المرأة في المأثور الشعبي العربي

تاريخ النشر:

2010

اعداد بواسطة:

المرأة في المأثور الشعبي العربي:

(الجازية ابنة السلطان سرحان)

تعد هذه الورقة استكمالاً لمشروع ضخم وطموح أخذته على عاتقي، منذ فترة ليست قليلة. يتمثل هذا المشروع في التعرف على صورة المرأة العربية في المأثورات الشعبية العربية، سواء تلك التي ترويها بنفسها عن نفسها، أو تلك التي تُروى عنها. وهو مشروع يستهدف – إلى جانب ذلك – إزالة اللبس الذي أحاط بهذه القضية، الذي من قبيل اتخاذ الأدب الشعبي العربي موقفًا معاديًا من المرأة العربية. تعرضت لذلك في كتابيالمرأة والحدوتة: دراسة في الإبداع الشعبي العربي للمرأة المصرية/ 2008″، ثم في عدد من الأبحاث اللاحقة، التي من قبیلصورة المرأة العربية في السير الشعبية/ 2009″، والمرأة المصرية والإبداع الشعبي: دراسة للأدوار الاجتماعية للمرأة العربية في ضوء المأثورات الشعبية/ 2010″. وسوف تكون هذه الورقة استكمالاً لهذا المشروع من زاوية مختلفة، تتمثل في تخصيص عدد من الأوراق البحثية التي تتعرض لدور عدد من الشخصيات النسائية الشعبية العربية، التي تمثل نماذج مهمة تستدعي التوقف عندها. وذلك بهدف إلقاء الضوء على هذه الأدوار، التي تلعبها هذه الشخصيات في المأثور الشعبي العربي. ومما استدعاني إلى ذلك أمر مهم، أن من يهاجم الأدب الشعبي العربي لم يربط هذه المأثورات بسياقاتها الاجتماعية والثقافية التي تُروى فيها، كذلك أنهم لم يلتفتوا إلى هذه النماذج النسائية الشعبية العربية، وما رُوى عنهم. فكثيرًا ما نجد إشارات تفصيلية إلى شخصيات دينية، عند الحديث عن وضع المرأة من زاوية دينية، أو شخصیات اجتماعية من منظور النوع (الجندر)، مثل نبوية موسى وهدى شعراوی مثلاً. غير أن أحدًا لم تستوقفه هذه النماذج النسائية الشعبية، بل صبوا انتقاداتهم على الموروث الشعبي العربي في موقفه المعادي للمرأة العربية، من وجهة نظرهم. المنطلق الجديد الذي تنطلق منه هذه الورقة هو تخصيص عدد من الأوراق البحثية لإلقاء الضوء على نماذج نسائية مختارة من الموروث الشعبي العربي. وستكون البداية – من خلال هذه الورقة – بالتوقف عند شخصية الجازية ابنة السلطان سرحان، ودراسة صورتها وأدوارها السياسية والاجتماعية في ضوء الروايات المدونة والشفاهية؛ لإلقاء الضوء على مدى التغير الذي لحق بهذه الشخصية من جراء تغير الظروف الاجتماعية والثقافية التي تعيش فيها. وأتمنى أن تسنح لي الفرصة لاستكمال هذا المنطلق الجديد مع بقية الشخصيات النسائية الشعبية، مثل: سعدة ابنة الزناتي خليفة، دوابة ابنة الخفاجي عامر، شيحة ابنة أبي زيد الهلالي، خضرة الشريفة، وطفا ابنة دياب بن غانم، الأميرة ذات الهمة، ست الحسن والجمال.

 

إن المتأمل لصورة المرأة العربية في السير الشعبية العربية المدونة سيلحظ أن للمرأة وجودًا كبيرًا وحضورًا فاعلاً فيها. ولا أدل على ذلك من أن نجد سيرة عربية شعبية تتخذ مـن اسـم امرأة عربية عنوانًا لها، هي سيرةالأميرة ذات الهمة، والتي قدمتنبيلـة إبـراهيمعنهـا دراستها الرائدةسيرة الأميرة ذات الهمة: دراسة مقارنة/ 1968″، والتي تقر فيها المؤلفة بأن شخصية ذات الهمة كانت تستهدف (توحيد صفوف قبيلتها تحت لواء الخليفة منعًا لحدوث الفتن والاضطرابات.. .”أو أن“.. . تستقل برأيها عـن الخليفـة إذا رأت أن المصلحة العامـة تقتضى ذلك.. . ثم كانت.. . تمتلك صفتين يتسم بهما القائد الناجح وهما الشجاعة والإقدام، وقوة الشخصية. فإذا أضفنا إلى ذلك حكمتهـا في سياسـة الأمـور، فإننـا نـدرك أن عوامـل النجاح كانت مهيئة لذات الهمة لأن تكون قائدة لجيش بني كلاب)(1). وعندما ننظر إلى صورة المرأة في الروايات الشفاهية لواحدة من أشهر هـذه الـسير (أقصد السيرة الهلالية) سنلحظ أنه قد أصاب المرأة تطور كبير. وهـو تـطـور يكشف عـن تغير اجتماعـی شـهـده ويشهده المجتمع العربي، وانعكس بالطبع في الإبداع الشعبي للسيرة الهلالية.

تتنوع صورة المرأة في السيرة الهلالية في بعديها الشفاهي والمكتوب، كـمـا تتعـدد الأدوار التي تلعبها المرأة فيها، وهو تعدد وتنوع يكشف عـن مـوضـوعية المبدع الشعبي في تناوله القضايا المجتمعية، كـمـا يكـشـف عـن عـدم تحامـل الأدب الشعبي (في السياقين الشفاهي والمدون) على المرأة، مخالفًا بذلك ما يذهب إليه البعض بالقول بأن الأدب الشعبي العربي ذکورى النزعة؛ لتحيـزه الشديد للرجـل، وتحاملـه عـلى المرأة. وتتبـدى هـذه الموضوعية والحيادية، ويتجلى الدور الإيجابي للمرأة في هذه الروايات، خاصة إذا وضعنا في الاعتبار أننا أمام نوع أدبي شعبي ذكوري الرواية، وفي الوقت نفسه يعطـى هـذه المساحة من الأهمية والإنصاف للمرأة. وليس الهدف هنا هو الدفاع عن الأدب الشعبي في موقفه من المرأة، سواء كانت صورتها إيجابية مشرقة أو سلبية (2)، لأنه أيًا ما كانت هذه الصورة فإن المسألة لا تتعلق بالأدب الشعبي وإنما تتعلق بالمجتمع العربي وظروفه، الـذي أفرز هذا الأدب، فالأدب الشعبي هو ابن هذا المجتمع؛ إذ أفرزه هذا الشعب بنفسه، ليعبر به عن نفسه موجهًـا خطابـه إلى نفسه.

تكشف المقارنة بين نصوص السيرة الهلالية المدونة ونظيرتها في الروايات الشفاهية، التي لا تزال تُروى شفاهيًا في قطاع عريض من الوطن العربي، عن أن ثمة اختلافًا في الطريقة التي يتم بها تناول صور المرأة العربية في ثناياها. ومرد ذلك إلى أن النص الشعبي وثيق الصلة بالسياق الاجتماعي والثقافي والحضاري، الذي يردد في إطاره. ونظرًا إلى التغير الشديد الذي أصاب البنية الاجتماعية والعقلية في المجتمع العربي، ما بين القديم والحديث، فإن ذلك قد ترك صداه في النص الشعبي بلا شك.

إن المتأمل لصور المرأة في السيرة الهلالية المدونة ستستوقفه عدة أنماط للمرأة فيهـا، منهـا نموذج المرأة الأم، ونموذج المرأة العاشقة، ونموذج المرأة الراجحـة العقـل، ونموذج المرأة الزوجة، ونموذج البنت/ الفتاة، ونموذج المرأة العجوز الشمطاءالداهية“. أي أن السيرة الهلالية تعرضت لكل نماذج المرأة في كل مراحل حياتها المتعـددة. والشيء الذي لا بد من الإشارة إليه في هذا السياق، أن معظم هذه النماذج التي تمت الإشارة إليها هي نماذج ثابتة في الحس الشعبي العربي، لا تتأثر بتغير الظروف الاجتماعية والثقافية المحيطة بها؛ إذ إنها نماذج متفق عليها في كل السياقات وفي كل العصور؛ ومن ثم فإنها لا تصلح مقياسًا يقاس عليه مدى التغير الذي أصابها باختلاف العصر الذي تُروى فيه؛ لأنهـا مـن المسلمات في المجتمع العربي، التي يتفق عليها الجميع. فعلى سبيل المثال، إن نموذج المرأة الأم – مـهمـا اختلفت العصور والظروف – هو نموذج يحظى – وسيظل يحظى في السيرة الهلالية – بكـل تقـدير واحترام وتوقير من أبناء المجتمع العربي، وهو ما يلتقى فيه النص الهلالى المدون مع الشفاهي. فالمجتمع العربي، الذي يغلب عليه الطابع الديني، محكوم برصيد من النصوص الدينية التي تحثنا على ترسيخ تلك الصورة للأم في أذهاننا، والتي من قبيلالجنة تحت أقدام الأمهات/ حديث شريف، ثم وصية الرسول ﷺ للمسلمين أن أحق الناس بمصاحبة الفرد هـي أمـه، و تكرارها ثلاث مرات، وكذلك تأكيد القرآن الكريم على تلك الوصية. [ ووصينا الإسن بوالديه حملته أمه، وهنا على وهن وفصاله في عامين ]”سورة لقمان: الآية 14″. وفي السيرة الهلالية برزت في دور الأم شخصيات نسائية متعددة، مثل خضرة الشريفة وما فعلته من أجل ابنهـا، ثم ابنتهاشيحة، وكذلكغنيمةودورها الأمومي تجاه ابنها راشد بن داغر في قصةفرسة العقيلي جابر؛ إذ ظلت مع ابنها حتى تمكنت من إعادة إرثه إليه من عمه الملك النعمان، ملك أرض النعام.

والأمر نفسه بالنسبة إلى نموذج المرأة العجوز، فكل النساء اللائي يوصفن في السيرة بأنهن عجائز، غالبًا ما يقترن بصفة المكر والخبث والدهاء، وسوء الخِلقة والخُلق، كما أنهن – غالبًا – ما يمتلكن قدرات خارقة أو سحرية، تعين الأعداء (أو من لا يميل إليه الجمهور على حساب طرف آخر له شعبيته) على تحقيق مآربهن. وفي هذا لا يختلف أيضًا النص الهلالي المدون عن نظيره الشفاهي. ومن الشخصيات التي تؤكد ذلك شخصيةالبسوسفي سيرةالزير سالمالتي أوقعت قبيلة بكر مع تغلب، وشخصيةست الغرب، أخت الزناتي خليفة في السيرة الهلالية، التي أوقعت أبطال بني هلال في بعضهم البعض، وكذلك شخصيةريمة ابنة عم السلطان حسن، التي كادت أن توقع بني هلال في بعضهم البعض (3).

إننا إذا أردنا أن نقيس مدى التطور الذي يلحق بالبنية العقلية والاجتماعية لمجتمـع مـن المجتمعات، فإن هذا لن نلمسه إلا في تلك النماذج التي لا تتسم بهـذا الـقـدر مـن الثبـات، والاتفاق – بل الالتفاف – من قبل أبناء المجتمع حولها، كتلك التي ترسخت وتجذرت صورتها في المجتمعات العربية على مر العصور والأمكنة. وإذا كـان هـذا القـدر مـن ثبـات الصورة – فيما يخص المرأة – قد ترسخ حول صورتي الأم والمرأة العجوز الشمطاء، فإن هنال كذلك بعض نماذج المرأة، التي يمكن عدها مقياسًا يُقاس عليه مدى تطور المجتمع العربي أو تخلفه. وهو ما يتمثل في نموذجي المرأة/ الفتاة، والمرأة/ الزوجة؛ إذ لا يحكم المجتمع – إزاء هذين النموذجين – صور نمطية ثابتة، بل همـا محـكـومـان بـظـروف المجتمع وطبائعه، التي تختلف من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان. ولا شك أن أصدق ما يعبر عن وضع المرأة الاجتماعي والثقافي في مجتمع من المجتمعات الإنسانية، هو أدبه الشعبي، الذي أفرزه ذلك المجتمع بنفسه، معبرًا عن نفسه، وموجهًا خطابه إلى نفسه.

غير أن الدراسة لن تتوقف عند نموذج المرأة الزوجة أيضًا؛ وذلك لسببين. الأول: أن صورة الزوجة في النصوص المدونة لا تختلف كثيرًا عـن صـورتها في الروايات الشفاهية للهلالية؛ ومن ثم فهي لا تصلح معيارًا لقياس التغير في صورة المرأة في الهلالية. ولنأخذ مثالاً على ذلك شخصية عليا العقيلية، زوجة أبي زيد الهلالي، فهى الزوجة التي يحبها زوجها بقوة، وهي التي تقف إلى جوار زوجها، وتخطط له كي لا يسافر في الريادة؛ لأنه لايريد، وكذلك هي، الغربة عن بعضها البعض. ويمكن مراجعة حيلتها لإنقاذ أبي زيد من السفر في الريادة البهية (ص 68)، وكذلك في الروايات الشفاهية. كما برز في دور الزوجةجنوبزوجة زيد العجاج ووقوفها إلى جوار زوجها المريض، حتى استردت لـه مـلـكـه المغتصب، وكذلكناعسة الأجفانزوجة أبي زيد، وزبيدةزوجة الملـك يـس. الثاني: أن الفتـاة فـيـها قـبل الزواج تكون مكبلة بالعادات والتقاليد، التي تمنعها من ممارسة حياتها على النحو المطلوب، ولكن بمجرد زواجها فإن هذه السلطة والقيود تخف إلى حد كبير، ف (السيدة المتزوجة ما زالت تعتبر أهم من الفتاة الآنسة، فهي تتمتع بمزايا كثيرة وتنال احترام الناس)(4).

إن دراستي هذه ستتخذ من نموذج فريد في السيرة، هو نموذجالجازية ابنة السلطان سرحان الهلالي” – حيث إنها نموذج يجمع بين المرحلتين السابقتين معًامرحلة الزواج وما قبل الزواجفي السيرة – مجالاً للدراسة في هذه الورقة. والسبب في ذلك أن تجليات صور المرأة في هذين النموذجين، أمر كاشف عن مدى تطور المجتمع وتغيره، كما أنه كاشف – في الوقت نفسه – عن مدى ارتباط السيرة الهلالية خاصة – والأدب الشعبي عامة بقضايا المجتمع وظروفه الثقافية والاجتماعية والسياسية والحضارية؛ لأننا كما قلنا إن النماذج النسائية الأخرى تتسم بالثبات، لثبات المنظور الاجتماعي حولها في الذهنية العربية.

تمثل شخصيةالجازيةفي النصوص الهلالية المدونة، نموذجًا أكثر إيجابية للمرأة العربية عن نظيراتها التونسيات، أو عن بقية الشخصيات النسائية في الهلالية المدونة، قياسًـا عـلى وضعها في المجتمع العربي وقتئذ، سواء من حيث المساحة الكمية أو الزمنية التي احتلتهـا في السيرة، أو من حيث طبيعة تصويرها فيها. فهي لها مواقفها الإيجابية في السيرة مع بني هلال، التي تنتصر فيها للمصلحة العامة على عاطفتها الشخصية (الأمومة الزوجية)، على نحو ما يؤكد ذلك اختيارها للرحيل مع قبليتها/ بني هلال إلى الغرب، رافضة البقاء في مكـة مـع زوجها الأمير شكر الشريف، وابنهامحمد“. ولعل القصائد التي جاءت على لسانها وزوجها في الوداع والذكرى والحنين (والذي أورد جزءًا منها ابن خلدون في مقدمته)، تؤكد الصراع النفسي الذي عاشتهالجازية، كتلك القصيدة التي يقول فيها الشريف شكر بعدما سمع بخير رحيل الجازية مع قبيلتها:

ونادي المنادي بالرحيل وشـددوا …وعرج عاريها على مستعيرها

وشد لها الأدهم دياب بـن غـانـم …على أيدين ماضي وليد مقرب ميرها

وقال لهم حسن بـن سرحان غرَّبوا …وشوفوا النجوع إن كان أنا هو غفيرها (5)

لقد مثلتالجازيةنموذجًا مأمولاً لما ينبغي أن تكون عليه المرأة العربية، فأصبغ عليهـا راوى الهلالية المدونة وضعًا اجتماعيًا لم يكن مألوفًا في العصر الذي كانت تُروى فيه الهلالية، أقصد عصر الحروب الصليبية والعصر المملوكي وكذلك العثماني. ويتبـدى ذلك الوضع الاجتماعي المأمول في موقفها في قصة الأيتام. ففي هذه القصة يتبـدى ذلـك الـدور الإيجابي للجازية في رأب الصدع الهلالي ولم شمل الأبطال، خاصـة بـعـد مـوت الأبطال/ آبائهمالسلطان حسن بن سرحانوأبوزيد الهلاليعلى يد دياب بن غانم. فتعمل بنصيحة أبي زيد – وهو في سكرات الموت – وتأخـذ الأبطـال الـصغار/ الأيتام وتهرب بـهـم إلى أرض اليهودي شمعون، الذي يحسن استقبالها؛ نظرًا إلى مساعدة الوزير المسلم أبي الجود لها. وتقوم بتربية الأبطال الهلاليين في أرضه، غير أن ديابًا لم يترك هؤلاء الأيتام وحالهم، فبمجرد علمه بلجوء الجازية إلى اليهودي شمعون، يرسل خطابًا يهدد فيـه شـمعون بالحرب، إذا لم يسلمالجازيةوأبطال بني هلال إليه. ويقع الخطاب في يد الوزير أبي الجـود، الذي يقترح علىالجازية” – على نحو ما كان مألوفًا عن المرأة في هذا العصر أن تسوق دلالها على اليهـودي شمعون، حتى تستثير تعاطفه معهم، فيقف في وجه دياب (ترسلوا الجازية إلى عنـده وتدلع عليه وأنا أعرف إنه واقع في هواها وعند ذلك لا يقتلكم) (6)،لكنها ترفض في إبـاء المـرأة العربية المسلمة الحرة، قائلة: (أنا امرأة مسلمة بنت مسلمة من نسل الملوك وزوجي شريف النسب فكيف توقع على واحد مسلم مثلنا/ التغريبة ص 367). فيلوم الوزير أبو الجود نفسه على هذا؛ إذ يرى فيها – على حد قوله – امرأة مسلمة تكرم دينها أكثر منه. وبعد أن يساعدها أبو الجود تعود إلى تونس قائدة لأبطال بني هلال – تخطط، وهم ينفذون خططها. ويحاول دياب أن يتهادن معها، فترفض بقوة، وتصر على الأخذ بثأر أبطال بني هلال الذين غدر بهم دياب، وترد عليه برسالة قوية، قائلة:

(دياب يا أمير ترسل تهددنا كنا لكم يا أمير بالوغى إخـوان

والله عوض أبا دياب بغيركم فصرنا ملوكًا وعاد الدهر كما كان/ التغريبة ص 369)

ثم تصحبالجازيةالأبطال وتتقدمهم في الميدان، وترتدى زى الفرسان، وتصارع أبطال الزغابة، وتقتل منهم بعضهم، وتصر على ملاقاة دياب، وقتله في الميدان، مفصحة عن حقيقة نفسها، قائلة: (أنا أكثر منك حسبًا ونسبًا أنا الجازية أخت الأمير حسن وصديقة الأمير أبي زيد وقد جئت لأخذ الثأر منك) (7). ولكنها تصر على مقاتلته رغم رفضه، ثم تلقى حتفها على يده، ويتمكن الأيتام – نهاية الأمر – من قتل دياب والاستيلاء على تونس، وكـان الفضل يعود – في ذلك – إلى الجازية.

ورغم هذه الصورة الإيجابية المأمولة التي رسمتها الهلالية المدونة للجازية، فإن الـراوى الشعبي في النص المدون لم يستطع التخلص كلية من ظروف المجتمع العربي، وطبيعـة نظـرتـه إلى المرأة بوصفها أنثى ليس لها الحق في اختيار زوجها، كما أن وسيلتها في الوصول إلى مبتغاها هو جمالها وأنوثتها، وليس رجاحة عقلها. فالجازية توصف بأنها (جميلة المنظر لطيفة المحضر، بديعة الجمال، عديمة المثال في الحسن والكمال والقدر والاعتدال وفصاحة المقـال.. . وهـو کلام عام ينطبق على بطلات القصص الشعبي كلهـن، وليست فيـه خـصوصية تتميـز بـهـا الجازية) (8). كذلك فإن أحدًا لم يستشرالجازيةفي أمر زواجها من شكر الشريف(9). كما أن المجتمع الهلالى تأثر بما أحدثته الجواري من تأثير على وضع المرأة في المجتمع العربي، فنجـد بنات هلال يعرضـن أنفسهن عـلى مـن يتقدم إليهن بغرض الاقتران، وكأننا في سـوق للجواري. ولم تسلم الجازية من هذا المعرض النسائي للفتيات. فعندما اشتاق أبوزيد – في التغريبة – إلى زوجته/ العالية، وسئم الغربة والبعد عنها، أقر كبار بني هلال بضرورة تزويج أبي زيد، فقامت فتيات بني هلال باستعراض أنفسهن عليه، وكان من بين من عرضت نفسها عليهالجازية؛ حيث إن كبار بني هلال (جمعوا بنات أمراء القبيلة وزينوهن بأحسن الثياب الجميلة وكان من جملتهن ثمانون بنتًا من بنات الإمارة.. . . وعرضوهن عليـه وأوقفـوهـن بـين يديه وقالوا له اختر لك واحدة من هذه البنات زوجة لك عوض عليا.. . ثم تقدمت الجازية إلى بين يديه وعرضت نفسها عليه ) (10). كذلك لم تتخلص الجازية من الطبائع الغريزية؛ إذ إنها كانت تهوى أبازيد، الذي كان متزوجًا من العالية، والتي كانـت تـدرك مـدى حـبـه لهـا، عندئذ سعت إلى الإيقاع بينهما، وكادت أن تنجح في ذلك، لولا اكتشاف أبي زيد لحقيقة الخديعة، التي كادت أن تشتت أمر القبيلة، مما جعل أبا زيد يقرر قتلها، وكاد أن يفعل ذلك مع أخيها السلطان حسن – لولا استجارة الجازية بالقاضي بدير، الـذي ينجح في أن ينـال الصفح عنها من أبي زيد(11). كما أن الجازية – أيضًا – قد قبلت التوسل بأنوثتهـا؛ لتحقيـق مصالح ومآرب عامة. ويشهد على ذلك موقفها مع البواب منصور بـن عــمارة؛ إذ اعتمدت على الدلال والأنوثة لكي تتمكن من دخول تونس، وكذلك في الخديعة التي دبرتها مع أبي زيد الهلالى لخداع العلام، لكي يساعدهم على الإقامة في تونس. أي غاب التركيز في شخصيةالجازيةعلى الجانب العقلي، وإنما كان التعامل معها من واقع أنها أنثى – على حد قول راوى التغريبة –جميلة المنظر ومحبوبة من جميع البشر“.

مع رغم وجود هذه المؤشرات ذات الطابع الإيجابي في شخصيةالجازية، على نحـو مـا تناقلها الرواة في النصوص الهلالية المدونة، وعلى النحو الذي يخالف طبيعـة وضـع المـرأة في المجتمع العربي آنذاك، بل على نحو مختلف عن تناول بقية شخصيات الفتيات في النصوص المدونة، فإن ذلك الراوي نفسه قد استجاب لظروف مجتمعه في تقديمه للوجه الآخر السلبي للمرأة – الذي يتماشي مع تلك الظروف – في شخصيةالجازيةأيضًا. إن ثمة ترددًا عاشـه ذلك الراوي الشعبي في تصويره لشخصيةالجازية؛ إذ تارة يستجيب لواقع المرأة العربية، الذي ينظر إلى المرأة نظرة ازدراء واستخفاف وعلى أنها سلعة أو جارية، خُلقت لخدمة الرجل، ولتكون ملكًا له، وتارة أخرى تتبدى رغبته في محاولته تغيير ذلك الوضع المهمش للمرأة, بتقديم صورة مأمولة عنها. لقد كانتالجازيةنموذجًا لهذا التردد الـذي عاشـه الـراوى الشعبي في النصوص المدونة بين الـرؤيتين، وإن غلبـت عليـه استجابته لظروف المجتمع العربي، فسيطرت النزعة التهميشية على صورة الجازية، وكذلك الاعتماد على أنوثتها وجمالها.

ونظرًا إلى تغير الظروف الاجتماعية، ووجود وضع جديد للمرأة في المجتمعات العربية، تمكنت – من خلاله المرأة – من القيام بدورها المنوط بها، وبقدرتها على المشاركة السياسية – والاجتماعية، ونظرًا لما أضفاه تعليم الفتيات في المجتمع العربي من تغيير، فإن ثمة تغيرًا أصاب وضعية المرأة في المجتمعات العربية، تركت أثرهـا – بالطبع – في الأدب عامة، والأدب الشعبي خاصة. ولقد انعكس هذا الوضع الجديد للمرأة العربية في السيرة الهلالية؛ الأمر الذي يجعل هذه الروايات الشفاهية الحديثة مختلفة عن نظيراتها المدونة. أما بالنسبة إلى الجازية فقد حلت صورة لها انبنت كليًا على تلك المؤشرات، التي استند إليها الراوي العربي القديم في الشفاهية، فطورها على النحو الذي يتماشى ومعطيات المجتمع العربي الحديث, الذي يستقبل هذه الروايات. إن الراويات الهلالية الشفاهية الحديثة ركزت في شخصية الجازية – على رجاحة عقلها.

وسوف تركز – في حديثنا عن صورة الجازية في الرويات الهلالية الشفاهية – على أربعـة مواقف لها، توضح مدى التحول الذي أضفاه الراوي الشعبي على شخصيتها، يستند فيهـا على رجاحة عقلها، وذلك رغم كثرة المواقف وتعددها التي تؤكد تلك الحقيقة. وتتمثل هـذه المواقف فيما يلي: (1) حصول الجازية على ثلث المشورة في الجمع الهلالي. (2) موقف الجازية في الريادة، واختيارها لأبي زيد؛ كي يـرود أرض تونس. (3) موقف الجازية في التغريبة، ورحيلها مع بني هلال، رغم أنها كانت على ذمة زوجها شكر الشريف في مكة. (4) موقف الجازية في ديوان الأيتام، الذي تصر فيه على تربية الأيتام؛ لأخذ الثأر من دياب. ولعل سبب اختيارنا للمواقف الأربعة السابقة – رغم كثرة المواقف – التي تؤكد رجاحة عقـل الجازية، وتغير نظرة الراوي الشعبي الحديث إليها، أننا فضلنا اختيار موقف لهـا في كل مرحلـة مـن مراحل السيرة الهلالية الأربعة، حسب التقسيم الكلاسيكي، الأكثر شيوعًا للهلالية. وهذا ما يميز الهلالية الشفاهية عن المدونة، فالدور الإيجابي للجازية لم نجده سـوى في الجزء الأخير منها، وذلك في ديوان الأيتام، أي بعد أن رحل كل أبطال بني هلال الكبار؛ إذ كانت مهمشة في حياتهم، لا يستشيرها أحد. بل إن هذا الدور الإيجابي لها فيالأيتامالمدون عندما نقارنه بنظيره الشفاهي، سنجده دورًا ناقصًا غير مكتمل، على نحـو مـا سيتضح. أما في الهلالية الشفاهية فإن نجم الجازية يسطع في السيرة من أولها – في حياة أبيها – إلى نهايتها، إلى جانب أبطال بني هلال الكبار، أبوزيد الهلالي، ودياب بن غانم، والسلطان حسن، وزيدان بن زيان، وطوى بن مالك، والقاضي بدير بن فايد.

أولاً: حصول الجازية على ثلث المشورة: فلقد مُنحت ثلث المشورة في بني هلال، لتقف على قدم المساواة مع كل من أبي زيد الهلالي والسلطان حسن. وسبب هذا المنح – على نحو ما تذهب بعض الروايات الشفاهية ،أنها ورثته عن أمها الأميرةشمَّة، التـي كـان لهـا ثلث المشورة في قومها، في اليمن، ثم حافظت على نصيبها هذا في المشورة إلى ما بعد زواجهـا مـن السلطان سرحان، والد الجازية. وتذهب بعض الروايات الشفاهية الأخرى إلى أنها لم تحصل على هذا الثلث في المشورة بالوراثة عن أمها، بل إن المجتمع الهلالى قد منحهاثلث المشورة في حياة أبيها (السلطان سرحان)، بعدما عجز القوم عن تنفيذ الشرط القاسي الذي وضعه أبو زيد ليصفح عن بني هلال، ويسمح لأمه بالعودة إلى نجد، بعد حادثة مولده، واتهامها في شرفها، ورحيلها إلى أرض العلامات في ضيافة الملك فضل بن باسم الزحلان. حيث اشترط أبوزيد على بني هلال أن يفرشوا أمام جمل أمه حريـر الـرطـايـب مـن أرض العلامات حتى أرض نجد، ونظرًا لعدم وجود ما يكفي من الحرير لتلبية شرط أبي زيد، فإن الصلح كـاد أن يفشل، لولا رجاحة عقلالجازية، التي اقترحت على العبيد أن يفرش جزء منهم الحرير أمام الجمل، ثم يقوم بعض العبيد بلمِّه من وراء الجمل، ثم إعادة فرده أمام جملها، حتى تصل خضرة الشريفة بجملها أرض نجد، وفي هذا تحقيق لمطلب أبي زيد. مـن هنـا مـنـح المجتمع الهلالى الجازية ثلث المشورة، ونصب لها كرسيًا ثالثًا إلى جوار كرسي السلطان وكرسي أبي زيد، فارس القبيلة الأول. ومنذ ذلك الحين أصبحت صاحبة الرأي والمشورة في بني هلال. فما من أمر يتم البت فيه، إلا ويتم الرجوع فيه إليها، وهو ما عبر عنه أبو زيد بقوله:

ولیکی رأى وسط العرب جاز

وروحى وعمرى فداكي

ولمعرفة مدى التغير الذي أصاب الهلالية عامة، وشخصية الجازية خاصة، فإنه ينبغى أن نشير إلى أن الذي كان يقوم بهـذا الـدور الاستشاري للقبيلـة في الهلالية المدونة، شخص معروف بينهم برجاحة عقله، واسمهقديم الرأي، ثم توارث دوره – من بعده – ابنهبدر الهويفي“. وهو تغيير له دلالته على المستوى الاجتماعي والثقافي. كما تنبغي الإشارة إلى أن دور الجازية في الهلالية الشفاهية قد تجاوز مجرد كونها مستشارًة لقبيلتها على غرار ما كان مع بدر الهريفي أو والده في النصوص المدونة، أو على نحو ما كان مع سعدة في الرواية الشفاهية – لتصبح الحاكم الفعلى لبني هلال. فهيصاحبة الملك والرئاسة
على حد قول الشاعر الهلالي.

ثانيًا: موقف الجازية في الريادة، واختيارها لأبي زيد: فمن المواقف التي تبرز رجاحة عقل الجازية، ودروها في القبيلة, أن بني هلال أسندت إليها أمر اختيار الشخص الذي يقـوم بريادة تونس، وهو ما تصوره السيرة على النحو التالي:

بعتوا للجاز أربع مراسيل

بنت الملك في صباها

جات ترن الخلاخيل

تسعين صبيه وراها

– * – * – *

الجــاز دخلت تسلم

وعوَّالها يسندوها

تضرب بلاسن تكلَّم

آدي الجاز تسأل أخوها

یا ابوعلى.. يا حسن تعـالى قُلَّي:

خايل فِ لبس العميمه

مـا ليك سبع سنين

من يوم ما أتوفَّي ابوك

طلبك ما ضرب ف المدينة

ليه ضربة طبولك؟

حسن على وقع الحال:

قلَّها: اسمعي يابنت ابوي

عاوزين إحنا نغرِّب

ندوس الدروب قدام

نرود ما أرض تونس

نشوف خليفة مع العلاَّم

فترد على بني هلال، حاسمة أمر الاختيار،بقولها:

ولاتختار ولا تتممولي

ياحسن فِ السؤال

مين يغرَّب غير ابو زيد؟!

اللي عليه نصرة الغلبان

فما كان من القبيلة إلا الاستجابة لقرار الجازية، ويعلق أبو زيد على قرار الجازية، الذي رضخ له، رغم صعوبة ذلك الأمر عليه؛ إذ سيتغرب عن قبيلته وأهلـه وحبيبة قلبـهعليا العقيلية، فيعلق بقوله:

يجازيك الله يا جاز

كويتي القلب بنار

زی ما اخترتینی یا جاز

أنا منَّك لأستخار(12)

إن مسألة إسناد اختيار الشخص الذي يرود أرض تونس إلى الجازية أمر مستحدث في الروايات الهلالية الشفاهية، فهو كان مسنودًا إلى الرجال في النصوص المدونة، وهـو أمـر لـه دلالته على المستوى الاجتماعي. فالقبيلة كلها كانت تدرك أن أقدر الناس على القيام بالريادة هو أبو زيد؛ إذ لن يستطيع غيره القيام بذلك، وتمثلت القضية فيمن يستطيع نقل الخبر إليه، فلم يكن أمام القبيلة سوى الجازية، التي تجرؤ على ذلك. ونحـن نـلمـس هـذا التردد في النصوص المدونة – عند كبار بني هلال في التغريبة، وعنـد بـدر الهـويفي في الريادة البهية، فيلجأ جميع الرجال إلى الاحتيال لنقل الخبر إلى أبي زيد، في حين تلجأ الجازية إلى المواجهـة والمصارحة في نقل الخبر. ففي كتابالتغريبةأُسـنـد هـذا الأمر إلى مشايخ بنـي هـلال وكبارهم، الذين أجمعوا على اختيار أبي زيـد لـيـرود أرض تونس، بعـد إجمـاعـهـم عـلى أنـه الشخص الوحيد القادر على القيام بتلك المهمة الجسيمة. بعد ذلك يطلب أبو زيـد مـنهم، أن يرافقه في هذه الرحلة الطويلة بعض سادات القبيلة (13). وفي كتابالريادة البهيةيتم تحديد الشخص الذي يرود أرض تونس، عن طريق عودة القبيلة إلىبدر الهـويفي، وهـو رجل يتسم برجاحة عقله، وقد اعتادت القبيلة على الرجوع إليه في قراراتها المصيرية؛ إذ يمثل بالنسبة لهممستشارًا“. وعندما لجأت القبيلة إليه للبت في هذا الأمر، فإنه قرر القيام بعمـل حيلة، يختار اعتمادًا عليها أقدر فرسان بني هلال للقيام بالريادة. وقد تمثلت الحيلة في أن يفرد بساطًا ويضع في وسطه إناًء مملوءًا بالتمر، والشخص الذي يتمكن من أكل التمر دون ملامسة البساط، سيحصل على مكافأة (دون الإفصاح عن الهدف الحقيقي من هذه المسابقة)؛ ومن ثم سيقع اختيار القبيلة عليه للقيام بهذه المهمة الشاقة. وتتوقفالريادة البهيةعند هذا الموقف، من خلال حديثبدر الهويفيإلىالسلطان حسن؛ إذ يقـول لـه: (… أعلـم أن بساط جدك الملك جرمون أربعين في أربعين فافرده وحط في وسطه منسف مـلان مـن التمـر واوضع إلى جانبه ألف دينار ونادي في العرب كل من أكل التمر ولم يدوس على البساط يأخذ الألف دينار ويتمنى عليك تمنية فكل من أكل ولم يدوس فاعلم أنه هو الذي.. .) (14). غير أن جميع فرسان بني هلال يفشلون، وينجح أبو زيد فقط في اجتياز هذا الاختبار، وكـان قـد سبق له أن جعل السلطان حسن يتنازل عن السلطنة لمن ينجح في الاجتياز.

ثالثًا: موقف الجازية في التغريبة: فعندما قرر بنو هلال الهجرة إلى أرض تونس، أدركوا أنهم في أشد الحاجة إلى مصاحبة الجازية لهم في هذه الرحلة. غير أن الجازية في ذلك الوقت كانت متزوجة من الأمير شكر الشريف، وأنجبت منه ابنها محمد. فـزار بـنـو هـلال الجازية، وهم في طريقهم إلى تونس، فأحسن الأمير شكر، وكذلكالجازية، استقبالهم. ثم تحدث بنو هلال مع الجازية فيما ينوون عليه، من ضرورة مصاحبتها لهـم في الهجرة، فتـصـارعت لديها عاطفة الأمومة والزوجية مع عاطفتها القومية، وانتصرت – في النهاية – العاطفة القومية، فتركت ابنها وزوجها، مؤثرة الرحيل مع قبيلة بني هلال إلى تونس عـن البقاء مع أسرتها. ولقد كان لهذا الإيثار أثره الإيجابي على القبيلة بعد ذلك. وفي هـذا تلتقـى الـروايـة الـشفاهية للهلالية مع المدونة، وإن تمثل الاختلاف في الشفاهية في طبيعة الدور الذي لعبته الجازية مع الهلايل أثناء الرحلة، من قبيل الخطط التي وضعتها لتحقيق الأهداف الهلالية، والتي اكتفى بنو هلال معها بمجرد تنفيذ ما تشير به عليهم. في حين لم نجد لهذا الإيثـار أثرًا في المدون، سوى ما تناقلته النصوص الهلالية أو التاريخية من قصائد اللوع والحب والشكوى على لسان الجازية وزوجها شكر الشريف، بعد أن ألقى الجميع باللوم عـلى بـنـى هـلال لتفريقهم بين الحبيبين، وبين الأم وابنها.

رابعًا: موقف الجازية مع الأيتام: من المواقف التي تؤكـد رجـاحـة عـقـل الجازية – في الهلالية الشفاهية تربيتها للأيتام في أرضمحمود البياضيألد أعداء بني هلال، بعـد مـا احتالت عليه بأنها والأطفال من الزناتية الذين شردهم دياب، وأنها إنما لجأت إليه محتمية به. وكان ذلك بهدف تربية الأيتام حتى يشتد عودهم، ويتمكنوا من العودة إلى تونس، للأخذ بثأر السلطان حسن والهلايل الذين قتَّلهمدياببعد استيلائه على تونس، بعد قتله الزناتي خليفة. ولقد تمكنت الجازية مع الأيتام من تحقيق ذلك. وتذهب إحـدى الـروايـات إلى أن الجازية قد أصرت على أن تأخذ بثأر أخيها السلطان حسن بنفسها، وليس على يد بريقـع بـن السلطان حسن، على نحو ما ذهبت التغريبة المدونة. وكان ذلك عبر مشهد مأساوي؛ إذ بعـد انتصار الأيتام على الزغابة، أحضرت ناقتين، إحداهما شديدة الظمأ، والأخرى كانت شديدة الجوع، ووضعت في إحدى الناحيتين ماء، وفي الناحية الأخرى طعامًا، وربطت إحدى قدمي دياب في إحداهما، وربطت الأخـرى في الناقـة الثانية، ثـم وجـهـت الناقتين في الاتجاهين العكسيين؛ ليلقى دياب مصيره المأساوي. على خلاف الهلالية المدونة، التي تذهب إلى أن الجازية أصرت على الأخذ بالثأر من دياب، لكنها لقيت حتفها على يد دياب؛ حيث إنه (رفع رجله وضربها على جبينها بقوة عزمه رفعها عن الحصان 8 أذرع فوقعت على الأرض ميتـة/ التغريبة، ص 377). كما يتبدى الاختلاف بين المدون والشفاهي في أن الجازية عنـدما لجأت إلى أرض شمعون اليهودي، فعلت ذلك بناء على نصيحة أبي زيد لها بأن تصطحب الأطفـال إليه، في حين أن الروايات الشفاهية تذهب إلى أن تفكير الجازية هو الذي هداها إلى اللجوء إلى أرض محمود البياضي، وتحتال عليه، رغم عدائه لبني هلال، دون نصيحة مـن أحـد، إن مثل هذا الموقف وغيره يؤكد أن الجازية كما يقول محمد فهمي عبد اللطيف – (… شخصية قوية لها مكانتها العالية وكلمتهـا النافذة، فـما كـان الـعـرب يفصلون في أمر دون الرجوع إليها…) (15).

وتعكس لنا هذه الأدوار الإيجابية للمرأة في السيرة الهلالية الشفاهية واقع المرأة العربيـة المأمول. فالمرأة في الهلالية ليست سوى تجسيد لحقيقة الدور الذي تقوم بـه المـرأة في المجتمع العربي، أو التي تأمل أن تقوم به. وهـو دور أكـد عـلـيـه كـل مـن حاورنـاهـم أثناء دراسـاتنا الميدانية؛ إذ راح يؤكد بعضهم أن الجازية ليست سوى انعكاس لصورة المرأة والـدور الـذي تلعبه في البيت العربي. فالمرأة – على حد قول بعضهم – هيملكـة البيـت“. وهـذه المقولة بقدر ما يمكن فهمها على أنها ترسيخ للدور السلبي للمرأة، الذي يجعلها رهيئة المنزل، فإنـه يمكن فهمها على نحو أعمق، في ظل سياقها الاجتماعي والثقافي. فالمرأةملكـة البيـت، بمعنى أنها الحاكم الفعلي للبيت، إدارًة وتوجيهًا، وأخذًا لقرارات مصيرية تخص المنزل، ويتم تنفيذها خارجه؛ إذ نجد كثيرًا من الأزواج لا يأخذون قرارًا دون الرجوع إلى زوجاتهم. فهي التي توجه مصالح البيت وشئونه؛ غير أن بطريركية المجتمع فقط، هي التي تصدر الرجـل وتضعه في المقدمة والصدارة، فيصبح هو المعبر عما انتهى إليـه القـرار. إنالجازيةهي النموذج المأمول للمرأة العربية، بخروجها خارج نطاق المنزل لتمارس حقوقها الاجتماعية، تمامًا كما جسدته دراميًا شخصيةفاطمة تعلبةفي مسلسلالوتد، المأخوذ عن الرواية التي تحمل الاسم نفسه للكاتب خيري شلبي.

(1) نبيلة إبراهيم: سيرة الأميرة ذات الهمـة: دراسة مقارنة، المكتبة الأكاديمية، الطبعة الأولى، 1994، ص 95, 96.

(2) يستخدم الباحث مفردتي إيجابي وسلبي هنا على سبيل التجـاوز؛ إذ إن إضفاء إحـدى الـصفتين على العادات أو القيم هو وصف ليس علميًا وغير دقيق،لأنه يأتي مـن خـارج السياق الاجتماعـي الـذي يمارس هذه القيم أو العادات، وليس من داخل الجماعة الشعبية التي تمارسها.

(3) الريادة البهية، فيما جرى للأمير أبوزيد: دار مكتبة التربية، بيروت، لبنان، ص 21، وما بعدها.

(4) نازك الملائكة: التجزيئية في المجتمع العربي، دار العلم للملايين، بيروت، الطبعة الثانية 1980، ص 33.

(5) ابن خلدون: المقدمة، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط 1،2003،ص 604. (6) غريبة بني هلال ورحيلهم إلى بلاد الغرب وحروبهم مع الزناتي خليفة، ومـا جـرى لهـم مـن الحـوادث والحروب المخيفة، مكتبة ومطبعة محمد على صبيح وأولاده، ص 367.

(7) المصدر السابق: ص 377.

(8) د. عبد الحميد يونس: الهلالية في التاريخ والأدب الشعبي، الهيئة العامة لقصور الثقافة، مكتبة الدراسات الشعبية، 2003، ص 307.

(9) يمكن مراجعة قصةزواج شكر الشريف والجازيةبالتفصيل في: الريادة البهية، ص 44 – 48.

(10) التغريبة: ص 198.

(11) راجع القصة كاملة في التغريبة: ص192، وما بعدها.

(12)”قصة الريادة، رواية نور ملکی حسن، قرية دندرة، مركز ومحافظة قنا، تم التسجيل معه مساء الجمعة 20-8-2004

(13) راجعالتغريبة، ص 5 – 7.

(14) الريادة البهية، ص67

(15) محمد فهمي عبد اللطيف: أبو زيد الهلالي، مؤسسة المعارف للطباعة والنشر، بيروت، الطبعة الثانية،1983،ص 87.

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي