التاريخ الشفاهي

التصنيفات: غير مصنف

المنهجيات والمنظومات والمصادر

لدراسة النساء والثقافات الإسلامية

المداخلات في الأفرع المعرفية

التاريخ الشفاهي

إن عملية إحياء التاريخ الشفاهي بدأت في الخمسينات والستينات من القرن العشرين بقيادة المؤرخات والمؤرخين الاشتراكيين ممن سعوا إلى التاريخ لحياة الطبقات العاملة وحياة البشر العاديين، ومع تأسيس جماعة التاريخ الشفاهي البريطانيفي السبعينات من القرن العشرين شهدت الحركة العالمية زخما كما تم البدء في عدد من المشروعات ذات البرامج السياسية الاجتماعية الراديكالية. وبشكل عام، ومع تحول الانتباه من تدوين حوليات الأغنياء والمشاهير، وهو موضوع التاريخ الرسمي، ومع منح الأولوية لحياة البشر العاديين، أصبح التاريخ الشفاهي بمثابة أداة قوية للتحول الاجتماعي الراديكالي وأداة لتحقيق الديمقراطية. واستجابة للسؤال الذي طرحته الحركة النسائية أين توجد النساء في التاريخ؟، شرعت المؤرخات النسويات والمؤرخون النسويون في عدل الموازين عن طريق البحث عن النساء اللاتي تم تهميشهن أو إسكاتهن في كتب التاريخ الرسمي. وقد تم توثيق التاريخ الشفاهي للنساء ضمن برنامج نسوي يسعى واعيًا إلى استعادة الأصوات التي تم إسكاتها، وإلى مواجهة المصادر التاريخية السائدة التي قامت بإقصاء تجارب وخبرات النساء، وبالتالي السعي إلى تفعيل التغير الاجتماعي. وكان شعار غالبية تلك المشروعات الرائدة هو: البحث بواسطة النساء، وعن النساء، ومن أجل النساء.

وكان مجال التاريخ الشفاهي منذ مولده يقع في قلب الجدل والنقاش الدائر. فبداية، كانت شرعية التاريخ الشفاهي، وما زالت، تواجه تحديات المؤرخات والمؤرخين التقليديين الذين يشككون في مدى إمكانية الوثوق في المصادر الشفاهية، كما يلقون بشكوكهم حول صدقها ومصداقيتها. فالموضوعية باعتبارها مبدأ من مبادئ البحث التاريخي تجد نفسها وجهًا لوجه أمام الذاتية المفترضة في الروايات الشفاهية. دخلت المؤرخات والمؤرخون للتاريخ الشفاهي في صراع مع المؤسسة التاريخية التقليدية لكسب الاعتراف بمصادرهم وزيادة مساحة البحث التاريخي، كما أشاروا إلى أنه رغم لجوء المؤرخات والمؤرخين دوما إلى الروايات الشفاهية للتوثق من السجلات إلا أن البحث الأكاديمي المؤسسي لم يضع المصادر الأرشيفية في الصدارة على حساب السرديات الشفاهية سوى في القرن التاسع عشر. كما أشاروا إلى نظريات ما بعد الحداثة التي تكشف أسطورة الموضوعيةفي مختلف العلوم، وأوضحوا مدى تغلغل الفرضيات والمسلمات بشأن وجود شخصية عارفة تنتمي إلى سياق سياسي اجتماعي معين وكيفية تمكن تلك الفرضيات من مشروعات البحث العلمي. إضافة إلى ذلك، أكدوا على أن من الخصائص المميزة للتاريخ الشفاهي هو أنه لا يتناول ما قد حدث، بقدر تركيزه على المعنى من وراء ما حدث. وكذلك فإن فهم ما يحمله ذلك المعنى من تعقيدات يتطلب منا الانتباه إلى عمليات بناء هذا المعنى والتعبير عنه.

أي أن الشفاهية وتفاعلات الذاكرة تصبح مبادئ محورية في بحوث التاريخ الشفاهي. وقد نجحت المؤرخات والمؤرخون للتاريخ الشفاهي في مراجعة المفهومين المستخدمين في التقليل من شأن التاريخ الشفاهي، وهي مراجعة قامت بإضفاء الصدارة والقيمة على هذين المفهومين. فقد قاموا بمواجهة وتحدي الثنائيات المتقابلة ذات المحورية الأوروبية فيما يتعلق بإعلاء القراءة والكتابة فوق الشفاهية، كما كشفوا عما يتمتع به التراث والسرديات الشفاهية من إمكانيات دفينة لتشكيل الوعي الاجتماعي وتفعيل التحول الاجتماعي. فعلى سبيل المثال، أكد أليساندرو بورتيللي على تفاعلات الذاكرة مركزًا على أن اعتبار المصادر الشفاهية مصادر غير موثوق فيها هي عامل قوة أكثر منها ضعفًا، لأن الذاكرة ليست مجرد مستودع سلبي للوقائع، بل عملية نشطة في خلق المعاني وتكشف التغيرات عن جهد الراوي في فهم الماضي وإضفاء شكل ما على حياته، وتضع المقابلة والسردية في سياقهما التاريخي (Alessandro Portelli 1990, 53- 56). كما أوضح أهمية شفاهية السردية الشفاهية، لافتا الانتباه إلى شؤون اللغة والنبر والشكل السردي والذاتية. والمقاربة التي يستخدمها بورتيللي هي مقاربة الدراسات البينية، مثله في ذلك مثل أفضل الدراسات التي تتناول التاريخ الشفاهي. وقد اعتمد المؤرخون والمؤرخات للتاريخ الشفاهي على الملاحظات ومناهج البحث التي تطورت داخل مجالات الأنثروبولوجيا وعلم الاجتماع والنقد الأدبي وعلم اللغة والدراسات الثقافية وعلم النفس. وقد أدى ذلك إلى انتقال الجدل الدائر عن التاريخ الشفاهي من الإطار المحدود المعني بتحديد ما هو صدق أم كذب، حقيقة أم خيال، إلى آفاق الوعي والإدراك، والعلاقة ما بين الذاكرة الاجتماعية من ناحية والذاتية من ناحية أخرى.

 

إن تأويل السرديات الشفاهية يحتل موقع الصدارة في اهتمام المؤرخات والمؤرخين خلال العقد الأخير. ففي دراستها المؤثرة أشارت لويزا باسيريني إلى أن المادة الخام للتاريخ الشفاهي لا تتكون من مجرد المقولات الحقيقية، وإنما هي أساسًا تعبير وتمثيل للثقافة، ومن هنا لا تتضمن السرديات الحرفية بل وكذلك بعد الذاكرة والأيديولوجيا والرغبات الدفينة” (Luisa Passerini 1998, 54).ومن ثم تم الاستغناء عن نماذج علم الاجتماع القديمة لتحليل الحكايات لصالح المفاهيم التي تطورت داخل مجال النقد الأدبي، مثل علم السرد وتحليل النص. وقد اقترب الباحثون والباحثات من المقابلات الشفاهية وتناولوها باعتبارها خطابًا ونصًا وسردًا. كما قام البعض باستكشاف لا اللغة اللفظية فحسب بل اللغة غير اللفظية للنص، مع تسليط الضوء على جوانب الأداء الخاصة بالموقف الحواري المتضمن في كافة المقابلات. وعلى سبيل المثال لا الحصر، قدمت كل من كاثرين أندرسون ودانا جاك ثلاث مقاربات إلى الاستماع إلى السردية الشفاهية، وتركز المقاربة الأولى على اللغة الأخلاقيةللراوية أو الراوي حيث يتم تقييم العلاقات بين مفهوم الذات وبين الأعراف الثقافية. وتلتفت المقاربة الثانية إلى المقولات العلياللراوية أو الراوي، بما يكشف أوجه التفاوت بين المتوقع وبين ما يتم قوله بالفعل. أما المقاربة الثالثة فتتبع منطق السرديةمع توجيه الانتباه إلى أوجه التكرار والتباين والاختيارات، وغيرها من الشؤون النصية (Anderson and Jack 1991, 18- 20).

كما اهتم الباحثون والباحثات أيضًا بالتداعيات الاجتماعية لتلك التأويلات الخاصة بصيع الذاتية. بل إن الكثيرين أعربوا في الحقيقة عن قلقهم وخيبة أملهم فيما يرونه بمثابة ابتعاد عما هو اجتماعي واتجاه نحو ما هو ذاتي، وأصبح التحدي القائم هو كيفية استخدام تحليل التكنيك السردي لاستنباط مؤشرات عامة عن الذاكرة الاجتماعية والبنى الاجتماعية. ويطرح صمويل شراغر في دراسته ما هو الاجتماعي في التاريخ الشفاهي؟ عددًا من الاستراتيجيات للربط بين ما هو فردي وما هو اجتماعي، فيقارن بين أوجه الشبه والاختلاف بين السرديات التي تروي نفس الحدث، ويتتبع وضع الراوي أو الراوية وعلاقة ذلك الوضع وتداعياته على الأحداث، وأخيرًا والأكثر أهمية هو أنه يتفحص أوجه الاشتباه والتعقيد في التحولات التي تطرأ على وجهات النظر والتي يتبناها الراوي في سبيل تقديم وجهة نظره تجاه الآخرين في مجتمعه. ومن خلال تحليل مفهوم أدبي في الأساس، وهو مفهوم وجهة النظر، يتمكن شراغر من تجاوز ذاتية المتحدث وإلقاء الضوء على تفاعلات القوى الاجتماعية (Samuel Schrager, What is Social in Oral History?, 1998, 76- 77).

كما كشف الباحثون والباحثات عن اهتمامهم بأبعاد الجندر في السرديات الشفاهية، فعن طريق الاعتماد على علم اللغة وعلم النفس السردي قاموا بطرح أسئلة عن الاختلافات الكامنة والممكنة بين الرجال والنساء في صيغ الحديث والتواصل، وفي تقديم الذات، وفي تأويل الأسئلة، وهلمّ جراء. وقد أكدت الباحثات النسويات والباحثون النسويون أنه لا يمكن فهم السرديات الشفاهية للنساء إلا من داخل السياق السياسي الاجتماعي الذي يقلل من قيمة اهتمامات النساء ومنظورهن. وبالتالي فإن النساء أكثر عرضة من الرجال للتقليل من التعبير عن اهتماماتهن والتقليل من قيمة إنجازاتهن أو أنشطتهن. ومرة أخرى، وبخلاف الرجال، نجد أن حكايات حياة النساء لا تتناول فقط علاقاتهن بالعالم بل عادة ما تأتي استجابة لصور تمثيل النساء في المجتمع ككل. إن الجندر باعتباره فئة من فئات تحليل وتأويل السرديات الشفاهية قد استفاد إلى حد كبير من الطفرة الملحوظة في نظرية السيرة الذاتية وكتابات النساء في العقد الأخير من القرن العشرين.

 

إن الحيوية المتزايدة التي تشهدها البحوث التي تتناول السرديات الشفاهية أدت إلى مراجعة العديد من المفاهيم والمقاربات المبدئية التي ألهمت مجال التاريخ الشفاهي في مراحله المبكرة. وكان الشعار النسوي المبدئي بشأن قيام البحوث بواسطة النساء وعن النساء ومن أجل النساء قد خضع للتدقيق على أساس أخلاقي ونظري. ويرتكز المأزق الأخلاقي الذي يواجه مؤرخي ومؤرخات التاريخ الشفاهي على علاقات القوى غير المتوازنة والكامنة في آليات المقابلة الشخصية. فمثلما قام المتخصصون والمتخصصات في الأنثروبولوجيا النسوية ممن بذلوا جهدًا متسقًا لمواجهة العلاقة التراتبية بين طرفي المقابلة في الممارسات الأنثروبولوجية التقليدية – بالتأكيد على مناهج الملاحظة بالمشاركة، ومزيد من التفاعل بين الطرفين، وتقليل المسافة بينهما، قام مؤرخو ومؤرخات التاريخ الشفاهي بطرح بعض الأسئلة المعضلة بشأن أهدافهم النسوية. كيف تقوم المقابلة الشخصية حقًا بإفادة النساء صاحبات الشأن؟ وكيف تدعم أو تدفع برامجهن إلى الأمام؟ ماذا يحدث عند تضارب برامج وأجندات طرفي المقابلة الشخصية؟ وصوت من منهما يكون في النهاية هو الصوت المسموع عند نشر المقابلة أو إعلانها على الملأ من قبل الباحث أو الباحثة؟ ومن يتمتع بالتحكم النهائي في المخطوطة؟ وإلى أي مدى تتحكم المرأة التي تم عقد المقابلة معها في كلماتها؟ وأخيرًا، ما هي النتائج السياسية المترتبة على القيام بالتاريخ الشفاهي؟ وهل يمكن لتحليل النص الذي يفضح قهر خطابات الهيمنة أن ينجح في تغيير وضع النساء في عالم الواقع؟

وكمثال لمحاولة تمت في التعامل تحديدًا مع السؤال الأخير من القائمة السابقة، قدمت كلوديا سالازار (Claudia Salazar 1991) عددًا من استراتيجيات العمل والتي تتضمن قلب تراتبية الخطاب، وجعل المهمش مركزيًا، وتطوير أشكال من الكتابة القائمة على الجماعة. وكذلك أثارت سوندرا هيل (Sandra Hale 1991) عديدًا من المسائل المشار إليها مسبقًا وذلك في علاقتها بتجربتها في عقد مقابلة شخصية مع نسوية سودانية، ثم انتقلت بهذه التجربة خطوة إلى الأمام. فبعد تأملها الأسئلة الخاصة بوهم وجود أهداف مشتركة، وبمن هو الطرف الذي يحق له استخدام الطرف الآخر في موقف المقابلة الشخصية، توصلت سوندرا هيل إلى أن تجربتها قد منحتها بعض البصيرة من حيث العيوب في بعض الأفكار النسوية الغربية عن المنهجية“. وأكدت أن الميل إلى تمييز العملية على حساب المنتج أدى إلى قدر وافر من التشخيص وإلى بعض الفرضيات الخاطئة بشأن التماهي، مما قلص القدرات التحليلية للباحثة. وقد رأى العديد من الباحثين والباحثات أن الوعي النقدي بالذات من حيث الخلل في ميزان علاقات القوى والمشاكل المنهجية يمكن أن يساهم في إصلاح التراتبية البحثية، في حين يتشكك الآخرون للغاية في مدى فعالية ذلك الأمر الذي يرونه عملية تطهير ذاتية لا تؤدي إلى أي تغيير في تراتبية القوى وينحصر دور ذلك الوعي في جعل الباحثات والباحثين يشعرون بالراحة والرضا عن الذات.

ويدور الجدل النظري الجاري أساسًا عن التحول ما بعد الحداثي في تحليل النصوص التاريخية، وعن إشكالية التجربة“. وقد أدت نظريات ما بعد الحداثة إلى كثير من الملاحظات بشأن تأويل السرديات الشفاهية، مع وضع مسائل اللغة والذاتية موضع الصدارة. ومع ذلك فإن العديد من المؤرخين والمؤرخات أصبحوا أكثر نقدًا لما يرونه تأكيدًا مبالغًا فيه على نصية والطبيعة البنائية للنص الشفاهي، كما أنهم ينظرون بقلق إلى مسألة الفاعلية (agency) وإلى تلاشيها حتمًا داخل مفهوم عدم التيقن (indeterminacy) طبقًا لنظريات ما بعد الحداثة، وأنه سيتم طرح البحث عن السببية التاريخية جانبًا. ويمكن إيجاز التحدي الذي يواجه الباحثين والباحثات في السؤال التالي: كيف يمكن للملاحظات الدقيقة لما بعد حداثة فيما يتعلق باللغة والذاتية أن تواكب التحليل المادي للتاريخ؟

إن مسألة تأويل التجربةتقدم نفس القدر من التحدي، فقد انطلق البحث النسوي في التاريخ من منطلق الاعتقاد في ضرورة منح النساء صوتًا كشرط لتمكينهن. وقد تساءلت غاياتري سبيفاك (Gayatri Spivak 1985)، جنبًا إلى جنب العديد من المنظرين والمنظرات، عما إذا كان في إمكان الشخصية التابعة أن تتحدث وأن يمكن سماعها بالرغم من التشكيلات الثقافية السائدة التي فرضت بالفعل قواعد الخطاب، والتي لا مفر من قيامها بتوجيه وتشكيل المعنى والوعي. وقد لفتت غاياتري سبيفاك الانتباه إلى أمرين وهما: أولاً، القدرة/ غياب القدرة المفترضة لدى المتحدثة في التعبير أو بناء ذاتيتها خارج/ داخل مجال الممارسات الخطابية السائدة. وثانيًا، دور الوسيط/ الباحث/ مؤرخ التاريخ الشفاهي (رجلاً كان أم امرأة) في الوساطة ما بين الصوت والعالم. إضافة إلى ذلك، فإن الأصوات لا توجد في فراغ: فهي تعمل – أي يتم بناؤها، والتعبير عنها، وفهمها – داخل خطابات ذات خصوصية تاريخية وداخل أنظمة للحقيقة ذات موقع معين. وتؤكد جوان سكوت (Joan Scott 1991) على التأريخاليقظ الدقيق للتجربة لتجنب الوقوع في شرك مساواة التجربة بالحقيقة.

وعلى مستوى آخر، فإن التجربة المشتركة أو الأخوة المفترضة بين النساء من مختلف الخلفيات هي أمر خضع لمراجعة جذرية من قبل الباحثات والباحثين. ومرة أخرى، نجد أن تأكيد ما بعد الحداثة على التنوع والخصوصية، وكذلك الانتقادات تجاه التصنيفات الجوهرية التي جمعت الناس معًا في مجموعات وتحالفات غير واقعية، قام بتسليط الضوء على أوجه الاختلاف على حساب أوجه الشبه. فقد انخرط الباحثون والباحثات في تقصي تداعيات الاختلافات في الطبقة والعرق والجنس والثقافة بالنسبة لمن يقوم بالوساطة وتأويل تجارب النساء. فإلى أي مدى يمكننا فهم أوجه التعقيد القائمة في التجارب المختلفة، إذا أخذنا في الاعتبار الحقيقة القائلة بأن الباحث/ الباحثة من ناحية والمبحوث/ المبحوثة من ناحية أخرى يتحدثان من مواقع تمت صياغتها وتعكس مجموعة من المتغيرات المختلفة؟ إن هذه الاتجاهات، وخاصة المرتكزة على مسائل تحويل الفرد إلى آخروالتمثيل هي أمور أثارت التساؤلات عن الحدود المتحركة بين الباحثة/ الباحث والمبحوثة/ المبحوث، وعن من منهما يحق له دراسة من، وعن من منهما يمكن اعتباره منتميًا إلى الداخل أو منتميًا إلى الخارج، وعن من منهما يتمتع بالحق المطلق في الحديث نيابة عن من؟

 

بالإضافة إلى الجدل الدائر بشأن التاريخ الشفاهي عمومًا، فإن توثيق ونشر والقيام بالبحث العملي والنظري عن السرديات الشفاهية للنساء في الثقافات الإسلامية يطرح مزيدًا من الأسئلة وثيقة الصلة بالتحديات التي تواجهها محررات هذه الموسوعة في عملية تحديد المفاهيم والتعرف على المتلقين والمتلقيات والتوصل إلى قرارات صعبة فيما يتعلق بعمليات التضمين والاستبعاد. فكيف يمكننا تمثيل سرديات النساء المسلمات إلى متلقين ومتلقيات من العالم (من الناطقين بالإنجليزية)، مع الأخذ في الاعتبار أن الصور التي تمثل الإسلام والثقافات الإسلامية والنساء في الثقافات الإسلامية هي صور تمثيلية تخضع لصراعات قوى دولية خطيرة للغاية، التي تزداد تعقيدًا بسبب التراث الاستعماري؟ إن مناقشة هذه القضية تتطلب تناول نقطتين: تأثير التاريخ الاستعماري على تمثيل النساء في الثقافات الإسلامية في الحاضر، والتداعيات السياسية الجغرافية لإنتاج ونشر المعرفة.

إن التمثيل السلبي لـ. “المرأة المسلمةهو السائد في الخطابات الاستعمارية الكولونيالية في الماضي والحاضر. فهي تمثل صورة الآخرالتقليدي بل والمتخلف، على النقيض التام من الذات الحديثة والأعلى مكانة للمرأة الغربية. إن ضعفها أو وضعها الأدنى داخل ثقافتها كما يراه الغرب يتم استخدامه لتدعيم الدعاوى الخاصة بالتخلف الجوهري والوضع ضد الحديثللثقافات الإسلامية. وكرد فعل أصبحت النساء في ثقافاتهن بمثابة المؤسسات حاملة التراث كما صرن تدريجيًا رموزًا لتلك السمات غير المتغيرةفي الثقافات الإسلامية والتي تم الحفاظ عليها بنجاح في المجتمعات المسلمة رغم الهجوم الاستعماري الغربي. ومن هنا فإن الصور التمثيلية الحالية للنساء في الثقافات الإسلامية تقع بين الخطاب الكولونيالي والخطاب الإسلامي، كما يفرض على غالبية المناقشات عن تمثيلات النساء أن تحمل عبء هذا الموروث: وقد تأتي في صورة رد الفعل، أو التحدي والمواجهة، أو تفكيك فرضياته، ولكنها لا تستطيع تجاهله.

ويؤدي بنا ذلك إلى النقطة الثانية المتعلقة بأثر الجغرافيا على إنتاج المعرفة. وتحديدًا ما هي حالة مشروعات التاريخ الشفاهي التي تقوم بتسجيل قصص حياة النساء في العالم العربي؟ حتى يومنا هذا لا توجد مؤسسات رسمية أقيمت لاستضافة أرشيفات النساء في البلدان العربية. هنالك عدد من المشروعات وبعض الإصدارات. ففي تونس تم القيام بسلسلة من المشروعات عن السرديات الشفاهية للنساء وذلك بالتعاون مع وحدة التاريخ الشفاهي في معهد تاريخ الحركة القومية في جامعة تونس رقم 1. وفي فلسطين تولت وزارة التخطيط والتعاون الدولي مشروعًا لتوثيق التاريخ الشفاهي السياسي للنساء الفلسطينيات. وفي مصر بادرت مؤسسة المرأة والذاكرة بمشروع لبناء أرشيف التاريخ الشفاهي الأصوات النساء المصريات اللاتي لعبن دورًا في الحياة العامة في النصف الأول من القرن العشرين. إلا أن الجزء الأكبر من العمل على توثيق السرديات الشفاهية للنساء يتم بواسطة المتخصصين والمتخصصات في الأنثروبولوجيا بغرض إصدار مطبوعة بحثية، في حين لا يتم جمع مصادر المادة الشفاهية في أرشيف يمكن إتاحته للباحثات والباحثين الآخرين.

ذلك بالإضافة إلى أن غالبية البحوث التي تتناول النساء في الثقافات الإسلامية تتم بواسطة باحثات وباحثين غربيين، أو باحثات وباحثين موجودين في جامعات أو منظمات بحثية غربية. وبالتالي فإن كل المنظومات النظرية والفرضيات القائمة على خلفية الأعمال لم يتم إنتاجها داخل البلدان الخاضعة للبحث بل بواسطة البلدان القائمة بالبحث. وتزداد تلك النقطة تعقيدًا إذا أخذنا في الاعتبار متغيرات أخرى تنظم العلاقة البحثية بين الشرق والغرب، مثل المستويات الأكاديمية المتواضعة للمؤسسات البحثية المحلية، وندرة الموارد المتاحة للباحثات والباحثين المحليين، وكذلك الخلل في ميزان علاقات القوى بين العديد من البلدان المسلمة بالنسبة لـ. “الغرب“.

وكل ذلك يطرح بعض التساؤلات المربكة بشأن إنتاج المعرفة واستهلاكها. فمن الذي ينتج المعرفة وما الغرض منها؟ من الذي يستهلك المعرفة، وكيف يتم استيعابها واستخدامها؟ إن مصير السرديات الشفاهية للنساء في الثقافات الإسلامية تتصل بعلاقة وثيقة بسياسات الإنتاج والاستقبال والاستهلاك في السياق العالمي. ومعنى سردية ما يختلف ويتنوع تبعًا للسياسات الجغرافية للاستقبال. إن المسائل الخاصة بالتأويل والمآزق النظرية والأخلاقية التي تواجه المؤرخات والمؤرخين للتاريخ الشفاهي والتي تمت أي مدى مناقشتها هنا هي أمور تزداد إلحاحًا في سياق المعاني موضع النقاش وصراعات القوى. ويظل التحدي الأخير هو: إلى أي مدى تستطيع النساء في الثقافات الإسلاميةاكتساب سلطة التحكم في أصواتهن، أو في تمثيل أصواتهن؟

وختامًا، أود الإشارة إلى ما حدث مع نوال السعداوي، النسوية المصرية البارزة كحالة دالة. في مقالة عن تشكيل واستقبال نوال السعداوي في الغرب، وجدت آمال عميرة أنه بالرغم من ظهورها وحضورها القوي في المؤسسات الأكاديمية الغربية إلا أنها لم تنجح في التحكم في كيفية تمثيلها. وتتبع آمال عميرة كيف أصبحت نوال السعداوي متورطة في قصة مقاومة ومؤامرةحيث اضطرت كثيرًا إلى مواجهة قوى خارج نطاق تحكمها (Amal Amireh 2000, 219). إن هذه القصة تجعل من مسؤولية تمثيل النساء في الثقافات الإسلامية مهمة عسيرة ولكنها جديرة بالعناء.

 

A. Amireh, Framing Nawal El Saadawi Arab feminism in a transnational world, in Signs. Journal of Women in Culture and Society 26:1 (2000), 215- 49.

K. Anderson and D. C. Jack. Learning to listen. Interview techniques and analyses, In Sherna Berger Gluck and Daphne Patai (eds.), Women’s words. The feminist practice of oral history, London 1991, 11- 26.

S. Hale, Feminist method, process, and self- criticism Interviewing Sudanese women, in Sherna Berger Gluck and Daphne Patai (eds.), Women’s words. The feminist practice of oral history, London 1991, 121- 36

L. Passerini. Work ideology and consensus under Italian fascism, in R. Perks and A. Thomson (eds.). The oral history reader, London 1998. 53- 62.

A. Portelli, The death of Luigi Trastulli and other stories. Form and meaning In oral history, Albany, N. Y. 1990.

C. Salazar, A third world woman’s text. Between the politics of criticism and cultural politics, in S. Berger Gluck and D. Patai (eds.), Women’s words. The feminist practice of oral history, London 1991, 93- 106.

S. Schrager, What is social In oral history? In R. Perks and A. Thomson (eds.). The oral history reader, London 1998, 76 – 7.

G. C. Spivak, “Can the subaltern speak?” In Wedge 7: 8 (1985), 120- 30 and C. Nelson and L. Grossberg. Marxism and the interpretation of culture, Urbana. IIl 1988, 271- 313.

J. Scott, “Experience,” In Critical Inquiry 17 (Summer 1991), 773- 97.

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي