الاغتصاب …. أزمةُ أفرادٍ أم أزمةُ مجتمع؟

اعداد بواسطة:

الاغتصاب …. أزمةُ أفرادٍ أم أزمةُ مجتمع؟

مثل مواسم الحصاد والأمطار والأمراض المعدية، أصبحت حتى الحوادثُ المؤسفةُ في مصر تأخذُ شكلاً موسميًا. فتبدأُ بحادثة تجر ورائها سلسلة من الحوادث المماثلة، تقوم لها الدنيا وتقعد، وتُفردُ الصحافةُ صفحات لرصدها بالكلمة والصورة، ويتبارى الناسُ للتعليق عليها وعادة السخرية منها شر البلية ما يضحك“. فهناك موسمُ الحرائق، وموسمُ تصادم القطارات، وموسم انهيار العمارات، وأخيرًا موسم اختطاف الفتيات والسيدات من شوارع القاهرة واغتصابهن، واكتشاف المغتصبين فورًا، وتقديمهم للمحاكمة والمطالبة بإعدامهم.

وإذا كُنا إن اجتهدنانستطيعُ أن نصل إلى تفسيرٍ غير معقد لهذه الحوادث المؤسفة وتزاحمها في مواسم؛ فسنبقى مفتقدين لتفسير بهذه البساطة يفسر لنا موسم الاغتصاب، فموسمُ الحرائق قد يُفسرُ بتزامنه مع موسم الجرد السنوي للشركات والهيئات والمصانع، وموسمُ انهيار العمارات قد يُفسره شحناتٌ من الأسمنت الفاسد، وموسمُ تصادم القطارات قد وأقولُ قد يُفسره انتهاء العمر الافتراضي للقضبان، أما أن يُقرر فجأة عددٌ من الشباب المصري أن يغزوا الشوارع للقيام بهذا العدد الضخم من عمليات الاغتصاب في وقت متزامن، وذلك بالرغم من التهديدات الرادعة الرهيبة، فهذا مما يصعبُ تفسيرهُ بسهولة.

التشهيرُ بهم لا يبدو أنهُ يردعُ الآخرين، ولا حتى التهديدُ بالإعدام، والذي يُفترض أنه عبرةٌ لمن يعتبر، يبدو أنه وضع حدًا لهذه الاعتداءات. فلماذا هذه الظاهرة؟ ولماذا الآن؟ ولماذا تأخذُ شكل الحملة؟ ولنبدأ بالسؤال الأخير لنجيب بعدم اعتقادنا في أن الزيادة الأخيرة في حوادث الاغتصاب هي زيادةٌ حقيقيةٌ، أو هو انعكاسٌ لمشكلة ظهرت مرة واحدةً من حيث لا ندري، وتفشت كالسرطان ولا كابح لجماحها سوى الإعدام. هناك ما يُفسر. بل وحتى هناك ما يجعلنا نتنبأُ بزيادة هذا النوع من الحوادث مستقبلاً إذا بقي الحالُ على ما هو عليه، ولكننا لا نعتقدُ أن المشكلة وُلدت لتوِّها، والذي يهمنا بحقٍ في هذا المقال هو الطريقة التي نتناول بها القضية من جانب الرأي العام ومن الصحافة. إننا نقولُ بأن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية السائدة في مصر في الفترة الأخيرة، والتي لا نُبالغُ إذا بدأناها من منتصف السبعينات، وبشكل أوضح مع بدايات سياسة الانفتاح الاقتصادي، قد مهدت الطريق لمثل هذه الحوادث، والتي إن تعكس شيئًا فإن الجوهري فيه هو الإحباطات والكبت والتحديات التي يفرضها على الشباب مجتمعٌ استهلاكيٌ يتخذُ من المنافسة الحرة شعارًا له، ويُقدسُ الحل الفردي للخروج من المشاكل الاجتماعية والاقتصادية. إن المجتمع الذي لا يضع خطة تنمية شاملة تستوعبُ وتوظفُ كافة الطاقات من رجالٍ ونساءٍ، شبابٍ وشابات، لهو مجتمع يتركُ لهؤلاء طريق الحل الفردي طريقًا وحيدًا لتحقيق الذات وكل واحد وشطارته“. فهو يفتح في ذات الوقت إعلامه وثقافتهُ ومُثله العليا، ونمط حياته على مثيلاتها في الغرب الرأسمالي، فتُعرض في متناول الجميع زاهية الألوان منمقةً تقدسُ الفردية والتنافس والجدعنة إن هذا الإعلام الذي يُكرس ما يزيد عن نصف وقته من مسلسلات وأفلام لتنقل لنا حياة القصور وأجواء العنف، وأشكال الاستهلاك الخيالية على شاشات التلفزيون والسينما، وصفحات الجرائد المحاطة بالأضواء والإعجاب، والرفع إلى مستوى القيم، ليس له أن يشكو بعد ذلك من توحد شبابه مع هذه النماذج، ومحاولته تقليدها. ويصح ذلك أكثر؛ إذا كان هذا المجتمع ذاته لا يُقدم لهذا الشباب بديلاً يُرضى تطلعاته. ففي الدراسة إحباطٌ، وفي الوظيفة إن وجدت إحباط، والدخل الحكوميُّ الشهريُّ قد لا يكفى للإعالة الخاصة، ناهيك عن أن يكفي للحصول على شقة وتأثيثها، والزواج وتكوين أسرة. فالشققُ أصلاً للصفوة القادرة، ومن ثم تأتى هذه الحوادث نتيجةً طبيعيةً ومتوقعةً لنظامٍ يُكرسُ حرية الفرد المطلقة في تعويض حرمانه، ومعالجة إحباطه الاقتصادي والاجتماعي، ويمكننا أن نضيف الجنسي والنفسي. إن مجتمعًا صار ينادي بالتنافس الحر دينًا له، ليس له أن يثور أو يغضب لأن الشئ تفتق عن نتيجته الطبيعية. فالكبت يؤدي إلى الإنفجار، وإذا توفرت كُلُ أسباب الكبت؛ ليس لأحد أن يُفاجأ أو يعترض على الانفجار عندما يحدث، لكنها مع ذلك مشكلة لا يمكن السكوت عليها لمجرد أننا توقعناها. فما الذي يطرحه المجتمعُ كحل؟ ما الذي يطرحه المربون والساسةُ والصحفيون والرأي العام كحل؟ فحدُّ الإعدام مسلطًا على رقاب الشباب والدعوة إلى السترة تنتظر الفتيات والسيدات. وبدلاً من أن نتتبعَ المشكلة إلى جذورها الأولى؛ نكتفى بالقشور! فتعالجُ الرجعية بما هو أكثرُ رجعيةً منها، والقهر بما هو أكثرُ قهرًا منه. فتأتى التوصيات بأن تحتشم الفتيات وأن يتحلين بالأخلاق، وألا يتواجدن بمفردهن في الشوارع…. إلخ. كما لو كان نصفُ المغتصبات أصلاً كُن مع خطابهن وأزواجهن، كما لو كان وجود الفتاة في الطريق هو دعوةٌ مفتوحةٌ للإعتداء الجنسي. فنجدنا في النهاية أمام خيارين بالنسبة للفتاة، إما أن تُغتصب وإما أن تَحتجب عن الحياة العامة إلا للضرورة القصوى، كما لو كان ظُهورها المجرد دعوةً لاغتصابها، وهو ما يعكس أصلاً نظرة الداعين عن المرأة أنها كائنٌ جنسیٌ شهوانیٌ متحرك، وظيفته الأساسية إثارة الرجل وجذبه إليها، وبالتالي فلها أن تختار إما أن يُغتصب جسدُها، أو أن تُغتصب حُريتُها في أن تتعامل على قدم المساواة مع الرجل باعتبارها إنسانًا. وكلاهما اغتصابٌ وإن كان الثاني أقلُّ إزعاجًا للرأي العام. ونحن نقولُ بأن الحل يكونُ بحل المشكلة من جُذورها . يكون في إطار مجتمعٍ مختلف. مجتمعٍ يخضع لخطة بناءٍ تجد لكل فرد من أفراده، ذكورًا وإناثًا على السواء، مكانًا فيه، يكونُ الحلُّ في دراسة مشاكل هؤلاء الشباب الاقتصادية والاجتماعية. في إعادة النظر في مناهجهم الدراسية وما تتضمنه من قيم في توظيف ملكاتهم، في توفير أولويات الحياة لهم، من سكنٍ وطعامٍ وعلاجٍ وتعليمٍ وثقافةٍ، في استيعاب طاقاتهم عن طريق الرياضة والندوات والمعسكرات والتبادل الشبابي، يكون في توفير حياة كريمة تلبي احتياجاتهم، ولا تُقسمُهم إلى جنسين: الإناث والذكور، أو المُستغلين والمستغلين، أو الأغنياء والفقراء….. إلى آخر هذه الثنائيات، فيستبدلون موقف التنافس والاغتصاب المتبادل بموقف يجمعهم جميعًا في خطة شاملة، تستبدلُ الحلم الفردي بحلم جماعيَّ لمجتمعٍ أفضل لكافة طبقاته الكادحة وأبنائه.

أما السترةُ في المنازل، فإلى جانب كونها تخلفٌ قد يلجأ إليه البعض استسلامًا للمثل القائل الباب اللي ييجي منه الريح سدة واستريحإلا أننا نشكُّ كثيرًا في أن الكثير من السيدات والفتيات اللاتي اخترن عن عقيدة، أو اللاتي فرضت عليهن ظروفهن أن ينزلنَ معترك الحياة العامة والعملية؛ سوف يقبلن به، وحتى في أسوء الظروف يقدرن عليه. أما الإعدام فنحنُ نضعُ علامة استفهامٍ كبيرةٍ حول جدواه كرادع، فكما أن الإعدام للقاتل لم يضع حدًا لحوادث القتل، لا في بلادنا ولا في خارجها، كذلك فإننا ندعى أن التهديد به، لن يضع حدًا لحوادث الاغتصاب طالما أسبابُها موجودة، وطالما القهرُ والكبتُ والإحباطُ والجشعُ الاستهلاكي هو السائد .

..لا ولو احتجبن كلُّ نساء البلد .

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي