الفكر النسوي ما بعد التنموي

تاريخ النشر:

2010

الفكر النسوي

ما بعد التنموي

عرض : نولة درويش*

يتكون هذا الكتاب من مقدمة يسبقها تعريف موجز بالمشاركات في إنجاز هذا العمل، إلى جانب ستة أبواب يدور كل باب من هذه الأبواب حول محور محدد يتضمن عددًا من المقالات، وينتهى بقائمة المراجع وملحق بالأسماء الواردة فيه؛ هذا، ويقع الكتاب في 368 صفحة من القطع المتوسط. تحمل المقدمة بقلم محررة الكتاب عنوان نحو نقد تفكيكي لفكر ما بعد التنمية، وتستعرض فيها التطور الذي حدث في تناول قضايا النوع والتنمية؛ وتشير إلى أن سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي قد شهدت طفرة في النضالية النسوية في مواجهة الهيمنة الذكورية؛ وهو ما واكبه ظهور اجتهادات نظرية متعددة تعكس المدارس النسوية المتنوعة حول البطرياركية.

ففي الغرب، آمنت النساء بأهمية تنظيم أنفسهن بمعزل عن الرجال في مجموعات من أجل رفع الوعي في صفوف ما يعرف بالهياكل التي تفتقد إلى قيادات. وقد تميزت هذه النزعة النسوية بتجانسها وانسجامها مع اتجاهات الحداثة الليبرالية ومع النظريات والممارسات التنموية. ولكن، شهدت البلدان الأخرى، خاصة في الجنوب، أطروحات مختلفة؛ فشكلت تلك التوجهات المغايرة تحديًا يواجه الفكر النسوى الغربي المهيمن الذي يسعى إلى تعميم مقاربته التي تركز على أثر العلاقات الأبوية دون النظر إلى تداعيات العوامل الأخرى مثل الطبقة الاجتماعية والعلاقات الاجتماعية الأخرى. كما تشير محررة الكتاب إلى الطرح المتباين فيما بين الرؤية النسوية الليبرالية، ومقاربة النسوية الماركسية الجديدة؛ حيث يوجد فرق في تناول المقاربتين لمفاهيم التضمين والتهميش أو الاستبعاد. فبالنسبة للمناصرات لفكر «النساء في التنمية» يتعلق التضمين بالموقع الذي تحتله النساء في القطاع الحديث، سواء كان هذا الموقع داخله أو خارجه. أما بالنسبة للنزعة الماركسية الجديدة، فإن مسألتي التضمين والتهميش تشيران بالأساس إلى الطبيعة التراتبية للاقتصاد الرأسمالي العالمي؛ وفي هذا الإطار، ترى هذه النزعة أن الفضاءات الواقعة بعيدًا عن المركز لا تكون خارج نطاق التنمية، وإنما هي جزء من المبدأ الهيكلى المتعلق بتشكيلاتها المحلية والكونية. أما أطروحات الجنوب، فهى ترى أن خبرات النساء الفقيرات على امتداد العالم الثالث في نضالهن من أجل تأمين المقومات الأساسية لبقاء أسرهن على قيد الحياة هي التي تسمح بالوصول إلى استيعاب واضح لعمليات التنمية. كما تعنى تلك المقاربات بتثمين النضال ضد جميع أشكال القهر واعتبارها مشروعة وضرورية. ففي كثير من الأحيان، لابد من تحقيق التغيير على جبهات متنوعة من أجل تحقيق المساواة بين الجنسين. غير أنها تعتبر في الوقت نفسه أنه لا ينبغي أن تطمث هذه النضالات الأخرى وجه النضال ضد الهيمنة القائمة على أساس النوع. ثم جاءت مقاربات ما يسمى بمرحلة ما بعد التنمية والتي توافقت حولها نسويات من الشمال والجنوب، وهي المقاربات التي تؤكد الاحتياج إلى تنمية مستدامة تكون متحورة حول الإنسان؛ وقد انبثقت المداولات بين هؤلاء النسويات إلى التركيز على الطابع العالمي للأزمة البيئية، وبرز شعور الاحتياج إلى أخوية نسائية كونية؛ ومع اختلاف الأرضيات الفكرية التي يقفن عليها، اتفقن على أهمية التوصل إلى استراتيجية تحمل ملامح لتوافق مشترك حول ضروريات الاستدامة وحول حق النساء في التضمين كبديل عن الدخول في حروب فكرية. وأخيرًا، تعرض المحررة بإيجاز الفصول الستة التي يتضمنها هذا الكتاب.

يتناول الفصل الأول بعنوان «دعم التنمية أو ما بعد التنمية» الممارسات والنظريات الاقتصادية والاجتماعية المعنية بدعم التنمية؛ ففي المقال الأول، تنظر «جين باربارت» إلى حالة تقييم التنمية الريفية بالمشاركة من خلال السعى إلى اكتشاف إمكانات التمكين التي تحملها، وكذلك حدود هذا التمكين؛ وتذهب إلى المناداة بمقاربة أكثر تفاعلاً واستنادًا إلى أرض الواقع للقيم التنويرية ولاستعمال المفاهيم الغربية في الهجوم على القيم التراتبية. وهى تلاحظ أن لغة التمكين التي برزت في صفوف بعض المجموعات الشعبوية الصغيرة والمنظمات غير الحكومية قد ارتفعت لمساءلة أثر المقاربة التنويرية بالنسبة للتمكين، والنوع، والمشاركة. وترى الكاتبة أن هناك حدودًا كبيرة لمقاربة التنمية الريفية بالمشاركة في تركيزها على ما هو محلي، والاعتقاد بأنه يمكن التغلب على مظاهر عدم المساواة من خلال مجرد القدرة على الإقناع والمناقشة والتضمين. فحينما تنظر إلى النساء في المنظمات المختلطة، تجد أن هناك استمرارية للاتجاه نحو تهميشهن. وهي تصر على أن إحداث التغيير فيما يتعلق بمظاهر عدم المساواة يتطلب أن تولى مراكز القوة الوطنية والعالمية اهتمامًا خاصًا حتى يمكن أن تحدث تأثيراتها المختلفة على كل من الرجال والنساء. أما «كاثلين ستاود»، فهي تركز في المقال الثاني على مدى احتياج المهمشين إلى الابتعاد عن المنظمات التنموية الكبيرة، أو أن يتسم التزامهم بها بمزيد من الحذر. وهي تفرق في ذلك بين النموذجين الصدامي والتشاركي، ذاهبة إلى أن الخارجين عن الأطر الرسمية هم الذين يرسمون الخطوط التي تستقطب العلاقات الاجتماعية؛ فالخارجون عن هذه الأطر يترددون في الإقرار بحدوث أي تقدم، بينما يتحكم المندرجون فيها في الآليات المؤسسية؛ وهي تؤكد أهمية توصل الطرفين إلى أرضية مشتركة مع التحذير بأن نادرًا ما يفي عالم ما بعد التنمية بوعوده، خاصة حينما يتعلق الأمر بالنساء. وأخيرًا، يتضمن هذا الفصل مقالا بقلم «رافينا أجاروال» التي ترى أن الطبقات المتوسطة والعليا كثيرًا ما تقوم بالقفز على أكتاف الحركات القاعدية، وهو ما تربطه بقراءتها للمبادرات التنموية في الهند في مرحلة ما بعد الاستعمار. فقد شهدت الحدود الشمالية للهند قيام مشروعات صناعية زراعية استندت إلى معاملات يسيطر عليها الرجال. في ظل هذا الوضع، أصبحت النساء تحظى بسلطة اجتماعية وسياسية وبقدرة على التحكم في الموارد يقلان كثيرًا عما كن يستمتعن به في مرحلة ما قبل الاستعمار.

يحمل الفصل الثاني عنوان «تأنيث الاقتصاد العالمي» وهو يتضمن مقالين، ويتناول أوضاع المرأة في إطار العمل بأجر ومن دون أجر في ظل تداعيات العولمة. ففي مقالها التحليلي حول الآراء المناهضة للعولمة، تقدم لنا «ساسكيا ساسين» مجموعة متنوعة من الدوائر الربحية العابرة للحدود التي تتم على حساب النساء الفقيرات من الجنوب اللاتي يناضلن من أجل البقاء في إطار سوق العمل الرسمي، وغير الرسمى وغير المشروع، وهي أسواق العمل التي تتميز بالنمو السريع وبالطابع العالمي؛ ويساعدها على ذلك تنامي البطالة، وإغلاق المشروعات الصغيرة والمتوسطة الموجهة نحو الأسواق المحلية، وتضخم الدين الحكومي. وتذهب «ساسين» إلى وجود رابطة قوية ومنتظمة بين التواجد المتصاعد للنساء في تلك الدوائر وتنامي معدلات البطالة، وتقلص فرص الرجال في العمل، وتناقص الدخل الحكومي. من الدوائر الأساسية في هذا المجال، تشير إلى شبكات الدعارة للنساء والأطفال وأسواق العمل في الهجرة التي تهيمن عليها النساء. وتطرح فكرة أن هناك تأنيثًا جزئيًا للبقاء على قيد الحياة حيث أصبحت تعتمد الأسر، والمؤسسات الشرعية الهامشية، والحكومات والمجتمعات المحلية كاملة بطريقة متنامية على عمل النساء من أجل البقاء. أما «ماريان مارشان»، فهي تفكك مكونات الخطاب المهيمن حول العولمة، مشيرة إلى الأبعاد المتعددة، والمتحيزة وغير المتساوية لتداعيات إعادة الهيكلة العالمية. وهي تتناول أهم أطروحات العولمة، والتغييرات المصطبغة ببعد النوع في الاقتصاد السياسي العالمي، ثم تركز على ديناميكيات العولمة الخاصة بالنوع في الجنوب؛ وأخيرًا تنظر إلى التغييرات المحددة التي حدثت في صناعة «ماكيلادورا» بالمكسيك، إذ ترى أن هناك عملية تأنيث ثلاثية الأبعاد قد أصبحت قائمة أي: تأنيث لقوة العمل، وتأنيث على مستوى المندرجين في المجال السياسي والاقتصاد السياسي في المكسيك، وتأنيث له طابع رمزي؛ كما تلاحظ «مارشان» التطور الذي لحق بالمجتمع المدني على الصعيدين العالمي والإقليمي وما يفرق بين الشكلين حيث تبرز مقاومة إقليمية أمام الطرح الشمالي لمجتمع إقليمي تقوده النخبة؛ وهي المقاومة التي تعنى بالنسبة إلى الكاتبة أن هناك سعيًا إلى بناء مجتمع مدنى إقليمي، وأن الأمر لا يتعلق فقط بتطوير رؤية وهوية بديلة.

«رؤى نسوية أكثر عالمية» هو عنوان الجزء الثالث الذي يقوم بقراءة نقدية للنظريات والممارسات النسوية حول مرحلة التنمية وما بعد التنمية. مقال «مارنيا الأزرق» معنى بالتناول النقدى لحدود الفكر التنموى ما بعد الحداثي، خاصة مع التخلص من الجوانب التحررية التي يحملها المنطق المتنور (في الماركسية على سبيل المثال)؛ وهي تنظر إلى مقاربة التمكين باعتبارها تعبيرًا عن المقاربة التنموية ما بعد الحداثية، وتذهب إلى أنها تسعى إلى تحويل أصوات النساء المنتميات إلى العالم الثالث إلى فعل إبداعي رومانسي؛ وهي تنعى تحول حياة النساء إلى مجرد خطاب، بكل المهانة التي تمثلها قيام بعض نساء النخبة بالتحدث نيابة عن المعنيات أصلاً بالتغيير. كما تهاجم «الأزرق» ما بعد الحداثيين الذين يقدمون العولمة باعتبارها مسارًا طبيعيًا غير قابل للتغيير، وتضيف أن المدافعات عن هذا الفكر مشغولات في إدارة الجانب الخطابي للعولمة، بينما تتطلب الإدارة من منظور النوع تعبئة الأصوات على مستوى العالم، وتطوير القدرة في الحصول على التمويل الدولي، والتقليل تدريجيًا من توزيع المساعدات والاعتماد عليها. وهي ترى أن التحليل ما بعد الحداثي لا يمكن أن يأخذ في الاعتبار فقر النساء ونضالاتهن من أجل البقاء، مع التأكيد على حدود هذا الخطاب وعجزه عن تقديم الحل لوجهة النظر الحداثية التي ترى أن تبعية النساء مبنية على أسس اجتماعية. من ناحية أخرى، تعيد «تانى بارلو» التفكير في خطاب التنمية، وفي مسألة الامتثال لرغبات الآخر، وفي قضية دور العوامل الوسيطة؛ فلا يمكن من وجهة نظرها أن يتم التعامل مع الرغبة في الحصول على امرأة صينية في وضع أدنى، دون استدعاء العوامل الوسيطة المتعلقة بتشكيل ذي طابع معقد، وثوري، وتاريخي. المقال التالى لكاتبتين تنتقدان التطور الأعمى لنسوية تنموية في حالة بوليفيا حيث ينظران إلى العمليات التي تقوم بها الدولة ووزارة النوع، والأجيال وقضايا الأسرة على أنها تحمل جدول أعمال خفيًا يسعى إلى التحكم في خصوبة النساء. في هذا المقال تساءلت الكاتبتان عن المفهوم الغربي للجسد (أي وحدة هذا الجسد، وضرورته) باعتباره مفهومًا لا يتناسب على الإطلاق مع الواقع البوليفي.

الفصل الرابع يتمحور حول مسألة العلم في التنمية؛ وهو يركز على الصراع الموجود فيما بين العلم المحلى والعلم العربي، ويتساءل لو كان العلم الغربي وسيلة للسيطرة، أم أنه عبارة عن حزمة موضوعية من المعرفة والممارسات لنزع القناع عن الإيديولوجيات القمعية المحلية، وحليف حقيقي في السعى إلى تحقيق التنمية المستدامة. تثير فاندانا شيفاأسئلة أساسية حول مسئوليتنا تجاه الأجناس الأخرى، وحول تأمين الحدود بين الأجناس المختلفة؛ وهي تهاجم اختراق الرأسماليين الأبويين لتلك الحدود، وتكشف دعم نسويات ما بعد الحداثة لما يحدث. أما المقال التالي لهذا الفصل والذي اشترك فيه ثلاثة كتاب، فهو ينظر إلى قضية التنمية المستدامة من أن خلال تناول التعبير عن إيديولوجية التنمية في الخطاب البيولوجي المنتشر. ذلك أن هؤلاء العلماء يضعون أنفسهم في موقع ما بين المفاهيم التقليدية للعلم التي تعتبره موضوعيًا، ومحايدًا في أحكامه، ومجرد لغوى صرف، والانتقادات الراديكالية التي تعتبر من الصفات الملاصقة للعلم التقليل من الشأن، والسيطرة، والعنف اللغوي. كما يرفض هؤلاء العلماء وجود تصنيفات ثنائية، وهو ما يؤدى إلى قيامهم بإعلاء إما شأن العلم أو المعرفة المحلية، أو الانحياز للعلم العالمي، أى أن الأولوية تكون بطريقة جامدة إما للعالمي أو للمحلي. وقد حرص الباحثون على النظر في مسألة الهجوم البيولوجي لأنه يعد مثالاً يتعدى المسارات البيولوجية ليشير إلى تأثير الديناميكيات الثقافية والسياسية. وأخيرًا، تبحث «ميرا ناندا» في حدود ومخاطر المعرفة المحلية تأكيدًا لأهمية العلم الغربي. وهي تهاجم مثقفى ما بعد المرحلة الاستعمارية الذين يتناولون الغرب بفرضية أن هناك اختلافات جذرية، ويرفضون الحداثة والتنمية. وتختلف مع أولئك المثقفين الذين يتبنون رؤية إنسانية بالذات لأنهم ينظرون إلى العلم باعتباره قادرًا على جعلهم ينزعون الهالة عن معرفتهم المحلية وعن هياكل القوة. وتطرح أسئلة مهمة حول مدى عمق الاختلاف بين امرأة من الداليت وامرأة هندية متفرنجة، وإلى أي حد يمكن الافتراض بأن من هن في وضع أدنى مقتنعات تمامًا عند اعتناقهن ودفاعهن عن المعرفة المحلية. وتستنتج «ناندا» أن التناول النقدي للتنمية لا بد أن يشتبك مع مظاهر أخرى من عدم المساواة، مثل التراتبية والقبيلية، وهي المظاهر التي تبررها التشكيلات التقليدية؛ وبالتالي، لا يمكن القبول بالشروط التي تفرضها المعرفة المحلية، مشيرة إلى قيمة العلوم الحديثة في هذا المجال. ويبدو من التناقضات البارزة في المقالات الواردة في هذا الفصل أن هناك أهمية بمكان للاشتباك مع الجدل حول العلم وموقعه في إعادة إنتاج بيئة كونية مستدامة.

يقدم لنا الفصل الرابع قصصًا ميدانية، ويبرز الديناميكيات المحلية المعقدة للعمل الميداني الذي يسعى إلى تقديم نفسه كجزء لا يتجزأ من الممارسة التشاركية. تنظر «إيديموديا» في المقال الأول لفرص وحدود البحوث بالمشاركة كاستراتيجية لإعادة إنتاج المعرفة والتنمية البديلة. وتتساءل حول مدى قيمة البحوث التنموية نظرًا لأن التقدم في المعرفة لا يؤدى بالضرورة إلى النهوض بالظروف المادية للسكان المحليين؛ وهي تنتقد النظرة الدونية التي يحملها السكان الأصليون، وكذلك عمليات إنتاج المعرفة من أعلى إلى أسفل والتي تتميز بعلاقات قوة غير متكافئة فيما بين الباحثين والمبحوثين. بناء على ذلك، تقدم لنا الكاتبة مقاربة نسوية للمشاركة تتضمن أبعادًا عدة، منها: الفعل السياسي، ورفع الوعى الفردي، وإقامة الممارسات الديمقراطية والمشاركة في صنع القرارات، والحصول على المهارات، وتضمين المعرفة المحلية. تنطلق هذه المقاربة النسوية من خبرات النساء، كما تضفى الشرعية على مساهماتهن في التنمية، وتسعى إلى تحقيق التفتح، والعلاقات المتساوية والمتبادلة، والبوح المتبادل وللذات . تثير «إيديموديا» أسئلة مثل: من سيشارك في أي أنشطة في إطار التوجه التحرري؟ كما تدين هيئات المعونة الدولية التي تتولى الإدارة السياسية والاقتصادية للتخلف بدلاً من السعى إلى تغيير تلك الظروف. يتركز التحليل في المقال التالي حول الخبرات الميدانية للباحثة الخاصة بتاريخ وسياسات النساء في مزارع الشاى بشمال البنجال في الهند خلال التسعينيات. وهي تتساءل كيف تظهر النساء هناك كقوة عمل أساسية تجسد تأنيث هذا القطاع؛ وهي واعية تمامًا بقيمة الوقت الذي تقدمه هؤلاء النساء في العمل، وبمدى اعتماد التقدم في بحثها على أوقات الفراغ المتوافرة لديهن. ثم تتناول بعض التناقضات التي برزت من خلال الأسئلة التي تم طرحها عليها من المبحوثات، إذ سألتها أكبر النساء سنًا حول أهمية هذه الدراسة التي تصدر باللغة الإنجليزية بالنسبة إليهن؛ كما تحدثنا الكاتبة عن الجهود التي تبذلها نساء المزرعة في تكوين مجموعة للاعتماد الذاتي، وأهمية ذلك عند التفكير حول الفرص والحدود المتعلقة بالعمل الجماعي. وفي هذا المجال، رفضت النساء عرضًا بافتتاح عيادة طبية لأنهن وقفن ضد تلقى المساعدات الخيرية؛ وهكذا، لا يتم إدراك التنمية باعتبارها مكسبًا ماديًا فحسب، حيث يتخطى التمكين مجرد تحقيق النمو الاقتصادي والاجتماعي، بدأت نساء المزرعة في تشكيل منظمة، وفتحن حسابًا للتوفير، وأنشأن حظيرة صغيرة لتربية الخنازير؛ وقد ركزت المنظمة على المشروعات الصغيرة، وعلى بناء جسور الثقة في إطار المجموعة حول المسائل المالية. بعد ذلك، تم فتح نقاش حول تأسيس العيادة التي كانت تمثل احتياجًا ملحًا، ولكن المشروع كان يفوق طاقة المجموعة؛ وقد اختارت النساء رفض تلقى تمويل خارجی نظرن إليه كمنحة خيرية، في مقابل الاحتفاظ بالاستقلالية. أما «رامونا بيريز»، فهي تسعى في مقالها إلى استيعاب أبعاد العنف الطقسي العام، خاصة ذلك الذي يمارسه الرجال تجاه النساء في الاحتفالات التقليدية داخل أحد المجتمعات المحلية التي تعد من المزارات السياحية الأساسية في المكسيك. لقد أصبحت هذه المنطقة أقل اعتمادًا على الزراعة وعلى عمل الرجال، وأكثر اعتمادًا بإطراد على إنتاج الصناعات اليدوية والمنافع الصغيرة إلى جانب أجور النساء في القطاعين الرسمى وغير الرسمي. وتنظر «بيريز» إلى الاحتفالات المذكورة باعتبارها فضاءً أيديولوجيًا وجسديًا يتم فيه إعادة التأكيد على الدين، والأدوار الاجتماعية، والعلاقات السياسية الرسمية، وتذهب الباحثة إلى بلورة تصور مادى وفوق هيكلى للانتهاكات التي يمارسها الرجال ضد النساء في هذه الفعاليات؛ ويشير هذا التصور إلى انطلاق العداوات المكبوتة من خلال تعاطى الخمور والنابعة من السلطة المتنامية للنساء داخل المجتمع على المستويات الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية؛ وهي تذهب إلى أن النساء يعدن بطريقة واعية أو غير واعية – إنتاج الهيكل التراتبي للاحتفاليات من أجل التحكم في أشكال أكثر عمومية من العنف والهيمنة، أي أنه تتم إعادة إنتاج شكل من الهيمنة ذات الطابع الرمزي لتهدئة الرجال في مجالات أخرى. كما تعتقد أن النساء يقبلن بالعنف الأسرى كرد فعل طبيعي لتنامی استقلاليتهن. والواقع أن هذا القبول المفترض للعنف كنتيجة للمجال الأوسع أمام النساء يطرح تساؤلات حول آثار التنمية بهذا الشكل حيث يؤدى التقدم المادي إلى تصاعد موازٍ في ممارسة العنف الذكوري.

نصل أخيرًا إلى الفصل السادس بعنوان «أجساد أخرى» والذي يقدم تقييمًا نقديًا لإيديولوجية الزيادة السكانية، مع السعي إلى تمكين النساء وحصولهن على حقوقهن الإنجابية. كما ينظر هذا الفصل في التصورات الغربية لأجساد الجنسين والطابع الذاتي لها. تناقش «ویندی هاركورت» في مقالها التغير الذي حدث في نموذج السكان والتنمية، والذي بات واضحا خلال المؤتمر الدولي للسكان والتنمية المنعقد بالقاهرة عام 1994. فقد تميز هذا التغير بالانتقال من الاهتمام بالتوسع السكاني إلى التركيز على حقوق النساء وتمكينهن. إلا أن هذا التطور المهم لم ينتج تغيرات ذات مغزى في المقاربات الملموسة الخاصة بالطب والصحة والممارسات الثقافية. لكنها تؤكد أهمية المجال الذي فتحه المؤتمر أمام فرص المفاوضة؛ وهي تعتبر ذلك أمرا جوهريا في أي جدل يمس النساء حول قضايا التنمية وما بعد من التنمية. وفي تحليلها للصعوبات التي تعترض تنفيذ بنود الاتفاقية الدولية حول الحقوق الإنجابية والصحية على المستوى المحلي، ترى أن تلك الاتفاقيات محل تفسيرات متنوعة وفقاً للأطر الثقافية والجيوفيزيقية المتعددة. كما تشير إلى بروز إطار موازٍ للحقوق الصحية والإنجابية في الفترة التالية لمؤتمر القاهرة يسعى إلى الاستناد إلى أجندة محلية عوضًا عن الانطلاق من أجندة غربية. وهو الإطار التي يقر بالمخاطر التي تواجهها النساء في ظل أنظمة سياسية محافظة وقمعية. كما تؤكد أهمية المقاربات القائمة على النوع عند تناول السياسات الخاصة بالجسد، وكذلك المسارات الاقتصادية والسياسية الأوسع التي تولد السياسات القائمة، والتي تمثل الإجابة عن العولمة، ويتم تعريف الاستراتيجيات القائمة على المكان أو الموقع المحدد باعتبارها تشير إلى أهمية العمل على ثلاثة مستويات، أي: أجساد النساء، والبيئة المحيطة، والفضاء الاجتماعي العام. كما تعنى الاستراتيجيات الخاصة بالمكان مسألة العلاقات التراتبية، والهيمنة الذكورية، وتطوير الثقة في الإبداع الذاتي.

کما تقدم لنا «إستر وانجاري» في هذا الفصل رؤية نقدية للدعم النسوى للسياسات السكانية التي تمثل إشكالية؛ فتلقى الضوء على التغلغل الإيديولوجي في الرؤى النظرية التي تميل إلى إضفاء الطابع العنصري على الاختلافات الثقافية لتبرير المشاكل الاجتماعية، وطمث معالم الهيمنة الغربية. وبناء على ذلك، يتم تناسى الدور الغربي في تفاقم مشاكل مثل معدلات الخصوبة المرتفعة وانتشار مرض نقص المناعة المكتسبة/ الإيدز، كما يتم إلقاء اللوم في تلك القضايا على الممارسات الثقافية المحلية. وتدحض الكاتبة الفكرة القائلة بأن معدلات الخصوبة هي التي تحدد تناقص الموارد، فتلقى الضوء على الموقع الذي تحتله الأنماط الاستهلاكية الغربية، والفساد، وسياسات الغرب الكلية على المستوى المحلي، والطلب العالمي على الموارد المحلية لتلبية الاحتياجات الاستهلاكية الغربية. وتوجه انتقادًا شديدًا للدور الذي تلعبه الرأسمالية العالمية بما تتضمنه من تبادل غير عادل، وفرضها لسياسات إعادة التكيف الهيكلي، والتسبب في ارتفاع الدين العام، على النمو الاقتصادي بدلاً من إلقاء اللوم على معدلات الخصوبة المرتفعة. كما تقوم بنسف تلك الإيديولوجية التي تستمر في إضفاء الشرعية على الفرض العنيف لوسائل تكنولوجية إنجابية على أجساد النساء الفقيرات في الجنوب، بغض النظر عن تداعياتها الصحية، أو القبول الحر لتلك التقنيات. كما تشير «وانجاري» إلى إسكات النساء في الجنوب والتواطؤ الحادث بين سلطات الدول والرأسمالية العالمية، وعدد من هيئات المعونة الدولية. وهي تنادي النسويات الغربيات لتحديد موقف من تلك الممارسات، وتطالبها بتقييم السياسات المؤسسية بطريقة نقدية.

أما المقال الأخير لهذا الكتاب بقلم «سيلفيا ماركوس»، فهو يقدم تحليلاً حول المفاهيم الغربية للجسد مقارنة بالتصورات المحلية البديلة؛ وهي تلقي نظرة على المكسيك مع التركيز على أفكار ومعتقدات قبيلة ناهوافي وسط المكسيك، وتؤمن بملاءمة عدد من المفاهيم المنتشرة هناك، مثل الثنائية، والتوازن، والانسياب في إدراك وتشكيل أجساد الجنسين. فعلى سبيل المثال، تعد الثنائية أنثى ذكر أساسية في خلق، وإعادة إحياء، واستدامة الكون. من المفاهيم المهمة الأخرى التي تتبناها، هناك مفهوم التوازن الانسيابي، أي التنظير المفاهيمي الديناميكي للتوازن حيث يؤدى إلى تصحيح الإدراك من النظر إلى ثنائيات متعارضة لصالح حركة دائمة نحو تحقيق التوازن، والحفاظ على النظام اليومي للكون. فعلى خلاف الثنائيات الجسدية كما ترد في الذهن الغربي، لا يوجد انفصال هنا بين الداخلي والخارجي وفقًا للجلد؛ فالخارجي والداخلى محل لتبادل مستمر ويكون الجسد منفتحا للكون. كما تشير إلى أن نساء «الأزتيك» كن معبودات، ليس فقط لقدراتهن الإنجابية، ولكن أيضًا كمصدر للرغبة.

تجدر الملاحظة هنا أن مقالات هذا الكتاب المهم متداخلة فيها بينها في عديد من المواقع؛ وهي تتماس من خلال حوار نقدي حول قضايا التنمية؛ وهو ما يؤكد أهمية فتح حوارات في مجالات متنوعة ومتخصصة، ذات طابع عالمي عام أو ذات طابع محلی خاص، لسد بعض الفجوات في الطرح، والنهوض بوجهات نظر مغايرة مبنية على خبرات متباينة. فعلى الرغم من بعض الاختلافات التي برزت في هذا العمل، ما زالت هناك مصالح مشتركة عديدة بين نساء الجنوب والشمال؛ وهذه المصالح والحقوق المهدرة هنا وهناك تستدعى معارك طويلة الأمد، تتطلب أن يستند التعامل البين نسوى إلى التضامن بينما يبتعد عن ممارسة أي شكل من أشكال الهيمنة الفكرية من طرف على الآخر.

*عضوة مؤسسة بمؤسسة المرأة الجديدة.

من كتاب :

Kriemild Saunders (Ed.) (2002). Feminist Post-Development Thought: Rethinking Modernity, Post – Colonialism, and Representation. London: Red Books.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي