النار تحت الرماد

اعداد بواسطة:

خواطر على الطريق

النار تحت الرماد

نولة درويش

ظللت أتساءل سنين طويلة، كيف تستمر الأمور على ما هي عليه؛ فلا شيء يسير في البلاد بشكل سليم: الفقراء يزدادون فقرًا بل يهبطون تحت خط الفقر والهوة تتعمق بين الطبقات الاجتماعية وبين المناطق الجغرافية، وفى المقابل تبرز بصورة صارخة أشكال البذخ الاستفزازى والثراء الفاحش؛ إلى جانب ذلك، أصبح الطعام الذي نتناوله مسرطنًا، ومياه الشرب اختلطت بمياه المجارى, والشوارع تتحول إلى حفر بمجرد رصفها ، وحوادث الطرق تحتل المرتبة الأولى فى العالم، والانتقال من مكان إلى آخر عملية خانقة في ظل الأحوال المرورية المتردية، وأطفال الشوارع يتكاثرون بصورة لافتة, والجرائم تنتشر بأشكال متنوعة ومتعددة وبصورة غير مسبوقة، والفساد كادت رائحته أن تصيبنا بالأسفيكسيا ؛ أى أنه لم يكن هناك ما يبرر منطقيًا استمرار الحال على ما هي عليه.

في ظل هذه الأجواء، وفى إطار القمع الأمني والسياسي, طلت علينا الأصوات تطالب بمصير أكثر إنسانية لهذا الوطن؛ فبالرغم من تسارع بعض الأبواق في امتداح النظام الحاكم وتجميل صورته، ظلت هناك أصوات شريفة تفضح ما تفضح، وتكشف المسكوت عنه, وتواجه الظلم بكلماتها وقلمها الباسل : نذكر هنا على سبيل المثال لا الحصر المرحومين .د. محمد سيد سعيد والكاتب الصحفى مجدى مهنا؛ وهناك عشرات الآخرين الذين ظلوا وما زالوا يوظفون فكرهم في سبيل إعلاء شأن المواطنة، وترسيخ قيم الديمقراطية، والمطالبة بالعدالة الاجتماعية والكرامة الإنسانية.

لا يمكن أن ننسى أيضًا الدور الذي لعبته الحركة الاحتجاجية على مدار سنوات طويلة، بدءًا بحركة كفايةذات الطابع السياسي التي هبت ضد مؤامرة التوريث، وتناولت بنضالاتها قضايا أخرى تمس صلب حياة المواطنين؛ كذلك شهدت مصر حركات مطلبية عارمة منذ منتصف العقد الأول من الألفية, نشير منها بكل فخر إلى إضراب عمال غزل المحلة الذي هز أركان البلاد لضخامة الحدث بالدخول فى مرحلة جديدة من رفض الظلم. كما لا يمكن أن يفوتنا إضراب موظفى الضرائب العقارية الذى أسفر عن تشكيل أول نقابة مستقلة؛ وهو ما لم يكن متصورًا من قبل في ظل الأحادية النقابية المفروضة علينا منذ نصف قرن أو يزيد. ونلاحظ هنا أنه فى قلب الحدثين المذكورين، سنجد للنساء دورًا بارزًا ومتميزًا جنبًا إلى جنب مع زملائهن الرجال، وليس وراءهم كما كان الحال سابقًا. منذ إضراب المحلة العظيم، لم تتوقف يومًا الإضرابات والاعتصامات العمالية؛ كما شاهدنا بالتوازى حركات احتجاجية أخرى تطالب بحقوق إنسانية أساسية مثل رغيف الخبز أو مياه الشرب. ومن منا لم يمر يومًا فى شارع قصر العينى ليرى عشرات المظلومين المعتصمين على رصيف مجلس الشعب الذي لم يعرهم اهتمامًا وكأنهم مجرد حشرات مزعجة؟

ومنذ منتصف الثمانينيات من القرن الماضى، بدأت تبرز على السطح مجددًا، وبعد غياب طويل، منظمات حقوق الإنسان التى أخذت فى التكاثر على مر السنين, وفى توجيه أنشطتها فى مجالات أكثر تخصيصًا؛ فظهرت منظمات معنية بالسجناء، وأخرى باستقلال القضاء, وبحقوق الأطفال، والحق فى السكن، والحريات الشخصية, وحقوق النساء، إلخ. تعرضت هذه المنظمات لأشكال متعددة ومكثفة من القمع، بعض منه مادى (مثل: منع الأنشطة، أو الإغلاق، أو الاعتقال) ، والبعض الآخر معنوى ( كالتشهير، والتشكيك في الذمم، والاتهام بالعمالة). كل ذلك لم يكسر إرادة تلك المنظمات التي راحت تكشف عمليات التعذيب التي يتعرض لها المواطنون، وتدافع عنهم أمام المحاكم؛ كما قامت بمراقبة الانتخابات وتفضح عمليات التزوير التي تطالها؛ وأبرزت الانتهاكات التي يتعرض لها العمال وساعدتهم في تشكيل منظماتهم المستقلة؛ ونادت بإلغاء القوانين سيئة السمعة لا سيما قانون الطوارئ؛ وأصدرت التقارير الموازية للتقارير الرسمية المغشوشة ليعرف الجميع أين تقع الحقيقة وأشارت إلى الفساد والفاسدين منادية بمحاسبتهم وطالبت بالحريات العامة، وخاصة حرية التنظيم والتعبير.

على هذه الخلفية، جاء شبابنا الجسور ليفجر أولى شرارات ثورة ألهمت الملايين من بنات وأبناء مصر الذين انضموا إليها دون تردد وفدوها بأجسادهم وأرواحهم؛ فتحية إلى الشباب المصرى الذى أعاد إلينا الأمل الذي كدنا أن نفقده رغم الإصرار على مواصلة النضال؛ فهم الذين سيتسلمون البلاد ليعيدوا إليها كرامتها, ومكانتها وسلامتها .

شارك:

اصدارات متعلقة

الحصاد - عامان على الخلع " دراسة تحليلية "
دليل تدريبي " العنف ضد النساء "
فتحي نجيب والحركة النسائية المصرية وحقوق الانسان
ممنوع على الستات
ماما تحت الأنقاض
تشويه مش طهارة
العمالة المنزلية : استغلال جنسي تحت نظام الكفالة
المرآة لم تحررني، بل زادتني بوعي وثقل تاريخي كأنثي