أفريقيا جنوب الصحراء من القرن الخامس عشر إلى بدايات القرن الثامن عشر

التصنيفات: غير مصنف

المنهجيات والمنظومات والمصادر

لدراسة النساء والثقافات الإسلامية المداخلات تبعا للموضوع

أفريقيا جنوب الصحراء

من القرن الخامس عشر إلى بدايات القرن الثامن عشر

مقدمة

يمكن أن نجعل العنوان الفرعي لهذه الدراسة هو البحث عما هو خفي في الظلام، فالمؤرخون الأفارقة يفضلون البحث في الفترة الزمنية الواقعة من عام ١٥۰۰ إلى ١٨٠٠م، كما أن التداخل على مدار قرنين أخفق في أن يجذب انتباه الباحثين في مجال التاريخ الإسلامي أو تاريخ النساء. فما بين العصور الوسطى الحقيقيةوبين بزوغ العصر الحديثتقع واحدة من تلك اللحظات التاريخية التي ظلت، ولفترة طالت أكثر مما ينبغي، مهمشة في ظلال فترات تاريخية أخرى اعتبرت أكثر أهمية.

وبحلول بدايات القرن الخامس عشر انشغل سكان صحراء غرب أفريقيا وشعوب ساحل سافانا في الجنوب بعلاقتهم بالإسلام. أما معظم ساحل أفريقيا الشرقي والجزر المجاورة والمجتمعات المتناثرة بعيدًا عن الساحل فإنها كانت تصف نفسها مسلمة ثقافيًا، حتى وإن لم تكن مؤمنة بالإسلام. كذلك نجد أن المصادر الصادرة عن شمال أفريقيا والشرق الأوسط عادة ما تكون متأثرة بالكتابات العربية وتحمل قليلا من الملاحظات المباشرة، لكنها في أغلبها مركبة من معلومات لمؤلفين آخرين اعتمدوا بدورهم على معلومات غير ذات مرجع تم جمعها عشوائيًا من تجار عرب. ونظرًا لكون التجارة هي محور اهتمام تلك الكتابات، فلا عجب أن يندر فيها التعليق على الثقافة، باستثناء ربطها إيجابيًا (وفي أحيان كثيرة سلبيًا) بالتجربة الخاصة لكتابها مع الإسلام. أما النساء فيظهرن في تلك الكتابات كعنصر لتقييم شرف الرجال وعفتهم، باعتبارهن عناصر في تنظيم العلاقات المنزلية أو كمعيار للتراتبية الاجتماعية اللائقة.

مع الاستعمار الجزئي للساحل بواسطة البرتغال في القرن السادس عشر، وفرض الحكم العربي العماني من عاصمة جديدة في زنزبار في القرن التاسع عشر، أصبحت عملية استخدام أي مصادر بالتالي أمرًا معقدًا. ذلك أن شعور البرتغاليين بالإحباط نظرًا لضعفهم العسكري وعدم قدرتهم السيطرة على ما وجدوه من ثروات أظهر المسلمين البرابرةالقادمين من شرق أفريقيا كما لو كانوا ما زالوا منخرطين في أعمال الحملات الصليبية: والنساء هن ضحايا هؤلاء الكفرة (“دليلعلى قمع الإسلام) وضحايا المتحولين عن العقيدة المسيحية. على العكس من ذلك كان للعمانيين الأقوياء أثر كبير على نظرة الناس لأنفسهم، أو على الأقل على ما يرغبون أن تكون عليه نظرتهم لأنفسهم، من حيث الأصول الاجتماعية والهوية العرقية والانتماء الديني. وبذلك أصبح العمانيون الأغنياء، الملتزمون والمتمركزون حول الهوية العربية، نوعًا من الآخر الداخليالذي سعى الكثيرون من سكان شرق أفريقيا إلى تعريف أنفسهم في مواجهته. لذلك فإن الكثير من الأدبيات وكتب التاريخ التي كان يمكن أن نعتبرها أصلية تماما وشفافة ذات مصداقية نسبيا تصبح بالتالي في واقع الأمر مليئة بالإشكاليات.

 

لا يشعر المؤرخون الذين اعتادوا العمل من خلال تلك النصوص المكتوبة بالراحة عند الولوج إلى عالم الفن والأدب رغم أن تلك هي المجالات التي يكون فيها البحث في قضايا النوع الاجتماعي (الجندر) والثقافة أكثر إثراء. وفي شرق أفريقيا نجد الشعر السواحيلي مكتوبًا بالخط العربي بداية من عام ١٦٠٠م، وهو بذلك يعكس قرونا من التفاعل مع الإسلام والشرق الأوسط (بما في ذلك بلاد فارس والهند)، في نفس الوقت الذي يبني فيه على التراث الأفريقي الشفهي التقليدي. هذا وتعتبر اللغة السواحيلي في حد ذاتها نتاجا لعملية تاريخية. لذلك فإن البحث من خلال اللغة السواحيلي، في محاولة لإثراء طبيعتها الشفهية من خلال كتابات تلك الفترة محل الدراسة، سوف يسمح لنا بالغوص بشكل أفضل في عمق الثقافة التي نبحث فيها عن الحقيقة بشأن حياة النساء.

لقد استغل مؤرخو غرب أفريقيا التراث الشفهي (الملاحم وأساطير الأصل) من أجل تعويض ندرة المصادر المكتوبة في تلك الفترة، لكنهم لم يفعلوا ذلك بغرض البحث في الموضوعات الخاصة بالنساء وتأثير الإسلام عليها. بل أن القصص الصحراوية التي تستهدف إضفاء الشرعية على وضع القبيلة الاقتصادي أو السياسي تعتبر التراث الإسلامي أمرًا مفروغًا منه، وهي قصص مدعومة بالأنساب مع إغفال أفراد الأسرة من الإناث. حيث يتم تصوير النساء كجوار أو محليات أو السببوراء الصراعات التي تؤدي إلى انقسامات قبلية. هنا أيضًا نجد أن أحد أكثر أشكال الفنون أهمية هو الشعر المؤلف باللهجة الحسنيةالتي هي لهجة تمزج ما بين العربية والبربرية. لكن القليل فقط من ذلك الشعر هو ما تم تسجيله أو حتى مجرد البحث فيه بواسطة المؤرخين رغم أنه كان أداة الصحراويين المفضلة في التذكر والتعليم بشأن أحداث الماضي. ونجد هذا نوعًا متكاملاً من الأدب مكتوبًا في سياق الحبفيعطينا فكرة، قد تكون مفيدة، عن العلاقات بين الجنسين. أما في جنوب الصحراء فيميل التراث إلى أن يكون من النوع الشعري الملحمي، فهو غني بالاستعارات والتلميحات لكنه مع ذلك أكثر كشفًا للعلاقات بين الجنسين وأدوار النساء من المصادر الخارجية التي تهتم بدرجة أكبر بالتجارة والسياسية التي يهيمن عليها الرجال. ومع ذلك فإن معرفة القراءة والكتابة التي صاحبت انتشار الإسلام أدت إلى تلوين بعض تلك الأساطير، التي تم تدوينها كتابة للمرة الأولى/ بالصبغة الإسلامية، حيث تم التركيز بشكل خاص على الممارسات الأبوية، وحجاب واحتجاب النساء، والمعاملات المسموح بها تجاه العبيد والمحظيات. وقد تعاظم ذلك الميل منذ أواخر القرن الثامن عشر حيث انتشرت الحركات الإصلاحية الجهاديةعبر غرب أفريقيا. أما المصادر الأوروبية الاستعمارية فقد كانت بدورها تضفي الكثير من المصداقية على تلك الكتابات المتباينة من وجهة نظر تفسيرها لها، مما زاد من تعقيد مهمتنا في محاولة تناول بدايات التراث الشفهي.

كتب التاريخ الثانوية

تقول كتب التاريخ الثانوية المعاصرة أن أهم تغيير شهدته الفترة السابقة على القرن الثامن عشر هو زيادة نفوذ الإسلام: فقد تواكبت السيطرة المتزايدة للإسلام على المجتمع مع فقدان النساء للسلطة الشخصية والسياسية. إن ذلك التجسيد للإسلام انحاز في نفس الوقت إلى الصوت الذكوري وحجب عملية الاختيار بالنسبة للإناث. وفي الفترة من عام ١٤۰۰ إلى ١٧٠٠م واجهت مجتمعات غرب وشرق أفريقيا عوامل أدت إلى زعزعة الاستقرار بها، تمثلت في الحروب الداخلية وفترات القحط الطويلة والتذبذب في السكان، كما كان عليها أيضًا أن تواجه التغييرات التي ترتبت على التجارة العالمية (بما في ذلك تجارة العبيد). لقد تم استيعاب الإسلام وتنميته بأساليب خاصة جدا بل شخصية وذلك من خلال المجتمعات والشعوب التي تنوعت خبراتها في ذلك السياق تنوعًا كبيرًا. وهنا تبرز عناصر الوضع الطبقي والنوع الاجتماعي بشكل واضح في تفسير تلك الاختلافات.

العبيد والمحظيات

كانت النساء الأكثر ظهورا هن من العبيد الجواري، حيث كانت جواري البيوت يقمن بإعداد وتقديم الطعام. وفي سنغامبيا (غرب أفريقيا) كانت الجواري يقمن بغزل القطن، وكان العبيد (بما فيهم النساء) أكثر عددا من المسلمين في المزارع وفي بساتين النخيل حول مدينتي كيلوا ومومباسا (شرق أفريقيا). لكن أكثر التعليقات والكتابات كانت من نصيب المحظيات، ففي مالي القديمة في غرب أفريقيا كانت محظيات العائلة المالكة في القرن الثالث عشر يرتدين الملابس والجواهر القيمة، كما صاحبت الآلاف منهم مانسا موسى في رحلة حجه الشهيرة عبر مصر. بل أن أحد حكام كانو (هاوسالاند) في أواخر القرن الخامس عشر أعلن التزامه بالإسلام بأن أصدر أوامره بخطف البنات والنساء كي يعمرن حريمه الجديد. كذلك فإن أحد الشعراء السواحليين في القرن السابع عشر كتب مرثية العظمةالتي تحدث فيها عن انحطاط الحضارة المدينية التي عرفت في يوم من الأيام أصداء الضحك وأحاديث العبيد في غرف الحريم“. ورغم أن اتخاذ المحظيات من قبل الطبقات العليا ليس من جوهر الإسلام، إلا أنه يبدو أنه كان هناك شعور متنام بأن اتخاذ الجواري يجب أن يتبع القانون الإسلامي أو الشريعة. كان علماء الدين المصريون قد أخطروا مانسا موسى بأنه إذا كان يمتلكالبنات الجميلات اللاتي قدمهن له رعاياه فإنه يجب عليه الزواج منهن، ومع ذلك لم يكن مسموحًا له سوى بأربع زوجات. ولم يكن من الممكن اتخاذ المحظبات سوى من فئة العبيد الجواري، أما النساء الحرائر فلا يجوز معاملتهن معاملة العبيد. في القرن الخامس عشر قام أحد حكام سونغهاي (خليفة مالي) باستشارة أحد علماء شمال أفريقيا، حيث أن الكثيرات من الجواري اللاتي يتم بيعهن ثم زواجهن ممن اشتروهن كن فعليا يحملن أجنة في أرحامهن، مما أدى إلى حدوث مشاجرات بين التجار. وكان أهم شيء بالنسبة لرجل الدين هو حكم الشريعة، بأن يتم إيداع الجارية المباعة في رعاية رجل محل ثقة إلى أن يأتي موعد دورتها الشهرية التالية كي يتم التأكد من أنها ليست حاملاً (وهو ما عرف باسم الموادعة“). وقد كان على الحاكم المسلم التقي أن يتحمل مسؤولية تطبيق هذا القانون، ويشير هذا القانون إلى الاعتراف بمسؤولية الأب بأن لا يقوم ببيع والدة طفله (“أم الوليد“). كذلك يمكننا أن نستنتج من هذا الأمر أنه كان يتم أحيانا الزواج بالجواري فيصبحن زوجات فعليات. وفي حال احترام تطبيق الشريعة كان الزواج ووضع المحظية يوفران فورا فرصة الحراك الاجتماعي وإمكانية التحرر، لكن ذلك لم يكن دائمًا هو الحال كما يتضح من ملحمة عن حاكم من حكام مالي أساء معاملة محظيته ومن ثم أجبرت على تربية ابنها تربية العبيد، فكانت النتيجة أنه حين بلغ مبلغ الرجال زج ببلاده في حرب أهلية بسبب سعيه للحصول على حقه في السلطة.

إن المعنى الكامن في قصة الخلافة هذه، والتي هي في معظمها قصة تقليدية، يعكس شعورًا ثقافيًا قويًا بخيانة القيم الإسلامية، ووجود فجوة بين الاعتقاد في الشريعة وتطبيقها، وهي مسألة تكتسب دلالة خاصة حين يتعلق الأمر بمعاملة النساء. لقد كانت إحدى أولى الدلائل على تحول الحاكم الصادق إلى الإسلام هو تحديد عدد زوجاته بأربعة، وفي نفس الوقت توسيع حريمه من الجواري. والروايات القديمة من كل من غرب وشرق أفريقيا تكشف جانبًا أعمق من العلاقات الإسلامية بين الجنسين، وعلى نفس القدر من الأهمية، حيث لجأ التجار الأجانب الراغبون في الاستقرار محليًا في الزواج من نساء حرائر لكي يتمكنوا من الحصول على الأرض والسلطة، لكنهم كانوا يتخذون المحظيات لكي ينجبوا أطفالاً. فلم تكن الحرية أو العبودية هي المحددة لمصير النساء فيما إذا كن سيرتدين الحرير أو الجواهر، بل كان الأهم هو مدى كونهن حضريات أو ريفيات، ثريات أو فقيرات. وقد كانت للجواري فرصة أكبر في الحراك الاجتماعي من النساء الحرائر الفقيرات. كذلك كان دور المحظية هامًا، فقد كان أبناؤها هم ذرية الأب ولم يكن لديها عائلة تطالب بنسب الطفل أو ميراثه. بل يمكن القول أن النبيلات المحليات كن أقل منزلة كأمهات عن الجواري، وهو ما يشير إليه الوصف المتكرر للمسلمات السوداوات أو السمراوات في روايات شرق أفريقيا وكذلك ما لوحظ في القرون التالية من ذكر للنبيلات الصحراويات السوداوات“.

 

إن مما يضيف إلى دلالة هذه الملاحظات هو أن تلك المجتمعات الأفريقية المضيفة كانت مجتمعات أمومية. وقد لاحظ ابن بطوطة أن ورثة الرجل في منطقة الصحراء كانوا أبناء أخته وأن النساء كن يتمتعن بمكانة أعلى من الرجال. كذلك فإن الشرعية كما ترد في الأساطير الشفهية كادت أن تعبر دائمًا عن نفسها من خلال علاقات القرابة النسائية، وفي شرق أفريقيا يكشف التراث الساحلي أنماطًا أمومية مبكرة في نظام الميراث على حين تظهر الأبحاث في المناطق البعيدة عن الساحل أن الميراث كان ينتقل عبر ذرية النساء. مع ذلك هناك من يقول أن دخول الإسلام إلى تلك المجتمعات حولها إلى مجتمعات أبوية وأفقد النساء سلطتهن المرتبطة بالخط الأمومي، لكن هناك بعضا من الأدلة التي تشير إلى عكس ذلك. إن التاريخ الشفهي الذي يحكي عن انهيار غانا القديمة يعكس استمرار الخلافة الأمومية رغم اعتناق الدولة للإسلام. وقد أعيدت كتابة تاريخ الأنساب في المنطقة الصحراوية في القرن السابع عشر للتدليل على الأصل الأبوي، ومع ذلك استمر التاريخ الشفهي والشعر يكشف القيم الأمومية السائدة. وهناك ملحمة شهيرة من شرق أفريقيا تحكي عن الصراع على السلطة ما بين أخ وأخيه غير الشقيق وتعكس التوتر القائم بين تقاليد الخلافة الأفريقية القديمة وبين نظيرتها الإسلامية الجديدة، حيث تهيمن الأخيرة فقط في مرحلة متأخرة. وفي إقليم من الأقاليم الساحلية كان أحد السلاطين ينحدر من نسل أمومي أفريقي يرجع إلى سبعة أجيال قبل أن تتخذ إحدى البنات زوجًا عربيًا، فبدأت بذلك على ما يبدو الخلافة على أساس أبوي.

النساء والسلطة

ومع ذلك لا يبدو أن النساء قد استثنين تمامًا من السياسة، حتى مع مرور الزمن. ففي غرب أفريقيا ظلت الزيجات تمثل أساسًا للتحالفات بين القبائل الصحراوية وكذلك مع الأمراء ذوي النفوذ، وذلك طوال القرن التاسع عشر. إن تاريخ أصول وهجرات القبائل تبرز النساء كعناصر مسببة للصراعات وكذلك كعناصر تدفع للمصالحة فيما بعد. فهناك على سبيل المثال إحدى ملكات مملكة هاوسالاند، في نهاية القرن الخامس عشر، التي خلدت بواسطة قصيدة تغنت بمدفعها المصنوع من خشب غينيا المعطرومدقها المصنوع من الفضة الخالصة، وكان لها اسم (مسلم) “أمينة، وآخر (أفريقي) “غمسا“. وإذ يدعو لها الشاعر بأن يمنحها الله حياة الضفدع المديدة وكرامة النسر، فإنه يخلط في هوية ثقافية واحدة، وفي تعريفه للسلطة، عقيدتين من عالمين مختلفين وإن ليسا بالضرورة متنافسين. الشيء نفسه تعكسه الملاحم الشفهية التي تظل فيها القوى السياسية مرتبطة ارتباطًا وثيقًا بالقوى الغيبية، حيث يتحقق النصر في المعارك بواسطة السحر الذي غالبا ما يكون مصدره امرأة قوية. كذلك تصور النساء (أو ما يرمز لهن مثل الطعام والمدافع والمدقات) كأمهات وبنات وأخوات وساحرات وعناصر ديناميكية مساعدة للرجال الذين يعودون للظهور، مثلهم مثل النساء الصحراويات، وهم يقبلون المسؤوليةالتي فرضتها عليهم تلك القوى. وفي صيغ مخطوطة لاحقة من تلك الوثيقة، كتلك الخاصة بسونجاتا الشهير، مؤسس مالي القديمة، نجد محاولة لإنكار الأهمية الموكلة لأم البطل وقريباته من النساء. وفي تلك الحالة تحدث المعجزة التي نجحت في شفاء سونجاتا من الشلل بواسطة أمارة تؤخذ من والده بدلا من أمه، ولم يعد لأخته دور في استيلائه على السلطة في النهاية. إن هذه الطريقة في أسلمةالماضي دلالة (مثلها مثل التقاليد المحافظة على خطاب اجتماعي أمومي) على أن المجتمعات لم تكن بعد قد أعيد تشكيلها طبقًا للصورة الأبوية الإسلامية كما افترض المؤرخون، وفي بعض الأحيان كان يتعين على المؤرخين التقليديين إعادة كتابة تاريخ الأصول الأمومية من أجل خلق هويات أبوية معاصرة تسهل عملية إضفاء الشرعية على السلطة الإسلامية الرسمية.

يكشف لنا تاريخ شرق أفريقيا خلال بدايات القرن الثامن عشر عن استمرار وجود النساء الحاكمات والوصيات على العرش، حيث كان بعضهن يجمع ما بين الألقاب الأفريقية والأسماء العربية المسلمة، على حين كان للأخريات أسماء إما عربية أو أفريقية صرفة. ومن الحوليات التاريخية واحدة تحتفي بنجاح سلطان في انتزاع السلطة من إحدى هؤلاء الملكات، حيث كان ذلك السلطان ابنا لامرأة متواضعة كانت هي بدورها ابنة لصائد أسماك، وتم اكتشافها مصادفة من قبل العائلة المالكة استجابة لدعاء أبيها إلى الله، وهو أسلوب جدير بالاهتمام للوصول إلى العرش من خلال صلة الأم، الأمر الذي لا يكتسب معنى سوى من خلال قراءته من منظور أمومي. كما توجد أيضًا خمسة نقوش ساحلية أكثر وضوحًا ترجع إلى القرن السابع عشر، تحيي ذكرى نساء حاكمات، وهو ما يقدم دليلاً مقنعًا، بحسب أحد المؤرخين، على أننا قد نكون مخطئين في اعتبار النساء طبقة مضطهدة.

 

يجب علينا أن نتخلص من تصورين وهما اعتبار النساء يمثلن طبقة، واعتبارهن مضطهدات. إن تباين الأصول الطبقية للنساء هو بالتحديد ما شكل الدرجات المتباينة في اعتناقهن الإسلام وتكيفهن معه. إن فكرة الاضطهاد تعكس تقييمًا (غير صحيح) معاصرًا للإسلام يشوه بدوره من الأسلوب الذي نصوغ به أسئلتنا بشأن تجربة النساء. ونجد في المصادر التي تتناول شرق أفريقيا لقطات لزوجات ثريات ونساء من العائلة المالكة وكذلك جواري يخدمن في بلاطهن أما الفقيرات (من حرائر وجواري) والريفيات وقريبات الحرفيين والتجار والصيادين والبحارة فهن خفيات مستترات إلا لو دفعتهن أقدارهن إلى دوائر الشخصيات المهمة. ومن هنا نلتقي بابنة صياد لأنها أصبحت ملكة، أو بزوجة حرفي لأن السلطان قد اتخذها محظية، ويذكر التاريخ زوجها الحر الساعي إلى الانتقام، والنساء المجهولات من ماليندي ومومباسا لأن البرتغاليين يحكون عن مقاومتهن أو اعتناقهن التحول إلى المسيحية. والمصادر العربية التي تتناول غرب أفريقيا نادرًا ما تتناول أي شخص لا ينتمي إلى العائلة المالكة أو إلى دوائر العبيد، وفي الملاحم الشفهية لا يتم ذكر النساء سوى بما يمثلنه من قرابة للرجال، وذلك باستثناء الجواري والخدم المذكورات هامشيًا. وتبقى النساء غير مميزات فيما بينهن سوى فيما يتعلق بقدرتهن على السحر، وهو أمر جدير بالاهتمام وإن كان يترك غالبية النساء مستترات غير مرئيات.

مع ذلك فإننا نعمق من تلك المشاكل الداخلية حين نصوغ أسئلتنا تبعا للمعرفة المعاصرة، مثل اعتبار النساء المسلمات طبقة مضطهدة. فنحن نقيم الإسلام تبعًا لممارسات مثل العزل والحجاب، رغم أن تلك الممارسات لم تكن ذات دلالة حتى بالنسبة لرجل يميل إلى الاحتشام مثل ابن بطوطة. لقد ارتبط ظهور الاحتجاب والعزل بملك كانو ذاته في القرن الخامس عشر الذي أمر باختطاف النساء والفتياتكمحظيات وكذلك اتخاذ نحو ألف ابنة بكر عذراءكزوجات له في انتهاك واضح للشريعة، وذلك رغم سمعته الطاهرة. لقد استمر عزل النساء في الأسر الغنية هنالك حتى بدايات القرن العشرين، لكن في القرن التاسع عشر اشتكى رجل مسلم متطهر أخر من أن النساء في مملكة هاوسالاند أصبحن لا يعرف شيئًا عن التعاليم الأساسية لدينهن بما في ذلك الصلاة. فقد أساءالرجال استخدام فكرة الاستسلام لله بأن طالبوا النساء بطاعة غير مشروطة متنكرة في صورة الأعمال المنزلية! ولا يوجد في شرق أفريقيا ما يدل على أن الإسلام قد أمر بعزل أو حجاب النساء. حيث يذكر مصدر من المصادر البرتغالية أن البربر المسلمين” (Moors) “يسكتونزوجاتهم. لكن الروايات الكثيرة التي تحكي عن نساء أنيقات يهتممن بتفاصيل مثل لون جلدهن وزينتهن وجواهرهن تكذب الفكرة القائلة بشيوع كل من الحجاب والعزل، حتى بين النساء الثريات. إن مرثية العظمةتشير إلى وجود مساحات للمعيشة خاصة بكل جنس (“قاعات الرجالوغرف النساء“)، كما تشير إلى ذلك أيضًا البحوث الهندسية التاريخية في قصر كانو، لكن تلك ليست مرادفة للاعتزال ولا هي خاصة بالإسلام، ولا يزال علينا أن ندرس دلالتها في علاقتها بموضوع بحثنا. وفيما يتعلق بالحجاب يقول أحد الباحثين أنه لم يكن إسلامي الأصل بل كانت جذوره ثقافية، فلم تكن المستوطنات الشيرازيات الأوليات يرتدين الحجاب وإنما كانت ترتديه المهاجرات العربيات الباحثات عن الارتقاء الاجتماعي والسياسي في القرنين السادس عشر والسابع عشر، حيث كان الحجاب مؤشرًا على وضعهن الاجتماعي والثقافي في مواجهة النساء السواحيليات والأفريقيات المحليات.

البحوث الحديثة

إن البحوث التي تمت مؤخرًا تطرح موضوعات أخرى، فمن وثائق الفرن السابع عشر الشهيرة واحدة يبدو أنها تحمل تعليمات أم لابنتها في كيفية أن تكون زوجة جيدة ومطيعة. ورغم اعتبار تلك الوثيقة دليلاً على قهر النساء إلا أننا نجد دراسة واعية بالأسلوب الأدبي (وكذلك معاني الكلمات) قد قامت بتأويل تلك الوثيقة على أنها قطعة تحمل السخرية والتهكم، وباعتبارها تعبيرًا عن الاستهزاء بالسلطة المفترضة في يد الأزواج والحكام من الرجال، وأنها متنكرة في أسلوب أدبي تقليدي لا يفهمه سوى الجمهور المقصود بها. إن هذا التوجه لا يفتح منافذ جديدة لفهم إنجازات الشعراء من النساء فحسب، حيث يبدو أن نساء الطبقات العليا كن بشكل عام متعلمات وخبيرات في هذا النوع من الشعر، إنما يشير أيضًا إلى وجود خطاب نسائي في حالة جدل مع مجال العلاقات الاجتماعية بأساليب وأهداف ما زال علينا أن نفهمها. وتكشف لنا الأبحاث في بعض الأجزاء الريفية الداخلية من البلاد عن استمرار النظام الأمومي، فلم تكن النساء تتزوجن ممن هو أقل منهن، وكانت الزيجات تقوي من خط النسب النسائي، كما كانت الذرية النسائية هي التي تحدد وتسيطر على حدود المدينة والقرية، كما ظلت الأراضي تحت سيطرة النساء. أما الرجال فقد استخدموا أدوارهم الدينية لتأسيس نظام سلطة موازٍ، تمتد جذوره من المسجد، ومن ثم أصبح يتكامل مع قوة النظام الأمومي.

إن الحكمة المنقولة القائلة بأن اختراقالإسلام كان أمرًا مرتبطًا بالرجال من التجار ورجال الدين، وأن قوة الإسلام كانت في أيدي السلاطين والعلماء، هي مقولة تتجاهل حقيقة أن النساء في المجتمعات الأفريقية الأمومية كن في وضع يسمح لهن بتقرير كيفية إدماج الإسلام في الثقافة والسياسة المحلية. فباعتبارهن أمهات وزوجات وأخوات وبنات وجواري، كانت لديهن طرق عدة للتأثير على المجتمع، وليس من المدهش أن تتنافس تلك الأمومية وتتكيف مع البنية التحتية الأبوية للإسلام، وأن تحتفظ سلطة السحر والطقوس المحلية الخارجة عن الإسلام والمرتبطة بالنساء بمكانة هامة في ممارسة الإسلام. إن عملية إدماج نظم عقائدية مختلفة وخلق هياكل سلطوية جديدة وأحيانًا متوازية داخل المجتمع والثقافة لم تكن دليلاً على دونيةأو رجعيةالإسلام. ففي أحيان كثيرة كانت العملية تعكس ردود فعل النساء تجاه تغير اجتماعي حقيقي تولد نتيجة ارتباط تفاعلات داخلية وعوامل خارجية. ولا يجوز أن ننظر إلى الثقافة الإسلامية في أفريقيا باعتبارها أمرًا مفروضًا، أو أن نقيسها بمؤشرات كالعزل والحجاب. بل يجب أن نبحث في التجارب التاريخية للنساء، كما حاولنا أن نفعل هنا، لكي نفهم جوهر الثقافة الإسلامية في أي زمان ومكان.

J.De Vere Allen and T. H. Wilson (eds.), Paideuma 28. From Zinj to Zanzibar Snudies in history, trade, and society on the eastern coast of Africa (in honour of Jans Kirkman). Wiesbaden 1982.

K. M. Askew, Female circles and male lines. Gender dynamics along the Swahili coast, in Africa Today, special issue, Islam in Africa 46:3-4 ( 1999 ), 68-102.

S. Belcher, Epic traditions of Africa, Bloomington, Ind. 1995.

I.Berger and E. F. White, Women in Sub-Saharan Africa, Bloomington, Ind. 1999.

A. Biersteker, Language, poetry, and power. A reconsideration of Utendi Wa Mwana Kupona, in K. W. Harrow (ed.), Faces of Islam in African literature, Portsmouth, N.H. 1991, 59-77.

G.Brooks, Landlords and strangers. Ecology, society, and trade in West Africa 1000-1630, Boulder, Colo. 1992.

G. S. P. Freeman-Grenville, East African coast. Select documents, London 1962.

—-, The coast, 1498-1840, in R. Oliver et al. (eds.), History of East Africa, 3 vols. (London 1963-76), I, 129-68.

C. B. Hillard (ed.), Intellectual traditions of pre-colonial Africa, New York 1998 (see texts 57, 59, 78, 79, 80 In particular).

J. Knappert, Four centuries of Swahili verse, London 1979.

N. Levtzion and J. Hopkins (eds.), Corpus of early Arabic sources for West African history, Cambridge 1981.

N. Levtzion and R. Pouwels, The History of Islam in Africa, Athens, Ohio 2000 (see especially the introduction and the chapters by Constantine, Dunbar, Pouwels, and Vikor).

H. Nast, The impact of British imperialism on the landscape of female slavery In the Kano Palace, Northern Nigeria, in Africa 64:1 (1994), 34-72.

R. Pouwels, Horn and crescent. Cultural change and traditional Islam on the East African coast (800-1900), Cambridge 1987.

T.T. Spear and D. Nurse, The Swahili. Reconstructing the history and language of an African society, Philadelphia 1984

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي