليه أن يصلب، ولكنه لم يدع له عند ميلاده وأغفل يوم ولدت، وكأن الفارق أن الجنوبي استحق السلام بما جنته يداه لا بما وهب له بالميلاد.

منذ المشهد الأول نرى الشمس التي أنضجت قلوب الجنوبيين ومنحتهم لونهم المميز، بل وربما أحرقت طباعهم فأثقلتها ومنحتهم ما نعرفه بثبات الرأي، هاهي الشمس تغرق المكان بدفئها ونورها بل وأيضًا برعبها، هاهو الفتى الأسمر العائد من حيث ولد إلى جذوره ليبحث عن نفسه فلا يجد إلا الخراب والشمس المحرقة خلف الأبواب العالية، وبعد بحث طويل يقابل هذا العائد الجدة ليسألها عن أهله أين بقايانا يا جدتيوتبدأ في الحكي وتبدأ أحداث الفيلم على طريقة الفلاش باك.

 

 

عشقنا معه الصعيد ونخيله وبقيت في قلوبنا الحسرة

ومن بداية الأحداث نعرف الشخصيات وأحلامها عن طريق جمعهم جميعًا في ساحة واحدة ليستمعوا إلى رجل متخف يعرفهم ويحملهم على الرحيل والهجرة، وكأنه صوت حاجتهم فيخاطب كلاً باسمه، ويذكرهم بأحلامهم ويسفه لهم ما لديهم فما هذه النخلات العاليات التي ينتظرون طرحها، وماذا ستحقق، هل ستزوج سلمي ابنة محمد إسماعيل؟ وتشترى لسالم الكردان ليهبه لشفاء زوجته؟ أم تعطى لسلمان البقرة الحلوب لولده؟، وتمر أحداث الفيلم بعد تهجير الجميع إلى جهة لا يعلمونها ويبقى الوحيد من الرجال الذي تعلق قلبه بالنجع وعيونه بارتفاع النخل أحمد، المراهق الذي حلمه بعض قطرات من عرق البلح يجلبه لجده بشرط أن يكون من بلح العالية، والذي يعتقد أنه سيمنحه الشفاء والعافية، ومع مرور أحداث الفيلم وتتابعها نكتشف أن لا شيء يتحقق من هذه الأحلام فشفاالمرأة الجميلة التي عشقها سالم وتزوجها خانته في غيابه ثم قررت الانتحار منهم خوفًا من سيدات القرية، وسلمان يموت في سجنه فلا يرى ابنه ولا يشترى له البقرات الحلوب، ضاعت كل الأحلام وكأن رضوان الكاشف ابن الجنوب يعلن في وجه كل الواهمين الهاربين إلى السراب أن لا خير في الهرب، وأن ما في أيدينا فقط يحتاج إلى التطوير لاشيء يعادل دفء الشمس ولا ذهب يغني عن بريق رمال الصحراء.

يبدأ الفيلم بغياب كل رجال النجع ولا يبقى فيه سوى الأطفال ومراهق واحد هو أحمد، الشاب الوحيد الذي يصر على البقاء وهنا يظهر جليًا معنى المجتمع الذكوري فالمجتمع الذكوري ليس معناه أن الرجل ظالم وأن ذكوره فقط هم المسيطرون، إذ نكتشف أن الثقافة الذكورية باقية كإرث تحمله النساء، فلا شيء تغير أحمد يضرب سلمي عندما تخرج من النجع ممارسًا سلطته كرجل في غياب عمه، والجدة الكبيرة تمارس الختان لتمهد للأطفال طريق الرجولة وترتدى ملابس الرجال عندما تريد جلب طالبي الزمر والطبول، وهي باختصار تمارس السلطة على أهل النجع باعتبارها الجدة الكبيرة ممثلة السلطة الذكورية في المجتمع، وينتهى الفيلم نهاية مأساوية، بعدما يعود رجال النجع ويعرف محمد إسماعيل أن ابنته سلمى تحمل في أحشائها ابن أحمد. فيقرر قتله. يطلب منه الرجال صعود العاليةليلاً وبعد صعوده، يقطعها محمد إسماعيل؛ فتهوى العالية وتسقط سلمى معها تندب حبها وطفلها. ويأتي من بعيد فرس الجد الكبير بعد أن حمله إلى حيث يجب أن يموت، يعود دون الجد لتسقط كل أركان الصعيد: الجد، التراث، والحماية والبركة، والنخلة المهجورة التي تركت من أجل الثروة وقتلت من أجل الانتقام، وأحمد وسلمى رمز المستقبل مات حلمهما وتركت سلمي جنينها في القبو مع الجدة. وانتظرت الجدة والطفلة طويلاً حتى عاد ذلك الذي انتظروه طويلاً ليبحث عن جذوره. ترى هل يلتقى العائد وابنة سلمي وهما ما بقى من الماضي ليخلقا مستقبلاً جديداً للصعيد ذلك الكنز المختبئ في قلوب أبنائه؟

نجح رضوان الكاشف في استخدام أدواته بحساسية شديدة، وساهم في انغماسنا في جو الصعيد، مع كلمات الصعيدي الأصيل عبد الرحمن الأبنودي الذي استطاع أن يربط بين ما كتب وبين تراث الصعيد الغنائي الأصيل والحزين في أصالته.

وينتهى الفيلم ويبقى هناك تعليق على كم التفاصيل التي استطاع ابن الصعيد رضوان الكاشف أن يحيطنا بها فنعشق الصعيد ونعشق نخلاته وتظل بقلوبنا تلك الحسرة الباقية على حياتنا اللاهثة في المدن دون ظل النخيل وبرودة الماء وبريق الرمال الذهبية حين تتلألأ تحت أشعة الشمس.

أعدت الملف

لمياء لطفي

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي