أوراق النرجس وكتابة الجنون

تاريخ النشر:

2007

كتابة:

أوراق النرجس وكتابة الجنون1

هالة كمال*

صدرت رواية “أوراق النرجس” بقلم سمية رمضان عن دار شرقيات بالقاهرة في النصف الأول من سنة 2001، لتكون هي العمل الروائي الأول لمؤلفته بعد مجموعتيها القصصيتين خشب ونحاس (دار شرقيات 1995) ومنازل القمر (هيئة قصور الثقافة 2000). وقد لاقت أعمال سمية رمضان اهتمامًا نقديًا لما تتمتع به كتاباتها من خصوصية فكرية وأسلوبية، ومن هنا لم يكن من المستغرب حصولها على جائزة نجيب محفوظ التي تقدمها سنويًا الجامعة الأمريكية بالقاهرة مع ترجمة النص الفائز إلى اللغة الإنجليزية. وقد تعددت توصيفات هذه الرواية، ما بين كونها رواية عن الهوية والذات2، ورواية عن الوطن والمنفى الفعلي والنفسي3، كما قام الباحث الأكاديمي د.خيري دومة بتناول أوراق النرجس باعتبارها نموذجًا لرواية السيرة الذاتية المنتمية إلى “كتابة البنات”4. ومع شيوع مصطلح “كتابة البنات”، “، وانتشار مسمى “موسم كتابة البنات” على صفحات النقد في بعض جرائد التسعينيات، إلا أنني أعبر عن تحفظي التام واعتراضي على مثل تلك المسميات لما يوحي به ذلك المصطلح من نظرة ذكورية تقلل من شأن الكتابة النسائية وتضفي عليها سمات الطفولة والسذاجة التي لا نجد لها مثيلاً في أي من التصنيفات النقدية الجادة للأعمال الأدبية. وسأقدم فيما يلي قراءة نسوية لرواية سمية رمضان لا باعتبارها نصًا نسويًا يتبنى قضية تهميش النساء بقدر ما أراه نصًا ينتمي إلى الكتابة النسائية المعبرة عن تجربة أنثوية إنسانية مستعينة بفنيات وجماليات نسائية5. تدور أحداث الرواية داخل عقل شخصية “كيمي” بكل ما تراه حولها وتعيه من تناقضات ثقافية واجتماعية وحياتية، تفرض عليها رؤية مميزة متأثرة بكونها هي نفسها ذات حس فني وحساسية ثقافية ونزعة إلى المعرفة والكتابة. ولا تتبع الرواية حبكة تقليدية، بل هي مكتوبة بأسلوب أقرب إلى أسلوب “تيار الوعي”- الذي أسست له الكاتبة النسوية الرائدة “فيرجينيا وولف”- والقائم هنا على تداعيات الأفكار والملاحظات والتعليقات الدائرة في عقل الراوية التي تتقاطع مع الشخصية المحورية “كيمي”. وقد خلقت سمية رمضان شخصية كل من الراوية وكيمي بحساسية بالغة حيث يسود صوت كيمي في السرد باستخدام صيغة المتكلم “أنا”، مع تداخله مع صوت الراوية إذ تروي تجربة كيمي في صيغة الغائب “هي”. ومع عدم تحديد هوية راوية الحكاية وعدم وضوح مدى كونه صوت رجل أم امرأة، لكن هذا التداخل السردي بين الصوتين وتقارب منظوريهما يوحي بأن راوية النص هي امرأة تنسج النص جنبًا إلى جنب المؤلفة والشخصية المحورية. وتبني سمية رمضان روايتها من عشرين فصلاً أو مشهدًا أو مقطعًا أو “ورقة” تتنقل زمانًا ومكانًا داخل دهاليز عقل الشخصية المحورية كيمي. ويبدأ النص بلحظة استسلام كيمي للعلاج مما يعتبره المحيطون بها أقرب إلى الأزمة العصبية أو “الجنون”، في الوقت الذي ترى كيمي الاستسلام بمثابة لحظة تنفيذ حكم قتل الذات بيديها، فيتداخل صوتها الداخلي مع صوت المحيطين بها من “الأهل والأقرباء والأصدقاء” في العبارة القائلة: “حبة وردية صغيرة وبعدها تنامين إلى الأبد، وينتهي عذابك” (ص10). وفي تلك اللحظة بما فيها من إحساس بالموت، تتداخل شخصية كيمي مع مربيتها آمنة في محاولة لقتل آمنة: “موتي يا أنا! أم تراني أقول: موتي يا آمنة” (ص 12). وفي فصل لاحق من فصول الرواية حيث تواصل كيمي محاكمة الذات والقصاص منها تعود فتحكم على ذاتها بالموت على أساس “من الألم والتصورات المشوشة المختلة… موتي يا أنا، كاذبة أنت، منافقة، متعاظمة، مغرورة…” بناء وهي على ما يتملكها من شعور بالخذلان المتبادل بينها وبين أهلها (ص 105-106). ولعل هذا التداخل بين شخصيتي آمنة وكيمي هو الذي دفع سمية رمضان إلى التصريح في حوار صحفي معها بأن “بطلة رواية أوراق النرجس ليست كيمي، بل آمنة المرأة التي لا تقرأ ولا تكتب وتمثل كل العناصر الأصيلة والطيبة، تمثل النظام، وهمزة الوصل بين كيمي وأمها، الحكاءة حاملة التراث والإرث… آمنة هذه هي الكائن العاقل الوحيد في هذه الرواية”6. وأرى أن آمنة وكيمي وجهان لشخصية واحدة بما تحمله من تناقضات وتوازيات وتقاطعات، فتزيد من معاناة كيمي وصراعها مع ما بداخلها من تجارب ونزعات. وتنتقل أحداث أوراق النرجس على مدى العشرين “ورقة” في رحلة داخل عقل كيمي، حيث ذكرياتها من الطفولة بما فيها من توازيات وتقاطعات بين الثقافة الإنجليزية في المدرسة والثقافة المصرية الشعبية المستقاة من مربيتها آمنة. وهي ذكريات مليئة بألم الوعي بالمتناقضات بين حكايات “شابورن روج” و”الأميرة النائمة” وتراث الأساطير الإغريقية، وبين حكاية “الملك الأطلسي” التي كانت تحكيها لها آمنة. كذلك تنتقل بنا إلى تجربة الدراسة والحياة في “دبلن”، بما فيها هي الأخرى من توازيات وتعارضات سياسية وثقافية بين أيرلندا ومصر في خضوعهما للاحتلال الإنجليزي. ومع اللمحات التي نراها تشير إلى اختلاف وتميز كيمي عن رفاق الطفولة، يزداد هذا الاختلاف ويتخذ شكلاً أقرب إلى الانعزال في شبابها، وهو الاختلاف والتميز الذي يدفع المحيطين بها إلى افتراض حاجتها إلى “الراحة” والعلاج من “التعب”. وإذ ترسم سمية رمضان شخصية كيمي فهي توردها في مصاف المبدعين غريبي الأطوار ممن تعرضوا لمختلف الاتهامات من المحيطين بهم. فهي تسكنها في دبلن منزلاً مجاورًا للكاتب الإيرلندي الساخر أوسكار وايلد (الذي تعرض للمحاكمة والمطاردة لخروجه عن المألوف)، كما تصف لنا الراوية شخصية كيمي قائلة: “هنا سكنت ولمدة أربع سنوات متتالية امرأة غريبة الأطوار… امرأة متعالية، تنتابها حالات من الدفء الإنساني…” (ص32). وإذا عقدنا توازيات بين غرابة كيمي وغرابة الشخصيات التي يرد ذكرها في النص من الفلاسفة والأدباء والأديبات، يتضح لنا أن غرابة كيمي ما هي إلا تعبير عن حكم المجتمع (الجاهل) على ذوي الحساسية الفكرية والحس الرهيف: “حسي وإدراكي للحياة ليس ككل البشر” (ص 28). أما العالم الذي تعيش كيمي فيه فهو عالم القراءة والكتابة، إذ تكثر في الرواية الإشارات إلى العديد من الكتاب والشعراء، رجالاً ونساء: جويس وبيتس وديلان توماس، وبيكيت، وسارتر وجيد (ص33، 47، 74)، إضافة إلى “جارها” أوسكار وايلد (ص32)، وتماهيها مع الشاعرة سيلفيا بلاث (إشارة غير مباشرة في صورة الجرس الزجاجي ص 30، 38). أما على مستوى السرد فيتضح تأثير فيرجينيا وولف على السرد في توظيف أسلوب “تيار الوعي” إلى جانب ما يبدو من افتتان سمية رمضان باستكشاف علاقة الجنون بالإبداع وخلال مرحلة الدراسة في دبلن تكشف لنا كيمي عن تساؤلاتها المربكة حول مفهوم الوطن والهوية والسلطة، إذ تتوقف أمام تجربة الغربة وما فيها من بحث عن وطن متخيل يشبع مشاعر الحنين (ص 35)، وعند عودتها إلى بيت أبيها بعد غيبة دامت عشر سنوات تعود إلى حجرتها لتكتشف تناقضًا جديدًا: “كل الأوطان أوطاني، ولذا أنا بلا وطن. كل اللغات لغاتي، ولذا أنا بلا لغة” (ص65)، بينما تشهد في الوقت ذاته تداخل القاهرة مع دبلن کما عرفتهما، ومع توالي تشتت الذهن تعرف نفسها في موقف آخر قائلة “أنا صعيدية من دبلن” (ص 85). وفي ورقة أخرى تسترجع فيها “دمغة الدروس القديمة في الصغر” وتعاليم السلطة: “الرجال قوامون على النساء، لأن النساء لهن نصف عقل وجسد تام، ولذا فلهن أيضًا نصف دين” (ص 78)، وفي الوقت نفسه تجد نفسها في حالة دفاع اضطراري- وبلا جدوى- عن هويتها: “جواز سفري مصري. أدافع. عما أدافع. كل ولاءاتي مدانة مسبقًا. عما أدافع. جواز سفري؟ لغتي؟ ديني؟” (ص 78). وتكشف لنا كيمي عن وعيها بمدى خضوعها لسلطة الرجال في حياتها، ففي الوقت الذي تتبدى لنا ملامح شخصية الأب في صورة إيجابية ومحببة في خلفية الذاكرة بلا ملامح سلطوية، نجد شخصيتين أخريين لأستاذين يسيطران على حياتها، أحدهما كما تقول “يسيجني بالحب والغيرة ويمنعني أن أحادث أحدًا. وعلى بعد خطوات أستاذ آخر لا يقول شيئا. لا يمد يد العون” (ص 78) بل ونراه أول ما نراه يصحبها إلى مستشفى “سانت باتريك للأمراض النفسية والعصبية” نظرًا لما اعتبره توعكها، حيث تعايش كيمي “رائحة الجنون… رائحة اضمحلال العقل وتعفن الذاكرة” (ص 49).  

تستهل سمية رمضان روايتها “أوراق النرجس” بلحظة مقاومة تسبق الاستسلام لـ “العلاج”، وتصف صعوبتها بقولها: “اللحظة ما قبل الاستسلام هي الأصعب. ربما كان هذا هو سر جاذبيتها النهائي. حد المقاومة على حافة القضم، بعد أن يكون الكيان قد تمدد كأقصى ما يمكن. الهوة لا ملامح لها. جديدة تمامًا ومستعصية تمامًا على الخيال” (ص9)7. وهكذا تبدأ كيمي حكايتها بوصف لحظة الاستسلام لمن حولها من الأهل والأصدقاء المقربين في محاولاتهم لما يعتبرونه علاجها من الجنون. ومن هنا تقتحم بنا الرواية منذ افتتاحيتها مساحة الصراع بين الاستسلام والموت من ناحية، والمقاومة والجنون من ناحية أخرى. والجنون هنا ليس نتاج فشل في التعامل مع معطيات الواقع، كما أنه ليس عجز العقل عن الاستمرار في مسايرة الحياة، وإنما الجنون عند كيمي هو حالة من الوعي والتمرد وفعل المقاومة. حيث يتبدى لنا جنون كيمي عبر الرواية على أنه حالة ذهنية مترتبة على حساسية تلك الشخصية المرهفة بكل تفاصيل واقعها، وهو واقع تتراكم تفاصيله حتى تكاد كيمي تعجز عن احتماله فلا تجد أمامها من خيارات سوى الموت أو المقاومة والجنون. ومنذ البداية تكشف لنا كيمي عن وعيها بحالة الجنون كفعل مقاومة، فتميز بين وعيها هذا وبين حالة غيرها من مرضى المصحة ممن تراهم “يساقون. رغما عنهم. لابد أن ذلك أرحم، لابد أنهم ييأسون ومن ثم يموتون وينتهي الأمر” (ص 9). أما كيمي فهي ترفض الاستسلام وتظل تقاوم، وتعبر عن ذلك بقولها: “ما إن تدخل حبة الدواء إلى فمي حتى ألفظها”، بينما نسمع أصوات من حولها وهم يقنعونها بفعالية تلك “الحبة الوردية الصغيرة”.

وتعكس السطور الأولى من الرواية وعيا بمفهوم الجنون على أنه نتاج توصيف مؤسسة الطب النفسي والمجتمع لمن يختلفون عن النموذج الإنساني السائد، وهو ما يظهر لنا في الوعي بالمؤامرة التي يحيكها الآخرون لتهدئة كيمي: “الأصدقاء والصديقات وأخوتي وأمي، الأقرباء الأقرب يتآمرون مؤامرة طيبة بعدها سوف تنامين نومًا عميقًا” (ص9). وهنا نرى دور المجتمع في وصم المرأة بالجنون، فنحن لا نرى أية مظاهر لـ “جنون” كيمي، بل على العكس، يبدو جنونها مجرد انعكاس لما يتصوره الآخرون جنونا (متمثلا في البحلقة في سقف الغرفة، وفي المرآة). وهو ما يتسق مع نظريات النقد النسوي التي ترى أن “الهستيريا” (إحدى مصطلحات “الجنون”) هي من صنع المؤسسة الطبية والاجتماعية التي تفرض هي نفسها على المرأة (وأحيانًا الرجل أيضًا) قيودًا وقهرًا وضغوطًا ثم تصف المتمردين والمتمردات على تلك الحدود بالهستيريا والجنون8. وهو أمر يتفق أيضًا مع الآراء التي ترى أن ردود أفعال النساء لما يتعرضن له من محاولات إخضاع وقهر وتبعية إنما هي ردود أفعال تعبر عن وعي ورفض لهذا الوضع، يتفجر في صور من الغضب والتمرد لا يجد لها المجتمع من مسمى سوى “الجنون”9. وجنون كيمي هو جنون نابع من وعيها الشديد وحساسيتها المرهفة للواقع، ومن هنا كان رفض العلاج على مستوى رمزي بمثابة فعل مقاومة، بينما يمثل الانصياع وتناول الدواء إنهاء للعذاب، أي إنهاء للوعي واستسلامًا لنوم هو أقرب إلى الموت: “حبة وردية صغيرة وبعدها تنامين إلى الأبد وينتهي عذابك” (ص9). وفي موقف آخر، وقبل استسلام كيمي لضغوط من حولها وابتلاعها الدواء نسمعها وهي تشهد نفسها وربها على أنها قد قاومت، وذلك في عبارة أقرب إلى الصلاة، فتقول: “أشهد: أني فعلت كل ما بوسعي. وأني قاومت بكل ما أملك من إرادة وأني تشبثت حتى آخر لحظة، حتى وأنا أشاهد عقلي يحلق بعيدًا وأني لم أيأس” (ص11). فكيف تصف كيمي وعيها بجنونها، وكيف تشير إلى وعيها وإدراكها لما يراه الآخرون على أنه جنون؟ الجنون ليس مرتبطًا بموقف معين تعجز عن التعامل معه، وإنما هو هنا لحظة وعي بتراكم خبراتها التي تتكثف في ذهنها من خلال فعل التذكر وإعمال الذاكرة- وما نراه نحن من خلال الآخرين بوصفه “بحلقة” في السقف والمرآة، والتي يفسرونها بحالة من فقدان لقوى العقل، بينما نكتشف نحن من خلال كيمي أن فعل “البحلقة” هذا ما هو إلا ممارسة للذاكرة. أما “رائحة الجنون”، أي بوادر الجنون المرضي، فتعيها كيمي جيدًا وتراها أبعد ما تكون عن هذا متمثلة في “اضمحلال للعقل وتعفن للذاكرة” (ص49)، وهي أبعد ما تكون عن هذا الاضمحلال وذاكرتها كما تقول لنا “حديد”. وهي ذاكرة جميع خبرات القيود والخطوط والحدود التي رسموها لها منذ صغرها: خط سيرها إلى المدرسة ومنها، خط تعليمها وحرمانها من الاختيار، بل وجميع الخطوط المستقيمة التي رسمها لها مجتمعها ووضعها عليها. وحين تصف كيمي جنونها، فلا علاقة له بتدهور قوى العقل والذاكرة، حيث تنقلنا عبر لحظات ومشاهد حية في ذاكرتها، تحللها وتجمعها وتحاول ترتيبها في ذهنها سعيًا إلى فهم ذاتها في علاقتها بالعالم من حولها، فتقول واصفة حالتها: “كأن لحظات جنوني، أصوات دماغي، صخب هوسي، لهاث رعبي ووساوسي تضخمت وابتلعت العالم وصارت العالم” (ص75). فجنونها هو نتاج خبراتها الماضية وحاضرها المشوش بفعل الواقع المشوش الناجم عن التغييرات الاجتماعية والثقافية والسياسية التي طرأت على مجتمعها، وصراع ثقافات الشرق والغرب، وهكذا تصبح لحظة الجنون هي لحظة وعي بتداخل التواريخ والجغرافيات. والجنون عند كيمي مرتبط ارتباطًا شديدًا بالخوف، وهو خوف يحتل العقل الواعي: “كل خوف هو خوف في الخيال يغذيه العقل الواعي من الذاكرة”، وهو في الوقت نفسه سبيل الجنون والإبداع فيصير “إزميلا ينحت به الوجود” (ص103)، ولذا يصبح هاجسها الأساسي لا التحرر من الخوف وإنما الخوف من أن تفقد الخوف، وأن تفقد بالتالي القدرة على الحياة والوعي والإتيان بالمعنى والتعبير عن الذات. ويتحول الجنون إلى وسيلة للتعامل مع الخوف وتجاوز الحدود – حدود السلوك وحدود التفكير وحدود الكلام، تلك الحدود التي لا يستطيع تخطيها كما تقول لنا كيمي سوى من درج على تسميتهم بالمجانين والسحرة والشعراء وكتاب القصص والروايات وعلماء الكيمياء.

لقد أبدعت سمية رمضان في تصوير “الجنون” من خلال شخصية كيمي على أنه بمثابة فعل مقاومة للإسكات، متمثلاً في علاقته بالوعي والصراع ضد الموت في سبيل التعبير عن الذات، فيتحقق عبر الحكي والكتابة. فحين تربط الكاتبة بين المجانين والسحرة والمؤلفين والمبدعين فإنما تهدف بذلك إلى التأكيد على الجنون بوصفه فعلاً لا استسلامًا، فتقول على لسان كيمي: “أن السحر الأبيض هو الفراغات التي تتركها الكلمات بين السطور، وأن السحر الأسود هو السطور التي تصنعها الكلمات، وأن الأيام السوداء هي تلك التي ينجح فيها العاقلون الأشرار في منع السحرة من ملء الصفحات البيضاء” (ص 109). ومن هنا أرى أن اختيار كيمي الجنون هو ستار تستخدمه لتتخطى به حدود الصمت المفروض عليها وتنطلق منه لممارسة السحر الأسود المجنون – أي فعل الكتابة. وحين تبتلع كيمي حبة الدواء في موقف آخر تعود تذكرنا بأن ابتلاع الدواء لعلاج الجنون هو فعل قتل للذات المبدعة، فتصف نفسها حينها كما لو كانت تماثل “المج البلو دلف الذي أفرغ من ريشات الكتابة ونشفت محبرتها ولم تعد بجانبه أوراق”، بل وتشعر بنفسها وهي تتحول من إنسانة واعية إلى صنم حجري: “شيء لا أكثر، بلا صوت، بلا حكاية، بل بلا لغة” (ص64- 65). وفي إطار ثقافة تكرس للصمت وتسعى إلى الإسكات، نجد “سمية رمضان” هنا تشير إلى صعوبة الإبداع حين يصبح مثيلاً للجنون من حيث كونه فعل مقاومة ووسيلة للتعبير ولتخطي الحدود وكسر القيود في سبيل إعادة قراءة الذات والتعبير عنها بفعل الحكي والكتابة.

وإذا كان الجنون وعيا يعبر عن نفسه في النص من خلال الحكي والكتابة، فأود الآن أن أتأمل العناصر التي شكلت حكاية كيمي ورواية سمية، فأجد أن عقل كيمي الواعي ذا الخبرات المتراكمة التي تعيد اجترارها وتحليلها ومحاولة فهمها يقوم بعملية أقرب إلى تجميع الخيوط المتناثرة لغزل الذات، فتستعين كيمي في حكايتها بالعديد من الخيوط كالذاكرة والأساطير والحكايات، التي تشغل في حد ذاتها موقعًا فريدًا بين الماضي والحاضر، أو بالأدق تربط الماضي بالحاضر وتخرج عن حدودهما في ذات الوقت. حيث تعود الذاكرة بنا وبها إلى سنوات الطفولة بما فيها من خطوط مستقيمة ودروس القراءة والحساب وخبرات القهر وعدم الفهم. وتجدر الإشارة إلى أن الذاكرة هنا تعمل في الحاضر مستعيدة الماضي ومسقطة عليه تأويلات كيمي في لحظة التذكر لا لحظة الحدث، وما يحيط بتدوين الذاكرة من وعي وانتقاء وترتيب وإعادة كتابة. كما تشكل الأساطير خيطًا آخر من خيوط الحكي، وتحديدًا ما نجده من ورود شخصيات أسطورية بعينها تربط وتشكل وعي كيمي بواقعها. ومن أكثر تلك الشخصيات وضوحًا على سبيل المثال شخصية “نرسيس” المتأمل لذاته، وعلاقته بعنوان الرواية ذاتها “أوراق النرجس”، وهي علاقة تتبدى في أبرز صورها قرب نهاية الرواية حين تعلق كيمي على صورتها في المرأة في سياق يشبهها بنرسيس متأملاً وجهه في المياه: “التفتُ فالتقطت وجهي في المرآة فوق التسريحة، مياه المرآة متعرجة، تتماوج، تتطلع إلي” (ص116). وشخصية بينيلوبي الأسطورية هي خيط آخر يمتد متماوجا عبر الرواية، فهي صاحبة أسطورة الغزل والنسل الأبدي التي تدخل في علاقة حميمة مع شخصية كيمي التي تتفاعل معها وتسقطها على واقعها لتكشف لنفسها ولنا عن جوانب قد تبدو خافية من شخصيتها.

وإلى جانب الأساطير تعتمد كيمي في حكايتها كما توظف سمية رمضان في روايتها عناصر أخرى تنتمي في الأساس إلى الثقافة الإنسانية الشفاهية وهي الحكايات الشعبية. فحين تحاول كيمي البحث لإيجاد لغة تعبر بها عن ذاتها يصبح الحكي الشفاهي وسيلة للتعبير ولتجاوز العجز عن الكتابة، وهو ما يتحقق من خلال حكاية الملك الأطلسي التي تسمعها كيمي من آمنة، وتظل تنتظر نهايتها لتعيد صياغتها وحكيها، ولا يقتصر ذلك على الحكاية الشعبية المصرية وإنما تتجاوز “سمية رمضان” في سردها حدود المكان مستعينة بحكايات شائعة من التراث العالمي بما تحمله من نماذج نسائية سلبية تمثل قيم المجتمع الأبوي. إلا أن “كيمي” ترفضها، وتأبى أن تكون مسلوبة الإرادة مثل الأميرة النائمة، كما تحول “شابورون روج” أو ذات الرداء الأحمر إلى “شابورون نوار” أي ذات الرداء الأسود بما في اللون الأسود من إشارة إلى السحر والكتابة. ولا تقتصر خيوط الحكاية على عناصر أسطورية وخيالية، وإنما من اللافت للانتباه وجود إشارات إلى شخصيات أدبية عانت صورًا من القهر على مستويات عدة، مثل الكاتب الإيرلندي الساخر أوسكار وايلد. أما الكاتبة سيلفيا بلاث فتتكرر الإشارة إليها وإلى روايتها “الجرس الزجاجي” في علاقة تبدو أقرب إلى التناص حين تقول على سبيل المثال “لم ألحظهم وهم يصنعون من حولي جرسًا كبيرًا من الزجاج السميك” (ص 30)، حيث نرى “كيمي” بعدئذ في مشاهد عديدة وهي تعبر عن محاولاتها للخروج من ذلك “الجرس الزجاجي” المحبوسة داخله. ولعل الجرس الزجاجي يحتل موقعًا في السرد ما بين التناص والموتيف المتكرر والذي يتمثل على سبيل المثال في تكرار الإشارة إلى الخطوط والدوائر. فهنالك الصراط المستقيم والتوازيات التي لا تلتقي والخطوط المستقيمة جنبًا إلى جنب الدوائر والإهليلجات والأشكال الحلزونية التي تمثل لكيمى انعكاسًا لما في الحياة من دوائر متداخلة. الملاحظ أن الخطوط المستقيمة تلك ما تلبث أن تتخذ أشكالاً أقرب إلى الدوائر بفعل رغبة كيمي في إيجاد معنى منطقي لوجودها. كما أن فكرة التوازي والتقاطع تتضح أيضًا عن طريق صورة المقص العاجز عن القص ذي الحدين المتوازيين، مع التأكيد على ضرورة وجود المسمار الذي يربط هذين الحدين فيلتقيان، ليتحقق القص وتتحقق جدوى وجود المقص، ويرتكز النص كذلك على صورة المرايا والانعكاسات المتعددة والمتكررة بما تعكسه بدورها من تعدد لصور الذات الناظرة في تلك المرايا وتشظيها. فالنظر في المرآة وعبرها ليس سوى محاولة لتجميع شظايا الذات، ولكنه عملية تخضع بالضرورة إلى تأويل الذات وتفسيرها اعتمادًا على زاوية الإبصار والتفكير. وهكذا تصبح المحصلة النهائية أقرب إلى حلقات متتابعة وصور متعددة للذات كما تنعكس في المرايا وفي المياه وفي الذاكرة وفي الحياة وفي وجوه وأصوات الآخرين. ومن هنا، فبدلاً من أن تنجح كيمي في تحديد ملامحها وذاتها، ينتهي مسعاها نحو جوهر هويتها باكتشاف ذات متعددة الأوجه متشظية الهوية تتجاوز محدودية الصورة المثالية للذات الكاملة المكتملة.

إن في انخراطها في الغزل والنسل أي الكتابة والمحو تبدو كيمي في أوراق النرجس أقرب إلى “بينيلوبي” المستغرقة في غزل الخيوط، ففي حجرتها “هناك كان المصباح بالكاد يطفأ. كانت تكتب ولا يقرأ لها أحد” (ص33). وجنون كيمي هو عامل الإبداع في سبيل جمع خيوط حياتها وحكاياتها المتوازية لتصنع تصورًا مفهومًا لذاتها. وبمجرد اقترابها من الانتهاء تبدأ عملية نسل يتبعها غزل ونسل وغزل… فالاكتمال يعني النهاية بينما يمثل استمرار الغزل والنسل استمرارًا لمسيرة الحياة والإبداع. وعلى مستوى السرد يسود أوراق النرجس أسلوب الحكي وإعادة الحكي، والكتابة والمحو لإعادة الكتابة. وتعود سمية رمضان في نهاية روايتها فتربط بين الكتابة كفعل جنون وبينها كإبداع ومقاومة للموت، حيث الاكتمال نذير الموت، فتتخذ الرواية شكل الكتابة والمحو والإعادة. وبينما تعاود سمية الكتابة بعد المحو: “أن نمحو ونعاود الكتابة والحياة من جديد…. ربما” (ص117)، توحي إلينا في النهاية بإعادة القراءة حيث تتخذ أوراق النرجس شكلاً دائريًا لتنتهي بكلمة “ربما”- نفس الكلمة التي تفتتح بها روايتها.

إن رواية أوراق النرجس لا تنتمي إلى الأدب النسوي بمعناه النظري الذي يشير إلى الأدب المهموم بالقضية النسوية والقائم على أساس من الوعي النسوي، وهو الوعي الذي تعرفه الناقدة النسوية جيردا ليرنر بوصفه يعبر عن وعي المرأة بانتمائها إلى فئة ثانوية تابعة، وإدراكها لمعاناة النساء عامة، وأن تلك التبعية المفروضة على النساء ليست أمرًا طبيعيًا بل نتاج اجتماعي، وكذلك وعي المرأة بأهمية تضامن النساء لتصحيح تلك الأوضاع الخاطئة، وأخيرًا إدراك النساء واجبهن وقدرتهن على طرح رؤية بديلة للنظام الاجتماعي بحيث تتمتع فيه النساء جنبًا إلى جنب الرجال بالاستقلالية وحرية القرار10. ولكن مع ذلك نجد في الرواية ملامح خاصة لا تخطئها العين بما فيها من جماليات تضعها في مصاف الكتابات ذات الخصوصية النسائية، والمتمثلة في رأيي في موضوع الرواية ومضمونها وشخصياتها والصوت السردي وفنية الترميز فيها. فمن منطلق المضمون، تدور الرواية حول تجربة حياتية إنسانية لامرأة في علاقتها بذاتها ومحاطة بجمع من النساء الأخريات، سواء شخصية “آمنة”، أو الأم الكامنة في الخلفية، أو مريم الصغيرة وما يتملكها تجاهها من إحساس بالذنب، أو مدرساتها في المدرسة أو حتى زميلاتها في الغربة، في دوائر من العلاقات تكشف كل منها عن جانب من التوترات والتوازيات والتناقضات السائدة في النص. أما كيمي الكاتبة، ورغم تعدد قراءاتها لأعمال كثير من الكتاب (الرجال)، فإنها تتماهي ككاتبة مع الشاعرة سيلفيا بلاث، ذلك إلى جانب المؤثرات السردية الممثلة في أسلوب تيار الوعي الذي ابتدعته وأبدعت في استخدامه الأديبة والناقدة البريطانية الرائدة “فيرجينيا وولف” في بدايات القرن العشرين.

وباعتبار الرواية نصًا معاصرًا ومع الأخذ في الاعتبار كون المؤلفة كاتبة إبداعية وباحثة أكاديمية، نجد أن رواية أوراق النرجس تتسم بكونها نصًا نسائيًا يبتعد عن أسلوب الكتابة التقليدي ويحمل ملامح من كتابات ما بعد الحداثة، وذلك من حيث غياب وحدة وتماسك البنية فتميل إلى التشيؤ والتقسيم، والذي يتبدى بوضوح في تقديم النص في شكل مقاطع أو أوراق نجت من عملية التقطيع والإلقاء في القمامة: “أشياء شبيهة، وأوراق كثيرة، كثيرة مزقت على مدى ثلاثة أيام” (ص47). وفي هذا التداخل بين أوراق النرجس وبين أوراق كيمي تمحو سمية رمضان عن نفسها صفة التأليف وتدعي كونها مجرد وسيط قام بجمع أوراق كيمي المبعثرة ونشرها في هذا الكتاب، وهو ما تؤكده في حوار صحفي تفسر فيه المبرر الفني للجوئها في الرواية إلى التقسيم والعنونة قائلة: “الرواية كتبت على أساس أنها مجموعة من الأوراق المبعثرة يتم جمعها بشكل ما، وهناك فصل في الرواية يشير لذلك، لكن أحدًا لم يلتفت إليه، فصل يبدو وكأنه مقحم تمامًا، شخصية تجلس في غرفة تمزق أوراقًا، ثم تبدأ هذه الأوراق في التجمع مرة أخرى، والرواية يمكن قراءتها من مناطق كثيرة، يمكن قراءتها من النهاية أو المنتصف، هي في مخيلتي- وقد أكون فشلت- مجموعة من الأوراق كانت أكثر من ذلك ثم مزقت وأعيد تجميعها ونشرت، فكان لابد لها من عناوين11“. كما تكشف سمية رمضان عن سمة تختص بها النساء عادة دون الرجال، وتتسم بها الكتابة النسائية وكتابات المهمشين، وهي غياب الشعور بالزهو والإنجاز والمعرفة وتعظيم الذات، بل الميل إلى تعرية العيوب والنواقص والكشف عن التناقضات وطرح التساؤلات، مع الحرص على تتبع مسار التجربة لا استعراض محصلتها النهائية.

ومن الناحية الفنية تستخدم سمية رمضان عددًا من الرموز والصور المجازية المستقاة من عالم النساء. فمن ناحية توحي لها علبة الخياطة بالكون، فتتأمل تناقضات الحياة وتصور غياب الروح عن الأشياء والذي يراه عقلها في معالم الحياة والأزمنة والأماكن من خلال “المقص” الذي فقد مسماره فتوقف عن الفعل. فعند عودتها إلى بيت أبيها بعد طول غياب تشعر بتغير وركود: “شيء ما ذهب عندما وقع المسمار الصغير من مقص الخياطة ولم يستبدله أحد…. يتوازي الزمان والمكان فلا يلتقيان… وتفقد الشفرات حدتها ولا يحدث شيء” (ص 68- 69). فالتوازي يعبر عن الركود، مثلما يكون المقص المكسور الذي لا تتقاطع شفراته لسقوط مسماره رمزًا لغياب المعنى: “إن الشعراء لا يكتبون عن الأماكن والأوقات وإنما عن نقطة تلاقيها في الروح. الشعراء يكتبون من موقع المسار الصغير الذي يجعل شقي المقص فكا يصنع المعنى” (ص74)، وتعود تستخدم المجاز نفسه عندما تسترجع لحظات انعدام الجدوى “وتفقد الأمور والأشياء صلاتها وتنتفي المعاني. المسمار الصغير الذي كان يجعل من المقص سلاحًا تلتقي عنده الكلمات… يسقط” (ص 96). وعندما تتناول سمية رمضان تأملات كيمي الفلسفية حول مسار الحياة في خطوط ودوائر نجدها تستخدم صورة لكيمي إذ تقوم يتقشير بصلة فتوحي لها شكلاً بمفهوم النضج باعتباره “إزاحة طبيعية للقشرة الخارجية” (ص91)، بل وترمز إلى الموت حيث تزامن تقشير البصلة مع موت هشام صديق طفولة كيمي حيث تعاودها رائحة البصلة المقشورة عند سماعها خبر موته (ص 93). بل وفي النهاية حين يتكثف إحساس كيمي بالضآلة تقول “كدت أقشر وتسقط القشرة الأخيرة… بعدها لن أكون” (ص 107). وأخيرًا تقدم “سمية رمضان” روايتها في صورة أقرب إلى عمل من أعمال النسيج، ونتاجًا لعملية متواصلة من الغزل والنسل أي الكتابة والمحو.

وأخيرًا أود أن أتوقف عند موضوع الرواية، والذي أراه متمحورًا حول علاقة الجنون بالإبداع، وأرى في اختيار هذا الموضوع تعبيرًا مباشرًا عن وعي سمية رمضان بالكتابة النسائية وباهتمام النقد النسوي الغربي بصورة المرأة المجنونة في الأعمال الأدبية ممثلاً في الدراسة الرائدة التي قدمتها ساندرا جلبيرت وسوزان جوبار عن “المجنونة في العلية” 12. عن المرأة الكاتبة والمخيلة الأدبية في القرن التاسع عشر، كذلك لا يغيب عني أن سمية رمضان نفسها قد قامت بترجمة كتاب فيرجينيا وولف “حجرة تخص المرء وحده”، بالإضافة إلى عن أن سمية رمضان إشاراتها في الرواية إلى “الجرس الزجاجي” والسيرة الذاتية للشاعرة “سيلفيا بلاث”، وهما الكاتبتان اللتان عبرنا عما يجري في عقليهما من تساؤلات ووعي بالتناقضات وعجز عن فهم مطلق للحياة، فاتهمتا بالجنون. ونظرًا لما تتمتع به سمية رمضان من خلفية ثقافية قوية ومعرفة أكاديمية متسعة، فلا شك لدي في معرفتها بالأدبيات التي تتناول تاريخ ربط الجنون بالنساء الخارجات عن السياق والفكر السائد. ففي كتابها عن “المرض الأنثوي” ترى الناقدة النسوية “إيلين شوولتر” أن القراءة النسوية لجنون النساء تتجاوز رؤية المرأة المجنونة باعتبارها ضحية للمرض أو المجتمع، بل تعتبر أنه من الممكن النظر إلى جنون النساء (الذي عرف أيضًا بمسمى الهستيريا) على أنه شكل من أشكال الاحتجاج النسائي غير الواعي في سياق القرن التاسع عشر، بل وتقول “إن الرؤية السائدة ترى وجود معادلة بين الأنوثة والجنون… فقد كانت الفيلسوفات والناقدات الأدبيات والمنظرات الاجتماعيات النسويات المعاصرات من أوائل من لفت الانتباه إلى وجود تحالف أساسي بين “المرأة” و “الجنون”. كما أوضحن كيف أن النساء يقعن داخل أنظمتنا اللغوية والتمثيلية الثنائية في موضع اللاعقلانية والصمت والطبيعة والجسد، بينما يقع الرجال في موضع العقلانية والخطاب والثقافة والعقل”.13

وختامًا لا أجد ما هو أنسب من الاستشهاد بسمية رمضان في تعليقها على سؤال عن شخصياتها النسائية وما تعبر عنه من إحساس بالاضطهاد أو الهوس أو الجنون، إذ تجيب قائلة: “أما عن كون بطلاتي مجنونات، فمن الطبيعي أن أي شخص لديه قليل من الوعي وكثير من القهر مع قلة فرصة التعبير أن يصاب بفقدان التوازن… هن شخصيات عاديات جدًا يحاولن فك شفرة رموز عالم بأسره لا يقدر الأشياء التي يقدمنها على بساطتها”. 14 إنها جملة قوية كاشفة تؤكد لنا ضمنيًا سعي سمية رمضان في أوراق النرجس إلى كتابة الجنون وولعها بجنون الكتابة.

*مدرسة بكلية الآداب، جامعة القاهرو، عضو بمؤسسة المرأة والذاكرة، وباحثة ومهتمة بدراسات الجندر.

1 هذه الورقة صيغة مطورة لمقالة نشرت في مجله أدب ونقد فور صدور الرواية في عام 2001: (هاله كمال, “الجنون: مقاومه الصمت بالكتابة”، أدب ونقد, القاهرة: العدد 191، يوليو 2001, ص65-70)، والمنشورة أيضا علي موقع ” منتدي الكتاب العربي”:

https://www.aawsat.com/details.asp?section=28&article=95129&issue=8519

  1. انظر/ي علي سبيل المثال: محمد الحمامصي في صحيفة الشرق الأوسط يوم 25 يونيو 2001 بعنوان ” مصريه تعيد مساءلة الهوية والذات”:

https://www.aawsat.com/details.asp?section=28&article=95129&issue=8519

  1. في الترجمة الصادرة باللغة الانجليزية للرواية, يصف الغلاف الداخلي هذا النص باعتباره رواية عن الوطن والتشرد، وعن المنفي الفعلي والنفسي، وعن العلاقات بين الشرق والغرب:

Somaya Ramadan, Leaves of Narcissus, trans. Marilyn B ooth (The American University in Cario Press, 2002).

4 انظر/ي دراسة خيري دومة عن “ورواية السيرة الذاتية الجديدة: قراءه في بعض , روايات البنات , في مصر التسعينات “المنشورة في العدد36 من مجله نزوي:

https://www.nizwa.com/volume36/p85 77.html

55

  1. محمد الحمامصي، جريدة السفير اللبنانيه, 18 يونيو 2007:

www.khayyat.net/home/index.php?categoryed=5&p2_articleid=1533&p2_page=2

  1. كافه الاقتباسات الواردة هنا من متن الرواية مأخوذه من: سميه رمضتن أوراق النرجس رواية (القاهرة:دار شرقيات 2001).
  2. انظر/ي علي سبيل المثال:

Elaine showalter, The Female Malady: Women, Madness, and English Culture, 1830-1980(London:Virago Press 1987); Eleine showaiter, “Hysterical Narratives” in Hystories: Hysterical Epidemics and Modern Culture (London:Picasor, 1997).

  1. ردا على المفاهيم غير العلمية الشائعة، ينفي أساتذة الطب النفسي وجود مرض نفسي يطلق عليه الجنون , وإنما يرون ان الجنون هو مصطلح ثقافي يعبر عن السلوك غير المألوف. أما الأمراض النفسية والعصبية فتضم مجموعه من الأمراض القابلة للتشخيص والعلاج .(انظر/ي علي سبيل المثال :أحمد عكاشةـ “حقيقة المرض النفسي، السلسلة الطبية من كتاب اليوم القاهرة : أخباز اليوم، مايو 2006, ص119-121).
  2. انظر/ي

Gerda Lerner, The Creation of Feminist Consciousness: From the Middle Ages to Eighteen-seventy (Oxford; New york: Oxford University Press, 1993), p.14.

  1. محمد الحمامصي, جريده السفير اللبنانية. 18 يونيو 2007:

www.khyyat.net\home\index.php?categoryid=5&p2articleid=1533&p2page=2

.12

Sandra M. Gilbert and Susan Gubar, The Madwoman in the Attic: The Woman Writer and the Nineteenth-century Literary Imagination (New Haven and London: Yale University Press, 1979).

.13

Elaine Showalter, The Female Malady: Women, madness, and English Culture, 1830-1980 (London: Virago Press 1987), pp.4-5.

  1. محمد الحمامصي، جريده السفير اللبنانية ,18 يونيو 2007:

www.khayyat.net\home\index.php categoryid=5&p2articleid=1533&p2page=2

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي